الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الأول: مفهوم الجماعة المسلمة وكيف تتكون، ومدى ارتباط الإيمان بالتزام الجماعة
رغم أن الاجتماع ضرورة إنسانية عايشها الإنسان منذ كان فلم يعرف الحياة إلا في جماعة، إلا أن مفهوم الجماعة المسلمة يختلف تماما عن مفهوم الجماعة التي لا تخضع لمنهج الإسلام، وهو اختلاف يعود بالأساس إلى اختلاف نظرة الإسلام عما عداه ـ إلى وظيفة الإنسان في الأرض من حيث بدئه ورسالته ومنتهاه.
فالمذاهب المادية السابقة على ظهور الإسلام والتالية له تتواضع بالإنسان حتى تضعه ضمن سائر فصائل الحيوان بل من هذه المذاهب ما يعد الإنسان تطورا من تطورات الخلية الحيوانية وبالتالي فليس له في غير الأرض بداية وليست له على غير الأرض نهاية. وأنه محكوم في تطوره بحركة التاريخ وتداول الأيام فهو ابن الدهر والدهر آكله {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} (1)
وعلى ذلك ـ وحسب مقتضى المذاهب المادية فليس للإنسان من رسالة في هذا الحياة إلا بالعثور على الصيغة المثلى لتعايش أفراده بحيث يقتسمون أقوات الأرض على أحسن صورة ممكنة وبحثا عن الصورة الممكنة لاقتسام هذا الأقوات تنقسم المذاهب المادية إلى فردية واشتراكية وشيوعية.
(1) سورة الجاثية: آية: 24
وحتى أصحاب النظر الفلسفي من أنصار المذاهب المادية لم يرقوا إلى تصور بداية للإنسان أو نهاية له أو رسالة يضطلع بها بعيدا عن هذا التصور اللهم إلا محاولتهم تجريد المعاناة المادية من أشكالها للوصول إلى تصور معنوي للسعادة الإنسانية ظل على الدوام غامضا غموض أقيسة الفلسفة الجدلية ومعطياتها.
والقائمون على عقائد أهل الكتاب وإن توفر لهم من بقية العلم بالكتب السابقة ما يهديهم إلى الاعتقاد بأن للإنسان بداية تسبق عالم الحس، وسيفضي إلى نهاية يلقى بها عالم البعث ،انه بين البداية والنهاية محل للتكليف من الخالق ـإلا أنهم ليسوا بدء الإنسان على الأرض بمقولة الخطيئة التي تأخذ بزمامه. والتي يحتاج معها إلى الشفعاء من أبناء الرب وأحبائه يمنحون صك غفران يسلك له إلى ملكوت السموات وإلا فهو محروم شقي لا محالة.
وقد جاء الإسلام بالخبر اليقين الذي يبدد وهم الأولين وغلو الآخرين فارتفع بالإنسان عن وضاعة التطور من الخلية الحيوانية وأبان أنه مخلوق ذو مركز خاص في الكون، من حيث أصل خلقته {لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} (1) ومن حيث مكانه في الأرض ورسالته {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} (2) من حيث قدراته وملكاته واستعداده {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاء كُلَّهَاَ} (3) ومن حيث مسؤوليته عن عمله {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} (4)
وعدم مؤاخذته بجريرة غيره. {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (5)
وفي ظل التطور المادي الذي أشرنا إله كانت الجماعات الإنسانية تتكون وتتشكل كما يجري للحيوانات في عالم الغاب من حيث أن القوة المادية وحدها هي التي توجه هذا التكوين والتشكيل، فالقبيلة التي تجمعها وحدة
(1) سورة التين: آية:4
(2)
سورة البقرة: آية:30
(3)
سورة البقرة: آية:31
(4)
سورة النجم: آية:39
(5)
سورة الانعام: آية:164
الأصل تحاول أنت تبسط نفوذها على غيرها من القبائل، فإذا أمكنتها القوة من ذلك وتتابعت بها الأسباب بدت في صورة الدولة ملكا أو إمبراطورية أو غير ذلك من الأشكال ولم تعرف البشرية قبل الإسلام جماعة إنسانية تتكون بوازع العقيدة والعقيدة وحدها، إذا أن الرسالات السماوية السابقة على الإسلام ظلت في دائرة إصلاح وجدان الأفراد كأفراد دون أن تصبح محورا تقوم عليه حياة الجماعة ويأتلف به الإنسان مع الإنسان، وثم لم يكن مجتمع بني إسرائيل خلال الفترة الوجيزة التي أقاموا فيها دولتهم إلا صورة خاصة لمفهوم الجماعة الإنسانية القائمة على التصور المادي، ذلك أنهم وإن احتكموا إلى التوراة أغلقوا دائرة الجماعة الإنسانية على من يجمعهم الأصل العرقي الواحد.
