المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الرابع: فرق القدرية وحكمها - العذر بالجهل تحت المجهر الشرعي

[مدحت آل فراج]

فهرس الكتاب

- ‌تقديم

- ‌المقدمة

- ‌الباب الأولإثبات وصف الشرك مع الجهل وقبل قيام الحجة الرسالية

- ‌الفصل الأولالأدلة على إثبات وصف الشرك مع الجهل وقبل قيام الحجة الرسالية

- ‌المبحث الأول: فتور الرسالات قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث الثاني: اقتران وصفي الشرك والجهل:

- ‌الفصل الثانيعلة ثبوت وصف الشرك قبل قيام الحجة

- ‌المبحث الأول: حجية الميثاق:

- ‌المبحث الثاني: توحيد الربوبية يستلزم توحيد الإلهية وهو الحجة عليه:

- ‌المبحث الثالث: الميثاق حجة في بطلان الشرك والعذاب عليه بعد الحجة الرسالية:

- ‌المبحث الرابع: التحسين والتقبيح العقلي للأفعال قبل بلوغ الشرائع:

- ‌الباب الثانيكيفية انتقال العبد من الشرك إلى الإسلام

- ‌الفصل الأولالأدلة من القرآن الكريم على فهم حقيقة الإسلام

- ‌المبحث الأول: الانخلاع من الشرك شرط في تحقيق الإسلام:

- ‌المبحث الثاني: الكفر بالطاغوت شرط في الإيمان بالله وحده:

- ‌المبحث الثالث: إفراد الله بالحكم شرط في تحقيق الإسلام:

- ‌الفصل الثانيالأدلة من السنة المطهرة على فهم حقيقة الإسلام

- ‌المبحث الأول: العلم بمعنى الشهادتين شرط في عصمة الدم والمال:

- ‌المبحث الثاني: اليقين والعمل بمقتضى الشهادة شرط في صحتها:

- ‌المبحث الثالث: الكفر بما يعبد من دون الله شرط في عصمة الدم والمال:

- ‌المبحث الرابع: كلمة التوحيد تعصم قائلها بشرط البراءة من الشرك:

- ‌المبحث الخامس: لب التوحيد معرفة الله:

- ‌المبحث السادس: استحالة عبادة الله بالشرك:

- ‌المبحث السابع: العلم قبل القول والعمل:

- ‌الفصل الثالثتوصيف العلماء لحقيقة الإسلام

- ‌المبحث الأول: التوحيد شرط صحة في إسلام العبد:

- ‌المبحث الثاني: التزام أحكام الإسلام شرط في قبوله

- ‌المبحث الثالث: الحنيف التارك للشرك عن قصد وعلم:

- ‌المبحث الرابع: التوحيد بالقول والعمل شرط في تحقق النجاة:

- ‌المبحث الخامس: قبول الأحكام من غير الله شرك في الألوهية والربوبية:

- ‌الفصل الرابعأركان الإيمان وحدوده

- ‌المبحث الأول: تلازم الإيمان والإسلام:

- ‌المبحث الثاني: العلم والعمل ركنا الإيمان

- ‌الباب الثالثالردة وعدم تأثير عارض الجهل فيها

- ‌الفصل الأولالأدلة من القرآن الكريم على عدم تأثير عارض الجهل في الردة

- ‌المبحث الأول: الجهل أساس النفاق وعلته:

- ‌المبحث الثاني: حكم المستهزئ بآيات الله:

- ‌المبحث الثالث: تنزيل آيات الكفار على من فعل فعلهم من المسلمين:

- ‌الفصل الثانيالأدلة من السنة المطهرة على عدم تأثير عارض الجهل في الردة

- ‌المبحث الأول: حكم الاعتراض على حكم النبي صلى الله عليه وسلم:

- ‌المبحث الثاني: صفة الخوارج وحكمهم

- ‌المبحث الثالث: التغيظ من الصحابة دلالة على كفر صاحبه:

- ‌المبحث الرابع: فرق القدرية وحكمها

- ‌الفصل الثالثباب الردة من كتب السلف

- ‌المبحث الأول: الشرك لا يجتمع مع الإسلام

- ‌المبحث الثاني: غالب الردة تنشأ عن الجهل والاشتباه:

