المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الأول: الذات والصفات - الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب ومنهجه في مباحث العقيدة

[آمنة محمد نصير]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌الباب الأول: حيَاتهُ وَمؤلفَاتهُ وَعصرُه وبيئتهُ

- ‌الفصل الأول: حياته ومؤلفاته

- ‌الفَصْل الثَاني: عصره وبيئته

- ‌الباب الثاني: المعالم الرئيسية لفكره ومنهجه

- ‌الفصل الأول: موقفه بين الاجتهاد والتقليد

- ‌الفصل الثاني: اهتمامه بالربط بين العلم والعمل

- ‌البَابُ الثَّالِث: مَوقفهُ مِنَ الغَيبيَّات

- ‌الفصل الأول: الذات والصفات

- ‌الفصل الثاني: النبوات

- ‌الفصل الثالث: البعث والجزاء

- ‌الباب الرابع: التصوف وصلته بالعقيدة

- ‌الفصل الأول: موقفه من التصوف

- ‌الفصل الثاني: التفرقة بين جوهر التصوف وأشكاله

- ‌الفصل الثالث: موقفه من التوسل

- ‌الباب الخامس: نظرته إلى دور العقيدة في بناء الفرد من خلال الجماعة

- ‌مدخل

- ‌الفصل الأول: مفهوم الجماعة المسلمة وكيف تتكون، ومدى ارتباط الإيمان بالتزام الجماعة

- ‌الفصل الثاني: التكفير وما يخرج عن الإسلام

- ‌الفصل الثالث: الجهاد في سبيل الله كركن من أركان العقيدة

- ‌الباب السادس: آثاره في الفكر والسياسة

- ‌مدخل

- ‌الفصل الأول: أثره في الفكر الإسلامي

- ‌الفصل الثاني: أثرة في السياسة

- ‌خاتمة

- ‌مصادر ومراجع

الفصل: ‌الفصل الأول: الذات والصفات

‌البَابُ الثَّالِث: مَوقفهُ مِنَ الغَيبيَّات

‌الفصل الأول: الذات والصفات

.

الفصل الثاني: النبو ات.

الفصل الثالث: البعث والجزاء.

ص: 99

الفَصل الأول: الذات والصفات

تمهيد:

لم تخل فترة من الزمان منذ بدأ الإسلام من مشتغل على نحو أو آخر بعلم الكلام أو بعبارة أخرى من الحديث في الأمور الغيبية حتى أننا نلمس بذور الاشتغال بالكلام في صدر الإسلام، فما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على الصحابة يوما وهم يتناظرون في القدر ورجل يقوم ألم يقل الله كذا؟

فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "أبهذا أمرتم؟ إنما هلك من كان قبلكم بهذا ضربوا كتاب الله بعضه ببعض وإنما نزل كتاب الله يصدق بعضه بعضا لا يكذب، انظروا ما أمركم به فافعلوه وما نهيتم عنه فاجتنبوه"(1) .

إذن فبذور النظر العقلي خالط تربة المسلمين منذ كان صاحب الرسالة صلوات الله عليه بين ظهرانيهم، ولكن سلف الأمة كانوا في جملتهم مع أعمال العقل أهل إيمان وتسليم وعمل بما أمرهم الله ورسوله صلى الله عليهه وسلم.

بيد أنه لم يكد المجتمع الإسلامي يخالط المجتمعات الأخرى حتى زادت فتنة الاشتغال بعلم الكلام ـ سواء كان هذا الاشتغال خلفه حسن النية والدفاع عن الإسلام ضد التيارات التي دخلت الإسلام بأغراض شتى ـ أو للاتجاه المضاد وهو الكيد للإسلام من هذا الطريق، وتعددت الفرق بعد ذلك إلى أن

(1) الحديث أورده البخاري بسنده واستدل به الشهر ستاني في الملل والنحل: 1/21

ص: 101

بلغ عدد أصول الفرق وفروعها عددا كبيرا ولا سيما بعد اتساع الفتوح حتى أصبح حصر عدد هذه الفرق عند المؤرخين مختلفا عليه.

فنشأة الخلاف قديمة منذ موت الرسول صلى الله عليه وسلم ثم سكنت النفوس بعد خطبة أبي بكر المشهورة وتلا عليهم قوله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} (1) .

اختلفوا في موضع دفنه صلى الله عليه وسلم أيكون بمكة أم بالمدينة أو بيت المقدس الذي به تربة الأنبياء ومشاهدهم صلوات الله عليهم، وزال الخلاف بعد أن قال أبو بكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الأنبياء يدفنون حيث يقبضون فقبلوا منه رأيه ورجعوا على قوله ودفنوه في حجرته.

اختلافهم في باب الإمامة وطال الكلام فيها وتعددت الآراء والأفكار وانتهى وقتها بتولية أبي بكر رضى الله عنه، ولكن كل هذه الخلافات كانت مؤقتة وزالت. ويقول الاسفراييني:" الخلاف لا يكون خطيرا إلا إذا كان في أصول الدين ولم يكن اختلاف بينهم في ذلك بل كان اختلاف من يختلف في فروع الدين مثل مسائل الفرائض فلم يقع خلاف يوجب التفسيق والتبري، هكذا جرى الأمر على السداد أيام أبي بكر وعمر وصدر من زمان عثمان ثم اختلف في أمر عثمان وخرج عليه قوم منهم فكان من أمره ما كان."(2)

موقف ابن عبد الوهاب من علم الكلام:

(1)

ـ نستهل حديثنا عن موقف ابن عبد الوهاب من علم الكلام بنص له ورد في الدرر السنية: (أن علم الكلام بدعة وضلالة حتى قال أبو عمر بن عبد البر: أجمع أهل العلم في جميع الاعصار والأمصار أن أهل الكلام أهل بدع وضلالات لا يعدون عند الجميع من طبقات العلماء) . (3)