فلما انصف الإسلام الإنسان وكشف عن جوهره الفريد ومركز المتميز في الكون ورسالته في الحياة انبثق من هذا التصور الإسلامي الفريد نموذج مثالي للاجتماع الإنساني
نموذج يمكن أن نلخصه في عبارة واحدة:
التسامي بالنوع الإنساني حتى يكون أهلا لشرف التكليف بعبادة الله تعالى.
ويقوم هذا التسامي على قاعدتين وحدة أصل الإنسان {خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} . (1)
ووحدة الغاية التي خلق لأجلها {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (2)
والجماعة المسلمة مفتوحة لكل إنسان يتوفر فيه مفهوم القاعدتين السابقتين.
وبحكم وحدة أصل الإنسان ومساواة أفراده فهم جمعيا على اختلاف الأصل واللهو واللغة والجنس مدعوون للالتحاق بهذه الجماعة {قُلْ يَا أَيُّهَا
(1) سورة العلق: آية: 20
(2)
سورة الذاريات: آية: 56
النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعا} (1) والشرط الوحيد لتحقيق هذا الالتحاق هو الإيمان بالله.
وحيث يوجد هؤلاء المؤمنون فهم جماعة واحدة {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (2)
ومن هنا كانت الجماعة المسلمة فريدة في تكوينها.. إنها تقوم على العقيدة وحدها، عقيدة الإيمان بالله.
وقد رأينا لدى استعراض مواد الفصل الأول من الباب الأول من هذا البحث: كيف نشأت الجماعة الإسلامية الأولى في المدينة المنورة لتجمع أفرادا ومن مختلف قبائل العرب بل ومن أفراد غير عرب كسلمان الفارسي وصهيب الرومي وبلال الحبشي وحدوا الله فوحد الله بينهم {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} . (3)
وعرفت الإنسانية بهذا الجماعة الإسلامية مفهوم الدولة العقائدية التي انضوت تحت أعلامها أمم شتى هجرت رابطة العرق والوطن إلى رابطة الدين والإيمان وظلت دولة الإسلام قوية ما بقيت هذه الرابطة الإيمانية فلما غلبتها نوازع الشعوبية والأممية تداعى البناء الشامخ وتصدعت أركانه.
وأدرك محمد بن عبد الوهاب الجماعة المسلمة وقد تمزقت دار السلام إلى عدة أديار، وعادت نجد إلى حال قريب من حالتها في الجاهلية مما عرضنا له تفصيلا في الباب الأول، وكان عليه أن يواجه هذا الواقع ليحدد على ضوئه نظرته إلى أسس تكوين الجماعة المسلمة.
وقد جاء هذا التحديد مقرونا بالتطبيق العملي الذي تفيض به الشواهد التاريخية، بدأ بنفسه فتزود بالعلم الذي يتميز به الحق من الباطل، حتى إذا، استوعب حقائق الإسلام وتحقق له بعد الناس عن هذا الحقائق أخذ يدعو
(1) سورة الاعراف: آية:158
(2)
سورة الحجرات: آية:10
(3)
سورة الأنفال: آية:63
الناس" فأعلن بالدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) (1) فلما التف حوله بعض الناس بذل جهده في تعليمهم أمور دينهم وكان له مجالس عديدة في التدريس كل يوم وكل وقت في التوحيد والتفسير والفقه وغيرها". (2)
وإذا توفرت له الجماعة التي تلتقي معه في مفهوم العقدية الصحيحة القائمة على التوحيد الحق والإتباع الكامل لرسول الله صلى الله عليه وسلم واجه الانحراف بعزيمة تغيير المنكر" وتبعه أناس من أهل العيينة وكان فيها أشجار تعظم ويعلق عليها فبعث إليها من يقطعها فقطعت"(3) واعترفت عنده امرأة بارتكاب الزنى الموجب للحد فأمر برجمها، وسرعان ما كشف المجتمع المحيط به عن مدى بعده عن شريعة الإسلام وأحكامه، فقد استهول حكام الإحساء وغيرها من إمارات الجزيرة العربية مسلك محمد بن عبد الوهاب في الالتزام بالتطبيق العملي لقاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فبدأوا بالعداء وحرضوا أمير العينية ابن معمر على إخراجه منها فخرج مهاجرا إلى الدرعية.
