الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
منك حين أخذت الميثاق فأبيت إذ أخرجتك إلى الدنيا إلا الشرك (1) اهـ.
فهذا بنص الحديث أن العهد أخذ على بني آدم في التوحيد وترك الشرك بالله في الألوهية والربوبية لعموم قوله: -أن لا تشرك بي- وفي هذا القدر الكفاية لدحض هذه الشبهة التي من استقرأ القرآن صدع له من أول وهلة بطلانها وزيفها.
وقبل أن أختم الحديث عن هذه الآية الكريمة أذكر وجه الجمع بينها وبين قوله -تعالى-: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً). لأن كثيراً من الإخوة الكرام قد يظن أن ثمّ تعارض بينهما.
المبحث الثالث: الميثاق حجة في بطلان الشرك والعذاب عليه بعد الحجة الرسالية:
أقول وبالله تعالى التوفيق: أن الإشهاد الوارد في آية الميثاق هو حجة مستقلة على الناس في الشرك إلا أن المشرك لا يعذب في الدارين إلا بعد إقامة الحجة الرسالية.
فالآية قالت: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ). ولم تقل: وما كنا حاكمين بالشرك حتى نبعث رسولاً، بل إن السلف قد أجمعوا على أن من وقع في الشرك فهو مشرك (2) في وجود الحجة الرسالية أو في غيبتها والخلاف بينهم هل يستحق المشرك بهذا العذاب وإن لم تقم حجة البلاغ؟ أم لا بد من قيام الحجة؟.
وأكبر دليل على ما سلف فهم السلف لهذه الآية التي بين أيدينا.
يقول الإمام الشنقيطي في قوله -تعالى-: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً). ظاهر هذه الآية: أن الله لا يعذب أحداً من خلقه لا في الدنيا ولا في الآخرة حتى يبعث إليه رسولاً ينذره ويحذره فيعصي ذلك الرسول ويستمر على الكفر والمعصية بعد الإنذار والإعذار وقد أوضح -جل وعلا- هذا المعنى في آيات كثيرة كقوله تعالى: (رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَاّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ). (وأخذ يسرد الآيات في هذا المعنى) وهذه
(1) جـ: 11 ص: 411 كتاب الرفاق من فتح الباري.
(2)
قال إسحاق بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ: بل أهل الفترة الذين لم تبلغهم الرسالة والقرآن وماتوا على الجاهلية لا يسمون مسلمين بالإجماع، ولا يستغفر لهم، وإنما اختلف أهل العلم في تعذيبهم. اهـ. حكم تكفير المعين -الرسالة السادسة- من كتاب عقيدة الموحدين والرد على الضلال المبتدعين ص:151.
الآيات التي ذكرنا وأمثالها في القرآن تدل على عذر أهل الفترة -بأنهم لم يأتهم نذير- ولو ماتوا على الكفر. وبهذا قال: جماعة من أهل العلم. وذهبت جماعة أخرى من أهل العلم: إلى أن كل من مات على الكفر فهو في النار ولو لم يأته نذير واستدلوا بظواهر آيات من كتاب الله وبأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فمن الآيات التي استدلوا بها قوله -تعالى: (وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً)[النساء: 18]. (وأخذ يذكر الآيات في هذا المقام والأحاديث مثل: إن أبي وأباك في النار)
…
إلى غير ذلك من الأحاديث الدالة على عدم عذر المشركين بالفترة وهذا الخلاف مشهور بين أهل الأصول: هل المشركون الذين ماتوا في الفترة وهم يعبدون الأوثان في النار لكفرهم أو معذورون بالفترة؟ وعقده في مراقي السعود بقوله:
ذو فترة بالفرع لا يراع وفي الأصول بينهم نزاع.
