الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ترك تكفير المبتدعين بشرط الإقرار بالتوحيد والتزام الشرائع:
فهذه هي أصول الاعتقاد وأصول الدين التي اختلف السلف في تكفير من خالفها من أهل البدع بعضهم رجح التكفير والجمهور على عدم تكفيرهم بشرط أن يكونوا موحدين ملتزمين للشرائع.
قال الحافظ تعليقاً على حديث "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله".
قال: ويؤخذ منه ترك تكفير أهل البدع المقرين بالتوحيد الملتزمين للشرائع (1). ا. هـ.
قلت: فهذا ما اتفق عليه سلف الأمة أن المبتدع المختلف في تكفيره من هذه الأمة هو من كان موحداً ملتزماً للشرائع.
المبحث الثاني: شروط الاجتهاد:
وحديث "إذا اجتهد الحاكم فأصاب
…
".
فالاجتهاد يكون: في الفروع وليس في الأصول الاعتقادية فضلاً عن أصل الدين وأيضاً في الفروع التي ليس عليها قاطع من الشرع. فلا يجوز أن يُجتهد في عدد ركعات الصلاة وفرضها ولا في وجوب الحج والصيام وحرمة الفواحش التي عليها قاطع من الشرع.
فمحل الاجتهاد في جزء يسير في الشريعة فهو في: الفروع العملية التي ليست عليها قاطع من الشرع: وأما المجتهد فلا بد أن يكون جامعاً لآلة الاجتهاد فإن لم يكن جامعاً لآلة الاجتهاد فهو آثم لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث القضاة ثلاثة: اثنان في النار منهم من قضى على جهل فهو في النار فهناك شرطان حتى يؤجر المجتهد المخطأ.
أولهما: أن يكون عالماً جامعاً لآلة الاجتهاد. فالجاهل لم تأذن له الشريعة في الاجتهاد البتة.
الثاني: أن يجتهد في الفروع العملية الظنية التي ليس عليها قاطع من الشرع. فإن الشريعة قد أحكمت التوحيد وهو أصل الدين وكذلك أصول الاعتقاد وكذلك كثير من الفروع العملية كالفرائض وحرمة الفواحش فهذه ليس فيها اجتهاد ولا مأذون للاجتهاد فيها للمجتهد الجامع لآلة الاجتهاد، فضلاً عن الجاهل.
(1) جـ: 1 ص: 97 - فتح الباري.
فمن اجتهد فيها فهو آثم لا ريب كمن اجتهد فيما أذن الشرع فيه إلا أنه غير جامع لآلة الاجتهاد فهذا أيضاً آثم لا شك في ذلك. وهذا القدر متفق عليه بين سلف الأمة وأئمتها كما نقل القاضي عياض الإجماع عليه.
قال الإمام النووي تعليقاً على الحديث (إذا اجتهد الحاكم) فقال: قال لعلماء: أجمع المسلمون على أن هذا الحديث في حاكم عالم أهل للحكم فإن أصاب فله أجران أجر باجتهاده وأجر بإصابته، وإن أخطأ فله أجر باجتهاده، وفي الحديث محذوف تقديره إذا أراد الحاكم فاجتهد. قالوا: فأما من ليس بأهل للحكم فلا يحل له الحكم فإن حكم فلا أجر له بل هو آثم ولا ينفذ حكمه، سواء وافق الحق أم لا لأن إصابته اتفاقية ليست صادرة عن أصل شرعي فهو عاص في جميع أحكامه سواء وافق الصواب أم لا وهي مردودة كلها ولا يعذر في شيء من ذلك وقد جاء في الحديث في السنن: القضاة ثلاثة قاض في الجنة واثنان في النار .. وقاض قضى على جهل فهو في النار. (ثم أخذ يتكلم عن مسألة هل كل مجتهد مصيب أم المصيب واحد إلى أن قال).
وهذا الاختلاف إنما هو: في الاجتهاد في الفروع فأما أصول التوحيد فالمصيب فيها واحد بإجماع من يعتد به (1). ا. هـ.
وقال صاحب عون المعبود تعليقاً على الحديث قال: قال الخطابي: إنما يؤجر المخطئ على اجتهاده في طلب الحق. لأن اجتهاده عبادة ولا يؤجر على الخطأ بل يوضع عنه الإثم فقط.
