الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
البيت الثالث:
3 -
ولا حسنٌ إلا استماع (1) حديثكم
…
مشافهة يملى (2) علي فأنقل (3)
ذكر ابن فرح رحمة الله علينا وعليه في هذا نوعين:
النوع الأول الحسن:
وله معنيان:
1 -
معنى في اللغة وهو: ما تشتهيه النفس وتميل إليه.
2 -
معنى في الاصطلاح: وهو الحديث الذي اتصل سنده بنقل عدل خف ضبطه، غير شاذ ولا معلّ (4)، وللحسن تعاريف ذكرها العلماء (5)، هذا أخصرها وأدقها، لأنه ميز الحسن عن الضعيف، بالشروط التي تضمنها، ثم ميزه عن الصحيح بأنه قلّ ضبطه (6).
مثاله: رواية الإمام أحمد قال: حدثنا يحي بن سعيد، عن بهز بن حكيم، حدثني أبي، عن جدي قال: قلت: "يا رسول الله من أبر؟ ، قال: أمك.
(1) إشارة إلى طريق من طرق تحمل الرواية عن الشيخ وهي السماع من لفظه، وهي أرفع الطرق عند الجماهير.
(2)
إشارة إلى إملاء الرواية من لفظ الشيخ، من حفظه أو من كتابه.
(3)
إشارة إلى نقل ما سمع بإحدى صيغ الأداء نحو: سمعت، حدثني، وأخبرني وغير ذلك.
(4)
انظر (منهج النقد في علوم الحديث 264، وشرح نخبة الفكر 32 - 33، ومقدمة علوم الحديث 28.
(5)
انظر (الموقظة 26 - 33، والبحر الذي زخر 3/ 950 - 992، وتوجيه النظر 1/ 356 - 361).
(6)
منهج نقد علوم الحديث 264.
قال: قلت: ثم من؟ قال: ثم أمك. قال: قلت: ثم من؟ قال: أمك، ثم أباك، ثم الأقرب فالأقرب" (1) ومعلوم أن الإمام أحمد، ويحي بن سعيد القطان إمامان جليلان، وبهز من أهل الصدق الصيانة، وثقه الأئمة ابن المديني، وابن معين، والنسائي وغيرهم، لكن استشكل العلماء بعض مروياته، وتكلم فيه شعبة بن الحجاج بسبب ذلك، ولم يسلبه صفة الضبط، لكنه أشعر بأنه خف ضبطه، وحكيم والد بهز قال النسائي: لا بأس به، ووثقه غيره، فيكون حديث بهز هذا حسنا لذاته كما حكم العلماء، بل هو من أعلى مراتب الحسن (2).
وليعلم أن ثمة تشابها كبيرا بين الحسن والصحيح، حتى إن طائفة من أهل الحديث جعلوا الحسن مندرجا في الصحيح، ولم يجعلوه نوعا منفردا، وهو الظاهر من كلام أبي عبد الله الحاكم في تصرفاته إذ قسم الحديث إلى صحيح وسقيم (3)، لأن الحديث الذي يحتج به إما أن يكون في أعلى درجات القبول، وهو الصحيح، أو في أدناها وهو الحسن (4).
وليعلم أن مراتب الحسن متفاوتة، كما تفاوتت مراتب الصحيح، وذلك بحسب قرب راوي الحسن لذاته من الصحيح في ضبطه.
(1) أخرجه الإمام أحمد في (المسند 51/ 5).
(2)
بتصرف من (منهج النقد لعلوم الحديث 265) وانظر (المغني رقم 1007، والتهذيب 1/ 498 - 499).
(3)
انظر (معرفة علوم الحديث 58).
(4)
بتصرف قليل من (منهج النقد
…
ص 265، وانظر معرفة علوم الحديث 58 - 62).
ومن أمثلة تفاوت مراتب الحسن قول الذهبي: أعلى مراتب الحسن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده، وعمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده
…
وأمثال ذلك، وهو قسم متجاذب بين الصحة والحسن، فإن عدة من الحفاظ يصححون هذه الطرق، وينعتونها بأنها من أدنى مراتب الصحيح، وهو أعلى مراتب الحسن.
