الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني: العلم والعمل ركنا الإيمان
.
من المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام أن العلم هو: الركن الأول من أركان الإيمان وهو أصل التصديق والاعتقاد واليقين ولا يتصور وجودهم إلا به فهو سابق عليهم ومصحح لهم جميعاً وأن الالتزام والانقياد وقبول الأحكام من الله وحده هو: ركن الإيمان الثاني وهو عمل القلب.
قال القاضي أبو بكر بن العربي وأما من قال: إنه (أي الإيمان) الاعتقاد والقول والعمل فقد جمع الأقوال كلها، وركب تحت اللفظ مختلفات كثيرة ولم يبعد من طريق التحقيق في جهة الأصول ولا في جهة اللغة. أما في جهة اللغة فلأن الفعل يصدق القول أو يكذبه قال النبي صلى الله عليه وسلم:"العينان تزنيان واليدان تزنيان والرجلان تزنيان والنفس تمني وتشتهي والفرج يصدق ذلك أو يكذبه" فإذا علم: أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم فليتكلم بمقتضي علمه وإذا تكلم بما علم فليعمل بمقتضى علمه فيطرد الفعل والقول والعمل فيقع إيماناً لغوياً شرعياً (1). ا. هـ.
وقال ابن القيم وها هنا أصل آخر، وهو أن حقيقة الإيمان مركبة من قول وعمل: والقول قسمان: قول القلب وهو: الاعتقاد، وقول اللسان وهو: التكلم بكلمة الإسلام والعمل قسمان: عمل القلب وهو نيته وإخلاصه، وعمل الجوارح. فإذا زالت هذه الأربعة زال الإيمان بكماله، وإذا زال تصديق القلب لم تنفع بقية الأجزاء فإن تصديق القلب شرط في اعتقادها وكونها نافعة. وإذا زال عمل القلب مع اعتقاد الصدق فهذا موضع المعركة بين المرجئة وأهل السنة، فأهل السنة مجمعون على زوال الإيمان وأنه لا ينفع التصديق مع انتفاء عمل القلب وهو محبته وانقياده كما لم ينفع إبليس وفرعون وقومه واليهود والمشركين الذين كانوا يعتقدون صدق الرسول، بل ويقرون به سراَ وجهراً ويقولون: ليس بكاذب ولكن لا نتبعه ولا نؤمن به
…
فإن يلزم من عدم طاعة القلب عدم طاعة الجوارح، إذ لو أطاع القلب وانقاد أطاعت الجوارح وانقادت، ويلزم من عدم طاعته وانقياده عدم التصديق المستلزم للطاعة، وهو حقيقة الإيمان. فإن الإيمان ليس مجرد التصديق -كما تقدم بيانه، وإنما هو التصديق المستلزم للطاعة
(1) أحكام القرآن جـ: 2 ص: 945 لأبي بكر بن العربي.
والانقياد (ثم أخذ الشيخ يتحدث عن الكفر الاعتقادي والعملي والكفر الأكبر والأصغر وكذلك الشرك والظلم والجهل والنفاق ثم قال في ص: 59). فانظر كيف انقسم الشرك والكفر والفسوق والظلم والجهل: إلى ما هو كفر ينقل عن الملة، وإلى ما لا ينقل عنها (1). ا. هـ.
قلت: انظر -رحمك الله- إلى قول الشيخ: إذ التصديق شرط في اعتقادهما وكونها نافعة -أي الشهادتين- ومن المعلوم أن التصديق فرع العلم لذلك قال بعد ذلك أن الجهل منه ما يخرج عن الملة ومنه ما لا يخرج. فإن لم يكن الجهل بقبح الشرك وحسن التوحيد الذي هو أصل الأصول هو الجهل المخرج عن الملة فما هو إذا؟!