وهذا فيمن كان جامعاً لآلة الاجتهاد عارفاً بالأصول عالماً بوجوه القياس، فأما من لم يكن محلاً للاجتهاد فهو متكلف ولا يعذر بالخطأ بل يخاف عليه الوزر ويدل عليه قوله، صلى الله عليه وسلم:"القضاة ثلاثة واحد في الجنة واثنان في النار".
وهذا إنما هو: في الفروع المحتملة للوجوه المختلفة دون الأصول التي هي أركان الشريعة وأمهات الأحكام التي لا تحتمل الوجوه ولا مدخل فيها للتأويل، فإن من أخطأ فيها كان غير معذور في الخطأ وكان حكمه في ذلك مردوداً (2). ا. هـ.
قلت: ويراجع أيضاً فتح الباري وغيرها من كتب الحديث.
(1) صحيح مسلم شرح النووي جـ: 12 ص: 13.
(2)
عون المعبود شرح سنن أبي داود جـ: 9 ص: 488: 489.
لا اجتهاد في القطعيات:
قال الإمام الشوكاني نقلاً عن الغزالي: في تعريف الاجتهاد قال فهو: استفراغ الوسع في النظر فيما لا يلحقه فيه لوم مع استفراغ الوسع فيه وهو: سبيل مسائل الفروع ولهذا تسمى هذه المسائل: مسائل الاجتهاد والناظر فيها مجتهداً وليس هكذا حال الأصول. انتهى
…
ومنهم من قال: هو استفراغ الفقيه الوسع لتحصيل ظن بحكم شرعي فزاد قيد الظن لأنه لا اجتهاد في القطعيات ..
وإذا عرفت هذا (كلام الإمام الشوكاني) فالمجتهد: هو الفقيه المستفرغ لوسعه لتحصيل ظن بحكم شرعي.
وإذا عرفت معنى الاجتهاد والمجتهد فاعلم أن المجتهد فيه: هو الحكم الشرعي العملي.
قال في المحصول: المجتهد فيه: هو كل حكم شرعي ليس فيه دليل قاطع واحترزنا بالشرعي عن العقليات ومسائل الكلام، وبقولنا ليس فيه دليل قاطع عن وجوب الصلوات الخمس والزكاة وما اتفقت عليه الأمة من جليات الشريعة ....
المسألة السابعة: اختلفوا في المسائل التي كل مجتهد فيها مصيب، والمسائل التي الحق فيها مع واحد من المجتهدين وتلخيص الكلام في ذلك يحصل في فرعين:
الفرع الأول: العقليات وهي على أنواع:
النوع الأول: ما يكون الغلط فيه مانعاً من معرفة الله ورسوله كما في إثبات العلم بالصانع والتوحيد والعدل. قالوا فهذه الحق فيها واحد فمن أصابه أصاب الحق ومن أخطأه فهو كافر.
النوع الثاني: مثل مسألة الرؤية وخلق القرآن وخروج الموحدين من النار وما يشابه ذلك فالحق فيها واحد فمن أصابه فقد أصاب، ومن أخطأه فقيل: يكفر، ومن القائلين بذلك الشافعي فمن أصحابه من حمله على ظاهره ومنهم من حمله على كفران النعمة (1). ا. هـ.
قلت: فهذا المعنى مستقر في كتب شروح السنة وكتب أصول الفقه.
(1) إرشاد الفحول ص: 250: 259 - باب الاجتهاد.
أن المجتهد لا بد أن يكون جامعاً لآلة الاجتهاد، والمُجْتهد فيه الفروع العملية التي ليس عليها قاطع فكيف يستقيم هذا مع من يقول بأن المشرك المجتهد معذور لحديث "إذا اجتهد الحاكم" ولقوله تعالى:(رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا).
وذلك لأسباب:
(1)
أن المشرك ليس من أهل القبلة.
(2)
أنه ليس بجامع لآلة الاجتهاد.
(3)
أنه اجتهد فيما لم يأذن الشرع له فيه أن يجتهد.
أما أقوال الصحابة والأئمة من بعدهم في هذه القضية فمنها:
(1)
موقف الصحابة من مانعي الزكاة ولم يعتبروا تأويلهم وخطأهم باحتجاجهم خطأ يقول الله -تعالى-: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا). بل قاتلوهم قتال مرتدين (يراجع ما جاء في هذا المقام بالنسبة لمانعي الزكاة)(1).
