الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال لأهله انظروا إذا أنا مت أن يحرقوه حتى يدعوه حمما ثم اطحنوه ثم أذروه في يوم ريح فلما مات فعلوا ذلك به فإذا هو في قبضة الله فقال الله عز وجل يا ابن دم ما حملك على ما فعلت قال: أي ربي من مخافتك قال فغفر له بها ولم يعمل خيراً قط إلا التوحيد (1).
قال صاحب الأحاديث القدسية نقلاً عن القسطلاني في شرح الصحيح لم (يقدم عند الله خيراً) ليس: المراد نفي كل خير على العموم، بل نفي ما عدا: التوحيد ولذلك غفر له، وإلا فلو كان التوحيد منتفياً عنه، لتحتم عقابه سمعاً ولم يغفر له
…
وليس ذلك شكاً منه في قدرة الله على إحيائه ولا إنكاراً للبعث وإلا لم يكن موقناً، وقد أظهر إيمانه بأنه إنما فعل ذلك من خشية الله -تعالى (2) -. ا. هـ.
(1)
فهذا الحديث خرج عن محل النزاع فهو ليس في قضية التوحيد التي هي أصل الأصول.
(2)
تأويل العلماء لهذا الحديث وصرفه عن معناه الظاهري لخير بيان أن ظاهر هذا الحديث غير مراد وأنه معارض لأصولهم الكلية، وهم ينزلون قضايا الأعيان على مقتضى القواعد الكلية.
فإن كان من أصوالهم: إعذار الجاهل لقالوا جميعاً: أن هذا الرجل جهل قدرة الله وكان جاهلاً وعذر بجهله وكفوا أنفسهم مؤنة التأويل! لأن التأويل عندهم شر لا يذهبون له إلا في حالة الضرورة عندما تصطدم قضية من قضايا الأعيان أو دليل جزئي مع القواعد والأصول الكلية.
المبحث الثالث: التأويل دليل على مخالفة النص الجزئي لقاعدة كلية:
قال الشاطبي: فإذا ثبت بالاستقراء قاعدة كلية ثم أتى النص على جزئي يخالف القاعدة بوجه من وجوه المخالفة فلا بد من الجمع في النظر بينهما، لأن الشارع لم ينص على ذلك الجزئي إلا مع الخلط على تلك القواعد. إذ كلية هذا معلومة ضرورة بعد الإحاطة بمقاصد الشريعة فلا يمكن والحالة هذه أن تحرم القواعد بإلغاء ما اعتبره الشارع، وإذا ثبت هذا لم يمكن أن يعتبر الكلي ويلغى الجزئي (3). ا. هـ.
(1) مسند الإمام أحمد جـ: 2 ص: 304 طبعة مؤسسة قرطبة.
(2)
الأحاديث القدسية جـ: 1 ص: 90.
(3)
الموافقات جـ: 3 ص: 109.
وقال أيضاً: إذا ثبت قاعدة عامة أو مطلقة فلا تؤثر فيها معارضة قضايا الأعيان ولا حكايات الأحوال والدليل على ذلك أمور ....
(الثالث) أن قضايا الأعيان جزئية، والقواعد المطردة كليات ولا تنهض الجزئيات أن تنقض الكليات. ولذلك تبقى أحكام الكليات جارية في الجزئيات وإن لم يظهر فيها معنى الكليات على الخصوص (1). ا. هـ.
وقال أبو زهرة: التأويل شروطه
…
ثانيها أن يكون: ثمة موجب للتأويل بأن يكون ظاهر النص مخالفاً لقاعدة مقررة معلومة من الدين بالضرورة أو مخالفاً لنص أقوى منه سنداً (2). ا. هـ.
وقال النووي: باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعاً
…
فلا يخلد في النار أحد مات على التوحيد ولو عمل من المعاصي ما عمل كما أنه لا يدخل الجنة أحد مات على الكفر ولو عمل من أعمال البر ما عمل.
هذا مختصر جامع لمذهب أهل الحق في هذه المسألة وقد تظاهرت أدلة الكتاب والسنة وإجماع من يعتد به من الأمة على هذه القاعدة وتواترت بذلك نصوص تحصل العلم القطعي فإذا تقررت هذه القاعدة حمل عليها جميع ما ورد من أحاديث الباب وغيره فإذا ورد حديث في ظاهره مخالفة وجب تأويله عليها ليجمع بين نصوص الشرع (3). ا. هـ.
