الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
خاتمة المطاف
إن هذه الخاتمة كان من حقها أن تكون مقدمة، ولكني آثرت أن تكون كذلك لهدفين:
الأول: كيلا أنفّر القراء الذين يحملون فكرة خاطئة عن الإمام محمد بن عبد الوهاب، من مطالعة هذه الرسالة، فإن أكثر الناس أعداء لما جهلوا.
الثاني: التمهيد لجعل هؤلاء القراء على استعداد لاستقبال آراء العلماء والأدباء الحياديين، دون تأثير خارجي، سواءً كان إيجابياً أو سلبياً.
ولا شك أن المنصفين قد أصيبوا بحيرة بين ما طالعوه في هذه الرسالة، وبين ما كانوا سمعوه من كثير من شيوخ السوء عن هذا الإمام العظيم الذي ملأ الدنيا وشغل الناس، فحطم الوثنيات وأضاء السبيل للمسلمين لمعرفة التوحيد الصحيح، وأنقذهم من الشرك الذي كان يفتك بعقيدتهم ومن الوثنية التي كانت تختفي وراء شعار الدين، والدين منها براء، وما أرهب ما قاله الدكتور أحمد أمين:
"
…
إذاً فما بال العالم الإسلامي اليوم يعدل عن هذا التوحيد المطلق الخالص من كل شائبة إلى أن يشرك مع الله كثيراً من خلقه. فهذه الأولياء يحج إليها وتقدم لها النذور ويعتقد أنها قادرة على النفع والضرّ، وهذه الأضرحة التي لا عداد لها تقام في جميع أقطاره يشد الناس إليها رحالهم ويتمسحون بها ويتذللون لها ويطلبون جلب الخير لهم ودفع الشرّ عنهم. ففي كلّ بلدة ولي أو أولياء. وفي كل بلدة ضريح أو أضرحة تشترك مع الله تعالى في تصريف الأمور، ودفع الأذى وجلب الخير وكأن الله سلطان من سلاطين الدنيا الغاشمين يتقرب إليه بذوي الجاه وأهل الزلفى لديه. ويرجون في إفساد القوانين وإبطال العدل. أليس هذا كما كان يقول مشركو العرب {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} وقولهم {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} بل واأسفاه لم يكتف المسلمون بذلك. بل أشركوا مع الله حتى النبات والجماد فهؤلاء أهل بلدة "منفوحة"
باليمامة يعتقدون في نخلة هناك، أن لها قدرة عجيبة من قصدها من العرائس تزوجت لعامها. وهذا الغار في الدرعية يحج إليه الناس للتبرك وفي كلّ بلدةٍ من البلاد الإسلاميّة مثل هذا، ففي مصر شجرة الحنفي. ونعل الكلشني. وبوابه المتولي، وفي كل قطر حجر وشجر فكيف يخلص التوحيد من هذه العقائد.
إنها تصد الناس عن الله الواحد وتشرك معه غيره وتسيء إلى النفوس وتجعلها ذليلة وضيعة مخرفة وتجردها من فكرة التوحيد وتفقدها التسامي1.
وبمناسبة الكلام على عقيدة التوحيد ليسمح لي القارئ أن أحدثه عن رأي طريف يوضح فوائدها في الدنيا قبل الآخرة، ويشرح أخطار الشرك من نواحي العلم والتقدم، قال عالم انكليزي كبير وهو المؤرخ الحضاري "أرنولد تونبي":
"إن القضية الكبرى في سبيل تسخير طاقات الطبيعة، كانت عقيدة الشرك الذي ساد العقل البشري لزمن طويل والذي حول طاقات الطبيعة إلى آلهة وكان المشركون يقدسون هذه الطاقات ويعبدونها بدلاً من تسخيرها ، وعقيدة التوحيد هي التي جعلت الإنسان ينظر إلى هذه الطاقات بأنها مخلوقات مثله ومن ثم بدأ يفكر في تسخيرها"2.
وعلاوة على ما تقدم، فإن الشرك يمسخ الأدمغة الإنسانية ويجعلها مشتتة، ويذل النفوس بالاستغاثة بعباد مثلها قد ماتت، فيتمرغ في عتبات قبورها ويخشى منها ما يخشى من رب العالمين!.
