الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الرابع: التصوف وصلته بالعقيدة
الفصل الأول: موقفه من التصوف
.
الفصل الثاني: التفرقة بين جوهر التصوف وأشكاله.
الفصل الثالث: موقفه من التوسل.
الفصل الأول: موقفه من التصوف
أولا: تمهيد: الصراع بين الفقهاء والمتصوفة:
انتهينا في الفصول السابقة من بيان موقف ابن عبد الوهاب من بعض مباحث العقدية فأوضحنا موقفه من الاجتهاد والتقليد وأن الجمود والتأخر الذي أصاب العالم الإسلامي كان من جراء التقليد، ثم تناولنا بالتحليل والتطبيق منهجه في ربط العلم بالعمل، وفي الباب الثالث تناولنا عدة مسائل في الغيبيات وبيان موقفه منها والمنهج الذي سلكه في تلقي هذه الأمور مع مقارنة موقفه ببعض السابقين عليه مع التحليل والتمحيص للآراء الذي ذكرت. ونتناول في هذا الباب موقفه من التصوف ونبدأه بهذا التمهيد في الصراع بين الفقهاء والمتصوفة:
أخذت الحضارة طريقها إلى العرب وواكب ذلك علم التدوين وأعني تدونين العلوم الشرعية من تفسير وحديث وفقه وعقائد، وقد ساير الصوفية ركب هذا الموكب فدونوا علومهم وبينوا رياضاتهم والمراتب التي يتدرج فيها الصوفي، والآفات التي تعترض طريقه، واصطلحوا على ما اصطلحوا عليه من الفناء، والبقاء والصحو والسكر حتى أصبح التصوف علما من العلوم المدونة ويقول في ذلك د. التفتازاني:"فقد وضعوا لأنفسهم مصطلحا خاص ورموزا معينة لا يفهمها أحد حق الفهم إلا بالتلقي عنهم". (1)
(1) د. أبو الوفا التفتازاني/الطرق الصوفية في مصر/ مجلة كلية الآداب/جامعة القاهرة جـ 2 ص 58.
ومنذ عصر التدوين اشتد الخلاف بين الفقهاء والصوفية ويرجع هذا الخلاف إلى ان الفقه علم يبين أحكام الأعمال الظاهرة من عبادات ومعاملات وجنايات وأحوال شخصية وغيرها ونظروا إلى علم التصوف والمتصوفة نظرة تحقير من شأنه لأنهم أرباب ظواهر، ونظروا إلى أنفسهم نظرة فيه أنفة واعتداد، وتبادل الفريقان الكراهية والحقد (1) إلى ان تطورت إلى رمي كل فريق بالكفر وتفاقمت المشكلة وما المعارك التي نشبت في المساجد بين الفقهاء والصوفية إلا راجعة إلى إمعان الصوفية في الباطن وإسرافهم في التحدث عما في هذا الباطن من ضمير يستلهمونه المعرفة كما يستلهمونه الحكم على الأعمال.
اعتماد الصوفية على المعرفة الحاصلة عن طريق الإلهام، وذلك يخالف ما دعا إليه القرآن من المعرفة عن طريق النظر والاستدلال، وتحكيم الضمير وإعطائه سلطة الحكم على الأعمال يخالف الشريعة الإسلامية لأنها تقوم الناس بحسب الظاهر لا الباطن وتثيب المحسن على إحسانه وتعاقب المذنب على ذنبه.
ويدافع أصحاب الفكر الصوفي على هذا الاتجاه أي أن للشرع ظاهرا وباطنا فيقول أبو الفيض المنوفي:"وسبب ذلك أن للقرآن باطنا وظاهرا، وجدا ومطلعا كما جاء في السنة، ومن الآيات ما يؤخذ على ظاهره ومنها ما يحتاج فهمه فهما صحيحا لتأويله وتخريج معناه على الوجه الصحيح". (2)
هكذا كان الصراع بين الفقهاء والصوفية الفقهاء ينددون بالمنهج الصوفي والصوفية يقررون منهجهم ويضعون لعلمهم المصطلحات والتفاسير الخاصة بكل طريقة ويؤد الدكتور التفتازاني هذه الحقيقة فيقول:" ولما كان الصوفية الأوائل قد فرقوا بين علم الشريعة أو علم الظاهر الذي هو على الجوارح الظاهرة وعلم الحقيقة أو علم الباطن الذي هو على الجارحة الباطنة وهي القلب وجعلوا علمهم أكثر يقينا من العلوم الأخرى وجعلوه ثمرة الشريعة وروحها. (3)
(1) كتاب المنتظم في تاريخ الملوك والأمم ـ لابن الجوزي حافل بذكر العديد من الحوادث والاشتباكات التي حدثت بين فقهاء الحنابلة والصوفية.
