المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الأول: تخصيص عموم رخصة الخطأ: - العذر بالجهل تحت المجهر الشرعي

[مدحت آل فراج]

فهرس الكتاب

- ‌تقديم

- ‌المقدمة

- ‌الباب الأولإثبات وصف الشرك مع الجهل وقبل قيام الحجة الرسالية

- ‌الفصل الأولالأدلة على إثبات وصف الشرك مع الجهل وقبل قيام الحجة الرسالية

- ‌المبحث الأول: فتور الرسالات قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث الثاني: اقتران وصفي الشرك والجهل:

- ‌الفصل الثانيعلة ثبوت وصف الشرك قبل قيام الحجة

- ‌المبحث الأول: حجية الميثاق:

- ‌المبحث الثاني: توحيد الربوبية يستلزم توحيد الإلهية وهو الحجة عليه:

- ‌المبحث الثالث: الميثاق حجة في بطلان الشرك والعذاب عليه بعد الحجة الرسالية:

- ‌المبحث الرابع: التحسين والتقبيح العقلي للأفعال قبل بلوغ الشرائع:

- ‌الباب الثانيكيفية انتقال العبد من الشرك إلى الإسلام

- ‌الفصل الأولالأدلة من القرآن الكريم على فهم حقيقة الإسلام

- ‌المبحث الأول: الانخلاع من الشرك شرط في تحقيق الإسلام:

- ‌المبحث الثاني: الكفر بالطاغوت شرط في الإيمان بالله وحده:

- ‌المبحث الثالث: إفراد الله بالحكم شرط في تحقيق الإسلام:

- ‌الفصل الثانيالأدلة من السنة المطهرة على فهم حقيقة الإسلام

- ‌المبحث الأول: العلم بمعنى الشهادتين شرط في عصمة الدم والمال:

- ‌المبحث الثاني: اليقين والعمل بمقتضى الشهادة شرط في صحتها:

- ‌المبحث الثالث: الكفر بما يعبد من دون الله شرط في عصمة الدم والمال:

- ‌المبحث الرابع: كلمة التوحيد تعصم قائلها بشرط البراءة من الشرك:

- ‌المبحث الخامس: لب التوحيد معرفة الله:

- ‌المبحث السادس: استحالة عبادة الله بالشرك:

- ‌المبحث السابع: العلم قبل القول والعمل:

- ‌الفصل الثالثتوصيف العلماء لحقيقة الإسلام

- ‌المبحث الأول: التوحيد شرط صحة في إسلام العبد:

- ‌المبحث الثاني: التزام أحكام الإسلام شرط في قبوله

- ‌المبحث الثالث: الحنيف التارك للشرك عن قصد وعلم:

- ‌المبحث الرابع: التوحيد بالقول والعمل شرط في تحقق النجاة:

- ‌المبحث الخامس: قبول الأحكام من غير الله شرك في الألوهية والربوبية:

- ‌الفصل الرابعأركان الإيمان وحدوده

- ‌المبحث الأول: تلازم الإيمان والإسلام:

- ‌المبحث الثاني: العلم والعمل ركنا الإيمان

- ‌الباب الثالثالردة وعدم تأثير عارض الجهل فيها

- ‌الفصل الأولالأدلة من القرآن الكريم على عدم تأثير عارض الجهل في الردة

- ‌المبحث الأول: الجهل أساس النفاق وعلته:

- ‌المبحث الثاني: حكم المستهزئ بآيات الله:

- ‌المبحث الثالث: تنزيل آيات الكفار على من فعل فعلهم من المسلمين:

- ‌الفصل الثانيالأدلة من السنة المطهرة على عدم تأثير عارض الجهل في الردة

- ‌المبحث الأول: حكم الاعتراض على حكم النبي صلى الله عليه وسلم:

- ‌المبحث الثاني: صفة الخوارج وحكمهم

- ‌المبحث الثالث: التغيظ من الصحابة دلالة على كفر صاحبه:

- ‌المبحث الرابع: فرق القدرية وحكمها

- ‌الفصل الثالثباب الردة من كتب السلف

- ‌المبحث الأول: الشرك لا يجتمع مع الإسلام

- ‌المبحث الثاني: غالب الردة تنشأ عن الجهل والاشتباه:

- ‌الباب الرابعالرد على الشبهات في قضية عدم العذر بالجهل والتأويل في أصل الدين

- ‌الفصل الأولالرد على الشبه المستدل بها خطأ من القرآن الكريم

- ‌المبحث الأول: تخصيص عموم رخصة الخطأ:

- ‌المبحث الثاني: شروط الاجتهاد:

