المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الثاني: عصره وبيئته - الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب ومنهجه في مباحث العقيدة

[آمنة محمد نصير]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌الباب الأول: حيَاتهُ وَمؤلفَاتهُ وَعصرُه وبيئتهُ

- ‌الفصل الأول: حياته ومؤلفاته

- ‌الفَصْل الثَاني: عصره وبيئته

- ‌الباب الثاني: المعالم الرئيسية لفكره ومنهجه

- ‌الفصل الأول: موقفه بين الاجتهاد والتقليد

- ‌الفصل الثاني: اهتمامه بالربط بين العلم والعمل

- ‌البَابُ الثَّالِث: مَوقفهُ مِنَ الغَيبيَّات

- ‌الفصل الأول: الذات والصفات

- ‌الفصل الثاني: النبوات

- ‌الفصل الثالث: البعث والجزاء

- ‌الباب الرابع: التصوف وصلته بالعقيدة

- ‌الفصل الأول: موقفه من التصوف

- ‌الفصل الثاني: التفرقة بين جوهر التصوف وأشكاله

- ‌الفصل الثالث: موقفه من التوسل

- ‌الباب الخامس: نظرته إلى دور العقيدة في بناء الفرد من خلال الجماعة

- ‌مدخل

- ‌الفصل الأول: مفهوم الجماعة المسلمة وكيف تتكون، ومدى ارتباط الإيمان بالتزام الجماعة

- ‌الفصل الثاني: التكفير وما يخرج عن الإسلام

- ‌الفصل الثالث: الجهاد في سبيل الله كركن من أركان العقيدة

- ‌الباب السادس: آثاره في الفكر والسياسة

- ‌مدخل

- ‌الفصل الأول: أثره في الفكر الإسلامي

- ‌الفصل الثاني: أثرة في السياسة

- ‌خاتمة

- ‌مصادر ومراجع

الفصل: ‌الفصل الثاني: عصره وبيئته

‌الفَصْل الثَاني: عصره وبيئته

تبين من دراسة حياة محمد بن عبد الوهاب أنه ولد بنجد عام 1115 هـ وتوفي بها عام 1206، أي أنه عاش أحداث القرن الثاني عشر الهجري ومقدمات القرن الثالث عشر ونرى لزاما علينا أن نستكشف المكونات الأساسية لفكره ومنهجه من خلال دراسة عصره وبيئته، وسنتناول ذلك:

أولاً: بدراسة مجملة لأحوال العالم الإسلامي في هذه الحقبة تعرفا على الفكر الإسلامي واهم قضاياه من خلالها، ونتبع ذلك.

ثانياً: بدراسة أحوال نجد على وجه التخصيص.

أولا: أحوال العالم الإسلامي

يذهب الباحثون إلى وصف حالة العالم الإسلامي خلال القرن الثاني عشر الهجري (الثامن عشر الميلادي) بأنه: تدن في الانحطاط (1) حتى: " طبقت الظلمة كل صقع من أصقاعه ورجا من أرجائه"(2) فبدا كما لو كان: " قد غرق تماما في نوع من انهيار عقلي محزن"(3) .

(1) د. محمد عبد الله ماضي: النهضات الحديثة في جزيرة العرب. ص: 25.

(2)

لوثروب ستودارد: حاضر العالم الاسلامي تعريب حجاج نويهض ج1 ص: 33، 34.

(3)

ماكس فانتاجو: المعجزة العربية، تعريب رمضان لاوند ص: 71

ص: 42

ويذهب الباحثون إلى أنه مع بلوغ العالم الإسلامي هذا الدرك من التدني في هذا القرن، فإنه قد بدأ يقظته في نهايته وبداية القرن التاسع عشر (1) .

وحسبنا أن نتأمل في واقع العالم الإسلامي اليوم لندرك كم كان حاله وبالا وداؤه عضالا، إذ ها هو وفد اكتمل على بدء يقظته قرنان من الزمان لم يزل بعد يعاني من أوضار علته حتى ليبدو كأنه ميؤوس البرء منها. وإنه لكذلك ما لم يدرك الأسباب الحقيقية لعلته دون أن تصرفه عنها الأعراض الظاهرة.

والإدراك الصحيح لأسباب العلة مرهون بالإدارك الصحيح لمقدمات العافية فبضدها تتميز الأشياء، ولقد انبعثت حركات إصلاحية متوالية تحاول تلمس السبل إلى إقالة العالم الإسلامي من عثراته ووضعه مرة أخرى على الطريق الصحيح، ولم تحقق أي من هذه الحركات أهدافها على الوجه المرجو على تفاوت بينها فيما حققته وما أخفقت فيه، وقد يكون لكل من هذه الحركات أسبابها الخاصة التي حدت من نجاحها أو حالت دونه، ولكن يبقى وراء هذه الأسباب الخاصة سبب عام أهم منها جميعاً: ذلكم هو افتقاد النظرة الشمولية لدى حركات الإصلاح.

ومكمن الداء في أزمة العالم الإسلامي أنه بلغ في تدنيه حد الاحتجاب الكامل عن حقائق الإسلام وكلياته الأساسية وبفعل هذه الغيبوبة انهمك الفكر الإسلامي في الجزيئات التي هي بطبيعتها أدعى إلى وقوع الخلاف في تقبلها كما أنها سرعان ما يدركها التغيير في حركتها، ومن هنا لم يعط الفكر التفاتا إلى الكليات التي عني القرآن الكريم بتقريرها وحشد الطاقات الذهنية والوجدانية لاستيعابها ودعوة العقل إلى الانطلاق منها غير مقيد إلا بها وغير محاسب إلا عليها.

لا يحتاج الفكر إلى أي عناء لإدراك كليات الإسلام التي عليها مدار أحكامه واعتدال ميزانه، إذ هي شاخصة ناطقة في آيات الكتاب الكريم حسب المفكر أن يتدبر قوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِن ْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْأِنْسَانَ مَا لَمْ

(1) د. محمد ضياء الدين الريس: تاريخ الشرق العربي والخلافة العثمانية ج1 ص:98 وأيضا. لوثروب ستودارد. حاضر العالم الاسلامي ج1 ص60.

ص: 43

يَعْلَمْ} (1) فإن هذه الآيات المحكمات والتي كانت أول ما نزل من القرآن تحدد المنهج الإلهي في الكليات الخمس الآتية:

* توحيد الله تعالى خالق كل شيء.

* وجوب اتباع الرسول فيما يبلغه عن ربه.

* ومساواة الناس جميعاً.

* والحض على التعلم.

* وتفاضلهم بالعلم.

ثم تترى الآيات بعد ذلك تأكيداً لكل حقيقة من هذه الحقائق في ذاتها ثم تأكيداً للترابط القائم بينها مؤكدة أنها في مجموعها كل واحد لا يقبل التجزئة والانفصام، والكفر بإحداها كفر بها جميعاً. والايمان ببعضها لا يدخل صاحبة مساحة الإيمان مالم يؤمن بها جميعاً. {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ} (2) .

وكانت حياة الرسول صلى الله عليه وسلم منذ بعثه الله بالهدى ودين الحق إلى أن لحق بالرفيق الأعلى تطبيقاً لهذه الحقائق الكلية، يروي ابن إسحاق (3) : حدثني بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام على باب الكعبة غداة فتح مكة فخطب الناس فقال:" لا إله إلا الله وحده لا شريك له

يا معشر قريش إن الله أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء، الناس من آدم وآدم من تراب ثم تلا هذه الآية:(13:49){يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} (4) .

