الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني: التفرقة بين جوهر التصوف وأشكاله
تمهيد:
رأينا أن ابن عبد الوهاب رفض جميع أشكال المتصوف التي تخرج الإنسان عن دائرة إخلاص العبودية لله في جميع أنواع العبادات إلى التردي في متاهات الجهل والخرافات التي انتشرت في زمانه وحاربها بالكلمة والسيف. ويقول في هذا:" وهذه هي المسألة التي تفرق الناس لأجلها بين مسلم وكافر، وعندها وقعت العداوة، ولأجلها يشرع الجهاد (1) كما قال الله تعالى:{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} (2) .
إذن ما الذي قبله من التصوف وتحت أي شروط قبلها؟ قبل ابن عبد الوهاب جوهر التصوف الذي لا يتصادم مع الشرع بل لابد أن يخضع للشروط التي وردت في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فلم ينكر الكرامة وأقربها وأحب أولياء الله الذين يحبهم الله وعليه يتوكلون، ووافق على تنزيه الباطن بالشروط والقوانين الشرعية المستمدة من الكتاب والسنة فمقام التوحيد مقام رفيع والتوكل والمحبة والإخلاص أساس الإيمان، ثم نتناول بالتفصيل والتحليل موقفه من التوسل المقبول والمرفوض.
(1) مجموعة التوحيد ص 236
(2)
الأنفال 39.
الكرامة:
أمر خارق للعادة غير مقرون بدعوى النبوة تظهر على يد عبد ظاهر الصلاح ملتزم المتابعة لنبي كلف بشريعته مصحوبا بصحة الاعتقاد والعمل الصالح، ويقرن بينها وبين المعجزة بأن المعجزة تكون مقرونة بدعوة النبوة بخلاف الكرامة، ومن أصول أهل السنة والجماعة التصديق بكرامات الأولياء وما يجري الله على أيديهم من خوارق العادات في أنواع العلوم والمكاشفات وأنواع القدرة والتأثيرات كالمأثور عن سالف الأمم في سورة الكهف وغيرها. وعن صدر هذه الأمة من الصحابة والتابعين وسائر فرق الأمة وهي موجودة فيها إلى يوم القيامة وهي أعظم دلالة على كمال قدرة الله ونفوذ مشيئته وأنه فعال لما يريد وأنه كما أن لله سننا وأسبابا تقتضي مسبباتها الموضوعة لها شرعا وقدرا ويستشهد ابن عبد الوهاب من سورة الكهف فيقول:" الرد على منكري الأسباب، لأنه سبحانه قادر على إتجاه السفينة وتثبيت أبوي الغلام وإخراج الكنز له بدون ما جرى". (1)
كما أن له سبحانه سننا أخرى لا يقع عليها علم البشر ولا تدركها أعمالهم وأسبابهم، فمعجزات الأنبياء وكرامات الأولياء بل وأيام الله وعقوباته في أعدائه الخارقة للعادة كلها تدل دلالة واضحة أن الأمر كله لله وأن لله سننا لا يعلمها إلا هو، وقيل: أن الكرامة من المبشرات التي يجعلها الله لمن أتت على يديه، وهي تارة يرى الإنسان ما لا يراه يره يقظة ومناما، وتارة يعلم مالا يعلمه غيره وحيا وإلهاما أو إنزال علم ضروري أو فراسة صادقة ويسمى كشفا ومشاهدات ومكاشفات ومخاطبات فالسماع مخاطبات والرؤية مشاهدات والعلم مكاشفة ويسمى ذلك كله كشفا ومكاشفة. (2)
وفي الترمذي عن علي رضي الله عنه قال:" كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1) ابن غنام ـ تاريخ نجد ـ ص638
(2)
عبد العزيز السلمان ـ الكواشف الجلية عن معاني الواسطية ـ 430 وكذلك صدر الدين أبي العز الحنفي ت شرح الطحاوية ـ 42-24، عبد الكريم القشيري ـ الرسالة االقشيرية 158.
بمكة فخرجنا في بعض نواحيها فما استقبله شجر ولا جبل إلا وهو يقول السلام عليك يا رسول الله". (1)
وتحفل كتب السيرة والتاريخ عشرات من كرامات النبي صلى الله عليه وسلم وأولياء الله الذين يلتزمون بطريق الحق.
ومن باب كرامة السابقين باب القدرة كعصا موسى وفلق البحر وناقة صالح وإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى لعيسى.
وأما ما كان لغير الأنبياء من باب الكشف والعلم، فمثل قصة عمر لما أرسل جيشا أمر عليهم رجلا يسمى سارية، فبينما عمر يخطب إذ جعل يصيح على المنبر: يا سارية الجبل يا سارية الجبل فقدم رسول الجيش فسأل فقال: يا أمير المؤمنين لقينا عدونا فهزمونا، فإذا بصائح: يا سارية الجبل فأسندنا ظهورنا بالجبل فهزمهم الله.