1 نقلاً عن كتاب "زعماء الإصلاح" في بحث مستفيض عن الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى وقد قمت منذ 1380هـ1960م بتلخيص هذا البحث في نشرة بعدما قدمت لها بكلمة مثيرة عن هذه الدعوة، ووزعت منها بضعة آلاف نسخة.
2 عن كتاب: "نظام وضرورة لحضارة العصر".
أجل إن المنصفين من القراء قد أصيبوا بدهشة من هذا التناقض، وخاصة أنهم تحققوا أن ما جاء به هذا الإمام العظيم لم يكن أمراً جديداً، إنما هو التوحيد الخالص الذي أنزله الله تعالى ودعا إليه الرسول محمد صلى الله عليه وسلم العودة بالإسلام إلى نقاوته الأولى بعدما شوهت جماله الوثنية والبدع والخرافات.
ولكن دهشتهم تزول، إذا علموا أن هؤلاء المبغضين للإمام قد أصيبوا بصراع وذهول من جراء ضياع امتيازاتهم التي كانوا يفرضونها على العامة والمغفلين بصفتهم سدنة أصحاب الرمم المقبورين الذين كانوا يروجون الإشاعات الكاذبة عن قدرتهم على الشفاء وقضاء الحاجات وإجابة الدعاء من دون الله.
يضاف إلى ذلك مؤامرة المستعمرين ضد دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب خشية يقظة العمالقة المسلمين إذا تمسكوا بعقيدة التوحيد، وأضاءت بها نفوسهم فيعيدون سيرتهم الأولى يوم كانوا في عصر الإسلام الأول، فانطلقوا في آفاق الفتح والعلم حتى غدوا خير أمة أخرجت للناس.
وقد بشر رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه بذلك إذا هم تمسكوا بالعقيدة الصحيحة فقال لهم لما عرضوا عليه الملك والرئاسة: "كلمة واحدة تعطونيها تدين لكم بها العرب، وتخضع لكم العجم، تقولون: لا إله إلا الله وتخلعون ما تعبدون من دونه" رواه الترمذي والحاكم وسنده جيّد.
وهذا الحديث العظيم إن دل على أمر فإنما يدل على أن دعوة الإسلام ليست دعوة توحيد وجنة فحسب، إنما هي دعوة قوة ودولة وفتح ومجد
…
وقد تحقق كل ما وعد به هذا الرسول صلى الله عليه وسلم، فكانت هذه الفتوحات من المحيط إلى المحيط في أقل من قرن من الزمن، مما أدهش العلماء الغربيين حتى أطلقوا عليها اسم "المعجزة الإسلامية" لأنهم لم يستطيعوا أن يتصوروا
أن فئة قليلة وفقيرة من العدد والأعتده، تستطيع القضاء على امبراطوريتي روما وفارس، وهما كالولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي في العصر الحديث وذلك لأن علومهم المادية لا تستطيع أن تتصور تأييد الله سبحانه ومعونته للمؤمنين.
من أجل ذلك يسعى هؤلاء المستعمرون لإبعاد المسلمين عن الإسلام الصحيح بعقيدة التوحيد الجبارة، بمختلف الأساليب، وخاصة لما غلبوا بكثرتهم الساحقة في الحروب الصليبية ومزقوا شر ممزق.
ومالنا نذهب بعيداً في البرهنة على قوة العقيدة الصحيحة الإسلامية، وسرعة تأثيرها بالاستدلال بالتاريخ قديماً، وها هي ذي أمامنا ظاهرة جديدة في العصر الحديث، هي الدعوة التي نتحدث عنها، وكيف أن الله العظيم نصر الحكومة السعودية الأولى لما تبنّت التوحيد وعزمت على الدفاع عنه، وذلك بتوجيه الإمام محمد بن عبد الوهاب، حتى تم لها النصر المبين.
وإن ننس فلا ننسى ثورة بطل الجزيرة العربية في هذا العصر أيضاً الذي عاهد الله سبحانه على تحقيق عقيدة التوحيد، فنصره أعجب انتصار، وأعاد الأعجوبة الأولى واستطاع بأربعين رجلاً وسبعة عزّل، إعادة فتح هذه الجزيرة وتحقيق المملكة العربية السعودية التي نأمل أن تظل قلعة منيعة لحماية الإسلام ونشره، مثابرة على تبني هذه الدعوة حتى يستمر لها البقاء والنصر والتقدم الحقيقي، فلا تصغي إلى بعض دعاة التطور الزائف.