(2)
السيد محمود أبو الفيض المتوفي ـ المدخل إلى التصوف الاسلامي ـ 98
(3)
د. أبو الوفا التفتازاني ـ الطرق الصوفية في مصر ـ مجلة كلية الآداب/ جامعة القاهرة ـ مجلد 25 ـ جـ 2-58
كان من ثمرة هذا الصراع بين الطائفتين أن سيق إلى المحاكمة أمام قضاة بغداد كل من ذي النون المصري والحلاج وغيرهما، وقد شهد النصف الثاني من القرن الثالث الهجري بداية الصراع بين هاتين الطائفتين واستمر الصراع إلى أن جاء الغزالي (1) وقد استطاع ما يصفه د. مصطفى حلمي بما أوتي من صفاء الروح وجلاء القلب وذكاء العقل وقوة الإيمان أن يهدئ ثورة الفقهاء ويدعو إلى الدين الصحيح ويحبب التصوف إلى نفوس أهل السنة، تكاثر عدد المقبلين منهم عن طريق الذوق الموصل إلى المعرفة اليقينية والسعادة الحقيقية وتلقوا هذا التصوف بقبول حسن وأحلوه محلا رفيعا إبان القرنين الخامس والسادس للهجرة. (2)
ويشارك د. أبو الوفا التفتازاني د. حلمي نفس الرأي فيقول:" وكان مجيء الإمام الغزالي في رأينا من العوامل الهامة التي غيرت من مجرى التصوف الإسلامي، فقد أرسى الغزالي قواعد التصوف السني. (3)
جاء بعد الغزالي صوفية مزجوا مسائل الكلام والفلسفة الإلهية بعلمهم وكانت لهم مذاهب في الاتحاد ووحدة الوجود ووحدة الشهود..تجدد العداء ونظر الفقهاء إلى هذا الاتجاه، واعتبروه زندقة وإلحادا ولذا شهد القرن السابع للهجرة وما تلاه من القرون حركة متتابعة من الخصومات بين الفقهاء والصوفية وكانت مذاهب وحدة الوجود والحلول ووحدة الشهود هي المحور الرئيسي الذي دارت حوله هذه الخصومات وقد حمل لواء الطعن على الصوفية وبصفة خاصة على التصوف الفلسفي ابن تيمية فقد جرح ابن عربي وابن الفارض وابن سبعين وعفيف الدين التلمساني وقد بلغت خصومة ابن تيمية مداها حينما أعلن تحريم زيارة الأضرحة والدعاء للأولياء والتوسل بهم، ومنذ ذلك الحين اشتدت الخصومة بين الفقهاء والصوفية واتخذت أشكالا مختلفة على أيدي كثير من الفقهاء وأوضح دليل على ذلك ما حدث حول ابن عربي وابن الفارض من
(1) مع العلم بأن الغزالي لم يفلت من الهجوم الفقهاء والعلماء على تركه منهج الفقهاء وانخراطه في سلك التصوف وتأليفه الكتب الصوفية.
(2)
د. مصطفى حلمي ـ الحياة الروحية في الاسلام ـ ص111.
(3)
د. التفتازاني ـ الطرق الصوفية في مصر ـ ص60
خلاف فالبعض نسبهما إلى الاتحاد والحلول ووحدة الوجود، وطعن في سلوكهما والبعض الآخر نفى هذا عنهما وبرأ ساحتهما، كان ابن تيمية القائد الأول لحركة الطعن التي وجهت فيها سهام التكفير إلى أصحاب الأذواق والمواجيد.
ومن الناعين الناقدين على انحرافات الصوفية التي عمت في القرن السادس الهجري الفقيه الحنبلي أبو الفرج بن الجوزي وكتابه"تلبيس إبليس" صورة واضحة لما عابه عليهم وما وجهه إليهم من نقد حول الأخذ بالحقيقة دون الشريعة ومن ذم العلم إلى آخر ما ورد في كتبه.