ومن كرامات الأولياء قصة سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ركبنا البحر في سفينة فانكسرت السفينة، فركبت لوحا من ألواحها فطرحني في أجمة فيها أسد، فلم يرعبني إلا به فقلت: يا أبا الحارث أنا مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم فطأطأ رأسه وغمز بمنكبه، فما زال يغمزني ويهديني الطريق حتى وضعني على الطريق وهمهم، فظننت أنه يودعني.
فابن عبد الوهاب الملتزم طريق أهل السنة والجماعة في اتباع آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم في أقواله وأعماله، واتباع سبيل السابقين ـ الأولين من المهاجرين والأنصار والأخذ بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال:" عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة". (2)
وبناء على هذا الالتزام والتمسك فابن عبد الوهاب يوافق على كل أمر يلتزم بالكتاب والسنة ولذلك فهو يقبل من الصوفية تنزيه الباطن من الرذائل
(1) رواه الحاكم في صحيحه
(2)
ابن غنام ـ تاريخ نجد ـ 219-220
وبعض المقامات التي سنعرض لها، ويقر بالكرامة الحقة التي يكون معها استقامة وعدم غرور فيقول:" وأقر بكرامات الأولياء وما لهم من المكاشفات إلا أنهم لا يستحقون من حق الله تعالى شيئا ولا يطلب منهم ما لا يقدر عليه إلا الله. (1)
ثم يحذر الناس من الاغترار بخوارق العادات التي تجري على يد أناس غير صالحين:" أنه لا ينبغي أن يغتر بخوارق العادة إذ لم يكن مع صاحبها استقامة على أمر الله، فإن اللعين أنظره الله تعالى ولم يكن ذلك إلا إهانة له وشفاء له، وحكمة بالغة يعلمها العليم الخبير فينبغي للمؤمن أن يميز بين الكرامات وغيرها ويعلم أن الكرامة هي لزوم الاستقامة". (2)
ويسوق الأمثال والوقائع على ذلك بما يفعله كثير من أتباع إبليس واتباع المنجمين والسحرة والكهان ممن ينتسب إلى الفقر، وكثير ممن ينتسب إلى العلم، من هذه الخوارق التي يوهمون بها الناس ويشبهونها بمعجزات الأنبياء وكرامات الأولياء ومرادهم أكل أموال الناس بالباطل والصد عن سبيل الله، حتى أن بعض أنواعها يعتقد فيه من يدعي العلم أنه من العلم الموروث عن الأنبياء من علم الأسماء، وهو من الجبت والطاغوت. ولكن هذا مصداق قوله صلى الله عليه وسلم:" للتبعن سنن من كان من قبلكم" ومنها هذه الحيلة الربوية التي مثل حيلة أصحاب السبت وأشد. (3)
إذن فابن عبد الوهاب يقر بالكرامة الحقة ويؤيد حب الصالحين الذين يرعون حق الله وفي نفس الوقت يرفض الإسراف في حبهم إلى الحد الذي يخرج المسلم عن الاعتدال ويوقعه في الشرك ويكون مصيدة للشيطان فيقول:" وأما الصالحون فهم على صلاحهم، رضي الله عنهم ولكن نقول ليس لهم شيء من الدعوة". (4)
وفي موضع آخر يقول: " ثم لما صار على أكثر الأمة ما صار اظهر لهم
(1) الدرر السنية ـ جـ 1 ص 30
(2)
ابن غنام ـ تاريخ نجد ص 605.
(3)
المرجع السابق ـ ص229.
(4)
الدرر السنية ص 65.
الشيطان الإخلاص في صورة تنقص الصالحين والتقصير في حقهم وأظهر لهم الشرك بالله في صورة محبة الصالحين واتباعهم". (1)
حارب ابن عبد الوهاب الغلو ومجاوزة الحد بأن يجعل للصالحين من حقوق الله الذي لا يشاركه فيها مشارك، هو الكمال المطلق، والغني المطلق والتصرف المطلق من جميع الوجوه، وأنه لا يستحق العبادة والتأله أحد سواه، كما جاء في محكم آياته {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} . (2)
وقوله " {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} . (3)
ويوضح منهجه وما يجب على العبد في علاقته مع الصاحين وأولياء الله ويبين أقسام الناس في معاملة الصاحين ثلاثة أقسام:
(1)
أهل الجفاء الذين يهضمونهم حقوقهم ولا يقدمون من الحب والموالاة لهم والتوقير فيقول:" فالواجب عليك حبهم واتباعهم والإقرار بكرامتهم ولا يجحد كرامات الأولياء إلا أهل البدع والضلال، ودين الله وسط بين طرفين وهدى بين ضلالتين وحق بين باطلين". (4)
(2)
أهل الغلو الذي يرفعونهم فوق منزلتهم التي أنزلهم الله بها، وقد أوضحنا في الصفحات السابقة العديد من هذه الصور.
