الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني: اهتمامه بالربط بين العلم والعمل
انتهينا في الفصل الأول من هذا الباب إلى استجلاء معلم أساسي من معالم فكر الشيخ ومنهجه وعرفنا من خلال ذلك طبيعة نظرته إلى الاجتهاد ومكانته السامية في شريعة الإسلام وكونه واجبا ماضيا على الأمة إلى يوم القيامة.
وبادراك مكانة الاجتهاد في منه الشيخ وفكره ندرك نصوره العميق لحركة التجدد الإسلامي المتصل وأن الإسلام يضمن باستمرارية الاجتهاد دوام مسايرة الحياة وعدم التخلف عن ضبط وقائعها وتعميق مفاهيمها واثرائها دائما بالفكر المتسامي.
هذا التجدد والاثراء والتسامي يعطي على الفور الانطباع بأن العلم في خدمة الحياة بمفهومها الواسع ونعني به: حركة الإنسان على الأرض ـ تعميرا لها وفق ما يأذن الله به ويرضى، أي أن العلم في ميزان الإسلام مقدمة للعمل، فإذا خلا منه كان كالمقدمة العاطلة عن النتيجة.
وتلك لعمرو الحق من مقررات الإسلام وبدائه شريعته فكما أمر الله بتحصيل العلم والحض عليه والتسامي فيه بدءا من قوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} (1) إلى قوله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِين
(1) سورة العلق: آية: 01
َ لا يَعْلَمُونَ} . (1) كذلك أمر تعالى بالعمل ورفع مراتب العاملين.} وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ {. (2) {وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} . (3)
وقد عاش رسول الله صلى الله عليه وسلم حياة تزخر بالعلم والعمل، وعلم أصحابه ألاّ هدى في عمل بغير علم ولا خير في علم بلا عمل، وكان من هديه لأصحابه في تعليمهم آيات الكتاب الكريم أن يعلمهم بضع آيات فلا يعدوها أحدهم حتى يعمل بها.
ومن جملة حرصه صلى الله عليه وسلم على قاعدة الربط بين العلم والعمل أنه كان ينهي أصحابه عن شغل أنفسهم بالقيل والقال وكثرة السؤال لما في ذلك من صرف لهم عن العمل بما تعلموه حال كون المطلوب منهم أن ينظروا " فما أمرتم به فأنوا منه ما استطعتم وما نهيتكم عن فانتهوا."(4)
إلا أن قاعدة الربط بين العلم والعمل على رسوخها ووضوحها في منهج الإسلام لم تلبث أن تعرضت بعد قرون من وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم لما تعرضت له سائر قواعد الإسلام واقيسته من جدل تعطل منع العمل حتى نجمت مذاهب الأرجاء التي تخفف أصحابها من أمانة العمل ولم يروا أنه من أصول الإيمان أو متمماته، ثم غصت ساحة الإسلام بأجناس من الزهاد والمنصوفة الذين اكتفوا بتلقين الرموز والإشارات وغفلوا عن أمانة العمل بالواجبات.
وبمثل ما هاجم الشيخ محمد بن عبد الوهاب قضية ما سموه: غلق باب الاجتهاد كان منطقيا مع منهجه التجددي في التأكيد على معلم بالغ الأهمية من معالم فكره ومنهجه وذلك بحرصه على الربط بين العلم والعمل، بل إنه ليذهب في ذلك إلى حد اعتباره المميز الأهم لأمة الاسلام عن أمم أهل الكتاب الذي خلوا من قبل، ففي معرض تفسيره لسورة الفاتحة يعرض لتفسير خواتيمها بقوله: وأما الآيتان الأخيرتان ففيهما من الفوائد ذكر أحوال الناس
(1) سورة الزمر. آية: 9
(2)
سورة التوبة: آية 105
(3)
سورة يونس: آية 61
(4)
الحديث رواه الشيخان.