وأن التصديق لا ينفع إن لم يكن مستلزماً للطاعة والانقياد وأن طاعة القلب تستلزم طاعة الجوارح وعدم انقياد الجوارح يدل على خلو القلب من التصديق المستلزم للطاعة الذي هو حقيقة الإيمان.
وأن أهل السنة مجمعون على زوال الإيمان إذا زال عمل القلب، وأن هذا هو موضع المعركة بين: أهل السنة والمرجئة.
قال ابن تيمية: فقد علمنا من دينه ضرورة أنه يكفر الشخص مع ثبوت التصديق بنبوته في القلب إذا لم يعمل بهذا التصديق بحيث يحبه ويعظمه ويسلم لما جاء به (2). ا. هـ.
شروط تحقيق الإيمان:
وقال كانوا (أي السلف) يقولون: الإيمان معرفة بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالأركان (3) ا. هـ.
وقال (وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء) وقوله (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ) الآية فجعل الله هذه الأمور شرطاً في ثبوت حكم الإيمان فثبت أن الإيمان: المعرفة بشرائط لا يكون معتداً به دونها (4). أ. هـ.
وقال: وقال أحمد بن حنبل: حدثنا أبو سلمة الخزاعي قال: قال مالك وشريك وأبو بكر
(1) كتاب الصلاة ص: 54.
(2)
جـ: 7 ص: 131 لمجموع الفتاوى.
(3)
جـ: 7 ص: 144 لمجموع الفتاوى.
(4)
جـ: 7 ص: 150 لمجموع الفتاوى.
بن عياش وعبد العزيز بن أبي سلمة وحماد بن سلمة وحماد بن زيد: الإيمان المعرفة والإقرار والعمل (1). ا. هـ.
وقال: قال أحمد: وأما من زعم أن الإيمان الإقرار. فما يقول في المعرفة؟ هل يحتاج إلى المعرفة مع الإقرار؟ وهل يحتاج أن يكون مصدقاً بما عرف؟ فإن زعم أنه يحتاج إلى المعرفة مع الإقرار فقد زعم أنه من شيئين وإن زعم أنه يحتاج أن يكون مقراً ومصدقاً بما عرف فهو من ثلاثة أشياء وإن جحد وقال لا يحتاج إلى المعرفة والتصديق فقد قال قولاً عظيماً ولا أحسب أحداً يدفع المعرفة والتصديق وكذلك العمل مع هذه الأشياء (2) ا. هـ.
وقال: أمرنا الله أن نقول في الصلاة (اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ). وقال النبي، صلى الله عليه وسلم، "اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون". لأن اليهود يعرفون الحق كما يعرفون أبناءهم ولا يتبعونه لما فيهم من الكبر والحسد الذي يوجب بغض الحق ومعاداته والنصارى لهم عبادة وفي قلوبهم رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوها، لكن بلا علم فهم ضلال. هؤلاء لهم معرفة بلا قصد صحيح، وهؤلاء لهم قصد في الخبر بلا معرفة له وينضم إلى ذلك الظن، واتباع الهوى فلا يبقى في الحقيقة معرفة نافعة ولا قصد نافع بل يكون كما قال تعالى عن مشركي أهل الكتاب:(وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ). وقال تعالى: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَاّ يَفْقَهُونَ بِهَا ..). فالإيمان في القلب لا يكون إيماناً بمجرد تصديق ليس معه عمل القلب وموجبه من محبة الله ورسوله ونحو ذلك كما أنه لا يكون إيماناً بمجرد ظن وهوى بل لا بد في أصل الإيمان من قول القلب وعمل القلب (3) ا. هـ.
وقال ابن القيم: قالوا: والقلب عليه واجبان لا يصير مؤمناً إلا بهما جميعاً: واجب المعرفة والعلم، وواجب الحب والانقياد والاستسلام. فكما لا يكون مؤمناً إذا لم يأت بواجب العلم والاعتقاد لا يكون مؤمناً إذا لم يأت بواجب الحب والانقياد والاستسلام بل إذا ترك هذا الواجب مع علمه ومعرفته به كان أعظم كفراً وأبعد عن الإيمان من الكافر جهلاً (4). ا. هـ.
