الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني
الأدلة من السنة المطهرة على عدم تأثير عارض الجهل في الردة
المبحث الأول: حكم الاعتراض على حكم النبي صلى الله عليه وسلم:
الدليل الأول: وأما السنة المطهرة فأذكر أولاً عدة أحاديث مع تعليق مبسط عليها خشية الإطالة.
قال ابن تيمية: (بعد ذكر أحاديث الخوارج): ومن ذلك ما رواه ابن أبي عاصم وأبو الشيخ في الدلائل بإسناد صحيح عن قتادة عن عقبة بن وساج عن ابن عمر قال: أتى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بقليد من ذهب وفضة فقسمه بين أصحابه فقام رجل من أهل البادية فقال يا محمد والله لئن أمرك الله أن تعدل فما أراك تعدل فقال:"ويحك من يعدل عليك بعدي". فلما ولى قال: "ردوه علي رويدا". ومن ذلك قول الأنصاري الذي حاكم الزبير في شراج الحرة لما قال له، صلى الله عليه وسلم، "اسق يا زبير ثم سرح الماء إلى جارك". فقال: أن كان ابن عمتك؟ وحديث الرجل الذي قضى عليه فقال: لا أرضى ثم ذهب إلى أبي بكر ثم إلى عمر فقتله.
ولهذا نظائر في الحديث إذا تتبعت مثل الحديث المعروف عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أن أخاه أتى النبي، صلى الله عليه وسلم، فقال:
…
إن الناس يزعمون أنك تنهى عن الفيء وتستخل به فقال صلى الله عليه وسلم: "لئن كنت أفعل ذلك إنه لعلى وما هو عليهم خلوا له جيرانه" رواه أبو داود بإسناد صحيح.
فهذا وإن كان حكى القذف عن غيره فإنما قصد به انتقاصه وإيذاءه بذلك ولم يحكه على وجه الرد على من قاله. وهذا من أنواع السب.
ومثل حديث ابن إسحاق عن هشام عن أبيه عن عائشة قالت: ابتاع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، جزوراً من أعرابي بوسق من تمر الذخيرة فجاء به إلى منزله. فالتمس التمر فلم يجده في البيت قال: فخرج إلى الأعرابي فقال: "يا عبد الله إنا ابتعنا منك جزورك هذا بوسق من تمر
الذخيرة ونحن نرى أنه عندنا فلم نجده". فقال الأعرابي: واغدراه واغدراه فوكزه الناس وقالوا: لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، تقول هذا؟ فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، (دعوه) رواه ابن أبي عاصم وابن حبان في الدلائل.
فهذا الباب كله مما يوجب القتل ويكون به الرجل كافراً منافقاً حلال الدم، كان النبي صلى الله عليه وسلم، وغيره من الأنبياء يعفون ويصفحون عمن قاله امتثالاً لقوله تعالى:(خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) ..
ويبين ذلك (أي عفوه، صلى الله عليه وسلم، عمن سبّه) ما روى إبراهيم بن الحكم بن أبان حدثني أبي عن عكرمة عن أبي هريرة رضي الله عنه أن أعرابياً جاء إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، يستعينه في شيء فأعطاه شيئاً ثم قال:"أحسنت لك؟ قال الأعرابي: لا ولا أجملت. قال: فغضب المسلمون وقاموا إليه فأشار إليهم أن كفوا ثم قام فدخل منزله ثم أرسل إلى الأغرابي فدعاه إلى البيت يعني أعطاه فرضي فقال: إنك جئتنا فسألتنا فأعطيناك فقلت ما قلت وفي أنفس المسلمين شيء من ذلك فإن أحببت فقل بين أيديهم ما قلت بين يدي حتى يذهب من صدورهم ما فيها عليك قال: نعم فلما كان الغد أو العشى جاء وقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إن صاحبكم جاء فسألنا فأعطيناه فقال ما قال وإنا دعوناه إلى البيت فأعطيناه فزعم أنه قد رضى أكذلك؟ قال الأعرابي: نعم فجزاك الله من أهل وعشيرة خيراً فقال النبي، صلى الله عليه وسلم، "ألا إن مثلي ومثل هذا الأعرابي كمثل رجل كانت له ناقة فشردت عليه فاتبعها الناس فلم يزيدوها إلا نفوراً فناداهم صاحب الناقة خلوا بيني وبين ناقتي فأنا أرفق بها فتوجه لها صاحب الناقة بين يديها فأخذ لها من قمام الأرض فجاءت فاستناخت فشد عليها رحلها واستوى عليها وإنى لو تركتكم حين قال الرجل ما قال فقتلتموه دخل النار".