قسمهم الله تعالى إلى ثلاثة أصناف: منعم عليه، مغضوب عليه، ضال. فالمغضوب عليهم أهل علم ليس معهم عمل والضالون أهل عبادة ليس معها علم، وإن كان سبب النزول في اليهود والنصارى فهي لكل من اتصف بذلك والثالث من اتصف بالعلم والعمل، وهم المنعم عليهم." (1)
فاليهود الذي حكى عنهم القرآن توفر العلم ليدهم وتوليهم عن العمل به بقوله تعالى: {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} (2) والنصارى الذين سجل القرآن عليهم أن عملهم على غير علم في قوله تعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} (3) هؤلاء وأولئك فسقوا عن أمر ربهم فيما أمر به من تحصيل العلم بأوامره وكمال العلم بها، فارتباط العلم بالعمل في منهج الاسلام في مقام ارتباط الوسيلة بالغاية والمقدمة بالنتيجة: العلم مقدمة ووسيلة والعمل نتيجة وغاية فالعلم بالله هو المقدمة لعبادته تعالى {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} (4) وعبادته تعالى وهي العمل هو الغاية التي خلق الناس من أجلها {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} ، (5) {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (6) ويوضح الشيخ ارتباط العلم بالعمل بقوله: " إن الاسلام واتباع ملة الانبياء هو العلم بذلك والعمل به لا مجرد العلم. (7)
وتطبيقا لهذا المفهوم تشتد حملة الشيخ على المبتدعين الذين انحرفوا بمفهوم التوحيد حتى اصبح عندهم مجرد قول لا يستلزم عملا " فإنما توحيدهم بالقول لا بالعبادة والعمل" ثم يبين التوحيد الذي جاءت به الرسل بأنه:"لا بد فيه من إخلاص الدين كله لله"(8) وأن هذا الاخلاص لا يتم إلا بتمام العلم بالله واثبات أسمائه وصفاته ثم تمام العمل بذلك.
(1) مجموعة التوحيد. ص: 270
(2)
سورة المائدة آية 43
(3)
سورة الحديد آية: 27
(4)
سورة محمد آية: 19
(5)
سورة الذاريات: آية: 56
(6)
سورة البينة آية: 5
(7)
ابن غنام: تاريخ نجد. ص: 642
(8)
ابن غنام: تاريخ نجد ص: 406
أما كيف حقق الشيخ منهجه في الربط بين العلم والعمل فذلك ما سوف نعرض له في المبحثين التاليين بدءا بالعلم وختما بالعمل.
أولا: منهج الشيخ في تحصيل العلم.
علمنا مما استبان لنا من نشأة الشيخ في نجد أنه شب في بيئة حظها من العلم والثقافة جد قليل ولكن حظها من دواعي التأمل ومجالات التفكير أكبر بكثير والعلم القليل إذا صاحبه التأمل والتفكير وسلمت لصاحبه فطرة الموازنة وسلامة التقدير كان أعون على تحصيل فهم الحقائق من علم كثير يتلقاه صاحبه بالتلقين والتسليم وقد كان الشيخ حريصا منذ حداثته على أن يستخدم حواسه في تحصيل المعرفة وفق المنهج القرآني القائم على الملاحظة والتجربة والاستقراء. هذا المنهج الذي تدل عليه بل وتحيط به الآية الكريمة {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} . (1) أي أن تحصيل العلم بالمعقولات يبدأ باستعمال الحواس في ملاحظة الأشياء