وفي ظل علم النبوة عرفت البشرية معنى الأمة العقائدية التي ترتفع فوق روابط الأرض العرقية والقبلية فتقوم على حراسة هذه الحقائق الكلية وتعي أن وجودها مرتبط بصيانة هذه الحقائق {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ

(1) سورة العلق، الآيات من 1ـ 5

(2)

سورة البقرة. آية: 85

(3)

سيرة ابن هشام: ج4 ص: 31-32

(4)

سورة الحجرات: آية 13.

ص: 44

بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (1) .

أما كيف وصل العالم الإسلامي في تدنيه إلى هذه الهاوية المظلمة فلأنه أصيب أول ما أصيب في واسطة العقد من هذه الحقائق الخمس الكلية وهي المتعلقة بالمساواة الإنسانية وما يترتب عليها من تماسك بناء الأمة ما دام أفرادها كأسنان المشط أقدارهم واحدة وأمرهم شورى ومصيرهم إلى الله.

ومن هذه الثغرة بدأ الشيطان التفافه حول كليات الإسلام. سول لبني أمية وأملى لهم أن ينتزعوا الأمر انتزاعا ثم عملوا على استدامته باذكاء العصبية العربية، حتى إذا جاء العباسيون على أنقاض هذه العصبية بعد أن يئسوا من تأييدها لهم استزادوا من خلق العصبيات وإثارة التنافس بينها بدلا من أن يعملوا على إحياء روح الاسلام القائمة على المساواة الإنسانية ومن هنا أخذت الدولة العباسية"في الانحطاط بتغلب الأتراك والديلم ولم تزل منحطة فليس للخلفاء آخر الأمر إلا الأسم فقط حتى ظهرت فتنة التتر

وخرج هولاكو خان وملك بغداد وقتل الخليفة المستعصم (2) .

ودام تمزق الدار الإسلامية إلى أن استولى الأتراك العثمانيون على السلطة ونقلوا الخلافة من بني العباس إليهم وتلقبوا بألقاب الخلفاء في القرن العاشر الهجري (السادس عشر الميلادي) وبدا أن روحا جديدة تدب في العالم الاسلامي باكتمال النصر لفاتحي القسطنطينية التي استعصت على سائر الدول الإسلامية قبلهم. ولكن سرعان ما تبين أنهم كغيرهم.

صفحة في كتاب التسلط والقهر الخالي من الحضارة والمضمون.

" صحيح أن الأتراك العثمانيين أعادوا للإسلام وحدة الدولة على معظم الدار الإسلامية لكنهم لم يعيدوا إليه وحدة الأمة وظلت الشعوبية تعمل عملها في الكيان الإسلامي فبالنسبة للبلاد العربية لم يكن من رابطة بينها وبين الدولة العثمانية إلا.. حقيقة الاستيلاء بالقوة الحربية "(3) ولا ينكر أن الإسلام قد

(1) سورة آل عمران: آية 110

(2)

الجبرتي: عجائب الآثار والتراجم والاخبار. ت حسن محمد جوهر السرنجاوي ج1 ص: 47.

(3)

د. محمد ضياء الدين الريس: تاريخ الشرق العربي والخلافة العثمانية ص: 8

ص: 45

اعتز بالأتراك كقوة حربية " ولكن قد سيئ التصرف بهذه القوة حتى جنت على الاسلام جنايات هائلة (1) "فقد أمعن الأتراك في استنزاف طاقات الشعوب الخاضعة لهم بحيث أصبح الشرق العربي " أسيرا في سجن الدولة العلية مغلوبا على أمره مرهقا مكدودا.. فقد كانت قاعدتها أنها تأخذ ولا تعطي وانتهى بها الأمر إلى أن صار الجهل رائدها والفقر حليفها والفوضى قانونها والذل طبيعة لها"(2) .

لبثت أوروبا تتربص بالعالم الإسلامي منذ الحروب الصليبية التي أوقفها عاملان هامان: تعاظم القوة الحربية للدولة العثمانية بعد فتح القسطنطينية وانقسام أوروبا على نفسها. ولما تداعت القوة الحربية للدولة العثمانية لم يؤخر سقوطها إلا استمرار انقسام أوربا على نفسها " وبدا واضحا أن تنافس الدول الأوربية هو الضمانة الوحيدة لسلامة الأراضي العثمانية.. وقد رافق هذه الضعف السياسي الذي تردت فيه الإمبراطورية ضعف موات في حياتها العقلية، ذلك أن الحد من سلاطين هذا العهد لم يكن يعنى أقل العناية وأضألها بالآداب"(3) وبدلا من أن تلتفت الدولة العثمانية إلى النهوض بالبلاد الإسلامية نهضة شاملة تتناول سائر جوانب العقيدة والحياة انهمكت في تفتيت قوى العالم الإسلامي بتسليط القوى المحلية بعضها على بعض فتحرض والي الشام يوما على مصر وتحرض والي مصر يوما على الشام ونجد كل ذلك مخافة أن يشتد ساعد أحد الولاة فيخرج عليها. وسجل الجبرتي حالة الدولة العثمانية وسلاطينها في مستهل القرن الثاني عشر الهجري ـ الثامن عشر الميلادي. بقوله:" يضيق صدري ولا ينطلق لساني وليس الحال بمجهول حتى يفصح عنه اللسان بالقول، وقد أخرسني العجز أن أفتح فما أفغير الله ابتغي حكماً"(4) .

ونتج عن تردي أحوال الدولة أن انطفأ سراج العلم والمعرفة وجمدت العقول على الخرافة وركن الناس إلى الحطة والهوان واكتفوا بتعليل ما يجري لهم

(1) لوثروب ستودارد: حاضر العالم الإسلامي (مترجم) ص: 18

(2)

د. محمد ضياء الدين الريس: تاريخ الشرق العربي والخلافة العثمانية. ص:13

(3)

كارل بروكلمان: تاريخ الشعوب الإسلامية ج3 ص666

(4)

الجبرتي: عجائب الآثار في التراجم والأخبار ج1 ص: 66

ص: 46

" بأنه قدر مقدور لا حيلة فيه اعتذارا عما هم فيه من التهاون والغفلة وسوء الإدارة (1) ".

وبلغ من سلطان الخرافة على عقول العامة والخاصة" أن كان في موازنة البحرية التركية مبالغ تصرف لقراءة البخاري لجلب النصر للأسطول العثماني (2) " وأصبح التبرك بالأولياء هو السبب المقدم على كل الأسباب في كل الأمور ولكل شيخ أو ضريح اختصاص في الأبرياء من علة أو تيسير حاجة أو دفع ضر." فمن يزور الحسين أو السيد البدوي ومن يمر ببوابة المتولي أو بقبر ابي العلاء ببولاق يرى العجب العجاب من سيطرة الجهل على العقول (3) " بل إن جمود الفكر وسيطرة الخرافة كان شائعا حتى في عقول من يتسمون بالعلماء، وبين أيدينا واقعة جرت في الأزهر عام 1192هـ (4) تصور الهوة السحيقة التي انحدر اليها العلماء في فهمهم لدينهم وسلوكهم في شؤون الحياة. فكيف بعامة الناس وجهالهم. " لقد جهلوا دينهم ودنياهم لأنهم خلطوا بين عاداتهم وعقائدهم وبين خرافات الجمود وحقائق العبادات فإذا قيل لهم انهم تأخروا لمخالفة دينهم ونسيان وصاياه وآدابه عادوا إلى الخرافة الفاشية ولم يعودوا إلى الدين المهجور (5) ".