- ‌المبحث الثالث: إثبات الضلال قبل البيان:

- ‌الفصل الثانيالرد على الشبه المستدل بها خطأ من السنة المطهرة

- ‌المبحث الأول: لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة:

- ‌المبحث الثاني: الفرق بين الطلب من المخلوق وبين الطلب به:

- ‌المبحث الثالث: التأويل دليل على مخالفة النص الجزئي لقاعدة كلية:

- ‌الفصل الثالثتقسيم الدين إلى أصول وفروع

- ‌المبحث الأول: أصول الدين المزعومة عند أهل البدع:

- ‌المبحث الثاني: أحكام أصول الدين وبيانها بياناً شافياً قاطعا للعذر:

- ‌الفصل الرابعموقف ابن تيمية وابن القيم ومحمد بن عبد الوهاب من تكفير المعين

- ‌المبحث الأول: المشرك ليس من عداد المسلمين:

- ‌المبحث الثاني: الجهل سبب غلبة الشرك على النفوس:

- ‌المبحث الثالث: الإسم الواحد يثبت وينفى بحسب ما يتعلق به من أحكام:

- ‌المبحث الرابع: تعريف الكفر الذي ينفيه هؤلاء الأئمة:

- ‌نتائج البحث

- ‌ مراجع البحث

الفصل: ‌المبحث الأول: تخصيص عموم رخصة الخطأ:

الفصل الأول

الرد على الشبه المستدل بها خطأ من القرآن الكريم

الشبهة الأولى: الاستدلال بعموم رخصة الخطأ:

الشبهة الأولى -الاستدلال برخصة الخطأ وأن الجهل فرد من أفراده وهو مرفوع عن الأمة في التوحيد والأصول والفروع واستدل الأخوة الأفاضل في هذا بقوله تعالى: (رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا)[البقرة: 286] وبقوله تعالى: (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ)[الأحزاب: 5]. وبالحديث الصحيح معناه: "إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر". والحديث الآخر: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه". وقالوا أن هذه رخصة عامة وهي تخصص عموم آيات الشرك.

أقول وبالله التوفيق: إن هذه الرخصة ليست على عمومها بالكتاب والسنة وإجماع الأمة وفهم الصحابة والأئمة من بعدهم.

‌المبحث الأول: تخصيص عموم رخصة الخطأ:

أما الكتاب:

الدليل الأول قوله تعالى: (أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ).

ووجه الدلالة: حبوط الأعمال مع عدم الشعور.

قال البخاري في كتاب التفسير وأنتم لا تشعرون: وأنتم لا تعلمون.

فهذا النص ينص على أن العبد المسلم قد يأتي من الأقوال أو الأعمال أو الأفعال ما يحبط عمله بهذا وهو لا يعلم ويراجع، نقل ابن تيمية في هذه الآية السابق نقله من الصارم والحبوط الكلي لا يكون: إلا بالكفر، كما أن غفران الذنوب جميعها لا يكون إلا بالتوبة وهذا من أصول أهل السنة.

فهذه الآية تنص على استثناء الكفر من عموم رخصة الخطأ.

الدليل الثاني: قوله تعالى: (وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ، لَا تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ).

ص: 213

فهؤلاء القوم كما رجح ابن تيمية قد قالوا: هذا القول الذي قد علموا حرمته، ولم يقصدوا الكفر، وظنوا أن الخوض واللعب يدرأ الكفر عن صاحبه كالإكراه وأن الكفر لا يكون إلا مع العمد والجد ومع ذلك كفرهم الشرع ولم يقبل عذرهم فهؤلاء مع جهلهم بكفرهم لم يُعذروا برخصة الخطأ فهذا النص أيضاً يدل على استثناء الكفر من عموم رخصة الخطأ.

الدليل الثالث: يراجع الاحتجاج بدليل عموم آيات النفاق وقوله تعالى: (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لَاّ يَشْعُرُونَ) وقوله تعالى: (وَلَكِن لَاّ يَعْلَمُونَ) وقوله (وَمَا يَشْعُرُونَ).

وصف أهل القبلة:

أما الاحتجاج بالآيتين (رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا) وقوله تعالى: (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ).