ورواه أبو أحمد العسكري بهذا الإسناد قال: جاء أعرابي إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد أعطني فإنك لا تعطيني من مالك ولا مال أبيك فأغلظ للنبي، صلى الله عليه وسلم، فوثب إليه أصحابه فقالوا: يا عدو الله تقول هذا لرسول الله، صلى الله عليه وسلم،؟ وذكره بهذا يبين لك: أن قتل ذلك الرجل لأجل قوله ما قال كان جائزاً قبل الاستتابة وأنه صار كافراً بتلك الكلمة ولولا ذلك لما كان يدخل النار إذا قتل على مجرد تلك الكلمة بل كان يدخل الجنة لأنه مظلوم شهيد وكان قاتله دخل النار لأنه قتل مؤمناً متعمداً ولكان النبي، صلى الله عليه وسلم، يبين أن قتله لم يحل لأن سفك الدم بغير حق من أكبر الكبائر
وهذا الأعرابي كان مسلماً، ولهذا قال، صلى الله عليه وسلم، في حقه لفظ (صاحبكم) ولهذا جاء الأعرابي يستعينه. ولو كان كافراً محارباً لما جاء يستعينه في شيء ولو كان النبي، صلى الله عليه وسلم، أعطاه ليسلم لذكر في الحديث أنه أسلم فلم يجر للإسلام ذكر دل على أنه كان ممن دخل في الإسلام وفيه جفاء الأعراب وممن دخل في قوله تعالى:(فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ)(1). ا. هـ.
وقال الحافظ معلقاً على حديث (أن كان ابن عمتك).
وإنما لم يعاقب النبي، صلى الله عليه وسلم، صاحب القصة لما كان عليه من تأليف الناس كما قال في حق كثير من المنافقين (لا يتحدث الناس أن محمداً، صلى الله عليه وسلم، يقتل أصحابه).
قال القرطبي: فلو صدر مثل هذا من أحد في حق النبي صلى الله عليه وسلم أو في حق شريعته لقتل قتلة زنديق ونقل النووي نحوه عن العلماء والله أعلم (2) ا. هـ.
وقال ابن القيم -بعد ذكر حكم من سب النبي أنه كفر وردة -فقال: وأما تركه، صلى الله عليه وسلم، قتل من قدح في عدله بقوله: اعدل فإنك لم تعدل، وفي حكمه بقوله: أن كان ابن عمتك، وفي قصده بقوله: إن هذه قسمة ما أريد بها وجه الله، أو في حكومته بقوله: يقولون إنك تنهى عن الفيء وتستحلى به وغير ذلك.
فذلك أن الحق له فله أن يستوفيه، وله أن يتركه وليس لأمته ترك استيفاء حقه صلى الله عليه وسلم (3) ا. هـ
حكم من تعمد الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم:
قال ابن تيمية: السنة الثالثة عشرة (4): ما رويناه من حديث أبي القاسم عبد الله بن محمد البغوي .. أن النبي، صلى الله عليه وسلم، بلغه أن رجلاً قال لقوم: إن النبي، صلى الله عليه وسلم، أمرني أن أحكم فيكم برأيي وفي أموالكم كذا وكذا وكان خطب امرأة منهم في الجاهلية فأبوا أن يزوجوه ثم ذهب حتى نزل على المرأة، فبعث القوم إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ففال: كذب عدو الله ثم أرسل
(1) الصارم المسلول ص: 201: 205.
