المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌[بَابُ الْجَنَائِزِ] (وَسُئِلَ) رضي الله عنه وَأَفَاضَ عَلَيْنَا مِنْ مَدَدِهِ مَا - الفتاوى الفقهية الكبرى - جـ ٢

[ابن حجر الهيتمي]

فهرس الكتاب

- ‌[بَابُ الْجَنَائِزِ]

- ‌[بَابُ تَارِكِ الصَّلَاةِ]

- ‌[كِتَابِ الزَّكَاةِ]

- ‌[بَابُ زَكَاةِ الْفِطْرِ]

- ‌[بَابُ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ]

- ‌[كِتَابُ الصَّوْمِ]

- ‌[كِتَابُ الِاعْتِكَافِ]

- ‌[كِتَابُ الْحَجِّ]

- ‌[بَابُ الْبَيْعِ]

- ‌[تَنْوِيرُ الْبَصَائِرِ وَالْعُيُونِ بِإِيضَاحِ حُكْمِ بَيْعِ سَاعَةٍ مِنْ قَرَارِ الْعُيُونِ]

- ‌[الْبَابُ الْأَوَّلُ فِي الْمُتَعَاقِدَيْنِ بِالسَّاعَةِ مِنْ الْقَرَارِ جُزْءًا مُشَاعًا مِنْهُ]

- ‌[الْبَابُ الثَّانِي بَيْعُ الْمَاءِ الرَّاكِدِ]

- ‌[الْبَاب الثَّالِثِ إذَا لَمْ يَقْصِدْ الْعَاقِدَانِ بِالسَّاعَتَيْنِ جُزْءًا مِنْ قَرَارٍ وَلَا مَاءَ]

- ‌[الْبَابُ الرَّابِعُ لَمْ يُرِيدَا بِالسَّاعَتَيْنِ جُزْءًا مِنْ الْقَرَارِ أَوْ الْمَاءِ]

- ‌[الْبَابُ الْخَامِسُ التَّنَاقُض فِي بَيْعِ الْمَاءِ وَالْقَرَارِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي بَيْعِ الْمَاءِ]

- ‌[الْبَابُ السَّادِسُ فِي بَيَانِ حُكْم عُيُونِ الْحِجَازِ]

- ‌[الْبَابُ السَّابِعُ فِي حُكْمِ الْقَاضِي وَفِيهِ فَصْلَانِ]

- ‌[الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي بَيَانِ الْحُكْمِ بِالْمُوجِبِ وَالْحُكْمِ بِالصِّحَّةِ]

- ‌[الْفَصْلُ الثَّانِي فِيمَا يُنْقَضُ فِيهِ قَضَاءُ الْقَاضِي وَمَا لَا يُنْقَضُ]

- ‌[بَابُ الرِّبَا]

- ‌[بَابُ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ]

- ‌[بَابُ الْخِيَارِ]

- ‌[بَابُ الْمَبِيعِ قَبْلَ قَبْضِهِ]

- ‌[بَابُ التَّحَالُفِ]

- ‌[بَابُ مُعَامَلَةِ الْعَبِيدِ]

- ‌[بَابُ السَّلَمِ]

- ‌[بَابُ الْقَرْضِ]

- ‌[بَابُ الرَّهْنِ]

- ‌[بَابُ التَّفْلِيسِ]

الفصل: ‌ ‌[بَابُ الْجَنَائِزِ] (وَسُئِلَ) رضي الله عنه وَأَفَاضَ عَلَيْنَا مِنْ مَدَدِهِ مَا

[بَابُ الْجَنَائِزِ]

(وَسُئِلَ) رضي الله عنه وَأَفَاضَ عَلَيْنَا مِنْ مَدَدِهِ مَا قَوْلُكُمْ فِيمَا أَفْتَى بِهِ شَيْخُنَا الْوَالِدُ مِنْ أَنَّهُ لَا يُؤَخَّرُ تَجْهِيزُ الْمَيِّتِ لِأَجْلِ تَحْصِيلِ الْكَافُورِ زَمَنًا لَا يَتَغَيَّرُ فِيهِ الْمَيِّتُ قَبْلَهُ فَإِنَّهُ وَقَعَ عِنْدِي فِي ذَلِكَ شَيْءٌ بِمَسْأَلَةِ نَقْلِ الْمَيِّتِ؟

(فَأَجَابَ) نَفَعَنَا اللَّهُ بِهِ وَبِعُلُومِهِ بِأَنَّ الَّذِي يَتَّجِهُ أَنَّ الْأَفْضَلَ تَأْخِيرُ الْمَيِّتِ تَأْخِيرًا يَسِيرًا لَا يُخْشَى مِنْهُ تَغَيُّرٌ بِوَجْهٍ لِأَجْلِ تَحْصِيلِ الْكَافُورِ لِأَنَّ كَلَامَهُمْ فِي بَابِ الْجَنَائِزِ نَاطِقٌ بِأَنَّ الْأَوْلَى فِعْلُ الْأَفْضَلِ بِهِ وَإِنْ أَدَّى رِعَايَةُ ذَلِكَ الْأَفْضَلِ إلَى تَأْخِيرٍ أَلَا تَرَى أَنَّ أَقَلَّ الْغُسْلِ يَحْصُلُ بِإِفَاضَةِ الْمَاءِ عَلَى جَمِيعِ الْبَدَنِ وَمَعَ ذَلِكَ قَالُوا الْأَوْلَى رِعَايَةُ أَكْمَلِ الْغُسْلِ مَعَ أَنَّ الْأَكْمَلَ الَّذِي ذَكَرُوهُ يَسْتَدْعِي زَمَنًا طَوِيلًا وَلَمْ يَنْظُرُوا لِذَلِكَ وَكَذَلِكَ قَالُوا الْأَوْلَى إفْرَادُ كُلِّ مَيِّتٍ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَلَمْ يَنْظُرُوا إلَى جَمْعِ الْمَوْتَى فِي صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ وَكَذَلِكَ قَالُوا نَخْتَارُ نَقْلَ الْمَيِّتِ إلَى نَحْوِ مَكَّةَ إنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ قَبْلَهُ وَلَمْ يُرَاعُوا طُولَ زَمَنِ تَأْخِيرِ دَفْنِهِ لِتِلْكَ الْمَصْلَحَةِ الْعَائِدَةِ عَلَيْهِ وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ فِي كَلَامِهِمْ عَلَى أَنَّ لَنَا قَوْلًا أَوْ وَجْهًا قَوَّاهُ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْكَافُورَ وَاجِبٌ وَحِينَئِذٍ فَيَتَأَكَّدُ رِعَايَةُ تَحْصِيلِهِ وَإِنْ أَدَّى إلَى تَأْخِيرٍ كَمَا مَرَّ خُرُوجًا مِنْ خِلَافِ مَنْ قَالَ بِوُجُوبِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

(وَسُئِلَ) كَيْفَ تُوضَعُ يَدُ الْمَيِّتِ فِي اللَّحْدِ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ لَمْ أَرَ فِي أُمَّتِنَا كَلَامًا فِي كَيْفِيَّةِ وَضْعِ يَدَيْ الْمَيِّتِ فِي اللَّحْدِ وَظَاهِرُ سُكُوتِهِمْ عَنْهُ أَنَّهُ لَا سُنَّةَ فِي وَضْعِهِمَا وَلَا يُقَاسُ بِنَاءً عَلَى الِاحْتِجَاجِ بِفِعْلِ الصَّحَابِيِّ عَلَى مَا فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد أَنَّ فَاطِمَةَ الزَّهْرَاءَ رضي الله عنها لَمَّا اُحْتُضِرَتْ اسْتَقْبَلَتْ الْقِبْلَةَ وَتَوَسَّدَتْ يَمِينَهَا لِأَنَّ تَوَسُّدَ الْيَمِينِ ثَمَّ لَا يُعَارِضُهُ سُنَّةٌ أُخْرَى وَتَوَسُّدَهَا هُنَا يُعَارِضُهُ أَنَّ السُّنَّةَ هُنَا فِي الْخَدِّ الْأَيْمَنِ أَنْ يُفْضَى بِهِ إلَى الْأَرْضِ فَلَوْ قُلْنَا بِنَدْبِ تَوَسُّدِ الْيَمِينِ لَفَاتَتْ تِلْكَ السُّنَّةُ وَحِينَئِذٍ فَالْأَسْهَلُ فِي كَيْفِيَّةِ وَضْعِهِمَا أَنْ تَكُونَ الْيُمْنَى بِحِذَاءِ خَدِّهِ الْأَيْمَنِ وَالْيُسْرَى عَلَى جَانِبِهِ الْأَيْسَرِ وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

(وَسُئِلَ) رضي الله عنه هَلْ تَلْقِينُ الْمَيِّتِ بَعْدَ صَبِّ التُّرَابِ أَوْ قَبْلَهُ وَإِذَا مَاتَ طِفْلٌ بَعْدَ مَوْتِ أَبَوَيْهِ أَوْ أَحَدِهِمَا كَيْفَ الدُّعَاءُ فِي الصَّلَاةِ عَلَيْهِ؟

(فَأَجَابَ) رضي الله عنه -

ص: 2

بِقَوْلِهِ لَا يُسَنُّ التَّلْقِينُ قَبْلَ إهَالَةِ التُّرَابِ بَلْ بَعْدَهُ كَمَا اعْتَمَدَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ وَجَزَمْتُ بِهِ فِي شَرْحِ الْإِرْشَادِ وَإِنْ اخْتَارَ ابْنُ الصَّلَاحِ أَنَّهُ يَكُونُ قَبْلَ الْإِهَالَةِ قَالَ الْإِسْنَوِيُّ وَسَوَاءٌ فِيمَا قَالُوهُ فِي الدُّعَاءِ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الطِّفْلِ مَاتَ فِي حَيَاةِ أَبَوَيْهِ أَمْ لَا لَكِنْ خَالَفَهُ الزَّرْكَشِيُّ فَقَالَ إنْ كَانَ أَبَوَاهُ مَيِّتَيْنِ أَوْ أَحَدُهُمَا أَتَى بِمَا يَقْتَضِيهِ الْحَالُ وَالدَّمِيرِيُّ فَقَالَ إنْ كَانَ أَبَوَاهُ مَيِّتَيْنِ لَمْ يَدْعُ لَهُمَا.

وَاَلَّذِي قَالَهُ الزَّرْكَشِيُّ أَوْجَهُ كَمَا ذَكَرْتُهُ فِي شَرْحِ الْعُبَابِ فَحِينَئِذٍ يَقُولُ اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ فَرَطًا لِأَبَوَيْهِ وَسَلَفًا وَذُخْرًا وَهَذِهِ الْأَوْصَافُ كُلُّهَا لَائِقَةٌ بِالْمَيِّتِ وَالْحَيِّ فَلْيَأْتِ بِهَا سَوَاءٌ كَانَا حَيَّيْنِ أَوْ مَيِّتَيْنِ أَمَّا السَّلَفُ وَالذُّخْرُ فَوَاضِحٌ وَأَمَّا الْفَرَطُ فَهُوَ السَّابِقُ الْمُهَيِّئُ لِمَصَالِحِهِمَا فِي الْآخِرَةِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ السَّبْقَ بِالْمَوْتِ بَلْ السَّبْقَ بِتَهْيِئَةِ الْمَصَالِحِ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَيِّتَ يَحْتَاجُ إلَى مَنْ يَسْبِقُهُ إلَى الْجَنَّةِ أَوْ الْمَوْقِفِ لِيُهَيِّئَ لَهُ الْمَصَالِحَ وَوَلَدُهُ الطِّفْلُ كَذَلِكَ.

وَأَمَّا الْعِظَةُ فَتَخْتَصُّ بِالْحَيِّ فَيَقُولُ وَعِظَةً لِلْحَيِّ مِنْ أَبَوَيْهِ فَإِنْ مَاتَا حَذَفَ هَذِهِ اللَّفْظَةَ وَكَذَلِكَ الِاعْتِبَارُ وَالشَّفِيعُ عَامٌّ لِلْحَيِّ وَالْمَيِّتِ فَيَأْتِي بِهِ فِيهِمَا وَتَثْقِيلُ الْمَوَازِينِ كَذَلِكَ بِخِلَافِ أَفْرِغْ الصَّبْرَ وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يَأْتِي بِالْأَلْفَاظِ كُلِّهَا سَوَاءٌ كَانَا حَيَّيْنِ أَمْ مَيِّتَيْنِ إلَّا قَوْلَهُ عِظَةً وَاعْتِبَارًا وَأَفْرِغْ الصَّبْرَ فَإِنَّهُ لَا يَأْتِي بِهَا إلَّا إذَا كَانَا حَيَّيْنِ أَوْ أَحَدُهُمَا فَإِنْ كَانَا حَيَّيْنِ فَوَاضِحٌ أَوْ أَحَدُهُمَا فَقَطْ ذَكَرَهُ فَقَالَ وَعِظَةً وَاعْتِبَارًا لِلْحَيِّ مِنْهُمَا وَأَفْرِغْ الصَّبْرَ عَلَى قَلْبِ الْحَيِّ مِنْهُمَا وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

(وَسُئِلَ) رضي الله عنه عَنْ قَوْلِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ زَكَرِيَّا فِي شَرْحِ الرَّوْضِ الرُّوحُ جِسْمٌ لَطِيفٌ وَهُوَ بَاقٍ لَا يَفْنَى عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَقَالَ فِي الْأَضْوَاءِ الْبَهِجَةِ فِي إبْرَازِ دَقَائِقِ الْمُنْفَرِجَةِ حَقِيقَةُ الرُّوحِ لَمْ يَتَكَلَّمْ عَلَيْهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَنُمْسِكَ وَلَا نُعَبِّرُ عَنْهَا بِأَكْثَرَ مِنْ مَوْجُودٍ كَمَا قَالَ الْجُنَيْدُ وَذَكَرَ أَنَّ أَهْلَ الْكَلَامِ اخْتَلَفُوا فِيهَا فَمَا الرَّاجِحُ الْمُعْتَمَدُ فِي ذَلِكَ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ مَا قَالَهُ شَيْخُنَا سَقَى اللَّهُ عَهْدَهُ فِي شَرْحِ الْمُنْفَرِجَةِ هُوَ طَرِيقَةُ الْمُحْتَاطِينَ كَالْجُنَيْدِ وَعَلَيْهِ كَثِيرُونَ مِنْ أَئِمَّةِ التَّفْسِيرِ كَالثَّعْلَبِيِّ وَابْنِ عَطِيَّةَ وَعَلَيْهِ حَمَلُوا قَوْله تَعَالَى {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء: 85] وَلَمْ يُبَيِّنْهُ لَهُمْ وَمَشَى فِي شَرْحِ الرَّوْضِ عَلَى مَا عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْمُتَكَلِّمِينَ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ مِنْ أَنَّهَا جِسْمٌ لَطِيفٌ مُشْتَبِكٌ بِالْبَدَنِ اشْتِبَاكَ الْمَاءِ بِالْعُودِ الْأَخْضَرِ قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ أَصْحَابِنَا.

وَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ إلَى أَنَّهُ عَرَضٌ وَأَنَّهُ هُوَ الْحَيَاةُ الَّتِي صَارَ الْبَدَنُ بِوُجُودِهَا حَيًّا وَقَالَ كَثِيرٌ مِنْ الصُّوفِيَّةِ تَبَعًا لِلْفَلَاسِفَةِ لَيْسَتْ بِجِسْمٍ وَلَا عَرَضٍ بَلْ جَوْهَرٌ مُجَرَّدٌ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ غَيْرُ مُتَحَيِّزٍ وَلَهُ تَعَلُّقٌ خَاصٌّ بِالْبَدَنِ لِلتَّدْبِيرِ وَالتَّحْرِيكِ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي الْبَدَنِ وَلَا خَارِجٍ عَنْهُ قَالَ السُّهْرَوَرْدِيُّ وَيَدُلُّ لِلْأَوَّلِ الْأَخْبَارُ الدَّالَّةُ عَلَى أَنَّهُ جِسْمٌ لِمَا وَرَدَ عَنْهُ مِنْ الْهُبُوطِ وَالْعُرُوجِ وَالتَّرَدُّدِ فِي الْبَرْزَخِ وَالْعَرَضُ لَا يُوصَفُ بِذَلِكَ وَقَدْ تَكَلَّمَ عَلَيْهَا مُتَأَخِّرُو الصُّوفِيَّةِ فَنُقِلَ الْإِمْسَاكُ عَنْهُمْ الْمُرَادُ بِهِمْ مُتَقَدِّمُوهُمْ وَأَجَابَ الْخَائِضُونَ فِيهَا عَنْ الْآيَةِ بِأَنَّ سَبَبَهَا أَنَّ الْيَهُودَ لَمَّا أَرَادُوا سُؤَالَهُ صلى الله عليه وسلم عَنْهَا قَالُوا إنْ أَجَابَ عَنْهَا فَلَيْسَ بِنَبِيٍّ وَإِنْ لَمْ يُجِبْ فَهُوَ صَادِقٌ فَلَمْ يُجِبْ لِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِيهِ تَأْكِيدًا لِمُعْجِزَتِهِ وَتَصْدِيقًا لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ وَصْفِهِ فِي كُتُبِهِمْ لَا لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْكَلَامُ فِيهِ وَأَيْضًا فَسُؤَالُهُمْ كَانَ تَعْجِيزًا وَتَغْلِيطًا لِأَنَّ الرُّوحَ اسْمٌ مُشْتَرَكٌ لِرُوحِ الْإِنْسَانِ وَجِبْرِيلَ وَمَلَكٍ آخَرَ يُقَالُ لَهُ الرُّوحُ وَصِنْفٍ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَالْقُرْآنِ وَعِيسَى فَقَصَدُوا أَنَّهُمْ إذَا أَجَابَهُمْ بِوَاحِدٍ مِمَّا ذُكِرَ قَالُوا لَيْسَ هَذَا فَجَاءَ الْجَوَابُ شَامِلًا لِكُلٍّ مِمَّنْ ذُكِرَ.

وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ صَحَّ أَنَّ الْيَهُودَ سَأَلُوهُ عَنْهَا بِمَكَّةَ وَصَحَّ مَا يُصَرِّحُ بِأَنَّهُمْ سَأَلُوهُ عَنْهَا بِالْمَدِينَةِ أَيْضًا وَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ أَنَّ السُّؤَالَ تَكَرَّرَ وَكَذَلِكَ النُّزُولُ تَكَرَّرَ وَإِنَّمَا سَكَتَ صلى الله عليه وسلم فِي مَرَّةِ الْمَدِينَةِ مَعَ أَنَّهُ كَانَ نَزَلَ عَلَيْهِ الْجَوَابُ بِمَكَّةَ لِتَوَقُّعِ مَزِيدِ بَيَانٍ فَلَمْ يُبَيَّنْ لَهُ شَيْءٌ زَائِدٌ عَلَى الْجَوَابِ الْأَوَّلِ وَأُنْزِلَتْ عَلَيْهِ تِلْكَ الْآيَةُ مَرَّةً ثَانِيَةً وَإِنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِالرُّوحِ الْمَسْئُولِ عَنْهُ وَالرَّاجِحُ كَمَا قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ وَالْفَخْرُ الرَّازِيّ أَنَّهُمْ سَأَلُوهُ عَنْ رُوحِ الْإِنْسَانِ الَّذِي هُوَ سَبَبُ الْحَيَاةِ وَأَنَّ الْجَوَابَ وَقَعَ عَلَى أَحْسَنِ الْوُجُوهِ وَبَيَانُهُ أَنَّ السُّؤَالَ عَنْ الرُّوحِ يَحْتَمِلُ عَنْ مَاهِيَّتِهِ وَهَلْ هِيَ مُتَحَيِّزَةٌ

ص: 3

أَمْ لَا وَهَلْ هِيَ حَالَّةٌ فِي مُتَحَيِّزٍ أَمْ لَا وَهَلْ هِيَ قَدِيمَةٌ أَوْ حَادِثَةٌ وَهَلْ تَبْقَى بَعْدَ انْفِصَالِهَا مِنْ الْجَسَدِ أَوْ تَفْنَى وَمَا حَقِيقَةُ تَعْذِيبِهَا وَتَنْعِيمِهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مُتَعَلِّقَاتِهَا وَلَيْسَ فِي السُّؤَالِ مَا يُخَصِّصُ أَحَدَ هَذِهِ الْمَعَانِي إلَّا أَنَّ الْأَظْهَرَ أَنَّهُمْ سَأَلُوهُ عَنْ مَاهِيَّتِهَا وَهَلْ هِيَ قَدِيمَةٌ أَوْ حَادِثَةٌ.

وَالْجَوَابُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا شَيْءٌ مَوْجُودٌ مُغَايِرٌ لِلطَّبَائِعِ وَلِأَخْلَاطِهَا وَلِتَرْكِيبِهَا فَهِيَ بَسِيطَةٌ مُجَرَّدَةٌ وَلَا تَحْدُثُ إلَّا بِمُحْدِثٍ هُوَ قَوْله تَعَالَى {كُنْ} [يس: 82] فَكَأَنَّهُ قَالَ فِي الْجَوَابِ هِيَ مَوْجُودَةٌ مُحْدَثَةٌ بِأَمْرِ اللَّهِ وَتَكْوِينِهِ وَلَهَا تَأْثِيرٌ فِي إفَادَةِ الْحَيَاةِ لِلْجَسَدِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ الْعِلْمِ بِكَيْفِيَّتِهَا الْمَخْصُوصَةِ نَفْيُهُ وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَمْرِ فِي الْآيَةِ الْفِعْلُ نَحْوُ {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} [هود: 97] أَوْ فِعْلُهُ فَيَكُونُ الْجَوَابُ أَنَّهَا حَادِثَةٌ.

وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ مَعْرِفَةُ حَقِيقَةِ الرُّوحِ مِمَّا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ بِدَلِيلِ هَذَا الْخَبَرِ وَالْحِكْمَةُ فِي إبْهَامِهِ اخْتِبَارُ الْخَلْقِ لِيُعَرِّفَهُمْ عَجْزَهُمْ عَنْ عِلْمِ مَا لَا يُدْرِكُونَهُ حَتَّى يَضْطَرَّهُمْ إلَى رَدِّ الْعِلْمِ إلَيْهِ وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ الْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ إظْهَارُ عَجْزِ الْمَرْءِ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَعْلَمْ حَقِيقَةَ نَفْسِهِ مَعَ الْقَطْعِ بِوُجُودِهِ كَانَ عَجْزُهُ عَنْ إدْرَاكِ حَقِيقَةِ الْحَقِّ أَوْلَى وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَيْسَ فِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يُطْلِعْ نَبِيَّهُ عَلَى حَقِيقَتِهَا بَلْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَطْلَعَهُ وَلَمْ يَأْمُرْهُ أَنْ يُطْلِعَهُمْ وَقَدْ قَالُوا فِي عِلْمِ السَّاعَةِ نَحْوَ هَذَا وَهُوَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أُطْلِعَ عَلَيْهَا وَأُمِرَ بِكَتْمِهَا وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

(وَسُئِلَ) رضي الله عنه مَاتَ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ بِقَرْيَةٍ فَدُفِنَ بِغَيْرِ صَلَاةٍ ثُمَّ خَرَجَ رِجْلٌ مِمَّنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِمْ مِنْهَا إلَى أُخْرَى فَصَلَّى فِيهَا عَلَى الْمَيِّتِ ثُمَّ رَجَعَ إلَى قَرْيَتِهِ فَهَلْ يَسْقُطُ الْفَرْضُ عَنْهُ وَعَنْ أَهْلِ قَرْيَتِهِ أَمْ لَا وَإِذَا كَانَ يَشْتَغِلُ بِالصَّلَاةِ عَلَى أَمْوَاتِ أَهْلِ قَرْيَتِهِ عَنْ حَوَائِجِهِ لِكَوْنِ أَهْلِ قَرْيَتِهِ لَا يُبَالُونَ بِتَرْكِ الصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ بَلْ وَلَا بِتَرْكِ الْفَرْضِ الْمُعَيَّنِ فَهَلْ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ فِي مَنْزِلِهِ صَلَاةَ غَائِبٍ أَمْ لَا؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ فِي فُرُوعِ ابْنِ الْقَطَّانِ أَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى الْغَائِبِ جَائِزَةٌ غَيْرَ أَنَّهُ لَا تُسْقِطُ الْفَرْضَ وَإِنَّمَا نَتَكَلَّمُ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ هَذَا لَفْظُهُ وَهُوَ كَالصَّرِيحِ فِي أَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى الْغَائِبِ لَا تُسْقِطُ الْفَرْضَ عَنْ أَهْلِ بَلَدِهِ مُطْلَقًا لَكِنْ تَعَقَّبَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ فَقَالَ وَلَك أَنْ تَقُولَ الْمُخَاطَبُ بِفُرُوضِ الْكِفَايَةِ جَمِيعُ الْأُمَّةِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَسْقُطَ الْفَرْضُ بِذَلِكَ اهـ.

وَجَرَى عَلَى هَذَا الزَّرْكَشِيُّ أَيْضًا فَقَالَ وَالْأَقْرَبُ سُقُوطُ الْفَرْضِ عَنْهُمْ أَيْ عَنْ أَهْلِ بَلَدِهِ لِحُصُولِ الْفَرْضِ اهـ.

وَكَذَلِكَ جَرَى عَلَيْهِ شَيْخُنَا شَيْخُ الْإِسْلَامِ زَكَرِيَّا سَقَى اللَّهُ عَهْدَهُ فَقَالَ وَالْأَوْجَهُ حَمْلُ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْقَطَّانِ عَلَى مَا إذَا لَمْ يَعْلَمْ أَهْلُ مَوْضِعِهِ بِصَلَاةِ الْغَيْبَةِ فَإِنْ عَلِمُوا سَقَطَ الْفَرْضُ عَنْهُمْ لِأَنَّ فَرْضَ الْكِفَايَةِ إذَا قَامَ بِهِ بَعْضٌ سَقَطَ الْفَرْضُ عَنْ الْبَاقِينَ اهـ وَبِذَلِكَ عُلِمَ أَنَّ الْمُعْتَمَدَ سُقُوطُ الصَّلَاةِ عَنْ أَهْلِ الْبَلَدِ بِصَلَاةِ الْغَائِبِ سَوَاءٌ أَكَانَ مِنْهُمْ أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ لَكِنْ إثْمُهُمْ بِتَأْخِيرِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ إلَى أَنْ صَلَّى عَنْهُ لَا مُسْقِطَ لَهُ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ لِأَنَّ الْفَرْضَ يَتَوَجَّهُ إلَيْهِمْ أَوَّلًا فَإِذَا تَبَاطَئُوا عَنْهُ أَثِمُوا بِهَذَا التَّبَاطُؤِ وَإِنْ قَامَ بِالْفَرْضِ غَيْرُهُمْ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُصَلَّى عَلَى غَائِبٍ فِي الْبَلَدِ مُطْلَقًا سَوَاءٌ كَانَ لَهُ حَوَائِجُ تَشْغَلُهُ أَمْ لَا قَالُوا لِتَيَسُّرِ الْحُضُورِ قَالَ فِي الْخَادِمِ وَقَضِيَّتُهُ أَنَّ الْمَعْذُورَ لِمَرَضٍ أَوْ زَمَانَةٍ أَوْ حَبْسٍ لَهُ الصَّلَاةُ وَقَالَ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ يَتَّجِهُ الْجَوَازُ لَا سِيَّمَا إذَا اتَّسَعَتْ خُطَّةُ الْبَلَدِ حَتَّى صَارَ مَا بَيْنَ طَرَفَيْهَا مَسَافَةَ قَصْرٍ اهـ وَأَخَذَهُ مِنْ كَلَامِ شَيْخِهِ الْأَذْرَعِيِّ لَكِنْ تَعَقَّبَ ذَلِكَ شَيْخُهُ بِأَنَّ الْأَقْرَبَ إلَى كَلَامِهِمْ الْمَنْعُ وَكَذَا قَالَ غَيْرُهُ وَإِطْلَاقُهُمْ صَرِيحٌ فِي الْمَنْعِ مِنْ ذَلِكَ اهـ.