ورغم هذه الظلمات الفاشية من الجهل والخرافة فإن العصر لم يخل ممن يعرفون جوهر الدين وعلومه وحقائق الإيمان ومناهجه. روى الجبرتي من أخبار عام 1123هـ هذه الرواية:"وفي شهر رمضان جلس رجل رومي واعظ يعظ

(1) ل. ستودارد: حاضر العالم الإسلامي. تعليق شكيب ارسلان بهامش ص:30

(2)

حافظ وهبة: خمسون عاما في جزيرة العرب ط1 ص: 6

(3)

حافظ وهبة: المرجع السابق.

(4)

روى الجبرتي في تاريخه هذه الواقعة فقال: توفي شيخ الأزهر أحمد عبد المنعم الدينوري وكان شافعي المذهب وخلفه في المشيخة الشيخ العريشي وكان حنفي المذهب فثار الشافعية واعتصم شيوخ الشافعية بضريح الإمام الشافعي بالقرافة وأقاموا به ليلا ونهارا لا يفارقون من أجل أن يعين شيخ لجامع الأزهر شافعي المذهب ولما ذهب إليهم مراد بك الحاكم المالكي قالوا له: " البلد بلد الإمام الشافعي وقد جئنا إليه وهو يأمر بذلك وان خالفت يخشى عليك" الجبرتي: عجائب الآثار في التراجم والأخبار لدى ذكر حوادث عام 1182هـ ويعلق الشيخ عبد المتعال الصعيدي على هذه الحادثة بقوله" فحكموا الشافعي وهو ميت في هذه القضية فانظر" القضايا الكبرى في الإسلام ص: 383

(5)

عباس محمود العقاد: أثر العرب في الحضارة الأوروبية ط6 ص: 156

ص: 47

الناس بجامع المؤيد

وذكر ما يفعله أهل مصر بضرائح الأولياء وإيقاد الشموع والقناديل على قبور الأولياء وتقبيل أعتابهم وفعل ذلك كفر يجب على الناس تركه وعلى ولاة الأمر السعي في إبطال ذلك.. وذكر أيضا قول الشعراني في طبقاته أن بعض الأولياء الطلع على اللوح المحفوظ وأنه لا يجوز ذلك ولا تطلع الأنبياء فضلا على اللوح المحفوظ وأنه لا يجوز بناء القباب على ضرائح الأولياء والتكايا ويجب هدم ذلك وذكر أيضا وقوف الفقراء بباب زويلة في ليالي رمضان (1) ".

ومن خلال دعوة هذا الواعظ الذي نعته الجبرتي بالرومي وفتوى علماء الأزهر بالرد عليه وقضاء القاضي ببطلان هذه الفتوى وإحجامه عن كتابة حجة بالإبطال يظهر بوضوح أن شمس التوحيد الخالص لله والإتباع الكامل لرسول الله صلى الله عليه وسلم

(1) الجبرتي: عجائب الآثار في التراجم والاخبار ج1 ص: 131 وقد استطرد المؤرخ في سرد هذه الواقعة إلى أن بعض الناس ذهبوا إلى العلماء بالأزهر وأخبرهم يقول ذلك الواعظ فكتبوا فتوى وأجاب عليها الشيخ أحمد النفراوي والشيخ أحمد الخليفي بأن كرامات الأولياء لا تنقطع بالموت وأن إنكاره على الاطلاع الأولياء على اللوح المحفوظ لا يجوز، ويجب على الحاكم زجره على ذلك وأخذ بعض الناس تلك الفتوى ورفعها إلى الواعظ وهو في مجلس وعظة فلما قرأها غضب وقال: يا أيها الناس إن علماء بلدكم أفتوا بخلاف ما ذكرت وأني أريد أن أجلس معهم وأباحثهم في مجلس قاضي العسكر فهل منكم من يساعدني على ذلك وينصر الحق فقال له جماعة نحن معك لا نفارقك فنزل عن الكرسي واجتمع عليه ـ العامة زيادة عن ألف نفس.. إلى أن دخل بيت القاضي وقالوا له ما تقول في هذه الفتوى. قال هي باطلة فطلبوا منه ان يكتب حجة ببطلانها فقال إن الوقت قد ضاق والشهود قد ذهبوا إلى منازلهم ثم أورد الجبرتي ابياتا لشاعر معاصر اسمه حسن الحجازي يبدو منها أنه من القائلين بخرافة.

اطلاع الأولياء على اللوح المحفوظ إذ يقول كما أثبت الجبرتي:

مصر قد حل بها واعظ

عن منهج صدق قد أعرض

أبدى جهلا فيها قولا

منه الحبلى حالا تجهض

فأساء الظن بسادات

أحكام الدين بهم تنهض

إذ قال لنا من أين لكم

ختم بالخير لهم بغرض

وكرامات لهم انقطعت

بالموت زيارتهم ترفض

وتهد جميع قبابهم

ومرتبهم كلا ينقض

وعلى اللوح المحفوظ فما

للهادي مطلع يعرض

وخرافات شتى الألسن بها

إن فاهت شرعا تقرض

ص: 48

قد اكتنفتها سحب الجهل والضلالة فعاد الشرك وماتت السنن بحيث يمكن القول بأن القرن الثاني عشر الهجري قد أدرك العالم الإسلامي وقد تجرد من سائر الحقوق الكلية التي جاء بها الإسلام من أول يوم: توحيد الله وإتباع الرسول ومساواة بني الإنسان وتفاضلهم وبناء العلم على قاعدة التعلم.

ودعوة هذا الواعظ على أرض مصر في عام 1123هـ هي بذاتها دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب على ارض نجد بعد أقل من ربع قرن، "ولكنه كان من سوء حظ الداعية التركي أن قام بدعوته في مصر حيث يوجد الأزهر وعلماؤه فقاموا بإنكار دعوته (1) ".

ومن العجيب أن في الوقت الذي تحقق في إفلاس العالم الإسلامي من سائر الحقائق الكلية التي هي عماد دعوة الإسلام وأساس بناء المجتمع المسلم ـ كانت أوروبا قد قطعت شوطا بعيدا في حركتها العقلية التي أوصلتها إلى تقرير ثلاث من هذه الحقائق الكلية تقريرا عقليا ونعني بها الحقائق الكلية الآتية:

1) المساواة الإنسانية (ولو في داخل المجتمع الأوربي وحده) .

2) الثورة العلمية.

3) بناء العلم على التعلم بالمنهج الاستقرائي.

وبينما كانت الجامعات والمصانع في أوربا تصعد بالإنسان الأوربي إلى قمة الإبداع في حدود الكليات الثلاث كان الأزهر (2) وغيره من الجامعات الإسلامية

(1) الشيخ عبد المتعال الصعيدي: المجددون في الاسلام ص: 438

(2)

أورد الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي في كتابه: الأزهر في ألف عام نص محاضرة للشيخ محمود شلتوت شيخ الأزهر بين فيها أسباب ومظاهر جمود الحركة العلمية في الأزهر في العصور المتأخرة ونحن نثبت هنا نصوصا من هذه المحاضرة لما نرى لها من قيمة في هذا الصدد. قال الشيخ شلتوت:" ومرت بالأزهر أطوار.. ختمت بعهد تجمعت فيه على ماض طويل وأخذت تعمل عملها في صرف الأزهر عن التفكير والإنتاج وعن كل نافع من العلوم العقلية والكونية وانتهت مظاهر العلم والتفكير فيه إلى أن تغلبت المبادئ الآتية:

1.

