الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والقرآن الذي يحصل به الفرقان حتى يشهد الإلهية التي تميِّز بين أهل التوحيد والشرك وبين ما يحبه الله وما يبغضه وبين ما أمر به الرسول وبين ما نهى عنه وإلا خرج عن دين الإسلام بحسب خروجه عن هذا، فإن الربوبية العامة قد أقر بها المشركون الذين قال الله فيهم:(وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَاّ وَهُم مُّشْرِكُونَ).
وإنما يصير الرجل مسلماً حنيفاً موحداً إذا شهد: أن لا إله إلا الله. فعبد الله وحده بحيث لا يشرك معه أحداً في تألهه ومحبته له وعبوديته وإنابته إليه وإسلامه له ودعائه له والتوكل عليه وموالاته فيه، ومعاداته فيه ومحبته ما يحب وبغضه ما يبغض ويفنى بحق التوحيد عن باطل الشرك وهذا فناء يقارنه البقاء فيفنى عن تأله ما سوى الله بتأله الله تحقيقاً لقول: لا إله إلا الله فينفي ويفنى من قلبه تأله ما سواه ويثبت ويبقى في قلبه تأله الله وحده، وقد قال النبي، صلى الله عليه وسلم، في الحديث الصحيح:"من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة". وفي الحديث الآخر: "من كان آخر كلامه: لا إله إلا الله دخل الجنة". وقال في الصحيح: "لقنوا موتاكم لا إله إلا الله". فإنها حقيقة دين الإسلام فمن مات عليها مات مسلماً (1) اهـ.
قلت: انظر: رحمك الله إلى قول الشيخ: وإنما يصير الرجل مسلماً حنيفاً موحداً إذا شهد أن لا إله إلا الله فعبده وحده بحيث لا يشرك معه أحداً في تألهه وهذا التعريف الجامع لحقيقة الإسلام متواتر ذكره في كتبه منها ما ذكر من قبل ومنها ما سيأتي ذكره بمشيئة الله -تعالى-.
وهذا من أدل الدلائل على عدم إعذار الشيخ بالجهل في أصل الأصول وهو التوحيد وترك الشرك لأن المشركين لا يدخلون عنده في مسمى المسلمين وأن الحنيف هو: الموحد التارك للشرك على عمد وبصيرة واستقام على الشريعة.
وهذا المعنى متواتر في نصوص الشريعة ومعلوم بالإضطرار من نصوص المفسرين وإليك الأدلة والبراهين على ذلك.
المبحث الثالث: الحنيف التارك للشرك عن قصد وعلم:
قال -تعالى-: (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلَا نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ). [آل عمران: 67].
قال الطبري: "ولكن كان حنيفا": يعني: متبعاً أمر الله وطاعته مستقيماً على محجة
(1) جـ: 8 ص: 369 لمجموع الفتاوى.
الهدى التي أمر بلزومها، "مسلماً" يعني: خاشعاً لله بقلبه متذللاً له بجوارحه مذعناً لما فرض عليه وألزمه من أحكامه اهـ.
وقال القرطبي: الحنيف: الذي يوحد ويضحي ويختتن ويستقبل القبلة اهـ.
وقال ابن كثير: أي متحنفاً عن الشرك قاصداً إلى الإيمان اهـ.
وقال -تعالى-: (وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً). [النساء: 125].
قال الطبري: حنيفاً: أي مستقيماً على منهاجه وسبيله.
قال ابن كثير: الحنيف: هو المائل عن الشرك قصداً، أي: تاركاً له عن بصيرة ومقبل على الحق بكليته لا يصده عنه صاد ولا يرده عنه راد.
وقال -تعالى-: (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ). [الأنعام: 79].
قال الطبري: حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد: في قول قوم إبراهيم لإبراهيم: تركت عبادة هذه؟ فقال: "إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ" فقالوا: ما جئت بشيء ونحن نعبده ونتوجه. فقال: لا. حنيفاً. قال: مخلصاً لا أشرك كما تشركون اهـ.
قال القرطبي: حنيفاً: مائلاً إلى الحق.
قال ابن كثير: حنيفاً: أي مائلاً عن الشرك إلى التوحيد.
وقال -تعالى-: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ). [النمل: 120].
قال الطبري: حنيفاً يقول مستقيماً على دين الإسلام اهـ.
قال ابن كثير: الحنيف: هو المنحرف قصداً من الشرك إلى التوحيد ولهذا قال: "ولم يك من المشركين" اهـ.
وقال -تعالى-: (حُنَفَاء لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ). [الحج: 31].
قال ابن جرير: يقول -تعالى ذكره-: اجتنبوا أيها الناس عبادة الأوثان وقول الشرك مستقيمين لله على إخلاص التوحيد له وإفراد الطاعة والعبادة له خالصاً دون الأوثان والأصنام ا. هـ.