وَهُوَ كَمَا قَالُوهُ فَفِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ وَغَيْرِهِ لَا تَجُوزُ عَلَى مَنْ فِي الْبَلَدِ لِلِاتِّبَاعِ وَلِتَيَسُّرِ الْحُضُورِ كَبُرَتْ الْبَلَدُ أَمْ صَغُرَتْ وَشَبَّهُوهُ بِالْقَضَاءِ عَلَى مَنْ بِالْبَلَدِ لِإِمْكَانِ حُضُورِهِ اهـ وَإِذَا كَانَ كَلَامُهُمْ صَرِيحًا فِي الْمَنْعِ حَتَّى لِنَحْوِ الْمَرِيضِ وَالْمَحْبُوسِ فَمَا بَالُكَ بِمَنْ يَشْتَغِلُ بِالصَّلَاةِ عَنْ حَوَائِجِهِ عَلَى أَنَّا لَوْ قُلْنَا بِمَا بَحَثَهُ جَمْعٌ مِنْ الْجَوَازِ لِنَحْوِ الْمَرِيضِ وَالْمَحْبُوسِ فَاَلَّذِي يَتَّجِهُ أَنَّا لَا نَقُولُ لِلْمُشْتَغِلِ الْمَذْكُورِ لِأَنَّ مَانِعَ أُولَئِكَ اضْطِرَارِيٌّ وَمَانِعَ هَذَا اخْتِيَارِيٌّ وَلِأَنَّ الْمَشَقَّةَ هُنَا لَيْسَتْ كَالْمَشَقَّةِ ثَمَّ وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

(وَسُئِلَ) رضي الله عنه عَنْ قَوْلِ الْإِرْشَادِ وَلَا يُنَحَّى سَابِقٌ لِأَوْلَى إلَّا لِذُكُورَةٍ فَلَوْ كَانَ الْأَوْلَى نَبِيًّا كَعِيسَى عليه السلام فَهَلْ

ص: 4

يُنَحَّى السَّابِقُ لَهُ أَمْ لَا؟

(فَأَجَابَ) رضي الله عنه بِقَوْلِهِ ظَاهِرُ إطْلَاقِهِمْ هُنَا أَنَّهُ لَا يُنَحَّى السَّابِقُ لِلْمَسْبُوقِ وَلَوْ نَبِيًّا لَكِنَّهُمْ صَرَّحُوا فِي بَابِ الْأَطْعِمَةِ بِأَنَّهُ يَلْزَمُ مَالِكُ طَعَامٍ اُضْطُرَّ إلَيْهِ بَذْلُهُ لِنَبِيٍّ مُضْطَرٍّ إلَيْهِ أَيْضًا لِأَنَّ بَقَاءَ نَفْسِ النَّبِيِّ أَوْلَى مِنْ بَقَاءِ نَفْسِ غَيْرِهِ فَيُحْتَمَلُ قِيَاسُ ذَلِكَ بِهَذَا فَيَتَقَدَّمُ النَّبِيُّ عَلَى غَيْرِهِ مُطْلَقًا وَيَحْتَمِلُ الْفَرْقَ بِأَنَّ فَوَاتَ نَفْسِ النَّبِيِّ لَا خَلَفَ لَهُ فَفِيهِ مَفْسَدَةٌ لَا يُمْكِنُ تَدَارُكَهَا لَوْ قُدِّمَ الْمَالِكُ عَلَيْهِ وَأَمَّا تَقَدُّمُ السَّابِقِ فَلَا مَفْسَدَةَ فِيهِ وَإِنَّمَا غَايَتُهُ أَنَّهُ أُوثِرَ بِفَضِيلَةٍ اسْتَحَقَّهَا بِسَبْقِهِ وَهِيَ الْقُرْبُ مِنْ الْإِمَامِ وَهَذِهِ لَا يَحْتَاجُ إلَيْهَا إلَّا غَيْرُ النَّبِيِّ وَأَمَّا النَّبِيُّ فَهُوَ غَنِيٌّ عَنْهَا إذْ لَا يَحْصُلُ لَهُ بِذَلِكَ إلَّا مُجَرَّدُ قُرْبٍ مِنْ الْإِمَامِ وَهُوَ بِالنِّسْبَةِ لِعَلِيٍّ مَقَامِهِ لَيْسَ فِيهِ كَبِيرُ أَمْرٍ فَلَمْ يُفَوَّتْ عَلَى السَّابِقِ لِأَنَّهُ يَتَشَرَّفُ بِهِ دُونَ النَّبِيِّ الْمَسْبُوقِ كَمَا تَقَرَّرَ وَلَعَلَّ هَذَا أَقْرَبُ وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

(وَسُئِلَ) رضي الله عنه فِيمَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ دُيُونٌ لِأَقْوَامٍ مُتَفَرِّقَةٍ فَوَضَعُوا تَرِكَتَهُ فِي حَاصِلٍ وَخَتَمَ الْقَاضِي عَلَيْهَا فَجَاءَ وَلَدُهُ فَقَالَ لَهُمْ مَكِّنُونِي مِنْ التَّرِكَةِ وَلَا تَعْرِفُوا الْمَالَ إلَّا مِنِّي وَأُوفِيكُمْ جَمِيعَ الدُّيُونِ إلَى الزَّمَنِ الْفُلَانِيِّ فَمَكَّنُوهُ مِنْ ذَلِكَ وَكَتَبُوا عَلَيْهِ الدُّيُونَ فِي ذِمَّتِهِ عِنْدَ الْقَاضِي عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ ثُمَّ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى التَّرِكَةِ فَتَصَرَّفَ فِيهَا فَأَعْطَاهُمْ لَا عَلَى نِسْبَةِ دُيُونِهِمْ ثُمَّ هَرَبَ وَبَقِيَتْ لَهُمْ فَضَلَاتٌ مِنْ دُيُونِهِمْ وَمِنْ الدَّيَّانِينَ شَخْصٌ كَانَ غَائِبًا حِينَ الْمَوْتِ وَتَمْكِينِ الْوَلَدِ مِنْ التَّرِكَةِ وَمُوَافَقَتِهِمْ عَلَى مَا ذَكَرُوا وَإِعْطَائِهِ لَهُمْ مَا ذَكَرَ أَيْضًا فَهَلْ يَسْرِي جَمِيعُ مَا فَعَلُوهُ عَلَى هَذَا الْغَائِبِ وَيُحْرَمُ مِنْ أَخْذِ مَا يَخُصُّ دَيْنَهُ مِنْ التَّرِكَةِ أَوْ أَنَّ كُلَّ مَا فَعَلُوهُ بَاطِلٌ بِالنِّسْبَةِ لِحِصَّتِهِ فَيَرْجِعُ بِقَدْرِهَا عَلَى مَنْ خَصَّهُ شَيْءٌ مِنْ التَّرِكَةِ مِنْ الْغُرَمَاءِ أَمْ لَا؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ.

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ أَنَّ وَارِثَ الْمَيِّتِ إذَا سَأَلَ غُرَمَاءَهُ أَنْ يَحْتَالُوا عَلَيْهِ لِيَصِيرَ الدَّيْنُ فِي ذِمَّتِهِ وَتَبْرَأَ ذِمَّةُ الْمَيِّتِ جَازَ وَعِبَارَةُ الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه فِي الْأُمِّ إنْ كَانَ الدَّيْنُ يُسْتَأْخَرُ سَأَلَ أَيْ وَلِيُّهُ غُرَمَاءَهُ أَنْ يُحَلِّلُوهُ وَيَحْتَالُوا بِهِ عَلَيْهِ وَأَرْضَاهُمْ مِنْهُ بِأَيِّ وَجْهٍ كَانَ انْتَهَتْ.

قَالَ النَّوَوِيُّ فِي الْمَجْمُوعِ ظَاهِرُهُ أَنَّهُ بِمُجَرَّدِ تَرَاضِيهِمْ عَلَى مَصِيرِهِ فِي ذِمَّةِ الْوَلِيِّ يَبْرَأُ الْمَيِّتُ ثُمَّ اسْتَشْكَلَهُ بِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَى قَوَاعِدِ الْحَوَالَةِ وَالضَّمَانِ ثُمَّ أَجَابَ بِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّ الشَّافِعِيَّ وَالْأَصْحَابَ رَأَوْا هَذِهِ الْحَوَالَةَ جَائِزَةً مُبْرِئَةً لِلْمَيِّتِ فِي الْحَالِ لِلْحَاجَةِ وَالْمَصْلَحَةِ اهـ وَهُوَ جَوَابٌ حَسَنٌ وَاضِحٌ وَمِنْ ثَمَّ اعْتَمَدَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ.

وَفِي الْخَادِمِ أَنَّ كَلَامَهُمْ مُصَرِّحٌ بِأَنَّ هَذِهِ الْحَوَالَةَ مُبْرِئَةٌ لِلذِّمَّةِ ثُمَّ رَدَّ عَلَى مَنْ نَازَعَ فِيهِ بِأَنَّهُ اُغْتُفِرَ ذَلِكَ مَصْلَحَةً لِلْمَيِّتِ أَيْ كَمَا مَرَّ عَنْ الْمَجْمُوعِ إذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ عُلِمَ مِنْهُ أَنَّ الْوَارِثَ الْمَذْكُورَ لَمَّا سَأَلَهُمْ فِي أَنْ يُمَكِّنُوهُ مِنْ التَّرِكَةِ وَأَنْ لَا يَعْرِفُوا الْمَالَ إلَّا مِنْهُ فَأَجَابُوهُ إلَى ذَلِكَ وَرَضُوا بِذِمَّتِهِ بَرِئَتْ ذِمَّةُ الْمَيِّتِ فِي الْحَالِ وَصَارَتْ دُيُونُهُمْ مُتَعَلِّقَةً بِذِمَّةِ الْوَارِثِ وَيَلْزَمُ مِنْ بَرَاءَةِ ذِمَّةِ الْمَيِّتِ مِنْ دُيُونِهِمْ انْفِكَاكُ التَّرِكَةِ عَنْ كَوْنِهَا مَرْهُونَةً بِدُيُونِهِمْ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْأَصْحَابُ فِي بَابِ الرَّهْنِ وَحِينَئِذٍ فَلَا حَقَّ لِلْغُرَمَاءِ الرَّاضِينَ بِذِمَّةِ الْوَارِثِ فِي شَيْءٍ مِنْ التَّرِكَةِ بَلْ جَمِيعُهَا بَاقٍ عَلَى رَهْنِيَّتِهِ بِدَيْنِ الْغَائِبِ فَيَرْجِعُ عَلَى كُلِّ مَنْ أَخَذَ مِنْهَا شَيْئًا بِهِ حَتَّى يُسْتَوْفَى جَمِيعُ دَيْنِهِ إنْ كَانَ مُسَاوِيًا لَهَا أَوْ نَاقِصًا عَنْهَا وَلَا حَقَّ لَهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْهَا حَتَّى يُسْتَوْفَى جَمِيعُ دَيْنِهِ فَإِنْ فُرِضَ أَنَّهُمْ لَمْ يَرْضَوْا بِذِمَّةِ الْوَارِثِ فَالتَّرِكَةُ مَرْهُونَةٌ بِحُقُوقِهِمْ وَحَقِّ الْغَائِبِ فَإِذَا اقْتَسَمُوهَا فِي غَيْبَتِهِ رَجَعَ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمْ فَيُشَارِكُهُ بِالْحِصَّةِ فِيمَا أَخَذَهُ إنْ بَقِيَ وَإِلَّا فَفِي بَدَلِهِ وَإِنْ أَعْسَرَ بَعْضُهُمْ جُعِلَ كَأَنَّهُ مَعْدُومٌ وَشَارَكَ غَيْرَهُ ثُمَّ إذَا أَيْسَرَ هَذَا الْمُعْسِرُ طَالَبَهُ كُلٌّ مِنْهُمْ بِالْحِصَّةِ وَلَوْ انْتَقَلَتْ أَعْيَانُ التَّرِكَةِ مِنْهُمْ إلَى غَيْرِهِمْ بِبَيْعٍ وَنَحْوِهِ رَجَعَ عَلَى مَنْ انْتَقَلَتْ إلَيْهِ بِالْحِصَّةِ الَّتِي يَسْتَحِقُّهَا بِنِسْبَةِ دَيْنِهِ لِأَنَّ تَصَرُّفَهُمْ فِي حِصَّتِهِ مِنْ كُلٍّ مِنْ الْأَعْيَانِ بَاطِلٌ وَهُمْ لِوَضْعِ يَدِهِمْ عَلَيْهَا بِغَيْرِ حَقٍّ غَاصِبُونَ أَوْ كَالْغَاصِبِينَ لَهَا فَإِنْ شَاءَ رَجَعَ عَلَيْهِمْ وَإِنْ شَاءَ رَجَعَ عَلَى مَنْ تَرَتَّبَتْ يَدُهُ عَلَى أَيْدِيهِمْ وَكَذَلِكَ يُقَالُ فِي الْحَالَةِ الْأُولَى إذَا لَمْ يَسْتَحِقُّوا شَيْئًا مِنْ التَّرِكَةِ وَوَضَعُوا أَيْدِيَهُمْ عَلَيْهَا وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

(وَسُئِلَ) رضي الله عنه هَلْ يَلْزَمُ الزَّوْجَ تَكْفِينُ زَوْجَتِهِ

ص: 5

بِجَدِيدٍ كَالْكِسْوَةِ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ أَفْتَى بَعْضُهُمْ بِذَلِكَ وَاعْتَمَدَهُ غَيْرُهُ وَبَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ يَجُوزُ بِاللَّبِيسِ كَكَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَاعْتَمَدَهُ ابْنُ كَبَّنَ وَاَلَّذِي يَتَّجِهُ الْأَوَّلُ لِاعْتِبَارِهِمْ ذَلِكَ بِحَالِ الْحَيَاةِ وَلَيْسَ الْمَلْحَظُ هُنَا كَالْكَفَّارَةِ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ فِيهَا بِمَا يُسَمَّى كِسْوَةً وَهُنَا بِمَا كَانَتْ تَسْتَحِقُّهُ حَالَ الْحَيَاةِ بِدَلِيلِ وُجُوبِ تَجْهِيزِهَا عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ غَنِيَّةً وَعَدَمِ وُجُوبِهَا إذَا كَانَتْ نَاشِزَةً وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

(سُئِلْت) فِي التِّرْمِذِيِّ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ مَنْ كَتَبَ هَذَا الدُّعَاءَ وَجَعَلَهُ بَيْنَ صَدْرِ الْمَيِّتِ وَكَفَنِهِ فِي رُقْعَةٍ لَمْ يَنَلْهُ عَذَابُ الْقَبْرِ وَلَا يَرَى مُنْكَرًا وَنَكِيرًا وَهُوَ هَذَا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ قَالَ بَعْضُهُمْ وَمِثْلُ ذَلِكَ مَا يُكْتَبُ مِنْ التَّسْبِيحِ الَّذِي قِيلَ فِيهِ إنَّهُ مَشْهُورُ الْفَضْلِ وَالْبَرَكَةِ مَنْ كَتَبَهُ وَجَعَلَهُ بَيْنَ صَدْرِ الْمَيِّتِ وَكَفَنِهِ لَا يَنَالُهُ عَذَابُ الْقَبْرِ وَلَا يَنَالُهُ مُنْكَرٌ وَنَكِيرٌ وَلَهُ شَرْحٌ عَظِيمٌ وَهُوَ دُعَاءُ الْأُنْسِ سُبْحَانَ مَنْ هُوَ بِالْجَلَالِ مُوَحَّدٌ وَبِالتَّوْحِيدِ مَعْرُوفٌ وَبِالْمَعَارِفِ مَوْصُوفٌ وَبِالصِّفَةِ عَلَى لِسَانِ كُلِّ قَائِلٍ رَبٌّ بِالرُّبُوبِيَّةِ لِلْعَالَمِ قَاهِرٌ وَبِالْقَهْرِ لِلْعَالَمِ جَبَّارٌ وَبِالْجَبَرُوتِ عَلِيمٌ حَلِيمٌ وَبِالْحِلْمِ وَالْعِلْمِ رَءُوفٌ رَحِيمٌ سُبْحَانَهُ كَمَا يَقُولُونَ وَسُبْحَانَهُ كَمَا هُمْ يَقُولُونَ تَسْبِيحًا تَخْشَعُ لَهُ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ عَلَيْهِمَا وَيَحْمَدُنِي مَنْ حَوْلَ عَرْشِي اسْمِي اللَّهُ وَأَنَا أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ.

وَقَالَ ابْنُ عُجَيْلٍ إذَا كُتِبَ هَذَا الدُّعَاءُ وَجُعِلَ مَعَ الْمَيِّتِ فِي قَبْرِهِ وَقَاهُ اللَّهُ فِتْنَةَ الْقَبْرِ وَعَذَابَهُ وَهُوَ هَذَا اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالَمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ إنِّي أَعْهَدُ إلَيْك فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا إنِّي أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ وَحْدَك لَا شَرِيكَ لَك وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُكَ وَرَسُولُكَ وَأَنَّك إنْ تَكِلْنِي إلَى نَفْسِي تُقَرِّبْنِي مِنْ الشَّرِّ وَتُبَاعِدْنِي مِنْ الْخَيْرِ وَإِنِّي لَا أَثِقُ إلَّا بِرَحْمَتِك فَاجْعَلْهُ لِي عِنْدَك عَهْدًا تُؤْتِنِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إنَّك لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ وَقَالَ أَيْضًا مَنْ كَتَبَ هَذَا الدُّعَاءَ فِي كَفَنِ الْمَيِّتِ رَفَعَ اللَّهُ عَنْهُ الْعَذَابَ إلَى يَوْمِ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَهُوَ هَذَا اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك يَا عَالَمَ السِّرِّ يَا عَظِيمَ الْخَطَرِ يَا خَالِقَ الْبَشَرِ يَا مُوقِعَ الظَّفَرِ يَا مَعْرُوفَ الْأَثَرِ يَا ذَا الطَّوْلِ وَالْمَنِّ يَا كَاشِفَ الضُّرِّ وَالْمِحَنِ يَا إلَهَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ فَرِّجْ عَنِّي هُمُومِي وَاكْشِفْ عَنِّي غُمُومِي وَصَلِّ اللَّهُمَّ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَسَلِّمْ اهـ مَا قَالَهُ ابْنُ عُجَيْلٍ فَهَلْ مَا نَقَلَهُ صَحِيحٌ مُعْتَمَدٌ وَهَلْ يُفَرَّقُ بَيْنَ أَنْ يُكْتَبَ وَيُحْفَظَ عَنْ الصَّدِيدِ وَأَنْ لَا يُحْفَظَ عَنْهُ.

(فَأَجَبْت) بِقَوْلِي لَيْسَ ذَلِكَ بِصَحِيحٍ وَلَا مُعْتَمَدٍ فَقَدْ أَفْتَى الْإِمَامُ ابْنُ الصَّلَاحِ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ كِتَابَةُ شَيْءٍ مِنْ الْقُرْآنِ عَلَى الْكَفَنِ صِيَانَةً لَهُ عَنْ صَدِيدِ الْمَوْتَى وَمِثْلُ ذَلِكَ الْكِتَابُ الَّذِي يُسَمُّونَهُ كِتَابَ الْعُهْدَةِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ وَأَقَرَّ ابْنُ الصَّلَاحِ عَلَى ذَلِكَ الْأَئِمَّةُ بَعْدَهُ وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَعْنَى جِدًّا فَإِنَّ الْقُرْآنَ وَكُلَّ اسْمٍ مُعَظَّمٍ كَاسْمِ اللَّهِ أَوْ اسْمِ نَبِيٍّ لَهُ يَجِبُ احْتِرَامُهُ وَتَوْقِيرُهُ وَتَعْظِيمُهُ وَلَا شَكَّ أَنَّ كِتَابَتَهُ وَجَعْلَهُ فِي كَفَنِ الْمَيِّتِ فِيهِ غَايَةُ الْإِهَانَةِ لَهُ إذْ لَا إهَانَةَ كَالْإِهَانَةِ بِالتَّنْجِيسِ وَنَحْنُ نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ مَا فِي كَفَنِ الْمَيِّتِ لَا بُدَّ وَأَنْ يُصِيبَهُ بَعْضُ دَمِهِ أَوْ صَدِيدِهِ أَوْ غَيْرِهِمَا مِنْ الْأَعْيَانِ النَّجِسَةِ الَّتِي بِجَوْفِهِ فَكَانَ تَحْرِيمُ وَضْعِ مَا كُتِبَ فِيهِ اسْمٌ مُعَظَّمٌ فِي كَفَنِ الْمَيِّتِ مِمَّا لَا يَنْبَغِي التَّوَقُّفُ فِيهِ.

وَأَمَّا مَا فِي التِّرْمِذِيِّ فَيَتَوَقَّفُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ عَلَى صِحَّةِ سَنَدِهِ بَلْ لَوْ فُرِضَ صِحَّةُ سَنَدِهِ لَمْ يُعْمَلْ بِهِ لِأَنَّ الْأَئِمَّةَ نَصُّوا عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَاهُ فَيَكُونُ إعْرَاضُهُمْ عَنْهُ إنَّمَا هُوَ لِعِلَّةٍ فِيهِ كَيْفَ وَهُوَ مُخَالِفٌ لِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ الْمَعْلُومَةِ الَّتِي لَا نِزَاعَ فِيهَا وَهِيَ أَنَّ تَنْجِيسَ اسْمِ اللَّهِ وَنَحْوِهِ فِيهِ إهَانَةٌ لَهُ وَإِهَانَتُهُ مُحَرَّمَةٌ فَيَكُونُ السَّبَبُ إلَى ذَلِكَ مُحَرَّمًا نَعَمْ إنْ فُرِضَ أَنَّ ذَلِكَ الْمَكْتُوبَ جُعِلَ فِي مَحِلٍّ مِنْ الْقَبْرِ بِحَيْثُ أُمِنَ عَلَيْهِ يَقِينًا أَنَّهُ لَا يُصِيبُهُ شَيْءٌ مِنْ الصَّدِيدِ وَنَحْوِهِ لَمْ يَبْعُدْ الْقَوْلُ بِالْجَوَازِ حِينَئِذٍ لِانْتِفَاءِ عِلَّةِ التَّحْرِيمِ السَّابِقَةِ عَلَى أَنَّهُ حِينَئِذٍ لَا يُجْدِي شَيْئًا لِأَنَّ الشَّرْطَ كَمَا ذُكِرَ عَنْ التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ أَنْ يُوضَعَ فِي كَفَنِ الْمَيِّتِ فَوَضْعُهُ خَارِجَ الْكَفَنِ لَا يُفِيدُ شَيْئًا فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ إنْ وُضِعَ فِي الْكَفَنِ كَانَ فِيهِ تَسَبُّبٌ إلَى تَنْجِيسِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَدْ تَقَرَّرَ وَبَانَ وَظَهَرَ حُرْمَةُ ذَلِكَ وَإِنْ وُضِعَ خَارِجَ الْكَفَنِ لَمْ يُفِدْ شَيْئًا لِأَنَّ ذَلِكَ الثَّوَابَ الَّذِي قِيلَ فِيهِ مَشْرُوطٌ بِوَضْعِهِ فِي الْكَفَنِ فَالصَّوَابُ عَدَمُ كِتَابَةِ ذَلِكَ وَعَدَمُ

ص: 6

وَضْعِهِ فِي الْقَبْرِ مُطْلَقًا وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

(وَسُئِلَ) أَعَادَ اللَّهُ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِهِ عَمَّا يُذْبَحُ مِنْ النَّعَمِ وَيُحْمَلُ مَعَ مِلْحٍ خَلْفَ الْمَيِّتِ إلَى الْمَقْبَرَةِ وَيُتَصَدَّقُ بِهِ عَلَى الْحَفَّارِينَ فَقَطْ وَعَمَّا يُعْمَلُ يَوْمَ ثَالِثِ مَوْتِهِ مِنْ تَهْيِئَةِ أَكْلٍ وَإِطْعَامِهِ لِلْفُقَرَاءِ وَغَيْرِهِمْ وَعَمَّا يُعْمَلُ يَوْمَ السَّابِعِ كَذَلِكَ وَعَمَّا يُعْمَلُ يَوْمَ تَمَامِ الشَّهْرِ مِنْ الْكَعْكِ وَيُدَارُ بِهِ عَلَى بُيُوتِ النِّسَاءِ اللَّاتِي حَضَرْنَ الْجِنَازَةَ وَلَمْ يَقْصِدُوا بِذَلِكَ إلَّا مُقْتَضَى عَادَةِ أَهْلِ الْبَلَدِ حَتَّى إنَّ مَنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ صَارَ مَمْقُوتًا عِنْدَهُمْ خَسِيسًا لَا يَعْبَئُونَ بِهِ وَهَلْ إذَا قَصَدُوا بِذَلِكَ الْعَادَةَ وَالتَّصَدُّقَ فِي غَيْرِ الْأَخِيرَةِ أَوْ مُجَرَّدَ الْعَادَةِ مَاذَا يَكُونُ الْحُكْمُ جَوَازٌ وَغَيْرُهُ وَهَلْ يُوَزَّعُ مَا صُرِفَ عَلَى أَنْصِبَاءِ الْوَرَثَةِ عِنْدَ قِسْمَةِ التَّرِكَةِ وَإِنْ لَمْ يَرْضَ بِهِ بَعْضُهُمْ وَعَنْ الْمَبِيتِ عِنْدَ أَهْلِ الْمَيِّتِ إلَى مُضِيِّ شَهْرٍ مِنْ مَوْتِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ كَالْفَرْضِ مَا حُكْمُهُ.