(2)

من الأسباب التي ذكرها ابن عبد الوهاب في كراهيته لعلم الكلام أنهم

(1) الزمر: 30

(2)

الاسفرايين ـ التبصير في الدين ـ ص13

(3)

الدرر السنية ـ كتاب العقائد ـ جـ 1 ص39

ص: 102

أي ـ علماء الكلام ـ يحرفون كلام الله المحكم وكلام رسوله الواضح على غير مراده وقد اشتمل كلامهم من الباطل على مالا يعلمه إلا الله بل فيه من الكذب في السمعيات نظير ما فيه من الكذب في العقليات، حتى انتهى أمرهم إلى القرامطة في السمعيات والسفسطة في العقليات، وهذا منتهى كل مبتدع خالف شيئا من الكتاب والسنة حتى في المسائل العملية والقضايا الفقهية. (1)

(1)

بدعة علم الكلام كانت أصلا من أصول الفرقة والتفرق في صفوف المسلمين ويقول ابن عبد الوهاب:" أمر الله بالاجتماع في الدين ونهى عن التفريق فيه فبين الله هذا بيانا شافيا كافيا تفهمه العوام.. ونهانا أن نكون كالذين تفرقوا قبلنا فهلكوا."(2)

(2)

يعيب على المتكلمين تسميتهم طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم حشوا وتشبيها وتجسيما مع أنه إذا طالعت في كتاب من كتب الكلام مع زعمهم أن هذا واجب على كل واحد وهو أصل الدين ـ تجد الكتاب من أوله إلى آخره لا يستدل على مسالة منه بآية من كتابة الله ولا حديث عن رسول الله. (3)

(3)

حتى في حالة ذكره إذا استشهد بآية أو بحديث يكون التحريف عن موضعه بما يناسب أهواءهم.

(4)

أنهم يقرون بأنهم لم يأخذوا أصولهم من الوحي بل من عقولهم مع إقرارهم أنهم مخالفون للسلف.

(5)

" وشبهتكم التي ألقيت في قلوبكم أنكم لا تقدرون على فهم كلام الله ورسوله والسلف الصالح وقد قدمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة". فتأمل هذا الشبهة أعني قولكم لا تقدرون على ذلك وتأمل ما حكى الله عن اليهود في قوله: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ} (4) وقوله: {إِنَّا جَعَلْنَاه قُرْآناً عَرَبِيّاً

(1) الدرر السنية ـ كتاب العقائد ـ جـ 1 ص102

(2)

المرجع السابق ـ جـ 1 ص99

(3)

المرجع السابق.

(4)

سورة البقرة: 8

ص: 103

لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (1) وقوله تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} (2)

فأعراض بعض من المتكلمين عن القرآن الكريم بحجة عدم فهم القرآن أو غواية الشيطان لهم نجد مصداق ذلك في حديثه صلى الله عليه وسلم السابق الإشارة إليه وهذا سبب من أسباب كراهية ابن عبد الوهاب لعلم الكلام والمشتغلين به.

(1)

ـ هناك خصوصية أخرى يتشبه بها المتكلمون اليهود وعلى وجه الخصوص علماؤهم ورهبانهم من كتمان الحق ولبس الحق بالباطل.

(2)

أنهم عمدوا إلى شيء أجمع المسلمون عليه فابتدع هؤلاء كلاما من عند أنفسهم كابروا به العقول وتابعهم جمهور من يتكلم في علم هذا الأمر (3) .

(3)

مع كون فساد مذهبهم في نفسه مخالفا للعقول وهو أيضا مخالف لدين الإسلام والكتاب والسنة وللسلف كلهم ـ مع هذا راجت بدعتهم على العالم والجاهل حتى طبقت مشارق الأرض ومغاربها (4) .

(4)

إن السلف قد كثر كلامهم وتصانيفهم في أصول الدين وإبطال كلام المتكلمين وتكفيرهم وممن ذكر هذا من متأخري الشافعية البيهقي والبغوي وإسماعيل التيمي ومن بعدهم كالحافظ الذهبي وأما متقدموهم كابن سريج والدارقطنيى وغيرهما فكلهم على هذا الأمر (5) .

فقد نبذ ابن عبد الوهاب علم الكلام لانحرافه عن الكتاب والسنة مع تحريف كثير من النصوص عن مواضعها، ترتب على ذلك انتشار الفرقة والإفتراق والبدع وكثرة القيل والقال، وخروج الناس فيما يخوضون عن كل قصد واعتدال.

(1) سورة الزخرف: 3

(2)

سورة القمر: 22

(3)

الدرر السنية ـ كتاب العقائد ـ جـ1 ص40

(4)

المرجع السابق

(5)

المرجع السابق

ص: 104

كان منهج ابن عبد الوهاب التمسك بالكتاب والسنة، ويقول في ذلك:" فاحضر بقلبك أن كتاب الله أحسن الكتب وأعظمها بيانا وشفاء لداء الجهل وأعظمها فرقا بين الحق والباطل."(1)

وفي موضع آخر يقول:" والله سبحانه قد عرف تفرق بعاده واختلافهم قبل أن يخلقهم (2) وقد ذكر في كتابه"{وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً} (3)

فابن عبد الوهاب ليس على وفاق مع المتكلمين لأنهم سلكوا طريقا غير طريق الإسلام في نظره، وقد أفاض في سرد الأسباب التي من أجلها يكره علم الكلام والمتكلمين ويرفض طريقهم كمنهج وتطبيق، والسلف لا يرضون بطريقة المتكلمين في البحث والتأليف، فإذا كان ابن عبد الوهاب غير راض عنهم فليس بمبتدع بل له أسوة من السلف كما أشار هو إلى ذلك في نص سابق، فكراهية علم الكلام ومبدأ الاشتغال به قديمة منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم خرج على أصحابه ووجدهم يتكلمون كما أشرنا في البداية من هذا الباب وكيف غضب غضبا شديدا، ثم تابعه في ذلك النهج القويم الخلفاء الراشدون وخاصة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقصته مع صبيغ بن سعل وحديثه في المتشابه وكذلك مع السارق الذي اعتبر إقدامه على السرقة من قضاء الله، لشاهد على يقظة الخلفاء الراشدون على أمور الدين والدنيا، وكذلك السلف الذين خلفوهم كانوا ينكرون على المتكلمين نهجهم وما ابتدعوا من بدع.