(3)
وأهل الحق الذين يحبونهم ويوالونهم ويقومون بحقوقهم الحقيقية ولكنهم يبرأون من الغلو فيهم وادعاء عصمتهم والصالحون أيضا يبرأون من أن يدعوا لأنفسهم حقا من حقوق ربهم الخاصة، كما قال الله عن عيسى {سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقّ} . (5)
هذه عقيدة ابن عبد الوهاب الذي لا ينكر الطريقة الصوفية في تنزيه
(1) الدرر السنية ص 99
(2)
الأعراف:3
(3)
التوبة:31
(4)
مجموعة التوحيد 226-227
(5)
المائدة:116.
الباطن من رذائل المعاصي المتعلقة بالقلب ولا الجوارح، طالما استقام صاحبها على القانون الشرعي والمنهج القويم المرعي، إلا أنه لا يتكلف له تأويلا في كلامه ولا في أفعاله ولا يعول ولا يستعان ولا يستنصر إلا على الله تعالى ونتوكل في جميع أمورنا عليه فهو نعم المولى ونعم النصير.
ثم يقول:" وإنما كتبت لكم هذا معذرة من الله ودعوة إلى الله لأوصل ثواب الداعين إلى الله". (1)
ويحث تلاميذه من حوله من اتباع على كثرة الدعاء والتضرع إلى الله لجلاء النفس من كدوراتها فيقول:"فإن أصغى إليه قلبك بعض الشيء، فعليك بكثرة التضرع على الله، والانطراح بين يديه، خصوصا في أوقات الإجابة: كآخر الليل، وأدبار الصلوات، وبعد الأذان، وكذلك بالأدعية المأثورة، خصوصا الذي ورد في الصحيح أن صلى الله عليه وسلم كان يقول:" اللهم، رب جبريل وميكائيل
…
" (2) .
فابن عبد الوهاب كما أسلفنا يؤمن بتنقية القلب وتنزيه الباطن وذلك بالطريق المشروع والمأثور عن رسوله صلى الله عليه وسلم ويرفض شطحات الصوفية التي تقربهم من الغرور وتبعدهم عن الاستقامة التي رسمها الشرع للعبد ونعني الاستقامة في القول والعمل والاعتقاد، ويكون ميزان كل ذلك الشرع لا شيء غيره من المصطلحات التي ابتدعها الصوفية.
وقد نقد الغزالي هذا الغرور الناجم عن إكرام الله لعبد من عباده بكرامة ما فقال:" وإنما يقيس على الماضي بواسطة الكرامة الحب إذ يقول لولا أني كريم عن الله ومحبوب لما أحسن إلي والتلبيس تحت ظنه أنه كل محسن محب لا بل تحت ظنه أن أنعامه عليه في الدنيا إحسان فقد اغتر بالله إذ ظن أنه كريم عنده بدليل لا يدل على الكرامة". (3)
(1) ابن غنام ـ تاريخ نجد ـ 219
(2)
المرجع السابق.
(3)
أبي حامد الغزالي ـ إحياء علوم الدين جـ 3 ـ 372 ط. الحلبي
أولاً: التوحيد:
عني ابن عبد الوهاب بدعوة التوحيد إلى الله فهي أولى دعوات الرسل والأنبياء ـ فكل رسول يفتتح دعوته لقومه بهذا التوحيد {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (1) وقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} . (2)
فدلت الآية على أن الله تعالى خلق الخلق لحكمة عظيمة وهي القيام بما وجب عليهم من عبادته وحده وبترك عبادة ما سواه، فخلق الخلق سبحانه لكي يؤدوا العبادة التي هي اسم يجمع كمال كل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، فالعبادة اسم يجمع كمال الحب لله ونهايته وكمال الذل ونهايته، وهذا التوحيد الذي خلقوا له ودعوا إليه هو توحيد الألوهية، توحيد القصد والطلب، وأما توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات وتوحيد الأفعال فهو توحيد العلم والاعتقاد والمراد من العبادة التي خلقوا لها هي العبادة الخالصة التي لا يلبسها شرك بعبادة شيء سوى الله كائنا ما كان، ويقول في ذلك:(وأما عبادته سبحانه وتعالى بالإخلاص دائما في الرخاء والشدة فلا يعرفونها، وهي نتيجة توحيد الإلهية، وكذلك الإيمان بالله واليوم الآخر والإيمان بالكتب والرسل وغير ذلك، وأما الصبر والرضا والتسليم والتوكل والإنابة والتفويض والمحبة والخوف والرجاء فمن نتائج توحيد الربوبية وهذا وأمثاله لا يعرف إلا بالتفكر، لا بالمطالعة وفهم العبارة". (3)
فإثبات التوحيد بأقسامه الثلاثة لا بد أن يجتمع مع الاعتقاد العملي الذي هو الثمرة الحقيقية لوجود الإنس والجن.