- ‌الباب الرابعالرد على الشبهات في قضية عدم العذر بالجهل والتأويل في أصل الدين

- ‌الفصل الأولالرد على الشبه المستدل بها خطأ من القرآن الكريم

- ‌المبحث الأول: تخصيص عموم رخصة الخطأ:

- ‌المبحث الثاني: شروط الاجتهاد:

- ‌المبحث الثالث: إثبات الضلال قبل البيان:

- ‌الفصل الثانيالرد على الشبه المستدل بها خطأ من السنة المطهرة

- ‌المبحث الأول: لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة:

- ‌المبحث الثاني: الفرق بين الطلب من المخلوق وبين الطلب به:

- ‌المبحث الثالث: التأويل دليل على مخالفة النص الجزئي لقاعدة كلية:

- ‌الفصل الثالثتقسيم الدين إلى أصول وفروع

- ‌المبحث الأول: أصول الدين المزعومة عند أهل البدع:

- ‌المبحث الثاني: أحكام أصول الدين وبيانها بياناً شافياً قاطعا للعذر:

- ‌الفصل الرابعموقف ابن تيمية وابن القيم ومحمد بن عبد الوهاب من تكفير المعين

- ‌المبحث الأول: المشرك ليس من عداد المسلمين:

- ‌المبحث الثاني: الجهل سبب غلبة الشرك على النفوس:

- ‌المبحث الثالث: الإسم الواحد يثبت وينفى بحسب ما يتعلق به من أحكام:

- ‌المبحث الرابع: تعريف الكفر الذي ينفيه هؤلاء الأئمة:

- ‌نتائج البحث

- ‌ مراجع البحث

الفصل: ‌المبحث الرابع: فرق القدرية وحكمها

مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام، لأن مضمون هذه المقالة الطعن: فيما نقلوه وتكذيب القرآن لكثير من آياته التي تثني عليهم وتمدحهم، وأن الشرع جعل الغيظ للصحابة -رضوان الله تعالى عليهم- علامة على كفر صاحبه وهو وصف مشتق مناسب يصلح لأن يكون: علة الحكم ومن المعلوم أن الخوارج كفروا علياً ومعاوية ومن والاهما.

نخلص من هذا الحديث (أي: حديث الخوارج) كما قال إمام المفسرين على الإطلاق الإمام الطبري: فيه الرد على قول من قال لا يخرج أحد من الإسلام من أهل القبلة بعد استحقاقه حكمه إلا بقصد الخروج منه عالماً فإنه مبطل لقوله في الحديث: "يقولون الحق ويقرؤون القرآن ويمرقون من الإسلام ولا يتعلقون منه بشيء".

وكما قال الحافظ وفيه أن من المسلمين من يخرج من الدين من غير أن يقصد الخروج منه ومن غير أن يختار ديناً على الإسلام وهو مبني على القول بتكفيرهم مطلقا.

وبهذا يعلم أن هذه القاعدة التي تحدث عنها الحافظ راسخة عند كل من رأى تكفيرهم، مع أن هذا لم يمس أصل الدين فما الحكم إذا كان يمس أصل الدين؟ وهل يجرؤ أحد أن يقول: أن الصحابي الجليل أبا سعيد الخدري وإمام المحدثين: البخاري وإمام المفسرين الطبري والقاضي أبا بكر بن العربي والسبكي والرافعي وغيرهم مبتدعون؟ لأنهم حكموا بكفر الخوارج ولم يعذروهم بالجهل والخطأ والتأويل.

‌المبحث الرابع: فرق القدرية وحكمها

.

الدليل الثالث: (حديث القدرية):

أخرج مسلم في صحيحه عن يحيى بن يعمر قال: (كان أول من تكلم في القدر في البصرة معبد الجهني فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري حاجين أو معتمرين فقلنا لو لقينا أحداً من أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر فوفق لنا عبد الله بن عمر بن الخطاب

فقلت: يا أبا عبد الرحمن إنه قد ظهر قبلنا ناس يقرؤون القرآن ويتقفرون العلم وذكر من شأنهم وأنهم يزعمون أن لا قدر وأن الأمر أنف. قال فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم وأنهم براء مني والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهباً فأنفقه ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر) (ثم حدث بحديث جبريل).