تغلبت العناية بالمناقشات اللفظية وتتبع كلمات المؤلفين في المصنفات والشروح

ص: 49

يزداد جمودا وتحجرا وتزداد الحياة من حوله انحطاطا وتخلفا وظلاما حتى ختمت

= والحواشي والتقارير على الروح العلمية الموضوعية التي من شأنها أن تخدم الفكرة بقطع النظر عما يتصل بها من لفظ وعبارات.

2-

تغلبت روح التقديس للآراء والأفهام التي دونها السابقون وسموا بها عن مستوى النقد عدم الاكتراث بما قد يظهر من آراء جديدة ولو كان لها من القوة والسداد مالها.

3-

تغلبت روح الاشتغال بالفروض والاحتمالات العقلية التي لا تقع وما يتصل بها من أحكام فنراهم يقولون: لو طلقها نصف تطليقة أو ربع تطليقة. ولو قال أنت طالق إن شئت فقالت له: شئت إن شئت، وتراهم يقولون: لو تزوج جنية فالحكم في النسب والميراث كذا. ولقد أكثروا من هذه العبادات والمعاملات وانفقوا فيه من الوقت والتفكير ما كان جديرا لهم أن يدخروه للمنافع المفيدة. ويصل الأمر في ذلك أن الكمال بن الهمام وهو من أفذاذ القرن التاسع يقول: ومن مسائل قبل وبعد ما قيل منظوما:

رجل علق الطلاق بشهر

قبل ما بعد قبله رمضان

ثم يندفع في تخريج هذا الغرض وبيان حكمه ثم يأتي من بعده ابن النجيم الحنفي صاحب البحر والاشباه فيتولى الشرح والبيان والتكميل ويقول:" إن هذا البيت يمكن انشاده على ثمانية أوجه، ويشاركه في ذلك علماء فيضع رسالة في هذا الغرض تحت عنوان:

اتخاف الذكي النبيه بجوانب ما يقول الفقيه يشرح فيها أبياتا أولها:

ما يقول الفقية أيده الله

وما زال عنده الاحسان

في فتى علق الطلاق بشهر

قبل ما بعد قبله رمضان.

ويورد في المسألة آراء جميع من تقدمه من العلماء في الشرح والحكم ولابد أن بجعل الجواب نظما كالسؤال وهكذا اشتغل المتأخرون بمثل هذه الفروض وأعرضوا بها عن تنمية الفقه العملي الذي يحتاج إليه الناس في معاملاتهم وأقضيتهم.

4-

تغلبت نزعة الاشتغال باختراع الحيل التي يتخلص بها من الحكم الشرعي

حتى افترضوا حيلا يسقطون بها الواجبات ويفسدون بها الالتزامات فتجد حيلا لاسقاط الزكاة وحيلا لاسقاط الشفعة وحيلا لاسقاط عدة المطلقة وحيلا لاسقاط الحدود. ولقد أطنب ابن القيم أحد أفذاذ علماء القرن الثامن في كتابه: اعلام الموقعين وإغاثة اللهفان من مصائد الشيطان في الرد على فكرة الاحتيال وبين أنها مضادة لروح التشريع، وإذا علمنا أنهم صنفوا كتبا في الاحتيال عجبنا، وهذا ابن نجيم في كتابه: الأشباه والنظائر يقول: الفن الخامس من ألأشباه والنظائر فن الجبل.

5-

تغلب روح التعصب المذهبي الشديد حتى وصل الأمر في ذلك بين اتباع الأئمة إلى المناقشة في صحة الاقتداء بالمخالف في ـ المذهب وأخذت هذه المسألة في كل مذهب مجالا واسعا في البحث والتفريغ، ووصل الأمر أيضا إلى البحث من حكم التزوج من الشافعية فنرى الكمال بن الهمام وهو في الكلام عن حكم التزوج الوثنيات ينقل عن أحد علماء الحنفية: أنه لا تجوز المناكحة بين أهل السنة والاعتزال ثم يقول بعد هذا النقل: ومقتضاه =

ص: 50

هذه الفترة بأشد الأطوار تخلفا" وعلى الجملة فقد بدل المسلمون غير المسلمين

= منع مناكحة الشافعية؟ واختلف فيها هكذا: قيل تجوز، وقيل: يتزوج بنتهم ولا يزوجهم بنته، إلى أن صارت المذاهب بين المسلمين ومن أنباء الأزهر أديانا يتقاتل أهلها ويضلل بعضهم بعضا

ووهي لا تخرج عن أنها آراء وأفهام حذر أئمتها الأولون من تقيدها والعمل بها دون الاطمئنان إليها بمعرفة الجحة والبرهان.

6-

تغلبت الفكرة القائلة بتحريم تقليد لغير المذاهب الأربعة فحجروا واسعا ومنعوا رحمة اختص الله بها هذه الأمة. ولقد ظهرت هذه الفكرة على وجه أوضح منذ عهد قريب يوم وضع الأستاذ الشيخ المراغي مشروع الزواج والطلاق فقام ثلاثة من علماء الأزهر بعمل مذكرة تناهض هذا المشروع.. على أنه لا يجوز تقليد غير المذاهب الأربعة، فكتب المراغي مذكرة لها قيمة خطرها في التوجيه الفقهي والتشريعي بين فيه كثيرا من مسائل الاجتهاد والتقليد كما بين أرآء العلماء في تأثر التشريع بالعرف والعادة، ويجدر بنا في هذا المقام أن نعلم أن العلماء الذين تناولوا هذه المسألة قديما واستساغوا أن يحكموا بمنع تقليد غير الأربعة لم ينظروا إلى خصوصية في ذات المذاهب الأربعة وإنما جعلوا مناط التقليد عل وجه العموم الثقة بالمذهب الذي يقلد واطمئنان النفس إلى صحة النقل عنه فمن ثبت عنده رأي من آراء الأئمة أو الصحابة جاز له تقليده والعمل بمقتضاه لا فرق بين إمام وإمام ولا بين الأربعة وغيرهم، ولهذا يقول الشيخ عز الدين بن عبد السلام:" لا خلاف بين الفريقين في الحقيقة بل أن تحقق ثبوت مذهب عن واحد منهم جاز تقليده وإلا فلا. ويقول أيضا:" إذا صح عن بعض الصحابة مذهب في حكم من الأحكام لم تجز مخالفته إلا بدليل أوضح من دليله". ومن هنا يقول القرافي: انعقد الاجماع: على أن من أسلم فله أن يقلد من شاء من العلماء بغير حجر. واجمع الصحابة على أن من استفتى أبا بكر وعمر فله أن يستفتي ابا هريرة ومعاذ بن جبل وغيرهما ويعمل بقولهما من غير نكير فمن أدعى دفع هذين الاجماعين فعليه الدليل".