وممن ذهب إلى أن أهل الفترة الذين ماتوا على الكفر في النار: النووي في شرح مسلم وحكى عليه القرافي في شرح التنقيح الإجماع كما نقله عنه صاحب "نشر البنود"
…
ونسب هذا القول: القرطبي وأبو حيان والشوكاني وغيرهم في تفاسيرهم إلى الجمهور
…
قال مفيده عفا الله عنه: الظاهر أن التحقيق في هذه المسألة التي هي: هل يعذر المشركون بالفترة أو لا هو أنهم معذورون بالفترة في الدنيا وأن الله يوم القيامة يمتحنهم بنار يأمرهم باقتحامها فمن اقتحمها دخل الجنة وهو الذي كان يصدق الرسل لو جاءته في الدنيا ومن امتنع دخل النار وعذب فيها وهو الذي كان يكذب الرسل لو جاءته في الدنيا لأن الله يعلم ما كانوا عاملين لو جاءتهم الرسل اهـ.
قلت: انظر رحمك الله إلى اتفاق العلماء على: أن من وقع في الشرك فهو مشرك ولو لم تأته رسالة ولم تقم عليه حجة واختلفوا هل يعذب على هذا في الآخرة أم لا؟: على قولين والراجح: أنه لا يعذب في الدارين إلا بعد قيام الحجة الرسالية.
وفي هذا الموضع ضل فيه كثير من العقول والأفهام لظنها أن قوله -تعالى-: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً). حجة في إعذار من يقع في الشرك بالله، وأنه ما زال مسلماً موحداً مع انغماسه في الشرك وقطعوا بنجاته في الدارين إلا أن تقام عليه الحجة الرسالية.
ويرد على هذا الزعم الباطل هذا البحث الذي بين أيدينا الذي اتفق فيه العلماء: على أن من وقع في الشرك من أهل الفترات الذين هم في غياب عن الشرائع، وفي طموس من
السبل فهو مشرك لنقضه حجية الميثاق والفطرة وأن العقل حجة على هذا، بيد أنهم اختلفوا -على قولين- هل يعذب على هذا أم لا في الدارين؟ وقد اتفق العلماء بلا خلاف بينهم على أنهم لا ينعمون في الآخرة بالجنة لقوله -تعالى-:(إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإِسْلَامُ) وقوله تعالى: (وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلَامِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ). وهؤلاء ليسوا بمسلمين، والجنة لا تدخلها إلا نفس مسلمة مؤمنة كما ثبت في الحديث الصحيح، والمشرك فقد حرم الله عليه دخول الجنة لقوله -تعالى-:(إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ).
قال ابن تيمية: فلا ينجون من عذاب الله إلا من أخلص لله دينه وعبادته ودعاه مخلصاً له الدين. ومن لم يشرك به ولم يعبده فهو معطل عن عبادته وعبادة غيره كفرعون وأمثاله فهو أسوأ حالاً من المشرك. فلا بد من عبادة الله وحده وهو واجب على كل أحد فلا يسقط عن أحد البتة، وهو الإسلام العام الذي لا يقبل الله ديناً غيره. ولكن لا يعذب الله أحداً حتى يبعث إليه رسولاً، وكما أنه لا يعذبه فلا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة مؤمنة ولا يدخلها مشرك ولا مستكبر عن عبادة ربه. فمن لم تبلغه الدعوة في الدنيا امتحن في الآخرة ولا يدخل النار إلا من اتبع الشيطان، فمن لا ذنب له لا يدخل النار ولا يعذب الله بالنار أحداً إلا بعد أن يبعث إليه رسولاً فمن لم تبلغه دعوة رسول إليه: كالصغير والمجنون والميت في الفترة المحضة فهذا يمتحن في الآخرة كما جاءت بذلك الآثار (1) اهـ.
قلت: فهذه نصوص العلماء في أهل الفترات الذين لم تقم عليهم حجة البلاغ، وفي وقت فترت فيه الرسالات، وطمست فيه السبل، وانتشر الجهل، وتنسّخ العلم، ولم يكن ثمّ كتاب سماوي يرجعون إليه، أو منتصب للتوحيد يعلمونه منه. ومع هذا اتفق العلماء عن بكرة أبيهم: على أنهم مشركون، واختلفوا في عذابهم -على قولين-.
فلو لم تكن آية الميثاق حجة مستقلة في الإشراك فبأي حجة، حكم العلماء بها عليهم بالشرك؟.
وما الحال إذاً فيمن وقع في الشرك بعد بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم وكل تراثه محفوظ، وآيات
(1) جـ: 14 ص: 477 لمجموع الفتاوى.