وقد كثر كلام الصوفية في تعريف التوحيد وحقيقته وأقسامه في مؤلفاتهم مثل الرسالة القشيرية (4) ، والكلاباذي (5) ، والسهروردي (6) والغزالي الذي
(1) هود: 61
(2)
الذاريات: 57.
(3)
ابن غنام ـ تاريخ نجد ـ ص 511.
(4)
عبد الكريم بن هوازن القشيري ـ الرسالة القشيرية ـ136
(5)
أبوبكر محمد الكلاباذي ـ التعرف لمذهب أهل التصوف ـ 134-136
(6)
أبي حامد الغزالي ـ إحياء علوم الدين ـ جـ 4 ص 340
تسوق له هذا التعريف فيقول:" التوحيد الذي يترجمه قولك: لإله إلا الله وحدة لا شريك له والإيمان بالقدرة التي يترجم عنها قولك له الملك والإيمان بالجود والحكمة الذي يدل عليه قولك وله الحمد فمن قال لا إله إلا الله وحدة لا شريك له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير تم له الإيمان الذي هو اصل التوكل".
وسئل البوشنجي عن التوحيد فقال: غير مشبه الذات ولا منفي الصفات. (1)
والمتابع لتعريفات أعلام الصوفية للتوحيد وبين ما جاء لدى ابن عبد الوهاب يجد فروقا كثير نخص بالذكر ما يلي:
1.
دعوة ابن عبد الوهاب إلى التوحيد تشمل جميع طبقات الناس.
2.
دعوة التوحيد لديه مبنية على الاعتقاد والقول والعمل دون تفريق بين الظاهر والباطن.
3.
لم يذهب إلى مذهب الصوفية في جعل التوحيد مقسم على أوجه ثلاث: توحيد العامة الذي يصح بالشواهد والوجه الثاني توحيد الخاصة وهو الذي يثبت بالحقائق والوجه الثالث توحيد قائم بالقلب وهو توحيد خاصة الخاصة، بل ألزم ابن عبد الوهاب كل مسلم ان يتعلم حقيقة التوحيد: توحيد الألوهية والربوبية وتوحيد الصفات، كما جاء في كتابه الحكيم وكما بلغه رسوله الأمين.
4.
إن مقام التوحيد ذهب بعض الصوفية إلى جعله آخر المقامات كما فعل الهروي، أو من جعله متقدما أو متوسطا مثل الغزالي، ولكن ابن عبد الوهاب لا يقدم على التوحيد أي فكر ولا علم تحت أي مسمى ويعتبر التوحيد هو أول دعوة الرسل وأعظم ما يتعلمه الخلق ويقول في ذلك: "فمعلوم أن التوحيد هو أعظم فريضة جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم وهو أعظم من الصلاة والزكاة والصوم والحج فكيف إذا جحد الإنسان شيئا من هذه
(1) عبد الكريم بن هوزان القشيري ـ الرسالة القشيرية ص136
الأمور كفر ولو عمل بكل ما جاء الرسول صلى الله عليه وسلم وإذا جحد التوحيد الذي هو دين الرسل كلهم لا يكفر؟ ". (1)
نخلص مما تقدم من النصوص الواردة في مؤلفات ابن عبد الوهاب إلى أن التوحيد الذي جاء به الرسل والأنبياء هو إخلاص الدين كله لله وعبادته وحده لا شريك له في جميع أنواع العبادة التي أمر بها الإسلام.
(1)
ـ إن دعوة ابن عبد الوهاب في التوحيد أساسها الشرع وميزانه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يقدم على هذه الدعوة أي شيء آخر مهما بدا عظيما.
(2)
ـ لا يجوز دعوة الصالحين وأن نعلم جيدا أنهم على صلاحهم أنهم ليس لهم من الأمر شيء ويقول في ذلك:" وأن لا يتخذوا مع الله إلهاً آخر ونهاهم عن عبادة المخلوقين من الملائكة والأنبياء والصالحين والحجر والشجر...."(2)
ثم يستطرد بأن هذا الكلام أي تجريد التوحيد من كل شائبة فيقول:
"وكون أكثر القرآن في بيان هذا الأصل من وجوه شتى بكلام يفهمه أبلد العامة". (3)
وتلك حجة على من يشرك في عبادته أحداً، أو يتعلل بعدم الفهم،
(3)
قول: (لا إله إلا الله) إبطال للوسائط.