هذا هو أصل الفكرة فانظروا كيف حرفت وجعل التقليد خاصا بالمذاهب الأربعة بل جعل واجبا يذكر بين ما يجب على المكلف أن يدين به ويعتقده فيقول بعض المؤلفين في منظومته: " وواجب تقليد حبر منهم".ورث الأزهر أيضا فكرة أن من قلد إماما من الأئمة الأربعة فليس له أن يحيد عنه بل يجب عليه أن يلتزمه بدون حجة ولا بحث ولا دليل ولا يصح أن يقلد غيره ولو في غير ما قلده فيه

فأوجبوا على القاضي أن يحكم بمذهب وحظروا عليه أن يحكم بغيره وذلك على الرغم من أن علماء الأصول يقولون في هذه المسألة: والأصح أنه لا يلزم إذا لا يتمذهب بمذهب رجل من الأئمة فيقلده في دينه وفي كل ما يأتي ويذر دون غيره.

وورث الأزهر ايضا القول بحرمة تتبع رخص المذاهب حتى جعلوا عدم تتبع ذلك شرطا في صحة تقليد غير الامام. وصاحبة التحرير يقول أيضا في هذه المسألة: " ولا يمنع منه مانع شرعي إذ للانسان ان يسلك الأخف عليه إذا كان له إليه سبيل. ولا أدري ما يمنع هذا من =

ص: 51

وهبطوا مهبطا بعيد القرار ولو عاد صاحب الرسالة إلى الأرض في ذلك العصر ورأى ما كان يدهي الإسلام لغضب أطلق اللعنة على من استحقها كما يلعن المرتدون وعبدة الأوثان" (1) .

وقد ظفرنا في نصوص محاضرة الشيخ محمود شلتوت التي أثبتناها في الهامش بتحليل عميق لعلل الفكر الإسلامي في القرون المتأخرة والتي عرض لها من خلال دراسة أحوال الأزهر " ولا ينبئك مثل خبير " فقد عرض لقضايا الجمود الفكري والتقليد المذهبي وقفل باب الاجتهاد ومعاداة أصحاب الآراء المجتهدين ممن نضحت عقولهم وأدركوا أسرار الشريعة وقد أردنا إثبات هذا التحليل القيم لفائدتين جليلتين.

الأولى:

إن التحليل عرض لتخلف الفكر الإسلامي في القرون المتأخرة إبتداء من القرن التاسع الهجري إلى القرن الرابع عشر أي أنه عرض لسمات الفكر الإسلامي قبل ظهور محمد بن عبد الوهاب وخلال حياته وإبان حركته ومن بعد ذلك.

الثانية:

إن القضايا التي عرض لها هذا التحليل هي بذاتها القضايا التي دار حولها اعنف الجدل بين محمد بن عبد الوهاب ومخالفيه المعاصرين له واللاحقين عليه وكان للشيخ محمد بن عبد الوهاب حيال هذه القضايا من الآراء ما كان سببا للحكم عليه من قبل علماء الأزهر بأحكام معينة وسنعرف من خلال الدراسة

العقل والسمع، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب ما خف على أمته.

وورث الأزهر فكرة كان لها الأثر خطير في انحرافه عن سبيل التفكير الصحيح وتقدير الآراء بقيمتها العملية. خي خطي المعاداة لطائفة من العلماء نضجت عقولهم وأدركوا أسرار الشريعة وخالفوا الناس في كثير مما درجوا عليه وتحرروا من الاغلال التي قيد المقلدون بها أنفسهم فحكم الأزهر عليهم بأحكام جائزة. د. محمد عبد المنعم خفاجي. الأزهر في ألف عام ط. أولى. ص10 وما بعدها.

(1)

لوثروب ستودار. حاضر العالم الاسلامي ـ ص 34.

ص: 52

أكانت هذه الأحكام أحكاما جائرة من مثل ما عناه الشيخ محمود شلتوت أم لا.

تلك هي أحوال العالم الإسلامي ومظاهر الحياة فيه وقت ظهور الشيخ محمد بن عبد الوهاب والجزيرة العربية بما فيها نجد جزء من العالم الإسلامي المتأثر بهذه الأحوال ولكن نجدا والجزيرة العربية تقتضيان بعد هذا التعميم تخصيصا نفرغ له في البحث الثاني.

ثانياً: الأحوال في نجد والجزيرة العربية:

إذا كان صحيحاً ما يقوله المؤرخون من أن الجغرافيا تصنع التاريخ فإن ذلك أصح ما يكون بالنسبة للجزيرة العربية وإنسانها في جاهليتها وإسلامها.

وإذا علمنا أن هذه الجزيرة ليس لها من مدلول اسمها إلا كونها محاطة بالماء من جنوبها وشرقها وغربها، ثم هي بعد ذلك كتلة م الصحراء الجرداء تهبط حينا ترتفع حينا أدركنا صدق مقولة ابن خلدون من أن الصحراء " أكثر فساد الأعراب من طبيعة معاشهم (1) ".

وقد قسم العرب جزيرتهم إلى خمسة أقسام: تهامة والحجاز ونجد واليمن والعروض. ونجد يشك الجزء الأكبر من مساحة الجزيرة العربية " وسمي نجد لارتفاع أرضه (2) ". ويشمل على مسطحات هائلة من الصحاري الجافة مثل الربع الخالي وتقدر مساحة هذا الربع بربع مليون ميل مربع " وربما كان أكبر بقعة رملية مجتمعة في العالم كله

وبالإضافة إلى صحراء الربع الخالي هناك صحراء الدهناء وصحراء النفود والصمان. وغالبية هذه الصحاري كثبان رملية ثابتة أو متحركة. وقليل منها قفار صخرية كالضمان (3) ".

ومصادر المياه جد قليلة لانعدام الانهار الجارية وقلة الامطار فضلا عن استحالة الانتفاع بممعظم ما ينزل من مطر، فهو إما أن ينزل على أرض صخرية

(1) مقدمة ابن خلدون ص: 329.

(2)

محمد الخضري. تاريخ الأمم الإسلامية ط5. جـ 1 ص 7 وأيضا.

محمود شكري الألوسي. تاريخ نجد ص 6، 7.

(3)

د. منير العجلاني، تاريخ البلاد العربية السعودية. مدخل إلى الجزء الأول ص 71.

ص: 53

ضرب الله بها المثل في قوله تعالى: {كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً} (1) وأما أن يصيب كثبانا رملية لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ فيغور في أعماقها ولا يستطيعون له طلبا. أو يتأخر نزوله " فيشتد الحال بمن يقيم عليه من القبائل. ومن هنا كان العرب في بواديهم لا يبقون في مكان واحد وإنما يتبعون مواقع القطر.. أضف إلى ذلك أن نجدا شديدة الحرارة إلا ما كان قريبا من الأودية ومسايل المياه القليلة (2) ".

إذا فلا سبيل للقوم إلى زراعة تكون نواة للحضارة والعمران وبالتالي فلا سبيل إلى صناعة أو تجارة "وأما الصناعات فكانت أبعد الأمم عنها حتى أن البدو منهم كانوا يحتقرونها ويعيبون المحترف بحرفة.. مثلما هجا جرير الفرزدق وكلاهما من تميم بأن أحد أجداد الفرزدق كان محترفا بحرفة هي جلاء السيوف، ويعيبون قوما فيقولون: هم بين دابغ جلد وناسج برد"(3) وأما التجارة فقد كانت بلاد العرب لها ممرا ولم تكن لها مستقرا فتجارة العالم منذ القدم تعبر من الشرق إلى الغرب عبر جزيرة العرب ". وكان للمواصلات التجارية عبر جزيرة العرب طريقان: أحدهما شرقي يصل عمان بالعراق وينقل بضائع اليمن والهند برا ثم يجور غرب العراق إلى البادية حتى ينتهي به المطاف في أسواق الشام

والطريق الثاني وهو الأهم غربي يصل اليمن بالشام مجتازا بلاد اليمن والحجاز ناقلا بضائع اليمن والحبشة والهند إلى الشام (4) ".