ويقول العلامة طاش كبرى زاده: " واعلم أن السف من الفقهاء والمجتهدين قد نقل عنهم النكير في حق علم الكلام حتى أن كثيرا من فقهاء عصرنا أنكروا على المشتغلين بعلم الكلام أشد الإنكار تمسكا بما ورد في ذلك من العلماء الأخيار. (4)

(1) الدرر السنية جـ 1 س38

(2)

المرجع السابق ص39

(3)

سورة النحل: 64

(4)

أحمد مصطفى طاش كبرى زادة ـ مفتاح السعادة ـ ص19

ص: 105

وذكر أقوال الأئمة أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل في كراهيتهم لعلم الكلام حتى أن الإمام مالك قال لا تجوز شهادة أهل البدع والأهواء قال بعض أصحابه: أراد بأهل الأهواء أهل الكلام على أي مذهب كانوا.

وأما الإمام الشافعي فقد روي عنه أنه قال: لو يعلم الناس ما في علم الكلام من الأهواء لفروا منه فرارهم من الأسد.

وقال أيضا: حكمي في أهل الكلام ان يضربوا بالجريد وأن يطاف بهم في العشائر والقبائل، ويقال: هذا جزاء من ترك السنة وأخذ في الكلام.

وأما الإمام أحمد فقد قال: لا يفلح صاحب الكلام أبدا، ولا ترى أحدا ينظر في الكلام إلا وفي قلبه مرض. (1)

وهذه الأقوال التي ذكرها مؤلف "مفتاح السعادة" عن هؤلاء الأئمة تؤكد أن مقصدهم هو المسك الحق بالكتاب والسنة، وانتهاج نهج الرسول صلى الله عليهم وسلم وصحابته، والتنزه عن الجدل والبحث فيما لا طائل من ورائه والذي أدى على الفرقة والتنابذ.

وإذا اشتد هؤلاء الأئمة على المتكلمين لأنهم رأوا أن الكلام قد خرج عن نهج القرآن والسنة وهو عين السبب الذي من أجله هاجم ابن عبد الوهاب الكلام والمتكلمين.

مبحث الذات والصفات:

سمى الله تعالى ذاته القدسية بأسمائه الحسنى آمرا المؤمنين ان يدعوه بها في قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِه} (2) ِوقال: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُو} إلى قوله: {لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} .

واستمع الرعيل الأول من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى آيات الوحي تفيض

(1) المرجع السابق + الدرر السنية جـ 2 ص 206 ـ 207

(2)

الأعراف: 180

ص: 106

بهذه الأسماء: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ. هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (1) .

صدع المؤمنون بأمر بهم فدعوه بأسمائه التي وصف بها نفسه، وسمى بها نفسه في كتابه وتنزيله أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من غير زيادة عليها، ولا نقصان مها ولا تجاوز لها، ولا تفسير ولا تأويل لها، بما يخالف ظاهرها، ولا تشبيه بصفات المخلوقين، ولا سمات المحدثين، بل أقروها كما جاءت، وردوا علمها إلى قائلها، ومعناها إلى المتكلم بها صادق لا شك في صدقه.

لم تكن مسألة الصفات الإلهية موضع خلاف لديهم إذ انصرفوا إلى ما هو خير من ذلك الجدال إلى الجهاد في سبيل الله وإعلاء كلمته لتكون {كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا} (2) ، ووسعهم أن يوقنوا بأنهم جند الله الواحد الذي} لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ { (3) ، حتى إذا مروا على آية من كتاب الله تعالى تنسب إليه صفة تخدش في ظاهرها التوحيد والتنزيه الذي ملأ شغاف قلوبهم كنسبة اليد أو الوجه أو العرش إليه لم يحاولوا تأويلها ولم يجل بخاطرهم أن ينزلوها في الفهم على ظاهرها وحرفيتها لاكتمال يقينهم بأن الله تعالى منزه عن الجسمية وجميع الأعراض والجوارح عرفانا بأنه {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُق} . (4)

موقف علماء السلف من الذات والصفات:

لم يتجاوز السلف ما أمرهم الله به من الاتباع والوقوف حيث وقف أولهم وحذروا من التجاوز والعدول عن طريقهم وثبت عن الربيع بن سليمان أنه قال: سألت الشافعي رضي الله عنه وعن صفات الله تعالى فقال: حرام على العقول

(1) الحشر: 23.24

(2)

التوبة: 4

(3)

الشورى: 11

(4)

النحل: 17

ص: 107

أن تمثل الله تعالى، وعلى الأوهام أن تحده وعلى الظنون أن تقطع وعلى النفوس أن تنكر، وعلى الضمائر أن تمعن، وعلى الخواطر أن تحيط وعلى العقول أن تعقل إلا ما وصف به نفسه على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم. (1)

ويقول ابن خلدون: " فأما السلف فغلبوا أدلة التنزيه لكثرتها ووضوح دلالتها وعلموا استحالة التشبيه، وقضوا بأن الآيات من عند الله، فآمنوا به لا يتعرضون لمعناها ببحث ولا تأويل وهذا يعنى قول الكثير منهم أقرأوها كما جاءت، أي آمنوا بأنها من عند الله ولا تتعرضا لمعناها ولا تفسيرها لجواز أن تكون ابتلاء". (2)