وتجربتها ورصد النتائج وعقلانيتها. وقد بدأ الشيخ رحلته في تحصيل العلم بحقائق الأشياء من هذه النقطة، فبعد أن تلقى عن أبيه وشيوخ قريته القرآن وشيئا من الحديث راح يتأمل فيما حوله ومن حوله فراعه سوء حال المجتمع والبون الشاسع بين مدلول النصوص التي تلقاها وواقع الناس الذي يعايشه، واستخرجه تأمله في أحوال البيئة التي درج فيها إلى حيث راح يضرب في الأرض مستصحبا منهجه في التأمل في واقع الحياة والناس وعرض ما يراه على ميزان الشرع بالقدر الذي تلقاه ورعاه فازدادت وحشة نفسه ما يرى ويسمع، كان مما تلقاه ورعاه ألا تتخذ قبور الأنبياء مساجد وألا يدعى أحد من دون الله حيا كان أو ميتا صالحا كان أو فاجرا فإذا به وهو في المسجد النبوي بالمدينة المنورة يشهد ما يشتد وجدهم ودعائهم لغير الله ويتمسحون بأحجار قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، وفزع إلى عمله الذي تعلمه من كتاب الله ثم كأنه أنهم نفسه بعدم العلم الكامل الذي يدرك على ضوئه حقيقة ما يجري فهرع إلى شيخ من
(1) سورة النحل: آية: 78
علماء المدينة هو الشيخ محمد حياة السندي (1) يسأله حكم الشرع فيما يفعل هؤلاء، فكان جواب الشيخ السندي أن تلا عليه قول الله تعالى:{إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} . (2)
ولم يلبث أن اطمأن إلى ما هداه إليه تأمل من واقع الحياة الهابط والهوان الذي عليه الناس والبدع التي استذلهم بها الشيطان إنما هي أمور تخالف أصول الدين وحقائق العلم، فطفق ينكر على الناس ما هم فيه من بدع وضلالات فإذا به يواجه بالإنكار عليه ويتزعم هذا الإنكار من يتسمون في الناس بالعلماء، وإذا بهؤلاء المنكرين عليه يرمونه بالجهل وقلة العلم ويستعدون عليه ذوي الجاه والسلطان وإذا به بمواجهة مجتمع جاهل يقوده علماء سوء يجتمعون بسلطان غاشم، وسرعان ما فطن إلى أن الطامة الكبرى في هذا الثالوث الضال تكمن في علماء السوء فهم ضلال العوام ومطايا الحكام فاستيقن الإخلاص من هذا الغاشية التي تغشى الأمة إلا بتخليص العلم من قبضة الخرافة وذلك بتحديد مصادر العلم والمعرفة والاحتكام إليها وحدها بعد تنقيتها من شوائب الجهل والخرافة.
ومن هذا المنطلق تحدد منهجه في تحصيل العلم والمعرفة والاحتكام إليها، فهو لا يرى علما يقينيا إلا ما أنزله الله تعالى أو أخبر به رسوله المعصوم صلى الله عليه وسلم، فعلم الكتاب والسنة وحدهما هما المرجع والمآب وفيهما وحدهما فصل الحجة وفصل الخطاب، وقد خاض ضد خصومه معركة ضارية في هذا السبيل فقد استهول الناس أن يطرحوا جانبا سائر المصنفات والحواشي التي تراكمت في العصور المتأخرة وحلفت بالخرافات والشعوذات والأباطيل وكتب سليمان بن سحيم يستعدي المسلمين على الشيخ لأنه:" أحرق دلائل الخيرات لأجل قول صاحبها سيدنا ومولانا، وأحرق أيضا روض الرياحين وقال: هذا روض الشياطين" وندد بأقوال ابن الفارض وأبن عربي وترك تمجيد السلطان (3) .