ولا شك أن القارئ بعد مطالعته ما تقدم، تأكد من صحة دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب وضرورة انتشارها والدفاع عنها لأنها دعوة الإسلام الصحيح، فعلى المخلصين من الدعاة التعاون معاً لإيجاد السبل والوسائل التي تحقق ذلك، فإن المتقاعس عن ذلك كالمتقاعس عن الجهاد في سبيل الله!!.
والآن، وقبل أن أبدأ باقتراح لنشر هذه الدعوة بين الناس، أذكر على سبيل التندر والعبرة، أمثلة قليلة من مئات الأمثلة على مبلغ دسائس المستعمرين ودعاة
السوء من المتعالين، لمحاربتها بتضليل العامة والمغفلين، ليتنكروا لها ويحاربوا دعاتها، وذلك لأثير غيرة المخلصين من الدعاة، وأشحذ هممهم، لينتبهوا للمؤامرات ويشمروا عن ساعد الجدّ والعزيمة ويتسابقوا لنصرة دعوة الله سبحانه.
وكيلا يظن بعضهم أن قصة المجوسي المرابي التالية من نسج الخيال، لغرابتها وفظاعتها، أقول ذكرها الأستاذان المودودي وأبو الحسن الندوي في بعض كتبهما وذكر الأمثلة الأخرى الأديب علي الطنطاوي في كتابه "الشيخ محمد بن عبد الوهاب" تحت عنوان مضحكات ومبكيات، وهي حوادث تفتت الأكباد وتبعث على الأسى والحسرة والبكاء، لما وصلت إليه دعوة التوحيد من الغربة!!.
مضحكات ومبكيات:
"ولقد أخبرني الأستاذ أبو الأعلى المودودي أنه كان في بلدة في "الهند" مراب مجوسي يستقرض منه بعض جهلة المسلمين بالربا الفاحش، وكان له على واحد منهم دين عجز عن وفائه، فرفع المرابي الأمر إلى القاضي، فجاء المسلم المسجد فقام فيه فقال:
-إن فلاناً "المرابي" قد صار وهابياً!!.
فقاطعه المسلمون حتى كاد يفلس، فتحرى عن السبب، فلما عرفه رجع إلى المدين فأسقط عنه الدين وترضاه أن ينفي عنه تهمة الوهابية.
فعاد المسلم إلى المسجد فقال:
إن فلاناً قد تاب من الوهابية ورجع إلى دينه –فرجعوا على معاملته-.
ولقد ذكرت في ترجمة أحمد بن عرفان الشهيد، خبر الدولة الإسلامية التي أقامها في شمالي الهند، وحارب السيخ وكسرهم، وعجز عنها الإنكليز، فلم يجدوا وسيلة إلى القضاء عليها، إلا اتهامها عند شيوخ القبائل الأفغانية، بأنها دولة وهابية، فاستحلوا بذلك قتالها وقضوا عليها!!.
وأخبرني الشيخ فوزان –سفير السعودية في الهند- لما قابلته في بومباي أن المنبوذين في الهند، وهم زهاء أربعين مليوناً، قبلوا الدخول في الإسلام من نحو نصف قرن وأقبلوا عليه أفواجاً، فما كان من الإنكليز إلا أن عمدوا إلى سلاحهم القديم وهو التهمة بالوهابية، فأثاروا بذلك العامة، وأفهموهم أن هؤلاء إن أسلموا صاروا وهابيين، فعقدت لهم امتحانات، يسألونهم فيها عن الوهابية، ورأيهم فيها، وفي مسائلها.
فكانت العاقبة أن انصرفوا عن الإسلام وآثروا البقاء على ما هم فيه، وقد قرأ القراء في كتابي عن أندونيسيا خبر وصول موجة الوهابية إلى أواسط جزيرة جاوا وأنه ما فرق المسلمين إلا كتب يوسف النبهاني1".
لا شك أن القارئ المنصف الغيور على التوحيد قد استفظع هذه الأخبار وحق له أن يستفظعها، ولكن هناك أمراً آخر قد لا يقل عنها فظاعة، ترى ما هو؟ يمكننا أن نستنتج من الحوادث السابقة، وأمثالها كثير أمرين:
أحدهما: قوة الدعاية المضادة لدعوة هذا الإمام، فقد استطاعت أن تقلب الحق على باطل والمعروف إلى منكر، وتخفي الشمس في رائعة النهار.