فيقال: إن هذه رخصة لأهل القبلة ومعلوم أن وصف أهل القبلة لا يكون إلا لعبد موحد متحنف كفر بكل ما يعبد من دون الله وترك الشرك عن علم وقصد، ووحد الله الواحد القهار، فهذا هو الذي يترخص برخص أهل القبلة أما المشرك والكافر فليس من أهل القبلة (1) والدليل على ذلك أن رخصة الخطأ جاءت بعد سياق تحقيق الإيمان بقوله تعالى:(آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ .... رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا). فمن السياق يُعلم أن رخصة الخطأ هي: فيما دون ذلك القدر من التوحيد والإيمان الذي هو أصل الدين وهذا كالحديث الذي في البخاري: "أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال وحوله عصابة من أصحابه: "بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا أولادكم ..... فمن وفى منكم فأجره على الله ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب في الدنيا فهو كفارة له .. ".

قال الحافظ: قال النووي: عموم هذا الحديث مخصوص بقوله تعالى: (إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ). فالمرتد إذا قتل على ارتداده لا يكون القتل له كفارة.

قلت: (أي الحافظ) وهذا بناء على أن قوله: "من ذلك شيئاً" يتناول جميع ما ذكره وهو ظاهر (2). ا. هـ.

ثم أخذ الحافظ يذكر تأويلات العلماء في هذا ورجح كلام الإمام النووي.

(1) يراجع: المبحث الثالث من الفصل الثالث من الباب الثاني.

(2)

جـ: 1 ص: 81: 83 - كتاب فتح الباري.

ص: 214

وهذا لأن عمومات تحريم الشرك وعدم غفرانه هذه العمومات المكية المحفوظة تخصص جميع الرخص لأهل القبلة لأنهم ما استحقوا هذا الوصف إلا بتحقيق التوحيد وخلع عبادة وتأله كل ما يعبد من دون الله.

قال الطبري إمام المفسرين في قوله تعالى: (رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا).

وهذا تعليم من الله عز وجل عباده المؤمنين دعاءه كيف يدعونه وما يقولون في دعائهم إياه. ومعناه: قولوا ربنا لا تؤاخذنا إن نسيناً شيئاً فرضت علينا عمله فلم نعمله أو أخطأنا في فعل شيء نهيتنا عن فعله ففعلناه على غير قصد منا إلى معصيتك ولكن على جهالة منا به وخطأ.

وساق بسنده عن ابن زيد في قوله تعالى: (رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا). إن نسينا شيئاً مما افترضته علينا أو أخطأنا شيئاً مما حرمته علينا ....

فأما الذي يكون من العبد على وجه التضييع منه والتفريط فهو ترك منه لما أمر بفعله.

فذلك الذي يرغب العبد إلى الله عز وجل في تركه مؤاخذته به وهو النسيان الذي عاقب الله عز وجل به آدم، صلى الله عليه وسلم، فأخرجه من الجنة فقال في ذلك (وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) وهو النسيان الذي قال جل ثناؤه:(فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ هَذَا).

رخصة الخطأ فيما دون الكفر:

فرغبة العبد إلى الله عز وجل بقوله: (رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) فيما كان من نسيان منه لما أمر بفعله على هذا الوجه الذي وصفنا ما لم يكن تركه ما ترك من ذلك تفريطاً منه فيه وتضييعاً كفراً بالله عز وجل فإن ذلك إذا كان كفراً بالله، فإن الرغبة إلى الله في تركه المؤاخذة به غير جائزة، لأن الله عز وجل قد أخبر عباده أنه لا يغفر لهم الشرك به، فمسئلته فعل ما قد أعلمهم أنه لا يفعله خطأ. وإنما تكون مسألته المغفرة فيما كان من مثل: نسيانه القرآن بعد حفظه بتشاغله عنه وعن قراءته ومثل نسيانه صلاة أو صياماً ....

وكذلك الخطأ وجهان: أحدهما: من وجه ما نهى عنه العبد فيأتيه بقصد منه وإرادة فذلك خطأ منه وهو به مأخوذ

وهذا الوجه الذي يرغب العبد إلى ربه في صفح ما كان منه من إثم عنه إلا ما كان من ذلك كفراً. ا. هـ.

ص: 215

قلت: فهذا تأويل إمام المفسرين لهذا النص وهذا التفسير الذي قال شيخ الإسلام ابن تيمية عن صاحبه.

أما التفاسير التي في أيدي الناس فأصحها تفسير محمد بن جرير الطبري فإنه يذكر مقالات السلف بالأسانيد الثابتة وليس فيه بدعة ولا ينقل عن المتهمين ....

وقال فيه أيضاً: لكن تفسير ابن جرير أصح من هذه كلها (أي: البغوي والقرطبي وابن عطية والزمخشري وغيرهم (1). ا. هـ.

فقد نص إمام المفسرين على أن رخصة الخطأ والنسيان هي فيما هو دون الكفر وذلك لخبر الله لنا: (إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ).