وأما الرازي في كتابه " أساس التقديس " فقد عقد بابا لتقرير مذهب السلف، ورتبه على فصول أربعة يبين فيها أن كثيرا من الفقهاء والصوفية والمحدثين يجوزون أن يكون في كتاب الله تعالى ما لا سبيل لنا على العلم به، وهو المتشابه الذي لا يعلم ـ تأويله إلا الله واستدلوا على ذلك بالقرآن والحديث المنقول كما بين أن القرآن فيه المحكم والمتشابه وبين معنى كل منهما ثم ذكر الطريق الذي يعرف به كون الآية محكمة أو متشابهة، وبعد كل ذلك يبين حقيقة مذهب السلف في هذا المتشابهات فقال:" أن يجب القطع فيها بان مراد الله فيها شيء غير ظاهرها وبحب تفويض معناها إلى الله تعالى، ولا يجوز الخوض في تفسيرها". (3)

أما الصابوني في كتابه " عقيدة السلف" فقد بين أن السلف كانوا يصفون الله تعالى بكل ما وصف به نفسه وما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم بدون تحريف ولا تأويل فيقول:" أصحاب الحديث حفظ الله أحياءهم، ورحم أمواتهم يشهدون لله تعالى بالوحدانية، وللرسول صلى الله عليه وسلم بالرسالة والنبوة، ويعرفون ربهم عز وجل بصفاته التي نطق بها وحيه وتنزيله، أو شهد بها رسوله صلى الله عليه وسلم على ما وردت به الأخبار الصحاح ونقله العدول الثقات عنه. (4)

(1) الدرر السنية ـ مجلد 2 ص198

(2)

مقدمة ابن خلدون ـ 235 ط ـ مصطفى محمد.

(3)

الرازي ـ أساس التقديس ـ 223، طبعة الكردي.

(4)

أبي عثمان إسماعيل الصابوني ـ ص239 من مجموعة بدار الكتب رقم 813 توحيد

ص: 108

ويستطرد الصابوني في شرح عقيدة السلف في الذات والصفات بأنهم يثبتون له جل شأنه ما أثبته لنفسه في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ولا يعتقدون تشبيبها لصافته وصفات خلقة، فيقولون أنه خلق آدم بيده كما نص سبحانه علي في قوله" {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} (1) .

ولا يحرفون الكلام عن مواضعه بحمل اليدين على النعمتين أو القويتين تحريف المعتزلة الجهمية وكذلك يقولون في جميع الصفات التي ورد بها القرآن الكريم، ووردت بها الاختبار الصحاح من السمع والبصر والعين والوجه والرضا والغضب والقوة والعظمة والإرادة والمشيئة، وغيرها من غير تشبيه بشيء من ذلك بصفات المخلوقين بل ينتهون فيها على ما قاله الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم من غير زيادة عليه ولا إضافة إليه ولا تكييف ولا تحريف ولا تبديل ولا تغيير ولا إزالة للفظ الخبير عما تعرفه العرب وتضع عليه، ويقرون بأن تأويله لا يعلمه إلا الله كما أخبر الله عن الراسخين في العلم انهم يقولون في قوله تعالى " {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} . (2)

وفي مجال توضيح عقيدة السلف بشرح محمد عبده في رسالته:" التوحيد" بأن السلف لم يسألوا الرسول صلى الله عليه وسلم عن معنى شيء من ذلك، أنهم كانوا قد نهوا عن البحث في ذات الله تعالى وصفاته، لعل هذا البحث وارتفاعه عن مستوى عقولهم فقد ورد أن النبي عليه الصلاة والسلام قال:" تفكروا في مخلوقات الله ولا تتفكروا في ذات الله فتهلكوا ". (3)

ولذلك يقول محمد عبده:" فالنهي واستحالة الوصل إلى الإكتناه شاملان لها، فيكفينا من العلم بها أن نعلم أن متصف بها وما وراء ذلك فهو مما استأثر الله بعلمه، ولا يمكن لعقولنا أن تصل إليه، ولهذا لم يأت الكتاب العزيز وما سبقه من الكتب

(1) ص: 75

(2)

الصابوني ـ عقيدة السلف ـ ص239 ـ من مجموعة بدار الكتب رقم 813 ـ توحيد

(3)

محمد عبده ـ رسالة التوحيد ص 48 طبعة المنار 1353 هـ

ص: 109

إلا بتوجيه النظر على المصنوع لينفذ منه إلى عرفة وجود الصانع، وصفاته الكمالية، وأما كيفية الإتصاف فليس من شأننا أن نبحث فيها". (1)

وإلى نفس المعنى يذهب إمام الحرمين فيما ينقله ابن القيم عنه ما نصه: " ذهب السلف إلى الانكفاء عن التأويل، وإجراء الظاهر على مواردها، وتفويض معانيها إلى الرب تعالى". (2)

يتبين من النصوص السابقة ان منهج السلف في موضوع الصفات يتلخص في النقاط الآتية:

(1)

ـ الإيمان بألفاظ القرآن والاستدلال به كما هي من غير تأويل.

(2)

حاصل مذهب السلف أن المتشابه يحب القطع فيه بأم مراد الله منها شيء غير ظواهرها، ثم يجب تفويض معناها إلى الله تعالى، ولا يجوز الخوض في تفسيرها وتأويلها.

(3)

أن السلف رضي الله عنهم يؤمنون بكل ما أخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم إيمانا بعيدا عن التحريف والتعطيل ومن التكييف والتمثيل ويجعلون الكلام في ذات الله وصفاته بابا واحدا فإن الكلام في الصفات فرع من الكلام في الذات فكما ان لله ذاتا لا تشبهها الذوات فله صفات لا تشبهها الصفات، فإثبات السلف للصفات إثبات بلا تشبيه ولا تمثيل ولا تعطيل ولا تكييف وعلى هذا مضى السلف.