ولم يكن مخرجه من العيينة واضطراره إلى الهجرة إلى الدرعية ليثنيه عن الجهاد الذي عاهد الله عليه بل كشفت هذه المحنة عن استعداده لمواجهتها وعن فهمه الدقيق لطبيعة الصراع بين الإسلام وأعدائه ومقتضيات هذا الصراع. عبر عن هذا الفهم في حواره الذي بدأ به لقاءه مع أمير الدرعية محمد بن سعود
قال للأمير:"
…
هذه كلمة التوحيد التي دعت إليها الرسل كلهم فمن تمسك بها وعمل بها ونصرها ملك بها البلاد والعبادة وأنت ترى نجداً كلها وأقطارها أطبقت على الشرك والجهل والفرقة والاختلاف والقتال لبعضهم بعض فأرجو أن تكون إماما يجتمع عليه المسلمون وذريتك من بعدك وجعل يشرح له الإسلام وشرائعه وما يحل وما يحرم وما عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من الدعوة إلى التوحيد والقيام في نصره والقتال عليه". (4)
(1) ابن بشر عنوان المجد في تاريخ نجد جـ 1 ص 22
(2)
ابن بشر عنوان المجد في تاريخ نجد جـ 1 ص 114
(3)
ابن بشر عنوان المجد في تاريخ نجد جـ 1 ص22.23
(4)
ابن بشر عنوان المجد في تاريخ نجد جـ 1 ص24
وبهذه العبارات أوجز الشيخ مفهومه للجماعة المسلمة التي تتكون بوازع الإيمان وتجتمع على نصرة الإسلام والقتال دفاعا وتطبيقا لشرائعه.
كما أوضح عن فهمه لطبيعة الصراع بين الحق والباطل وأن الباطل لا يخلي مكانه للحق إلا راغما واستدل على ذلك بما جرى للرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه.
وقد يأخذ عليه البعض أنه وهو يعمل لنصرة دعوة الإسلام وإحياء سنة الرسول صلى الله عليه وسلم قد خالف هذه السنة فيما جرى منه من مبايعة للأمير محمد بن سعود بأن يكون إماما وذريته من بعده، إذ الثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان حريصا وهو يدعو القبائل إلى الإسلام ألا يجعل ثمن نصرهم لدين الله اختصاصهم بإمامة أو ما أشبه، وقد رأينا (1) كيف دعا بني عامر بن صعصعة إلى الإسلام فاشترطوا عليه أن يجيبوه إلى دعوته على أن يكون لهم الأمر من بعده فكان جوابه صلى الله عليه وسلم الرفض المشفوع بقوله:" الأمر لله يضعه حيث يشاء، ثم رأيناه صلى الله عليه وسلم وهو يدخل المدينة مهاجرا يعتذر عن قبول كل دعوة قدمت له للنزول في حي بعينه من أحياء الأوس أو الخزرج ويأمر من أخذ بخطام ناقته أن يخلي عنها حتى بركت الناقة وهي مأمورة ـ كما حدث المعصوم صلى الله عليه وسلم في مريد لغلامين يتيمين فأبى الرسول صلى الله عليه وسلم أن يأخذه إلا بثمنه وفي مكانه أنشأ مسجده.
والاعتراض ولا شك سديد غير أنه مما يخفف اللائمة عن محمد بن عبد الوهاب أنه أولا: من المحال أن يستشرق إلى الذروة التي تسنمها رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد وهو سيد الرسل من أولي العزم وحسب العبد الصالح أن يقتفي أثره ما استطاع.
ثانيا: أن العبارة المنقولة عن الشيخ هي أقرب إلى الدعاء والتمني لقوله:" فأرجو أن تكون إماما". وتحمل على الترغيب وتقريب سبيل الهداية للأمير.