ص: 191

قال النووي: قال القاضي عياض: ورأيت بعضهم قال فيه: يتقعرون بالعين وفسره بأنهم يطلبون قعره أي: غامضه وخفيه ومنه تقعر في كلامه إذا جاء بالغريب منه. وفي رواية أبي يعلى الموصلي يتفقهون بزيادة الهاء وهو ظاهر قوله (وذكر من شأنهم) ....

يعني: وذكر ابن يعمر من حال هؤلاء ووصفهم بالفضيلة في العلم والاجتهاد في تحصيله والاعتناء به.

قوله (يزعمون أن لا قدر وأن الأمر أنف) هو بضم الهمزة والنون أي: مستأنف لم يسبق به قدر ولا علم من الله -تعالى- وإنما يعلمه بعد وقوعه كما قدمنا حكايته عن مذهبهم الباطل وهذا القول قول غلاتهم وليس قول جميع القدرية

قوله (قال يعني ابن عمر رضي الله عنهما فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم وأنهم برآء مني ....).

هذا الذي قاله ابن عمر رضي الله عنه ظاهر في تكفيره القدرية.

قال القاضي عياض رحمه الله: هذا في القدرية الأول الذين نفوا تقدم علم الله -تعالى- بالكائنات قال والقائل بهذا كافر بلا خلاف (1) ا. هـ.

وقال ابن تيمية: وأما كون الأشياء معلومة لله قبل كونها. فهذا حق لا ريب فيه وكذلك كونها مكتوبة عنده أو عند ملائكته كما دل على ذلك الكتاب والسنة وجاءت به الآثار وهذا العلم والكتاب: هو القدر الذي ينكره غالبية القدرية ويزعمون أن الله لا يعلم أفعال العباد إلا بعد وجودها وهم كفار كفرهم الأئمة: كالشافعي وأحمد وغيرهما (2) ا. هـ.

فرق القدرية:

وقال أيضاً: وإنما نازع في ذلك (أي الإيمان بالقدر) غلاة القدرية وظنوا أن تقدم العلم يمنع الأمر والنهي، وصاروا فريقين.

(فريق) أقروا: بالأمر والنهي والثواب والعقاب وأنكروا أن يتقدم بذلك قضاء وقدر وكتاب، وهؤلاء نبغوا في أواخر عصر الصحابة فلما سمع الصحابة بدعهم تبرؤوا منهم كما تبرؤا منهم، ورد عليهم عبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس وجابر بن عبد الله وواثلة بن

(1) صحيح مسلم بشرح النووي جـ: 1 ص: 150.

(2)

جـ: 2 ص: 152 لمجموع الفتاوى.

ص: 192

الأسقع وغيرهم، وقد نص (الأئمة) كمالك والشافعي وأحمد على كفر هؤلاء الذين ينكرون علم الله القديم.

(والفريق الثاني): من يقر: بتقدم علم الله وكتابه لكن يزعم أن ذلك يغني عن الأمر والنهي والعمل وأنه لا يحتاج إلى العمل. بل من قضى له بالسعادة دخل الجنة بلا عمل أصلاً ومن قضي عليه بالشقاوة شقي بلا عمل. فهؤلاء ليسوا طائفة معدودة من طوائف أهل المقالات وإنما يقوله كثير من جهال الناس، وهؤلاء أكفر من أولئك وأضل سبيلاً ومضمون قول هؤلاء تعطيل الأمر والنهي والحلال والحرام والوعد والوعيد، وهؤلاء أكفر من اليهود والنصارى بكثير. وهؤلاء هم الذين سأل السائل عن مقالتهم.

وأما "جمهور القدرية" فهم يقرون بالعلم والكتاب المتقدم لكن ينكرون أن الله خلق أفعال العباد وإرادة الكائنات، وتعارضهم القدرية المجبرة الذين يقولون: ليس للعبد قدرة ولا إرادة حقيقة ولا هو فاعل حقيقة وكل هؤلاء مبتدعة ضلال.