أولاً: ابن عبد الوهاب ومشكلة الصفات:

بعد هذا الاستعراض لعقيدة السلف في الذات والصفات وإجماعهم التزام ما جاء في الكتاب والسنة دون تحريف ولا تصحيف تحت أي مسمى من مسميات علم الكلام والتزام المسلم بما جاء والعمل بما أمر، نستأنف الحديث والإيضاح لأول جانب من جوانب الغيبيات وهو الصفات.

نستصحب في بداية الحديث عن ابن عبد الوهاب والصفات نصا له يشرح فيه عقيدته في الغيبيات والتزامه بمنهج وطريق السلف الصالح فيقول:" أشهد

(1) محمد عبده ـ رسالة التوحيد ـ ص50 طبعة المنار 1353هـ

(2)

ابن القيم ـ اعلام الموقعين ـ جـ3 ص465

ص: 110

الله ومن حضر من الملائكة وأشهدكم أني اعتقد ما اعتقدته الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة من الإيمان بالله الإيمان بما وصف به نفسه في كتابه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل، بل اعتقد أن الله سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، فلا أنفي عنه ما وصف به نفسه ولا أحرف الكلم عن مواضعه ولا ألحد في أسمائه وآياته ولا أكيف ولا أمثل صفاته تعالى بصفات خلقه لأنه تعالى لا سمي له ولا كفؤ له، ولا ند له ولا يقاس بخلقه..". (1)

ويسترسل في شرح عقيدته ببيان موقفه من الفرق وما هي أوصاف الفرقة الناجية التي أخبر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ويعتقد أن القرآن كلام منزل غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، وأنه تكلم به حقيقة أنزله على عبده ورسوله وأمينه على وحيه وسفيره بينه وبين خلقه.

ويؤمن بأن الله تعالى فعال لما يريد ولا يكون شيء إلا بإرادته ولا يخرج شيء عن مشيئته ولا شيء في العالم يخرج عن تقديره ولا يصدر إلا عن تدبيره ولا محيد لأحد عن القدر المحدود ولا يتجاوز ما خط له في اللوح المسطور. (2)

ويعتقد الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم مما يكون بعد الموت فيؤمن بفتنة القبر ونعيمه وبإعادة الأرواح إلى الأجساد ويؤمن بالحوض والصراط وبشفاعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

ويؤمن بأن الجنة والنار مخلوقتان وأنهما موجودتان، أنهما لا يفنيان وأن المؤمنين يرون ربهم بأبصارهم يوم القيامة، وبأن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين والمرسلين ولا يصح إيمان عبد حتى يؤمن برسالته ويشهد بنبوته.

ويقر بكرامات الأولياء وما لهم من المكاشفات إلا أنهم لا يستحقون من حق الله تعالى شيئا ولا يطلب منهم ما لا يقدر عليه إلا الله.

(1) الدرر السنية في الأجوبة النجدية ـ كتاب العقائد جـ 1 ص29

(2)

المرجع السابق.

ص: 111

ويرى أن الإيمان قول باللسان وعمل بالأركان واعتقاد بالجنان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية. (1)

هذا تلخيص لأهم ما يعتقد به ابن عبد الوهاب في مسالة الغيبيات ومدى التزامه بمنهج السلف الذي أعلن التمسك به في بداية عرض عقيدته، ولنبدأ بتفصيل القول في أول هذه المسائل وهي الصفات:

يهاجم ابن عبد الوهاب كل منكر للصفات تحت أي شعار أو اتجاه مثل الذين ذهبوا على تعطيل الصفات بحجة تنزيه الله عن المشابهة بينه وبين المخلوقات يندد بقولهم هذا فيقول:" فنكتة المسألة أن المتكلمين يقولون التوحيد لا يتم إلا بإنكار الصفات فقال أهل السنة لا يتم التوحيد إلا بإثبات الصفات وتوحيد كم هو التعطيل ولهذا آل هذا القول ببعضهم على إنكار الرب تبارك وتعالى كما هو مذهب ابن عربي وابن الفارض وفئات من الناس لا يحصيهم إلا الله". (2)

فابن عبد الوهاب يهاجم المتكلمين والمتصوفة في إنكارهم للصفات أو بعضها، بل أنه يقسو على المنكرين للصفات ويعتبرهم أسوأ من الكفار. فالمعطل عنده شر من المشرك:"وأما توحيد الصفات فلا يستقيم توحيد الربوبية ولا توحيد الألوهية إلا بالإقرار بالصفات، لكن الكفار اعقل ممن أنكر

الصفات" (3) .

ويتعجب من المتكلمين الذي يقرون أمورا لله تعالى ثم ينكرون الصفات أو بعضها، " يجوزون على الله أن يأمر بكل شيء ويفعل كل شيء وينزهونه عن حقائق أسمائه وصفاته ولا يتم التوحيد إلا به"(4) .

ويعتبر مسلكهم هذا من إضلال الشيطان لهم: " استحوذ عليهم

(1) الدرر السنية ـ جـ 1 ص 29-30

(2)

الدرر السنية ـ جـ 1ص70

(3)

الدرر السنية ـ كتاب العقائد ـ جـ 1 ص70

(4)

الدرر السنية ـ كتاب العقائد ـ جـ 1 ص102

ص: 112

الشيطان فظنوا أن التوحيد لا يأتي إلا بنفي الصفات فنفوها وسموا من أثبتها مجسماً". (1)

إذن فأول شيء يذهب إليه ابن عبد الوهاب هو التزام السلف في إثبات الصفات ولا يتم التوحيد بنوعيه الألوهية والروبية إلا بإثبات الصفات وبرفض ما عدا ذلك، ويؤكد في جميع كتاباته أن التوحيد لا يتم إلا بالتزام اثبات الصفات جميعها التي أخبر الله عنها في كتابه فيقول:

" إن التوحيد لا يتم إلا بإثبات الصفات وأن معنى الإله هو المعبود فإذا كان هو سبحانه متفردا به عن جميع المخلوقات وكان هذا وصفا صحيحا لم يكذب الواصف به فهذا يدل على الصفات فيدل على العلم العظيم والقدرة العظيمة، وهاتان الصفتان أصل جميع الصفات كما قال تعالى:{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} . (2)

نلخص من النصوص السابقة:

1-

رفض ابن عبد الوهاب مبدأ المتكلمين والوصفية في تعطيل الصفات تحت أي مسمى أو تعليل أو حجة اثبات التوحيد.

