الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الأول
الأدلة من القرآن الكريم على عدم تأثير عارض الجهل في الردة
المبحث الأول: الجهل أساس النفاق وعلته:
الدليل الأول: قوله تعالى في سورة البقرة: (وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَاّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ).
قال الطبري: وفي هذه الآية من أوضح الدليل على تكذيب الله جل ثناؤه قول الزاعمين أن الله لا يعذب من عباده إلا من كفر به عناداً بعد علمه بوحدانيته وبعد تقرر صحة ما عاند ربه تبارك وتعالى عليه من توحيده والإقرار بكتبه ورسله عنده. لأن الله جل ثناؤه قد أخبر عن الذين وصفهم بما وصفهم به من النفاق وخداعهم إياه والمؤمنين أنهم لا يشعرون أنهم مبطلون فيما هم عليه من الباطل مقيمون وأنهم بخداعهم الذي يحسبون أنهم به يخادعون ربهم وأهل الإيمان به مخدوعون ثم أخبر تعالى ذكره أن لهم عذاباً أليماً بتكذيبهم بما كانوا يكذبون من نبوة نبيه واعتقاد الكفر به وبما كانوا في زعمهم أنهم مؤمنون وهم على الكفر مصرون ا. هـ.
وقال القرطبي الآية (وَمَا يَشْعُرُونَ). أي: يفطنون أن وبال خدعهم راجع عليهم، فيظنون أنهم قد نحوا بخدعهم وفازوا، وإنما ذلك في الدنيا وفي الآخرة يقال لهم:(ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ). على ما يأتي ا. هـ.
وقال الشوكاني في قوله تعالى: (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لَاّ يَشْعُرُونَ) .. وأما نفي الشعور عنهم فيحتمل أنهم لما كانوا يظهرون الصلاح مع علمهم أنهم على الفساد الخالص ظنوا أن ذلك يتفق على النبي صلى الله عليه وسلم وينكتم عنه بطلان ما أضمروه، ولم يشعروا بأنه عالم به وأن الخبر يأتيه بذلك من السماء فكان نفي الشعور عنهم من هذه الحيثية لا من جهة أنهم لا يشعرون بأنهم على الفساد. ويحتمل أن فسادهم كان عندهم صلاحا لما استقر في عقولهم من محبة الكفر وعداوة الإسلام ....
وأخرج ابن جرير عن مجاهد في تفسير هذه الآية قال: إذا ركبوا معصية. فقيل: لهم
لا تفعلوا كذا قالوا: إنما نحن على الهدى. وأخرج ابن اسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن سلمان أنه قرأ هذه الآية. فقال: لم يجيء أهل هذه الآية بعد. قال ابن جرير: يحتمل أن سلمان أراد بهذا أن الذين يأتون بهذه الصفة أعظم فساداً من الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لا أنه عنى أنه لم يمض ممن تلك صفته أحد. انتهى.
ويحتمل أن سلمان يرى (هذا كلام الإمام الشوكاني) أن هذه الآية ليست في المنافقين بل يحملها على مثل أهل الفتن التي يدين أهلها بوضع السيف في المسلمين كالخوارج وسائر من يعتقد في فساده أنه صلاح لما يطرأ عليه من الشبه الباطلة
…
(أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء) يقول: الجهال (وَلَكِن لَاّ يَعْلَمُونَ) يقول: لا يعقلون ا. هـ.
وقال البغوي: (وَمَا يَشْعُرُونَ) أي: لا يعلمون أنهم يخدعون أنفسهم وأن وبال خداعهم يعود عليهم .. (وَلَكِن لَاّ يَشْعُرُونَ) أي: لا يعلمون أنهم مفسدون لأنهم يظنون أن الذي هم عليه من إبطان الكفر صلاح وقيل: لا يعلمون ما أعد الله لهم من العذاب ا. هـ.
وقال ابن كثير وقوله تعالى: (يُخَادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا). أي: بإظهارهم ما أظهروه من الإيمان مع إسرارهم الكفر يعتقدون بجهلهم أنهم يخدعون الله بذلك. وأن ذلك نافعهم عنده وأنه يروج عليه كما يروج على بعض المؤمنين كما قال تعالى: (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ
…
)
…
(وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَاّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ). إعلاماً منه عباده المؤمنين أن المنافقين بإساءتهم إلى أنفسهم في إسخاطهم عليها ربهم بكفرهم وشكهم وتكذيبهم غير شاعرين ولا دارين ولكنهم على عمياء من أمرهم مقيمون ..
(أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لَاّ يَشْعُرُونَ). يقول: ألا إن هذا الذي يعتمدونه ويزعمون أنه صلاح هو عين الفساد ولكن من جهلهم لا يشعرون بكونه فساداً .. (وَلَكِن لَاّ يَعْلَمُونَ) يعني: ومن تمام جهلهم أنهم لا يعلمون بحالهم في الضلالة والجهل وذلك أردى لهم وأبلغ في العمي والبعد عن الهدى ..
(أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ
…
). وهذا مثل آخر ضربه الله -تعالى- لضرب آخر من المنافقين وهم قوم يظهر لهم الحق تارة ويشكون تارة أخرى فقلوبهم في حال شكهم وكفرهم وترددهم (كصيب). ا. هـ.
أنواع المنافقين وأحوالهم:
وقال ابن تيمية: وقول من قال: (أو) هنا للتخيير -كقولهم: جالس الحسن أو ابن سرين- ليس بشيء لأن التخيير يكون في الأمر والطلب لا يكون في الخبر .. والمقصود تفهيم المؤمنين حالهم ويدل على ذلك أنه قال في "المثال الأول"(صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) وقال في "الثاني" (يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم
…
) فبين في "المثل الثاني" أنهم: يسمعون ويبصرون ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم، وفي "الأول" كانوا يبصرون ثم صاروا في ظلمات لا يبصرون. صم بكم عمي وفي "الثاني" إذا اضاء لهم البرق مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا فلهم "حالان": حال ضياء وحال ظلام، والأولون بقوا في الظلمة. فالأول: حال من كان في ضوء فصار في ظلمة. والثاني: حال من لم يستقر لا في ضوء ولا في ظلمة بل تختلف عليه الأحوال التي توجب مقامه واسترابته. يبين هذا أنه سبحانه ضرب للكفار أيضاً مثلين بحرف "أو" فقال: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ، أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ)"فالأول" مثل الكفر الذي يحسب صاحبه أنه على حق وهو على باطل، كمن زين له سوء عمله فرآه حسناً فإنه لا يعلم ولا يعلم أنه لا يعلم، فلهذا مثل بسراب بقيعة و "الثاني" مثل الكفر الذي لا يعتقد صاحبه شيئاً بل هو في ظلمات يعضها فوق بعض من عظم جهله لم يكن معه اعتقاد أنه على حق، بل لم يزل جاهلاً ضالاً في ظلمات متراكمة.
و"أيضاً" فقد يكون المنافق والكافر تارة متصفاً بهذا الوصف وتارة متصفاً بهذا الوصف، فيكون التقسيم في المثلين لتنوع الأشخاص ولتنوع أحوالهم ..
فتبين أن من المنافقين من كان آمن ثم كفر باطناً وهذا مما استفاض به النقل عند أهل العلم بالحديث والتفسير والسير أنه كان رجال قد آمنوا ثم نافقوا، وكان يجري ذلك لأسباب:
منها أمر القبلة لما حولت ارتد عن الإيمان لأجل ذلك طائفة، وكانت محنة امتحن الله بها الناس. قال تعالى: (وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَاّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ
…
) لنمتحن بتحويلك عنها الناس فيتبين من يتبع الرسول
ممن ينقلب على عقبيه، فكان في شرعها هذه الحكمة، وكذلك أيضاً لما انهزم المسلمون يوم أحد، وشج وجه النبي صلى الله عليه وسلم وكسرت رباعيته. ارتد طائفة نافقوا قال تعالى:(.. وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين) وقال تعالى: (.. هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ ..). فقوله: (وَلْيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ) ظاهر فيمن أحدث نفاقاً وهو يتناول من لم ينافق، قيل ومن نافق ثم جدد نفاقا ثانياً.
وقوله: (هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ) يبين لهم أنهم لم يكونوا قبل ذلك أقرب منهم بل إما أن يتساويا وإما أن يكونوا للإيمان أقرب. وكذلك كان، فإن ابن أبي لما انخذل عن النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد انخذل معه ثلث الناس قيل: كانوا نحو ثلاثمائة، وهؤلاء لم يكونوا قبل ذلك كلهم منافقين في الباطن إذ لم يكن لهم داع إلى النفاق.