وبينما استطاع عرب اليمن والحجاز وعمان أن يغتنموا وقوع بلادهم في معابر التجارة العالمية منذ القدم، فإن موقع نجد في قلب الجزيرة العربيةلم يتح للقبائل القاطنة فيها أن تستفيد من الممرين التجاريين في شرق الجزيرة وغربها، اللهم إلا إن تغير قبائل نجد على قوافل التجارة فتسلبها أو أن ترغم أصحاب القوافل على أن تكون تجارتهم في جوارها. (5)

(1) سورة البقرة. آية: 264

(2)

محمد الخضري. تاريخ الأمم الإسلامية جـ 1، ص14.

(3)

محمد الخضري. تاريخ الأمم الإسلامية، ص16.

(4)

سعيد الإفغاني، أسواق العرب في الجاهلية والإسلام ط1356هـ. بدمشق ص:15

(5)

روي بن هشام بسيرته عن إبن إسحاق أن حرب الفجار التي نشبت بين قريش ومن معها من كنانه وبين قيس غيلان وهم بطن من مضر سكنوا اليمامة من قديم فقال:" كان الذي =

ص: 54

ومنذ أن خرج الخوارج إلى أن ظهرت دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب خلت القرون بنجد وهي في معزل عن الحركات الفكرية المختلفة إذا استثنينا حركة القرامطة في القرن الرابع الهجري باعتبار أن معقل الحركة المذكورة في الكوفة وإن امتد نفوذها إلى نجد وغيرها.

ولكون الشيخ محمد بن عبد الوهاب نجدي الأصل والنشأة تميمي العرق والنسب ولكون حركته اقترنت منذ البدء بالأمير محمد بن سعود الذي يعود نسبه إلى عترة من ربيعة، ولأسباب أخرى سنعرض لها في حينها فقد وجه إلى الشيخ محمد بن عبد الوهاب أكثر من اتهام من أكثر من مصدر بأنه يدعو دعوة الخوارج (1) وينسج على منوالهم بدليل مذهبه في تكفير مخالفيه وبدليل عقدة الإمامة في غير اصحاب النسب القرشي وهذان الأمران هما رأس عقيدة الخوارج كما شرحها مؤرخو الفرق وعلماء الكلام.

وحتى نستوفي بيان حالة نجد كمكون أساسي من مكونات فكر الشيخ ومنهجه فلا بد من إلقاء الضوء على هذه الحالة في القرون المتأخرة التي انتهت بظهور الشيخ ودعوته. ومن حسن الحظ أن لدينا من المصادر ما يمكن أن يعول عليه استجلاء الحقيقة. ومن هذه المصادر ما توفر لأصحابه صفة المعاصرة والمتابعة للشيخ وحركته. ومنها ما توفر له الاستماع والرواية والمقارنة والتحليل ولئن كانت هذه المصادر لا تخلو من اتخاذ موقف من الشيخ وحركته بالتأييد أو بالمعارضة وانعكاس ذلك على روح الحياة في سوق الوقائع وتحليها. إلا أن الباحث يستطيع أن يتلمس طريقه إلى الحقيقة بمقارنة هذه المصادر بعضها ببعض في الحدود التي يستلزمها البحث.

من أهم المصادر العربية النجدية التي لدينا والتي عاصر اصحابها دعوة

= هاجها أن عروة الرحال بن عتبة بن جعفر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوزان أجار لطيمة للنعمان بن المنذر فقال له البراء بن قيس أحد بني ضمره بن بكر بن عبد مناة بن كنانة: أتجيرها على كنانة: فقال نعم وعلى الخلق كله فوثب عليه البراء فقتله في الشهر الحرام فلذلك سمي الفجار". جـ 1 ص: 198.

(1)

محسن الأمين الحسيني العاملي ـ كشف الارتياب في اتباع مجمد بن عبد الوهاب ـ ص116ـ 118

ص: 55

الشيخ وكانوا من جملة مريديه ثلاثة. أولها: كتاب روضة الأفكار والأفهام لمرتاد حال الامام وتعداد غزوات ذوي الاسلام لمؤلفه الشيخ حسين بن غنام المتوفي عام 1225 هـ (1) والثاني: كتاب عنوان المجد في تاريخ نجد (2) لمؤلفه الشيخ عثمان بن عبد الله بن بشر، والثالث: رسالة قيمة للشيخ عبد الرحمن بن حسين بن محمد بن عبد الوهاب بعنوان المقامات (3) . وهذه المصادر الثلاثة رغم أهميتها لم يلتفت إليها معظم الذين كتبوا عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب من العرب والأجانب. وكان جل اعتمادهم على ما أثبته كاتب مجهول الاسم والحال في مخطوطة وحيدة النسخة موجودة بمكتب المتحف البريطاني بلندن عنوانها:" لمع الشهاب في سيرة الشيخ محمد بن عبد الوهاب (4) ".

(1) طبع عدة مرات ثم توفر على تجريده وتحقيقه الدكتور ناصر الدين الأسد والشيخ عبد العزيز بن محمد بن إبراهيم آل الشيخ وهو من ذرية الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأخرجاه في طبعة جديدة عام (1381-1961) وقد قدمه الدكتور ناصر الدين الأسد بأنه" يعيد وثيقة تاريخية أصيلة ذات قيمة كبير للباحث في تاريخ هذه البلاد خلال النصف الثاني من القرن الثاني عشر والعقد الأول من القرن الثالث عشر للهجرة فمؤلف الكتاب معاصر للإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله وكان من أتباعه المقربين إليه ولذلك كان تأليفه هذا الكتاب بطلب من الإمام نفسه فجاء أكثر ما ورد فيه عن مشاهدة وعيان ومعرفة شخصية ورواية" وقد ضمن المحقق الكتاب القسم الرابع الذي يضم رسائل الإمام محمد بن عبد الوهاب. ص: 7.6.5.

(2)

طبع هذا الكتاب عدة مرات آخرها طبعة وزارة المعارف السعودية عام 1394 بتحقيق الشيخ عبد اللطيف آل الشيخ الذي عرف الكتاب بأنه" بدون مغالاة ولا ريب هو المصدر الوحيد لما حصل في نجد من الحوادث التاريخية منذ فجر النهضة وظهور الدعوة السلفية التي قام بها شيخ الاسلام محمد بن عبد الوهاب وناصرها الإمام محمد بن سعود، حيث وقف قلم المؤلف بعد ان سجل حوادث أكثر من قرن من الزمان غير السوابق " والسوابق التي يعنيها المحقق هي ذكر بعض الحوادث في السنين السابقة على ظهور الشيخ ابتداء من عام 850هـ. ص:5.