ثانيا ـ الإخلاص:
أما الإخلاص: فحقيقته أن يخلص العبد لله في أقواله، وأفعاله وارادته ونيته وهذه هي ملة إبراهيم عليه السلام وقد ورد في الكتاب والسنة وإجماع الأمة على اشتراط الإخلاص للأعمال والأقوال الدينية وأن الله لا يقبل منها إلا ما كان خالصا وابتغى به وجهه ولهذا كان السلف الصالح يجتهدون غاية
(1) مجموعة التوحيد ـ 228
(2)
الدرر السنية جـ 1 ص98.
(3)
المرجع السابق.
الاجتهاد في تصحيح نياتهم، ويرون الإخلاص أعز الأشياء وأشقها على النفس وذلك لمعرفتهم بالله وما يجب لله.
ويعرف الإخلاص الصوفية بتعريفات كثيرة ومتعددة أذكر منها تعريف الجنيد:" الإخلاص ما أريد به الله من أي كعمل كان". (1)
ويعرف الإخلاص صاحب الرسالة القشيرية: الإخلاص إفراد الحق سبحانه في الطاعة بالقصد وهو أن يريد بطاعته التقرب على الله سبحانه دون شيء آخر من تصنع مخلوق أو اكتساب محمدة عند الناس أو محبة مدح من الخلق أو معنى من المعاني سوى التقرب به إلى الله تعالى". (2)
فلب الإخلاص لدي مفكري المسلمين جميعا هو تصفية الفعل عن ملاحظة الخلق أو انتظار مدح منهم والتوجه إلى الله {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} . (3)
وقال تعالى {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِص} . (4)
ويستشهد الغزالي بقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه (لا تهتموا لقلة العمل واهتموا للقبول فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ بن جبل " أخلص العمل يجزك منه القليل". (5)
ويهتم ابن عبد الوهاب بإخلاص في العلم ويعتبرها من أعز الأمور التي يجب على كل مسلم أن يصل إلى هذه الحقيقة ولا يتم ذلك إلا بالصدق فيقول:" المسألة كبيرة ولما ذكر الإمام أحمد الصدق والإخلاص قال بهما ارتفع القوم، ولكن يقربهما على الفهم التفكر في بعد إفراد العبادة مثل الصلاة، فالإخلاص فيها يرجع إلى إفرادها عما يخالطها كثيرا من الرياء والطبع والعادة
(1) أبو بكر محمد الكلاباذي ـ التعرف لمذهب أهل التصوف. ص99.
(2)
عبد الكريم القشيري ـ الرسالة القشيرية ـ ص95
(3)
البينة:5
(4)
الزمر:3
(5)
أبي حامد الغزالي ـ إحياء علوم الدين ـ جـ 4 ص 365.
وغيرها، والصدق يرجع إلى إقامتها على الوجه المشروع ولو ابغضه الناس لذلك". (1)
إخلاص العبادة لله وحده، وهو معنى قول الخليل عليه السلام:{إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} . (2)
إخلاص الدين كله لله تحقيقا لقوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} . (3)
فإن دين الإسلام هو دين الله الذي أمر به الأولين والآخرين، ويستطرد ابن عبد الوهاب في سوق الأدلة والبراهين عن حقيقة الإخلاص وما يلزمه فيقول:"الثالثة" بل من أسلم وجهه لله وهو محسن، وفسر إسلام الوجه بما يقتضي الإخلاص، والإحسان في العمل الصالح المأمور به وهذان جماع الدين لا يعبد إلا الله، ولا نعبده بالبدع بل بما شرع". (4)
ثم يقيم هذا العمل الخالص لله فيقول:" إن هذين الأصلين هما تحقيق الشهادتين شهادة أن (لا إله إلا الله) وشهادة أن محمدا رسول الله فالأولى تتضمن إخلاص الألوهية فلا يتأله القلب غيره...."(الثانية)" يتضمن تصديق الرسول فيما أخبر به وطاعته فيما أمر فلا حرام إلا ما حرم ولا دين إلا ما شرع". (5)
فابن عبد الوهاب واضح الفكر والمنهج في هذا الأمر:
(1)
فإخلاص الدين لله فريضة على كل مسلم ومسلمة.
(2)
العبادة تكون في حدود ما شرع الله دون إضافة أو ابتداع وقد شدد ابن عبد الوهاب على هذا الالتزام حتى لا تفسد العبادات وتشوبها الجهالات المختلفة.
(1) الدرر السنية جـ 2 ص 66
(2)
الانعام: 79
(3)
البينة: 5
(4)
الدرر السنية جـ 2 ـ 42-43.
(5)
المرجع السابق.
ولأن العبادة مظهر العلاقة بين العبد وخالقه، وهذا المظهر ليس للعبد حق وضعه، ولا بيان كيفيته وإنما هذا لله وحده، ولهذا منع الأصوليون الاجتهاد في الأمور التعبدية.