وشر من هؤلاء من يجعل خلق الأفعال وإرادة الكائنات مانعة من الأمر والنهي كالمشركين الذين قالوا (لَوْ شَاء اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ). فهؤلاء أكفر من اليهود والنصارى ومضمون قولهم: تعطيل جميع ما جاءت به الرسل كلهم من الأمر والنهي (1). ا. هـ.

البدعة ليست على رتبة واحدة:

قلت: يلاحظ من هذا النقل أن البدعة ليست على رتبة واحدة فتارة يغلو فيها أصحابها حتى يخرجوا بها إلى درجة الكفر الصريح وتارة يقفون عند درجة الابتداع وكفر المآل.

ولهذا عندما يتكلم أهل العلم عن أحكام المبتدعة لا بد أن ينقح مناطهم الذي يتحدثون فيه هل هو درجة الكفر البواح وكفر التصريح أم هو درجة الابتداع وكفر المآل.

ويلاحظ أيضاً أن: إنكار تقدم علم الله وقضائه وقدره على الأمر والنهي كفر لا يختلف فيه.

وأن من أقروا بهذا إلا أنهم يزعمون أنه يُغني عن الأمر والنهي والعمل، وأن دخول

(1) جـ: 8 ص: 288: 289.

ص: 193

الجنة والنار غير متوقف على العمل فحكم هؤلاء أنهم: جهال كفار أكفر من اليهود والنصارى وليسوا طائفة معدودة من طوائف المسلمين.

وأن من يحتج بالقدر على حجية الأفعال والمقدور فهؤلاء: أكفر من اليهود والنصارى لأن اليهود والنصارى يؤمنون ببعض الأوامر والنواهي ويكفرون ببعضها وهؤلاء كفار بجميع الأوامر والنواهي والشرائع السماوية.

وأن من أقر بالعلم والكتاب المتقدم مع إنكار خلق أفعال العباد وإرادة الكائنات فهؤلاء: مبتدعة ضلال في تكفيرهم: نزاع مشهور بين العلماء.

قال ابن رجب في شرح حديث جبريل: ولأجل هذه الكلمة (أي الإيمان بالقدر) روى ابن عمر رضي الله عنهما هذا الحديث محتجاً به على من أنكر القدر وزعم أن الأمر أُنف: يعني: أنه مستأنف لم يسبق به سابق قدر من الله عز وجل وقد غلظ عبد الله بن عمر عليهم وتبرأ منهم وأخبر أنه لا تقبل منهم أعمالهم بدون الإيمان بالقدر

إثبات العلم القديم حجة على القدرية:

وقد قال كثير من أئمة السلف: ناظروا القدرية بالعلم، فإن أقروا به خصموا، وإن جحدوا فقد كفروا. يريدون: أن من أنكر العلم القديم السابق بأفعال العباد وأن الله -تعالى- قسمهم قبل خلقهم إلى شقي وسعيد وكتب ذلك عنده في كتاب حفيظ فقد كذب بالقرآن فيكفر بذلك وإن أقروا بذلك وأنكروا أن الله خلق أفعال العباد وشاءها وأرادها منهم إرادة كونية قدرية فقد خصموا، لأن ما أقروا به حجة عليهم فيما أنكروه.

وفي تكفير هؤلاء: نزاع مشهور بين العلماء وأما من أنكر العلم القدين فنص الشافعي وأحمد على تكفيره وكذلك غيرهما من أئمة الإسلام (1). ا. هـ.

قلت: فمن هذا الأثر في هؤلاء القوم الذين أرادوا أن ينزهوا الله فوقعوا في التنقص به عز وجل من حيث لا يشعرون ولا يقصدون الكفر، بل حالهم البحث عن العلم واقتفاء أثره، ومع هذا عندما وصل حالهم إلى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما تبرأ منهم البراءة

(1) جامع العلوم والحكم ص: 25.

ص: 194

الكاملة. ومعلوم أن هذا لا يكون إلا من الكافرين فإن الله عندما أمرنا أن نتبرأ من الكفار قال: (إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ). وعندما أخبر: عن البراءة من العصاة فقال: (فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ).