(2)
فتح الباري جـ: 5 ص: 49 - كتاب الشرب والمساقاة.
(3)
زاد المعاد جـ: 3 ص: 214.
(4)
أي: في حكم من سب النبي صلى الله عليه وسلم.
رجلاً فقال: إن وجدته حياً فاقتله وإن أنت وجدته ميتاً فحرقه بالنار، فانطلق فوجده قد لُدغ فمات فحرقه بالنار فعند ذلك قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، "من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار". ورواه أبو أحمد بن عدي في كتابه الكامل .. عن ابن بريدة عن أبيه قال: كان حي من بني ليث من المدينة على ميلين وكان رجل قد خطب منهم في الجاهلية فلم يزوجوه، فأتاهم وعليه حلة فقال: إن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كساني هذه الحلة وأمرني أن أحكم في أموالكم ودمائكم ثم انطلق فنزل على تلك المرأة التي كان يحبها فأرسل القوم إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال كذب: عدو الله ثم أرسل رجلاً فقال: "إن وجدته حياً -وما أراك تجده حياً- فاضرب عنقه وإن وجدته ميتاً فحرقه بالنار" قال: فذلك قول رسول الله، صلى الله عليه وسلم، "من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار". هذا إسناد صحيح على شرط الصحيح لا نعلم له علة
…
وللناس في هذا الحديث قولان.
أحدهما: الأخذ بظاهره في قتل من تعمد الكذب على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ومن هؤلاء من قال يكفر بذلك قاله جماعة منهم: أبو محمد الجويني حتى قال ابن عقيل عن شيخه.
أبي الفضل الهمداني: مبتدعة الإسلام والكذابون والواضعون للحديث أشد من الملحدين قصدوا إفساد الدين من خارج، وهؤلاء قصدوا إفساده من داخل، فهم كأهل بلد سعوا في فساد أحواله. والملحدون كالمحاصرين من خارج، فالدخلاء يفتحون الحصن. فهم شر على الإسلام من غير الملابسين له.
ووجه هذا القول أن الكذب عليه كذب على الله ولهذا قال: "إن كذباً علي ليس ككذب على أحدكم" فإن ما أمر به الرسول، صلى الله عليه وسلم، فقد أمر الله به يجب اتباعه كوجوب اتباع أمر الله وما أخبر به وجب تصديقه كما يجب تصديق ما أخبر الله به
…
ومعلوم أن من كذب على الله بأن زعم أنه رسول الله أو نبيه أو أخبر عن الله خبراً كذب فيه كمسيلمة والعنسي ونحوهما من المتنئين فإنه كافر حلال الدم، فكذلك من تعمد الكذب على رسوله.
ويبين ذلك أن الكذب بمنزل التكذيب له ولهذا جمع الله بينهما بقوله تعالى: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءهُ)[العنكبوت: 68] بل ربما كان الكاذب عليه أعظم إثماً من المكذب له ولهذا بدأ الله به كما أن الصادق عليه أعظم درجة من المصدق بخبره فإذا كان الكاذب مثل المكذب أو أعظم، والكاذب على الله كالمكذب
له، فالكاذب على الرسول كالمكذب له.
يوضح ذلك أن تكذيبه نوع من الكذب فإن مضمون تكذيبه الإخبار عن خبره أنه ليس بصدق، وذلك إبطال لدين الله، ولا فرق بين تكذيبه في خبر واحد أو في جميع الأخبار، وإنما صار كافراً لما يتضمنه من إبطال رسالة الله ودينه. والكاذب عليه يدخل في دينه ما ليس منه عمداً ويزعم أنه يجب على الأمة التصديق بهذا الحبر وامتثال هذا الأمر لأنه دين الله مع العلم بأنه ليس لله مدين.