الثاني: وهو لا يخطر على بال الكثيرين على الرغم من بداهته وخلاصته: تساهل بعض حملة دعوة التوحيد، صحيح أنهم كثيرون ولكنهم يهملون وتكاد تتقلص، في بعض البلاد نرى الدعوات الماكرة والإلحادية على أساليب الدعاية الإعلامية الحديثة، في حين نرى الدعوات الماكرة والإلحادية على الرغم من بطلانها وسخافتها ومخالفتها للفطرة السليمة وقتلها للطموح الإنساني، ناشطة –وللأسف-. وقد خدعت كثيراً من الجماهير الغفلة، وذلك نتيجة استعمال وسائل الإعلام العاصرة. ذلك السلاح الخطير الذي ينبغي أن ندرسه لنستعمله في سبل الحق والخير.
1 الشيخ محمد بن عبد الوهاب 1/7-8.
إن الظروف الحرجة التي يجتازها العالم الإسلامي تتطلب من كل مفكر مخلص سواء كان مربياً أو صحفياً أو أديباً أو غير ذلك أن يكون عالماً بهذا السلاح الإعلامي وذلك من أجل تعبئة المسلمين كيلا يتأثروا به سواء كان ملحداً أو انحلالياً أو غير ذلك، وكل ذلك مفقود الآن على الغالب مع شدة الحاجة إليه.
لقد كان جديراً بالمسلمين أن يكونوا سباقين لأسلحة الإعلام المشروعة، فما القرآن العظيم إلا كتاب ألهي رائع سبق أرقى الأساليب الغربية باستخدامه الأسلوب القصصي والأدبي ولجوئه للدعاية بطريقة مباشرة وغير مباشرة، والأمثلة كثيرة منها كسبه للفرص كي ينشر دعوته، مثل ما جاء في قصة يوسف عليه السلام حينما سأله السجينان عن تفسير رؤياهما، فاغتنم فرصة انتباههما، فسرد عليهما مبادئ التوحيد في قول الله تعالى:
{قَالَ لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ
…
} .
وما الحديث النبوي إلا ملاحق وبيان للقرآن بأساليب إعلامية رائعة، وما السنة إلا تطبيق عملي للإعلام القرآني والنبوي بأسلوب جميل ومثير ومشوق، في سلوك الرسول "صلى الله عليه وسلم" مما أدهش أكثر الكفار فدخلوا في دين الله أفواجاً.
وقد كانت كتبه صلى الله عليه وسلم للملوك والأمراء يدعوهم للإسلام حدثاً إعلامياً عظيماً يدل على مبلغ اهتمامه بنشر الدعوة. وقد استغرب بعضهم إرساله الكتب
إلى الجهات النائية، بينما كانت حاله في المدينة غير مستقرة وتحيط به الأزمات والمشكلات، ويهدّد دعوته الأعداء من الداخل والخارج.
ومما يؤسف له أن هذا السلاح الإعلامي العام في تبليغ الملوك والرؤساء والعلماء، مهجور وقد كنت كتبت إلى بعض الجهات الإسلامية المسؤولة بوجوب تحقيق هذه السنة النبوية الخطيرة، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم:"بلغوا عني ولو آية" الحديث رواه البخاري.
وقد كان يجعل لشاعره حسان منبراً في مسجده في المدينة ويدعوه لينافح عن الإسلام، ويشجعه بقوله: اهجم وروح القدس معك ما نافحت عن رسول الله!
فهلا خصصنا للتوحيد ومحاربة الوثنية شعراء دائمين كما فعل؟!
وقد كان هذا النبي يعرض نفسه على القبائل ويقطع المسافات الشاسعة لتبليغ دعوة الإسلام، ولا ننسى رحلته البعيدة إلى الطائف من مكة، مشياً على الأقدام في الحر الشديد لهذه الغاية، مما لا يقدر عليه إلا الأبطال، وقد عرفت ذلك من زيارتي لأول مرة لهذا البلد الجميل.
وقد دلنا على أهم سبل الدعوة بدفع الأموال إلى بعض الزعماء والأدباء يتألف قلوبهم أملاً بإسلامهم وإسلام أتباعهم، وكان مما قاله في حديث رواه البخاري:"لو آمن عشرة من اليهود، لآمن يهود".