ومن أجل هذا لم يتردد ابن تيمية في تكفيرهم، بل اعتبرهم اشد كفرا من اليهود والنصارى:" الباطن والظاهر
…
والشريعة والحقيقة كل هذا مردود إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لا إلى المشايخ والفقراء ولا إلى الملوك والأمراء ولا إلى العلماء والقضاة وغيرهم، بل جميع الخلق عليهم طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. (1)
ويذهب إلى نفس الرأي ابن عبد الوهاب فيقول:" إني عثرت على أوراق عند ابن عزاز فيها اجازات له من عند مشايخه، وشيخ مشايخه رجل يقال له عبد الغني، ويثنون عليه في أوراقهم ويسمونه العارف بالله، وهذا اشتهر عنه انه درس دين ابن عربي الذي ذكر العلماء: أنه أكفر من فرعون حتى قال ابن المقري الشافعي:" من شك في كفر طائفة ابن عربي فهو كافر". (2)
هذه وقفة أمام الصراع أو جانب منه بين الفقهاء والمتصوفة منذ بدأ عصر التدوين للعلوم الشرعية، ونتناول بالبحث والتحليل موقف صاحب الدراسة من التصوف.
ثانيا: محمد بن عبد الوهاب والتصوف.
إن قضية التصوف وما تثيره من الآراء المعارضة له أو الآراء المؤيدة حول هذا الموضوع استمرت ردحا طويلا من الزمان، ونحن الآن بصدد بيان موقف
(1) ابن تيمية ـ مجموعة الرسائل والمسائل ـ جـ 1 ص 137
(2)
ابن غنام ـ تاريخ نجد ـ الرسالة السابعة ـ 307.
ابن عبد الوهاب من هذه القضية والتي ألمحنا آنفا إلى مدى الصراع الذي استمر بين الفقهاء والصوفية فترة طويلة نستطيع أن نقول أنه أشعل نارها: بموقفه من أفعال العامة من الأولياء حول الأضرحة ويقول في ذلك:"وأما ما صدر من سؤال الأنبياء والأولياء بالشفاعة بعد موتهم وتعظيم قبورهم ببناء القباب عليها والسرج والصلاة عندها واتخاذها أعيادا وجعل السدنة والنذور لها فكل ذلك من حوادث الأمور"(1) فرفض ابن عبد الوهاب لهذه الأمور أشعل الجدال والقتال حول هذه المفاهيم مما سنتناوله بالتفصيل.
يستطيع الباحث المنقب في جوانب شخصية ابن عبد الوهاب أن يجد الصلابة والقدرة على مواجهة الخصوم وتحليل الآراء المخالفة وتفنيدها ودستوره الكتاب والسنة فما وافقهما فهو حق وما خالف واحدا منهما فهو باطل ومردود.
ويترتب على منهجه هذا أن قبل كل ما يجد له برهانا من ربه أو سندا صحيحا من سنة رسوله، وسطر منهجه فقال:" ولست ـ ولله الحمد ـ أدعو إلى مذهب صوفي أو فقيه، أو متكلم، أو إمام من الأئمة الذي أعظمهم، مثل ابن القيم، والذهبي، وابن كثير، وغيرهم بل أدعو إلى وحده لا شريك له وأدعو إلى الله وحده لا شريك له وأدعو إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. (2)
رفض ابن عبد الوهاب أي عمل أو فكر يخرج عن هذا الدستور واعتبره بدعة، فعاب على المتصوفة الإسراف في تعذيب النفس وحرمانها مما أحل الله فيقول:" تركهم الواجب ورعا، وتعبدهم بتحريم الطيبات من الرزق وتعبدهم بترك زينة الله". (3)
هاجم ابن عبد الوهاب اعتكاف المتصوفة في خلواتهم وبعدهم عن ممارسة الحياة وتعمير هذا الكون بشريعة الله فيقول:" وكذلك أيضا من أعظم الناس ضلالا متصوفة في معكال وغيره، مثل ولد موسى بن جوعان وسلامة بن مانع، وغيرهما، يتبعون مذهب ابن عربي وابن الفارض وقد ذكر
(1) الدرر السنية ـ كتاب العقائد ـ جـ 1 ص 58.
(2)
ابن غنام ـ تاريخ نجد ـ الرسالة الأولى ص 215.