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ جَمِيعُ مَا يُفْعَلُ مِمَّا ذُكِرَ فِي السُّؤَالِ مِنْ الْبِدَعِ الْمَذْمُومَةِ لَكِنْ لَا حُرْمَةَ فِيهِ إلَّا إنْ فُعِلَ شَيْءٌ مِنْهُ لِنَحْوِ نَائِحَةٍ أَوْ رِثَاءٍ وَمَنْ قَصَدَ بِفِعْلِ شَيْءٍ مِنْهُ دَفْعَ أَلْسِنَةِ الْجُهَّالِ وَخَوْضِهِمْ فِي عِرْضِهِ بِسَبَبِ التَّرْكِ يُرْجَى أَنْ يُكْتَبَ لَهُ ثَوَابُ ذَلِكَ أَخْذًا مِنْ أَمْرِهِ صلى الله عليه وسلم مَنْ أَحْدَثَ فِي الصَّلَاةِ بِوَضْعِ يَدِهِ عَلَى أَنْفِهِ وَعَلَّلُوهُ بِصَوْنِ عِرْضِهِ عَنْ خَوْضِ النَّاسِ فِيهِ لَوْ انْصَرَفَ عَلَى غَيْرِ هَذِهِ الْكَيْفِيَّةِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُفْعَلَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ مِنْ التَّرِكَةِ حَيْثُ كَانَ فِيهَا مَحْجُورٌ عَلَيْهِ مُطْلَقًا أَوْ كَانُوا كُلُّهُمْ رُشَدَاءَ لَكِنْ لَمْ يَرْضَ بَعْضُهُمْ بَلْ مَنْ فَعَلَهُ مِنْ مَالِهِ لَمْ يَرْجِعْ بِهِ عَلَى غَيْرِهِ وَمَنْ فَعَلَهُ مِنْ التَّرِكَةِ غَرِمَ حِصَّةَ غَيْرِهِ الَّذِي لَمْ يَأْذَنْ فِيهِ إذْنًا صَحِيحًا وَإِذَا كَانَ فِي الْمَبِيتِ عِنْدَ أَهْلِ الْمَيِّتِ تَسْلِيَةٌ لَهُمْ أَوْ جَبْرٌ لِخَوَاطِرِهِمْ لَمْ يَكُنْ بِهِ بَأْسٌ لِأَنَّهُ مِنْ الصِّلَاتِ الْمَحْمُودَةِ الَّتِي رَغَّبَ الشَّارِعُ فِيهَا وَالْكَلَامُ فِي مَبِيتٍ لَا يَتَسَبَّبُ عَنْهُ مَكْرُوهٌ وَلَا مُحَرَّمٌ وَإِلَّا أُعْطِيَ حُكْمَ مَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ إذْ لِلْوَسَائِلِ حُكْمُ الْمَقَاصِدِ وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

(وَسُئِلَ) فَسَّحَ اللَّهُ تَعَالَى فِي مُدَّتِهِ عَنْ قَوْلِهِمْ فِي الْجَنَائِزِ يُجْعَلُ قَلِيلُ كَافُورٍ لِأَنَّهُ يَشُدُّ الْبَدَنَ وَقَالُوا يُجْعَلُ عَلَى مَنَافِذِ بَدَنِهِ قُطْنٌ لِئَلَّا يَدْخُلَهُ الْهَوَامُّ مَا الْحِكْمَةُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ وَجَمِيعُ بَدَنِ الْمَيِّتِ وَأَجْزَائِهِ صَائِرَةٌ إلَى الْبِلَى؟

(فَأَجَابَ) بِأَنَّ الْحِكْمَةَ فِي ذَلِكَ مَا هُوَ مُقَرَّرٌ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ مِنْ أَنَّ الْبَدَنَ يُنَعَّمُ بِأَنْوَاعِ النَّعِيمِ كَالرُّوحِ وَحَيْثُمَا بَقِيَ اتَّصَلَ بِهِ النَّعِيمُ وَبِاتِّصَالِ النَّعِيمِ بِهِ يَزِيدُ سُرُورُ الرُّوحِ وَانْبِسَاطُهَا فَإِنَّ الْبَدَنَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا غَايَةُ الِارْتِبَاطِ وَالْمُنَاسَبَةِ فَجَمِيعُ مَا يَحْصُلُ لَهُ يَحْصُلُ لَهَا وَعَكْسُهُ فَلِذَلِكَ حَافَظُوا عَلَى طَلَبِ إبْقَائِهِ لِيَزْدَادَ بِذَلِكَ نَعِيمُهُ فِي الْبَرْزَخِ وَالنَّعِيمُ فِيهِ مَقْصُودٌ أَيُّ مَقْصُودٍ وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

(وَسُئِلَ) رضي الله عنه عَمَّا إذَا كَانَ قَبْرُ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعَلَى الْقَبْرِ قُبَّةٌ وَأَرَادَ الرَّجُلُ أَنْ يَكُونَ قَبْرُهُ بِجَنْبِهِ فَضَاقَ الْمَوْضِعُ إلَّا بِنَقْضِ شَيْءٍ قَلِيلٍ مِنْ الْقُبَّةِ فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ نَقْضُهُ فَإِنْ قُلْتُمْ نَعَمْ فَذَاكَ وَإِنْ قُلْتُمْ لَا فَمَعَ عِلْمِكُمْ أَنَّ الشَّافِعِيَّ رضي الله عنه قَالَ رَأَيْت الْوُلَاةَ بِمَكَّةَ يَأْمُرُونَ بِهَدْمِ مَا بُنِيَ مِنْهَا وَلَمْ أَرَ الْفُقَهَاءَ يَعِيبُونَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ إنْ كَانَتْ تِلْكَ الْقُبَّةُ مَبْنِيَّةً فِي مَقْبَرَةٍ مُسَبَّلَةٍ وَهِيَ الَّتِي اعْتَادَ أَهْلُ الْبَلَدِ الدَّفْنَ فِيهَا فَهِيَ مُسْتَحِقَّةُ الْهَدْمِ فَلِكُلِّ أَحَدٍ هَدْمُهَا وَإِنْ كَانَتْ عَلَى ذَلِكَ الْقَبْرِ وَحْدَهُ وَلَمْ تَكُنْ فِي مَقْبَرَةٍ مُسَبَّلَةٍ لَمْ يَجُزْ لِأَحَدٍ هَدْمُهَا لِمِثْلِ مَا ذَكَرَهُ السَّائِلُ مِنْ الدَّفْنِ بِجَانِبِ الْقَبْرِ وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

(وَسُئِلَ) رضي الله عنه عَنْ الْمَيِّتِ هَلْ يُسْأَلُ فِي قَبْرِهِ جَالِسًا أَوْ رَاقِدًا؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ الَّذِي فِي الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ يُسْأَلُ قَاعِدًا وَكَذَا فِي ابْنِ مَاجَهْ وَفِيهِ أَنَّ الصَّالِحَ يَجْلِسُ غَيْرَ فَزِعٍ وَالسَّيِّئُ يَجْلِسُ فَزِعًا وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

(وَسُئِلَ) نَفَعَ اللَّهُ بِهِ إذَا سُئِلَ الْمَيِّتُ هَلْ تَلْبَسُ رُوحُهُ الْجُثَّةَ كَمَا كَانَ فِي الدُّنْيَا؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ وَرَدَ فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ كَمَا ذَكَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ أَنَّهُ تُعَادُ إلَيْهِ رُوحُهُ ثُمَّ يُسْأَلُ.

(وَسُئِلَ) نَفَعَ اللَّهُ بِهِ أَيْنَ تَكُونُ الرُّوحُ مُقِيمَةً بَعْدَ السُّؤَالِ.

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ ذَكَرَ ابْنُ رَجَبٍ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أجْمَعِينَ - تَكُونُ أَرْوَاحُهُمْ فِي أَعْلَى عِلِّيِّينَ وَيُؤَيِّدُهُ اللَّهُمَّ الرَّفِيقَ الْأَعْلَى وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ أَرْوَاحَ الشُّهَدَاءِ فِي الْجَنَّةِ فِي أَجْوَافِ طُيُورٍ خُضْرٍ لَهَا قَنَادِيلُ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ تَسْرَحُ فِي رِيَاضِ

ص: 7

الْجَنَّةِ حَيْثُ شَاءَتْ كَمَا فِي مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ وَرَوَى ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ كَعْبٍ قَالَ جَنَّةُ الْمَأْوَى جَنَّةٌ فِيهَا طَيْرٌ خُضْرٌ تَرْعَى فِيهَا أَرْوَاحُ الشُّهَدَاءِ عَلَى مَارِقِ نَهْرٍ بِبَابِ الْجَنَّةِ فِي قُبَّةٍ خَضْرَاءَ يَخْرُجُ عَلَيْهِمْ رِزْقُهُمْ مِنْ الْجَنَّةِ بُكْرَةً وَعَشِيًّا قَالَ ابْنُ رَجَبٍ وَلَعَلَّ هَذَا فِي عَوَامِّ الشُّهَدَاءِ وَاَلَّذِينَ هُمْ فِي الْقَنَادِيلِ تَحْتَ الْعَرْشِ خَوَاصُّهُمْ وَلَعَلَّ هَذَا فِي شُهَدَاءِ الْآخِرَةِ كَالْغَرِيقِ وَنَحْوِهِ وَأَمَّا بَقِيَّةُ الْمُؤْمِنِينَ فَنَصَّ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ التَّكْلِيفَ مِنْهُمْ فِي الْجَنَّةِ.

وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه «أَنَّ أَرْوَاحَ وِلْدَانِ الْمُؤْمِنِينَ فِي أَجْوَافِ عَصَافِيرَ تَسْرَحُ فِي الْجَنَّةِ حَيْثُ شَاءُوا فَتَأْوِي إلَى قَنَادِيلَ مُعَلَّقَةٍ بِالْعَرْشِ» أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي مُسْلِمٍ أَنَّ لَهُ أَيْ إبْرَاهِيمَ وَلَدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَظِئْرَيْنِ يُكْمِلَانِ رَضَاعَهُ فِي الْجَنَّةِ وَأَمَّا أَهْلُ التَّكْلِيفِ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِمْ قَدِيمًا وَحَدِيثًا قَالَ أَحْمَدُ أَرْوَاحُهُمْ فِي الْجَنَّةِ قَالَ رُوِيَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم نَسَمَةُ الْمُؤْمِنِ إذَا مَاتَ طَائِرٌ يَعْلَقُ فِي شَجَرِ الْجَنَّةِ حَتَّى يُرْجِعَهُ اللَّهُ تَعَالَى إلَى جَسَدِهِ حِينَ يَبْعَثُهُ وَعَنْ وَهْبٍ أَنَّهَا فِي دَارٍ يُقَالُ لَهَا الْبَيْضَاءُ فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهَا تَكُونُ عَلَى الْقُبُورِ سَبْعَةَ أَيَّامٍ مِنْ يَوْمِ دُفِنَ لَا تُفَارِقُهُ قَالَ وَأَمَّا السَّلَامُ عَلَى الْقُبُورِ فَلَا يَدُلُّ عَلَى اسْتِقْرَارِ أَرْوَاحِهِمْ عَلَى أَفْنِيَةِ قُبُورِهِمْ فَإِنَّهُ يُسَلَّمُ عَلَى قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالشُّهَدَاءِ وَأَرْوَاحُهُمْ فِي أَعْلَى عِلِّيِّينَ وَلَكِنْ لَهَا مَعَ ذَلِكَ اتِّصَالٌ سَرِيعٌ بِالْجَسَدِ وَلَا يَعْرِفُ كُنْهَ ذَلِكَ إلَّا اللَّهُ تَعَالَى وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ الْأَحَادِيثُ الْمَرْفُوعَةُ وَالْمَوْقُوفَةُ عَلَى الصَّحَابَةِ كَأَبِي الدَّرْدَاءِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ.

وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا عَنْ مَالِكٍ بَلَغَنِي أَنَّ الرُّوحَ مُرْسَلَةٌ تَذْهَبُ حَيْثُ شَاءَتْ وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو نَحْوُهُ وَيَجْمَعُ هَذِهِ الْأَقْوَالَ مَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ الْعَارِفُ ابْنُ تُرْجُمَانَ فِي شَرْحِ أَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى حَيْثُ قَالَ وَالنَّفْسُ مُبْرَأَةٌ مِنْ بَاطِنِ مَا خُلِقَ مِنْهُ الْجِسْمُ وَهِيَ رُوحُ الْجِسْمِ وَأَوْجَدَ تبارك وتعالى الرُّوحَ مِنْ بَاطِنِ مَا بَرَأَ مِنْهُ النَّفْسَ وَهِيَ لِلنَّفْسِ بِمَنْزِلَةِ النَّفْسِ لِلْجِسْمِ وَالنَّفْسُ حِجَابُهُ وَالرُّوحُ تُوصَفُ بِالْحَيَاةِ وَبِإِحْيَاءِ اللَّهِ عز وجل لَهُ وَمَوْتُهُ أَيْ الرُّوحِ خُمُودٌ إلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ يَوْمَ خُمُودِ الْأَرْوَاحِ وَالْجِسْمُ يُوصَفُ بِالْمَوْتِ حَتَّى يَجِيءَ بِالرُّوحِ وَمَوْتُهُ مُفَارَقَةُ الرُّوحِ إيَّاهُ وَإِذَا فَارَقَ هَذَا الْعَبْدُ الرُّوحَانِيُّ الْجِسْمَ صُعِدَ بِهِ فَإِنْ كَانَ مُؤْمِنًا فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ حَتَّى يَصْعَدَ إلَى رَبِّهِ عز وجل فَيُؤْمَرُ بِالسُّجُودِ فَيَسْجُدُ ثُمَّ يُجْعَلُ حَقِيقَتُهُ النَّفْسَانِيَّةُ تَعُمُّ السُّفْلَ مِنْ قَبْرِهِ إلَى حَيْثُ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الْجَوِّ وَحَقِيقَتُهُ الرُّوحَانِيَّةُ تَعُمُّ الْعُلُوَّ مِنْ السَّمَاءِ الدُّنْيَا إلَى السَّابِعَةِ فِي سُرُورٍ وَنَعِيمٍ وَلِذَلِكَ لَقِيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُوسَى قَائِمًا فِي قَبْرِهِ يُصَلِّي وَإِبْرَاهِيمَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ قَبْلَ صُعُودِهِ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا وَلَقِيَهُمَا فِي السَّمَوَاتِ الْعُلَى فَتِلْكَ أَرْوَاحُهُمَا وَهَذِهِ نُفُوسُهُمَا وَأَجْسَادُهُمَا فِي قُبُورِهِمَا وَإِنْ كَانَ شَقِيًّا لَمْ يُفْتَحْ لَهُ فَيُرْمَى مِنْ عُلُوٍّ إلَى الْأَرْضِ. وَهَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ الْكَبِيرِ يَزُولُ بِهِ مَا لِلْقُرْطُبِيِّ عَلَى ذَلِكَ مِنْ الِاعْتِرَاضَاتِ مِنْ جُمْلَتِهَا حَدِيثُ «مَا مِنْ أَحَدٍ يَمُرُّ بِقَبْرِ أَخِيهِ الْمُؤْمِنِ كَانَ يَعْرِفُهُ فِي الدُّنْيَا فَسَلَّمَ عَلَيْهِ إلَّا عَرَفَهُ وَرَدَّ عليه السلام» فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرُّوحَ عَلَى الْقَبْرِ وَكَذَلِكَ حَدِيثُ الْجَرِيدَتَيْنِ.

وَالْجَوَابُ أَخْذًا مِمَّا مَرَّ أَنَّ الَّذِي فِي الْقَبْرِ إنَّمَا هُوَ حَقِيقَتُهُ النَّفْسَانِيَّةُ الْمُتَّصِلَةُ بِالرُّوحِ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ وَقَدْ قِيلَ إنَّهَا تَزُورُ قُبُورَهَا كُلَّ جُمُعَةٍ عَلَى الدَّوَامِ وَلِذَلِكَ سُنَّ زِيَارَةُ الْقُبُورِ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ وَيَوْمَهَا وَبَكْرَةَ السَّبْتِ اهـ قَالَ ابْنُ رَجَبٍ وَرَجَّحَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّ أَرْوَاحَ الشُّهَدَاءِ فِي الْجَنَّةِ وَأَرْوَاحَ غَيْرِهِمْ فِي أَفْنِيَةِ الْقُبُورِ تَسْرَحُ حَيْثُ شَاءَتْ وَقَالَتْ فِرْقَةٌ تَجْتَمِعُ الْأَرْوَاحُ بِمَوْضِعٍ مِنْ الْأَرْضِ كَمَا رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ إنَّ أَرْوَاحَ الْمُؤْمِنِينَ تَجْتَمِعُ بِالْجَابِيَةِ وَأَمَّا أَرْوَاحُ الْكُفَّارِ فَتَجْتَمِعُ بِسَبْخَةِ حَضْرَمَوْتَ يُقَالُ لَهَا بَرَهُوتُ.

وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ بَعْضُ بُقْعَةٍ فِي الْأَرْضِ وَادٍ بِحَضْرَمَوْتَ يُقَالُ لَهُ بَرَهُوتُ فِيهِ أَرْوَاحُ الْكُفَّارِ وَفِيهِ بِئْرُ مَاءٍ يُرَى بِالنَّهَارِ أَسْوَدَ كَأَنَّهُ قَيْحٌ يَأْوِي إلَيْهَا الْهَوَامُّ» «قَالَ سُفْيَانُ وَسَأَلْنَا الْحَضْرَمِيِّينَ فَقَالُوا لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَبِيتَ فِيهِ بِاللَّيْلِ قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ وَذَكَرَ الْأَصْمَعِيُّ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ بَرَهُوتَ يَعْنِي الْبَلَدَ الَّذِي فِيهِ هَذَا الْبِئْرُ قَالَ نَجِدُ الرَّائِحَةَ الْمُنْتِنَةَ الْفَظِيعَةَ جِدًّا ثُمَّ نَمْكُثُ

ص: 8

حِينًا فَيَأْتِي الْخَبَرُ بِأَنَّ عَظِيمًا مِنْ عُظَمَاءِ الْكُفَّارِ قَدْ مَاتَ فَنَرَى أَنَّ تِلْكَ الرَّائِحَةَ مِنْهُ» .

(وَسُئِلَ) رضي الله عنه هَلْ يَعْرِفُ الْمَيِّتُ مَنْ يَزُورُهُ وَيَفْرَحُ بِذَلِكَ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ ذَكَرَ ابْنُ رَجَبٍ حَدِيثًا أَخْرَجَهُ الْعُقَيْلِيُّ فِيهِ أَنَّهُمْ يَسْمَعُونَ السَّلَامَ وَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهُ.

(وَسُئِلَ) فَسَّحَ اللَّهُ فِي مُدَّتِهِ عَنْ الْمَيِّتِ هَلْ يَرَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَيُقَالُ لَهُ مَا تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ وَهَذَا إشَارَةٌ إلَى الْحُضُورِ وَقَدْ يَمُوتُ فِي الْوَقْتِ الْوَاحِدِ خَلْقٌ كَثِيرٌ وَيُقَالُ ذَلِكَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَكَيْفَ هَذَا؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ قَالَ الْإِمَامُ الْعَارِفُ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ إنَّ هَذَا الرَّجُلَ الْمُرَادُ بِهِ ذَاتُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَرُؤْيَتُهَا بِالْعَيْنِ وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى عِظَمِ قُدْرَةِ اللَّهِ إذْ النَّاسُ يَمُوتُونَ فِي الزَّمَانِ الْفَرْدِ فِي أَقْطَارِ الْأَرْضِ عَلَى اخْتِلَافِهَا بُعْدًا وَقُرْبًا كُلُّهُمْ يَرَاهُ قَرِيبًا مِنْهُ لِأَنَّ لَفْظَةَ هَذَا لَا تُسْتَعْمَلُ إلَّا فِي الْقَرِيبِ وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ رُؤْيَتَهُ صلى الله عليه وسلم فِي الْأَقْطَارِ فِي زَمَنٍ وَاحِدٍ بِصُوَرٍ مُخْتَلِفَةٍ وَدَلِيلُهُ عَقْلًا أَنَّهُمْ جَعَلُوا ذَاتَهُ الشَّرِيفَةَ كَالْمِرْآةِ كُلٌّ يَرَى فِيهِ صُورَتَهُ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ مِنْ حُسْنٍ أَوْ قُبْحٍ وَالْمِرْآةُ عَلَى حَالِهَا مِنْ الْحُسْنِ لَمْ تَتَبَدَّلْ.

وَاَلَّذِي قَالَهُ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ الصُّوفِيَّةِ أَنَّ الْأَمْرَ فِي عَالَمِ الْبَرْزَخِ وَالْآخِرَةِ عَلَى خِلَافِ عَالَمِ الدُّنْيَا فَيَنْحَصِرُ الْإِنْسَانُ فِي صُورَةٍ وَاحِدَةٍ إلَّا الْأَوْلِيَاءَ كَمَا نُقِلَ عَنْ قَضِيبِ الْبَانِ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ رُئِيَ فِي صُوَرٍ مُخْتَلِفَةٍ وَالسِّرُّ فِي ذَلِكَ أَنَّ رُوحَانِيَّتَهُمْ غَلَبَتْ عَلَى جُسْمَانِيَّتِهِمْ فَجَازَ أَنْ يَظْهَرَ فِي صُوَرٍ كَثِيرَةٍ وَحَمَلُوا عَلَيْهِ «قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم لِأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه لَمَّا قَالَ وَهَلْ يَدْخُلُ أَحَدٌ مِنْ تِلْكَ الْأَبْوَابِ كُلِّهَا قَالَ نَعَمْ وَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ» وَقَالُوا إنَّ الرُّوحَ إذَا كَانَتْ كُلِّيَّةً كَرُوحِ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم رُبَّمَا تَظْهَرُ فِي سَبْعِينَ أَلْفِ صُورَةٍ اهـ وَهُمْ أَصْحَابُ كَشْفٍ وَاطِّلَاعٍ فَيُسَلَّمُ لَهُمْ مَا قَالُوهُ.

(وَسُئِلَ) فَسَّحَ اللَّهُ فِي مُدَّتِهِ هَلْ عَذَابُ الْقَبْرِ عَلَى الرُّوحِ وَالْجَسَدِ أَمْ عَلَى أَحَدِهِمَا؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ ذَهَبَ أَهْلُ السُّنَّةِ إلَى أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْمُكَلَّفَ فِي قَبْرِهِ وَيَجْعَلُ لَهُ مِنْ الْعَقْلِ مِثْلَ مَا عَاشَ عَلَيْهِ لِيَعْقِلَ مَا يُسْأَلُ عَنْهُ وَيُجِيبَ عَنْهُ وَمَا يَفْهَمُ بِهِ مَا أَتَاهُ مِنْ رَبِّهِ وَمَا أُعِدَّ لَهُ فِي قَبْرِهِ مِنْ كَرَامَةٍ وَهَوَانٍ وَبِهَذَا نَطَقَتْ الْأَخْبَارُ وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى الرُّوحِ وَالْجَسَدِ.

(وَسُئِلَ) أَعَادَ اللَّهُ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِهِ هَلْ يُغْرَسُ الرَّيْحَانُ وَنَحْوُهُ عَلَى مَنْزِلِ الْقَبْرِ أَوْ قَافِيَةِ اللَّحْدِ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ اسْتَنْبَطَ الْعُلَمَاءُ مِنْ غَرْسِ الْجَرِيدَتَيْنِ عَلَى الْقَبْرِ غَرْسَ الْأَشْجَارِ وَالرَّيَاحِينِ عَلَى الْقَبْرِ.

وَلَمْ يُبَيِّنُوا كَيْفِيَّتَهُ لَكِنْ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ غَرَسَ فِي كُلِّ قَبْرٍ وَاحِدَةً فَشَمِلَ الْقَبْرَ كُلَّهُ فَيَحْصُلُ الْمَقْصُودُ بِأَيِّ مَحِلٍّ مِنْهُ نَعَمْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ فِي مُسْنَدِهِ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم وَضَعَ الْجَرِيدَةَ عَلَى الْقَبْرِ عِنْدَ رَأْسِ الْمَيِّتِ» .

(وَسُئِلَ) نَفَعَ اللَّهُ بِهِ كَيْفَ يَدْرِي الْمَيِّتُ بِوُصُولِ الثَّوَابِ لَهُ وَهَلْ الْأَنْفَعُ الصَّدَقَةُ أَوْ الْقِرَاءَةُ أَوْ تَسْبِيلُ الْمَاءِ أَوْ الْأَكْلِ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِنَا عَدَمُ وُصُولِ الْقِرَاءَةِ إلَى الْمَيِّتِ إلَّا إنْ قُرِئَ عَلَى الْقَبْرِ أَوْ بَعِيدًا عَنْهُ بِنِيَّتِهِ وَدَعَا عَقِبَهَا وَكَيْفِيَّةُ الْوُصُولِ لَمْ يَثْبُتْ فِيهَا شَيْءٌ لَكِنْ ذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ مَنَامَاتٍ تَدُلُّ عَلَى وُصُولِ نُورِهِ وَغَيْرِهِ وَالتَّفَاضُلُ بَيْنَ الصَّدَقَةِ وَالْقِرَاءَةِ عَلَى الْقَوْلِ بِوُصُولِهَا لَمْ يَثْبُتْ فِيهِ شَيْءٌ أَيْضًا وَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ الصَّدَقَةُ أَفْضَلَ إذْ لَا خِلَافَ فِي وُصُولِهَا بِخِلَافِ الْقِرَاءَةِ وَالْأَفْضَلُ مِنْهَا مَا دَعَتْ الْحَاجَةُ إلَيْهِ فِي الْمَحِلِّ الْمُتَصَدَّقِ فِيهِ أَكْثَرَ وَتَارَةً يَكُونُ الْمَاءُ وَتَارَةً يَكُونُ الْخُبْزُ وَتَارَةً يَكُونُ غَيْرُهُمَا.

(وَسُئِلَ) فَسَّحَ اللَّهُ تَعَالَى فِي مُدَّتِهِ عَمَّا إذَا نُقِلَ الْجَسَدُ مِنْ الْقَبْرِ هَلْ تَنْتَقِلُ مَعَهُ الرُّوحُ وَهَلْ الْأَوَّلُ تُرَابُ الْمَيِّتِ أَوْ الثَّانِي.

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ تَنْتَقِلُ مَعَهُ لِأَنَّهَا تَابِعَةٌ لَهُ لَا لِلْقَبْرِ وَالثَّانِي لَمْ نَرَ فِيهِ شَيْئًا وَلَا يَبْعُدُ أَنَّ كُلًّا تُرَابُهُ لَكِنَّ الْأَوَّلَ كَانَ مُغَيًّا بِوَقْتٍ.

(وَسُئِلَ) نَفَعَ اللَّهُ بِهِ عَمَّا إذَا دُفِنَتْ الرَّقَبَةُ فِي مَكَان وَالْجُثَّةُ فِي آخَرَ فَأَيْنَ تَكُونُ الرُّوحُ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ لَمْ نَرَ فِيهِ شَيْئًا وَلَكِنْ إنْ قُلْنَا فِي الْجُثَّةِ فَظَاهِرٌ أَوْ عَلَى الْقَبْرِ فَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِجَمِيعِ الْجَسَدِ وَإِنْ تَفَرَّقَتْ أَجْزَاؤُهُ ثُمَّ رَأَيْتُ بَعْضَ الْمُحَقِّقِينَ أَفْتَى بِذَلِكَ فَقَالَ الرُّوحُ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ دَاخِلَةً جَسَدَ الْمَيِّتِ لَكِنْ لَهَا بِهِ وَبِكُلِّ جُزْءٍ مِنْهُ اتِّصَالٌ مُسْتَمِرٌّ فَإِذَا فُرِّقَ بَيْنَ الْجَسَدِ وَالرَّأْسِ اتَّصَلَتْ الرُّوحُ بِكُلٍّ مِنْهُمَا

ص: 9

وَلَوْ فُرِضَ تَعَدُّدُ تَفْرِيقِ أَعْضَاءِ الْمَيِّتِ فَكَذَلِكَ.

(وَسُئِلَ) نَفَعَ اللَّهُ بِهِ عَنْ الْمَلَكَيْنِ الَّذِينَ يَجْلِسَانِ عَلَى الْقَبْرِ يَسْتَغْفِرَانِ لِلْمَيِّتِ هَلْ هُمَا الْكَاتِبَانِ أَوْ السَّائِقُ وَالشَّهِيدُ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ ذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ {وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ} [ق: 21] حَدِيثًا طَوِيلًا أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكَاتِبَيْنِ هُمَا السَّائِقُ وَالشَّهِيدُ وَهُمَا اللَّذَانِ يَجْلِسَانِ عَلَى الْقَبْرِ لِلِاسْتِغْفَارِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.

(وَسُئِلَ) فَسَّحَ اللَّهُ فِي مُدَّتِهِ هَلْ إعَادَةُ الْأَجْسَادِ تَكُونُ عَلَى صِفَتِهَا الْأُولَى حَتَّى فِي الْمَحْشَرِ أَوْ لَا فَتَكُونُ الْعَيْنَانِ فِي الرَّأْسِ وَيُحْشَرُونَ جُرْدًا مُرْدًا كَمَا وَرَدَ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ ذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ {وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ} [ق: 41] وَالْحَلِيمِيُّ مَا لَهُ تَعَلُّقٌ بِمَا نَحْنُ فِيهِ وَفِي تَذْكِرَتِهِ فِي حَدِيثِ «يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا» أَيْ غَيْرَ مَخْتُونِينَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ يُحْشَرُونَ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِمْ الَّتِي كَانَتْ فِي الدُّنْيَا مِنْ لَحْمٍ وَدَمٍ وَعَظْمٍ وَشَعْرٍ وَلِهَذَا اسْتَحَبُّوا دَفْنَ مَا يَنْفَصِلُ مِنْهُ مَعَهُ وَحِينَئِذٍ فَالتَّغْيِيرُ إنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ دُخُولِ الْجَنَّةِ وَكَوْنُ الْعَيْنَيْنِ فِي الرَّأْسِ قَالَ بَعْضُهُمْ لَمْ نَرَ أَحَدًا مِنْ الْمُفَسِّرِينَ وَلَا مِنْ الْعُلَمَاءِ بَعْدَ الْكَشْفِ قَالَ بِهِ لَكِنْ قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ حَجَرٍ إنَّهُ وَرَدَ وَمَعَ ذَلِكَ فَظَاهِرُ جَوَابِهِ صلى الله عليه وسلم لِاسْتِعْظَامِ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ كَشْفَ الْعَوْرَاتِ بِأَنَّ لِكُلٍّ مِنْهُمْ يَوْمئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ أَنَّهُمَا فِي الْوَجْهِ وَفِي تَذْكِرَةِ الْقُرْطُبِيِّ حَدِيثٌ فِيهِ أَنَّهُ تَنْشَقُّ عَنْهُمْ الْأَرْضُ شَبَابًا أَبْنَاءَ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً.

(وَسُئِلَ) نَفَعَ اللَّهُ بِهِ هَلْ يَعْرِفُ النَّاسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي الْمَحْشَرِ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ نَعَمْ فِي مَوَاطِنَ مِنْهَا أَرْبَابُ الْحُقُوقِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ أَحَادِيثُ الصَّحِيحَيْنِ وَمِنْهَا إذَا كَانَ الرَّجُلُ رَأْسًا فِي الْخَيْرِ يَدْعُو إلَيْهِ وَيَأْمُرُ بِهِ يُدْعَى بِاسْمِهِ حَتَّى إذَا نَجَا يُقَالُ لَهُ انْطَلِقْ إلَى أَصْحَابِك فَبَشِّرْهُمْ وَأَخْبِرْهُمْ بِأَنَّ لِكُلِّ إنْسَانٍ مِنْهُمْ مِثْلَ هَذَا وَكَذَا إذَا كَانَ رَأْسًا فِي الشَّرِّ وَمِنْهَا فِي مَوْطِنِ الشَّفَاعَةِ فَقَدْ أَخْرَجَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ «إذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ جَمَعَ اللَّهُ تَعَالَى أَهْلَ الْجَنَّةِ صُفُوفًا وَأَهْلَ النَّارِ صُفُوفًا فَيَنْظُرُ الرَّجُلُ مِنْ صُفُوفِ أَهْلِ النَّارِ إلَى الرَّجُلِ مِنْ صُفُوفِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَقُولُ لَهُ يَا فُلَانُ أَتَذْكُرُ يَوْمَ اصْطَنَعْتُك مَعْرُوفًا فَيَقُولُ اللَّهُمَّ هَذَا اصْطَنَعَ لِي فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا فَيُقَالُ لَهُ خُذْ بِيَدِهِ وَأَدْخِلْهُ الْجَنَّةَ» .