(1)
عدم الإخلاص في العبادة تفرق الناس لأجلها بين مسلم وكافر، وعندها وقعت العداوة، ولأجلها شرع الجهاد (1)، كما قال تعالى:{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} (2)
(2)
يجب ان يكون الإخلاص دائما في الرخاء والشدة ويعيب على أهل زمانه فيقول:"فلا يعرفونها وهي نتيجة توحيد الإلهية. (3)
ثالثا ـ التوكل:
إن التوكل على الله لا بد أن يكون علما وحالا وعملا والتوكل مشتق من الوكالة يقال وكل أمره إلى فلان أي فوضه إليه واعتمد عليه فيه ويسمى الموكول إليه وكيلا ويسمى المفوض إليه متكلا عليه ومتوكلا عليه.
ومن صفات المؤمنين كما وصفهم الله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (4) وقوله: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} . وقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّه} .
والتوكل من المقامات الأولى التي اعتنى بها الصوفي لكي يرقى إليها ويستطيع تحقيقها في رياضاته، ويسوق القشيري حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيان أهمية درجة المتوكلين على الله فيقول:"عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أرأيت الأمم بالموسم فرأيت أمتي قد ملؤا السهل والجبل فأعجبني كثرتهم وهيبتهم فقيل له أرضيت فقلت نعم قال ومع هؤلاء سبعون ألفا
(1) مجموعة التوحيد: 236
(2)
سورة الانفال: 39
(3)
الدرر السنية ك جـ 2 ص 108
(4)
المائدة: 23
يدخلون الجنة بغير حساب لا يكتوون ولا يتطيرون ولا يسترقون وعلى ربهم يتوكلون" فقال عكاشة بن محسن الأسدي فقال يا رسول الله أدع الله أن يجعلني منهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم أجعله منهم" فقال آخر" ادع الله أن يجعلني منهم" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سبقك بها عكاشة". (1)
فالمتوكل دون إسراف فيه مقام محمود لا ينكره ابن عبد الوهاب على الصوفية ففي كتابه التوحيد يعقب على الحديث السالف الذكر بقوله:" الرابعة ثناؤه على سادات الأولياء بسلامتهم من الشرك، (الخامسة) كون ترك الرقية والكي من تحقيق التوحيد، السادسة كون الجامع لتلك الخصال هو التوكل (2) " أما الجانب الذي يعيبه على الصوفية هو المغالاة في إنكارهم الجمع بين التوكل والسبب فيقول:" الجمع بين التوكل والسبب خلافا لغلاة المتفقهة وغلاة الصوفية". (3)
ويستشهد بقصة أهل الكهف للرد على منكري الأسباب أو من يذهب إلى أن هناك تعارض بين الجمع للتوكل والأسباب فيقول:" الرد على منكري الأسباب، لأنه سبحانه قادر على إنجاء السفينة وتثبيت أبوي الغلام وإخراج الكنز له بدون ما جرى". (4)
والتوكل عند ابن عبد الوهاب فريضة يجب إخلاصه لله تعالى لأنه من أجمع أنواع العبادة الباطنة (5) .
وفي موضع آخر يقول:"التوكل من لوازم الإسلام والإيمان"(6) وفي موضع آخر ذكر أنواع العبادة التي أمر بها الإسلام فيقول:" الدعاء والخوف والرجاء والتوكل والرهبة والخشوع
…
فمن صرف من ذلك شيئا لغير الله فهو مشرك (7) والدليل قوله تعالى:
(1) عبد الكريم القشيري ـ الرسالة القشيرية ص 75-76
(2)
مجموعة التوحيد ـ كتاب التوحيد ص 31.
(3)
ابن غنام تاريخ نجد ص 667
(4)
ابن غنام تاريخ نجد 638
(5)
مجموعة التوحيد 142-143
(6)
ابن غنام تاريخ نجد 659
(7)
الدرر السنية جـ 1 ص 83
ولا يحصل كمال التوحيد بأنواعه الثلاثة توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات إلا بكمال التوكل على الله.
قال الإمام أحمد: التوكل عمل القلب وذهب ابن تيمية وابن القيم إلى القول بأن التوكل على الله شرط للإيمان وأن من يتوكل على مخلوق خاب ظنه وخسر عمله وكان من المشركين.
أنواع التوكل:
التوكل قسمان: أحدهما التوكل في الأمور التي لا يقدر عليه إلا الله كالتوكل على الأموات والغائبين ونحوهم وهذا ما تشدد فيه ابن عبد الوهاب مثل الغلو في الأولياء والصالحين وطلب قضاء الحوائج منهم ويعتبر هذه الأعمال شركا أكبر لا يغفره الله إلا بالتوبة منه.