(3)
مجموعة التوحيد ـ الرسالة الأولى ـ مسائل الجاهلية ص 239.
أهل العلم أن ابن عربي من أئمة أهل مذهب الاتحادية، وهو أغلظ كفرا من اليهود والنصارى، فكل من لم يدخل في دين محمد صلى الله عليه وسلم ويتبرأ من دين الاتحادية فهو كافر برء من الإسلام، ولا تصح الصلاة خلفه، ولا تقبل شهادته". (1)
ورغم أنه يستشهد بقول أهل العلم على حد تعبيره إلا أنه في موضع آخر يتبرأ من أنه يرمي ابن عربي أو ابن الفارض بالكفر فيقول:" وإني أكفر من حلف بغير الله ـ وإني أكفر ابن الفارض وابن عربي
…
"جوابي عن هذه المسائل أن أقول سبحانك هذا بهتان عظيم". (2)
نخلص من منهجه الذي أشرنا إليه آنفا ومن كتاباته من واقع كتبه ورسائله إلى تلخيص موقفه من التصوف والصوفية وما عابه عليهم في النقاط الآتية:
(1)
أول ما كاد الشيطان للناس أن أغواهم بتعظيم الصالحين تعظيما خارجا عن مقام الاستقامة كما ذكر الله ذلك في كتابه: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} (3) {قال الكليبي هؤلاء قوم صالحون فماتوا في شهر فجزع عليهم أقاربهم وقال لهم رجل هل لكم أن أعمل خمسة أصنام على صورهم ومع توالي القرون الأزمان ازداد تعظيمهم لهذه الأصنام. (4)
تمسك ابن عبد الوهاب في دعوته إلى تنقية التوحيد وإخلاص الدين لله فيقول:" لكني بينت للناس إخلاص الدين لله ونهيتهم عن دعوة الأنبياء والأموات من الصالحين وغيرهم وعن إشراكهم فيما يعبد الله به من الذبح والنذر والتوكل والسجود وغير ذلك مما هو حق الله الذي لا يشركه فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل، وهو الذي دعت إليه الرسل من
(1) ابن غنام ـ تاريخ نجد ـ الرسالة العاشرة ـ ص344.
(2)
ابن بشر ـ عنوان المجد في تاريخ نجد جـ 1 ص 7 ط بغداد.
(3)
نوح: 23
(4)
الدرر السنية جـ 2 ـ 3 ص 50
أولهم إلى آخرهم وهو الذي عليه أهل السنة والجماعة" (1) .
(3)
حذر ابن عبد الوهاب من الانخداع تحت أي مسمى يخدش التوحيد أو ينال من حق الله على العباد فيقول:" فمعلوم أن اللغات تختلف: فالمعبود عن العرب، والإله الذي يسميه عوامنا " السيد" و " الشيخ" و " الذي فيه السر" عندهم هو القدرة على النفع والضر وكونه يصلح أن يدعي ويرجى ويخاف ويتوكل عليه". (2)
(4)
ثم يرد على القائلين بأنهم يعرفون بأن الله هو الخالق الرزاق المدبر، لكن هؤلاء الصالحين مقربون ونحن ندعوهم وننذر لهم، وندخل عليهم نستغيث بهم ـ بذلك الوجاهة والقربى ـ يرد ابن عبد الوهاب على هؤلاء بقوله"كلامك هذا قول أبي جهل وأمثاله، فإنهم يدعون: عيسى وعزيرا والملائكة والأولياء يريدون ذلك (3) كما قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} . (4)
(5)
ومن بين الأشكال التي اتخذها الناس للتقرب إلى الأولياء والصالحين وهم بهذه الأعمال يشبهون النصارى الذين منهم من يعبد الله الليل والنهار ويزهد في الدنيا ويتصدق بما لدينه معتزلا في صومعته عن الناس، ومع هذا فهو كافر، عدو الله، مخلد في النار بسبب اعتقاده في عيسى أو غيره من الأولياء من يدعوه، ويذبح له، وينذر له، ويبين ابن عبد الوهاب فضل الإسلام في النهي عن كل هذه الأمور فيقول:" فقد تبين لك كيف صنعه الإسلام الذي دعا إليه نبيك صلى الله عليه وسلم وتبين لك أن كثيرا من الناس عنه بمعزل". (5)
(1) الدرر السنية ـ كتاب العقائد ـ جـ 1 ص46 ـ 47 وكذلك ابن غنام الرسالة الثانية عشر ص359
(2)
ابن غنام ـ تاريخ نجد ص 310 ـ 311.