وإذ تبين أن العامة يجهلون حقائق الدين وأنهم ضحايا أشباه العلماء
(1) ابن بشر. عنوان المجد في تاريخ نجد ـ جـ 1 ص7
(2)
سورة النحل آية: 78
(3)
ابن غنام، تاريخ نجد. 293.295
عليهم أحيا في الناس سنة: الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة والتي تبدأ بتعليم أمور دينهم في سائر الأمور الكلية من عبادات ومعاملات، ويصف العلامة الألوسي طريقة الشيخ ومنهجه في تعليم اتباعه بأنه:"لما استوطن الشيخ محمد في الدرعية وكان أهلها في غاية الجهالة والتهاون بالصلاة والزكاة وشعائر الإسلام علمهم الشيخ معنى" لا إله إلا الله وأنها نفي وإثبات، فلا إله نفى جميع المعبودات، وإلا الله يثبت العبادة لله وحده لا شريك له" (1) إلى قوله:"ثم علمهم أصولا وهي معرفة الله تعالى وآياته ومخلوقاته الدالة على ربوبيته والهيته وتسليم الأمر لله تعالى والانقياد لأوامره والانتهاء عن نواهيه، ومعرفة النبي صلى الله عليه وسلم: اسمه ونسبه ومبعثه وهجرته وأول ما دعا إليه وسائر العبادات، (2) وقد جعل الشيخ من بيته بالدرعية" مدرسة تسمى وكر التوحيد تلقن فيها علوم الدين طرفي النهار وفنون الحرب في أوسطه وكان لذلك اقر عظيم في تقوية الروح المعنوية عند أنصار الدعوة ورجالها. (3)
وقد أثمرت جهود الشيخ في بعث الحركة العلمية وآتت أكلها في أجيال من العلماء من أهل نجد وغيرها ممن تلقوا من الشيخ أو عن أولاده وتلاميذه، ولكن الثمرة الأهم تمثلت في الجانب العلمي التطبيقي فقد كان نجاحها في ذلك فريدا" بل لا نعرف حركة اسلامية كانت أمينة على مبادئها ملتزمة بها في مجال التطبيق مثل الحركة الوهابية ولعل هذا هو الذي ضمن لها البقاء والرسوخ فقد أصبحت منهج فكر وخط حياة وجزءا من كيان المؤمنين بها." (4) ولذلك ما سوف نعرض له في المبحث التالي:
ثانيا: منهجه في الجانب العملي
من رسالة وجهها الشيخ محمد بن عبد الوهاب إلى بعض أتباعه في البدلان كتب يقول:" الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر يحتاج إلى ثلاث: أن يعرف ما يأمر به وينهى عنه، ويكون رفيقا فيما يأمر به وينهى عنه صابرا على ما
(1) محمود شكري الألوسي. تاريخ نجد ص112
(2)
المرجع السابق.
(3)
عبد الله الرويشد: جـ 1 ص7
(4)
د. الهراس. الحركة الوهابية. ص69 -70
جاءه من الأذى، وأنتم محتاجون للحرص على فهم هذا والعمل به فإن الخلل إنما يدخل على صاحب الدين من قله العمل بهذا أو قله فهمه." (1)
ومن هذا النص يبدو لنا الارتباط القائم في ذهن الشيخ بين قلة الفهم أو قلة العمل وإن كلاهما يدخل الخلل على الدين، ولفرط حرصه على أن يتصف المسلم بعلم يعمل به وبعمل يقوم على الفهم لا على التقليد كانت تعاليمه رسائل حية تناقش أوضاع الناس وما يجب أن تكون عليه، ولم تكن مجرد كتب ونظريات تملأ القرطاس ويخلو منها واقع الناس:"فكان يكتب الرسائل ويلقي الخطب ويعقد المجالس ويتحدث للناس في العقيدة والفقه والسياسة والإدارة وأحوال المجتمع وكان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويعتني بالوفود وطلاب العلم وحاجات المجاهدين ويكاتب البلاد القريبة والبعيدة إلى غير ذلك من شؤون الحياة العامة التي كانت تشغل أكثر وقته..فلا يجد متسعا من الوقت لتأليف الكتب المستفيضة، لذلك كانت رسائله أكثر من كتبه وأحاديثه أكثر من رسائله وكان في كتبه يميل في الغالب إلى الاختصار."(2)
فالعلم والعمل عنصران متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر في سائر جوانب عقيدة المسلم بدءا بالتوحيد الذي لا يكتمل في قلب المسلم غلا بشقيه: توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية بإقرار وحدانية الله وصرف كل عبادة إليه عملا، ويكرر الشيخ القول بأن كل توحيد يخلو من هذين العنصرين هو في الحقيقة تعطيل لحقائق الإسلام " والتوحيد الذي أما تعطيل حقائق الأسماء والصفات، فلو كانوا موحدين بالكلام وهو أن يصفوا الله بما وصفته به رسله لكان معهم التوحيد دون العمل وذلك لا يكفي في النجاة، بل لابد أن يعبدوا الله وحده ويتخذوه إلهاً دون ما سواه، وهو معنى قوله" لا إله إلا الله " فكيف وهم في القول معطلون جاحدون لا موحدو ولا مخلصون (3) ".