قلت: فهذه نقول العلماء قاضية بأنه إذا: تقررت قاعدة كلية وجاء ما يصادمها في الظاهر من قضايا الأعيان أو الأدلة الجزئية يجب حملها على مقتضى القواعد الشرعية وتأويلها عليها لتأتلف النصوص وليجمع بينها.
فتأويل جمهور العلماء لظاهر حديث القدرة أكبر دليل على أن ظاهره يضاد أصلاً كلياً عندهم أو دليلاً أقوى منه دلالة فلهذا فروا إلى التأويل.
(3)
هل هذا الرجل جهل قدرة الله والبعث؟
(1) الموافقات جـ: 3 ص: 261: 262.
(2)
أصول الفقه لأبي زهرة ص: 106: 107.
(3)
صحيح مسلم بشرح النووي جـ: 1 ص: 217.
الجواب: أنه لم يجهل هذا بدليل أنه أمر نبيه أن يفعلوا به ما وصاهم به. وإلا لقال لهم: إذا مت فاقبروني بهيئتي لئن قدر الله علي ليعذبني.
ولكن هو كما قال العلماء: أنه ظن أنه إن فعل أولاده فيه ما أوصى به أن يكون جمعه والحال هذه من الممتنعات، والممتنعات خارجة عن نطاق القدرة وهذا لا يعلم إلا بشرع.
قال الإمام الدهلوي: فهذا الرجل استيقن بأن الله متصف بالقدرة التامة لكن القدرة إنما هي في الممكنات لا في الممتنعات. وكان يظن أن جمع الرماد المتفرق نصفه في البر ونصفه في البحر ممتنع، فلم يجعل ذلك نقصاً فأخذ بقدر ما عنده من العلم ولم يعد كافراً (1). ا. هـ.
إيمان الرجل بقدرة الله على البعث:
والدليل على أنه كان مؤمناً بقدرة الله الرواية التي في صحيح مسلم "فإني لم أبتهر عند الله خيراً وإن الله يقدر على أن يعذبني".
قال النووي: (وإن الله يقدر على أن يعذبني) هكذا هو في معظم النسخ ببلادنا ونقل اتفاق الرواة والنسخ عليه هكذا بتكرير "إن" وسقطت لفظة "أن" الثانية في بعض النسخ المعتمدة فعلى هذا تكون: إن الأولى شرطية وتقديره: إن قدر الله علي عذبني وهو موافق للرواية السابقة، وأما على رواية الجمهور وهي إثبات أن الثانية مع الأولى فاختلف في تقديره ....
ويجوز أن يكون على ظاهره كما ذكر هذا القائل لكن يكون قوله هنا معناه: إن الله قادر على أن يعذبني إن دفنتموني بهيئتي، فأما إن سحقتموني وذريتموني في البر والبحر فلا يقدر علي، ويكون جوابه كما سبق وبهذا تجتمع الروايات والله أعلم (2). ا. هـ.
قلت: فهذه الرواية التي عليها جمهور الرواة تدل بجلاء على أن الرجل كان مؤمناً بقدرة الله عليه في الجملة وجهل وشك في هذه الصورة الدقيقة.
ومعلوم أن جهل هذه الصورة الدقيقة لا يطعن في ألوهية الله لذلك جاءت الرواية عنه (لم يعمل خيراً شيئاً قط إلا التوحيد).
بخلاف من شك في أصل قدرة الله فهذا طعن في ألوهيته إذ كيف يكون الإله عاجزاً أو جاهلاً أو ميتاً أو أصم أو لا يخلق فهذه تطعن طعناً مباشراً في ألوهية الله.
(1) حجة الله البالغة جـ: 1 ص: 60.
(2)
صحيح مسلم بشرح النووي جـ: 17 ص: 83: 84.
لذلك لم يكن الجهل بالصفات جهلاً بالذات إلا أن تكون هذه الصفة لا تتصور الذات بدونها ويكون مفهوم التأله قائم عليها فهذه الجهل بها جهل بالذات. ويراجع هذا في شرح حديث معاذ لأهل الكتاب.
فهذه هي أقوال العلماء في تأويل هذا الحديث فهل بعد سردها بقيت شبهة في عدم جواز الاستدلال بها؟!.
وأختم الحديث في هذا الحديث بقول الإمام أبي بطين عليه قال: واحتج: من يجادل عن المشركين بقصة الذي أوصى أهله أن يحرقوه بعد موته على أن: من ارتكب الكفر جاهلاً لا يكفر ولا يكفر إلا المعاند.