القسم الثاني: وهذا التوكل على الأحياء الحاضرين من ذوي السلطان ونحوهم فيما أقدرهم الله عليه من رزق ودفع أذى ونحو ذلك فهو شكر أصغر، والمباح أن يوكل شخصا بالنيابة عنه في التصرف فيما له التصرف فيه من أمور دنياه كالبيع والشراء والإجارة والطلاق والعتاق وغير ذلك فهذا جائز بالإجماع لكن لا يقول (توكلت عليه) بل يقول"وكلته" فإنه لو وكله فلا بد أن يتوكل في ذلك على الله سبحانه (2)،عن ابن عباس قال:(حسبنا الله ونعم الوكيل) . قالها إبراهيم عليه السلام حين القي في النار وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا له {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً} . (3)
(1)
ـ ويشيد ابن عبد الوهاب بعظم شأن هذه الكلمة وأنها قول إبراهيم عليه السلام ومحمد صلى الله عليه وسلم في الشدائد.
(1) المؤمنون: 117
(2)
مجموعة التوحيدـ ص 142
(3)
رواه البخاري والنسائي.
(2)
ـ أن التوكل من الفرائض.
(3)
ـ أنه من شروط الإيمان.
هذا هو موقف ابن عبد الوهاب من التوكل وقبوله له في الصورة التي رسمها القرآن الكريم وبينها صاحب السنة الأمين بعيداً عن المغالاة التي نحاها المتصوفة وتركهم للأسباب كلية ومحاربة النفس بما جبلت عليه من الحذر والخوف وفهموا بأن التوكل على الله بمعنى التواكل وترك الأسباب وعدم التزود بكل حالة بما يناسبها وثابت في السنة أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعد لكل أمر عدته وهو خير من توكل على ربه دون أن يصرفه التوكل عن إعداد العدة والتذرع بالأسباب حتى أنه صلى الله عليه وسلم أمره ربه بالهجرة من مكة إلى المدينة لم يدع احتياطا ممكنا إلا وأخذه، ولا حيلة يمكن أن تصرف القوم عنه إلا سلكه فمن ذلك انه أعد وأبو بكر راحلتين وزادا ورصدا عيونا على الطريق ورتبا مرور القطيع ليخفي على أثارهما، والتمسا المكث في الغار ثلاثة أيام لينصرف القوم عن طلبهما على آخر ما تحفل به كتب السيرة في قصة الهجرة.
وفي هذا رد على من أنكر الأسباب والجمع بينهما وبين التوكل مثل الغلاة من الفقهاء والمتصوفة، مع تأكيد حقيقة التوكل وأنه على العبد أن يكون على يقين بأنه لا يضره أحد بغير إذن الله تعالى ويقول في ذلك" الإرشاد إلى التوكل بكونه لا يضر أحداً إلا بإذن الله". (1)
خلاصة الأمر أن على العبد أن يلتزم في العبادات الاتباع لا الابتداع فليس لأحد أن يشرع من الدين ما لم يأذن به الله، قال تعالى:{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} . (2)
وبهذا التزم ابن عبد الوهاب وألزم مجتمعه بالتمسك بأنه لا يعبد إلا الله وبما شرع وهذان الأصلان هما تحقيق شهادة أن"لا إله إلا الله" وأن محمداَ رسول الله.
(1) ابن غنام ـ تاريخ نجد 638
(2)
الشورى:21
نتيجة ذلك انه رفض كل ابتداع ذهب إليه أي فريق تحت أي مسمى، وتمسك بصرف العبادة كلها لله، وحده فيقول:"أي أعبدك يا رب مما مضى بهذه الثلاث بمحبتك، ورجائك، وخوفك فهذه الثلاثة أركان للعبادة، وصرفها لغير الله شرك وفي هذه الثلاث الرد على من تعلق بواحدة منها..كمن عبد الله تعالى بالمحبة وحدها، وكذلك من عبد الله بالرجاء وحده كالمرجئة وكذلك من عبد الله بالخوف وحده كالخوارج". (1)
ويسوقنا الحديث إلى بيان موقفه من المحبة.
رابعا ـ المحبة:
كما رأينا منذ قليل أن ابن عبد الوهاب هاجم الفرق الثلاث الصوفية والمرجئة والخوارج لتعلق كل فرقة بعبادة الله عبادة منفردة عن باقي أركانها، فصرف العبادة هو بتوحيد المحبة مع خضوع القلب والجوارح، فمن احب شيئا وخضع له فقد تعبد قلبه له، فلا تكون المحبة المنفردة عن الخضوع عبادة، ولا الخضوع بلا محبة عبادة، فالمحبة والخضوع ركنان للعبادة فلا يكون أحدهما عبادة بدون الآخر.