(وَسُئِلَ) رضي الله عنه هَلْ يُمِيتُ اللَّهُ الْعُصَاةَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ إذَا دَخَلُوا النَّارَ إمَاتَةً حَقِيقِيَّةً وَمَا مَعْنَى {لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ} [الدخان: 56] ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ رَوَى مُسْلِمٌ حَدِيثًا طَوِيلًا فِيهِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّهُمْ يَمُوتُونَ ثُمَّ يُحْمَلُونَ ضَبَائِرَ فَيُبَثُّونَ عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ. الْحَدِيثَ قَالَ النَّوَوِيُّ وَالْإِمَاتَةُ حَقِيقِيَّةٌ ثُمَّ يُخْرَجُونَ مَوْتَى قَدْ صَارُوا فَحْمًا فَيُحْمَلُونَ ضَبَائِرَ كَمَا تُحْمَلُ الْأَمْتِعَةُ ثُمَّ يُلْقَوْنَ عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ ثُمَّ نَقَلَ عَنْ الْقَاضِي عِيَاضٍ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا أَنَّهُ يَغِيبُ عَنْهُمْ إحْسَاسُهُمْ بِالْآلَامِ وَاخْتَارَ مَا مَرَّ وَكَلَامُ الْقُرْطُبِيِّ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ مِنْ حِينِ يَدْخُلُونَهَا يَمُوتُونَ وَضَبَائِرُ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ جَمْعُ ضِبَارَةٍ بِكَسْرِهَا وَهِيَ الْجَمَاعَةُ وَالضَّمِيرُ فِي فِيهَا فِي الْآيَةِ رَاجِعٌ إلَى الْجَنَّةِ وَالِاسْتِثْنَاءُ فِيهَا مُنْقَطِعٌ إذْ الْمَوْتَةُ الْأُولَى فِي الدُّنْيَا أَوْ إلَّا بِمَعْنَى بَعْدَ أَوْ سِوَى.

(وَسُئِلَ) رضي الله عنه عَنْ قَوْلِهِمْ يُكْرَهُ اللَّغَطُ فِي الْجِنَازَةِ فَهَلْ تَنْتَهِي الْكَرَاهَةُ بِمَاذَا أَيْ بِالِانْصِرَافِ عَنْ الْمَقْبَرَةِ أَمْ تَتَقَيَّدُ بِمَا دَامَ الْمَيِّتُ فِي النَّعْشِ إذْ الْجِنَازَةُ اسْمٌ لِلْمَيِّتِ فِي النَّعْشِ.

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ يَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ تَنْتَهِي بِتَمَامِ طَمِّ الْقَبْرِ وَأَنْ يُقَالَ بِسَدِّ اللَّحْدِ فَقَطْ وَهَذَا هُوَ الْأَقْرَبُ وَأَمَّا الِاحْتِمَالَانِ الْمَذْكُورَانِ فِي السُّؤَالِ فَبَعِيدَانِ جِدًّا وَيُرَدُّ الْأَوَّلُ بِأَنَّهُ يَلْزَمُ عَلَيْهِ كَرَاهَةُ اللَّغَطِ فِي الْمَقْبَرَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَ جِنَازَةٍ وَلَمْ يَقُولُوا بِهِ وَإِنْ كَانَ لِذَلِكَ وَجْهٌ وَالثَّانِي بِأَنَّهُ مِنْ الْوَاضِحِ الْبَيِّنِ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِالْجِنَازَةِ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ مَا ذُكِرَ فِي السُّؤَالِ وَإِنْ كَانَ هَذَا هُوَ أَصْلُ وَضْعِهَا إذْ كَيْفَ يُتَخَيَّلُ ذَلِكَ مَعَ تَعْبِيرِهِمْ بِفِي فِي قَوْلِهِمْ فِي الْجِنَازَةِ وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِهَا الْجَمَاعَةُ التَّابِعُونَ لَهَا أَوْ تَكُونُ فِي لِلسَّبَبِيَّةِ أَيْ يُكْرَهُ اللَّغَطُ بِسَبَبِ الْجِنَازَةِ عَلَى تَابِعِهَا وَحِينَئِذٍ فَمَا دَامَ يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ تَابِعُهَا كُرِهَ لَهُ وَمَا لَا فَلَا وَمَعْلُومٌ مِمَّا قَالُوهُ فِي حُصُولِ الْقِيرَاطَيْنِ أَنَّ تَبَعِيَّتَهَا تَنْقَطِعُ بِسَدِّ اللَّحْدِ وَإِنْ لَمْ يُطَمَّ الْقَبْرُ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ رَجَعَ حِينَئِذٍ حَصَلَ لَهُ تَمَامُ الْقِيرَاطَيْنِ فَاتَّضَحَ بِذَلِكَ مَا رَجَّحْتُهُ مِنْ انْتِهَاءِ الْكَرَاهَةِ بِسَدِّ اللَّحْدِ.

(وَسُئِلَ) فَسَّحَ اللَّهُ تَعَالَى فِي مُدَّتِهِ عَنْ امْرَأَةٍ أَوْصَتْ بِأَنَّهَا تُكَفَّنُ مِنْ مَالِهَا

ص: 10

فَهَلْ يَسْقُطُ عَنْ الزَّوْجِ وَلَوْ كَفَّنَهَا الْوَصِيُّ مِنْ مَالِهِ هَلْ يَرْجِعُ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ إنْ مَاتَتْ غَيْرَ نَاشِزَةٍ وَالزَّوْجُ مُوسِرٌ كَانَ إيصَاؤُهَا بِمُؤْنَةِ تَجْهِيزِهَا مِنْ مَالِهَا وَصِيَّةً لِوَارِثٍ فَلَا تَنْفُذُ إلَّا إنْ أَجَازَ بَقِيَّةُ الْوَرَثَةِ وَشَرْطُ رُجُوعِ الْوَصِيِّ إذْنُ الْقَاضِي إنْ تَيَسَّرَ وَإِلَّا فَإِشْهَادُ عَدْلَيْنِ أَنَّهُ أَنْفَقَ بِنِيَّةِ الرُّجُوعِ.

(وَسُئِلَ) رضي الله عنه بِمَا صُورَتُهُ الْمَيِّتُ قَدْ يُلَطَّخُ بَدَنُهُ أَوْ بَعْضُ كَفَنِهِ بِزَعْفَرَانٍ فَهَلْ يَجُوزُ أَوْ لَا؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ النَّهْيُ عَنْ التَّزَعْفُرِ لِلرِّجَالِ وَفِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ لِابْنِ الْمُلَقِّنِ وَغَيْرِهِ أَنَّ الشَّافِعِيَّ وَأَبَا حَنِيفَةَ رضي الله عنهما قَالَا لَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِلرِّجَالِ وَأَجَازَهُ مَالِكٌ رضي الله عنه وَغَيْرُهُ فِي الثِّيَابِ دُونَ الْبَدَنِ اهـ وَهُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه تَحْرِيمُ ذَلِكَ لَكِنْ قَضِيَّةُ قَوْلِهِمْ يُكْرَهُ الْخَلُوقُ لِلرِّجَالِ وَهُوَ طِيبٌ مَخْلُوطٌ بِزَعْفَرَانٍ وَغَيْرِهِ عَدَمُ التَّحْرِيمِ إلَّا أَنْ يُحْمَلَ هَذَا عَلَى مَا إذَا اُسْتُهْلِكَ الزَّعْفَرَانُ بِحَيْثُ صَارَ لَا يَظْهَرُ لَهُ أَثَرٌ مَحْسُوسٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْخَلُوقِ هُوَ تَلْطِيخُ قَلِيلٍ مِنْ الْبَدَنِ أَوْ الثَّوْبِ وَحِينَئِذٍ فَلَا مُنَافَاةَ أَصْلًا وَيُؤْخَذُ مِنْ كَرَاهَةِ الْخَلُوقِ أَنَّ تَلْطِيخَ قَلِيلٍ مِنْ كَفَنِ الْمَيِّتِ بِالزَّعْفَرَانِ مَكْرُوهٌ لَا حَرَامٌ.

(وَسُئِلَ) فَسَّحَ اللَّهُ فِي مُدَّتِهِ عَنْ امْرَأَةٍ كُفِّنَتْ مِنْ مَالِهَا وَزَوْجُهَا غَائِبٌ مُوسِرٌ فَهَلْ يَرْجِعُ الْوَرَثَةُ عَلَيْهِ بِالْكَفَنِ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ قَالَ الْجَلَالُ الْبُلْقِينِيُّ لَا يَسْتَقِرُّ فِي ذِمَّتِهِ وَهُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ عَلَيْهِ قَالَ وَظَهَرَ لِي أَنَّ الْكَفَنَ إمْتَاعٌ لَا تَمْلِيكٌ لِأَنَّ التَّمْلِيكَ بَعْدَ الْمَوْتِ لَا يُمْكِنُ وَتَمْلِيكُ الْوَرَثَةِ لَا يَجِبُ فَتَعَيَّنَ الْإِمْتَاعُ اهـ فَإِنْ قُلْنَا إمْتَاعٌ اتَّضَحَ مَا ذَكَرَهُ لِأَنَّهُ بِمَوْتِهَا لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ فِي ذِمَّتِهِ شَيْءٌ وَإِنْ قُلْنَا تَمْلِيكٌ رَجَعُوا عَلَيْهِ بِقِيمَتِهَا لِأَنَّهَا مَلَكَتْهُ أَوْ قِيمَتَهُ بِمَوْتِهَا وَالْأَوْجَهُ مَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّهُ إمْتَاعٌ ثُمَّ رَأَيْت الرِّيمِيَّ أَفْتَى فِيمَنْ أَوْصَتْ بِأَنْ تُجَهَّزَ مِنْ مَالِهَا بِأَنَّهَا إنْ قَالَتْ أَوْصَيْت بِإِسْقَاطِ ذَلِكَ عَنْ الزَّوْجِ كَانَ وَصِيَّةً لِوَارِثٍ أَوْ اجْعَلُوا تَجْهِيزِي مِنْ مَالِي صُرِفَ عَلَيْهَا مِنْ مَالِهَا وَيَبْقَى الْكَفَنُ وَمُؤْنَةُ التَّجْهِيزِ فِي ذِمَّةِ الزَّوْجِ لِأَنَّ مَالَهَا قَدْ يَكُونُ أَحَلَّ مِنْ مَالِ الزَّوْجِ وَيَبْقَى مَا عَلَيْهِ فِي ذِمَّتِهِ كَمَا لَوْ كَانَ لَهَا دَيْنٌ فَأَوْصَتْ بِأَنْ تُكَفَّنَ مِنْ مَالِهَا الْخَاصِّ لَا يَكُونُ ذَلِكَ إسْقَاطًا لِشَيْءٍ مِنْ الدَّيْنِ.

قَالَ فَإِنْ قِيلَ هَذَا وَجَبَ عَلَى الزَّوْجِ بِالْمَوْتِ بِخِلَافِ الدَّيْنِ فَإِنَّهُ وَجَبَ مِنْ قَبْلُ قُلْنَا وَالْكَفَنُ وَاجِبٌ مِنْ قَبْلِ الْمَوْتِ لِأَنَّ مَأْخَذَهُ وُجُوبُ الْكِسْوَةِ فِي حَالِ الْحَيَاةِ وَلِهَذَا لَوْ مَاتَتْ وَهِيَ نَاشِزَةٌ سَقَطَ إيجَابُ الْكَفَنِ فَعَلِمْنَا أَنَّ وُجُوبَهُ مُتَقَدِّمٌ كَالدَّيْنِ اهـ وَكَلَامُهُ صَرِيحٌ فِي مُخَالَفَةِ الْجَلَالِ الْبُلْقِينِيُّ وَأَنَّ الْوَرَثَةَ يَرْجِعُونَ عَلَيْهِ وَأَنَّ الْكَفَنَ تَمْلِيكٌ لَا إمْتَاعٌ وَقَدْ رَجَّحَ الْأَذْرَعِيُّ مَا رَجَّحَهُ الْجَلَالُ وَقَاسَهُ عَلَى مَا لَوْ كَانَ مُعْسِرًا وَكُفِّنَتْ مِنْ مَالِهَا أَوْ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ لَا يَبْقَى دَيْنًا عَلَيْهِ جَزْمًا وَالْأَوْجُهُ أَنَّهَا حَيْثُ أَوْصَتْ بِأَنَّهَا تُجَهَّزُ مِنْ مَالِهَا كَانَتْ وَصِيَّةً لِوَارِثٍ سَوَاءٌ أَطْلَقَتْ أَوْ عَيَّنَتْ نَوْعًا مِنْهُ وَأَنَّهَا حَيْثُ كُفِّنَتْ مِنْ مَالِهَا أَوْ غَيْرِهِ لَمْ يُرْجَعْ بِهِ عَلَى الزَّوْجِ وَإِنْ كَانَ الْمُسْتَبِدُّ بِذَلِكَ إنَّمَا فَعَلَهُ عَلَى ظَنِّ صِحَّةِ الْوَصِيَّةِ.

(وَسُئِلَ) فَسَّحَ اللَّهُ فِي مُدَّتِهِ بِمَا صُورَتُهُ إذَا كَانَ الزَّوْجُ مُعْسِرًا وَجَبَتْ مُؤْنَةُ التَّجْهِيزِ فِي مَالِ الزَّوْجَةِ كَيْفَ يُتَصَوَّرُ إعْسَارُهُ مَعَ فَرْضِ مَالٍ لِلزَّوْجَةِ فَإِنَّهُ يَرِثُ مِنْهَا حِصَّةً يَصِيرُ بِهَا مُوسِرًا؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ لَا شَكَّ أَنَّهُ لَا يَرِثُ أَيْ يَسْتَقِرُّ إرْثُهُ إلَّا بَعْدَ انْقِضَاءِ مَا تَعَلَّقَ بِعَيْنِ التَّرِكَةِ وَمِمَّا يَتَعَلَّقُ بِعَيْنِهَا مُؤَنُ التَّجْهِيزِ فَهِيَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى إرْثِهِ بِالْمَعْنَى الْمَذْكُورِ فَهُوَ حَالَ وُجُوبِهَا مَوْصُوفٌ بِالْإِعْسَارِ إلَى الْآنَ.

(وَسُئِلَ) رضي الله عنه إذَا أَوْصَى الْمَيِّتُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ رَجُلٌ فَهَلْ يُقَدَّمُ عَلَى الْأَوْلِيَاءِ أَوْ لَا؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ أَفْتَى بَعْضُ عُلَمَاءِ الْيَمَنِ بِأَنَّهُ لَا يَتَقَدَّمُ عَلَيْهِمْ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمْ فَلَا تَنْفُذُ وَصِيَّتُهُ لَكِنْ الْأَوْلَى لَهُمْ إذَا كَانَ أَصْلَحَ أَنْ يُقَدِّمُوهُ.

(وَسُئِلَ) فَسَّحَ اللَّهُ فِي مُدَّتِهِ هَلْ إذَا جُعِلَ مَكَانٌ لِلدَّفْنِ فَوْقَ الْأَرْضِ وَأُحْكِمَ بِحَيْثُ أَنَّهُ يَمْنَعُ الرَّائِحَةَ وَالسَّبُعَ وَوُضِعَ فِيهِ شَخْصٌ فَهَلْ يَكْفِي الدَّفْنُ أَوْ يَلْزَمُ أَنْ نَفْتَحَهُ قَبْلَ أَنْ يَبْلَى فَيُحْفَرُ لَهُ فِيهِ وَيُدْفَنُ فِيهِ أَوْ يُعْتَمَدُ قَوْلُ الْبَغَوِيِّ بِالِاكْتِفَاءِ بِالدَّفْنِ فِيهِ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ الَّذِي فِي الرَّوْضَةِ وَاعْتَمَدَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ أَنَّهُ لَا يَكْفِي الدَّفْنُ فِيهَا فَيَجِبُ أَنْ يُحْفَرَ لَهُ قَبْلَ بَلَائِهِ حُفْرَةً تَمْنَعُ الرَّائِحَةَ وَالسَّبُعَ وَيُدْفَنَ

ص: 11

فِيهَا وَمَا اقْتَضَاهُ كَلَامُ الْبَغَوِيِّ مِمَّا يُخَالِفُ ذَلِكَ ضَعِيفٌ.

(وَسُئِلَ) رضي الله عنه عَنْ كَرَاهَةِ الْكِتَابَةِ عَلَى الْقُبُورِ هَلْ تَعُمُّ أَسْمَاءَ اللَّهِ وَالْقُرْآنَ وَاسْمَ الْمَيِّتِ وَغَيْرَ ذَلِكَ أَوْ تَخُصُّ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ بَيِّنُوهُ بِمَا فِيهِ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ أَطْلَقَ الْأَصْحَابُ كَرَاهَةَ الْكِتَابَةِ عَلَى الْقَبْرِ لِوُرُودِ النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَاعْتَرَضَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَاكِمُ النَّيْسَابُورِيُّ الْمُحَدِّثُ بِأَنَّ الْعَمَلَ لَيْسَ عَلَيْهِ فَإِنَّ أَئِمَّةَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الشَّرْقِ إلَى الْغَرْبِ مَكْتُوبٌ عَلَى قُبُورِهِمْ وَهُوَ عَمَلٌ أَخَذَ بِهِ الْخَلَفُ عَنْ السَّلَفِ رضي الله عنهم وَمَا اُعْتُرِضَ بِهِ إنَّمَا يَتَّجِهُ أَنْ لَوْ فَعَلَهُ أَئِمَّةُ عَصْرٍ كُلُّهُمْ أَوْ عَلِمُوهُ وَلَمْ يُنْكِرُوهُ وَأَيُّ إنْكَارٍ أَعْظَمُ مِنْ تَصْرِيحِ أَصْحَابِنَا بِالْكَرَاهَةِ مُسْتَدِلِّينَ بِالْحَدِيثِ هَذَا وَبَحَثَ السُّبْكِيّ وَالْأَذْرَعِيُّ تَقْيِيدَ ذَلِكَ بِالْقَدْرِ الزَّائِدِ عَمَّا يَحْصُلُ بِهِ الْإِعْلَامُ بِالْمَيِّتِ وَعِبَارَةُ السُّبْكِيّ وَسَيَأْتِي قَرِيبًا أَنَّ وَضْعَ شَيْءٍ يُعْرَفُ بِهِ الْقَبْرُ مُسْتَحَبٌّ فَإِذَا كَانَتْ الْكِتَابَةُ طَرِيقًا فِيهِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا تُكْرَهَ إذَا كُتِبَ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ إلَى الْإِعْلَامِ.

وَعِبَارَةُ الْأَذْرَعِيِّ وَأَمَّا الْكِتَابَةُ فَمَكْرُوهَةٌ سَوَاءٌ كَانَ الْمَكْتُوبُ اسْمَ الْمَيِّتِ عَلَى لَوْحٍ عِنْدَ رَأْسِهِ أَوْ غَيْرَهُ هَكَذَا أَطْلَقُوهُ وَالْقِيَاسُ الظَّاهِرُ تَحْرِيمُ كِتَابَةِ الْقُرْآنِ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ جَمِيعُ جَوَانِبِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْرِيضِهِ لِلْأَذَى بِالدَّوْسِ وَالنَّجَاسَةِ وَالتَّلْوِيثِ بِصَدِيدِ الْمَوْتَى عِنْدَ تَكْرَارِ النَّبْشِ فِي الْمَقْبَرَةِ الْمُسَبَّلَةِ وَأَمَّا غَيْرُهُ مِنْ النَّظْمِ وَالنَّثْرِ فَيَحْتَمِلُ الْكَرَاهَةَ وَالتَّحْرِيمَ لِلنَّهْيِ وَأَمَّا كِتَابَةُ اسْمِ الْمَيِّتِ فَقَدْ قَالُوا إنَّ وَضْعَ مَا يُعْرَفُ بِهِ الْقُبُورُ مُسْتَحَبٌّ فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ طَرِيقًا فِي ذَلِكَ فَيَظْهَرُ اسْتِحْبَابُهُ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ إلَى الْإِعْلَامِ بِلَا كَرَاهَةٍ وَلَا سِيَّمَا قُبُورُ الْأَوْلِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ فَإِنَّهَا لَا تُعْرَفُ إلَّا بِذَلِكَ عِنْدَ تَطَاوُلِ السِّنِينَ ثُمَّ ذَكَرَ مَا مَرَّ عَنْ الْحَاكِمِ وَقَالَ عَقِبَهُ فَإِنْ أَرَادَ كِتَابَةَ اسْمِ الْمَيِّتِ لِلتَّعْرِيفِ فَظَاهِرٌ وَيُحْمَلُ النَّهْيُ عَلَى مَا قُصِدَ بِهِ الْمُبَاهَاةُ وَالزِّينَةُ وَالصِّفَاتُ الْكَاذِبَةُ، أَوْ كِتَابَةَ الْقُرْآنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ اهـ.

وَمَا بَحَثَهُ السُّبْكِيّ مِنْ عَدَمِ الْكَرَاهَةِ فِي كِتَابَةِ اسْمِ الْمَيِّتِ لِلتَّعْرِيفِ وَالْأَذْرَعِيُّ مِنْ اسْتِحْبَابِهَا ظَاهِرٌ إنْ تَعَذَّرَ تَمْيِيزُهُ إلَّا بِهَا لَوْ كَانَ عَالِمًا أَوْ صَالِحًا وَخُشِيَ مِنْ طُولِ السِّنِينَ انْدِرَاسُ قَبْرِهِ وَالْجَهْلُ بِهِ لَوْ لَمْ يُكْتَبْ اسْمُهُ عَلَى قَبْرِهِ وَيُحْمَلُ النَّهْيُ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُسْتَنْبَطَ مِنْ النَّصِّ مَعْنًى يُخَصِّصُهُ وَهُوَ هُنَا الْحَاجَةُ إلَى التَّمْيِيزِ فَهُوَ بِالْقِيَاسِ عَلَى نَدْبِ وَضْعِ شَيْءٍ يُعْرَفُ بِهِ الْقَبْرُ بَلْ هُوَ دَاخِلٌ فِيهِ أَوْ إلَى بَقَاءِ ذِكْرِ هَذَا الْعَالِمِ أَوْ الصَّالِحِ لِيَكْثُرَ التَّرَحُّمُ عَلَيْهِ أَوْ عَوْدُ بَرَكَتِهِ عَلَى مَنْ زَارَهُ وَمَا ذَكَرَهُ الْأَذْرَعِيُّ مِنْ تَحْرِيمِ كِتَابَةِ الْقُرْآنِ قَرِيبٌ وَإِنْ كَانَ الدَّوْسُ وَالنَّجَاسَةُ غَيْرَ مُحَقَّقَيْنِ لِأَنَّهُمَا وَإِنْ لَمْ يَكُونَا مُحَقَّقَيْنِ فِي الْحَالِ هُمَا مُحَقَّقَانِ فِي الِاسْتِقْبَالِ بِمُقْتَضَى الْعَادَةِ الْمُطَّرِدَةِ مِنْ نَبْشِ تِلْكَ الْمَقْبَرَةِ وَانْدِرَاسِ هَذَا الْقَبْرِ وَيَلْحَقُ بِالْقُرْآنِ فِي ذَلِكَ كُلُّ اسْمٍ مُعَظَّمٍ بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنْ النَّظْمِ وَالنَّثْرِ فَإِنَّهُ مَكْرُوهٌ لَا حَرَامٌ وَإِنْ تَرَدَّدَ فِيهِ وَقَوْلُهُ وَيُحْمَلُ النَّهْيُ إلَخْ قَدْ عَلِمْت أَنَّهُ تَارَةً يُحْمَلُ عَلَى الْكَرَاهَةِ وَتَارَةً يُحْمَلُ عَلَى الْحُرْمَةِ وَهُوَ مَا لَوْ كَتَبَ الْقُرْآنَ أَوْ اسْمًا مُعَظَّمًا دُونَ غَيْرِهِمَا وَإِنْ قَصَدَ الْمُبَاهَاةَ وَالزِّينَةَ.

(وَسُئِلَ) رضي الله عنه عَنْ كِتَابَةِ الْعَهْدِ عَلَى الْكَفَنِ وَهُوَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ وَقِيلَ: إنَّهُ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالَمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ إنِّي أَعْهَدُ إلَيْك فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا أَنِّي أَشْهَدُ أَنَّكَ أَنْتَ اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ وَحْدَك لَا شَرِيكَ لَك وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُك وَرَسُولُك صلى الله عليه وسلم فَلَا تَكِلْنِي إلَى نَفْسِي فَإِنَّك إنْ تَكِلْنِي إلَى نَفْسِي تُقَرِّبْنِي مِنْ الشَّرِّ وَتُبْعِدْنِي مِنْ الْخَيْرِ وَأَنَا لَا أَثِقُ إلَّا بِرَحْمَتِك فَاجْعَلْ لِي عَهْدًا عِنْدَك تُوفِنِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إنَّك لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ هَلْ يَجُوزُ وَلِذَلِكَ أَصْلٌ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ نَقَلَ بَعْضُهُمْ عَنْ نَوَادِرِ الْأُصُولِ لِلتِّرْمِذِيِّ مَا يَقْتَضِي أَنَّ هَذَا الدُّعَاءَ لَهُ أَصْلٌ وَأَنَّ الْفَقِيهَ ابْنَ عُجَيْلٍ كَانَ يَأْمُرُ بِهِ ثُمَّ أَفْتَى بِجَوَازِ كِتَابَتِهِ قِيَاسًا عَلَى كِتَابَةِ اللَّهِ فِي نَعَمِ الزَّكَاةِ وَأَقَرَّهُ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ قِيلَ يُطْلَبُ فِعْلُهُ لِغَرَضٍ صَحِيحٍ مَقْصُودٍ فَأُبِيحَ وَإِنْ عُلِمَ أَنَّهُ يُصِيبُهُ نَجَاسَةٌ وَفِيهِ نَظَرٌ وَقَدْ أَفْتَى ابْنُ الصَّلَاحِ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُكْتَبَ عَلَى الْكَفَنِ يس وَالْكَهْفُ وَنَحْوُهُمَا خَوْفًا مِنْ

ص: 12

صَدِيدِ الْمَيِّتِ وَسَيَلَانِ مَا فِيهِ وَقِيَاسُهُ عَلَى مَا فِي نَعَمِ الصَّدَقَةِ مَمْنُوعٌ لِأَنَّ الْقَصْدَ ثَمَّ التَّمْيِيزُ لَا التَّبَرُّكُ وَهُنَا الْقَصْدُ التَّبَرُّكُ فَالْأَسْمَاءُ الْمُعَظَّمَةُ بَاقِيَةٌ عَلَى حَالِهَا فَلَا يَجُوزُ تَعْرِيضُهَا لِلنَّجَاسَةِ وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ قِيلَ يُطْلَبُ فِعْلُهُ إلَخْ مَرْدُودٌ لِأَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ لَا يُحْتَجُّ بِهِ وَإِنَّمَا كَانَتْ تَظْهَرُ الْحُجَّةُ لَوْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم طَلَبُ ذَلِكَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ.

(وَسُئِلَ) فَسَّحَ اللَّهُ فِي مُدَّتِهِ عَنْ أَقَلِّ الْكَفَنِ الشَّرْعِيِّ الْمُجْزِئِ مَا هُوَ وَمَا هُوَ الْأَفْضَلُ وَمَا الزَّائِدُ عَلَى الْأَفْضَلِ وَهَلْ يَحْرُمُ الْإِسْرَافُ فِيهِ وَكَيْفَ يَكُونُ وَهَلْ الْفَقِيرُ وَالْغَنِيُّ فِيهِ سَوَاءٌ.