ثالثا: إن كان في معاناة المهجر من العيينة إلى الدرعية يلتمس الأمن والمأوى لتبليغ دعوته." ولا تتم دعوة إلا بوجود شوكة"(2) وحسبه بهجرته من
(1) الطيري ـ تاريخ الأمم والملوك جـ2 ص: 232
(2)
ابن خلدون المقدمة. ص 327
العيينة إلى الدرعية أن أحيا في الناس سنة الهجرة إلى الله ورسوله "فهاجر الشيخ أصحابه الذين بايعوه في العيينة" إلى الدرعية. ولم يلبث أن تزايد المهاجرون إلية من كل بلد علموا استقراره. (1) ويمكن القول بحق أنه بهذه النواة من المهاجرون إلى الدرعية تكونت الجماعة المسلمة التي تجمعها العقيدة والعقيدة وحدها وكان ذلك في حد ترجمة لمفهوم الجماعة الإنسانية حسبما يريدها القرآن. ومن خلال هذه الجماعة التي تكونت على التوحيد واجتمع شملها على الإيمان باشر محمد بن عبد الوهاب تربية أفرادها على خلق الإسلام وإلزامهم بسائر ضوابطه سواء منها ما يتعلق بعلاقة العبد بربه "فاجتمع الناس على الصلوات والدروس والسؤال عن معنى لا إله إلا الله وفقه معناها والسؤال عن أركان الإسلام وشروط الصلاة وأركانها ووجباتها (2) "
كذلك توفرت تربية الأفراد فيما يتعلق بحقوق بعضهم على بعض فتحقق بينهم التكامل والتعاون وجمعت الزكاة لمن تحب عليهم وصرفت على مستحقيها وتغير مفهوم النصرة القبلية التي كانت تحمل الفرد علي نصرة أخوية ظالما ومظلوما بالحق والباطل إلى مفهوم النصرة الإسلامية على التناصح والتواصي بالحق والصبر بعد أن فقه القوم حديث رسول الله "انصر أخاك ظالما أو مظلوما "بما بينة رسول الله من أن معني نصر الأخ ظالما: منعه من الظلم.
ومن خلال تربية الأفراد على معنى التآخي والتنا صر والتواصي بما فهمهم لمعنى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فأقبلوا على إحياء هذا الركن الإسلامي المكين من أركان تكوين الجماعة المسلمة.
ولم يمض وقت بعيد حتى كان مجتمع الدرعية قد ظفر بمنهج تربوي وتطبيقي يكفل حسن تربية المسلم من خللا الجماعة. منهج يقوم على الحقائق الإسلامية الأساسية التي تتضمنها الكليات الخمس: توحيد الله وأتباع رسوله ومساواة بني الإنسان والعلم والتعلم.
(1) ابن بشر، عنوان المجد في تاريخ نجد جـ 1 ص: 24
(2)
ابن بشر عنوان المجد في تاريخ نجد. جـ 1 ص 114
وتيقن محمد بن عبد الوهاب أن السبيل إلى ضمان استمرار المجتمع المسلم على كلياته الخمس يتوقف على الكلية الخامسة وهي التعلم. من هنا كان حرصه على تعليم اتباعه وترغيبهم في التعلم واهتمامه بعامتهم وخاصتهم في هذا الخصوص ووضعه الأسلوب الأمثل لتعليم كل حسب استعداده فيقول:"ينبغي للمعلم أن يعلم الإنسان على قدر فهمة"(1) ثم يفصل درجات الناس ويعطي كلا حسب قدر ثقافته وذكائه. ويجدد غاية العلم والتعلم في أن يعرف المسلم الحقوق التي علية. ثم يرتب له الحقوق بدءا بالأدنى وترقبا إلى الأعلى"فيصف له الحقوق الخلق مثل حق المسلم على المسلم وحق الأرحام وحق الوالدين وأعظم من ذلك حق النبي"ثم حق الله وحق الله عليك. (2)
ومن مصنفات محمد بن عبد الوهاب التي عالج فيها الجانب التربوي في أوساط العامة "تلقين أصول العقيدة للعامة (3) "
ومن حقوق المسلم على المسلم تلك التي يتبادلها الحاكم والمحكوم مما يعرف حديثا بالحقوق العامة، ولا يستقيم شأن جماعة إنسانية إلا على قاعدة واضحة تستقر عليها هذه الحقوق التي أصبحت مجالا للنص عليها في الدساتير والقوانين الأساسية.