وليسمح لي القارئ أن أقول إنني أقوم جهد المستطاع بدوري كمسلم مكلف بالدعوة، فقد كتبت إلى البابوات في روما والقاهرة وغيرهما كتباً أثبت فيها صحة دعوة الإسلام من التوراة والإنجيل كوحدانية الله تعالى، وعبودية المسيح "صلى الله عليه وسلم" ورسالته فقط وعدم صلبه، إنما صلب غيره كما أثبت مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم، فأخبرني البابا في رسالة بوصول كتابي إليه
ثم بعثت له بكتاب آخر طلبت منه الجواب، وإلا اعتبرت سكوته إقراراً، لأن السكوت في معرض الحاجة إقرار.
وكذلك أرسلت إلى بعض رؤساء جمهوريات الغرب والشرق بكتب ذكرت لهم فيها أن الإسلام وحده هو الكفيل بحل مشكلات العالم.
ومثل ذلك بعثت إلى الكاتب الحضاري أرنولد تونبي، فأجابني قبل موته أنه كتب عن الإسلام الكفاية في العديد من كتبه، ولو كانت لي الاستطاعة لزرت هؤلاء، وقد كنت طلبت من بعض الجهات تبني دعوة اليابانيين للإسلام –على مستوى كبار المسؤولين- بصورة رسمية أسوة بما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم، بإرسال الوفود تلو الوفود إلى اليابان قبل أن تتخطفهم الديانات الأخرى الناشطة.
وجزى الله تعالى الحكومة السعودية خيراً فإنها تقوم بجهد مشكور في هذا السبيل.
وقد أنشأت لهذه الغاية "إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة الإرشاد" خصصت لها ميزانية ضخمة، يتولى رئاستها العامة العلامة سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز المعروف بإخلاصه وسهره، فهو يرسل الأساتذة والدعاة إلى جميع أنحاء القارات الخمس مزودين بالكتب والرسائل والنشرات في مختلف اللغات الأجنبية.
كما أنشأت "رابطة العالم الإسلامي" في مكة المكرمة وخصصت لها كذلك موازنة ضخمة للدعوة الإسلامية وتحقيق التضامن الإسلامي، الذي يتوقف عليه نهضة المسلمين ومجدهم، وتسعى لإمداد الجمعيات الإسلامية في كثير من الأصقاع بالأموال والمدرسين والكتب بسخاء.
هذا وإني لأرجوا من القارئ أن يعذرني لهذا الاستطراد في الكلام على سلاح
الإعلام، وليسمح لي بعد ذلك أن أحدثه عن اقتراح كنت وعدته به من أجل نشر دعوة التوحيد وحمايتها من الدجالين والمستعمرين، لتؤتي أكلها وتعم الناس جميعاً، وقد عملت لها من أكثر من ربع قرن إلى يومنا هذا دون كلل ولا ملل مما يعلمه الكثيرون من إخواني سواء في بلدي أو في غيرها، ولكن جميع المساعي لم تفلح، لأنها كانت على مستوى فردي، كان آخرها هذه الرسالة:"الإمام محمد بن عبد الوهاب في مرآة علماء الشرق والغرب".
وتتلخص هذه الفكرة في إدخال ملخصات عن دعوة التوحيد التي جاء بها هذا الإمام بإخراج راق في مناهج المدارس والجامعات في العالم الإسلامي في مادة التاريخ بمناسبة الكلام على الحركات والدعوات الإصلاحية التي أيقظت العالم الإسلامي، وهي مادة موجودة في أكثر المناهج..
ولنأخذ كمثال على ذلك وزارة التربية في الجمهورية العربية السورية، فقد وضعت في صف الشهادة الابتدائية والشهادة الإعدادية، وصف الشهادة الثانوية معلومات لا بأس بها عن دعوة إمامنا العظيم، لكنها لا تخلوا من بعض الضعف بسبب قلة معرفة المؤلفين بسيرته وخلاصة دعوته.
وقد سعيت جهدي منذ أكثر من ربع قرن لتصحيح ذلك بتقديم نماذج صحيحة فلم أفلح إلاّ قليلاً.