(2)
موقف عبد الله بن عمر رضي الله عنهما من القدرية الأول ولم يعتبر الاشتباه الذي قد وقعوا فيه وإرادتهم تنزيه الله عن الظلم فوقعوا في التنقص به من حيث لا يشعرون وبراءته منهم بمجرد سماع مقالتهم (يراجع النقل فيها)(2).
(3)
موقف الأئمة من أصحاب البدع المغلظة ولم يعتبروا تأويلهم وجهلهم وخطاهم على سبيل المثال لا الحصر -الجهمية.
قال ابن تيمية: قال: وأما تعيين الفرق الهالكة فأقدم من بلغنا عنه أنه تكلم في تضليلهم: يوسف بن أسباط ثم عبد الله بن المبارك وهما إمامان جليلان من أجلاء أئمة المسلمين قالا: أصول البدع أربعة: الروافض والخوارج والقدرية والمرجئة. فقيل: لابن المبارك والجهمية؟ فأجاب: بأن أولئك ليسوا من أمة محمد، صلى الله عليه وسلم، وكان يقول: إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية (3). ا. هـ.
وقال أيضاً: قال البخاري: وأقول: في المصحف قرآن وفي صدور الرجال قرآن فمن
(1) يراجع الفصل الثاني من الباب الثالث -مسألة: ردة مانعي الزكاة.
(2)
يراجع المبحث الرابع من الفصل الثاني من الباب الثالث -فرق القدرية وحكمها.
(3)
جـ: 3 ص: 350 لمجموع الفتاوى.
قال غير هذا: يستتاب فإن تاب وإلا فسبيله سبيل الكفر (1). ا. هـ.
وقال صاحب عون المعبود وقال الإمام أحمد في رواية الفضل بن زياد: قال سمعته وبلغه عن رجل أنه قال إن الله لا يرى في الآخرة فغضب غضباً شديداً ثم قال: من قال: إن الله لا يرى في الآخرة فقد كفر فعليه لعنة الله وغضبه من كان من الناس أليس الله عز وجل يقول: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ). وقال: (كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ). فهذا دليل على أن المؤمنين يرون الله ....
وقال أبو داود: سمعت أحمد بن حنبل وقد ذكر عنده شيء في الرؤية فغضب وقال: من قال: إن الله لا يرى فهو كافر (2). ا. هـ.
قلت: وفي هذا القدر الكفاية بفضل الله للرد على هذا الاشتباه وبيان أن رخصة الخطأ هي فيما دون أصل الدين أي: التوحيد وترك الشرك وهذا ثابت بالكتاب والسنة والإجماع وعليه سلف الأمة وأئمتها.
وقد استفضت في الرد على هذا الاشتباه (لأنه من جهة الأمانة العلمية أقوى دليل يُستدل به خطأ في هذه القضية وبمشيئة الله هذا لن يكون دأبي في بقية الشبه فمنها بمشيئة الله ما سوف أمر عليه مر الكرام إما لوهنه الشديد في الاشتباه وإما لأنه أجنبي عن الاستدلال في المسألة وبالله التوفيق.
حادثة الحواريين:
الشبهة الثانية: الاستدلال بقول الله -تعالى-: (هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُواْ اللهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ، قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ)[المائدة: 112: 113].
قالوا: فهؤلاء القوم شكوا في قدرة الله وفي صدق نبوة نبيه، صلى الله عليه وسلم، وعذروا بجهلهم والجواب:
(1) جـ: 4 ص: 182 لمجموع الفتاوى.
(2)
عون المعبود شرح سنن أبي داود جـ: 13 ص: 54: 55.
الحواريين أعلم بالله من أن يشكوا فيه:
حمل جمهور العلماء من المفسرين: قراءة يستطيع ربك على قراءة تستطيع ربك بنصب ربك بمعنى: هل تستطيع أنت أن تسأل ربك نزول المائدة. وقالوا: إن القوم أعلم من أن يشكوا في قدرة الله. وقراءة يستطيع قالوا عنها: يستطيع بمعنى: يُجيبك ربك ويطيع لك في هذا. وهذا مشهور في كلام العرب.