إذن فتوحيد العبادة هو إفراد الله سبحانه بأنواع العبادة مع محبته والخضوع لأوامره، ومن صرف شيئا لغير الله فهو مشرك.
وقبل أن نفصل القول في بيان رأي ابن عبد الوهاب في المحبة نتناول بعض تعريفاتها لدى السادة الصوفية لأن مقام المحبة لديهم مقام عظيم وكانت عبادتهم لله تعالى تنفرد بالمحبة دون باقي أركان العبادة، وكان مسلكهم هذا موضع نقد ابن عبد الوهاب ولذلك كان لزاما أن نتناول بعض تعريفاتهم بالبيان والتحليل يستشهد الغزالي بالحديث الذي رواه أنس عن النبي رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:" إذا أحب الله عبد الم يضره ذنب والتائب من الذنب كما لا ذنب له ثم تلا ـ {إن الله يحب التوابين} ". (2)
(1) مجموعة التوحيد: 269
(2)
أبي حامد الغزالي ـ إحياء علوم الدين ت جـ 4 ص318
ويفسر الحديث فيقول:" ومعناه أنه إذا أحبه تاب عليه قبل الموت فلم تضره الذنوب الماضية وإن كثرت كما لا يضر الكفر الماضي بعد الإسلام وقد اشترط الله تعالى لمحبة غفران الذنب". (1)
فابن عبد الوهاب الذي يقر بالمحبة في الإطار الذي ورد في كتابه الكريم وسنة رسوله والمحكومة بالعمل لا بهجر الحياة والبعد عن تعمير الكون والمحبة عنده ثمرة للمعرفة فمن عرف الله ووقف على صفاته ومعرفة نعوته تندفع القلوب إلى محبته لأن القلوب لا تحب إلا من سبق لها معرفة به، ووجدت فيه صفات ترغبها فيه وهذا ما دفع ابن عبد الوهاب إلى التشدد في التمسك بإثبات الصفات لله تعالى والهجوم على أي فريق أنكر الصفات أو أولها ن واعتبر الكافر أعقل ممن ننكر صفات الله تعالى.
ويقول صاحب الرسالة القشيريية: المحبة حال شريفة شهد الحق سبحانه يوصف بأنه يحب العبد والعبد يوصف بأنه يحب الحق سبحانه.
ويقول الجنيد: المحبة ميل القلوب.
ومعناه: أن يجعل قلبه إلى الله وإلى ما لله منن غير تكلف. وقال غيره: المحبة هي الموافقة، معناه: الطاعة فيما أمر والانتهاء عما زجر، والرضا بما حكم وقدر. (2)
ومثل هذا اللهو من التعريفات الصوفية للمحبة لا يرفضها ابن عبد الوهاب، لأنه يقر بالمحبة المقرونة بالمعرفة المترجمة إلى عمل في إطار الشريعة.
يرفض عبادة الله بالمحبة وحدها ويعيب هذا المسلك على الصوفية ينادي بعبادة الله بجميع أنواع العبادة كما أقرها الله سب سبحانه و: دكها رسوله ومبلغ وحيه الأمين.
أقسام المحبة لدى ابن عبد الوهاب:
تنقسم المحبة عند الشيخ إلى أربعة أقسام: ـ
(1) المرجع السابق.
(2)
عبد الكريم القشيري ـ الرسالة القشيرية ص 144
1-
محبة شركية وهم الذين قال الله فيهم {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} (1) إلى قوله {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} .
2-
المحبة الثانية: حب الباطل وأهله وبغض الحق وأهله وهذه صفة المنافقين.
3-
المحبة الثالثة: طبيعية وهي محبة المال والولد، إذا لم تشغل عن طاعة الله ولم تعن على محارم الله فهي مباحة.
4-
المحبة الرابعة: حب أهل التوحيد وبغض أهل الشرك، وهي أوثق عرى الإيمان وأعظم ما يعبد به العبد ربه.
وتختم قولنا عن المحبة الخاصة التي لا تصلح إلا لله وحده وهي محبة العبودية المستلزمة للذل والخضوع والتعظيم وكمال الطاعة وإيثاره على غيره فهذه المحبة لا يجوز تعليقها بغير الله أصلاً، وهي التي سوى المشركون بين آلهتهم وبين الله فيها، هي أول دعوة الرسل وآخر كلام العبد المؤمن الذي إذا مات عليه دخل الجنة، باعترافه وإقراره بهذه المحبة وأفراد الرب بها. (2)
ومصداق ذلك في قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (3) وفي المائدة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} . (4)
وفي آية يونس: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ، الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} . (5)
(1) مجموعة التوحيد 269
(2)
الدرر السنية جـ 2 ص 155
(3)
آل عمران: 31
(4)
المائدة: 54
(5)
يونس: 62-63