(3)

كان مخطوطة مودعة بالمكتبة السعودية بالرياض والكائنة بميدان دخنة ضمن مجلد به عدة رسائل جميعها للمؤلف وهي مودعة تحت رقم 86/658 وتاريخ تسجيلها بالمكتبة 12/10/1393هـ والمقاسات تتضمن بيانا لنشأة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وردا علىبعض معارضيه، وهي مخطوطة تقع في 24 صفحة وعدد الأسطر في كل صفحة بين 22، 26 عدا الصفحة الأخيرة فهي من سطرين. وقد تم طبعها بمعرفة صاحب الدرر السنية. بالجزء التاسع ص 215 وما بعدها.

(4)

أورد الدكتور منير العجلاني تعريفا وافيا بهذه المخطوطة في كتابة: تاريخ البلاد العربية =

ص: 56

وايا كان الأمر فإن جملة المصادر تذهب إلى أن الجزيرة العربية عامة ونجدا بصفة خاصة سلخت القرون المتأخرة والمنتهية بظهور الشيخ محمد بن عبد الوهاب في جهالة جهلاء حتى أصبحت " موطنا للجور والظلم ومسرحا للحروب والقتال والنهب والسلب."(1) بحيث يمكن القول أنها بلغت من

التدني أحط الدركات حتى لتبدو في جاهليتها الأولى أقل سواء مما آلت إليه، فقد تجرد القوم لا من فضائل الإسلام وقيمه العليا فحسب بل من سائر الفضائل والقيم حتى ما كان منها فطريا مورثا في جبلة العرب وطبائعهم لكأن العرب إذ انطلقوا مع الفتح الإسلامي الأول مسارعين إليه" بين محتسب وطامع." (2) لم يدعوا قيمة خلقية أو نفسية إلا واستودعها رجالهم وخلفوا الجزيرة العربية موطنا للعاجزين ممن قعد بهم عن الجهاد ضعف الإيمان أو ضعف الهمة وضعفهما معا ممن عناهم الله تعالى بقوله:{لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} . (3) وسرعان ما بدت الأجيال التالية لهؤلاء القاعدين اكثر عجزا عن أن تسمو إلى استيعاب حقائق الإسلام والنهوض بتكاليفه. ثم أضيف إلى ذلك العناصر الممتازة التي غادرت الجزيرة تحت ألوية الفتح لم تلبث أن نسبت وطنها الأول بالتدريج" وعادت

السعودية وضمنه اقتباسات ضافية منه وقال في تعريفه إياه:" وفي مكتبه المتحف البريطاني بلندن قرأنا مخطوط لمع الشهاب في سيرة محمد بن عبد الوهاب فصورناه وقد نقلت منه في هذا الجزء صفحات كثيرة وهو مخطوط له قيمته وإن كان في أخباره شيء من الدس والكذب ويقول المستشرقون: إن مؤلف الكتاب مجهول، ولكننا بصرنا في ذيل صفحة منه الحقت به محتوية على آخر الأخبار التي وصلت إلى المؤلف عن حروب عبد الله بن سعود هذه لكلمات:" وقع الفراغ من تحرير هذا الكتاب في يوم السبت السادس والعشرين من شهر محرم للحرام 1233هـ، كتبه العبد الجانب حسن بن جمال بن أحمد الربكي، وعندنا أن حسن الربكي هو مؤلف الكتاب لا ناسخه" أنظر تاريخ البلاد العربية السعودية ص: 44 وقد تصدى الدكتور أحمد مصطفى أبو حاكمة لمخطوطة لمع الشهاب فقام بطبعها وذكر في مقدمته أنه عنى في تحقيقه لهذا الكتاب بتصويب املائه" على مقتضى قواعدنا الاملائية المعاصرة ولم يعرض لمؤلفه باي بيان. ط مايو 1967 انظر ص 12، وقامت دارة الملك عبد العزيز بطبع هذا الكتاب والرد على ما ورد فيه.

(1)

صلاح الدين مختار. تاريخ المملكة العربية السعودية ط أولى ص 27.

(2)

البلاذري. فتوح البلدان. ص: 107 نقلا عن الدكتور فيليب حتى تاريخ العرب. جـ 1 ص:196.

(3)

سورة النساء: آية: 95.

ص: 57

الجزيرة شيئا فشيئا إلى عزلتها السابقة." (1)

وخلف حجب العزلة التي انسدلت أستارها على نجد والجزيرة العربية تهيأت الأسباب لتفشي كل بدعة ضالة ونزعة منحرفة. ولم تنل الجزيرة العربية شيئا من اهتمام الدول الإسلامية المتعاقبة إلا بالقدر اللازم لتامين سبل الحج إلى بيت الله الحرام بمكة المكرمة وزيارة مسجد النبوي الشريف بالمدينة المنورة. وقلما تم تأمين هذه السبل إلا عن طريق القوة التي يخضع لها الأعراب ريثما تنكشف عنهم ثم يعودون إلى طباعهم التي تأبت أن تطيع مهما بذل معها من تطويع وأخيرا ألقى حبل الجزيرة على غاربها فلم يبق فيها من الإسلام سوى اسمه وتوزعتها النزعات المتطرفة المتباينة "بعضها خروج على الإسلام ببعضه،

وبعضها خروج على الإسلام بكله ولكنها مجتمعة على الجاهلية بعاداتها وتقاليدها وغزواتها وسالبها ومسلوبها وظالمها ومظلومها." (2) وكل ما يفترق بها عن الجاهلية الأولى أنها" استعاضت عن أصنام الجاهلية بتعظيم شجرة أو بئر أو قبر شيخ." (3)

فكان على الداعية الذي يتصدى لتعريف المعروف وإنكار المنكر في هذه الجزيرة العربية مستهل القرن الثاني عشر الهجري أن يواجه ركاما من الظلمات الغاشية بعضها فوق بعض. ظلام يغشى عقول العلماء أو الموسومين بالعلم فضلا عن العامة والدهماء، حتى عدت الضلالة الموروثة لديهم هي الدين الذي ينتسبون عليه، يهرف العلماء بنصوصه ويتشبث العامة بقشوره دون فقه من الأولين ولا مسكة من الآخرين.

والعقيدة التي قامت على التوحيد الخالص آلت إلى أدعية تلوكها الألسنة دون أن نفرق بين توحيد وشرك وشفاعة وترسل وولاية تعلم الناس القدوة الحسنة ووصاية تعمى بها الأبصار وتصم بها الآذان وتغل بها العقول وتموت بها الهمم اعتمادا على الولي ونفاذ مشيئته عبد الرب حتى "عكف أكثر الناس

(1) أحمد عبد الغفور عطار. سيرة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ط1358هـ. ص: 9من مقدمة للشيخ طاهر الدباغ.

(2)

عبد الكريم أبا الخيل: العربية السعودية ص24.