فالمسلم العاصي يتبرأ من فعله وعمله لا منه، ولا يتبرأ من العبد البراءة الكاملة إلا العبد المشرك.

ولم يسأل الصحابي الجليل السائلين هل أقمتما عليهم الحجة وأزلتما الشبهة ووجدت شروط التكفير وانتفت موانعه أم لا؟.

بل قوله رضي الله عنه فيهم ظاهر في تكفيرهم والتبري منهم بمجرد سماع مقالتهم وتابعه على هذا الحكم الأئمة الأعلام، بل كما قال القاضي عياض أن قائل هذا كافر بلا خلاف.

ومن المعلوم أن ما وقعوا فيه هو ما دون الشرك فكيف الحال بفعله؟

فأين المتهمون الذين يتهمون من يحكم على من وقع في عبادة غير الله -تعالى- بأنه مشرك ولا يستديم له تأويل ولا اشتباه لنقضه التوحيد الذي هو: أصل الأصول بماذا يحكمون على عبد الله بن عمر ومالك والشافعي وأحمد والقاضي عياض وابن تيمية وابن رجب بل على جماهير أئمة الإسلام؟ فهل أنتم منتهون؟!

الدليل الرابع: أخرج البخاري عن عكرمة قال "أتي علي رضي الله عنه بزنادقة فأحرقهم، فبلغ ذلك ابن عباس فقال: لو كنت أنا لم أحرقهم لنهي رسول الله، صلى الله عليه وسلم،: "لا تعذبوا بعذاب الله". ولقتلتهم لقول رسول الله، صلى الله عليه وسلم،: "من بدل دينه فاقتلوه" (1). ا. هـ.

قلت: فهؤلاء القوم ادعوا في علي رضي الله عنه الإلهية فعندما جاءه خبرهم حرقهم واتفق علي وابن عباس رضي الله عنهما، على قتلهم، وإن اختلفوا في صفة القتل ولم يُذكر أن علياً عذرهم بجهلهم وأقام الحجة عليهم وأزال عنهم الشبهة، بل أقام عليهم حد الردة بمجرد نقضهم للتوحيد. وقد يقول قائل: إن علياً أقام عليهم الحجة بدليل أنه في بعض الروايات قال لهم: إنما أنا عبد مثلكم آكل الطعام ....

(1) صحيح البخاري -باب حكم المرتد والمرتدة واستتابتهم.

ص: 195

قلت: بل هذه استتابة بنص العلماء وليست إقامة حجة بدليل أن البخاري ساقه (1) تحت باب حكم المرتد والمرتدة واستتابتهم، وكذلك في كتاب نيل الأوطار وشرح منتفى الأخبار بوب المصنف أيضاً باب قتل المرتد واستشهد به (2).

قال الشوكاني واستدل بالحديث المذكور في الباب (أي: حديث علي) على أنه: يقتل الزنديق من غير استتابة، وتعقب بأنه وقع في بعض طرق الحديث أن أمير المؤمنين علياً رضي الله عنه استتابهم كما في الفتح من طريق عبد الله بن شريك العامري عن أبيه قال: قيل لعلي: إن هنا قوماً على باب المسجد يزعمون أنك ربهم. فدعاهم فقال لهم: ويلكم ما تقولون؟ فقالوا: أنت ربنا وخالقنا ورازقنا قال: ويلكم إنما أنا عبد مثلكم آكل الطعام كما تأكلون، وأشرب كما تشربون .. قال الحافظ: إن إسناد هذا صحيح (3). ا. هـ.

قلت: فهذه نصوص العلماء على أن هذه استتابة من الردة، وليست إقامة حجة لأنهم خرجوا عن الإسلام لا عن بصيرة فتشرع استتابتهم لأجل فيئهم إليه.