والزيادة في الدين كالنقص منه، ولا فرق بين من يكذب بآية من القرآن أو يصنف كلاماً ويزعم أنه سورة من القرآن عامداً لذلك
…
فحاصله أن الرسول، صلى الله عليه وسلم، أكمل البشر في جميع أحواله، فما تركه من القول والفعل فتركه أكمل من فعله، وما فعله ففعله أكمل من تركه، فإذا كذب الرجل عليه متعمداً أو أخبر عنه بما لم يكن فذلك الذي أخبر عنه تقصّ بالنسبة إليه، إذ لو كان كمالاً لوجد منه، ومن انتقص الرسول فقد كفر ....
الأقوال والأعمال أساس إجراء الأحكام:
القول الثاني: إن الكاذب عليه تغلظ عقوبته، لكن لا يكفر، ولا يجوز قتله لأن موجبات الكفر والقتل معلومة، وليس هذا منها، فلا يجوز أن يثبت ما لا أصل له، ومن قال هذا فلا بد أن يقيد قوله بأنه لم يكن الكذب عليه متضمناً لعيب ظاهر. فأما إن أخبر أنه سمعه يقول كلاماً يدل على نقصه وعيبه دلالة ظاهرة مثل حديث عرق الخيل ونحوه من الترهات فهذا مستهزئ به استهزاءً ظاهراً ولا ريب أنه كافر حلال الدم.
وقد أجاب من ذهب إلى هذا القول عن الحديث بأن النبي، صلى الله عليه وسلم، علم أنه كان منافقاً فقتله لذلك لا للكذب.
وهذا الجواب ليس بشيء: لأن النبي، صلى الله عليه وسلم، لم يكن من سننه أن يقتل أحداً من المنافقين الذين أخبر الثقة عنهم بالنفاق أو الذين نزل القرآن بنفاقهم فكيف يقتل رجلاً بمجرد علمه بنفاقه؟ ثم إنه سمي خلفاً من المنافقين لحذيفة وغيره ولم يقتل منهم أحداً.
وأيضاً فالسبب المذكور في الحديث إنما هو كذبه على النبي، صلى الله عليه وسلم، كذباً له فيه غرض وعليه رتب القتل فلا تجوز إضافة القتل إلى سبب آخر.
وأيضاً فإن الرجل إنما قصد بالكذب نيل شهوته ومثل هذا قد يصدر من الفساق كما يصدر من الكفار.
وأيضاً فإما أن يكون نفاقه لهذه الكذبة أو لسبب ماض، فإن كان لهذه فقد ثبت أن الكذب عليه نفاق والمنافق كافر وإذا كان النفاق متقدماً وهو المقتضي للقتل لا غيره فعلام يؤخر الأمر بقتله إلى هذا الحين؟ وعلام لم يؤاخذه الله -تعالى- بذلك النفاق حتى فعل ما فعل؟
وأيضاً فإن القوم أخبروا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بقوله فقال "كذب عدو الله" ثم أمر بقتله إن وجده حياً ثم قال:"ما أراك تجده حياً" لعلمه، صلى الله عليه وسلم، بأن ذنبه يوجب تعجيل العقوبة.
والنبي، صلى الله عليه وسلم، إذا أمر بالقتل أو غيره من العقوبات والكفارات عقب فعل وُصف له صالح لترتيب ذلك الجزاء عليه كان ذلك الفعل هو المقتضي لذلك الجزاء لا غيره، كما أن الأعرابي لما وصف له الجماع في رمضان أمره بالكفارة ولما أقر عنده ماعز والغامدية وغيرهما بالزنا أمر بالرجم وهذا مما لا خلاف فيه بين الناس نعلمه نعم قد يختلفون في نفس الموجب هل هو مجموع تلك الأوصاف أو بعضها وهو نوع من تنقيح المناط فأما أن يُجْعَلَ ذلك الفعل عدم التأثير والموجب لتلك العقوبة غيره الذي لم يذكر وهذا فاسد بالضرورة.