قال ابن تيمية: وكذلك قول الحواريين: (هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ). إنما استفهموا عن هذه القدرة (1) وكذلك ظن يونس أن لن نقدر عليه أي فسر بالقدرة كما يقال للرجل هل تقدر أن تفعل كذا؟ أي: هل تفعله؟ وهو مشهور في كلام الناس (2). ا. هـ.
وقال بعض أهل العلم: إنهم شكوا في قدرة الله وفي صحة رسالة نبيه، صلى الله عليه وسلم، وأنهم وقعوا في هذا قبل أن تستحكم المعرفة في قلوبهم وحملوا المعنى على هذا وقالوا إن القوم كفروا بهذا القول واستتابهم نبيهم، صلى الله عليه وسلم، من هذا القول بقوله:(اتَّقُواْ اللهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ).
وهذا ترجيح الإمام الطبري وكذلك قولهم (وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا).
قال الإمام الطبري أنهم شكوا في رسالته لذلك هو رجح كفرهم وجمهور المفسرين قالوا: أي نزداد يقينا وتصديقاً في رسالته، وأن القوم لم يشكوا بل طلبوا آية حسية يزدادون بها يقيناً وصدقاً خالصاً من الخواطر والهواجس النفسية.
فهل بعد هذا التفصيل -بفضل الله تعالى- لكلام المفسرين من شبهة بقيت للاحتجاج بها على قضية العذر بالجهل؟.
فالعلماء منهم من رجح الشك فكفروهم ولم يعذروهم.
والجمهور على أن القوم لم يشكوا وأنهم أعلم بالله من هذا وهو الراجح من القول وهو قول علي وعائشة وابن عباس ومجاهد (3) وأنهم طلبوا آية حسية يزدادون بها يقيناً وصدقاً.
ولم يقل أحد من العلماء: أنهم شكوا في قدرة الله وصحة الرسالة وعُذروا بهذا.
(1) أي القدرة المقارنة للمقدور أي: هل قدر هذا -وليست القدرة على الفعل.
(2)
جـ: 8 ص: 374 لمجموع الفتاوى.
(3)
يراجع تفسير الإمام البغوي.
وقوله تعالى: (وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا). أي: نرى آية حسية والعرب تضع الرؤية مكان العلم والعلم مكان الرؤية.
قال القرطبي في قوله تعالى في تحويل القبلة (إِلَاّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ)[البقرة: 143]. قال علي رضي الله عنه: معنى "لنعلم" لنرى. والعرب تضع العلم مكان الرؤية، والرؤية مكان العلم كقوله تعالى:(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ). بمعنى: ألم تعلم. ا. هـ.
فالمقصود من العلم هنا: -والله أعلم- رؤية حسية تطمئن قلوبهم بها كقوله تعالى (بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي). عن إبراهيم الخليل، صلى الله عليه وسلم، عندما سأل ربه آية حسية يزداد قلبه بها طمأنينة.
قال -البغوي- قرأ الكسائي: (هل تستطيع) بالتاء (ربك) بنصب الباء وهو قراءة علي وعائشة وابن عباس ومجاهد. أي: هل تستطيع أن تدعو وتسأل ربك. وقرأ الآخرون (يستطيع) بالياء و (ربك) برفع الباء. ولم يكونوا شاكين في قدرة الله عز وجل ولكن معناه: هل ينزل ربك أم لا؟ كما يقول الرجل لصاحبه: هل تستطيع أن تنهض معي وهو يعلم أنه يستطيع وإنما يريد هل يفعل ذلك أم لا ..
(وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا) بأنك رسول الله أي: نزداد إيماناً ويقينا ا. هـ.
وقال ابن كثير: (.. هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ) هذه قراءة كثيرين وقرأ آخرون (هل تستطيع ربك) أي: هل نستطيع أن تسأل ربك .. (وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا) أي ونزداد إيماناً بك وعلماً برسالتك).ا. هـ.
وقال القرطبي:
…
فقال السدي: المعنى: هل يطيعك ربك إن سألته (أن ينزل) فيستطيع بمعنى: يطيع كما قالوا: استجاب بمعنى: أجاب وكذلك استطاع بمعنى: أطاع. وقبل المعنى: هل يقدر ربك؟ وكان هذا السؤال في ابتداء أمرهم قبل استحكام معرفتهم بالله عز وجل. ولهذا قال عيسى في الجواب عند غلطهم وتجويزهم على الله ما لا يجوز: (اتَّقُواْ اللهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) أي: لا تشكوا في قدرة الله -تعالى-.