وفي الجملة: ففي الأخبار عمن نافق بعد إيمانه ما يطول ذكره هنا، فأولئك كانوا مسلمين وكان معهم إيمان هو الضوء الذي ضرب الله به المثل فلو ماتوا قبل المحنة والنفاق ماتوا على هذا الإسلام الذي يثابون عليه ولم يكونوا من المؤمنين حقاً الذين امتحنوا فثبتوا على الإيمان. ولا من المنافقين حقاً الذين ارتدوا عن الإيمان بالمحنة وهذا حال كثير من المسلمين في زماننا أو أكثرهم إذا ابتلوا بالمحن التي يتضعضع فيها أهل الإيمان ينقص إيمانهم كثيراً وينافق أكثرهم أو كثير منهم. ومنهم من يظهر الردة إذا كان العدو غالباً. وقد رأينا ورأى غيرنا من هذا ما فيه عبرة. وإذا كانت العافية، أو كان المسلمون ظاهرين على عدوهم كانوا مسلمين. وهم مؤمنون بالرسول باطناً وظاهراً لكن إيماناً لا يثبت على المحنة (1) ا. هـ.
قلت: ومن هذه الآيات بفهم السلف الصالح لها يعلم أن المنافقين أجناس كثيرة.
منهم من كان يظهر الإسلام ويبطن الكفر ويظن أنه على صلاح وأن أمره هذا سيروج على الله (والعياذ بالله من هذا) كما راج على النبي صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا، وهذا لجهلهم بالله. ولم يعلموا أنه -جل ثناؤه- قد أحاط بكل شيء علما وأنه يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
(1) جـ: 7 ص: 276: 281 لمجموع الفتاوى.
ومنهم من يتردد بين الإيمان والنفاق لما يعتريه من الشكوك وليس لديه من العلم النافع ما يدفعها ويدحضها فتارة يكون مؤمناً إذا جاءه الوضوء، ثم إذا ذهب عنه وحل محله الظلام وقع في النفاق.
ومنهم من يكون مؤمناً ظاهراً وباطناً إلا أن إيمانه ضعيف لا يثبت على المحنة والبلاء فإذا أحاط به البلاء ارتد على عقبيه كالذين ارتدوا ساعة تحول القبلة وساعة أسرى بالنبي صلى الله عليه وسلم وكذلك يوم أحد نافق كثير منهم لم يكونوا من قبل منافقين وقد جاء ذكر هذا الصنف في قوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ)[الحج: 11]. ثبت في البخاري عن ابن عباس في هذه الآية قال: كان الرجل يقدم المدينة فإن ولدت امرأته غلاماً ونتجت خيله قال: هذا دين صالح وإن لم تلد امرأته ولم تنتج خيله قال هذا دين سوء.
قال مجاهد: (انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ) أي: ارتد كافرا (1).
فهذا الرجل الذي جاء مهاجراً ليدين بالإسلام ظاهراً وباطناً وجعل خير القدر علامة على صحة هذا الدين وشره علامة على بطلانه فارتد عن الإسلام بنوع من الجهل والتأويل.
وقد أنزل العلماء هذه النصوص في أهل البدع بجامع: (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لَاّ يَشْعُرُونَ). كما قال الإمام الشنقيطي عند تفسير هذه الآيات: والآية التي نحن بصددها وإن كانت في المنافقين. فالعبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب (2) ا. هـ.
فكل من كان على عمل فاسد يظنه صلاحاً وأنه بهذا العمل من صفوة الله من خلقه وهو في حقيقة الأمر لا يزداد به من الله إلا بعداً ومقتاً تشمله هذه الآيات التي نحن بصددها سواء كان هذا العمل ابتداع أم إشراك بالله وهؤلاء الأجناس جميعاً يحسبون أنهم على شيء.
ولهذا يقول جل ثناؤه: (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ). [المجادلة: 18].
قال القرطبي: (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ) بإنكارهم وحلفهم. قال ابن زيد: ظنوا أنهم ينفعهم في الآخرة .. وعن ابن عباس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يناد مناد يوم القيامة
(1) راجع تفسير ابن كثير.
(2)
أضواء البيان في قوله تعالى: (.. فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ ..).
أين خصماء الله فتقوم القدرية مسودة وجوههم مزرقة أعينهم مائل شدقهم يسيل لعابهم فيقولون والله ما عبدنا من دونك شمساً ولا قمراً ولا صنماً ولا وثناً ولا اتخذنا من دونك إلهاً"
قال ابن عباس: صدقوا والله أتاهم الشرك من حيث لا يعلمون ثم تلا: (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ). هم والله القدرية ثلاثاً ا. هـ.
وقال الطبري: وقوله (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ) يقول: ويظنون أنهم في أيمانهم وحلفهم بالله كاذبين على شيء من الحق ا. هـ.