لكن يمكن أن يقال فيه ما هو أقرب من هذا وهو: أن هذا الرجل كذب على النبي، صلى الله عليه وسلم، كذباً يتضمن انتقاصه وعيبه لأنه زعم أن النبي، صلى الله عليه وسلم، حكمه في دمائهم وأموالهم وأذن له أن يبيت حيث شاء من بيوتهم ومقصود بذلك أن يبيت عند تلك المرأة ليفجر بها ولا يمكنهم الإنكار عليه إذا كان محكماً في الدماء والأموال.
ومعلوم أن النبي لم يحلل الحرام ومن زعم أنه أحل المحرمات من الدماء والأموال والفواحش فقد انتقصه وعابه ونسب النبي، صلى الله عليه وسلم، إلى أنه يأذن له أن يبيت عند امرأة أجنبية خالياً بها وأنه يحكم بما شاء في قوم مسلمين وهذا طعن على النبي، صلى الله عليه وسلم، وعيب له، وعلى هذا التقدير فقد أمر بقتل من عابه وطعن عليه من غير استتابة، وهو المقصود في هذا المكان فثبت أن الحديث نص في قتل الطاعن عليه من غير استتابة على كلا القولين.
ومما يؤيد القول الأول أن القوم لو ظهر لهم أن هذا الكلام سب وطعن لبادروا إلى الإنكار عليه ويمكن أن يقال: رابهم أمره فتوقفوا حتى استثبتوا ذلك من النبي، صلى الله عليه وسلم، لما
تعارض وجوب طاعة الرسول وعظم ما أتاهم به هذا اللعين ومن نصر القول الأول قال: كل كذب عليه فإنه متضمن للطعن عليه كما تقدم. ثم إن هذا الرجل لم يذكر في الحديث أنه قصد الطعن والإزراء وإنما قصد تحصيل شهوته بالكذب عليه، وهذا شأن كل من تعمد الكذب عليه، فإنه إنما يقصد تحصيل غرض له إن لم يقصد الاستهزاء به، والأغراض في الغالب إما مال وإما شرف كما أن المسيء إنما يقصد -إذ لم يقصد مجرد الإضلال -إما الرياسة بنفاذ الأمر وحصول التعظيم أو تحصيل الشهوات الظاهرة.
وبالجملة فمن قال أو فعل ما هو كفر كفر بذلك وإن لم يقصد أن يكون كافراً إذ لا يقصد الكفر أحد إلا ما شاء الله (1). ا. هـ.
مناطات حبوط العمل دون قصد:
قلت: فهذه الأحاديث السالفة لهي خير بيان لمناط قوله تعالى: (أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ)[الحجرات: 2] فمن قدح في عدله، صلى الله عليه وسلم، ظن أن نسبة هذا إلى النبي صلى الله عليه وسلم لا يقدح في إيمانه برسالته ولا يوجب الكفر به ولا قصده، وكذلك من قدح في حكمه بقوله: أن كان ابن عمتك، وكذلك من قدح في عدله بقوله: إن هذه القسمة لم يرد بها وجه الله، وكذلك أيضاً قول أحد الأعرابيين، واغدراه وقول الآخر: أعطني فإنك لا تعطيني من مالك ولا مال أبيك. لم يقصدا كفراً ولكن هو من جفاء الأعراب ومع ذلك فكل هذا الباب كما قال ابن تيمية: مما يوجب القتل ويكون الرجل به كافراً منافقاً حلال الدم.
فهؤلاء جميعاً قالوا أقوالاً فحبطت بها أعمالهم دون شعور منهم بهذا، وكذلك الرجل الذي ذهب ليفجر بالمرأة مستنداً في ذلك أمام قومها بأن النبي، صلى الله عليه وسلم، قد كساه حلة وأذن له في أن يحكم في أموالهم ودمائهم برأيه أراد من هذا تحصيل شهوته دون الكفر والاستهزاء ولهذا جاء في بعض الروايات أنه خرج يتوضأ للصلاة فلدغه أفعى. فهو بعد هذا الإحداث ما زال عند نفسه في عداد المسلمين المصلين من أهل القبلة، بيد أنه في حقيقة الأمر كافر منافق حلال الدم حبط عمله وسعيه وهو لا يشعر.