ولا شك أن هذه المعلومات القوية الصحيحة إذا تشربتها الأجيال في المدارس والجامعات صححت عقيدتهم ورفضوا الإشاعات والأكاذيب التي ينسجها الدجالون والخرافيون والمستعمرون حول سيرة هذا الإمام العظيم وتبنوا الدفاع عن عقيدة التوحيد والدعوة إليها ومقاومة من يحاربها أو يشوهها من أعداء الإسلام حتى جعلوا المغفلين من المسلمين يفضلون المجوسي المرابي على حامل العقيدة الصحيحة مما سبق ذكره.
إذا ما الجهل خيّم في بلاد
…
رأيت أسودها مسخت قرودا
كل ذلك بشرط كتابة هذه المعلومات للأجيال من قبل أدباء ومؤرخين محققين أمناء ولا أرى مانعاً من أن يتقدم بعض الدعاة بنماذج موثوقة ومشوقة إلى هذه الحكومات الإسلامية تستعين بها على كتابة الموضوع على هدي وبصيرة وكتاب منير.
وإنني أقترح على الدعاة المخلصين تبني هذا الاقتراح إذا رأوا ذلك، فيمكنهم بما لديهم من دالة ونفوذ أن يعمدوا إلى دعوة مؤتمر قمة إسلامي على مستوى وزراء التربية والمعارف لتحقيق هذا الاقتراح، فإن فيه خيراً وقوة للجميع، وتجديداً لعقيدة التوحيد كمنهاج للحياة التي يتوقف عليها الفوز في الدنيا والآخرة، والنجاة من الخرافات والوثنيات التي تفتك بالعالم الإسلامي، والخلاص من سدنة الرمم البالية الذين يخدعون البسطاء من المسلمين للاستغاثة بهم من دون الله العظيم وطلب حاجاتهم منهم وهم لا يملكون حتى لأنفسهم لما كانوا أحياء نفعاً ولا ضراً، وقد سخر الله سبحانه من هؤلاء الداعيين الجهلة في آيات عديدة مثل قوله:
{وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ} [الأعراف:197]
{إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأعراف: من الآية194]
ولا شك أن الوزراء المشار إليهم سيوافقون على هذا الاقتراح الذي يوقظ العالم الإسلامي ويحقق له نصر الله تعالى وتأييده ويكوّن في أجياله الوعي، ويسموا بها وينقذها من الدجالين والخرافيين سدنة المقابر، ويرفع رأس المؤمن عالياً فلا يخضع إلا لربه ويترفع عن سؤال غيره من الموتى والارتماء على أضرحتهم والتمسح بترابها ويغدق على هؤلاء السدنة أموال الذبائح والنذور التي يستلبونها حراماً وسحتاً، وقد يكون هذا الدافع بأشد الحاجة إلى هذا المال له ولأولاده وأقربائه وجيرانه ولله در حافظ إبراهيم إذ يقول:
أحياؤنا لا يرزقون بدرهم
…
وبألف ألف ترزق الأموات!!
إنني أستصرخ الضمائر الحية المخلصة للسعي من أجل تحقيق هذا الاقتراح الذي يستطيع هدم معاقل الخرافيين والمبتدعين ويبطل دعواهم وافتراءهم، ومحاربة خصوم التوحيد وأعداء الإمام المجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ومروجي الدعايات الباطلة التي لا تزال على أشدها، ونحن نحترق في لظاها، على الرغم من الجهود التي بذلت وتبذل، ونحنن كون مغرورين جداً إذا اعتقدنا أن هؤلاء الخصوم قد تقهقروا واستسلموا، فهم في ازدياد، تخرجهم بعض ما تسمى بالكليات والمعاهد الدينية الشهيرة، في عنف وتآمر لمحاربة المصلحين والمجددين ولول أردت ضرب الأمثال لضاق نطاق هذه الخاتمة، وقد علمت أن كثيراً من أدعياء العلم يقصدون رئاسة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد ويأخذون منها صناديق من كتب التوحيد القيمة ثم يحرقونها في بلادهم بحجة أنها كتب وهابية.