ثم بعد ذلك ما اختلف في تحسينه وتضعيفه، له أمثلة كثيرة تنازع فيها العلماء، بعضهم يحسنونها، وآخرون يضعفونها كحديث الحارث بن عبد الله الأعور، وعاصم بن ضمرة، وحجاج بن أرطاة، وخصيف، ودراج، وغيرهم.
وهكذا يتوسط الحديث الحسن بين منزلتي الصحة والضعف، وقد يكون أدنى إلى الصحة حينا، وهو الحسن لذته، وأدنى إلى الضعف حينا آخر، وهو الحسن لغيره (1)، وما ذكره الذهبي مثال للمرتبة العليا من مراتب الحسن، ومثال للدنيا منه، وبنيهما مراتب (2).
وليعلم أن العلماء رحمة الله علينا وعليهم اختلفوا في الاحتجاج بالحديث الحسن على ثلاثة أقوال كما ظهر لي:
1 -
ذهب الفقهاء وأكثر العلماء من المحدثين والأصوليين إلى أن الحسن كالصحيح في الاحتجاج به.
(1) بتصرف انظر (منهج النقد لعلوم الحديث 266، والموقظة 32، والبحر الذي زخر 3/ 993، ومقدمة علوم الحديث 27).
(2)
انظر (المنهج الحديث للسماحي 122، 123).
2 -
شذ بعض أهل الحديث فرده (1).
3 -
وفصّل آخرون: قال الحافظ ابن حجر رحمة الله علينا وعليه: إن المصنف - ابن الصلاح - وغير واحد نقلوا الاتفاق على أن الحديث الحسن يحتج به كما يحتج بالصحيح، وإن كان دونه في المرتبة (2)، لكنه رحمه الله تساءل عن نوع الحسن الذي اتفقوا على الاحتجاج به، وذكر أنه ما ينزل على تعريف الخطابي، وهو رواية الصدوق المشهور بالأمانة
…
إلى آخر كلامه، وهو الحسن لذاته، وليس الحسن المذكور عند الترمذي، الذي يطلقه من غير صفة أخرى، فإنه يطلق اسم الحسن على الضعيف، والمنقطع إذا اعتضد (3)، فلا يتجه إطلاق الاتفاق على الاحتجاج به جميعه، ولا دعوى الصحة فيه إذا أتى من طرق، ولا ما هو أعم من ذلك (4).
ويؤيد هذا قول الخطيب: أجمع أهل العلم أن الخبرلا يجب قبوله إلا من العاقل الصدوق المأمون على ما يخبر به (5)، وصرح أبو الحسن بن القطان بأن هذا القسم لا يحتج به كله، بل يعمل به في فضائل الأعمال، ويتوقف عن العمل به في الأحكام، إلا إذا كثرت طرقه، أو عضده اتصال
(1) ظاهر الرواية عن أبي حاتم أنه لا يحتج بالحديث الحسن مطلقا لذاته، أو لغيره. انظر (البحر الذي زخر 3/ 996، وفتح المغيث 1/ 84 - 85).
(2)
مقدمة علوم الحديث 28.
(3)
انظر أمثلة ذلك في (النكت 1/ 387 - 399 وتوجيه النظر 1/ 382 - 390).
(4)
النكت 1/ 401 - 402 بتصرف.
(5)
الكفاية ص: 83.