ويعرض الشيخ لسائر أركان الإسلام فيجلي جوانبها وأن كمالها مرهون
(1) ابن غنام. تاريخ نجد ص: 411
وأيضا: الدرر السنية في الإجوبة النجدية جـ 7 ص25
(2)
د. منير العجلاني. تاريخ البلاد السعودية ص329
(3)
ابن غنام. تاريخ نجد. ص406
بالعلم بها علما يقترن بتطبيقها تطبيقا عملياً، فنراه يتحدث عن الصلاة فيقول: "رجل قال شروط الصلاة تسعة، ثم سردها كلها، فإذا رأى رجلا يصلى عريانا بلا حاجة أو على غير وضوء أو لغير قبلة ولم يدر أن صلاته فاسدة لم يكن قد عرف الشروط ولو سردها كلها، أو رأى من لا يقرأ الفاتحة ومن لا يركع ومن لا يجلس للتشهد ولم يفطن أن صلاته باطلة لم يكن قد عرف الأركان ولو سردها.
ونلمح في سياق النص السابق أن الشيخ بعد أن أوضح ارتباط العلم بالعمل، وضع يده على النتيجة العملية من هذا الربط ألا وهو وجوب: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فكما أن ثمرة تقرير وجوب العلم والحض على طلبه التزام العالم بالدعوة إلى الله بالحكمة الموعظة الحسنة فإن ثمرة ارتباط العلم بالعمل التزام العالم العامل: بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وقد كان الشيخ وفيا لمنهج في الربط بين العلم والعلم وما يستلزمه ذلك من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد تجلى هذا الوفاء منذ الوهلة الأولى لحياة الشيخ، وهو الذي أعطى لهذه الحياة وما عاصرها وصف الحركة فقيل بالحركة الوهابية إشارة على أنها ليست مجرد دعوة إلى الإصلاح إنما هي أمر به وحمل للناس عليه، فما أن استقر بالشيخ المطاف في العيينة والتف حوله بعض الاتباع، وخلص لهم فهم التوحيد الخالص لله على النحو الذي استوعبه الشيخ حتى ندبهم لتطبيق ما فهموه على مظاهر الحياة من حولهم بحرب كل ما يلوث معنى التوحيد." وكان بالعيينة كغيرها من قرى نجد الكثير من القباب والأوثان والأشجار التي يعظمها الجهال فطلب ابن عبد الوهاب من أمير العيينة عثمان بن حمد بن معمر أن يزيل تلك الأوثان والقباب لمخالفتها لعقيدة التوحيد الصافية فاستجاب الأمير لذلك وتم هدم القباب والأوثان والأشجار."(1)
وقد كانت همة الشيخ في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي حجر
(1) د. منير العجلاني. تاريخ البلاد السعودية ص255
د. عبد الرحيم: الدولة السعودية الأولى ص42 ـ 46
وأيضا سيد محمد إبراهيم. تاريخ المملكة العربية السعودية ص135
وايضا بن بشر. عنوان المجد في تاريخ نجد جـ 1 ص10
الزاوية في تميزه عن سائر علماء عصره، وهي السمة التي ميزت أهل نجد عن سائر الناس إبان حركة الشيخ عندما سأل عالم من أهل المدينة عن سبب الاختلاف بين أهل نجد وبين الناس أجابه الشيخ محمد بن عبد الوهاب:" سألت عن سبب الاختلاف الذي هو بيننا وبين الناس فما اختلفنا في شيء من شرائع الإسلام من صلاة وزكاة وصوم وحج وغير ذلك ولا في شيء من المحرمات. الشيء الذي عند الناس زين هو عندنا زين والشيء الذي عندهم شين هو عندنا شين إلا أننا نعمل بالزين ونغصب بالزين عندنا عليه وننهي عن الشين ونؤدب الناس عليه (1) ".