وابن عبد الوهاب يضع هذا النوع من الحقوق في مكان الصدارة من تفكير ويسوق لذلك الاستشهاد بالحديث الصحيح:
"إن الله يرضى لكم ثلاث: ألا تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم"(4) .
واستدلالا بهذا الحديث يرتفع محمد بن عبد الوهاب بمركز ولي الأمر من حيث حتمية وجوده ووجوب طاعته والانقياد له إلى حد اعتبار مخالفته والخروج عليه من مسائل الجاهلية التي تتلو درجة الشركة بالله والتفرق في الدين إذ يقول
(1) عبد الرحمن العاصمي القحطاني. الدرر السنية جـ 1 ص98
(2)
المرجع السابق
(2)
.مجموعة التوحيد ـ الرسالة الخامسة ص 257، 258
(4)
مجموعة التوحيد ـ رسالة مسائل الجاهلية. ص237
أن أهل الجاهلية كانوا يرون أن "مخالفة ولي الأمر وعدم الانقياد له فضيلة والسمع والطاعة ذل ومهانة فخالفهم رسول الله وأمر بالصبر على جور الولاة وأمر بالسمع والطاعة لهم والنصيحة وغلظ في ذلك وأبدى وأعاد. (1)
ومن الجدير بالذكر أن محمد بن عبد الوهاب تعرض لنقد معارضية في مسألة عقدة الإمامة لابن سعود بمقولة أنه بذلك خرج عن إجماع فقهاء المذاهب الأربعة وعلى الأخص مذهب الإمام أحمد – فيما يشترط في الإمام من أن يكون قرشيا ورموه بأنة يدعو دعوة الخوارج ممن قالوا بجواز إمامة غير القرشي. والحق أنني أري في موقف محمد بن عبد الوهاب من مسألة الإمامة وطاعة ولي الأمر حسبما أوضحناه أنفا اختلافا تاما بينه وبين فقه الخوارج فهو يجعل وجود ولي الأمر أصلا ثابتا يقوم علية صلاح الدين والدنيا معا يبرر طاعته في حال وجود ولي الأمر أصلا ثابتا يقوم علية صلاح الدين والدنيا معا مما يبرر طاعته في حال عدله وجوه، حال كون الخوارج لا يرون شيئا من ذلك بل كانت مقالتهم الأولى التي صاح بها مناديهم في وجه علي رضي الله عنه: لا حكم إلا لله مما دعا الإمام علي أن يكشف خبيثهم بقوله: قولة حق أريد به باطل. يقولون لا طاعة لمخلوق ولا بد من طاعة أمير أو فاجر. (2)
ولا يعني الأمر بوجوب طاعة ولي الأمر مطلق الطاعة حتى في المعاصي إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق إنما المعني: انتظام الجماعة في الطاعة والتحذير من الخروج على الإمام لمجرد الرغبة في الخروج والتباهي به كسنن الجاهلية الأولى.