قال ابن تيمية في قوله تعالى: (
…
أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ) ....
(1) الصارم المسلول ص: 146.
فوجه الدلالة: أن الله سبحانه نهاهم عن رفع أصواتهم فوق صوته وعن الجهر له كجهر بعضهم لبعض لأن هذا الرفع والجهر قد يفضي إلى حبوط العمل وصاحبه لا يشعر فإنه علل نهيهم عن الجهر وتركهم له: بطلب سلامة العمل عن الحبوط، وبين أن فيه من المفسدة جواز حبوط العمل وانعقاد سبب ذلك وما قد يفضي إلى حبوط العمل يجب تركه غاية الوجوب. والعمل يحبط بالكفر قال سبحانه:(وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ)[البقرة: 217]. وقال تعالى: (وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ). [المائدة: 5]. كما أن الكفر إذا قارنه عمل لا يقبل لقوله تعالى: (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ)[المائدة: 27]. وقوله: (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ)[محمد: 1].
وهذا ظاهر ولا يحبط الأعمال غير الكفر، لأن من مات على الإيمان فإنه لا بد أن يدخل الجنة ويخرج من النار إن دخلها ولو حبط عمله كله لم يدخل الجنة قط، ولأن الأعمال إنما يحبطها ما ينافيها، ولا ينافي الأعمال مطلقاً إلا الكفر وهذا معروف من أصول أهل السنة.
نعم قد يبطل بعض الأعمال بوجود ما يفسده كما قال تعالى: (لَا تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى)[البقرة: 264]. ولهذا لم يحبط الله الأعمال في كتابه إلا بالكفر.
فإذا ثبت أن رفع الصوت فوق صوت النبي والجهر له بالقول يخاف منه أن يكفر صاحبه وهو لا يشعر ويحبط عمله بذلك وأنه مظنة لذلك وسبب فيه، فمن المعلوم أن ذلك لما ينبغي له من التعزير والتوفير والتشريف والتعظيم والإكرام والإجلال، ولما أن رفع الصوت قد يشتمل على أذى له واستخفاف به وإن لم يقصد الرافع ذلك، فإذا كان الأذى والاستخفاف الذي يحصل في سوء الأدب من غير قصد صاحبه يكون كفراً فالأذى والاستخفاف المقصود المتعمد كفر بطريق الأولى (1). ا. هـ.
القول على الله بغير علم أساس البدع والشرك:
قلت: وهذه الأحاديث السالفة الذكر والآية الكريمة هي في أهل القبلة فبمن دان واستقام على الإسلام توضح في جلاء بمفهومها ومنطوقها أن العبد قد يتكلم بالكلمة أو
(1) الصارم المسلول ص: 47.
يفعل فعلاً فيحبط عمله كله ويكون كافراً مباح الذم وهو لا يشعر ولهذا ينبغي على العبد أن لا يتكلم بكلمة حتى يعلم معناها ومآلها إلى رضوان من الله أو سخط منه سبحانه ولذلك حرم الله علينا أن نقول عليه ما لا نعلم.
قال ابن القيم: وأما "القول على الله بغير علم"
…
فليس في أجناس المحرمات أعظم عند الله منه ولا أشد إثماً، وهو أصل الشرك والكفر وعليه أمست البدع والضلالات فكل بدعة مضلة في الدين أساسها القول على الله بلا علم
…
وأصل الشرك والكفر: هو القول على الله بلا علم. فإن المشرك يزعم أن من اتخذه معبوداً من دون الله يقربه إلى الله، ويشفع له عنده ويقضي حاجته بواسطته كما تكون الوسائط عند الملوك. فكل مشرك قائل على الله بلا علم دون العكس. إذ القول على الله بلا علم قد يتضمن التعطيل والابتداع في دين الله فهو أعم من الشرك، والشرك فرد من أفراده ....