وقال ابن كثير: أي: يحلفون بالله عز وجل أنهم كانوا على الهدى والاستقامة كما كانوا يحلفون للناس في الدنيا، لأن من عاش على شيء مات عليه وبعث عليه ويعتقدون: أن ذلك ينفعهم عند الله كما كان ينفعهم عند الناس فيجرون عليهم الأحكام الظاهرة ولهذا قال: (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ). أي: حلفهم ذلك لربهم عز وجل ا. هـ.
وقال الشوكاني: (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ) أي: يحسبون في الآخرة أنهم بتلك الأيمان الكاذبة على شيء مما يجلب نفعاً أو يدفع ضرراً كما كانوا يحسبون ذلك في الدنيا ا. هـ.
قلت: فهذه النصوص بأقوال أهل العلم شاهدة: بأن آفة جميع المنافقين الجهل والتأويل وظنهم أنهم على شيء يظنونه صلاحاً، وأنهم به أهل العقل دون غيرهم ممن ليس على معتقدهم وأنهم بهذا ناجون في الدنيا والآخرة. وهم بهذا لا يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون وأعيد في هذا المقام قول الإمام الطبري السابق ذكره:
وفي هذه الآية من أوضح الدليل على تكذيب الله جل ثناؤه قول الزاعمين أن الله لا يعذب من عباده إلا من كفر به عناداً بعد علمه بوحدانيته وبعد تقرر صحة ما عاند ربه تبارك -وتعالى- عليه من توحيده والإقرار بكتبه ورسله عنده. لأن الله جل ثناؤه قد أخبر عن الذين وصفهم بما وصفهم به من النفاق وخداعهم إياه والمؤمنين أنهم لا يشعرون أنهم مبطلون فيما هم عليه من الباطل مقيمون وأنهم بخداعهم الذي يحسبون أنهم به يخادعون ربهم وأهل الإيمان به مخدوعون وأخبر تعالى ذكره: أن لهم عذاباً أليماً بتكذيبهم بما كانوا يكذبون من نبوة نبيه واعتقاد الكفر به، وبما كانوا في زعمهم أنهم مؤمنون وهم على الكفر مصرون".
وقول الإمام الشنقيطي: "والآية التي نحن بصددها وإن كانت في المنافقين. فالعبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب".
ومن الأمثلة على هذا: حادثة ذي الخويصره التميمي أصل الخوارج عندما اعترض على قسمة النبي صلى الله عليه وسلم ونسبه إلى الجور -والعياذ بالله- وقال له: اعدل يا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد قال هذا القول لأنهم كانوا لا يعتقدون: عصمة الأنبياء عليهم السلام ثم رأى منكراً في ظنه فأنكره فظهر نفاقه وكفره بهذا الإنكار، وهو لا يشعر ولا يعلم بكفره ونزل قول الله تبارك وتعالى:(وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ).
قال ابن تيمية في هذه الآية: واللمز: العيب والطعن قال مجاهد: يتهمك ويزريك. وقال عطاء: يغتابك وقال تعالى: (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ)[التوبة: 61]. الآية وذلك يدل على أن كل من لمزه أو آذاه كان منهم لأن (الذين) و (من) اسمان موصولان وهما من صيغ العموم. والآية وإن كانت نزلت بسبب لمز قوم أو إيذاء آخرين فحكمهما عام كسائر الآيات اللواتي نزلن على أسباب وليس بين الناس خلاف نعلمه أنها تعم الشخص الذي نزلت بسببه ومن كان حاله كحاله ..
وأيضاً فإن كونه منهم حكم متعلق بلفظ مشتق من اللمز والأذى وهو مناسب لكونه منهم فيكون ما منه الاشتقاق هو علة لذلك الحكم فيجب اطراده .. وذلك أن الإيمان والنفاق أصله في القلب وإنما الذي يظهر من القول والفعل فرع له ودليله عليه فإذا ظهر من الرجل شيء من ذلك ترتب الحكم عليه، فلما أخبر سبحانه أن الذين يلمزون النبي صلى الله عليه وسلم والذين يؤذونه من المنافقين ثبت أن ذلك دليل على النفاق وفرع له، ومعلوم أنه إذا حصل فرع الشيء ودليله حصل أصله المدلول عليه فثبت أنه حيثما وجد ذلك كان صاحبه منافقاً سواء كان منافقاً قبل هذا القول أو حدث له النفاق بهذا القول (1) ا. هـ.
قلت: ويدخل في هذا أيضاً من يظن من أهل الكلام أنه لا يحتاج إلى علم الشريعة إلا في الأمور العملية دون العلمية الاعتقادية -أي: أنه ليس في حاجة في علم العقيدة للشريعة ولا يتقيد بحدودها.
(1) الصارم المسول ص: 30.