نقل الحافظ ابن حجر عن الإمام الطحاوي قال: قال الطخاوي: ذهب هؤلاء إلى أن حكم من ارتد عن الإسلام حكم الحربي الذي بلغته الدعوة فإنه يقاتل من قبل أن يدعى، قالوا: وإنما تشرع الاستتابة لمن خرج عن الإسلام، لا عن بصيرة فأما من خرج عن بصيرة فلا. ثم نقل عن أبي يوسف موافقتهم لكن قال: إن جاء مبادراً بالتوبة خليت سبيله ووكلت أمره إلى الله -تعالى (4) - ا. هـ.

قلت: فهذه نصوص العلماء أن المسلم الذي يخرج عن الإسلام بجهل أنه مرتد وغير معذور غير أنه تشرع استتابته من الردة.

قال القاضي عياض وقد أحرق علي بن أبي طالب رضي الله عنه من ادعى له الإلهية، وقد قتل عبد الملك بن مروان الحارث المتنبي وصلبه، وفعل ذلك غير واحد من الخلفاء والملوك بأشباههم، وأجمع علماء وقتهم على تصويب فعلهم والمخالف في ذلك من كفرهم كافر (5). ا. هـ.

(1) أي: أثر تحريق الزنادقة.

(2)

أي: أثر تحريق الزنادقة.

(3)

جـ: 12 ص: 57 - كتاب نيل الأوطار.

(4)

جـ: 12 ص: 281 - فتح الباري.

(5)

الشفاء بشرح نور الدين القاري جـ: 5 ص: 472: 473.

ص: 196

دعوى الحلول في معين كفر بإجماع المسلمين:

وقال ابن تيمية: وأما (النوع الثاني): فهو قول من يقول: بالحلول والاتحاد في معين كالنصارى الذين قالوا: بذلك في المسيح عيسى والغالية الذين يقولون: بذلك في علي بن أبي طالب وطائفة من أهل بيته

فهذا كله كفر باطناً وظاهراً بإجماع كل مسلم، ومن شك في كفر هؤلاء بعد معرفة قولهم ومعرفة دين الإسلام فهو كافر كمن يشك في كفر اليهود والنصارى والمشركين (1). ا. هـ.

قلت: فهذه أقوال السلف بداية بالصحابة فيمن ادعى الإلهية في عبد أنه كافر مرتد لنقضه التوحيد الذي هو: أصل الدين بل كفر مثل هذا معلوم بالاضطرار من دين الإسلام بل من يشك في كفره بعد معرفة قوله ودين الإسلام فهو كافر كمن يشك في كفر اليهود والنصارى والمشركين.

الدليل الخامس: ردة مانعي الزكاة:

وكذلك أيضاً حكم السلف في مانعي الزكاة (وحديثهم في الصحيحين) الذين منعوها بتأويل فاسد استناداً لقوله تعالى: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا). قالوا هذا خطاب للنبي خاصة يسقط بموته ولا يملك التزكية والطهارة إلا هو صلى الله عليه وسلم، ومع هذا الجهل والتأويل الفاسد قاتلهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه قتال مرتدين وسبى ذراريهم وغنم أموالهم وشهد على قتلاهم بالنار.

قال الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب -"نقلاً عن ابن تيمية": وقال الشيخ رحمه الله -تعالى- في آخر كلامه على كفر مانعي الزكاة والصحابة لم يقولوا: هل أنت مقر بوجوبها أو جاحد لها؟ هذا لم يعهد عن الصحابة بحال، بل قال الصديق لعمر رضي الله عنهما: "والله لو منعوني عناقاً كانوا يؤدونها إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لقاتلتهم على منعها. فجعل المبيح للقتال: مجرد المنع لا جحد الوجوب وقد روى أن طوائف منهم كانوا يقرون: بالوجوب لكن بخلوا بها، ومع هذا فسيرة الخلفاء فيهم سيرة واحدة وهي قتل

(1) جـ: 2 ص: 367: 368 لمجموع الفتاوى.

ص: 197

مقاتلتهم، وسبي ذراريهم، وغنيمة أموالهم، والشهادة على قتلاهم بالنار وسموهم جميعاً أهل الردة، وكان من أعظم فضائل الصديق عندهم أن ثبته الله على قتالهم ولم يتوقف كما توقف غيره حتى ناظرهم فرجعوا إلى قوله.