2-

التزام ابن عبد الوهاب بمذهب السلف في إثبات الصفات.

3-

إثبات الصفات إثبات لكمال الألوهية وأنه لو لم تدل على أوصاف لم يجز أن يخبر عنه ويوصف بها قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} ، فالقوي من أسمائه وقد أخذ عنه بأنه صاحب القوة، فلو لم تدل القوة على صفة لم يخبر عنه بأنه صاحب القوة، وقال:{فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً} ،ومن أسمائه العزيز، وما إلى صفات من العلم والقدرة ومن أسمائه العلم والقدرة فلولا دلالتها على صفة العلم والقدرة لم يقل (بعلمك) ولا (بقدرتك) ، أنه لو لم تكن أسماؤه مشتملة على معان وصفات لم يسغ أن يخبر عنه بأفعالها.

(1) الدرر السنية ـ كتاب العقائد ـ جـ 1 ص70

(2)

المرجع السابق.

ص: 113

4-

أنه لو لم تكن أسماؤه ذوات معان وأوصاف لكانت جامدة كالأعلام المحضة.

5-

يثبت جميع الصفات ويندد بمن يثبت جانبا منها ويرفض الآخر فيقول: (ويثبتون ما أثبته الرسول صلى الله عليه وسلم من السع والبصر والحياة والقدرة والإرادة والعلم والكلام، إلى آخره وهذا أيضا من أعجب جهله، وذلك أن هذا مذهب طائفة من المبتدعة) يثبتون الصفات السبع وينفون ما عداها، ولوكان في كتاب الله، ويؤولونه وأما أهل السنة فكل ما جاء عن الله ورسوله أثبتوه، وذلك صفات كثيرة (1) "

6-

التزام ابن عبد الوهاب بأسلوب وطريق السلف في إثبات الصفات لا ينفي عنه سبحانه ما وصف به نفسه ولا يحرف الكلم عن مواضعه ولا يلحد في أسمائه ولا في آياته ولا يكيف ولا يمثل إنما يتبع نهج الفرقة الناجية التي يوضح أوصافها فيقول (والفرقة الناجية وسط في باب صفاته تبارك وتعالى بين أهل التعطيل والجهمية وبين أهل التمثيل والمشبهة وهم وسط في باب أفعاله تعالى بين القدرية والجبرية وهم وسط في باب وعبد الله بين المرجئة والوعيدية وهم وسط في باب الإيمان والدين بين الحورية والمعتزلة وبين المرجئة والجهمية وهم وسط في باب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الروافض والخوارج)(2) .

والحق أن ابن عبد الوهاب التزم ما قال به من تمسكه بالكتاب والسنة واقتفاء الأثر الصالح قولا وعملا ولم نجد ما يخالف ما صرح به في تحديد أصول عقيدته، فأثبت الصفات كما جاءت بها النصوص من غير تحديد للكيف في أي صورة من الصور من تمثيل أو تكييف أو تأويل وتلقى أوصاف الله تعالى من كتبه ورسله بلا زيادة ولا نقصان مع رفضه إنزال هذه الصفات على مقتض العقل مهما بلغ هذا العقل من علو وتقدم وآمن بأن كل صفة معلومة بإثباتها مجهولة بكيفها والكافة مطالبون بالإثبات والكافة مطالبون بعدم الخوص في الكيف.

ونسوق لابن تيمية في هذا المضمار حيث نجد فيه مصداقا لما ذهب إليه

(1) ابن غنام ـ تاريخ نجد ـ رسالة أبن عبد الوهاب الرابعة ـ 263-264

(2)

ابن بشر ـ عنوان المجد في تاريخ نجد ـ جـ 1 ص67 ـ68 ط بغداد.

ص: 114

ابن عبد الوهاب. (وأن المعطلة والممثلة كلاهما عطل ومثل فالمعطل لم يفهم الصفة إلا على مقتضى صفات المخلوقين فنفاها والممثل اثبت الصفات على مقتضى المخلوقين فعطل ما يستحقه تعالى من الصفات والأسماء اللائقة بجلاله

وأن مذهب السلف بين التعطيل والتمثيل) (1) .

الاستواء:

ومن بين القضايا التي أثارها علم الكلام وتعددت فيه أقوال المشتغلين به تبرز مشكلة الاستواء بما يرتبط به من معنى الجهة والحركة والمكان، وقد صحب هذه الضجة موقف أهل السنة الذين تمسكوا بكل ما ورد من النصوص واثبات جميع الصفات كما جاء في القرآن الكريم وعلى لسان نبيه الأمين، أثبتوها عن فقه وعند إدراك بأنه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} ، (2) وأدركوا تماما أنهم {َلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} (3) .

فقد ورد في الذكر الحكيم نصوص تذكر عرض الله واستواءه عليه كقوله عز شأنه:} ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ { (4) ، وقوله: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء} (5) ِ، وقوله تعالى:{إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْش} (6) .

وقال في سورة يونس: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} (7)، وقال في سورة الرعد:{اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} (8)، وقال في سورة طه:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (9) وقال في سورة الفرقان: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى

(1) فتاوي ابن تيمية ـ الأسماء والصفات ـ 5/27.