قال القرطبي: حنفاء لله أي: مستقيمين أو مسلمين مائلين إلى الحق، ولفظة حنفاء من الأضداد تقع على الاستقامة وعلى الميل، وحنفاء منصوب على الحال. وقيل: حنفاء: حجاجاً. وهذا تخصيص لا حجة معه اهـ.
قال ابن كثير: حنفاء لله أي: مخلصين له الدين منحرفين عن الباطل قصداً: إلى الحق ولهذا قال: "غير مشركين به" اهـ.
عن ابن عمر أن زيد بن عمرو بن نفيل خرج إلى الشام يسأل عن الدين ويتبعه، فلقي عالماً من اليهود فسأله عن دينهم فقال: إني لعلي أن أدين دينكم فأخبرني. فقال: لا تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من غضب الله. قال زيد: ما أفر إلا من غضب الله، ولا أحمل من غضب الله شيئاً أبداً. وأنّى أستطيعه؟ فهل تدلني على غيره؟ قال: ما أعلمه إلا أن يكون حنيفاً. قال زيد: وما الحنيف؟ قال: دين إبراهيم، لم يكن يهودياً ولا نصرانياً ولا يعبد إلا الله. فخرج زيد فلقي عالماً من النصارى، فذكر مثله، فقال: لن تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من لعنة الله. قال: ما أفر إلا من لعنة الله، ولا أحمل من لعنة الله ولا من غضبه شيئاً أبداً، وأنى أستطيع؟ فهل تدلني على غيره؟ قال: ما أعلمه إلا أن يكون حنيفاً. قال: وما الحنيف؟ قال: دين إبراهيم، لم يكن يهودياً ولا نصرانياً ولا يعبد إلا الله. فلما رأى زيد قولهم في إبراهيم عليه السلام خرج، فلما برز رفع يديه فقال: اللهم إني أشهدك أني على دين إبراهيم" (1). رواه البخاري.
قلت: فمن آي القرآن والسنة وبيان المفسرين ثبت أن الحنيف: هو الذي ترك الشرك قصداً وعلى بصيرة ومقبل على الإخلاص وإفراد الله بالتأله دون ما سواه وهو الذي استقام حاله على الإسلام لربه وحده لا شريك له.
فهل من ترك التوحيد وانغمس في الشرك وجعل لربه شريكاً في التأله وتنقص الإلهية
(1) راجع فتح الباري جـ: 7 ص: 176.
وهضم حق الربوبية يكون متحنفاً أم مشركاً؟.
قال ابن تيمية: والضالون مستخفون بتوحيد الله -تعالى- يعظمون دعاء غيره من الأموات وإذا أمروا بالتوحيد ونهوا عن الشرك استخفوا به كما قال -تعالى-: (وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً). الآية. فاستهزءوا بالرسول، صلى الله عليه وسلم، لما نهاهم عن الشرك وما زال المشركون يسبون الأنبياء ويصفونهم بالسفاهة والضلال والجنون إذا دعوهم إلى التوحيد لما في أنفسهم من عظيم الشرك. وهكذا تجد من فيه شبه منهم إذا رأى من يدعو إلى التوحيد استهزأ بذلك لما عندهم من الشرك قال الله -تعالى-:(وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ). فمن أحب مخلوقاً مثل ما يحب الله فهو مشرك، ويجب الفرق بين الحب في الله والحب مع الله. فهؤلاء الذين اتخذوا القبور أوثاناً تجدهم يستهزئون بما هو من توحيد الله وعبادته ويعظمون ما اتخذوه ما دون الله شفعاء ويحلف أحدهم اليمين الغموس كاذباً ولا يجترئ أن يحلف بشيخه كاذباً. وكثير من طوائف متعددة ترى أحدهم يرى أن استغاثته بالشيخ إما عند قبره أو غير قبره أنفع له من أن يدعو الله في المسجد عند السحر ويستهزئ بمن يعدل عن طريقته إلى التوحيد، وكثير منهم يخربون المساجد ويعمرون المشاهد فهل هذا إلا من استخفافهم بالله وآياته ورسوله وتعظيمهم للشرك. وإذا كان لهذا وقف ولهذا وقف كان وقف الشرك أعظم عنده مضاهات لمشركي العرب الذين ذكرهم الله في قوله:(وَجَعَلُواْ لِلّهِ مِمِّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيباً). الآية. فيفضلون ما يجعل لغير الله على ما يجعل الله، ويقولون: الله غني وآلهتنا فقيرة. وهؤلاء إذا قصد أحدهم القبر الذي يعظمه يبكي عنده ويخشع ويتضرع ما لا يحصل له مثله في الجمعة والصلوات الخمس وقيام الليل، فهل هذا إلا من حال المشركين لا الموحدين.
ومثل هذا أنه إذا سمع أحدهم سماع الآيات حصل له من الخشوع والحضور ما لا يحصل له عند الآيات بل يستثقلونها ويستهزئون بها وبمن يقرؤها مما يحصل لهم به أعظم نصيب من قوله: (قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ)(1). اهـ.
(1) جـ: 15 ص: 48: 50 لمجموع الفتاوى.