وَهَلْ يَجُوزُ دَفْنُ اثْنَيْنِ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ وَإِذَا قُلْتُمْ لَا فَهَلْ هَذِهِ الْفَسَاقِي الَّتِي تُعْمَلُ وَيُدْفَنُ فِيهَا الْأَقَارِبُ قَبْلَ الْبِلَى جَائِزَةٌ وَيُجْزِئُ الدَّفْنُ فِيهَا أَمْ لَا وَمَا هِيَ الضَّرُورَةُ الْمُجَوِّزَةُ لِجَمْعِ اثْنَيْنِ فِي قَبْرٍ وَهَلْ إذَا حُفِرَ قَبْرٌ وَوُجِدَ فِيهِ عَظْمٌ هَلْ يَجُوزُ فِيهِ الدَّفْنُ أَمْ لَا؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ أَقَلُّ الْكَفَنِ ثَوْبٌ يَسْتُرُ جَمِيعَ الْبَدَنِ فَإِنْ اقْتَصَرَ عَلَى سَاتِرِ الْعَوْرَةِ وَهِيَ مَا بَيْنَ سُرَّةِ الرَّجُلِ وَرُكْبَتِهِ وَغَيْرُ وَجْهِ الْمَرْأَةِ وَكَفَّيْهَا وَلَوْ أَمَةً لِزَوَالِ الرِّقِّ بِالْمَوْتِ أَجْزَأَ مِنْ حَيْثُ سُقُوطُ الْحَرَجِ عَنْ الْأَمَةِ وَإِنْ أَثِمَ الْوَرَثَةُ بِنَقْصِ الْمَيِّتِ عَنْ حَقِّهِ إذْ حَقُّهُ سَتْرُ كُلِّ بَدَنِهِ حَيْثُ خَلَّفَ مَالًا وَلَمْ يُوصِ بِتَرْكِ الزَّائِدِ عَلَى الْعَوْرَةِ هَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ مِنْ اضْطِرَابٍ طَوِيلٍ لَا يَلِيقُ ذِكْرُهُ بِهَذَا الْمَحَلِّ وَيُجْزِئُ الْكَفَنُ مِنْ أَيِّ نَوْعٍ كَانَ لَكِنْ يَحْرُمُ الْحَرِيرُ وَنَحْوُهُ مِنْ مُزَعْفَرٍ وَكَذَا مُعَصْفَرٌ عَلَى الْخِلَافِ فِيهِ حَيْثُ كَانَ هُنَاكَ غَيْرُهُ عَلَى الذَّكَرِ الْبَالِغِ الْعَاقِلِ خِلَافًا لِلْأَذْرَعِيِّ وَمِثْلُهُ الْخُنْثَى نَعَمْ الْمُتَّجِهُ كَمَا قَالَهُ الْإِسْنَوِيُّ وَغَيْرُهُ وَصَرَّحَ بِهِ الْجُرْجَانِيُّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الطِّينُ مَعَ وُجُودِ غَيْرِهِ وَلَوْ حَشِيشًا وَإِنْ جَازَ ذَلِكَ لِلْحَيِّ فِي الصَّلَاةِ لِمَا فِيهِ مِنْ الِازْدِرَاءِ بِالْمَيِّتِ وَلَا يُجْزِئُ أَيْضًا مُتَنَجِّسٌ بِمَا لَا يُعْفَى عَنْهُ مَعَ وُجُودِ طَاهِرٍ غَيْرِ حَرِيرٍ أَمَّا الْحَرِيرُ فَيُقَدَّمُ عَلَى الْمُتَنَجِّسِ وَالْأَفْضَلُ لِلرَّجُلِ ثَلَاثَةُ أَثْوَابٍ وَكَوْنُهَا لَفَائِفَ وَمُتَسَاوِيَةً وَلِلْمَرْأَةِ وَالْخُنْثَى خَمْسَةٌ إزَارٌ ثُمَّ قَمِيصٌ ثُمَّ خِمَارٌ ثُمَّ تُلَفُّ فِي لِفَافَتَيْنِ وَلَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى ثَوْبٍ يَسْتُرُ كُلَّ الْبَدَنِ إنْ كُفِّنَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ أَوْ مِمَّا وُقِفَ عَلَى الْأَكْفَانِ كَمَا أَفْتَى بِهِ ابْنُ الصَّلَاحِ.

وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَلْحَقَ بِهِ مَا وُقِفَ عَلَى تَجْهِيزِ الْمَوْتَى وَيَحْتَمِلُ خِلَافَهُ لِأَنَّ التَّجْهِيزَ يَشْمَلُ الْوَاجِبَ وَالْمَنْدُوبَ وَالْأَقْرَبُ الْأَوَّلُ وَأَنَّ التَّجْهِيزَ لَا يَنْصَرِفُ إلَّا إلَى مَا يَجِبُ مِنْ الْكَفَنِ وَالدَّفْنِ وَنَحْوِهِمَا أَوْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ مُسْتَغْرِقٌ وَلَمْ يَرْضَ الْغَرِيمُ بِالزَّائِدِ عَلَى الثَّوْبِ وَلَا يُعْتَبَرُ رِضَاهُ بِمَا يَسْتُرُ كُلَّ الْبَدَنِ وَإِنْ كَانَ لَهُ الْمَنْعُ مِنْ الْمُسْتَحَبِّ لِتَأَكُّدِ أَمْرِ هَذَا أَيْ بِالِاخْتِلَافِ فِي وُجُوبِهِ وَعَلَى تَسْلِيمِ هَذِهِ الْعِلَّةِ فَيُؤْخَذُ مِنْهَا تَخْصِيصُ عُمُومِ قَوْلِهِمْ لَهُ الْمَنْعُ مِنْ الْمُسْتَحَبِّ بِغَيْرِ مَا اُخْتُلِفَ فِي وُجُوبِهِ وَلَيْسَ لِلْوَارِثِ الْمَنْعُ مِنْ الثَّلَاثَةِ.

وَلَوْ اتَّفَقَ الْوَرَثَةُ عَلَى ثَوْبٍ أَوْ قَالَ بَعْضُهُمْ يُكَفَّنُ بِثَلَاثَةٍ وَبَعْضُهُمْ بِثَوْبٍ وَلَمْ يُوصِ الْمَيِّتُ بِهِ فِيهِمَا كُفِّنَ بِثَلَاثَةٍ وَالزِّيَادَةُ عَلَى الثَّلَاثَةِ فِي الرِّجَالِ خِلَافُ الْأَوْلَى وَعَلَى الْخَمْسَةِ فِيهِ فِي الْمَرْأَةِ مَكْرُوهَةٌ لِأَنَّهُ سَرَفٌ كَذَا قَالَهُ الْأَصْحَابُ وَهُوَ الْمَذْهَبُ وَإِنْ قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ وَلَوْ قِيلَ بِتَحْرِيمِهَا لَمْ يَبْعُدْ وَبِهِ قَالَ ابْنُ يُونُسَ وَقَالَ الْأَذْرَعِيُّ إنَّهُ الْأَصَحُّ الْمُخْتَارُ وَحَيْثُ قُلْنَا بِجَوَازِ الزِّيَادَةِ عَلَى الثَّلَاثَةِ أَوْ الْخَمْسَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُقَيَّدَ بِمَا يَأْتِي عَنْ الْأَذْرَعِيِّ فِي الْمُغَالَاةِ فِيهِ وَبِمَا تَقَرَّرَ يُعْلَمُ أَنَّ الْمَذْهَبَ أَنَّ الْإِسْرَافَ فِي الْكَفَنِ مَكْرُوهٌ لَا حَرَامٌ وَلِذَلِكَ قَالُوا تُكْرَهُ الْمُغَالَاةُ فِيهِ وَتَكْفِينُ الْمَرْأَةِ أَيْ وَنَحْوِهَا بِالْحَرِيرِ خِلَافًا لِلْأَذْرَعِيِّ لِأَنَّ ذَلِكَ سَرَفٌ لَا يَلِيقُ بِالْحَالِ قَالَ الْأَذْرَعِيُّ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْوَارِثُ مَحْجُورًا عَلَيْهِ أَوْ غَائِبًا أَوْ كَانَ الْمَيِّتُ مُفْلِسًا حَرُمَتْ الْمُغَالَاةُ فِيهِ مِنْ التَّرِكَةِ اهـ وَيُجْرَى مَا قَالَهُ مِنْ الْحُرْمَةِ فِي الصُّوَرِ الثَّلَاثِ فِي تَكْفِينِ الْمَرْأَةِ وَنَحْوِهَا بِالْحَرِيرِ وَقَدْ عُلِمَ مِمَّا ذَكَرْته جَوَابُ قَوْلِ السَّائِلِ وَكَيْفَ يَكُونُ الْكَفَنُ فَإِنْ أَرَادَ السُّؤَالَ عَنْ صِفَتِهِ فَالسُّنَّةُ أَنْ يَكُونَ أَبْيَضَ وَمَغْسُولًا قَالَ الْبَغَوِيّ وَثَوْبُ الْقُطْنِ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ قَالَ فِي الرَّوْضَةِ وَيُعْتَبَرُ فِي الْكَفَنِ الْمُبَاحِ حَالُ الْمَيِّتِ فَيُكَفَّنُ الْمُوسِرُ مِنْ جِيَادِ الثِّيَابِ وَالْمُتَوَسِّطُ مِنْ أَوْسَطِهَا وَالْمُعْسِرُ مِنْ خَشِنِهَا اهـ.

وَاعْتِبَارُ مَا ذُكِرَ مِنْ الْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ سُنَّةٌ فَالْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ لَيْسَا سَوَاءً فِي الْكَفَنِ الْأَكْمَلِ وَأَمَّا فِي أَقَلِّ مَا يُجْزِئُ فَهُمَا فِيهِ سَوَاءٌ وَلَا عِبْرَةَ بِإِسْرَافِهِ وَتَقْتِيرِهِ

ص: 13

قَبْلَ مَوْتِهِ نَعَمْ إنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ مُسْتَغْرِقٌ اُعْتُبِرَ تَقْتِيرُهُ عَلَى الْأَوْجَهِ أَخْذًا مِمَّا قَالُوهُ فِي الْمُفْلِسِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا لَا يُجْدِي كَمَا لَا يُعْرَفُ بِتَأَمُّلِهِ.

وَأَمَّا دَفْنُ اثْنَيْنِ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ فَإِنْ اتَّحَدَ نَوْعُهُمَا كَرَجُلَيْنِ أَوْ امْرَأَتَيْنِ وَاحْتِيجَ إلَيْهِ بِأَنْ كَثُرَ الْمَوْتَى وَعَسِرَ الْإِفْرَادُ فُعِلَ وَإِنْ لَمْ يُحْتَجْ إلَيْهِ نُدِبَ تَرْكُهُ كَمَا فِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ يُكْرَهُ وَالسَّرَخْسِيُّ يَحْرُمُ قَالَ السُّبْكِيّ وَالْأَصَحُّ الْكَرَاهَةُ أَوْ نَفْيُ الِاسْتِحْبَابِ وَأَمَّا الْحُرْمَةُ فَلَا دَلِيلَ عَلَيْهَا وَأَمَّا جَمْعُ امْرَأَةٍ وَرَجُلٍ فِي لَحْدٍ وَاحِدٍ فَلَا يَجُوزُ إلَّا إنْ اشْتَدَّتْ الْحَاجَةُ اشْتِدَادًا حَثِيثًا كَأَنْ لَمْ يُوجَدْ أَوْ لَمْ يُتَمَكَّنْ إلَّا مِنْ ذَلِكَ أَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا مَحْرَمِيَّةٌ أَوْ زَوْجِيَّةٌ أَوْ أَحَدُهُمَا صَغِيرًا لَمْ يَبْلُغْ حَدَّ الشَّهْوَةِ وَالْخُنْثَى مَعَ الْأُنْثَى أَوْ غَيْرِهِ كَالْأُنْثَى مَعَ الذَّكَرِ وَحَيْثُ جُمِعَ مُتَّحِدَيْ النَّوْعِ أَوْ مُخْتَلِفَيْهِ جُعِلَ بَيْنَهُمَا حَاجِزُ تُرَابٍ أَوْ نَحْوُهُ وَهُوَ مَنْدُوبٌ عَلَى الْأَوْجَهِ وِفَاقًا لِلْأَذْرَعِيِّ وَيُحْتَمَلُ وُجُوبُهُ إنْ تَعَدَّى بِجَمْعِ مُتَّحِدَيْ النَّوْعِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ.

وَأَمَّا الدَّفْنُ فِي الْفَسَاقِي فَالْكَلَامُ عَلَيْهِ يَسْتَدْعِي الْكَلَامَ عَلَى أَقَلِّ الْقَبْرِ وَهُوَ حُفْرَةٌ تَمْنَعُ الرَّائِحَةَ وَالسَّبُعَ قَالَ الرَّافِعِيُّ وَالْغَرَضُ مِنْ ذِكْرِهِمَا إنْ كَانَا مُتَلَازِمَيْنِ بَيَانُ فَائِدَةِ الدَّفْنِ وَإِلَّا فَبَيَانُ وُجُوبِ رِعَايَتِهِمَا وَلَا يَكْفِي أَحَدُهُمَا اهـ قَالَ غَيْرُهُ وَظَاهِرٌ أَنَّهُمَا غَيْرُ مُتَلَازِمَيْنِ وَهُوَ كَذَلِكَ وَعَلَيْهِ فَالْفَسَاقِي الَّتِي لَا تَكْتُمُ الرَّائِحَةَ وَتَمْنَعُ السَّبُعَ لَا يَكْفِي الدَّفْنُ فِيهَا وَمِنْ ثَمَّ قَالَ السُّبْكِيّ فِي الِاكْتِفَاءِ بِالْفَسَاقِيِ نَظَرٌ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مُعَدَّةً لِكَتْمِ الرَّائِحَةِ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ عَلَى هَيْئَةِ الدَّفْنِ الْمَعْهُودِ شَرْعًا قَالَ وَقَدْ أَطْلَقُوا تَحْرِيمَ إدْخَالِ مَيِّتٍ عَلَى مَيِّتٍ لِمَا فِيهِ مِنْ هَتْكِ حُرْمَةِ الْأَوَّلِ وَظُهُورِ رَائِحَتِهِ فَيَجِبُ إنْكَارُ ذَلِكَ اهـ.

وَبِتَأَمُّلِ آخِرِ كَلَامِهِ تَعْلَمُ أَنَّهُ حَيْثُ حُفِرَ قَبْرٌ إمَّا تَعَدِّيًا وَإِمَّا مَعَ ظَنِّ أَنَّهُ بَلِيَ وَلَمْ يَبْقَ فِيهِ عَظْمٌ فَوُجِدَ فِيهِ عَظْمٌ رُدَّ التُّرَابُ عَلَيْهِ وُجُوبًا وَلَا يَجُوزُ الدَّفْنُ فِيهِ قَبْلَ الْبِلَى وَفِي الرَّوْضَةِ وَغَيْرِهَا يَحْرُمُ نَبْشُ قَبْرِ الْمَيِّتِ وَدَفْنُ غَيْرِهِ فِيهِ قَبْلَ بَلَائِهِ عِنْدَ أَهْلِ الْخِبْرَةِ بِتِلْكَ الْأَرْضِ فَإِنْ حَفَرَ فَوُجِدَ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ عَظْمِ الْمَيِّتِ قَبْلَ تَمَامِ الْحَفْرِ وَجَبَ رَدُّ تُرَابِهِ عَلَيْهِ وَإِنْ وَجَدَهَا بَعْدَ تَمَامِ الْحَفْرِ جَعَلَهَا فِي جَانِبٍ مِنْ الْقَبْرِ وَجَازَ لِمَشَقَّةِ اسْتِئْنَافِ قَبْرٍ دَفْنُ الْآخَرِ مَعَهُ.

(وَسُئِلَ) نَفَعَ اللَّهُ بِهِ قَالُوا يَسْقُطُ فَرْضُ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ بِصَبِيٍّ مُمَيِّزٍ وَلَوْ مَعَ وُجُودِ رَجُلٍ فَهَلْ هُوَ مُوَافِقٌ لِقَضِيَّةِ قَوْلِ الشَّيْخَيْنِ إنَّمَا تَصِحُّ مِمَّنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ فَرْضِهَا وَقْتَ الْمَوْتِ أَوْ لِمَا صَوَّبَهُ الْإِسْنَوِيُّ مِنْ أَنَّ الشَّرْطَ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ صِحَّةِ الصَّلَاةِ حِينَئِذٍ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ الْمُعْتَمَدُ مَا ذَكَرَهُ الْإِسْنَوِيُّ وَلَا يُنَافِيهِ كَلَامُ الشَّيْخَيْنِ وَغَيْرِهِمَا لِأَنَّ مُرَادَهُمْ بِأَهْلِيَّةِ الْفَرْضِ أَهْلِيَّةُ صِحَّةِ فِعْلِهِ فَيُوَافِقُ كَلَامَ الْإِسْنَوِيِّ وَقَوْلُهُ إنَّ قَضِيَّةَ كَلَامِهِمْ أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ حَائِضًا عِنْدَ الْمَوْتِ وَطَهُرَتْ بَعْدَ الْغُسْلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ لَا تَصِحُّ صَلَاتُهَا مَمْنُوعٌ لِأَنَّ كَلَامَهُمْ هُنَا خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ كَمَا يَدُلُّ لَهُ تَصْرِيحُهُمْ بِمَا ذَكَرَهُ السَّائِلُ مِنْ سُقُوطِ فَرْضِهَا بِفِعْلِ الْمُمَيِّزِ مَعَ وُجُودِ الرِّجَالِ.

(وَسُئِلَ) نَفَعَ اللَّهُ بِهِ قَالُوا الْأَوْلَى بِغَسْلِ الرَّجُلِ مِنْ الرِّجَالِ أَوْلَاهُمْ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ فَيُقَدَّمُ الْمُعْتِقُ وَعَصَبَتُهُ عَلَى ذَوِي الْأَرْحَامِ وَقَدَّمُوا فِي الْمَرْأَةِ ذَوَاتَ الْأَرْحَامِ كَبِنْتِ الْعَمِّ وَبِنْتِ الْعَمَّةِ وَبِنْتِ الْخَالِ وَبِنْتِ الْخَالَةِ عَلَى ذَوَاتِ الْوَلَاءِ فَمَا الْفَرْقُ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ قَدْ يُفَرَّقُ بِأَنَّ الْمَلْحَظَ فِي التَّقْدِيمِ مَعَ الذُّكُورَةِ الْأَحَقُّ بِالتَّقْدِيمِ فِي الصَّلَاةِ وَالْمُعْتِقُ أَحَقُّ مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ وَالْمَلْحَظُ فِي التَّقْدِيمِ مَعَ الْأُنُوثَةِ الْقُرْبُ وَذَوَاتُ الْأَرْحَامِ أَقْرَبُ مِنْ ذَوَاتِ الْوَلَاءِ وَإِنَّمَا كَانَ الْمُعْتِقُ أَحَقَّ بِالصَّلَاةِ مِنْ الْقَرِيبِ مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ لِأَنَّ لَهُ عُصُوبَةً اقْتَضَتْ قُوَّةَ إرْثِهِ وَالْمَدَارُ فِي التَّقْدِيمِ فِي الصَّلَاةِ عَلَى قُوَّةِ الْإِرْثِ وَبِمَا تَقَرَّرَ يُعْلَمُ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ السُّلْطَانُ مُقَدَّمًا هُنَا فِي الْغَسْلِ عَلَى ذَوِي الْأَرْحَامِ وَمُتَأَخِّرًا عَنْ الْمُعْتِقِ أَخْذًا مِمَّا قَالُوهُ فِي نَظِيرِهِ فِي الصَّلَاةِ وَيُحْتَمَلُ الْفَرْقُ بِأَنَّ فِي الصَّلَاةِ مِنْ الشَّرَفِ مَا لَا يَنْبُو عَنْ رُتْبَةِ السُّلْطَانِ بِخِلَافِ الْغَسْلِ إلَّا أَنْ يُجَابَ بِأَنَّ هَذَا حَقٌّ ثَبَتَ لَهُ فَلَهُ مُبَاشَرَتُهُ بِنَفْسِهِ وَتَفْوِيضُهُ إلَى غَيْرِهِ.

(وَسُئِلَ) فَسَّحَ اللَّهُ فِي مُدَّتِهِ بِمَا لَفْظُهُ اسْتَثْنَى بَعْضُهُمْ الْغَرِيبَ الْعَاصِيَ بِغُرْبَتِهِ كَالْآبِقِ وَالنَّاشِزَةِ وَالْغَرِيقَ الْعَاصِيَ بِرَكُوبِهِ الْبَحْرَ كَمَنْ رَكِبَهُ لِشُرْبِ الْخَمْرِ أَوْ لِيَسْرِقَ وَرَدَّهُ الزَّرْكَشِيُّ فَقَالَ وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا لَا يَمْنَعُ الشَّهَادَةَ ثُمَّ قَالَ وَأَمَّا الْمَيِّتُ

ص: 14

عِشْقًا فَشَرْطُهُ الْعِفَّةُ وَالْكِتْمَانُ وَيَنْبَغِي أَنْ يُرَادَ بِهِ مَنْ يَتَصَوَّرُ إبَاحَةَ نِكَاحِهِ لَهَا شَرْعًا وَيَتَعَذَّرُ الْوُصُولُ إلَيْهَا كَزَوْجَةِ الْمَلِكِ وَإِلَّا فَعِشْقُهُ الْأَمْرَدَ مَعْصِيَةٌ فَكَيْفَ تَحْصُلُ بِهَا دَرَجَةُ الشَّهَادَةِ قَالَ وَيُسْتَثْنَى مِنْهُ الْمَيِّتَةُ بِالطَّلْقِ الْحَامِلُ بِزِنَاهَا فَكَيْفَ الْجَمْعُ بَيْنَ أَطْرَافِ كَلَامِهِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى تَنَاقُضٍ فِي الظَّاهِرِ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ يُجَابُ بِأَنَّ الْجِهَةَ فِي الْغُرْبَةِ وَالْغَرَقِ مُنْفَكَّةٌ إذْ الْمُحَصِّلُ لِلْمَعْصِيَةِ لَيْسَ هُوَ الْمُحَصِّلَ لِلزَّهُوقِ بَلْ الْمُحَصِّلُ لَهُ سَبَبٌ آخَرُ غَيْرَ الْغُرْبَةِ وَغَيْرَ رُكُوبِ الْبَحْرِ كَعُرُوضِ رِيحٍ وَنَحْوِهِ مِمَّا لَيْسَ نَاشِئًا عَنْ ذَيْنِكَ فِي الْعَادَةِ وَبِهِ فَارَقَ مَا يَأْتِي فِي الْحَمْلِ مِنْ الزِّنَا وَأَمَّا فِي مَسْأَلَةِ الْعِشْقِ وَالطَّلْقِ فَالْمُحَصِّلُ لِلزُّهُوقِ هُوَ مَا بِهِ الْمَعْصِيَةُ لَا غَيْرُ إذْ لَيْسَ هُنَاكَ سَبَبٌ غَيْرَ الْعِشْقِ وَالْحَمْلِ مَعَ الطَّلْقِ اللَّازِمِ لَهُ الَّذِي لَا يُتَصَوَّرُ انْفِكَاكُهُ عَنْهُ حَتَّى يُحَالَ عَلَيْهِ الْهَلَاكُ فَلَمْ يُمْكِنْ أَنْ يَكُونَ مَا بِهِ الْمَعْصِيَةُ مُحَصِّلًا لِلشَّهَادَةِ مَعَ اتِّحَادِ الْجِهَةِ نَعَمْ لَوْ رَأَى أَمْرَدَ رُؤْيَةً مُبَاحَةً كَأَوَّلِ نَظْرَةٍ فَنَشَأَ مِنْهَا عِشْقُهُ فَعَفَّ فَكَتَمَ فَمَاتَ لَمْ يَبْعُدْ أَنْ يُقَالَ هُنَا إنَّهُ شَهِيدٌ إذْ لَا مَعْصِيَةَ.

(وَسُئِلَ) فَسَّحَ اللَّهُ فِي مُدَّتِهِ بِمَا صُورَتُهُ فَرْضُ الْكِفَايَةِ وَسُنَّتُهَا

مُهِمٌّ يُقْصَدُ حُصُولُهُ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ بِالذَّاتِ إلَى فَاعِلِهِ وَإِذَا فَعَلَهُ وَاحِدٌ سَقَطَ الْحَرَجُ عَنْ الْبَاقِينَ وَيَلْزَمُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَصِحَّ فِعْلُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَعْدَ صُدُورِهِ مِنْ آخَرَ لِسُقُوطِ الْخِطَابِ بِهِ مَعَ تَصْرِيحِهِمْ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ بِخِلَافِهِ فَمَا الَّذِي يَظْهَرُ فِي الْجَوَابِ عَنْ ذَلِكَ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ الَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ فِي كُلٍّ مِنْ فَرْضِ الْكِفَايَةِ وَسُنَّتِهَا خِطَابَيْنِ أَحَدُهُمَا يُقْصَدُ بِهِ حُصُولُ الْفِعْلِ لِدَفْعِ الْإِثْمِ فِي الْأَوَّلِ أَوْ خِلَافِ الْأَوْلَى أَوْ الْكَرَاهَةِ فِي الثَّانِي وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَسْقُطُ بِالْوَاحِدِ وَالثَّانِي يُقْصَدُ بِهِ تَحْصِيلُ الْفِعْلِ لِأَجْلِ. مَصْلَحَةِ حُصُولِ الثَّوَابِ وَهَذَا هُوَ الَّذِي لَا يَسْقُطُ بِالْوَاحِدِ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ الْإِتْيَانِ بِهِ مِنْ كُلِّ فَرْدٍ فَرْدٍ بِعَيْنِهِ فَإِنْ قُلْت يَلْزَمُ عَلَى ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ سُنَّةُ الْكِفَايَةِ مُتَضَمِّنَةً لِسُنَّةِ الْعَيْنِ قُلْت لَك أَنْ تَلْتَزِمَهُ لَكِنَّ سُنَّةَ الْعَيْنِ الَّتِي تَضَمَّنَتْهَا سُنَّةُ الْكِفَايَةِ لَيْسَتْ كَسُنَّةِ الْعَيْنِ الْمَطْلُوبَةِ بِخُصُوصِهَا لِأَنَّ هَذِهِ لَيْسَ فِي تَرْكِهَا كَرَاهَةٌ وَلَا خِلَافٌ أَوْلَى بِخِلَافِ تِلْكَ، وَلَك أَنْ تَمْنَعَهُ بِأَنَّ هَذَا الْمُتَضَمَّنَ لَا يُسَمَّى سُنَّةَ عَيْنٍ أَصْلًا لِأَنَّ سُنَّةَ الْعَيْنِ هِيَ الَّتِي طُلِبَتْ مَعَ النَّظَرِ لِفَاعِلِهَا بِالذَّاتِ وَهَذِهِ لَيْسَتْ كَذَلِكَ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ تَرَتُّبِ الثَّوَابِ عَلَى حُصُولِهَا كَوْنُهَا تُسَمَّى سُنَّةَ عَيْنٍ كَمَا لَا يَخْفَى.

(وَسُئِلَ) فَسَّحَ اللَّهُ فِي مُدَّتِهِ قَالُوا لَا بُدَّ فِي التَّكْبِيرَةِ الثَّالِثَةِ مِنْ الدُّعَاءِ لِلْمَيِّتِ بِخُصُوصِهِ كَاغْفِرْ لَهُ أَوْ ارْحَمْهُ فَهَلْ يَشْمَلُ ذَلِكَ الطِّفْلَ وَهَلْ اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ فَرَطًا لِأَبَوَيْهِ كَافٍ عَنْ ذَلِكَ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ لَا فَرْقَ بَيْنَ الطِّفْلِ وَغَيْرِهِ كَمَا اقْتَضَاهُ إطْلَاقُهُمْ وَهُوَ صَرِيحٌ وَاضِحٌ وَكَوْنُهُ مَغْفُورًا لَهُ لَا يَمْنَعُ الدُّعَاءَ لَهُ بِذَلِكَ لِأَنَّ ذَلِكَ يَحْصُلُ لَهُ بِهِ زِيَادَةٌ فِي رَفْعِ دَرَجَتِهِ وَالدُّعَاءُ بِجَعْلِهِ فَرَطًا لِأَبَوَيْهِ إلَخْ الْقَصْدُ بِهِ وَالِدَاهُ بِالذَّاتِ وَإِنْ كَانَ يَلْزَمُ مِنْهُ كَوْنُهُ مَغْفُورًا لَهُ إذْ الْفَرَطُ السَّابِقُ الْمُهَيِّئُ لِمَصَالِحِهِمَا وَاللَّوَازِمُ لَا يُكْتَفَى بِهَا فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ الْمَطْلُوبِ فِيهِ التَّنْصِيصُ عَلَى مَا يَنْفَعُ الْمَيِّتَ هَذَا مَا يَظْهَرُ وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ يَكْفِي اكْتِفَاءً بِاللَّازِمِ الْمَذْكُورِ.