(3)
ابن غنام ـ تاريخ نجد ص469
(4)
الزمر: 3
(5)
ابن غنام ـ تاريخ نجد ص 470
(6)
يهاجم أهل عصره بأن كفرهم أشد من كفر أهل زمان لأن كفار زمان كانوا إذا مسهم الضر ـ تركوا السادة والمشايخ فلا يدعون أحدا منهم ولم يستغيثوا له، بل يخلصون لله في الشدة فإذا جاء الرخاء أشركوا، ويقول في ذلك:" وأنت ترى المشركين من أهل زماننا ـ ولعل بعضهم
يدعي أن من أهل العلم، وفيه زهد واجتهاد وعبادة ـ إذا مسه الضر قام يستغيث بغير الله مثل: معروف، وعبد القادر الجيلاني، وأجل من هؤلاء مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعظم من ذلك وأطم أنهم يستغيثون بالطواغيت والكفرة والمردة مثل شمسان وإدريس ـ ويوسف وأمثالهم". (1)
(7)
يلزم ابن عبد الوهاب القائل بقول" لا إله إلا الله" أن يلتزم بهذا التزاما عمليا لا قولا بلا فعل: فقوله: لا إله إلا الله" إبطال للوسائط وعلى العبد أن يلتزم بتبعاتها من توحيد للألوهية والربوبية لا الثانية دون الأولى، وعلى كل مسلم أن يتذكر أن أعظم ما أرسل به الله نبيه محمد، فيقول:" وأعظم من ذلك، وأكبره، وزبدته، هو إخلاص الدين أحد من دون الملائكة، والنبيين، فضلا عن غيرهم، فمن ذلك أن لا يسجد إلا لله ولا يركع إلا له، ولا يدعى لكشف الضر إلا هو، ولا لجلب الخير إلا هو ولا ينذر إلا له، ولا يحلف إلا به ولا يذبح إلا له، وجميع العبادات لا تصلح إلا له وحده لا شريك له، وهو معنى قول:" لا إله إلا الله". (2)
(8)
يحذر من الاعتقاد في مخاريق السحرة والانخداع في هذا اللون من الاعتقاد فيقول:" اعتقادهم في مخاريق السحرة وأمثالهم أنهما من كرامات الصالحين"(3) ويتابع هجومه على من يغتر في هؤلاء القوم
(1) المرجع السابق.
(2)
ابن غنام ـ تاريخ نجد ـ الرسالة الثالثة ـ ص255.
(3)
مجموعة التوحيد ـ مسائل الجاهلية ـ ص239.
فيقول: ثم صار الأمر عند أكثر من يدعي العلم وأنه من هداة الخلق وحفاظ الشرع إلا أن الأولياء لا بد منهم من ترك اتباع الرسل، ومن تبعهم فليس منهم". (1)
(9)
إهمالهم العلم ومحاربة من يشتغل به من الاتباع، انغماسهم في رياضة الأبدان على غيره ما أمر الله ورسوله ويسوق حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم" إياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة ثم يقول:" فإن الذي أنا عليه وأدعوكم إليه هو في الحقيقة الإقتداء بأهل العلم، مع عدم اتخاذ العلماء أربابا والذي ذمه الله وسماه شركا". (2)
(10)
النذر للقبر وأهل القبور من الأمور التي انتشرت أو زاد انتشارها في عهده نتيجة للتخلف الذي ساد عصره ثم التفاف العامة حول الأولياء والمتصوفة ونذر النذور لهم ويعتبر ذلك معصية ولا يجوز الوفاء به فيقول:" إن النذر للمخلوق لا يجوز، ومنها: ظن أن الميت يتصرف في الأمر واعتقاد هذا كفر....."إلى أن قال" إذا عرف هذا فما يؤخذ من الدراهم والشمع والزيت ونحوها، وينقل إلى ضرائح الأولياء ـ فحرام بإجماع المسلمين، وقد ابتلي الناس بهذه لاسيما في موكب أحمد البدوي". (3)
(11)
ينعي ابن عبد الوهاب على ما يفعله الجهلة والطغاة وعدلوا عن أوضاع الشرع إلى أوضاع وضعوها لأنفسهم مثل تعظيم القبور وإكرامها وإيقاد السرج وتقبيلها وخطاب الموتى بالحوائج وكتب الرقاع فيها مثل افعل لي كذا وكذا وأخذ التراب والتبرك به وإفاضة الطيب على القبور وشد الرحال إليها وإلقاء الخرق على الشجر اقتداء بمن عبد اللات والعزى. وهذه الأفعال هي عودة الناس إلى ما كان عليه مشركو العرب الأولون من التعلق بغير الله من الأولياء والصالحين وغيرهم من الأوثان والأصنام والأحجار ويذهبون إلى قبر زيد بن الخطاب ـ يسألونه قضاء الحاجات
(1) المرجع السابق ـ ص242
(2)
ابن غنام ـ تاريخ نجد ـ ص220-221
(3)
ابن غنام ـ تاريخ نحد ـ 304-520.