(1) جـ: 7 ص: 239 لمجموع الفتاوى.
(2)
جـ: 7 ص: 393 لمجموع الفتاوى.
(3)
جـ: 7 ص: 528: 529 لمجموع الفتاوى.
(4)
مفتاح دار السعادة جـ: 1 ص: 95.
وقال: فإن الإيمان فرض على كل واحد وهو: ماهية مركبة من علم وعمل فلا يتصور وجود الإيمان إلا بالعلم والعمل
…
وهل تمكن عبادة الله التي هي حقه على العباد كلهم إلا بالعلم وهل ينال العلم إلا بطلبه (1). ا. هـ.
قلت: فساعة إقرار العبد بالشهادتين تجري عليه أحكام الإسلام مع افتراض وجود الإيمان في الباطن الذي يصحح له إسلامه -ما لم يلتبس مع إقراره بشرك ظاهر أو دليل على عدم تغير الاعتقاد -فإن عبد غير الله بعد إقراره، أو والى المشركين ونصرهم وأحبهم، أو تحاكم إلى الطاغوت أو استهزأ بشيء من آيات الله، أو سوغ اتباع شريعة غير شريعة الله أو تولى عن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يلتزم طريقه ومنهاجه، أو سوغ طريقاً إلى الله غير طريقه. علمنا بهذا الظاهر فساد أصل الإيمان في الباطن. إما بسبب تخلف العلم الذي هو أحد ركني الإيمان وهو قول القلب أو تخلف الانقياد والمحبة وهو شقه وركنه الثاني وهو عمل القلب. وبفساد الإيمان الذي هو شرط كما نص العلماء لصحة الإسلام يفسد أيضاً الإسلام ويكون العبد بهذا كافراً في الظاهر والباطن وهذا لنقضه الشهادتين اللتين هما أصل الدين خاصة.
قال ابن رجب: من أقر بالشهادتين صار مسلماً حكماً فإذا دخل في الإسلام بذلك ألزم بالقيام ببقية خصال الإسلام، ومن ترك الشهادتين خرج من الإسلام وفي خروجه من الإسلام بترك الصلاة خلاف معروف مشهور بين العلماء وكذلك في تركه بقية مباني الإسلام الخمس (2). ا. هـ.
وقبل أن أختم هذا الباب بمشيئة الله وعونه سأذكر رؤوس المسائل التي جاءت فيه:
1 -
إن الانتقال من الشرك والكفر إلى الإسلام ورفع السيف عن رؤوس المشركين شرطه الانخلاع من الشرك وإفراد الله بالطاعة والتأله له وحده لا شريك له.
2 -
العلم بالشهادتين شرط في الانتقال لأنه لا يتم الانخلاع من الشرك إلى التوحيد إلا به.
3 -
التزام التوحيد والإسلام في الظاهر متابعة للآباء المتابعة المحضة دون اعتقاده في الباطن لا ينفع صاحبها في الآخرة.
(1) المصدر السابق جـ: 1 ص: 156.
(2)
جامع العلوم والحكم ص: 23.
4 -
المشرك جاهل بالله لا يعرفه ولا يعبده، بل هو عابد للشيطان وإن زعم غير هذا أياً كان هذا المشرك.
5 -
العبادة لا تكون ولا تقع إلا بشرطين وهما: إفراد الله بالتأله وحده لا شريك له وأن يكون حال العبد الاستسلام لله وحده.
6 -
هناك صفات لله من جهلها جهله ولم يعرفه. وأول واجب على جميع العباد العلم بهذه الصفات التي بها تعلم ألوهية الله، ويخرج العبد بها من عبادة الآلهة إلى عبادة الله الواحد القهار.