ومما يؤسف له، ويبعث في النفس الأسى والحرة، أن أحد كبار الشيوخ الموكل إليهم تخريج طلبة العلم، وقد انتقل على جوار ربه في السنوات الأخيرة سعى للطعن بحركة الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب بمختلف الأكاذيب، وذكر في خاتمة هذا الكتاب المذاهب الحديثة فكانت بنظره "البهائية والقاديانية والوهابية" فجمع بينها، مما لا يقدم عليه أعدى خصوم الإسلام وأجهلهم فإن البهائية والقاديانية
ليست مذاهب، بل فرقاً مارقة وكافرة وعميلة، وما أسماه بالوهابية، ليس مذهباً حديثاً، بل هو تجديدية قديمة للتوحيد الخالص والإصلاح الديني نادى بها كثير من المصلحين منذ قرون بعيدة أمثال الإمامين العظيمين الجريئين ابن تيمية وابن القيم أجزل الله ثوابهما ومن جهل الشيخ المذكور بأبسط مبادئ التوحيد أنه لما كان في دمشق في أسبوع الإمام ابن تيمية دعا في خاتمته بعض المدعوين إلى زيارة قبر شيخ الإسلام قائلاً:
"سنزور قبره على الرغم من نهيه عن زيارة القبور" يشير بذلك إلى تجديده لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، بالنهي عن شدّ الرحال إلا للمساجد الثلاثة فهو لم يستطع أن يميز بين زيارة القبور المسنونة وبين شد الرحال الممنوعة!.
ومن جهله أيضاً أنه في كتابه السابق حض المسؤولين في المملكة على وضع ستائر جديدة للضريح النبوي بدلاً من الستائر البالية
…
مع العلم بمحاذير ذلك وتحريمه مما كنا فصلنا فيه القول فيما سبق من الأبحاث.
وأهم ما أود أن أشير إليه في هذه الخاتمة لبيان فضل إصلاح المجدد محمد بن عبد الوهاب، أن كثيراً من المستشرقين المغرضين ودعاة التغريب، يزعمون زوراً وبهتاناً أن نهضة العرب الحديثة بدأت في حملة نابليون بونابرت الفرنسية على مصر وبفضل الإرساليات التبشيرية، وكل ذلك مخالف للحقيقة وتزوير للتاريخ، فإنّ حملة نابليون على أرض الكنانة، كانت عام 1798 بينما كانت حركة الشيخ حوالي 175، ولا أدري ما هي النهضة التي استفادها العرب من الحملة الفرنسية الاستعمارية، وقد حملت معها المطبعة لتمهد لها تثبيت جريمتها والترويج للتبشير والاستعمار....
والحقيقة أن نهضة الأمة العربية –والإسلامية أيضاً- تحققت نتيجة الشعلة التي سطعت من الجزيرة العربية على يد الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب في
الدعوة لتجديد الإسلام وإحياء عقيدة التوحيد، بعدما خمدت سنين طويلة وقامت بعدها الوثنية في كل مكان حتى في مصر بلد الأزهر....
وهكذا كانت اليقظة عقب ليل داج من الأوهام والشركيات، وقد نشأت المعارضة، وهبت الفتن، ولكن سرعان ما أطفئت بحزم الحكومة السعودية الأولى ودعم الإمام محمد بن سعود أجزل الله ثوابه.
قد يقول قائل بعد هذه الرحلة الطويلة التي قطعناها في دراسة الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب وثناء كبار علماء العالم وأدبائه على جهوده الجبارة في هذا الميدان على الرغم من إصرار خصومه من المبتدعة والقبوريين. لقد وصل العلماء إلى الفضاء الخارجي وغزوا الكواكب وفجروا الذرة واكتشفوا القنبلة الهيدروجينية والنتروجينية، في وقت أقمت الدنيا وأقعدتها في دعوة التوحيد وبطلها الشيخ محمد بن عبد الوهاب.
فهلا فكرت لنا بأرضية صلبة وأفكار جديدة؟ لا أود أن أرد على هذا السؤال كيلا أتهم بالتعصب، ولكني أدع المجال لبعض علماء الغرب في بيان علو شأن التوحيد وخطورته في تقدم العلوم ورقي البشرية، وقد ثبتت صحة ذلك للمسلمين الأولين الذين سرعان ما غدوا أساتذة العالم بفضله وفتحوا الدنيا من المحيط إلى المحيط بأقرب من نصف قرن.