قلت: وفي هذا نظر لأن الحواريين خلصان الأنبياء ودخلاؤهم وأنصارهم كما قال: (مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللهِ)[الصف: 14]. وقال عليه السلام
"لكل نبي حواري وحواري الزبير". ومعلوم أن الأنبياء، صلوات الله وسلامه عليهم، جاءوا بمعرفة الله -تعالى- وما يجب له وما يجوز وما يستحيل عليه وأن يبلغوا ذلك أممهم، فكيف يخفي ذلك على من باطنهم واختص بهم حتى يجهلوا قدرة الله -تعالى-؟
…
وقيل: إن القوم لم يشكوا في استطاعة الباري سبحانه لأنهم كانوا مؤمنين عارفين عالمين، وإنما هو كقولك للرجل: هل يستطيع فلان أن يأتي، وقد علمت أنه يستطيع فالمعنى: هل يفعل ذلك؟ وهل يجيبني إلى ذلك أم لا؟ وقد كانوا عالمين باستطاعة الله -تعالى- لذلك ولغيره علم دلالة وخبر ونظر فأرادوا علم معاينة كذلك كما قال إبراهيم، صلى الله عليه وسلم، (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى). على ما تقدم وقد كان إبراهيم علم لذلك علم خبر ونظر ولكن أراد المعاينة التي لا يدخلها ريب ولا شبهة.
قلت وهذا تأويل حسن، وأحسن منه أن ذلك كان من قول: من كان مع الحواريين ..
قال ابن الحصار: وقوله سبحانه مخبراً عن الحواريين لعيسى (هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ) ليس يشك في الاستطاعة، وإنما هو تلطف في السؤال وأدب مع الله -تعالى- إذ ليس كل ممكن سبق في علمه وقوعه لكل أحد والحواريون هم كانوا خيرة من آمن بعيسى فكيف يظن بهم الجهل باقتدار الله -تعالى- على كل شيء ممكن؟ وأما قراءة التاء فقيل المعنى: هل تستطيع أن تسأل ربك. هذا قول عائشة ومجاهد رضي الله عنهما -قالت عائشة- رضي الله عنها كان القوم أعلم بالله عز وجل من أن يقولوا ""[قالت] ولكن "هل تستطيع ربك" وروى عنها أيضاً أنها قالت: كان الحواريون لا يشكون أن الله يقدر على إنزال مائدة ولكن قالوا: "هل تستطيع ربك" وعن معاذ بن جبل قال: "أقرأنا النبي، صلى الله عليه وسلم، "هل تستطيع ربك" قال معاذ: وسمعت النبي، صلى الله عليه وسلم، مراراً يقرأ بالتاء "هل تستطيع ربك". ا. هـ.
وقال الطبري:
…
فقرأ ذلك جماعة من الصحابة والتابعين "هل تستطيع" بالتاء "ربك" بالنصب بمعنى: هل تستطيع أن تسأل ربك؟ أو هل تستطيع أن تدعو ربك؟ أو هل تستطيع وترى أن تدعوه؟ وقالوا: لم يكن الحواريون شاكين أن الله -تعالى ذكره- قادر أن ينزل عليهم ذلك وإنما قالوا لعيسى: هل تستطيع أنت ذلك .... (ثم أخذ يتكلم عن قراءة يستطيع ويرجحها فقال): إن الله -تعالى ذكره- قد كره منهم ما قالوا من ذلك واستعظمه وأمرهم بالتوبة ومراجعة الإيمان من قبلهم ذلك والإقرار لله بالقدرة على كل شيء وتصديق
رسوله، صلى الله عليه وسلم، فبما أخبرهم عن ربهم من الأخبار، وقد قال عيسى لهم عند قيلهم ذلك له استعظاماً منه لما قالوا:(اتَّقُواْ اللهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ).
ففي استتابة الله إياهم ودعائه لهم إلى الإيمان به وبرسوله، صلى الله عليه وسلم، عند قيلهم ما قالوا من ذلك واستعظام نبي الله، صلى الله عليه وسلم، كلمتهم الدلالة الكافية من غيرها على صحة القراءة في ذلك بالياء ورفع "الربُ"
…
وأما قوله: "قَالَ اتَّقُواْ اللهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ" فإنه يعني: قال عيسى للحواريين القائلين له: " هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ " راقبوا الله أيها القوم وخافوا أن ينزل بكم من الله عقوبة على قولكم هذا، فإن الله لا يعجزه شيء أراده.
