الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الجبرتي
قال هذا المؤرخ في أول حوادث 1277هـ نقلاً عن بعض كبار رجال جيش محمد علي الذين قاتلوا "الوهابية" في الحجاز، ولقد قال لي بعضهم من الذين يدعون الصلاح والتورع:
أين لنا بالنصر وأكثر عساكرنا على غير الله، ومنهم لا يتدين بدين ولا ينتحل مذهباً، وصحبتنا صناديق المسكرات، ولا يسمع في عرصاتنا أذان ولا تقام فيه فريضة، ولا يخطر في بالهم ولا خاطرهم شعائر الدين.
والقوم –يعني الوهابية- إذا دخل الوقت أذن المؤذنون وينتظمون صفوفاً خلف إمام واحد بخشوع وخضوع
…
وعسكرنا يتعجبون من ذلك، لأنهم لم يسمعوا به فضلاً عن رؤيته.
وقال الجبرتي في "تاريخه" الشّهير في حوادث 22 شوال "8فبراير شباط 1809م":
شاع بين الناس أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب بمعاونة أنصاره من السعوديين منع الناس في الشام ومصر عن الحج.
والحال ليس كذلك، فإنه لم يمنع أحداً يأتي إلى الحج على الطريقة المشروعة وإنما يمنع من يأتي بخلاف ذلك من البدع التي لا يجيزها الشرع: مثل المحمل والطبل والزمر وحمل الأسلحة. وقد وصل طائفة من الحجاج المغاربة، وحجوا ورجعوا في هذا العام وما قبله، ولم يتعرض لهم أحد بشيء.
ولما امتنعت قوافل الحج المصري والشامي وانقطع عن أهل المدينة ومكة ما كان يصل إليهم من الصدقات والعلائف والصّرر التي كانوا يتعيشون منها.. خرجوا من أوطانهم بأولادهم ونسائهم. ولم يمكث إلاّ الذي ليس له إيرادٌ من ذلك. وأتوا
إلى مصر والشام ومنهم من ذهب إلى اسلامبول يشتكون من الوهابي، ويستغيثون بالدولة في خلاص الحرمين لتعود لهم الحالة التي كانوا عليها من إجراء الأرزاق واتصال الصلات، والنيابات والخدم في الوظائف التي بأسماء الدولة كالفراشة والكناسة ونحو ذلك، ويذكرون أن الوهابي استولى على ما كان بالحجرة الشريفة من الذخائر والجواهر. نقلها وأخذها فيرون أنّ أخذه لذلك من الكبائر العظام.
وهذه الأشياء أرسلها ووضعها سخفاء العقول من الأغنياء والملوك والسلاطين والأعاجم وغيرهم. إما حرصاً على الدنيا وكراهة أن يأخذها من يأتي بعدهم. أو لنوائب الزمان. فتكون مدخرة ومحفوظة لوقت الاحتياج إليها. فيستعان بها على الجهاد. ودفع الأعداء. فلما تقادمت عليها الأزمنة، وتوالت عليها السنون والأعوام الكثيرة –وهي في الزيادة- رصدت معنى لا حقيقة، وارتسم في الأذهان حرمة تناولها، وأنّها صارت مالاً للنبي صلى الله عليه وسلم فلا يجوز لأحدٍ أخذها ولا إنفاقها والنبي عليه الصلاة والسلام منزه عن ذلك ولم يدخر شيئاً من عرض الدنيا في حياته وقد أعطاه الله الشرف الأعلى. وهو الدعوة إلى الله تعالى والنبوة والكتاب. واختار أن يكون نبياً عبداً، ولم يختر أن يكون نبياً ملكاً وثبت في الصحيحين وغيرهما أنّه قال:"اللهم اجعل رزق آل محمد قوتاً".
وروى الترمذي بسنده عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه. عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "عرض عليّ ربي ليجعل لي بطحاء مكّة ذهباً. قلت لا يارب. ولكن أشبع يوماً وأجوع يوماً – أو قال: ثلاثاً. أو نحو ذلك فإذا جعت تضرعت إليك وذكرتك وإذا شبعت شكرتك وحمدتك".
ثم إن كانوا وضعوا هذه الذّخائر والجواهر صدقة على الرسول. ومحبّة فيه. فهو فاسد لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنّ الصدقة لا تنبغي لآل محمد.. إنما هي أوساخ الناس" ومنع بني هاشم من تناول الصدقة وحرمها عليهم..
والمراد الانتفاع في حال الحياة لا بعدها فإن المال أوجده المولى سبحانه وتعالى من أمور الدنيا لا من أمور الآخرة قال تعالى: {أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ} وهو من جملة السبعة التي ذكرها الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز في قوله تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} . فهذه السبعة بها تكون الخبائث والقبائح وليست هي في نفسها أموراً مذمومة – بل قد تكون معينة على الآخرة إذا صرفت في محلها.
وعن مطرف عن أبيه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} ، قال:"يقول ابن آدم مالي مالي. فهل لك يا بن آدم من مالك إلاّ ما أملكت فأفنيت، أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت" إلى غير ذلك.
ومحبة الرسول بتصديقه واتباع شريعته وسنّته لا بمخالفة أوامره، وكنز المال بحجرته وحرمان مستحقيه من الفقراء والمساكين، وباقي الأصناف الثمانية.
وإن قال المدّخر: اكنزها لنوائب الزمان ليستعان بها على مجاهدة الكفار والمشركين عند الحاجة إليها قلنا: قد رأينا شدة احتياج ملوك زماننا، واضطرارهم في مصالحات المتغلبين عليهم من قادة الإفرنج وخلو خزائنهم من الأموال التي أفنوها بسوء تدبيرهم وتفاخرهم ورفاهيتهم.
فيصالحون المتغلبين بالمقادير العظيمة بكفالة أحد الفرق من الإفرنج المسالمين لهم واحتالوا على تحصيل المال من رعاياهم بزيادة المكوس والمصادرات والطلبات. والاستيلاء على الأموال بغير الحقّ. حتى أفقروا تجارتهم ورعاياهم. ولم يأخذوا من هذه المدّخرات شيئاً.. بل ربما كان عندهم أو عند خونداتهم جوهر نفيس من بقايا المدخرات فيرسلونه هدية إلى الحجرة، ولا ينتفعون به في مهماتهم، فضلاً عن إعطائه لمستحقّه من المحتاجين، وإذا صار في ذلك المكان لا ينتفع به أحد.. إلاّ ما يختلسه العبيد المخصيون الذين يقال لهم أغوات الحرم.