فذنوب أهل البدع كلها داخلة تحت هذا الجنس فلا تتحقق التوبة منه إلا بالتوبة من البدع، وأنى بالتوبة منها. لمن لم يعلم أنها بدعة أو يظنها سنة فهو يدعو إليها ويحض عليها، فلا تنكشف لهذا ذنوبه التي تجب عليه التوبة منها إلا بتضلعه من السنة وكثرة اطلاعه عليها ودوام البحث عنها والتفتيش عليها ولا ترى صاحب بدعة كذلك أبداً (1). ا. هـ.
وأخرج البخاري في صحيحه
…
عن أبي هريرة سمع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول:"إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين ما فيها يزل بها في النار أبعد ما بين المشرق"
…
وعن أبي هريرة عن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال:"إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالاً يرفعه الله بها درجات وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوي بها في جهنم"
قال الحافظ: قوله (ما يتبين ما فيها) أي: لا يتطلب معناها أي: لا يثبتها بفكره ولا يتأملها حتى يتثبت فيها فلا يقولها إلا أن ظهرت المصلحة في القول .. وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام: هي الكلمة التي لا يعرف القائل حسنها من قبحها قال: فيحرم على الإنسان أن يتكلم بما لا يعرف حسنه من قبحه، قلت: وهذا الذي يجري على قاعدة مقدمة
(1) مدارج السالكين جـ: 1 ص: 378.
الواجب. وقال النووي: في هذا الحديث حث على حفظ اللسان فينبغي لمن أراد أن ينطق أن يتدبر ما يقول قبل أن ينطق فإن ظهرت فيه مصلحة تكلم وإلا أمسك
…
قوله (لا يلقي لها بالاً) بالقاف في جميع الروايات أي: لا يتأملها بخاطره ولا يتفكر بخاطره ولا يتفكر في عاقبتها ولا يظن أنها تؤثر شيئاً وهو من نحو قوله تعالى: (وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ).
وقد وقع في حديث بلال بن الحارث المزني الذي أخرجه مالك وأصحاب السنن وصححه الترمذي وابن حبان والحاكم بلفظ "إن أحدكم ليتكلم بالكلمة من رضوان الله ما يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله له بها رضوانه إلى يوم القيامة". وقال في السخط مثل ذلك .... وأخرج الترمذي هذا الحديث من طريق محمد بن إسحاق قال: "حدثني محمد بن إبراهيم التيمي" بلفظ "لا يرى بها بأساً يهوي بها في النار سبعين خريفاً"(1). ا. هـ.
قلت: مما سبق يعلم أنه ينبغي ويجب على العبد أن يتفحص معنى الكلمة ومآلها وأن يفر من الكلمة التي لا يعرف حسنها من قبحها ولنا جميعاً العبرة والعظة في الرجل الذي كان مجتهداً في عبادة الله ثم قال كلمة أوبقت دنياه وآخرته.
قال صاحب كتاب الأحاديث القدسية أخرج أبو داود بسنده قال أبو هريرة رضي الله عنه سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول:"كان رجلان من بني إسرائيل متواخيين فكان أحدهما يذنب والآخر مجتهد في العبادة فكان لا يزال المجتهد يرى الآخر على الذنب فيقول له: أقصر، فقال: خلّني وربي، أبعث علي رقيبا؟ فقال: والله لا يغفر الله لك أو لا يدخلك الله الجنة. فقبض أرواحهما فاجتمعا عند رب العالمين، فقال (أي الله) لهذا المجتهد: أكنت عالماً بي؟ أو كنت على ما في يدي قادراً؟ وقال للمذنب: اذهب فادخل الجنة برحمتي، وقال للآخر: اذهبوا به إلى النار". (قلت وأصله في صحيح مسلم) قال أبو هريرة والذي نفسي بيده لتكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته.
قال الشارح: أوبقت دنياه فأحبطت أعماله الصالحة التي كان يجتهد فيها لكفره بذلك قال تعالى: (وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ
…
). وأوبقت آخرته فلم تبق لأعماله ثواباً ولا أجراً لذلك استحق أن يقال فيه (اذهبوا به إلى النار).
(1) فتح الباري جـ: 11 كاتب الرقاق ص: 314: 318.