وذلك لأنه كما قلت سابقاً: أن أهل القبلة هم الذين: تابوا من الشرك والتزموا الشرائع كما في قوله تعالى: (فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلَاةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ). قال حبر الأمة ابن عباس رضي الله عنهما حرمت هذه الآية دماء أهل القبلة (2).

فهذا وصف أهل القبلة: الانخلاع من الشرك والتزام الشرائع فهذا هو الذي يترخص برخص أهل القبلة، أما المشرك فقد بان عن وصف أهل القبلة فلا يتمتع برخصها.

قال ابن تيمية في قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت بها أنفسها ما لم تكلم به أو تعمل به". والعفو عن حديث النفس إنما وقع لأمة محمد، صلى الله عليه وسلم، المؤمنين بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فعلم أن هذا العفو هو فيما يكون من الأمور التي لا تقدح في الإيمان. فأما ما نافى الإيمان فذلك لا يتناوله لفظ الحديث، لأنه إذا نافى الإيمان لم يكن صاحبه من أمة محمد، صلى الله عليه وسلم، في الحقيقة ويكون بمنزلة المنافقين، فلا يجب أن يعفى عما في نفسه من كلامه أو عمله وهذا فرق بيّن يدل عليه الحديث وبه تأتلف الأدلة الشرعية. وهذا كما عفا الله لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان كما دل عليه الكتاب والسنة. فمن صح إيمانه عفى له عن الخطأ والنسيان وحديث النفس كما يخرجون من النار بخلاف من ليس معه الإيمان فإن هذا لم يتدل النصوص على ترك مؤاخذته بما في نفسه وخطأه ونسيانه (3). ا. هـ.

(1) جـ: 13 ص: 385: 388 لمجموع الفتاوى.

(2)

راجع أحكام القرآن للقرطبي.

(3)

جـ: 10 ص: 760 لمجموع الفتاوى.

ص: 216

فهذا نص ابن تيمية صريح في أن العبد الذي يتمتع برخص أهل القبلة هو من صح إيمانه وأن العفو يكون في الأمور التي لا تناقض الإيمان. أما الكافر والمشرك ومن فسد إيمانه من أهل القبلة فهؤلاء لم يتناولهم لفظ الحديث وبهذا التأويل تأتلف الأدلة الشرعية وبهذا انتهى الاستدلال من الكتاب.

أما الاستدلال من السنة.

الحديث الأول: حديث الخوارج: ويراجع بحثهم في هذا الكتاب ووجه الدلالة منه أنهم أحدثوا اعتقاداً ظنوا به أنهم صفوة الله من خلقه، وأنهم المقبولون به عند بارئهم، دون غيرهم بل كفّروا وكل من خالف معتقدهم وكانوا على عبادة عظيمة. ومع ذلك فقد اتفقت الأمة على ذمهم وتضليلهم واختلفوا في تكفيرهم هذا مع قول النبي، صلى الله عليه وسلم، في شأنهم:"يقرءون القرآن يحسبون أنه لهم وهو عليهم". فمع تأويلهم وجهلهم اتفقت الأمة على إثمهم ولم يعذروهم برخصة الخطأ.

وأعيد في هذا المقام قول إمام المفسرين الإمام الطبري فيهم: ومن المعلوم أنهم لم يرتكبوا استحلال دماء المسلمين وأموالهم إلا بخطأ منهم فيما تأولوه من آي القرآن على غير المراد منه (1) اهـ.

فهذا الحديث نص في أن رخصة الخطأ ليست على عمومها فتثبت لها التخصيص.

وهذا إما أن يكون في الفروع أو في أصول الاعتقاد أو في أصل الدين الذي هو: التوحيد وترك الشرك فإن كان التخصيص للفروع فهو أيضاً للأصول الاعتقادية ومن باب أولى لأصل الدين-.

وإن ثبت للأصول الاعتقادية فهو من باب أولى يثبت لأصل الدين.

وإما أن يكون لأصل الدين وإن ثبت أن التخصيص له فلا يلزم من ذلك أن يكون للأصول الاعتقادية فضلاً عن فروع الشريعة ففي جميع الاحتمالات ثبت التخصيص لعموم رخصة الخطأ: للتوحيد وترك الشرك الذي هو: أصل الدين.

الحديث الثاني: أخرج البخاري في صحيحه "

وأما المنافق والكافر فيقال له ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول لا أدري كنت أقول ما يقوله الناس

".

(1) منقول من فتح الباري وقد مر سابقاً فليراجع.