ثم يرسم ابن عبد الوهاب لولى الأمر وللرعية معا طريق استدامة الود بينهما الكفيل بدوام تعاونهما على البر والتقوى فيحدده في الحب في الله والبغض فيه وأن فقدان الجماعة لهذا الحب والبغض هو الذي يدخل الخلل على علاقات الحاكمين بالمحكومين وفي ذلك يقول: يجيئنا من العلوم أنه يقع بين أهل الدين والأمير بعض الحرشة، وهذا شئ ما يستقيم علية الدين، والدين هو الحب في الله والبغض فيه" (3) .ويضع يده على العلة الحقيقية فى حدوث هذا
(1) مجموعة التوحيد الرسالة الأولى: مسائل الجاهلية ص 236، 237
(2)
الطبري. تاريخ الأمم والملوك جـ 6 ص: 36 أخبار عام 37هـ
(3)
الدرر السنية: جـ ط ص239
الخلل في العلاقة بين الحاكم والمحكوم. إنهم في رأي الشيخ بطانة السوء التي يجب أن يحذر الأمير وسواسها "فإن كان الأمير ما يجعل بطانته أهل الدين صار بطانته أهل الشر". (1)
وهو إذ يدعو الأمير إلى أن يتخذ من أهل الدين بطانته يدعو هؤلاء إلى أن"عليهم جمع الناس على أميرهم والتغاضي عن زلته (2) "وأن يجعلوا فصحهم له برفق وخفية عن الناس مع تجنب الغلظة الموجبة للفرقة "فإن بعض أهل الدين ينكر منكرا وهو مصيب لكن يخطي في تغليظ الأمر إلى شئ يوقع الفرقة بين الإخوان. (3)
وقد آتت تربية ابن عبد الوهاب ثمارها في تقوية أواصر الحاكم بالمحكوم بحيث أصبح المجتمع القائم" في الدرعية قدرا على مواجهة الهجوم المتوالي الذي شنه أعداؤه عليه من داخل الجزيرة العربية وخارجها والذي دام عشرات السنين. (4)
وكرد فعل لتحالف الأعداء من كل صوب ضد الدرعية الذي اضطر لأن يعيش حالة حرب مستمرة حوالي نصف قرن من الزمان فقد انغلق هذا المجتمع على نفسه قانعا بأنه يقاتل في سبيل الله فقاتله جهاد مقدس ضد أعداء كافرين يتربصون به الدوائر.
وأيا كان موقف الشيخ محمد بن عبد الوهاب من تكفير مخالفية والذي سنعرض لبيانه في الفصل الثاني من هذا الباب فهو سائر جماعته لا ينكرون قولهم بتكفير من حاربهم وتصدى لنشر دعوتهم وكتب الشيخ ورسائله ورسائل أتباعه من بعده صريحة في تسمية أنفسهم بالمسلمين ومقاتليهم بالكفار ومن ثم فقتلاهم شهداء وقتلى خصومهم هالكون وما ينالونه من خصومهم فتح وغنيمة وما يناله خصومهم منهم ابتلاء من الله وقد رسخت هذه العقيدة في نفسهم
(1) المرجع السابق.
(2)
المرجع السابق.
(3)
ابن غنام ، تاريخ نجد رسالة ابن غنام لأهل الحوطة، أيضا الدرر السنية جـ7 ص: 25
(4)
عبد الرحمن بن حسن، المقامات، الدرر السنية جـ 9 ص 18 وما بعدها
حتى ذهب بعضهم إلى اعتبار إيمان الفرد مرهونا بمتابعة لجماعتهم والالتحاق بمعسكرهم ونقل الشوكاني عنهم أنهم يرون أن من لم يكن داخلا تحت دولة صاحب نجد وممتثلا لأوامره خارج عن الإسلام. ولقد أخبرني أمير حاج اليمن أن جماعة منهم خاطبوه هو ومن معه من حجاج اليمن وأنهم غير معذورين عن الوصول إلى صاحب نجد لينظر في إسلامهم (1)
ويمكننا أن نقول على ضوء ما تقدم أن محمد بن عبد الوهاب أقام منهجه في تربية الفرد من خلال الجماعة على إنارة وجدانه بالتوحيد الخالص والإتباع الأمين لرسول الله ثم اندراجه في الجماعة المسلمة على قاعدة المساواة التامة في الحقوق والواجبات مساواة تقوم على دعامتين رئيسيتين: وحدة أصل الإنسان فلا تفاوت في العرق ووحدة الغاية وهي عبادة الله وحده وأن هذه الجماعة المسلمة مطالبة بحماية أفرادها من زيغ العقيدة بالتربية السليمة ومن عدوان الأعداء بالاستعداد للجهاد في سبيل الله وإن التزام هذه الجماعة هو عين الإيمان والخروج عليها ومفارقتها كفر وشقاق.
ويخلص لنا من ذلك أن محمد بن عبد الوهاب من خلال دعوته وحركته الأحداث التي واجهها قد أدلى بدلوه في مسألتين هامتين من مسائل الفكر الإسلامي ونعني يهما:
(1)
التكفير وما يخرج عن الإسلام.
(2)
الجهاد في سبيل الله من أركان العقيدة.
وقد عقدنا لكل من هاتين المسألتين فصلا مستقلا في هذا الباب على التوالي.
(1) الشوكاني، البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع جـ 2 ص6