قال المؤرخ الحضاري "أرنولد تونبي": "إن العقبة الكبرى في سبيل تسخير طاقات الطبيعة، كانت عقيدة الشرك الذي ساد العقل البشري لزمن طويل، والذي حول طاقات الطبيعة، كانت عقيدة الشرك الذي ساد العقل البشري لزمن طويل، والذي حول طاقات الطبيعة إلى آلهة، وكان المشركون يقدسون ويعبدون هذه الطاقات بدلاً من تسخيرها. وعقيدة التوحيد هي التي جعلت الإنسان ينظر إلى هذه الطاقات، كأنها مخلوقات مثله، ومن ثم بدأ يفكر في تسخيرها".
ويعلق الكاتب القدير "وحيد الدين خان" على كلام تويني بقوله يصف قصور
المسلمين في فهم عقيدة التوحيد وأثرها في التقدم: ولسوء حظنا لم نستطع في هذا العصر الحديث أن نقوم في مواجهة الشرك وإلا لما كنا في موقف الدفاع، ولكان للبشرية تاريخ آخر اليوم 1 فهل تحققنا من مبلغ وعظمة كلمة التوحيد الذي ندعو إليه من أجل حياة أسعد وأقوى؟ وقد وعد الرسول بكل ذلك في قوله لقومه الذين جاؤوا للتفاوض معه لمعرفة طلبه، فقال لهم في الحديث الصحيح:"كلمة واحدة تعطونيها! تدين لكم بها العرب، وتخضع لكم العجم! تقولون: لا إله إلا الله، وتخلعون ما تعبدون من دونه"!! وقد تحقق لهم كل ذلك بفضل كلمة التوحيد
…
وفي الخاتمة
…
أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يجزي الإمام محمد بن عبد الوهاب خير الجزاء ويسكنه فسيح جناته مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً، أجر ما بذل، وعذب واضطهد وجاهد وصبر وصابر، وكتب وألف في تطهير عقيدة التوحيد والدفاع عنها، وإنقاذ المسلمين من الشرك والوثنية والارتماء على عتبات الأضرحة بذل وخشوع وتضرع، ودعاء أصحابها في الشدائد، والاستغاثة بهم وسؤالهم ما لا يقدر عليه إلا الله وحده.
إن هذا الإمام هو بحق مجدد القرن الثاني عشر الهجري الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم في أمثاله: "إن الله تعالى يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة من يجدد لها دينها" رواه أبو داود وغيره وسنده صحيح.
اللهم إنا لنشهد أن الإمام محمد بن عبد الوهاب كان يدافع عن توحيدك الذي أنزلته في كتابك، وأرسلت من أجله رسولك صلى الله عليه وآله وسلم،
1 الشريعة الإسلامية وتحديات العصر، ص 12 وحيد الدين خان العاشر دار النفائس بيروت.
فجاهد وصبر، وصابر حتى تم له النصر {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} .
اللهم اجز هذا الإمام عن الإسلام والتوحيد خير الجزاء، وأدخله الجنة بسلام.
اللهم أيد أنصاره وأعوانه المجاهدين بنصرك إنك لا تضيع أجر المحسنين.
اللهم اهد خصوم هذه الدعوة إلى الصواب واشرح صدورهم إلى الحق يا أرحم الراحمين ومجيب السائلين.
اللهم ثبت جماعة أهل الحديث على الحق، كما ثبّت الشيخ، فهم مصابيح الدجى، والهداة إلى الدين الصحيح، إنهم ماضون في جهادهم، غرباء في أمتهم، محاربون في قومهم
…
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوماً لأصحابه في أجر هذه الجماعة: "إن من ورائكم أيام الصبر! للمتمسك فيهن يومئذ بما أنتم عليه، أجر خمسين منكم، قالوا يانبي الله! أو منهم. قال: بل منكم! " رواه أبو داود والترمذي، وسنده صحيح، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
محمود مهدي الاستانبولي.
ملاحظة هامة: سهونا أن نشير فيما سبق أن كلمات الكتاب العرب الأجلاء المنشورة ابتداءً من الصفحة 72 إلى الصفحة 126 هي منقولة باختصار عن المحاضرات التي ألقيت في "أسبوع الشيخ محمد بن عبد الوهاب" رحمه الله تعالى الذي أقامته مشكورة "جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية" في الرياض عام 21/4/1400 هـ "8/3/1980م" ما عدا كلمة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني، وكلمتي الإمام محمد بن عبد الوهاب اللتين جاءتا على لسان ولديه.