7 -
لا نجاة لعبد في الآخرة إلا بالنطق بالشهادتين مع العلم بمدلولهما والتصديق واليقين مع التزامهما في الظاهر والباطن.
8 -
الإسلام هو الاستسلام لله وحده وإفراده بالطاعة فمن عبده وعبد معه غيره لم يكن مسلماً ومن لم يعبده فهو مستكبر عن عبادته وكلاهما كافر بربه.
9 -
الإقرار بالرسالة يلزم الانقياد لها وإلا كان فاسداً لا حقيقة له ولا تجري به الأحكام.
10 -
الحنيف هو: التارك للشرك قصداً وعلى بصيرة للاستسلام لله وحده.
11 -
الشرك هو: عبادة غير الله والحجة على بطلانه الميثاق والفطرة والعقل، وصاحبه لا يعذب في الدارين إلا بعد قيام الحجة الرسالية، وكذلك لا ينعم في الآخرة وليس بمسلم في الدنيا حتى: يوحد الله الواحد القهار ويكفر بما يعبد من دونه.
12 -
قبول الأحكام من غير الله ورسوله شرك وقبول للتأله من دون الله.
13 -
من عصى الله مستكبراً كفر بالاتفاق، ومن عصاه مشتهياً لم يكفر عند أهل السنة والجماعة ولا يكفره إلا الخوارج. لأن العاصي المستكبر متمرد على حاكمية الله ومتعد حد العبودية التي خلق لها.
14 -
الإسلام لا يقبل إلا بإيمان في الباطن يصححه والإيمان لا ينفع إلا بإسلام في الظاهر يبينه وإلا كان ادعاء، والإيمان هو: الإقرار والمعرفة والالتزام.
15 -
النطق بالشهادتين يجري به الأحكام في الدنيا -ما لم يُلتبس بهما شرك أو دليل ظاهر على عدم تغير الاعتقاد- ويُفترض في قائلها توفر الإيمان في الباطن لديه الذي يصحح له إسلامه فإذا أتى بناقض علمنا به فساد الإيمان وبالتالي فساد الإسلام لديه.
16 -
من حكم بأن كل من نطق بالشهادتين دون التزام أنه من أهل الجنة ولا يعذب بالنار فهو كافر مرتد يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه لأنه يلزم من هذا تسويغ النفاق.
وقبل أن أختم هذا الفصل -أقدم عذري لك أخي القارئ على إطالة هذا الفصل ولكني أردت أن أثبت فيه أن هذه القضية التي نحن بصددها قد تضافرت عليها النصوص والدلائل من الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة وأئمتها وأنها عقيدة موروثة من الكتب السماوية والرسالات لذلك عرضتها من أوجه كثيرة لأن الأمر إذا تكرر تقرر.
فتارة عرضتها من خلال دلالات النصوص عليها بفهم سلف الأمة، وتارة من خلال أقوال السلف الصالح وتوصيفهم إياها، وتارة من خلال علاقتها وارتباطها بقضية الإيمان، وتارة من خلال فهم معنى التأله والعبادة وما هذا كله إلا لتحديد حقيقة الإسلام لنستقيم عليها، وندعو الناس لها لتحقيق النجاة لهم، وللقضاء على جرثومة الارجاء التي أسلمت الأمة فريسة سهلة لأعدائها وخرجت أجيالاً تعتقد أن الإسلام هو: مجرد التلفظ بالشهادتين دون البراءة من الشرك والمشركين. وأن مجرد التلفظ بها فقد دون الانخلاع من الشرك كاف في تحقيق النجاة في الدارين.
ونتج عن هذا أن دخلت علينا جميع وشتى ألوان الشرك والإلحاد دون نكير من العلماء والعباد والدعاة -إلا من رحم الله "وقليل ما هم"- وإلى الله المشتكي ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وبهذا انتهى هذا الفصل -بفضل الله وعونه وكرمه-.
* * *