(2)

الشورى: 11

(3)

ط: 110

(4)

طه: 5

(5)

هود: 8

(6)

الاعراف: 54

(7)

يونس: 3

(8)

الرعد: 2

(9)

طه: 5

ص: 115

الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ} (1)،وقال في سورة السجدة:{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} (2) وفي سورة الحديد: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْش} . (3) في هذه الآيات إثبات صفة الاستواء لله وهي من الصفات الفعلية، ومعنى الإيمان بالاستواء: الاعتقاد الجازم بأن الله فوق سمواته مستو على عرشه استواء يليق بجلاله وعظمته على خلقه بائن منهم وعلمه محيط بكل شيء ومعنى الاستواء العلو والارتفاع والاستقرار والصمود (4) .

وابن عبد الوهاب يثبت العلو والاستواء بطريقة السلف وعلى منهج إمام دار الهجرة مالك ابن أنس حينما سأل رجل عن الاستواء فقال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة، فأثبت مالك رحمه الله الاستواء، ونفى علم الكيفية وكذلك أجمع أهل السنة والجماعة على ذلك ولم يقل أحد منهم: إن الله ليس في السماء، ولا انه ليس على العرش، ولا أنه لا تجوز عليه الإشارة الحسية.

ويستشهد ابن عبد الوهاب على علو الله بحديث ابن مسعود قال: بين السماء الدنيا والتي تليها خمسمائة عام، وبين كل سماء وسماء خمسمائة عام، وبين السماء السابعة والكرسي خمسمائة عام، وبين الكرسي والماء خمسمائة عام والعرش فوق الماء والله فوق العرش، لا يخفى عليه شيء من أعمالكم، أخرجه ابن مهدي عن حماد بن سلمة بن عاصر عن زر عن عبد الله، ورواه بنحوه المسعودي عن عاصم عن أبي وائل عند عبد الله قاله الحافظ الذهبي (5) .

واستشهاد ابن عبد الوهاب بهذا الحديث ليدل على مدى تمسكه

(1) الفرقان: 59

(2)

السجدة: 4.

(3)

الحديد: 4.

(4)

مجموعة التوحيد 341-345، الكواشف الجلية عن معاني الواسطية ص195، صدر الدين

(5)

أبي العز الحنفي ـ شرح العقيدة الطماوية ـ 223 طبعة الرياض.

مجموعة التوحيد ـ كتاب التوحيد ـ 212.

ص: 116

بالنصوص واثبات الاستواء لله على منهج أهل السنة الذين أثبتوا جميع أسماء الرب وصفاته من الإيمان باللفظ وإثبات الحقيقة ونفي علم الكيفية، وفي هذا المعنى تدور تفاسير السلف، قال الباري في صحيحه قال مجاهد: استوى على العرش (علا) وقال ابن راهويه سمعت غير واحد من المفسرين يقولون (الرحمن على العرش استوى) أي ارتفع وقال محمد بن جرير في قوله (الرحمن على العرش استوى) أي علا وارتفع (1) .

فابن عبد الوهاب برفض تعريف الاستواء (2) بمعنى الاستيلاء وتمسك بمنهج أهل السنة واثبت الاستواء كما ورد في نصوص الذكر الحكيم وما جاء في السنة وذهب إليه المفسرون والعلماء ويتمسك بقوله تعالى {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} (3) وبقوله: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} (4) .

(1) الكواشف الجلية عن معاني الواسطية 195-196.

(1)

ويقول القرطبي: الاستواء في كلام العرب هو العلو والاستقرار ويذهب إلى نفس التفسير ابن الجوزي في كتابه " زاد الميسر" ما قاله ابن الاعرابي أن العرب لا تعرف استوى بمعنى استولى ومن قال ذلك فقد أعظم وإنما يقول استولى فلان على كذا إذا كان بعيدا عنه غير متمكن منه ثم تمكن منه، والله عز وجل لم يزل مستوليا على ألأشياء ويذهب إلى ذلك ابن فارس اللغوي. ويندد ابن تيمية بالفريق الذي يفسر الاستواء بمعنى الاستيلاء لأنه لا يقال استولى على الشيء إلا لمن له مضاد فيقال لمن غلب المضادين استولى عليه والله تعالى لا مضاد له، والذين أولوا الاستواء بالاستيلاء هم متأخرو النجاة ممن سلك طريق الجهمية والمعتزلة والذين قالوا ذلك لم يقولوه نقلا وإنما قالوه استنباطا وحملا منهم للفظة استوى على استولى، واستدلوا بقول الشاعر:

قد استوى بشر على العراق

من غير سيف أو دم مهراق

وهذا البيت محرف وإنما هو هكذا:

" قد استولى بشر على العراق"

أما ابن القيم فيقول في موضوع الاستواء كلام جيد في كتابه " مدارج السالكين،" ما نصه:" إن الربوبية المحضة تقتضي مباينة الرب للعالم بالذات، كما باينهم بالربوبية، والصفات والأفعال فمن لم يثبت ربا مباينا للعالم فما أثبت ربا: فإنه إذا نفى المباينة لزمه أحد أمرين لزوما لا انفكاك له عنه البتة، أما أن يكون نفس العالم، وحينئذ يصح قوله، فإن العالم لا يباين ذاته ونفسه ومن ههنا دخل أصل الوحدة وكانوا معطلة أولا، واتحادية ثانيا، وأما أن يقول ما ثم رب " يكون مباينا ولا محايثا، ولا داخلا ولا خارجا، كما قلته الدهرية المعطلة للصانع، وهذا نفي للصانع مطلقاً"

(3)

فاطر: 10

(4)

الأنعام: 18

ص: 117

وهناك العديد من الآيات التي يستشهد بها في إثبات علو الله ويصرح بتمسكه بمذهب السلف فيقول (وذلك مذهب الإمام أحمد وغيره من السلف أنهم لا يتكلمون في هذا النوع إلا بما تكلم الله به ورسوله فما أثبته الله لنفسه أو أثبته رسوله ـ أثبتوه مثل الفوقية، الاستواء، والكلام والمجيء وغير ذلكن وما نفاه الله عن نفسه ونفاه عنه رسوله نفوه، مثل: المثل والند والسمي وغير ذلك وأما ما لا يوجد عن الله ورسوله إثباته ونفيه، مثل: الجوهر، الجسم والعرض والجهة وغير ذلك ـ لا يثبتونه ولا ينفونه، فمن نقاه فهو عند أحمد والسلف مبتدع، ومن أثبته مثل هشام بن الحكم وغيره فهو عندهم مبتدع، والواجب عندهم السكوت عن هذا النوع اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه" (1) .