والجواب: عن ذلك كله أن الله سبحانه وتعالى أرسل رسله مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وأعظم ما أرسلوا به ودعوا إليه عبادة الله وحده لا شريك له، والنهي عن الشرك الذي هو: عبادة غيره.
فإن كان مرتكب الشرك الأكبر معذوراً لجهله فمن هو الذي لا يعذر؟ ولازم هذه الدعوى أنه ليس لله حجة على أحد إلا المعاند مع أن أصحاب هذه الدعوى لا يمكنه طرد أصله بل لا بد أن يتناقض.
فإنه لا يمكنه أن يتوقف في تكفير من شك في رسالة محمد، صلى الله عليه وسلم، أو شك في البعث أو غير ذلك من أصول الدين، والشاك جاهل.
والفقهاء رحمهم الله يذكرون في كتب الفقه حكم المرتد وأنه: المسلم الذي يكفر بعد إسلامه نطقاً أو فعلاً أو اعتقاداً أو شكاً.
وسبب الشك: الجهل ولازم هذا لا يكفر جهلة اليهود والنصارى ولا الذين يسجدون للشمس والقمر والأصنام لجهلهم، ولا الذين حرقهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالنار لأننا نقطع أنهم جهال وقد أجمع العلماء رحمهم الله على كفر من لم يكفر اليهود والنصارى أو يشك في كفرهم، ونحن نتيقن أن أكثرهم جهال ....
فالمدعي: أن مرتكب الكفر متأولاً أو مجتهداً أو مخطئاً أو مقلداً أو جاهلاً معذور مخالف للكتاب والسنة والإجماع بلا شك مع أنه لا بد أن ينقض أصله فلو اطرد أصله كفر بلا ريب، كما لو توقف في تكفير: من شك في رسالة محمد، صلى الله عليه وسلم،.
وأما الرجل الذي أوصى أهله أن يحرقوه وأن الله غفر له مع شكه في صفة من صفات الرب -سبحانه- فإنما غفر له لعدم بلوغ الرسالة له كذا قال غير واحد من العلماء، ولهذا قال الشيخ تقي الدين -رحمه الله تعالى-: من شك في صفة من صفات الرب ومثله لا يجهلها كفر، وإن كان مثله بجهلها لم يكفر قال: ولهذا لم يكفر النبي، صلى الله عليه وسلم، الرجل الشاك في قدرة الله -تعالى- لأنه لا يكون إلا بعد بلوغ الرسالة.
وكذا قال ابن عقيل وحمله على أنه لم تبلغه الدعوة واختبار الشيخ تقي الدين في الصفات أنه لا يكفر الجاهل، وأما في الشرك ونحوه فلا كما ستقف على بعض كلامه إن شاء الله -تعالى- وقد قدمنا بعض كلامه في الاتحادية وغيرهم وتكفيره من شك في كفرهم. قال: صاحب اختياراته: والمرتد من أشرك بالله وكان مبغضاً لرسوله أو لما جاء به أو ترك إنكار كل منكر بقلبه
…
أو جعل بينه وبين الله وسائط يتوكل عليهم ويدعوهم ويسألهم كفر إجماعاً. ومن شك في صفة من صفات الله (الكلام لشيخ الإسلام ابن تيمية) ومثله لا يجهلها فمرتد، وإن كان مثله يجهلها فليس بمرتد، ولهذا لم يكفر النبي، صلى الله عليه وسلم، الرجل الشاك: في قدرة الله تعالى.
فأطلق فيما تقدم من المكفرات، وفرق في الصفة بين الجاهل وغيره، مع أن رأي الشيخ رحمه الله في التوقف عن تكفير الجهمية ونحوهم خلاف نصوص الإمام أحمد وغيره من أئمة الإسلام.
قال المجد رحمه الله تعالى: كل بدعة كفرنا فيها الداعية فإنا نفسق المقلد فيها كمن يقول: بخلق القرآن أو أن علم الله مخلوق أو أن أسماءه مخلوقة أو أنه لا يرى في الآخرة أو يسب الصحابة تديناً أو أن الإيمان: مجرد اعتقاد وما أشبه ذلك.
فمن كان عالماً بشيء من هذه البدع يدعو إليه ويناظر عليه فهو محكوم بكفره نص أحمد على ذلك في مواضع انتهى.
فانظروا كيف حكموا بكفرهم مع جهلهم (1) ا. هـ.
(1) الانتصار لحزب الله الموحدين ص: 16، 18.