وفي شككم في قدرة الله على إنزال مائدة من السماءكفر به فاتقوا الله أن ينزل بكم نقمته إن كنتم مؤمنين. ا. هـ.
قلت: فهل بعد سرد كلام العلماء في هذه الآية تبقى شبهة في الاحتجاج بها في قضية العذر بالجهل في أصل الدين؟ اترك للقارئ الفاضل الإجابة على هذا السؤال.
الشبهة الثالثة:
الاستدلال بقوله تعالى: (وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ)[التوبة: 115]. وقالوا: الضلال لا يكون إلا بعد بيان وهذا النص يعم الشرك وما دونه ولفظ الضلال في هذا لا يقع إلا بعد البيان -والجواب.
منهج أهل السنة في الاستنباط:
إن أهل السنة عندما يريدون أن يستنبطوا حكماً معيناً ينظرون إلى الأدلة على أنها مجتمعة لا متفرقة وعلى أن القرآن يصدق بعضه بعضاً لا يكذب بعضه بعضاً لقوله تعالى: (كِتَاباً مُّتَشَابِهاً). أي: يشبه بعضه بعضاً لا اختلاف فيه، ولقوله تعالى:(وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلَافاً كَثِيراً). فعند الجمع بين أطراف الأدلة وتنزيل كل دليل على مناطه يتضح الحكم ويظهر بقوة وبيان وجلاء، أما أهل البدع والعياذ بالله فينظرون بنظرة متشابه وعلى آحاد الأدلة ويقتطعون الشرع ويضربون بعضه ببعض.
ففي هذه الآية ينفي القرآن فيها الضلال إلا بعد البيان ولكن هذا فيما دون الشرك والكفر لأن القرآن أثبت الضلال قبل البيان في مواضع كثيرة كقوله تعالى: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي
الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ -إلى قوله- وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ). وقوله تعالى: (وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ). [البقرة، الآية: 198].
قال القرطبي: أي: ما كنتم من قبل إنزاله (أي القرآن) إلا ضالين. ا. هـ.
وقول النبي، صلى الله عليه وسلم، في الحديث (ألم أجدكم ضلالاً فهداكم الله بي وعالة فأغناكم الله بي (1)).
وهذا عندما وجد بعض الأنصار من قسمته، صلى الله عليه وسلم، فهذه نصوص الكتاب والسنة أن المشركين قبل البيان كانوا من الضالين وكذلك قوله تعالى:(فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ اللهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ)[الأعراف: 30].
قال ابن كثير: قال ابن جرير الطبري: وهذا من أبين الدلالة على خطأ من زعم أن الله لا يعذب أحداً على معصية ركبها أو ضلالة اعتقدها، إلا أن يأتيها بعد علم منه بصواب وجهها فيركبها عناداً منه لربه فيها. لأن ذلك لو كان كذلك، لم يكن بين فريق الضلالة الذي ضل وهو يحسب أنه هاد وفريق الهدى فرق. وقد فرق الله -تعالى- بين أسمائهما وأحكامهما في هذه الآية. ا. هـ.
وقال البغوي: فيه دليل على أن الكافر الذي يظن أنه في دينه على الحق والجاحد والمعاند سواء. ا. هـ.
قلت: فهذان إمامان جليلان من أئمة السنة ابن جرير الطبري وابن كثير وكذلك الإمام البغوي على أن هذه الآية التي بين أيدينا تنص على أن الكافر الذي يظن أنه على الحق والصراط المستقيم بيد أنه في حقيقة الأمر على سبيل من السبل بسبب الجهل والتأويل أنه عير معذور فثبت بهذا النص أن الكفر والشرك مستثنى من قوله تعالى: (وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ).
قال ابن تيمية ولفظ "الضلال" إذا أطلق تناول من ضل عن الهدي سواء كان عمداً أو جهلاً ولزم أن يكون معذباً كقوله: (إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءهُمْ ضَالِّينَ، فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ). وقوله: (رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا، رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ
(1) راجع صحيح مسلم بشرح النووي جـ: 7 ص: 157.