عمل، أو موافقة شاهد صحيح، أو ظاهر القرآن (1) قال بعد أن ذكر هذا: وهذا حسن قوي رائق، ما أظن منصفا يأباه (2)، ولا تزال مثل هذه الحال مثار اجتهاد العلماء وتحريهم، وموضع تخوفهم حتى عسر التعبير عن الحسن وضبطه على بعضهم، لأنه أمر نسبي، وشيء ينقدح في نفس الحافظ، وربما تقصر عبارته عن تبريره تفصيلا (3) ولذلك تنوع تعبير الترمذي رحمه الله في الحكم على الحديث الحسن فقال: حديث حسن، حديث صحيح، حديث حسن صحيح (4)، حديث صحيح غريب، حديث حسن غريب، حديث حسن صحيح غريب، مقيدا أحيانا
…
بقوله: لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وللعلماء رحمهم الله في هذا أقوال:
1 -
أنه أطلق الحسن باعتبار الطرق، قال الترمذي رحمة الله علينا وعليه: وما ذكرنا في هذا الكتاب حديث حسن، إنما أردنا به حسن إسناده عندنا، كل حديث يروى لا يكون في إسناده من يتهم بالكذب، ولا يكون الحديث شاذا، ويروى من غير وجه نحوه، فهو عندنا حديث حسن (5).
(1) لم أقف عليه عند ابن القطان بالنص المذكور، لكنه بمعناه (الوهم والإيهام 4/ 11 - 12، وانظر النكت 1/ 402، وتوضيح الأفكار 1/ 179 - 180، ومقدمة ابن الصلاح في علوم الحديث 36 - 37).
(2)
النكت 1/ 402.
(3)
منهج النقد لعلوم الحديث 266 - 267.
(4)
قوله: (حسن صحيح) نقل عن البخاري القول به قال ابن حجر: قد وقع ذلك في كلامه. (النكت 1/ 475).
(5)
انظر (العلل ص: 22، والتقييد ص: 45، والبحر الذي زخر 3/ 1240).
2 -
استشكل العلماء قوله: حسن صحيح، لأن الحسن قاصر عن الصحيح، فكيف يجمع بين إثبات القصور وعدمه! أجاب عن هذا الحافظ ابن حجر فقال: محصل الجواب أن تردد أئمة الحديث في حال ناقله، اقتضى للمجتهد أن لا يصفه بأحد الوصفين، فيقال فيه: حسن باعتبار وصفه عند قوم، صحيح باعتبار وصفه عند قوم، وغاية ما فيه أنه حذف منه حرف التردد، لأن حقه أن يقول: حسن أو صحيح (1).
3 -
وتوجيه آخر قاله ابن دقيق العيد أن يقال: حسن باعتبار الصفة الدنيا، وهي: الصدق مثلا، صحيح باعتبار الصفة العليا، وهي: الحفظ والإتقان (2) فإذا لم يقيد فلابن الصلاح توجيه بأن ذلك باعتبار الطرق، فيكون حسنا باعتبار بعض الطرق، وصحيحا باعتبار طرق أخر (3)، وذكر السيوطي توجيهين آخرين: أن المراد حسن لذاته، صحيح لغيره، أو حسن باعتبار إسناده، صحيح: أي أنه أصح شيء ورد في الباب، فإنه يقال: أصح ما ورد كذا، وأن كان حسنا أو ضعيفا، والمراد أرجحه أو أقله ضعفا (4).
وليعلم أن العلماء قالوا: ما قيل فيه: حسن الإسناد دون ما قيل فيه:
(1) نزهة النظر ص: 33.
(2)
الاقتراح ص: 176.
(3)
انظر (مقدمة علوم الحديث 35).
(4)
انظر (البحر الذي زخر 3/ 1241 - 1242).
حسن، لأنه قد يكون فيه شذوذ أو علة (1) إذ المراد اتصال سنده، لا أنه مقطوع به في نفس الأمر (2)، ومن عرف من حاله التفريق بين التقييد والإطلاق، يحكم له بمقتضى ذلك، ويحمل إطلاقه على الإسناد والمتن معا، وتقييده على الإسناد فقط، أما من عرف من حاله عدم التفريق حمل على أنه حكم له بالحسن (3) وله أمثلة عند الحاكم في المستدرك، والحسن عنده داخل في مسمى الصحيح، كما يظهر من صنيعه في معرفة علوم الحديث.
(1) انظر (مقدمة علوم الحديث 113، والبحر الذي زخر 3/ 1248 - 1249 وفتح المغيث 1/ 105).
(2)
انظر (البحر الذي زخر 3/ 1250).
(3)
انظر (النكت 1/ 474، والبحر الذي زخر 3/ 1251 - 1253).