أما قتال المقرين بنبوة مسيلمة: فهؤلاء لم يقع بينهم نزاع في قتالهم، وهذه حجة من قال: إن قاتلوا عليها الإمام كفروا وإلا فلا، فإن كفر هؤلاء وإدخالهم في أهل الردة قد ثبت باتفاق الصحابة المستند إلى نصوص الكتاب والسنة بخلاف، من لم يقاتل الإمام عليها .... انتهى.

فتأمل كلامه وتصريحه بأن: الطائفة الممتنعة عن أداء الزكاة إلى الإمام أنهم يقاتلون، ويحكم عليهم بالكفر والردة عن الإسلام، وتسبى ذراريهم، وتغنم أموالهم وإن أقروا بوجوب الزكاة، وصلوا الصلوات الخمس، وفعلوا جميع شرائع الإسلام غير أداء الزكاة، وأن ذلك ليس بمسقط للقتال لهم والحكم عليهم بالكفر والردة، وأن ذلك قد ثبت بالكتاب والسنة واتفاق الصحابة رضي الله عنهم والله أعلم (1). ا. هـ.

وقال ابن تيمية: قد اتفق الصحابة والأئمة بعدهم على قتال مانعي الزكاة وإن كانوا يصلون الخمس ويصومون شهر رمضان. وهؤلاء لم يكن لهم: شبهة سائغة فلهذا كانوا مرتدين وهم يقاتلون على منعها وإن أقروا بالوجوب كما أمر الله (2). ا. هـ.

قلت: فهذه الطائفة التي منعت زكاة مالها بشبهة وتأويل فاسد -مع استمساكهم بالشهادتين والقيام بالصلاة وبقية الفرائض- فقد اتفق الصحابة على قتالهم وردتهم وغنيمة أموالهم، وسبي ذراريهم، والشهادة على قتلاهم بالنار، مستندين في ذلك إلى الكتاب والسنة.

وهذا في فرعية من فروع الشريعة. وما أوقع القوم في هذا إلا الجهل والتأويل الفاسد بشبهة لم تكن: سائغة فلم تدرأ عنهم الكفر فلهذا كانوا مرتدين وهذا كله في فرع فما ظننا في أصل الأصول وهو: التوحيد تلك القضية التي لا نجاة لعبد في الدنيا والآخرة إلا بها.

(1) الكلمات النافعة في المكفرات الواقعة ص: 17.

(2)

جـ: 28 ص: 519 لمجموع الفتاوى.

ص: 198

لها أخذ الميثاق وعليها فُطر العباد، ومن أجلها أرسلت الرسل، وأنزلت الكتب وقام سوق الآخرة ولعلو شأنها جردت السيوف.

وهذا القدر من النصوص القرآنية والأحاديث النبوية وأقوال الصحابة والسلف الصالح من بعدهم فيمن ارتد بعد إسلامه من هذه الأمة خير بيان لهدم قاعدة العذر بالجهل لمن تلبس بالشرك الأكبر التي أصّلها بعض المتأخرين وهي قاعدة أجنبية عن الشريعة، وقد اتسعوا بها حتى أسلموا بها الطواغيت وأعوانهم والزنادقة والملحدين والعلمانيين وهم أذيال النصارى واليهود في ديارنا ليمسخوا عقيدتنا ويمحوا إسلامنا ويرفعوا راية الصليب ونجمة داود عالية خفاقة ثم يريدون منا أن نحكم على أمثال هؤلاء المارقين بالإسلام، ونواليهم ونعادي من عاداهم فإنا لله وإنا إليه راجعون؟

أقول: (وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ)[يوسف: 21].

فهذه النصوص بفهم الصحابة والأئمة بعدهم قاضية بردة من أشرك من هذه الأمة ونقض التوحيد خاصة بيقين.

وأن من التزم التوحيد وانتهى عن الشرك والتزم الشرائع فإن وقع في أمر مكفر وكان تأويله فاحشاً وشبهته غير سائغة فلا يعذر بجهله. والدليل على هذا حديث الخوارج والقدرية الأول ومانعي الزكاة -والله تعالى أعلم-.

* * *

ص: 199