(وَسُئِلَ) نَفَعَ اللَّهُ بِهِ بِمَا لَفْظُهُ وَقَعَ الْوَبَاءُ فِي بِلَادٍ فَهَلْ يُكْرَهُ لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ تِلْكَ الْبِلَادِ الدُّخُولُ فِي بَلَدٍ أُخْرَى وَلَا يَحْرُمُ الْخُرُوجُ حِينَئِذٍ أَوْ لَا؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ إذَا عَمَّ الْوَبَاءُ قُطْرًا مِنْ الْأَقْطَارِ فَظَاهِرٌ أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ حِينَئِذٍ الْخُرُوجُ مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ أُخْرَى مِنْهُ وَلَا دُخُولُهَا لِفَوَاتِ الْمَعْنَى الْمُعَلَّلِ بِهِ حُرْمَةُ الْخُرُوجِ وَكَرَاهَةُ الدُّخُولِ حِينَئِذٍ وَقَدْ نُقِلَ مَا يُوَافِقُ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ بِنْتِ الْأَعَزِّ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ فَإِنْ قُلْت الْغُرَبَاءُ أَسْرَعُ تَأَثُّرًا أَيَّامَ الْوَبَاءِ مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ فَيَنْبَغِي كَرَاهَةُ الدُّخُولِ وَإِنْ عَمَّ قُلْت هُوَ كَذَلِكَ إنْ تَبَاعَدَتْ الْبُلْدَانُ تَبَاعُدًا فَاحِشًا بِحَيْثُ يَقْضِي أَهْلُ الْخِبْرَةِ بِاخْتِلَافِ هَوَائِهِمَا لِأَنَّ الدَّاخِلَ حِينَئِذٍ لِلْبَلَدِ الْبَعِيدَةِ يَكُونُ بَدَنُهُ أَسْرَعَ انْفِعَالًا وَتَأَثُّرًا بِهَوَاءِ تِلْكَ الْبَلَدِ وَإِنْ كَانَ الْوَبَاءُ فِي بَلْدَةٍ أَيْضًا.

فَإِنْ قُلْت لَعَلَّ هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى مَا عَلَيْهِ الْأَطِبَّاءُ مِنْ أَنَّ الطَّاعُونَ إنَّمَا يَنْشَأُ عَنْ فَسَادِ الْهَوَاءِ وَاَلَّذِي ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّهُ مِنْ الْجِنِّ قُلْت لَيْسَ مَبْنِيًّا عَلَى ذَلِكَ إذْ لَا مَانِعَ مِنْ أَنَّ الْجِنَّ يَكُونُ لَهُمْ مَزِيدُ تَسَلُّطٍ عَلَى الْغُرَبَاءِ أَكْثَرَ وَعَلَى هَذَا فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْبَلَدِ الْبَعِيدَةِ

ص: 15

وَالْقَرِيبَةِ وَعَلَى تَسْلِيمِ كَوْنِهِ مَبْنِيًّا عَلَيْهِ فَلَا مَانِعَ مِنْ اجْتِمَاعِ السَّبَبَيْنِ مِنْ فَسَادِ الْهَوَاءِ وَطَعْنِ الْجِنِّ أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِ فُقَهَائِنَا إنَّ الْوَصِيَّةَ أَيَّامَ الْوَبَاءِ وَلَوْ مِنْ الصَّحِيحِ تَكُونُ مِنْ الثُّلُثِ وَلَيْسَ ذَلِكَ إلَّا لِأَنَّ الْهَوَاءَ قَدْ فَسَدَ فَالْأَبْدَانُ كُلُّهَا مُشْرِفَةٌ عَلَى التَّغَيُّرِ وَالْفَسَادِ وَإِنْ لَمْ تَحُسَّ بِذَلِكَ وَكَلَامُهُمْ هَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ فَسَادَ الْهَوَاءِ لَهُ دَخْلٌ وَإِنْ كَانَ طَعْنُ الْجِنِّ لَهُ دَخْلٌ أَيْضًا وَلَا مَانِعَ مِنْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَجْعَلُ لِتَسَلُّطِ الْجِنِّ عَلَى الطَّعْنِ أَمَارَةً وَهِيَ فَسَادُ الْهَوَاءِ.

(وَسُئِلَ) رضي الله عنه بِمَا صُورَتُهُ مَا تَقُولُونَ فِي مَسْأَلَةٍ وَقَعَ فِيهَا جَوَابَانِ مُخْتَلِفَانِ صُورَتُهَا صَحْرَاءُ وَاسِعَةٌ يَسِيلُ مَاؤُهَا إذَا أَتَى الْمَطَرُ فِي بُسْتَانِ جَمَاعَةٍ وَفِي الصَّحْرَاءِ الْمَذْكُورَةِ مَقْبَرَةٌ جَرَتْ الْعَادَةُ أَنَّ مَنْ أَرَادَ الدَّفْنَ فِيهَا فَلَا مَانِعَ لَهُ وَلَيْسَتْ مَوْقُوفَةً فَدُفِنَ فِيهَا رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالصَّلَاحِ فَهَلْ يَجُوزُ الْبِنَاءُ عَلَيْهِ مَدْرَسَةً أَوْ قُبَّةً أَوْ تُرْبَةً وَنَحْوَ ذَلِكَ لِيَنْتَفِعَ الْحَيُّ وَالْمَيِّتُ بِالْقِرَاءَةِ فِيهَا وَلِيَتَمَيَّزَ بِهَا عَنْ غَيْرِهِ وَيَكْثُرُ زُوَّارُهُ وَالتَّبَرُّكُ بِهِ أَوْ لَا؟

أَجَابَ الْأَوَّلُ فَقَالَ يُكْرَهُ الْبِنَاءُ فِي الْمَقْبَرَةِ الْمُسَبَّلَةِ بَلْ لَا يَجُوزُ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّضْيِيقِ عَلَى النَّاسِ وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ شَهَابُ الدِّينِ الْأَذْرَعِيُّ الْوَجْهُ فِي الْبِنَاءِ عَلَى الْقُبُورِ مَا اقْتَضَاهُ إطْلَاقُ ابْنِ كَجٍّ مِنْ التَّحْرِيمِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ مِلْكِهِ وَغَيْرِهِ لِلنَّهْيِ الْعَامِّ وَلِمَا فِيهِ مِنْ الِابْتِدَاعِ بِالْقَبِيحِ وَإِضَاعَةِ الْمَالِ وَالسَّرَفِ وَالْمُبَاهَاةِ وَمُضَاهَاةِ الْجَبَابِرَةِ وَالْكُفَّارِ وَالتَّحْرِيمُ يَثْبُتُ بِدُونِ ذَلِكَ اهـ جَوَابُ الْأَوَّلِ؟

وَأَجَابَ الثَّانِي فَقَالَ يَجُوزُ الْبِنَاءُ فِي الصَّحْرَاءِ الْمَذْكُورَةِ لِأُمُورٍ أَحَدُهَا أَنَّ هَذِهِ الصَّحْرَاءَ حُكْمُهَا حُكْمُ الْمَوَاتِ وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْعِمَادِ إنْ كَانَتْ أَيْ الْمَقْبَرَةُ مَوَاتًا لَمْ يَحْرُمْ الْبِنَاءُ فِيهَا وَإِنْ كَانَتْ مَمْلُوكَةً جَازَ الْبِنَاءُ فِيهَا بِإِذْنِ الْمَالِكِ الْأَمْرُ.

الثَّانِي أَنَّ الْإِمَامَ بَدْرَ الدِّينِ الزَّرْكَشِيّ نَقَلَ فِي الْخَادِمِ عَنْ الشَّيْخِ الْإِمَامِ شَرَفِ الدِّينِ الْأَنْصَارِيِّ كَلَامًا طَوِيلًا فِي الْكَلَامِ عَلَى الْقَرَافَةِ ذَكَرَ فِي أَثْنَائِهِ أَنَّ السَّلَفَ رضي الله عنهم شَاهَدُوا هَذِهِ الْقَرَافَةَ الْكُبْرَى وَالصُّغْرَى مِنْ الزَّمَانِ الْمُتَقَدِّمِ وَبُنِيَ فِيهَا التُّرَبُ وَالدُّورُ وَلَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْأَعْصَارِ لَا بِقَوْلٍ وَلَا فِعْلٍ قَالَ وَقَدْ بَنَوْا فِيهِ قُبَّةَ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه وَمَدْرَسَتَهُ وَهَكَذَا سَائِرُ الْمَزَارَاتِ إلَى آخِرِ كَلَامِ الشَّرَفِ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ وَاقْتَضَى كَلَامُهُ عَدَمَ تَحْرِيمِ الْبِنَاءِ فِي الْمُسَبَّلَةِ قَالَ وَإِذَا لَمْ يَحْرُمْ فِي مُسَبَّلَةٍ لَمْ يَحْرُمْ فِي مَوَاتٍ وَمَمْلُوكٍ بِإِذْنِ مَالِكِهِ مِنْ بَابِ أَوْلَى قَالَ وَهُوَ مُخَالِفٌ لِمَا تَقَدَّمَ عَنْ الْأَذْرَعِيِّ.

الثَّالِثُ أَنَّ الْحَاكِمَ قَالَ فِي مُسْتَدْرَكِهِ إثْرَ تَصْحِيحِ أَحَادِيثِ النَّهْيِ عَنْ الْبِنَاءِ وَالْكَتْبِ عَلَى الْقُبُورِ لَيْسَ الْعَمَلُ عَلَيْهَا فَإِنَّ أَئِمَّةَ الْمُسْلِمِينَ شَرْقًا وَغَرْبًا الْبِنَاءُ عَلَى قُبُورِهِمْ وَهُوَ أَمْرٌ أَخَذَهُ الْخَلَفُ عَنْ السَّلَفِ قَالَ الْبُرْزُلِيُّ فَيَكُونُ إجْمَاعًا الْأَمْرُ الرَّابِعُ أَنَّ مَا قَالَهُ الْإِمَامُ الْأَذْرَعِيُّ فِيهِ نَظَرٌ فَقَدْ ذَكَرَ هُوَ فِي الْوَصَايَا عَنْ الشَّيْخَيْنِ مِنْ غَيْرِ اعْتِرَاضٍ عَلَيْهِمَا جَوَازَ الْوَصِيَّةِ لِعِمَارَةِ قُبُورِ الْأَوْلِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ لِمَا فِيهَا مِنْ إحْيَاءِ الزِّيَارَةِ وَالتَّبَرُّكِ بِهَا وَقَالَ أَعْنِي الْإِمَامَ الْأَذْرَعِيَّ فِي الْوَقْفِ بَعْد نَقْلِهِ هَذَا الْكَلَامَ قُلْت وَقَضِيَّتُهُ جَوَازُ الْوَقْفِ عَلَى عِمَارَةِ هَذَا النَّوْعِ وَيَخْتَصُّ الْمَنْعُ بِغَيْرِهِ وَعَلَى جَوَازِ الْوَقْفِ عَلَى قُبُورِ أَهْلِ الْخَيْرِ الْعَمَلُ اهـ الْمَقْصُودُ مِنْ كَلَامِ الْإِمَامِ الْأَذْرَعِيِّ.

وَقَدْ ذَكَرَ هُوَ أَيْضًا فِي الْوَصَايَا أَنَّ الْوَصِيَّةَ وَالْوَقْفَ إنَّمَا يَجُوزَانِ فِيمَا يَكُونُ قُرْبَةً عِنْدَ الْمُوصِي أَوْ الْوَاقِفِ الْأَمْرُ الْخَامِسُ أَنَّ بَعْضَ عُلَمَاءِ أَئِمَّتِنَا الْمُتَأَخِّرِينَ ذَكَرَ كَلَامًا حَسَنًا يُؤَيِّدُ جَوَازَ الْبِنَاءِ فَقَالَ قُلْت ذَكَرُوا صِحَّةَ الْوَصِيَّةِ لِبِنَاءِ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى وَقُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَأَلْحَقَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ بِهَا قُبُورَ الْعُلَمَاءِ وَالصَّالِحِينَ لِمَا فِيهَا مِنْ الْإِحْيَاءِ بِالزِّيَارَةِ.

وَقَدْ ذَكَرَ الْغَزَالِيُّ رضي الله عنه فِي الْوَسِيطِ وَالْإِحْيَاءِ كَلَامًا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْبِنَاءِ عَلَى قُبُورِ عُلَمَاءِ الدِّينِ وَمَشَايِخِ الْإِسْلَامِ وَسَائِرِ الصُّلَحَاءِ وَلَا يَبْعُدُ جَوَازُ ذَلِكَ حَمْلًا عَلَى الْإِكْرَامِ قَالَ وَفِي شَرْحِ التَّنْبِيهِ لِلْإِمَامِ ابْنِ الرِّفْعَةِ مَا يَدُلَّ عَلَى جَوَازِ الْبِنَاءِ كَمَا فِي الْوَسِيطِ وَالْإِحْيَاءِ بَلْ عَلَى اسْتِحْبَابِهِ وَلَا شَكَّ فِي ذَلِكَ لِوُجُودِهِ فِي جَمِيعِ أَمْصَارِ الْإِسْلَامِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا قَالَ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَالصُّلَحَاءِ وُلَاةِ أُمُورِ الدِّينِ إنْكَارٌ فِيهِ بِقَوْلٍ وَلَا فِعْلٍ مَعَ عَدَمِ الشَّكِّ فِي تَمَكُّنِهِمْ مِنْهُ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ اهـ السُّؤَالُ فَمَا الْمُرَجِّحُ

ص: 16

الْمُعْتَمَدُ مِنْ الْجَوَابَيْنِ وَمَا قَوْلُكُمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْكُمْ إذَا كَانَتْ الصَّحْرَاءُ الَّتِي فِيهَا الْمَقْبَرَةُ الْمَذْكُورَةُ غَيْرَ مَوْقُوفَةٍ وَكَانَتْ صِفَتُهَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَوَّلًا فَهَلْ يَا شَيْخَ الْإِسْلَامِ حُكْمُ هَذِهِ الصَّحْرَاءِ حُكْمُ الْمُسَبَّلَةِ لِكَوْنِ مَنْ أَرَادَ الدَّفْنَ فِيهَا فَلَا مَانِعَ لَهُ أَمْ حُكْمُهَا حُكْمُ الْأَرْضِ الْمَمْلُوكَةِ لِكَوْنِ مَائِهَا إذَا أَتَى الْمَطَرُ يَسِيلُ فِي بُسْتَانِ جَمَاعَةٍ أَمْ حُكْمُهَا حُكْمُ الْأَرْضِ الْمَوَاتِ كَمَا قَالَ بَعْضُ الْمُفْتِينَ مِنْ عُلَمَاءِ الْعَصْرِ.

فَإِنْ قُلْتُمْ حُكْمُهَا حُكْمُ الْمُسَبَّلَةِ فَإِذَا كَانَتْ الصَّحْرَاءُ وَاسِعَةً فَهَلْ يَجُوزُ الْبِنَاءُ فِيهَا إذَا لَمْ يَحْصُلْ التَّضْيِيقُ لِسِعَةِ الْبُقْعَةِ سِيَّمَا أَنَّهُمْ عَلَّلُوا كَرَاهَةَ الْبِنَاءِ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّضْيِيقِ بَلْ هَذَا التَّعْلِيلُ فِي جَوَابِ الْأَوَّلِ وَإِنْ قُلْتُمْ حُكْمُهَا حُكْمُ الْأَرْضِ الْمَمْلُوكَةِ جَازَ الْبِنَاءُ فِيهَا بِإِذْنِ الْمَالِكِ كَمَا تَقَدَّمَ عَنْ الْإِمَامِ ابْنِ الْعِمَادِ.

وَإِنْ قُلْتُمْ حُكْمُهَا حُكْمُ الْمَوَاتِ كَمَا قَالَ بَعْضُ الْمُفْتِينَ مِنْ عُلَمَاءِ الْعَصْرِ فَمَنْ أَحْيَاهَا أَوْ قِطْعَةً مِنْهَا مَلَكَهَا وَصَارَتْ مِلْكًا لَهُ مِنْ أَمْلَاكِهِ يَتَصَرَّفُ فِيهَا كَيْفَ يَشَاءُ كَمَا قَالَ هَذَا الْمُفْتِي بَلْ كَلَامُ مَنْ جَوَّزَ الْبِنَاءَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا كَانَ الْبِنَاءُ فِي مَوَاتٍ أَوْ مِلْكٍ أَوْضِحُوا لَنَا الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ بِجَوَابٍ شَافٍ يَحْصُلُ بِهِ الْمَقْصُودُ وَمَا قَوْلُكُمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْكُمْ فِي قَوْلِ مَنْ قَالَ يُكْرَهُ الْبِنَاءُ عَلَى الْقَبْرِ وَالْكِتَابَةُ وَأَنْ يُعَلَّمَ بِعَلَامَةٍ زَائِدَةٍ وَقِيلَ لَا يُكْرَهُ الْبِنَاءُ إذَا كَانَ الْمَيِّتُ مِنْ الْمَشَايِخِ وَالْعُلَمَاءِ وَالسَّادَاتِ نُقِلَ مِنْ جَامِعِ الْفَتَاوَى هَلْ الْكَرَاهَةُ لِلتَّنْزِيهِ.

وَقَوْلُهُ وَقِيلَ لَا يُكْرَهُ الْبِنَاءُ إلَخْ هَلْ رَأَيْتُمْ مَا يُعَضِّدُهُ غَيْرَ مَا ذَكَرْنَا فِي السُّؤَالِ الْأَوَّلِ وَمَا قَوْلُكُمْ فَسَّحَ اللَّهُ فِي مُدَّتِكُمْ وَأَعَادَ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَتِكُمْ فِي قَوْلِ الشَّيْخَيْنِ فِي الْجَنَائِزِ يُكْرَهُ الْبِنَاءُ عَلَى الْقَبْرِ وَقَالَا فِي الْوَصِيَّةِ تَجُوزُ الْوَصِيَّةُ لِعِمَارَةِ قُبُورِ الْعُلَمَاءِ وَالصَّالِحِينَ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْإِحْيَاءِ بِالزِّيَارَةِ وَالتَّبَرُّكِ بِهَا هَلْ هَذَا تَنَاقُضٌ مَعَ عِلْمِكُمْ أَنَّ الْوَصِيَّةَ لَا تَنْفُذُ بِالْمَكْرُوهِ فَإِنْ قُلْتُمْ هُوَ تَنَاقُضٌ فَمَا الرَّاجِحُ وَإِنْ قُلْتُمْ لَا فَمَا الْجَمْعُ بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ الْمَنْقُولُ الْمُعْتَمَدُ كَمَا جَزَمَ بِهِ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ حُرْمَةُ الْبِنَاءِ فِي الْمَقْبَرَةِ الْمُسَبَّلَةِ فَإِنْ بُنِيَ فِيهَا هُدِمَ وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ قُبُورِ الصَّالِحِينَ وَالْعُلَمَاءِ وَغَيْرِهِمْ وَمَا فِي الْخَادِمِ مِمَّا يُخَالِفُ ذَلِكَ ضَعِيفٌ لَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ وَكَمْ أَنْكَرَ الْعُلَمَاءُ عَلَى بَانِي قُبَّةِ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه وَغَيْرِهَا وَكَفَى بِتَصْرِيحِهِمْ فِي كُتُبِهِمْ إنْكَارًا وَالْمُرَادُ بِالْمُسَبَّلَةِ كَمَا قَالَهُ الْإِسْنَوِيُّ وَغَيْرُهُ الَّتِي اعْتَادَ أَهْلُ الْبَلَدِ الدَّفْنَ فِيهَا أَمَّا الْمَوْقُوفَةُ وَالْمَمْلُوكَةُ بِغَيْرِ إذْنِ مَالِكِهَا فَيَحْرُمُ الْبِنَاءُ فِيهِمَا مُطْلَقًا قَطْعًا إذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ فَالْمَقْبَرَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا السَّائِلُ يَحْرُمُ الْبِنَاءُ فِيهَا وَيُهْدَمُ مَا بُنِيَ فِيهَا وَإِنْ كَانَ عَلَى صَالِحٍ أَوْ عَالِمٍ فَاعْتَمِدْ ذَلِكَ وَلَا تَغْتَرَّ بِمَا يُخَالِفُهُ.

وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ فَقَدْ عُلِمَ جَوَابُهَا مِمَّا تَقَرَّرَ وَهُوَ أَنَّهُ حَيْثُ اُعْتِيدَ الدَّفْنُ فِي مَحَلٍّ مِنْ الصَّحْرَاءِ حَرُمَ الْبِنَاءُ فِيهَا وَهُدِمَ وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ بِهِ تَضْيِيقٌ فِي الْحَالِ لِأَنَّهُ يَحْصُلُ بِهِ ذَلِكَ فِي الِاسْتِقْبَالِ وَلِأَنَّ مِنْ شَأْنِ الْبِنَاءِ أَنْ يُضَيِّقَ وَكَوْنُ مَائِهَا إذَا أَتَى الْمَطَرُ يَسِيلُ إلَى بُسْتَانِ جَمَاعَةٍ لَا يُخْرِجُهَا عَنْ كَوْنِهَا مُسَبَّلَةً وَيُلْحِقُهُ بِالْمَوَاتِ خِلَافًا لِمَا نُقِلَ عَنْ بَعْضِ الْمُفْتِينَ نَعَمْ إنْ اتَّخَذَ أَصْحَابُ الْبُسْتَانِ فِي ذَلِكَ الْمَحَلِّ الَّذِي اُعْتِيدَ الدَّفْنُ فِيهِ مَجَارِيَ لِلْمَاءِ حَتَّى يَصِلَ إلَى بُسْتَانِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ الِاتِّخَاذُ قَبْلَ أَنْ يَصِيرَ ذَلِكَ الْمَحَلُّ مُسَبَّلًا مَلَكُوا تِلْكَ الْمَجَارِيَ وَحَرِيمَهَا وَلَمْ يَجُزْ الدَّفْنُ فِيهَا وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ فَالْحَاصِلُ مِنْ اضْطِرَابٍ وَقَعَ لِلشَّيْخَيْنِ فِيهَا أَنَّ قَوْلَهُمَا فِي الْجَنَائِزِ يُكْرَهُ الْبِنَاءُ عَلَى الْقَبْرِ مُرَادُهُمَا بِنَاءٌ فِي مِلْكِ الشَّخْصِ أَوْ غَيْرِهِ بِإِذْنِهِ فَإِنْ أَرَادَ الْمُسَبَّلَةَ أَوْ الْمَوْقُوفَةَ كَانَ مُرَادُهُمَا كَرَاهَةَ التَّحْرِيمِ وَمَا ذَكَرَاهُ فِي الْوَصَايَا مَحْمُولٌ عَلَى غَيْرِ الْبِنَاءِ فِي الْمُسَبَّلَةِ لِمَا تَقَرَّرَ لَك أَوَّلًا وَكَرَاهَةُ الْكِتَابَةِ وَمَا بَعْدَهَا لِلتَّنْزِيهِ لَا لِلتَّحْرِيمِ.

(وَسُئِلَ) نَفَعَ اللَّهُ بِهِ مَا حُكْمُ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ عِنْدَ سَدِّ فَتْحِ اللَّحْدِ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ هُوَ بِدْعَةٌ إذْ لَمْ يَصِحَّ فِيهِ شَيْءٌ وَمَا نُقِلَ عَنْ بَعْضِهِمْ فِيهِ غَيْرُ مُعَوَّلٍ عَلَيْهِ ثُمَّ رَأَيْت الْأَصْبَحِيَّ أَفْتَى بِمَا ذَكَرْتَهُ فَإِنَّهُ سُئِلَ هَلْ وَرَدَ فِيهِمَا خَبَرٌ عِنْدَ ذَلِكَ فَأَجَابَ بِقَوْلِهِ لَا أَعْلَمُ فِي ذَلِكَ خَبَرًا وَلَا أَثَرًا إلَّا شَيْئًا يُحْكَى عَنْ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّهُ قَالَ لَعَلَّهُ مَقِيسٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ فِي أُذُنِ الْمَوْلُودِ وَكَأَنَّهُ يَقُولُ الْوِلَادَةُ أَوَّلُ الْخُرُوجِ إلَى الدُّنْيَا وَهَذَا آخِرُ الْخُرُوجِ مِنْهَا وَفِيهِ ضَعْفٌ فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يَثْبُتُ إلَّا بِتَوْقِيفٍ أَعْنِي تَخْصِيصَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ

ص: 17

وَإِلَّا فَذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى مَحْبُوبٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ إلَّا فِي وَقْتِ قَضَاءِ الْحَاجَةِ اهـ كَلَامُهُ رحمه الله وَبِهِ يُعْلَمُ أَنَّهُ مُوَافِقٌ لِمَا ذَكَرْته مِنْ أَنَّ ذَلِكَ بِدْعَةٌ وَمَا أَشَارَ إلَيْهِ مِنْ ضَعْفِ الْقِيَاسِ الْمَذْكُورِ ظَاهِرٌ جَلِيٌّ يُعْلَمُ دَفْعُهُ بِأَدْنَى تَوَجُّهٍ وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

(وَسُئِلَ) رضي الله عنه مَا حُكْمُ بِنَاءِ الْقُبُورِ قَدْرَ مِدْمَاكَيْنِ فَقَطْ وَهَلْ يَجُوزُ أَخْذُ حِجَارَةِ الْقُبُورِ لِسَدِّ فَتْحِ لَحْدٍ أَوْ لِبِنَاءِ قَبْرٍ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ لَا يَجُوزُ عَلَى الْمُعْتَمَدِ بِنَاءُ الْقَبْرِ فِي الْمَقْبَرَةِ الْمُسَبَّلَةِ سَوَاءٌ أَظْهَرَ بِبُنْيَانِهِ تَضْيِيقٌ فِي الْحَالِ أَمْ لَا وَهِيَ الَّتِي اعْتَادَ أَهْلُ الْبَلَدِ الدَّفْنَ فِيهَا وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ لَهَا مُسَبِّلٌ وَأَلْحَقَ بِهَا الْأَذْرَعِيُّ الْمَوَاتَ لِأَنَّ فِيهِ تَضْيِيقًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِمَا لَا مَصْلَحَةَ وَلَا غَرَضٌ شَرْعِيٌّ فِيهِ بِخِلَافِ الْإِحْيَاءِ وَهُوَ أَوْجَهُ مِنْ قَوْلِ غَيْرِهِ يَجُوزُ وَيُهْدَمُ بِلَا خِلَافٍ كَمَا فِي الْمَجْمُوعِ وَإِنْ قُلْنَا الْكَرَاهَةُ لِلتَّنْزِيهِ وَيَظْهَرُ أَنَّ الَّذِي يَهْدِمُهُ هُوَ الْحَاكِمُ لَا الْآحَادُ أَخْذًا مِنْ كَلَامِهِمْ فِي بَابِ الصُّلْحِ لِمَا يُخْشَى فِيهِ مِنْ الْفِتْنَةِ وَسَوَاءٌ فِيمَا ذُكِرَ الْبِنَاءُ فِي حَرِيمِ الْقَبْرِ وَخَارِجِهِ خِلَافًا لِبَعْضِهِمْ وَمِنْ الْمُسَبَّلَةِ الْمَوْقُوفَةِ بَلْ أَوْلَى.