وفي موضع آخر في هذه الرسالة يستشهد بقول أبي الوفاء بن عقيل الذي قال (أنا أقطع أن أبابكر وعمر ماتا ما عرفا الجوهر والعرض فإن رأيت ان طريقة ابي على الجبائي وأبي هاشم خير لك من طريقة أبي بكر وعمر فبئس ما رأيت)(2) .

التصريح برفع الأيدي على الله تعالى كما ثبت في الصحيح عن جابر بن عبد الله ان النبي صلى الله عليه وسلم جعل يقول " ألا هل بلغت" فيقولون نعم فيرفع اصبعه إلى السماء وينكبها إليهم ويقول " اللهم أشهد"(3) .

ومن الأدلة أيضا على علوه في عرشه إخباره صلى الله عليه وسلم ان تردد بين موسى عليه السلام وبين ربه ليلة المعراج بسبب تخفيف الصلاة.

ونسوق هذا النص في ختام الأدلة والبراهين التي استشهد به ابن عبد الوهاب في إثبات صفة الاستواء على النحو الذي آمن به أهل السنة فيقول:" وذلك ان إنكار (الأين) من عقائد أهل الباطل، وأهل السنة يثبتونه اتباعا لرسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح ان قال للجارية أين الله (4) ؟

(1) ابن غنام ـ تاريخ نجد ـ رسالة ابن عبد الوهاب الرابعة ص: 261

(2)

نفس المرجع السابق.

(3)

الدرر السنية في الأجوبة النجدية ـ مجلد 2 ت من 202

(4)

ابن غنام ـ تاريخ نجد ـ رسالة ابن عبد الوهاب لابن سحيم 263-264

ص: 118

ومما هو جدير بالذكر أن ابن الجوزي رفض التعويل على هذا الحديث بقول أنه ضعيف (1) .

والذي يعيننا هنا هو تعويله على الأدلة القرآنية وهي كثيرة كما أوردناها في بداية الحديث عن الاستواء، أضف إلى هذا ان ابن عبد الوهاب رفض تأويل النصوص القرآنية كما فعل ابن الجوزي الذي أقبل على تأويل الاستواء بمعنى الاستيلاء.

ويهاجم ابن عبد الوهاب المتكلمين على موقفهم من إنكار الاستواء واعتبر الفلاسفة اعقل منهم في هذا الموقف" حتى أن أئمة المتكلمين لما ردوا على الفلاسفة تأويليهم في آيات الأمر والنهي مثل قولهم: المراد بالصيام كتمان أسرارنا والمراد بالحج زيارة مشايخنا والمراد بجبريل العقل الفعال، وغير ذلك من إفكهم. ردوا عليهم الجواب بأن هذا التفسير خلاف المعروف بالضرورة من دين الإسلام. فقال لهم الفلاسفة: أنتم جحدتم علو الله في خلقه واستوائه على عرشه، مع أنه مذكور في الكتب على ألسنة الرسل وقد أجمع المسلمون كلهم وغيرهم من أهل الملل، فكيف يكون تأويلنا تحريفا وتأويلكم صحيحاً؟ فلم يقدر أحد من المتكلمين أن يجيب عن هذا الإيراد"(2) .

نوجز موقف ابن عبد الوهاب في مسألة الاستواء إلى:

1.

إثبات جميع الصفات التي ورد به الشرع مع فهم معانيها الحقيقية دون تأويل أو تعطيل ولا تشبيه ولا تمثيل. بعابرة أخرى ينفي عنه مشابهة المخلوقات فيجمع بين الإثبات ونفي التشبيه وبين التنزيه وعدم التعطيل.

2.

إن استواءه على عرشه من لوازم علوه ونزوله كل ليلة إلى سماء الدنيا في نصف الليل الثاني من لوازم رحمته وربوبيته.

3.

رفض كل زعم أو تأويل لمسألة الاستواء بمعنى الاستيلاء او القهر.

(1) رسالتنا في الماجستير ـ ابن الجوزي آراؤه الكلامية والأخلاقية ـ ص155

(2)

ابن غنام ـ تاريخ نجد ـ ص 227

ص: 119

4.

اعتبر الفلاسفة في إثباتهم للاستواء أعقل من المتكلمين الذين أنكروا صفة الاستواء أو ذهبوا إلى تأويلها.

5.

هاجم بشدة كل من أنكر أو نفى أي صفة وردت في الذكر الحكيم أو في سنة رسوله.

6.

نستطيع أن نقول أن ابن عبد الوهاب لم يسهب ويفصل في توحيد الألوهية ويرجع ذلك إلى أمرين:

الأول منهما: أن مجتمعه والعصر الذي وجد فيه كان عصر تأخر وبعد عن الاشتغال بعلم الكلام ولم تشغل مشكلة الصفات بال إلا القلة القليلة جدا من العلماء إذ وجدوا.

الأمر الثاني: كراهية ابن عبد الوهاب كصاحب مذهب سلفي الخوض في مسألة الصفات والعمل بعلم الكلام للأسباب التي أوردناها في أول الباب واقتفى أثر السلف فأقر ما أقروا وترك ما تركوا والحقيقة أنه التزم بهذا الأمر في جميع جوانب الغيبيات.

ص: 120