ص: 217

قال الحافظ: وفيه ذم التقليد في الاعتقادات لمعاقبة من قال: كنت أسمع الناس يقولون شيئاً فقلته (1). ا. هـ.

قلت: ومن المعلوم أن المقلد جاهل مخطئ إلا أنه غير معذور بجهله بالتقليد في الاعتقادات الباطلة ولم يعذر بالخطأ.

الحديث الثالث: أخرج البخاري في صحيحه " .... وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوي بها في جهنم". وفي رواية -وهي في الصحيحين- (ما يتبين ما فيها) ..

قال الحافظ: في قوله (يهوي) .. وأخرج الترمذي هذا الحديث من طريق محمد بن إسحاق

بلفظ "لا يرى بها بأساً يهوي بها في النار سبعين خريفاً"(2). ا. هـ.

قلت: فهذا الحديث في الرجل يتكلم بالكلمة من سخط الله ما يتبين ما فيها من المعصية والتعدي يهوي بها في جهنم سبعين خريفاً ولم يعذر بالجهل والخطأ.

قال الشيخ العز بن عبد السلام: هي الكلمة التي: لا يعرف القائل حسنها من قبحها. قال: فيحرم على الإنسان أن يتكلم بما لا يعرف حسنه من قبحه.

قلت (أي الحافظ) وهذا الذي يجري على قاعدة مقدمة الواجب (3). ا. هـ.

وخير بيان لهذا الحديث على سبيل الثال لا الحصر الخارجي المعترض على قسمة النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "إن هذه القسمة لم يراد بها وجه الله" فهذا المأبون يريد أن ينكر منكراً في ظنه فقال كلمة يرجوا ثوابها فكان كافراً مرتداً ولم يظن أنها تبلغ من سخط الله ما بلغت وما يتبين ما فيها من المروق ولا يرى بها بأساً ومع هذا لم يعذر بالخطأ والجهل فثبت التخصيص لهذه الرخصة في الكفر الأكبر.

والأحاديث في هذا المقام كثيرة ولولا خشية الإطالة لآتيت بها وبتفسير السلف الصالح لها.

(1) جـ: 3 ص: 284 - فتح الباري "كتاب الجنائز".

(2)

جـ: 11 ص: 314: 318 - فتح الباري.

(3)

المصدر السابق فليراجع.

ص: 218

وأما الإجماع:

قال القاضي عياض: وذهب عبيد الله بن الحسن العنبري إلى تصويب أقوال المجتهدين في أصول الدين فيما كان عرضة للتأويل وفارق في ذلك فرق الأمة إذ أجمعوا سواه على أن الحق في أصول الدين في واحد والمخطئ فيه آثم عاص فاسق وإنما الخلاف في تكفيره (1). ا. هـ.

فهذا إجماع على أن المخطئ في أصول الدين آثم عاص فاسق، والخلاف في تكفيره.

فالأمة اتفقت وأجمعت على أن رخصة الخطأ فيما دون أصول الدين والمقصود بأصول الدين هو: أصول اعتقاد أهل السنة مثل: الإيمان قول وعمل وأن الله في السماء ورؤية الله في الآخرة وأن القرآن كلام الله غير مخلوق

فهذا الذي يخالفهم فيه مخطئ آثم مختلف في تكفيره ويكون مبتدعاً لمخالفة أصول الاعتقاد عند أهل السنة التي وقع عليها الإجماع وليس المقصود بذلك (2): التوحيد وترك الشرك. لذلك قيده القاضي بقوله: فيما كان عرضة للتأويل بخلاف التوحيد فهذا أصل الأصول وهو أصل الدين.

قال صاحب عون المعبود وقال عبد الرحمن أيضاً: سألت أبي وأبا زرعة عن مذاهب أهل السنة في أصول الدين وما أدركنا السلف عليه وما يعتقدون من ذلك؟.

فقال: أدركنا العلماء في جميع الأمصار حجازاً وعراقاً ومصراً وشاماً ويمناً فكان مذهبهم: أن الإيمان: قول وعمل يزيد وينقص، والقرآن كلام الله غير مخلوق بجميع جهاته، والقدر خيره وشره من الله وأن الله -تعالى- على عرشه بائن من خلقه كما وصف نفسه في كتابه وعلى لسان رسوله، صلى الله عليه وسلم، بلا كيف أحاط بكل شيء علماً (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ)(3). ا. هـ.

(1) الشفاء بشرح نور الدين القاري جـ: 5 ص: 393: 394.

(2)

أي: الخلاف في تكفير صاحبه.

(3)

عون المعبود شرح سنن أبي داود جـ: 13 ص: 48.

ص: 219