(3)

حسين بن غنام: تاريخ نجد د. ناصر الدين الأسد ص:11

ص: 58

على دعوة الأولياء والصالحين أحيائهم وأمواتهم وفتنوا بقدرتهم على النفع وصرف السور من دون الله." (1)

ورغم أن غاشية الضلال قد حجبت وجه الحق والحقيقة في سائر أنحاء الجزيرة العربية إلا أن حظ نجد من هذه الغاشية كان مهولا. فقد كان في كل بلد وفي كل قرية ولدى كل قبيلة بادية أو حاضرة أشتات من الطواغيت تصد الناس عن الحق وتصرفهم عن اتباع الصراط المستقيم فهم في كل واد من أودية الاعتقاد الباطل يهيمون حتى "كثر الاعتقاد في الأشجار والأحجار والقبور والبناء عليها والتبرك به والنذر لها والاستعاذة بالجن والنذر لهم."(2)

ورغم شيوع الشرك في الاعتقاد إلى هذا الحد لم يلتفت العلماء والحكام إلى معالجته وتنبيه الأذهان إليه فأمعن العوام في هذه الضلالات."حتى جهروا بكل ذلك وتظاهروا به عيانا ولم ينبر من أهل العلم من يزيل هذا الضلال بل تألبوا على مخالفة الحق وحاولوا تغيير الصواب."(3)

وما كان العلماء في هذه الحقبة ليرتفعوا إلى مستوى مسؤولياتهم في بيان الحق والدعوة إليه وفضح الباطل والتحذير منه فقد كانوا بقية لا طاقة لها بالنهي عن الفساد في الأرض بعد أن أصبحت علومهم مجرد قشور دورهم فيها دور من ينقل ولا يعقل ويهرف بما لا يعرف فوقفوا عند حد حمل الأسفار وترديد المتون مقلدين غير مجتهدين فضلا عن أن غاياتهم من العلم قد انحطت حتى انحصرت في طلب القوت والتماس الحظوة عند حاكم أو شيخ أو أمير وكانت البدع " تحتل جانبا عظيما من عقولهم وكانوا يخلطون بين الدين والوثنية ولا يكادون يميزون بين الحق والباطل (4) ".

(1) ابن بشر عنوان المجد في تاريخ نجد ص: 19 وأيضا صلاح الدين المختار: تاريخ المملكة العربية السعودية. ط أولى: ص35، جولد تسيهر: العقيدة والشريعة في الإسلام ترجمة د. محمد يوسف موسى وآخرين ص:232، كارل بروكلمان: تاريخ الشعوب الإسلامية ترجمة نبيه أمين فارس وآخر جـ4 ص: 19.

(2)

ابن بشر: عنوان المجد ـ جـ 1 ص19 وفي نفس المعنى صلاح الدين المختار تاريخ المملكة العربية السعودية ص35.

(3)

حسين بن غنام: تاريخ نجد. ص:13،12.

(4)

أحمد عبد الغفور عطار. سيرة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ص:56.

ص: 59

وإذ غابت الصفوة من العلماء الذين ينهضون بتكليف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقد غاب بغيابهم وجدان الأمة اليقظ الذي حرص القرآن الكريم أيما حرص على تربيته وصقله واعداده للدور الإنساني الخالد المتمثل في تكوين أمة تعرف الحق فتأمر به وتعرف المنكر فتنهى عنه فتسجيل بذلك أن تكون خير أمة أخرجت للنا مصداقا لقوله تعالى:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (1)

وفي غياب الأمة المسلمة بالوعي القائم بتكليف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تعود الحياة إلى جاهلية جهلاء الحكم فيها للقهر والتسلط والبقاء فيها لذي البطش الشديد المزود بالمكر والخديعة. وهكذا آل الأمر في نجد في العصور المتأخرة فاستقبلت القرن الثاني عشر الهجري وقد عادت إليها النخوة القبلية والحمية الجاهلية فشمرت كل قبيلة عن ساعدها تقيم لها كيانا مستقلا باسم مشيخة أو إمارة على حساب غيرها من القبائل دون أدنى اهتمام من الغالب والمغلوب بالرابطة الدينية. "فغدا في كل بلد أمير بل كثيرا ما يتعدد الأمراء في البلد الواحد."(2) وهي في جملتها لا تعدو أن تكون قرى صغيرة قليلة السكان محدودة الموارد. وكان دأب هؤلاء الأمراء التنازع والتقاتل حتى يستخلص القاتل الأمر من المقتول. (3)

(1) سورة آل عمران. آية: 110.

(2)

حسين بن غنام: تاريخ نجد ص: 78.

(3)

ابن بشر: عنوان المجد في تاريخ نجد جـ 2. ص: 237. لدى ذكر حوادث سنة تسعة وثلاثين ومائة وألف. وفيها ذكر المؤلف مقتل مقرن بن محمد مقرن صاحب الدرعية وأنه " قتله ابن اخيه محمد بن سعود بن محمد بن مقرن". ومحمد بن سعود هو مؤسس الدولة السعودية والذي لجأ إليه الشيخ محمد بن عبد الوهاب بعد تخلي أمير العيينة عنه وأمره اياه بالرحيل عنها على ما سيأتي بيانه في حينه، ونشير إلى ما ذكره ابن بشر في تاريخه ص: 189،190خاصا بمؤسسة الدرعية من أجداد محمد بن سعود حيث ذكر أن أول من ظهر من ربيعة بن مانع "فصار له شهرة واتسع ملكه" إلى أن قال: ثم ظهر بعد ذلك ابنه موسى واحتال على قتل ابيه ربيعة فجرحه جراحات كثيرة وهرب" وهذه الحادثة والتي قبلها تدلان بوضوح على ضراوة الحياة وقسوة الصراع على أرض نجد في الفترة التي ظهر فيها الشيخ محمد بن عبد الوهاب. انظر في اثبات هذه الحوادث:

عبد الله فلبي: تاريخ نجد ودعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ـ السلفية. ص:4، =

ص: 60

ولم يكن هم الحاكم المنتصر في هذا الصراع يتجاوز تحيق مصالحه الشخصية بإكثار رعاياه ومن ثم الاستكثار بما يجيبه متهم من مال بالحق أو بالباطل دون أن يعود بشيء مما يحصله منهم على أي وجه إليهم. ويسجل ابن بشر في تاريخه الحوار الذي دار بين الشيخ محمد بن عبد الوهاب والأمير محمد بن سعود وما اشترطه الأمير من ألا يكون من شأن اتباعه للشيخ الانتقاص من الأموال التي يجبيها من أهل الدرعية (1) .

والخلاصة أن القرن الثاني عشر الهجري أظل نجدا وقد تحللت من عروة الدين المتمثل في صدق العقيدة كما تحللت من عروة الدنيا المتمثلة في وجود سلطان عادل. وإذ كان القول المأثور: إن الله يزع بالسلطان ما يزع بالقرآن، فإن أهل نجد لم يكن لهم آنذاك وازع من سلطان أو عاصم من قرآن (2) .

وفي هذا العصر وخلال تلك البيئة ولد الشيخ محمد بن عبد الوهاب ونشأ يعاني ما يعانيه أبناء عصره وبيئته، ولقد كانت هذه المعاناة لهموم العصور والبيئة أحد مكونات شخصيته وبالتالي أسهمت في تحديد فكره ومنهجه إلى جانب ما تلقاه عن شيوخه حسبما نعرض له في ثنايا البحث.

= محمود شكري الألوسي: تاريخ نجد. ص:91.

خير الدين الزركلي: شبه الجزيرة العربية في عهد الملك عبد العزيز ط أولى جـ 1 ص: 32.

(1)

ابن بشر عنوان المجد في تاريخ نجد جـ 1 ص: 25 حيث يقول بالنص " إلا أن محمد بن سعود شرط في مبايعته للشيخ ألا يتعرضه فيما يأخذه من أهل الدرعية مثل الذي كان يأخذه رؤساء البلدان على رعاياهم"وانظر في نفس المعنى: حسين بن غنام: تاريخ نجد: ص: 81

(2)

خير الدين الزركلي: شبه الجزيرة العربية في عهد الملك عبد العزيز ط أولى جـ 1 ص: 25.

ص: 61