وبنفس المعنى كتب إلى السويدي عالم العراق:" وأيضا ألزمت من تحت يدي بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وغيرها من فرائض الله ونهيتهم عن الربا وشرب المسكر وأنواع المنكرات (2) .
وكان أتباع الشيخ منفذين لفكرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في كل بلد فتحوه فعندما دخلوا الحجاز ولم يكن للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في أهله إلا اسمه وانمحى أثره ورسمه فما أن دخلوا في طاعة أمير نجد وبايعوه على الكتاب والسنة حتى" رفعت المكوس والرسوم وكسرت آلات التنباك ونودي بتحريمه وأحرقت أماكن الحشاشين والمشهورين بالفجور ونودي بالمواظبة على الصلاة في الجماعات وعدم التفريق في ذلك بأن يجتمعوا في كل صلاة على إمام واحد (3) "
ولم يكتف الشيخ بربط العلم بالعمل، بل فصل درجات الإخلاص في العمل بما يتضمن الحض على التسامي فيه حتى يكون القصد منه وجه الله الكريم وبين أن من دون هذه المرتبة العليا مراتب أدنى مناط كل منها نية العبد، فهو يقول رحمه الله:" إذا أمر الله العبد بأمر وجب عليه في سبع مراتب:
العلم به، 2. محبته، 3.العزم على الفعل، 4.العمل.
(1) د. منير العجلاني. تاريخ البلاد السعودية ص280
(2)
ابن غنام، تاريخ نجد ص360
(3)
محمد بشير السهواني الهندي: صيانة الانسان عن وسوسة الشيخ دحلان ص436
5.
كونه يقع على المشروع خالصا صوابا،6.التحذير من فعل ما يحبطه.
7.
الثبات عليه (1) .
ثم يضرب الشيخ الأمثال على نماذج من العاملين قد تتحد أعمالهم ولكن تتباين درجاتهم بتباين نياتهم:
1) فريق من الناس يعمل العمل الصلح من إحسان وترك مظالم، لكنه لا يريد ثوابه في الآخرة وإنما يريد أن يجازي به بحفظ ماله وتنميته أو حفظه أهله وعياله، أو إدامة النعم ونحو ذلك ولا همة لهم في طلب الجنة والهرب من النار فهذا يعطي له تراب عمله في الدنيا وليس له في الآخرة من نصيب.
2) وفريق يعمل أعمالا صالحة ونيته رياء الناس لا طلب ثواب الآخرة مثل الذي يتعلم العلم ليقال عالم ويتصدق ليقال جواد ويجاهد ليقال شجاع
…
الخ.
3) أن يعمل الأعمال الصالحة ويقصد بهما مغنما مثل الحج لما يأخذه لا لله أو يجاهد لأجل المغنم فقد ذكر ايضا هذا النوع في تفسير هذا الآية كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال:" تعس عبد الدينار ـ تعس عبد الدرهم ـ إلى آخر الحديث.
4) أن يعمل الإنسان بطاعة الله مخلصا لذلك لله وحده، ولكنه على عمل يكفره كفرا يخرجه عن الإسلام مثل اليهود والنصارى إذا عبدوا الله أو تصدقوا أو صاموا ابتغاء وجه الله والدار الآخرة، ومثل كثير من هذه الأمة الذين فيهم شرك أو كفر أكبر يخرجهم من الإسلام بالكلية ويمنع قبول أعمالهم.
ثم يحذر من إتيان الأعمال التي تحبط العمل ولهذا خاف السلف من حبوط الأعمال ثم يقول:"وأما الفرق بين الحبوط والبطلان فلا أعلم بينهما فرقا (2) .
(1) عبد الله الرويشد ـ محمد بن عبد الوهاب، عبر التاريخ جـ 2 ص36
(2)
اين غنام. تاريخ نجد ص 473-474
ومن خلال إحياء الشيخ لقاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باعتبارها قاعدة أساسية تضمن ربط العلم بالعمل تحدد منهج الشيخ ونظرته إلى دوره العقيدة في بناء الفرد من خلال الجماعة وهو ما سوف نعرض له تفصيلا في الباب الخامس من البحث.