وتفريج الكربات وقبر يزعمون أنه قبر ضرار بن الأزور.
وشجرة تسمى الطريفة يعتقدون فيها كما اعتقد من قبلهم في ذات أنواط مشركو الجاهلية ويعتقدون في شمسان ويوسف.....الخ.
ويهاجم الحلولية وملاحدة الصوفية على ما يرون أنه من الشعب الإيمانية والطريقة المحمدية وفيهم من إضاعة الصلوات وشرب المسكرات ما هو معروف مشهور". (1)
ثم يتسائل ويقول:" فأين هذا ممن يدعو الله مخلصا له الدين لا يدعو مع الله أحد ولكن يقول في دعائه أسألك بنبيك، أو بالمرسلين، أو بعبادك الصالحين أو يقصد قبر معروف أو غيره يدعو عنده". (2)
ويخلص بعد ذلك إلى أن هذه الأفعال والأقوال فيقول" فليس هذا من دين المسلمين، فهذا هو الصواب بلا ريب. (3)
(12)
بالإشارة إلى أن هذه الأفعال السابقة تبين مدى مخالفة الناس لكتاب الله وسنة رسوله الذي لم يشرع لأمته أن يدعو أحدا من الأموات ولا الأنبياء ولا غيرهم بلفظ الاستغاثة ولا غيرها.
(13)
لم يشرع السجود لميت مهما كان ولا يوجد أي نص يحض على الإتيان إلى المقابر والدعاء عندها والطواف حول الأضرحة وطلب قضاء الحاجات. (4)
نخلص مما سبق إلى أن ابن عبد الوهاب أنكر كل عمل يخالف الكتاب والسنة، وبعد الإنسان عن مفهوم التوحيد النقي ولذلك كانت حملته عميقة ضد جميع ألوان الشرك في السلوك أو في الاعتقاد صدر من العبد بقصد أو غير قصد وشهر سلاحه وقلمه من اجل عودة الإسلام إلى نقائه وصفائه من الشوائب التي تردى فيها الناس في عصره وإن كان من المؤسف أن هذه المظاهر
(1) عبد الرحمن بن عبد اللطيف آل الشيخ ـ مشاهي علماء نجد وغيرهم ترجمة محمد بن عبد الوهاب ص 29.
(2)
ابن غنام ـ تاريخ نجد ص 526
(3)
المرجع السابق.
(4)
الدرر السنية جـ 1 ص 196، 197، 198،203
التي حاربها ابن عبد الوهاب من تبرك بالأولياء أو طواف بالأضرحة ونذور وموالد وغيره ذلك ما زالت وتحتاج إلى وقفة من العلماء في كل مكان من العالم الإسلامي لوقفها لأنها بدعة لا يقبلها الإسلام ولا تليق بالمسلمين.
نعود لنطرح موضوع التصوف مرة أخرى بعد ما عالجنا رفضه للمظاهر والأشكال التي ترتبت على مفهوم الأولياء والسادة من الصوفية وسلوك العامة تجاههم وما ترتب على ذلك من اعتقادات ومفاهيم رفضها ابن عبد الوهاب رفضا قاطعا وحاربها بكل سلاح يملكه، هل كان نفس الموقف تجاه جوهر التصوف هو عين الموقف السالف الذكر؟ هذا ما سنتناوله في الصفحات القادمة.