قَالَ الزَّرْكَشِيُّ وَالْبِنَاءُ فِي الْمَقَابِرِ أَمْرٌ قَدْ عَمَّتْ بِهِ الْبَلْوَى وَطَمَّ وَلَقَدْ تَضَاعَفَ الْبِنَاءُ حَتَّى انْتَقَلَ لِلْمُبَاهَاةِ وَالشُّهْرَةِ وَسُلِّطَتْ الْمَرَاحِيضُ عَلَى أَمْوَاتِ الْمُسْلِمِينَ وَالْأَشْرَافِ وَالْأَوْلِيَاءِ وَغَيْرِهِمْ فَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ اهـ وَلَيْسَ هَذَا خَاصًّا بِتُرَبِ مِصْرَ بَلْ انْتَقَلَ نَظِيرُ ذَلِكَ وَأَفْحَشُ مِنْهُ إلَى تُرْبَتَيْ الْمَعْلَاةِ وَالْبَقِيعِ حَتَّى صَارَ يَقَعُ فِيهِمَا مِنْ الْمَفَاسِدِ مَا لَا يَقَعُ فِي غَيْرِهِمَا وَسَبَبُهُ وُلَاةُ السُّوءِ وَقُضَاةُ الْجَوْرِ ثُمَّ ظَاهِرُ إطْلَاقِهِمْ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْبِنَاءِ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ لِأَنَّ عِلَّةَ الْحُرْمَةِ أَنَّهُ يَتَأَبَّدُ بِالْجَصِّ وَإِحْكَامِ الْبِنَاءِ فَيُمْنَعُ عَنْ الدَّفْنِ هُنَاكَ بَعْدَ الْبِلَى وَالِانْمِحَاقِ وَهَذَا يَجْرِي فِي الْبِنَاءِ الْقَلِيلِ فَهُوَ حَرَامٌ كَالْكَثِيرِ وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

(وَسُئِلَ) أَدَامَ اللَّهُ النَّفْعَ بِهِ مَا حُكْمُ الْمَرَاثِي وَهَلْ أَحَدٌ قَالَ فِيهَا مِنْ الْعُلَمَاءِ الْمَشْهُورِينَ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ عِبَارَةُ شَرْحِي لِلْعُبَابِ وَيَحْرُمُ النَّدْبُ مَعَ الْبُكَاءِ كَمَا حَكَاهُ فِي الْأَذْكَارِ وَجَزَمَ بِهِ فِي الْمَجْمُوعِ وَصَوَّبَهُ الْإِسْنَوِيُّ قَالَ وَإِلَّا لَدَخَلَ الْمُؤَرِّخُ وَالْمَادِحُ لَكِنَّهُ فِي الرَّوْضَةِ تَبِعَ الرَّافِعِيَّ فِي حَذْفِ التَّقْيِيدِ بِالْبُكَاءِ وَاعْتَمَدَهُ الزَّرْكَشِيُّ وَغَيْرُهُ كَمَا يُعْلَمُ مِنْ كَلَامِهِ الْآتِي وَهُوَ تَعْدِيدُ مَحَاسِنِ الْمَيِّتِ كَوَاكَهْفَاهُ وَاجَبَلَاهُ وَا سَنَدَاهْ وَا كَرِيمَاهْ وَذَلِكَ لِمَا يَأْتِي بَلْ فِي الْمَجْمُوعِ عَنْ جَمْعِ الْإِجْمَاعُ عَلَيْهِ قَالَ فِيهِ وَجَاءَ فِي الْإِنَاحَةِ مَا يُشْبِهُ النَّدْبَ وَلَيْسَ مِنْهُ وَهُوَ خَبَرُ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ «لَمَّا ثَقُلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم جَعَلَ يَتَغَشَّاهُ الْكَرْبُ فَقَالَتْ فَاطِمَةُ وَا أَبَتَاهْ فَقَالَ لَيْسَ عَلَى أَبِيك كَرْبٌ بَعْدَ الْيَوْمِ» فَلَمَّا مَاتَ قَالَتْ وَا أَبَتَاهُ جَنَّةُ الْفِرْدَوْسِ مَأْوَاهُ يَا أَبَتَاهُ إلَى جِبْرِيلَ نَنْعَاهُ ثُمَّ قُلْت فِي الشَّرْحِ الْمَذْكُورِ وَيُكْرَهُ تَرْثِيَةُ الْمَيِّتِ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُتَوَلِّي وَالرُّويَانِيُّ فِي الْبَحْرِ لِلنَّهْيِ عَنْ الْمَرَاثِي وَفَسَّرُوهَا بِأَنَّهَا عَدُّ مَحَاسِنِهِ أَيْ بِغَيْرِ صِيغَةِ النَّدْبِ السَّابِقَةِ لِئَلَّا يَلْزَمَ اتِّحَادُهَا مَعَهَا وَقَدْ أَطْلَقَهَا الْجَوْهَرِيُّ عَلَى عَدِّ مَحَاسِنِهِ مَعَ الْبُكَاءِ وَعَلَى نَظْمِ الشِّعْرِ فِيهِ فَيُكْرَهُ كُلٌّ مِنْهُمَا لِعُمُومِ النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ.

قَالَ جَمْعٌ مُتَأَخِّرُونَ مِنْهُمْ الْأَذْرَعِيُّ فِي تَوَسُّطِهِ وَأَطَالَ فِي ذَلِكَ وَلَعَلَّهُ أَيْ مَا ذُكِرَ مِنْ كَرَاهَةِ التَّرْثِيَةِ إذَا بَعَثَتْ عَلَى النَّوْحِ وَتَجْدِيدِ الْحُزْنِ أَوْ ظَهَرَ مِنْهَا تَبَرُّمٌ أَوْ فُعِلَتْ مَعَ الِاجْتِمَاعِ لَهَا أَوْ أُكْثِرَ مِنْهَا لَكِنْ خَالَفَ الْأَذْرَعِيُّ فِي بَعْضِ ذَلِكَ إنْ بَعَثَتْ عَلَى ذَلِكَ أَيْ النَّوْحِ وَنَحْوِهِ مِمَّا ذُكِرَ كَمَا يَصْنَعُهُ الشُّعَرَاءُ فِي عُظَمَاءِ الدُّنْيَا وَيُنْشَدُ فِي الْمَحَافِلِ عَقِبَ الْمَوْتِ فَهِيَ نِيَاحَةٌ مُحَرَّمَةٌ بِلَا شَكٍّ اهـ.

وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ بَعْضُ الْمَرَاثِي حَرَامٌ كَالنَّوْحِ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّبَرُّمِ بِالْقَضَاءِ إلَّا إذَا ذَكَرَ مَنَاقِبَ عَالَمٍ وَرِعٍ أَوْ صَالِحٍ لِلْحَثِّ عَلَى سُلُوكِ طَرِيقَتِهِ وَحُسْنِ الظَّنِّ بِهِ بَلْ هِيَ حِينَئِذٍ بِالطَّاعَةِ وَالْمَوْعِظَةِ أَشْبَهُ لِمَا يَنْشَأُ عَنْهَا مِنْ الْبِرِّ وَالْخَيْرِ وَمِنْ ثَمَّ مَازَالَ كَثِيرٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ يَفْعَلُونَهَا عَلَى مَمَرِّ الْأَعْصَارِ مِنْ غَيْرِ إنْكَارٍ وَقَدْ قَالَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيهِ

مَاذَا عَلَى مَنْ شَمَّ تُرْبَةَ أَحْمَدَا

أَنْ لَا يَشُمَّ مَدَى الزَّمَانِ غَوَالِيَا

صُبَّتْ عَلَيَّ مَصَائِبُ لَوْ أَنَّهَا

صُبَّتْ عَلَى الْأَيَّامِ عُدْنَ لَيَالِيَا

ص: 18

وَقَدْ رَثَاهُ صلى الله عليه وسلم كَثِيرُونَ مِنْ أَصْحَابِهِ كَأَبِي بَكْرٍ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَحَسَّانَ وَصَفِيَّةَ عَمَّتِهِ وَغَيْرِهِمْ رضي الله عنهم وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

(وَسُئِلَ) أَدَامَ اللَّهُ النَّفْعَ بِعُلُومِهِ أَنْ يَتَفَضَّلَ بِذِكْرِ شَيْءٍ فِي مَوْتِ الْأَوْلَادِ مِنْ الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ لِأَنَّهُ عَمَّ فِي هَذَا الْعَامِّ مَوْتُ الصِّغَارِ بِالطَّاعُونِ فَلَعَلَّ آبَاءَهُمْ يَتَصَبَّرُونَ بِسَبَبِ ذَلِكَ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ أَمَّا مُطْلَقُ الصَّبْرِ فَلَهُ فَضَائِلُ كَثِيرَةٌ وَفِيهَا أَحَادِيثُ شَهِيرَةٌ مِنْهَا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «الصَّبْرُ نِصْفُ الْإِيمَانِ وَالْيَقِينُ الْإِيمَانُ كُلُّهُ» وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «الصَّبْرُ مِنْ الْإِيمَانِ بِمَنْزِلَةِ الرَّأْسِ مِنْ الْجَسَدِ» وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «مَا رُزِقَ عَبْدٌ خَيْرًا لَهُ وَلَا أَوْسَعَ مِنْ الصَّبْرِ» وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «أَفْضَلُ الْإِيمَانِ الصَّبْرُ وَالسَّمَاحَةُ» وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «نِعْمَ سِلَاحُ الْمُؤْمِنِ الصَّبْرُ وَالدُّعَاءُ» وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «النَّصْرُ مَعَ الصَّبْرِ وَالْفَرَجُ مَعَ الْكَرْبِ وَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا» وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «انْتِظَارُ الْفَرَجِ بِالصَّبْرِ عِبَادَةٌ وَمَنْ رَضِيَ بِالْقَلِيلِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ بِالْقَلِيلِ مِنْ الْعَمَلِ» وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «إنَّ الصَّبْرَ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى» وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «الصَّابِرُ الصَّابِرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى» وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «الصَّبْرُ ثَلَاثَةٌ صَبْرٌ عَلَى الْمُصِيبَةِ وَصَبْرٌ عَلَى الطَّاعَةِ وَصَبْرٌ عَنْ الْمَعْصِيَةِ فَمَنْ صَبَرَ عَلَى الْمُصِيبَةِ حَتَّى يَرُدَّهَا بِحُسْنِ عَزَائِمِهَا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ ثَلَاثَمِائَةِ دَرَجَةٍ مَا بَيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ صَبَرَ عَلَى الطَّاعَةِ كَتَبَ لَهُ سِتَّمِائَةِ دَرَجَةٍ مَا بَيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ تُخُومِ الْأَرْضِ إلَى مُنْتَهَى الْأَرَضِينَ وَمَنْ صَبَرَ عَنْ الْمَعْصِيَةِ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ تِسْعَمِائَةِ دَرَجَةٍ مَا بَيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ تُخُومِ الْأَرْضِ إلَى مُنْتَهَى الْعَرْشِ مَرَّتَيْنِ» .

وَأَمَّا الصَّبْرُ عَلَى مَوْتِ الْأَوْلَادِ فَفِيهِ فَضَائِلُ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى وَفِيهِ أَحَادِيثُ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ تُسْتَقْصَى مِنْهَا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «إذَا مَاتَ وَلَدُ الْعَبْدُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِمَلَائِكَتِهِ قَبَضْتُمْ وَلَدَ عَبْدِي فَيَقُولُونَ نَعَمْ فَيَقُولُ أَقَبَضْتُمْ ثَمَرَةَ فُؤَادِهِ فَيَقُولُونَ نَعَمْ فَيَقُولُ مَاذَا قَالَ عَبْدِي فَيَقُولُونَ حَمِدَك وَاسْتَرْجَعَ فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى ابْنُوا لِعَبْدِي بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَسَمُّوهُ بَيْتَ الْحَمْدِ» وَمِنْهَا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «مَا مِنْ مُسْلِمَيْنِ يَمُوتُ لَهُمَا ثَلَاثَةٌ مِنْ الْوَلَدِ لَمْ يَبْلُغُوا حِنْثًا إلَّا أَدْخَلَهُمَا اللَّهُ الْجَنَّةَ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ إيَّاهُمْ» وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «مَنْ دَفَنَ ثَلَاثَةً مِنْ الْوَلَدِ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ النَّارَ» وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَمُوتُ لَهُ ثَلَاثَةٌ مِنْ الْوَلَدِ لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ إلَّا تَلْقَوْهُ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةِ مِنْ أَيُّهَا شَاءَ دَخَلَ» .

وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «قَالَ اللَّهُ تَعَالَى إذَا وَجَّهْتُ إلَى عَبْدٍ مِنْ عَبِيدِي مُصِيبَةً فِي بَدَنِهِ أَوْ فِي وَلَدِهِ أَوْ فِي مَالِهِ فَاسْتَقْبَلَهَا بِصَبْرٍ جَمِيلٍ اسْتَحْيَيْتُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنْ أَنْصِبَ لَهُ مِيزَانًا أَوْ أَنْشُرَ لَهُ دِيوَانًا» وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَرْضَى لِعَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ إذَا ذَهَبَ بِصَفِيِّهِ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ فَصَبَرَ وَاحْتَسَبَ بِثَوَابٍ لَهُ دُونَ الْجَنَّةِ» وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «يَقُولُ اللَّهُ مَا لِعَبْدِي الْمُؤْمِنِ عِنْدِي جَزَاءٌ إذَا قَبَضْتُ صَفِيَّهُ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا ثَمَّ احْتَسَبَهُ إلَّا الْجَنَّةُ» وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «مَا مِنْ النَّاسِ مِنْ مُسْلِمٍ يُتَوَفَّى لَهُ ثَلَاثٌ لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ إلَّا أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ إيَّاهُمْ» وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «مَا مِنْ مُسْلِمَيْنِ يَمُوتُ بَيْنَهُمَا ثَلَاثَةُ أَوْلَادٍ لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ إلَّا أَدْخَلَهُمَا اللَّهُ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ إيَّاهُمْ الْجَنَّةَ فَيُقَالُ لَهُمْ اُدْخُلُوا الْجَنَّةَ فَيَقُولُونَ حَتَّى يَدْخُلَ آبَاؤُنَا فَيُقَالُ لَهُمْ اُدْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ» وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «مَا مِنْكُنَّ امْرَأَةٌ تُقَدِّمُ بَيْنَ يَدَيْهَا ثَلَاثَةً مِنْ وَلَدِهَا إلَّا كَانُوا لَهَا حِجَابًا مِنْ النَّارِ قَالَتْ امْرَأَةٌ وَاثْنَيْنِ قَالَ وَاثْنَيْنِ» .

وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «مَنْ احْتَسَبَ ثَلَاثَةً مِنْ صُلْبِهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ قَالَتْ امْرَأَةٌ وَاثْنَانِ قَالَ وَاثْنَانِ» وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «مَنْ قُدِّمَ لَهُ ثَلَاثَةٌ لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ كَانُوا لَهُ حِصْنًا حَصِينًا مِنْ النَّارِ وَاثْنَيْنِ وَوَاحِدٌ وَلَكِنْ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ صَدْمَةٍ» وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «لَا يَمُوتُ لِمُسْلِمٍ ثَلَاثَةٌ مِنْ الْوَلَدِ فَيَلِجَ النَّارَ إلَّا تَحِلَّةَ الْقَسَمِ» وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «لَا يَمُوتُ لِإِحْدَاكُنَّ ثَلَاثَةٌ مِنْ الْوَلَدِ فَتَحْتَسِبَهُمْ إلَّا دَخَلَتْ الْجَنَّةَ وَاثْنَانِ» وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنَّ السُّقْطَ لَيَجُرُّ أُمَّهُ بِسُرَرِهِ إلَى الْجَنَّةِ إذَا

ص: 19

احْتَسَبَتْهُ» وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «لَسِقْطٌ أُقَدِّمُهُ بَيْنَ يَدَيَّ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ فَارِسٍ أُخَلِّفُهُ خَلْفِي» وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «إنَّ أَبْغَضَ الْعِبَادِ إلَى اللَّهِ الْعِفْرِيتُ النِّفْرِيتُ الَّذِي لَمْ يُرْزَأْ أَيْ يُصَبْ فِي مَالٍ وَلَا وَلَدٍ» وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «بَخٍ بَخٍ مَا أَثْقَلَهُنَّ فِي الْمِيزَانِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ وَالْوَلَدُ الصَّالِحُ يُتَوَفَّى لِلْمَرْءِ الْمُسْلِمِ فَيَحْتَسِبُهُ» .

وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «إنَّ الرَّجُلَ مِنْ أُمَّتِي لَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ فَيَشْفَعُ لِأَكْثَرَ مِنْ مُضَرَ وَإِنَّ الرَّجُلَ مِنْ أُمَّتِي لَيَعْظُمُ لِلنَّارِ حَتَّى يَكُونَ أَحَدَ زَوَايَاهَا وَمَا مِنْ مُسْلِمَيْنِ يُقَدِّمَانِ أَرْبَعَةً مِنْ وَلَدَيْهِمَا إلَّا أَدْخَلَهُمَا اللَّهُ الْجَنَّةِ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ قَالُوا أَوْ ثَلَاثَةً قَالَ أَوْ ثَلَاثَةً قَالُوا أَوْ اثْنَيْنِ قَالَ أَوْ اثْنَيْنِ» وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «تَعَسُّرُ نَزْعِ الصَّبِيِّ تَمْحِيصٌ لِلْوَالِدَيْنِ» وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «لِامْرَأَةٍ قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدَّمْتُ ثَلَاثَةً مِنْ الْوَلَدِ فَقَالَ لَهَا صلى الله عليه وسلم لَقَدْ احْتَظَرْت بِحِظَارٍ شَدِيدٍ مِنْ النَّارِ» وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «مَا مِنْ امْرَأَيْنِ مُسْلِمَيْنِ هَلَكَ بَيْنَهُمَا وَلَدَانِ أَوْ ثَلَاثَةٌ فَاحْتَسَبَا وَصَبَرَا فَيَرَيَانِ النَّارَ أَبَدًا» وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «مَا مِنْ مُسْلِمَيْنِ يَمُوتُ لَهُمَا ثَلَاثَةٌ مِنْ أَوْلَادِهِمَا لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ إلَّا كَانُوا لَهُمَا حِصْنًا حَصِينًا مِنْ النَّارِ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَإِنْ كَانَا اثْنَيْنِ قَالَ وَإِنْ كَانَا اثْنَيْنِ قَالُوا وَإِنْ كَانَ وَاحِدًا قَالَ وَإِنْ كَانَ وَاحِدًا وَلَكِنْ إنَّمَا ذَاكَ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى» وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «مَنْ أُصِيبَ لَهُ وَلَدَانِ أَوْ ثَلَاثَةٌ لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ فَاحْتَسَبَهُمْ كَانُوا لَهُ سِتْرًا مِنْ النَّارِ» .

وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «مَنْ دَفَنَ ثَلَاثَةً مِنْ الْوَلَدِ فَصَبَرَ عَلَيْهِمْ وَاحْتَسَبَهُمْ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ وَمَنْ دَفَنَ اثْنَيْنِ فَصَبَرَ عَلَيْهِمَا وَاحْتَسَبَهُمَا وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ وَمَنْ دَفَنَ وَاحِدًا فَصَبَرَ وَاحْتَسَبَ كَانَتْ لَهُ الْجَنَّةُ» وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «مَنْ قَدَّمَ ثَلَاثَةً لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ كَانُوا لَهُ حِصْنًا حَصِينًا مِنْ النَّارِ قَالَ أَبُو ذَرٍّ قَدَّمْتُ اثْنَيْنِ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ وَاثْنَيْنِ قَالَ أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ قَدَّمْتُ وَاحِدًا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ وَوَاحِدًا وَلَكِنَّ ذَاكَ فِي أَوَّلِ صَدْمَةٍ» وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «مَنْ قَدَّمَ شَيْئًا مِنْ وَلَدِهِ صَابِرًا مُحْتَسِبًا حَجَبُوهُ بِإِذْنِ اللَّهِ مِنْ النَّارِ» وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «مَنْ كَانَ لَهُ فَرَطَانِ مِنْ أُمَّتِي أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ قَالَتْ عَائِشَةُ فَمَنْ كَانَ لَهُ فَرَطٌ قَالَ وَمَنْ كَانَ لَهُ فَرَطٌ يَا مُوَفَّقَةُ قَالَتْ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فَرَطٌ قَالَ فَأَنَا فَرَطُ أُمَّتِي لَمْ يُصَابُوا بِمِثْلِي» .

وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «مَنْ مَاتَ لَهُ ثَلَاثَةٌ مِنْ الْوَلَدِ لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ لَمْ يَرِدْ النَّارَ إلَّا عَابِرَ سَبِيلٍ يَعْنِي الْجَوَازَ عَلَى الصِّرَاطِ» وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «يَا عُثْمَانُ أَمَا تَرْضَى بِأَنَّ لِلْجَنَّةِ ثَمَانِيَةَ أَبْوَابٍ وَلِلنَّارِ سَبْعَةَ أَبْوَابٍ لَا تَنْتَهِي إلَى بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ إلَّا وَجَدْتَ ابْنَك قَائِمًا عِنْدَهُ آخِذًا بِحُجْزَتِك يَشْفَعُ لَك عِنْدَ رَبِّك قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلَنَا فِي فَرَطِنَا مَا لِعُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ قَالَ نَعَمْ لِمَنْ صَبَرَ وَاحْتَسَبَ» وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «لَأَنْ أُقَدِّمَ سِقْطًا أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ مِائَةِ مُسْتَتَمٍّ» .

وَأَمَّا الصَّبْرُ عَلَى الْمَصَائِبِ مُطْلَقًا فَفِيهِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ أَيْضًا مِنْهَا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «إذَا أُصِيبَ أَحَدُكُمْ بِمُصِيبَةٍ فَلْيَذْكُرْ مُصِيبَتَهُ بِي فَإِنَّهَا مِنْ أَعْظَمِ الْمَصَائِبِ» وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «مَا مِنْ أَحَدٍ أُصِيبَ بِمُصِيبَةٍ فَاسْتَرْجَعَ إلَّا اسْتَوْجَبَ مِنْ اللَّهِ ثَلَاثَ خِصَالٍ كُلُّ خَصْلَةٍ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ يَعْنِي {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: 157] » وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «مَا مِنْ امْرِئٍ تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ تُحْزِنُهُ فَيُرَجِّعُ فَيَقُولُ إنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ إلَّا قَالَ اللَّهُ عز وجل أَوْجَعْت قَلْبَ عَبْدِي فَصَبَرَ وَاحْتَسَبَ اجْعَلُوا ثَوَابَهُ مِنْهَا الْجَنَّةَ وَمَا ذَكَرَ مُصِيبَتَهُ فَرَجَّعَ إلَّا جَدَّدَ اللَّهُ لَهُ أَجْرَهَا» وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «مَا مِنْ عَبْدٍ يُصَابُ بِمُصِيبَةٍ فَيَقُولُ إنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ اللَّهُمَّ عِنْدَك احْتَسَبْت مُصِيبَتِي فَأْجُرْنِي فِيهَا وَاعْقُبْنِي مِنْهَا خَيْرًا إلَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ ذَلِكَ» وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «مَا مِنْ عَبْدٍ يُصَابُ بِمُصِيبَةٍ فَيَفْزَعُ إلَى مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ قَوْلِهِ إنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ اللَّهُمَّ أْجُرْنِي فِي مُصِيبَتِي هَذِهِ وَعَوِّضْنِي مِنْهَا خَيْرًا إلَّا آجَرَهُ اللَّهُ فِي كُلِّ مُصِيبَةٍ وَكَانَ قَمِنًا أَيْ حَقِيقًا مِنْ أَنْ يُعَوِّضَهُ اللَّهُ مِنْهَا خَيْرًا» .

وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «لِيَسْتَرْجِعْ أَحَدُكُمْ فِي كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى فِي شِسْعِ نَعْلِهِ فَإِنَّهَا مِنْ الْمَصَائِبِ» وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «مَنْ اسْتَرْجَعَ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ جَبَرَ اللَّهُ مُصِيبَتَهُ وَأَحْسَنَ

ص: 20

عُقْبَاهُ وَجَعَلَ لَهُ خَلَفًا صَالِحًا» وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «مَنْ أَصَابَتْهُ مُصِيبَةٌ فَقَالَ إذَا ذَكَرَهَا إنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ جَدَّدَ اللَّهُ لَهُ مِنْ أَجْرِهَا مِثْلَ مَا كَانَ لَهُ يَوْمَ إصَابَتِهِ» وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «أُعْطِيت أُمَّتِي شَيْئًا لَمْ يُعْطَهُ أَحَدٌ مِنْ الْأُمَمِ أَنْ يَقُولُوا عِنْدَ الْمُصِيبَةِ إنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ» وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «أَيُّهَا النَّاسُ مَنْ أُصِيبَ مِنْكُمْ بِمُصِيبَةٍ مِنْ بَعْدِي فَلْيَتَعَزَّ بِمُصِيبَتِهِ بِي عَنْ مُصِيبَتِهِ الَّتِي تُصِيبُهُ فَإِنَّهُ لَنْ يُصَابَ أَحَدٌ مِنْ أُمَّتِي مِنْ بَعْدِي بِمِثْلِ مُصِيبَتِهِ بِي» وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «الْمُصِيبَةُ تُبَيِّضُ وَجْهَ صَاحِبِهَا يَوْمَ تَسْوَدُّ الْوُجُوهُ» وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «الْمَصَائِبُ وَالْأَحْزَانُ فِي الدُّنْيَا جَزَاءٌ» وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «ثَمَّ إذَا أَصَابَتْهُ مُصِيبَةٌ احْتَسَبَ وَصَبَرَ وَإِذَا أَصَابَهُ خَيْرٌ حَمِدَ اللَّهَ وَشَكَرَ إنَّ الْمُسْلِمَ يُؤْجَرُ فِي كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى فِي اللُّقْمَةِ يَرْفَعُهَا إلَى فِيهِ» .

وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «عِظَمُ الْأَجْرِ عِنْدَ عِظَمِ الْمُصِيبَةِ وَإِذَا أَحَبَّ اللَّهُ قَوْمًا ابْتَلَاهُمْ» وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «إذَا أَحَبَّ اللَّهُ الْعَبْدَ أَلْصَقَ بِهِ الْبَلَاءَ» وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «إنَّ اللَّهَ إذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلَاهُمْ فَمَنْ صَبَرَ فَلَهُ الصَّبْرُ وَمَنْ جَزِعَ فَلَهُ الْجَزَعُ» وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «مَا يَزَالُ الْبَلَاءُ بِالْمُؤْمِنِ وَالْمُؤْمِنَةِ فِي نَفْسِهِ وَوَلَدِهِ وَمَالِهِ حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ وَمَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ» وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «أَشَدُّ النَّاسِ بَلَاءً الْأَنْبِيَاءُ ثَمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ يُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسْبِ دِينِهِ فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ وَإِنْ كَانَ فِي دَيْنِهِ رِقَّةٌ اُبْتُلِيَ عَلَى قَدْرِ دِينِهِ فَمَا يَبْرَحُ الْبَلَاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ وَمَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ» وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «أَشَدُّ النَّاسِ بَلَاءً فِي الدُّنْيَا نَبِيٌّ أَوْ صَفِيٌّ» وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «أَشَدُّ النَّاسِ بَلَاءً الْأَنْبِيَاءُ ثَمَّ الصَّالِحُونَ ثَمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ» .

وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «أَشَدُّ النَّاسِ بَلَاءً الْأَنْبِيَاءُ ثَمَّ الصَّالِحُونَ وَقَدْ كَانَ أَحَدُهُمْ يُبْتَلَى بِالْفَقْرِ حَتَّى مَا يَجِدُ إلَّا الْعَبَاءَةَ يَحْوِيهَا فَيَلْبَسُهَا فَيُبْتَلَى بِالْقَمْلِ حَتَّى يَقْتُلَهُ وَلَأَحَدُهُمْ كَانَ أَشَدَّ فَرَحًا بِالْبَلَاءِ مِنْ أَحَدِكُمْ بِالْعَطَاءِ» وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «أَشَدُّ النَّاسِ بَلَاءً الْأَنْبِيَاءُ ثَمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثَمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» .

وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «أَشَدُّ النَّاسِ بَلَاءً الْأَنْبِيَاءُ ثَمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ يُبْتَلَى النَّاسُ عَلَى قَدْرِ دِينِهِمْ فَمَنْ ثَخُنَ دَيْنُهُ اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ وَمَنْ ضَعُفَ دَيْنُهُ ضَعُفَ بَلَاؤُهُ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيُصِيبُهُ الْبَلَاءُ حَتَّى يَمْشِيَ فِي النَّاسِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ» وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «إنَّا مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ يُضَاعَفُ عَلَيْنَا الْبَلَاءُ» وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «إنَّ الرَّجُلَ يَكُونُ لَهُ الْمَنْزِلَةُ عِنْدَ اللَّهِ فَمَا يَبْلُغُهَا بِعَمَلٍ فَلَا يَزَالُ اللَّهُ يَبْتَلِيهِ بِمَا يَكْرَهُ حَتَّى يُبَلِّغَهُ إيَّاهَا» .

وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «إذَا كَثُرَتْ ذُنُوبُ الْعَبْدِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْ الْعَمَلِ مَا يُكَفِّرُهَا ابْتَلَاهُ اللَّهُ بِالْحُزْنِ لِيُكَفِّرَهَا» وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «إذَا قَصَّرَ الْعَبْدُ فِي الْعَمَلِ ابْتَلَاهُ اللَّهُ بِالْهَمِّ» وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «مَثَلُ الْمُؤْمِنِ كَمَثَلِ الزَّرْعِ لَا تَزَالُ الرِّيحُ تَفِيهِ أَيْ تُمِيلُهُ وَلَا يَزَالُ الْمُؤْمِنُ يُصِيبُهُ الْبَلَاءُ وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ كَمَثَلِ شَجَرَةِ الْأَرْزِ لَا تَهْتَزُّ حَتَّى تُحْتَصَدَ» وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «إنَّ اللَّهَ إذَا أَرَادَ بِعَبْدِهِ الْخَيْرَ عَجَّلَ لَهُ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدِهِ الشَّرَّ أَمْسَكَ عَنْهُ بِذَنْبِهِ حَتَّى يُوَافِيَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصِيبُهُ أَذَى شَوْكَةٍ فَمَا فَوْقَهَا إلَّا حَطَّ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ سَيِّئَاتِهِ كَمَا تَحُطُّ الشَّجَرَةُ وَرَقَهَا» وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُشَاكُ شَوْكَةً فَمَا فَوْقَهَا إلَّا كُتِبَ لَهُ بِهَا دَرَجَةٌ وَمُحِيَتْ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةٌ» وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «إنَّ الصَّالِحِينَ لَيُشَدَّدُ عَلَيْهِمْ فَإِنَّهُ لَا يُصِيبُ مُؤْمِنًا نَكْبَةٌ مِنْ شَوْكَةٍ فَمَا فَوْقَ ذَلِكَ إلَّا حُطَّتْ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةٌ وَرُفِعَ لَهُ بِهَا دَرَجَةٌ» .

وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «قَارِبُوا وَسَدِّدُوا فَفِي كُلِّ مَا يُصَابُ بِهِ الْمُسْلِمُ كَفَّارَةٌ حَتَّى النَّكْبَةُ يُنْكَبُهَا أَوْ الشَّوْكَةُ يُشَاكُهَا» وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ نَصَبٍ وَلَا وَصَبٍ وَلَا هَمٍّ وَلَا حُزْنٍ وَلَا أَذًى وَلَا غَمٍّ حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا إلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ» وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «إنَّ اللَّهَ يَتَعَاهَدُ عَبْدَهُ الْمُؤْمِنَ بِالْبَلَاءِ كَمَا يَتَعَاهَدُ الْوَالِدُ وَلَدَهُ بِالْخَيْرِ وَإِنَّ اللَّهَ لَيَحْمِي عَبْدَهُ الْمُؤْمِنَ مِنْ الدُّنْيَا كَمَا يَحْمِي الْمَرِيضَ أَهْلُهُ الطَّعَامَ» وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «مَا مِنْ عَبْدٍ اُبْتُلِيَ بِبَلِيَّةٍ فِي الدُّنْيَا إلَّا بِذَنْبٍ وَاَللَّهُ أَكْرَمُ وَأَعْظَمُ عَفْوًا مِنْ أَنْ يَسْأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ الذَّنْبِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم -

ص: 21

«إنَّ اللَّهَ لَيَبْتَلِي الْمُؤْمِنَ وَمَا يَبْتَلِيهِ إلَّا لِكَرَامَتِهِ عَلَيْهِ» وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ مُسْتَكْمِلِ الْإِيمَانِ مَنْ لَمْ يَعُدَّ الْبَلَاءَ نِعْمَةً وَالرَّخَاءَ مُصِيبَةً» جَعَلَنَا اللَّهُ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنَيْنِ وَأَلْحَقَنَا بِأَحْبَابِنَا مِنْ الصِّدِّيقِينَ وَالصَّالِحِينَ فِي دَارِ كَرَامَتِهِ مَعَ دَوَامِ رِضَاهُ وَغَايَةِ نِعْمَتِهِ إنَّهُ الْجَوَادُ الْكَرِيمُ الرَّءُوفُ الرَّحِيمُ.

(وَسُئِلَ) نَفَعَ اللَّهُ بِهِ عَنْ مَعْنَى حُسْنِ الظَّنِّ بِاَللَّهِ تَعَالَى هَلْ الْمُرَادُ بِهِ أَنْ يَظُنَّ الْعَبْدُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُعْطِيهِ الْخَيْرَ وَيُوَفِّقُهُ لَهُ أَوْ يَحْصُلُ مُرَادُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ أَوْ مُجَرَّدُ أَنَّ اللَّهَ يَرْحَمُهُ فَلَوْ ظَنَّ لَمَّا رَأَى أَحْوَالَهُ مُتَفَرِّقَةً غَيْرَ مُنْتَظِمَةٍ أَنَّهُ لَا يُفْعَلُ بِي إلَّا كَذَا وَكَذَا فَهَلْ هَذَا مِنْ عَدَمِ حُسْنِ الظَّنِّ بِاَللَّهِ تَعَالَى أَمْ لَا وَمَا مُؤَدَّاهُ الْحَقِيقِيُّ إذَا أُطْلِقَ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ ذَكَرْتُ فِي كِتَابِي الزَّوَاجِرِ عَنْ اقْتِرَافِ الْكَبَائِرِ مَا يُعْلَمُ بِهِ الْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ وَعِبَارَتُهُ الْكَبِيرَةُ الْحَادِيَةُ وَالثَّانِيَةُ وَالْأَرْبَعُونَ سُوءُ الظَّنِّ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَالْقُنُوطُ مِنْ رَحْمَتِهِ أَخْرَجَ الدَّيْلَمِيُّ وَابْنُ مَرْدُوَيْهِ فِي تَفْسِيرِهِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ «أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ سُوءُ الظَّنِّ بِاَللَّهِ عز وجل» وَقَالَ تَعَالَى عَزَّ قَائِلًا {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلا الضَّالُّونَ} [الحجر: 56] .

(تَنْبِيهٌ) عَدُّ هَذَيْنِ كَبِيرَتَيْنِ مُغَايِرَتَيْنِ لِلْيَأْسِ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ هُوَ مَا وَقَعَ لِلْجَلَالِ الْبُلْقِينِيُّ وَغَيْرِهِ وَكَأَنَّهُمْ لَمْ يَنْظُرُوا إلَى مَا بَيْنَ الثَّلَاثَةِ مِنْ التَّلَازُمِ وَمِنْ ثَمَّ قَالَ أَبُو زُرْعَةَ وَفِي مَعْنَى الْآيِسِ الْقَنُوطُ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَبْلَغُ مِنْهُ لِلتَّرَقِّي إلَيْهِ فِي قَوْله تَعَالَى {وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ} [فصلت: 49] اهـ وَالظَّاهِرُ أَيْضًا أَنَّ سُوءَ الظَّنِّ أَبْلَغُ مِنْهُمَا لِأَنَّهُ يَأْسٌ وَقُنُوطٌ وَزِيَادَةُ التَّجْوِيزِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى أَشْيَاءَ لَا تَلِيقُ بِكَرَمِهِ وُجُودِهِ.

وَفِي تَفْسِيرِ ابْنِ الْمُنْذِرِ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ قَالَ أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ الْأَمْنُ مِنْ مَكْرِ اللَّهُ وَالْيَأْسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ وَالْقُنُوطُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ وَفِي تَفْسِيرِ ابْنِ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ نَحْوُهُ وَقُلْت قَبْلَ ذَلِكَ الْكَبِيرَةُ الْأَرْبَعُونَ الْيَأْسُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ تَعَالَى {إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87] وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] وَقَالَ تَعَالَى {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53] وَقَالَ تَعَالَى {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف: 156] وَفِي الْحَدِيثِ «إنَّ لِلَّهِ تَعَالَى مِائَةَ رَحْمَةٍ كُلُّ رَحْمَةٍ مِنْهَا طِبَاقُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَنْزَلَ مِنْهَا رَحْمَةً وَاحِدَةً بَيْنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالْبَهَائِمِ فَبِهَا يَتَعَاطَفُونَ وَبِهَا يَتَرَاحَمُونَ وَبِهَا تَعْطِفُ الطَّيْرُ وَالْوُحُوشُ عَلَى أَوْلَادِهَا وَأَخَّرَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ رَحْمَةً يَرْحَمُ بِهَا عِبَادَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» .

وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ «قَالَ اللَّهُ تَعَالَى يَا ابْنَ آدَمَ إنَّك مَا دَعَوْتنِي وَرَجَوْتنِي غَفَرْت لَك عَلَى مَا كَانَ مِنْك وَلَا أُبَالِي يَا ابْنَ آدَمَ لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُك عَنَانَ السَّمَاءَ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتنِي غَفَرْت لَك يَا ابْنَ آدَمَ لَوْ أَتَيْتنِي بِقُرَابِ الْأَرْضِ - أَيْ بِضَمِّ الْقَافِ وَيَجُوزُ كَسْرُهَا أَيْ قَرِيبِ مِلْئِهَا خَطَايَا - ثُمَّ لَقِيتنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا لَأَتَيْتُك بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً» وَعَنْ أَنَسٍ بِسَنَدٍ حَسَنٍ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَى شَابٍّ وَهُوَ فِي الْمَوْتِ فَقَالَ كَيْفَ تَجِدُك قَالَ أَرْجُو اللَّهَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَأَنِّي أَخَافُ ذُنُوبِي فَقَالَ صلى الله عليه وسلم لَا يَجْتَمِعَانِ فِي قَلْبِ عَبْدٍ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْطِنِ إلَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ مَا يَرْجُو وَأَمَّنَهُ مِمَّا يَخَافُ» .

وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ «إنْ شِئْتُمْ أَنْبَأْتُكُمْ مَا أَوَّلُ مَا يَقُولُ اللَّهُ عز وجل لِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمَا أَوَّلُ مَا يَقُولُونَ لَهُ قُلْنَا نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ إنَّ اللَّهَ عز وجل يَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ: هَلْ أَحْبَبْتُمْ لِقَائِي؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ يَا رَبَّنَا، فَيَقُولُ: لِمَ، فَيَقُولُونَ: رَجَوْنَا عَفْوَك وَمَغْفِرَتَك، فَيَقُولُ اللَّهُ: قَدْ وَجَبَتْ لَكُمْ مَغْفِرَتِي» وَالشَّيْخَانِ «قَالَ اللَّهُ عز وجل أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي وَأَنَا مَعَهُ حَيْثُ يَذْكُرُنِي» الْحَدِيثَ.

وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ حُسْنُ الظَّنِّ مِنْ حُسْنِ الْعِبَادَةِ» وَالتِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ «إنَّ حُسْنَ الظَّنِّ بِاَللَّهِ مِنْ حُسْنِ الْعِبَادَةِ» وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ «سَمِعَ النَّبِيَّ قَبْلَ مَوْتِهِ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ يَقُولُ لَا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إلَّا وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِاَللَّهِ عز وجل» وَأَحْمَدُ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْبَيْهَقِيُّ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ «قَالَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي

ص: 22

إنْ ظَنَّ خَيْرًا فَلَهُ وَإِنْ ظَنَّ شَرًّا فَلَهُ» وَالْبَيْهَقِيُّ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ أَمَرَ اللَّهُ عز وجل بِعَبْدٍ إلَى النَّارِ فَلَمَّا وَقَفَ عَلَى شَفَتِهَا الْتَفَتَ فَقَالَ أَمَا وَاَللَّهِ يَا رَبِّ إنْ كَانَ ظَنِّي بِك لَحَسَنٌ فَقَالَ اللَّهُ عز وجل رُدُّوهُ أَنَا عِنْدَ حُسْنِ ظَنِّ عَبْدِي بِي» .

(تَنْبِيهٌ) عَدُّ هَذَا كَبِيرَةً هُوَ مَا أَطْبَقُوا عَلَيْهِ وَهُوَ ظَاهِرٌ لِمَا فِيهِ مِنْ الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ الَّذِي عَلِمْته مِمَّا ذُكِرَ بَلْ فِي التَّصْرِيحِ الَّذِي مَرَّ آنِفًا أَنَّهُ مِنْ الْكَبَائِرِ بَلْ جَاءَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ اهـ مَا فِي الزَّوَاجِرِ وَبِهِ يُعْلَمُ أَنَّ سُوءَ الظَّنِّ قَدْ يُرَادُ بِهِ الْيَأْسُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ وَفَسَّرَ الْفُقَهَاءُ خَبَرَ مُسْلِمٍ السَّابِقِ «لَا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إلَّا وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِاَللَّهِ تَعَالَى» بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَنْ يَظُنَّ أَنَّهُ يَرْحَمُهُ وَيَعْفُو عَنْهُ وَإِحْسَانُ الظَّنِّ بِاَللَّهِ تَعَالَى مَنْدُوبٌ قَالُوا وَيُنْدَبُ لِلْحَاضِرِينَ أَنْ يُحْسِنُوا ظَنَّ الْمُحْتَضِرِ وَيُطْمِعُوهُ فِي رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَبَحَثَ الْأَذْرَعِيُّ وُجُوبَهُ عَلَيْهِمْ إذَا رَأَوْا مِنْهُ أَمَارَاتِ الْيَأْسِ وَالْقُنُوطِ أَخْذًا مِنْ قَاعِدَةِ النَّصِيحَةِ الْوَاجِبَةِ وَعِبَارَةُ شَرْحِي لِلْإِرْشَادِ بَعْدَ ذِكْرِ ذَلِكَ قِيلَ وَالْأَوْلَى لِلصَّحِيحِ تَغْلِيبُ خَوْفِهِ عَلَى رَجَائِهِ وَالْأَظْهَرُ فِي الْمَجْمُوعِ اسْتِوَاؤُهُمَا لِأَنَّ الْغَالِبَ فِي الْقُرْآنِ ذِكْرُ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ مَعًا.

وَقَالَ الْغَزَالِيُّ إنْ أَمِنَ دَاءَ الْقُنُوطِ فَالرَّجَاءُ أَوْلَى أَوْ أَمِنَ الْمَكْرَ فَالْخَوْفُ أَوْلَى أَيْ وَإِنْ لَمْ يَغْلِبْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا اسْتَوَيَا وَيَنْبَغِي حَمْلُ كَلَامِ الْمَجْمُوعِ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ وَقَضِيَّةُ كَلَامِهِ أَيْ الْإِرْشَادِ كَأَصْلِهِ وَالرَّوْضَةِ وَالْمِنْهَاجِ أَنَّ الْمَرِيضَ الَّذِي لَيْسَ بِمُحْتَضِرٍ كَالصَّحِيحِ وَالْأَوْجَهُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ كَلَامُ الْمَجْمُوعِ مِنْ أَنَّ الْمَرِيضَ غَيْرَ الْمُحْتَضِرِ مِثْلُهُ فِي ذَلِكَ وَعِبَارَتُهُ اتَّفَقَ الْأَصْحَابُ وَغَيْرُهُمْ عَلَى أَنَّهُ يُسَنُّ لِلْمَرِيضِ وَمَنْ حَضَرَتْهُ أَسْبَابُ الْمَوْتِ وَمُقَدِّمَاتُهُ أَنْ يَكُونَ حَسَنَ الظَّنِّ بِاَللَّهِ تَعَالَى انْتَهَتْ عِبَارَةُ شَرْحِ الْإِرْشَادِ وَبِهَا مَعَ مَا سَبَقَ عَنْ الزَّوَاجِرِ يُعْلَمُ أَنَّ الْكَلَامَ فِي مَقَامَيْنِ أَحَدُهُمَا شَخْصٌ يَجُوزُ وُقُوعُ الرَّحْمَةِ لَهُ وَالْعَذَابُ فَهَذَا هُوَ الَّذِي تَعَرَّضَ لَهُ الْفُقَهَاءُ فَإِنْ كَانَ مَرِيضًا نُدِبَ لَهُ تَغْلِيبُ جَانِبِ الرَّجَاءِ وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا اخْتَلَفُوا فِيهِ كَمَا رَأَيْتَ. ثَانِيهِمَا فِي شَخْصٍ آيِسٍ مِنْ وُقُوعِ شَيْءٍ مِنْ أَنْوَاعِ الرَّحْمَةِ لَهُ مَعَ إسْلَامِهِ وَهَذَا هُوَ الَّذِي كَلَامُ الزَّوَاجِرِ فِيهِ فَهَذَا الْيَأْسُ كَبِيرَةٌ اتِّفَاقًا لِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ تَكْذِيبَ النُّصُوصِ الْقَطْعِيَّةِ الَّتِي أَشَرْنَا إلَيْهَا.

ثُمَّ هَذَا الْيَأْسُ قَدْ تَنْضَمُّ إلَيْهِ حَالَةٌ أَشَدُّ مِنْهُ فِي التَّصْمِيمِ عَلَى عَدَمِ وُقُوعِ الرَّحْمَةِ لَهُ وَهُوَ الْقُنُوطُ بِحَسْبِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ سِيَاقُ فَهُوَ يَئُوسٌ قَنُوطٌ وَتَارَةً يَنْضَمُّ إلَيْهِ أَنَّهُ مَعَ عَدَمِ رَحْمَتِهِ لَهُ يُشَدِّدُ عَذَابَهُ كَالْكُفَّارِ وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِسُوءِ الظَّنِّ هُنَا فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ مُهِمٌّ وَقَدْ عُلِمَ مِمَّا قَدَّمْته عَنْ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْمُرَادَ بِإِحْسَانِ الظَّنِّ الْمَنْدُوبِ أَنَّهُ يَظُنُّ أَنَّ اللَّهَ يَرْحَمُهُ وَمِنْ الرَّحْمَةِ أَنَّ اللَّهَ يُوَفِّقُهُ لِلْخَيْرِ وَأَنْ يُعْطِيَهُ مَا يَسْأَلُ مِنْهُ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالدُّنْيَا أَوْ الْآخِرَةِ وَإِنَّ الْإِنْسَانَ إذَا رَأَى أَحْوَالَهُ غَيْرَ جَارِيَةٍ عَلَى سُنَنِ الِاسْتِقَامَةِ فَاشْتَدَّ الْخَوْفُ عِنْدَهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ وَخَشِيَ أَنْ يُعَاقَبَ عَلَى قَبَائِحِهِ مَعَ تَجْوِيزِهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ يَعْفُو عَنْهُ وَيَغْفِرُ لَهُ لَمْ يَكُنْ هَذَا مِنْ سُوءِ الظَّنِّ بَلْ هُوَ مِنْ الْحَالَاتِ الْكَامِلَةِ وَالْأَحْوَالِ الْفَاضِلَةِ فَقَدْ قَالَ صلى الله عليه وسلم «أَنَا أَعْلَمُكُمْ بِاَللَّهِ وَأَخْوَفُكُمْ مِنْهُ» .

وَوَرَدَ عَنْ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَبَقِيَّةِ أَئِمَّةِ السَّلَفِ مِنْ أَنْوَاعِ الْخَوْفِ مَا يُفَتِّتُ الْكَبِدَ وَيُذِيبُ الْجِلْدَ وَلِذَلِكَ جَرَى جَمَاعَةٌ أَجِلَّاءُ عَلَى تَرْجِيحِ جَانِبِ الْخَوْفِ عَلَى جَانِبِ الرَّجَاءِ مُطْلَقًا لِأَنَّهُ مَا دَامَ تَرْجِيحُهُ بَاقِيًا كَانَ حَامِلًا عَلَى اجْتِنَابِ الْمَعَاصِي وَغَيْرِهَا مِنْ سَائِرِ مَا لَا يَنْبَغِي بِخِلَافِ تَرْجِيحِ جَانِبِ الرَّجَاءِ فَإِنَّهُ غَالِبًا يَحْمِلُ صَاحِبَهُ عَلَى اقْتِرَافِ النَّقَائِصِ خَلَّصَنَا اللَّهُ مِنْهَا وَوَفَّقَنَا لِطَاعَتِهِ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ وَأَدَامَ عَلَيْنَا رِضَاهُ فِي هَذِهِ الدَّارِ إلَى أَنْ نَلْقَاهُ آمِينَ.

(وَسُئِلَ) نَفَعَ اللَّهُ بِهِ بِمَا لَفْظُهُ اُحْتِيجَ لِسَدِّ فَتْحِ لَحْدِ الْقَبْرِ وَلَمْ يُوجَدْ إلَّا لَبِنٌ لِغَائِبٍ وَمَسْجِدٌ فَمَا الَّذِي يُؤْخَذُ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ مَتَى تَوَقَّفَ الدَّفْنُ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ جَازَ أَخْذُهُ مِنْ مَالِ الْغَائِبِ لِأَنَّ الْمَيِّتَ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ كَانَ هَذَا الْمَالُ مِنْ جُمْلَةِ مَا تَعَلَّقَ بِهِ فَرْضُ الْكِفَايَةِ الَّذِي يَعُمُّ جَمِيعَ الْمُوسِرِينَ وَإِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ كَانَ كَأَكْلِ الْمُضْطَرِّ طَعَامَ الْغَائِبِ وَيَضْمَنُهُ وَيُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِهِمْ فِي الْمُضْطَرِّ إذَا وَجَدَ مَأْكُولًا لِغَائِبٍ وَلَحْمَ مَيِّتَةٍ أَوْ صَيْدٍ وَهُوَ مُحْرِمٌ مَا قُلْنَاهُ هُنَا مِنْ أَنَّهُ يَجِبُ تَقْدِيمُ مَالِ الْغَائِبِ وَلَا يَجُوزُ الْأَخْذُ مِنْ جِدَارِ الْمَسْجِدِ وَإِنْ كَانَ خَرَابًا

ص: 23

لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَمَلُّك بَعْضِهِ وَمَالُ الْغَائِبِ قَدْ عَلِمْت أَنَّهُ يُمَلَّكُ قَهْرًا عَلَيْهِ لِلْمُضْطَرِّ بِبَدَلِهِ وَإِذَا قَدِمَ الْغَائِبُ وَوَجَدَ لِلْمَيِّتِ تَرِكَةً فَلَهُ مُطَالَبَةُ الْوَارِثِ بِرَدِّ لَبِنِهِ فَيَجِبُ نَبْشُ الْقَبْرِ وَإِعْطَاؤُهُ لَبِنَهُ أَوْ شِرَاءُ غَيْرِهِ إنْ وُجِدَ وَإِلَّا دَفَعَ لَهُ قِيمَتَهُ وَوَاضِحٌ أَنَّ اللَّبِنَ الْمُخْتَلِطَ بِزِبْلٍ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ تَطْهِيرُهُ لَا يُمْكِنُ تَقْوِيمُهُ إذْ لَا يَصِحُّ بَيْعُهُ فَلَا تَجِبُ فِيهِ قِيمَةٌ وَإِنْ وَجَبَ رَدُّهُ كَغَيْرِ الْمُتَمَوَّلِ.

(وَسُئِلَ) أَعَادَ اللَّهُ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِهِ وَبَرَكَاتِ عُلُومِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ عَمَّنْ قَبَرَ وَالِدَهُ أَوْ أُمَّهُ عِنْدَ صَالِحٍ فَهَلْ الْأَوْلَى الْبُدَاءَةُ بِزِيَارَةِ الْأَصْلِ أَوْ الصَّالِحِ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ الَّذِي يَتَّجِهُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ إنْ مَرَّ بِقَبْرِ الصَّالِحِ قَبْلُ بَدَأَ بِهِ وَإِلَّا بَدَأَ بِأَبِيهِ أَوْ أُمِّهِ وَهَذَا أَوْلَى مِنْ إطْلَاقِ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ يَبْدَأُ بِوَالِدِهِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِبِرِّ الْوَالِدَيْنِ وَالْإِحْسَانِ إلَيْهِمَا وَمِنْ ذَلِكَ الْوُقُوفُ عِنْدَ قَبْرِهِمَا وَالدُّعَاءُ لَهُمَا وَتِلَاوَةُ الْقُرْآنِ عَلَى قَبْرِهِمَا.

(وَسُئِلَ) رضي الله عنه عَنْ زِيَارَةِ قُبُورِ الْأَوْلِيَاءِ فِي زَمَنٍ مُعَيَّنٍ مَعَ الرِّحْلَةِ إلَيْهَا هَلْ يَجُوزُ مَعَ أَنَّهُ يَجْتَمِعُ عِنْدَ تِلْكَ الْقُبُورِ مَفَاسِدُ كَثِيرَةٌ كَاخْتِلَاطِ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ وَإِسْرَاجِ السُّرُجِ الْكَثِيرَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ زِيَارَةُ قُبُورِ الْأَوْلِيَاءِ قُرْبَةٌ مُسْتَحَبَّةٌ وَكَذَا الرِّحْلَةُ إلَيْهَا وَقَوْلُ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ لَا تُسْتَحَبُّ الرِّحْلَةُ إلَّا لِزِيَارَتِهِ صلى الله عليه وسلم رَدَّهُ الْغَزَالِيُّ بِأَنَّهُ قَاسَ ذَلِكَ عَلَى مَنْعِ الرِّحْلَةِ لِغَيْرِ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ مَعَ وُضُوحِ الْفَرْقِ فَإِنَّ مَا عَدَا تِلْكَ الْمَسَاجِدَ الثَّلَاثَةَ مُسْتَوِيَةٌ فِي الْفَضْلِ فَلَا فَائِدَةَ فِي الرِّحْلَةِ إلَيْهَا وَأَمَّا الْأَوْلِيَاءُ فَإِنَّهُمْ مُتَفَاوِتُونَ فِي الْقُرْبِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَنَفْعِ الزَّائِرِينَ بِحَسْبِ مَعَارِفِهِمْ وَأَسْرَارِهِمْ فَكَانَ لِلرِّحْلَةِ إلَيْهِمْ فَائِدَةٌ أَيُّ فَائِدَةٍ فَمِنْ ثَمَّ سُنَّتْ الرِّحْلَةُ إلَيْهِمْ لِلرِّجَالِ فَقَطْ بِقَصْدِ ذَلِكَ وَانْعَقَدَ نَذْرُهَا كَمَا بَسَطْت الْكَلَامَ عَلَى ذَلِكَ فِي شَرْحِ الْعُبَابِ بِمَا لَا مَزِيدَ عَلَى حُسْنِهِ وَتَحْرِيرِهِ وَمَا أَشَارَ إلَيْهِ السَّائِلُ مِنْ تِلْكَ الْبِدَعِ أَوْ الْمُحَرَّمَاتِ فَالْقُرُبَاتُ لَا تُتْرَكُ لِمِثْلِ ذَلِكَ بَلْ عَلَى الْإِنْسَانِ فِعْلُهَا وَإِنْكَارُ الْبِدَعِ بَلْ وَإِزَالَتُهَا إنْ أَمْكَنَهُ.

وَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ فِي الطَّوَافِ الْمَنْدُوبِ فَضْلًا عَنْ الْوَاجِبِ أَنَّهُ يُفْعَلُ وَلَوْ مَعَ وُجُودِ النِّسَاءِ وَكَذَا الرَّمَلُ لَكِنْ أَمَرُوهُ بِالْبُعْدِ عَنْهُنَّ فَكَذَا الزِّيَارَة يَفْعَلُهَا لَكِنْ يَبْعُدُ عَنْهُنَّ وَيَنْهَى عَمَّا يَرَاهُ مُحَرَّمًا بَلْ وَيُزِيلُهُ إنْ قَدَرَ كَمَا مَرَّ هَذَا إنْ لَمْ تَتَيَسَّرْ لَهُ الزِّيَارَةُ إلَّا مَعَ وُجُودِ تِلْكَ الْمَفَاسِدِ فَإِنْ تَيَسَّرَتْ مَعَ عَدَمِ الْمَفَاسِدِ فَتَارَةً يَقْدِرُ عَلَى إزَالَةِ كُلِّهَا أَوْ بَعْضِهَا فَيَتَأَكَّدُ لَهُ الزِّيَارَةُ مَعَ وُجُودِ تِلْكَ الْمَفَاسِدِ لِيُزِيلَ مِنْهَا مَا قَدَرَ عَلَيْهِ وَتَارَةً لَا يَقْدِرُ عَلَى إزَالَةِ شَيْءٍ مِنْهَا فَالْأَوْلَى لَهُ الزِّيَارَةُ فِي غَيْرِ زَمَنِ تِلْكَ الْمَفَاسِدِ بَلْ لَوْ قِيلَ يُمْنَعُ مِنْهَا حِينَئِذٍ لَمْ يَبْعُدْ.

وَمَنْ أَطْلَقَ الْمَنْعَ مِنْ الزِّيَارَةِ خَوْفَ ذَلِكَ الِاخْتِلَاطِ يَلْزَمُهُ إطْلَاقُ مَنْعِ نَحْوِ الطَّوَافِ وَالرَّمَلِ بَلْ وَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ أَوْ مُزْدَلِفَةَ وَالرَّمْيِ إذَا خُشِيَ الِاخْتِلَاطُ أَوْ نَحْوُهُ فَلَمَّا لَمْ يَمْنَعْ الْأَئِمَّةُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ مَعَ أَنَّ فِيهِ اخْتِلَاطًا أَيَّ اخْتِلَاطٍ وَإِنَّمَا مَنَعُوا نَفْسَ الِاخْتِلَاطِ لَا غَيْرُ فَكَذَلِكَ هُنَا وَلَا تَغْتَرَّ بِخِلَافِ مَنْ أَنْكَرَ الزِّيَارَةَ خَشْيَةَ الِاخْتِلَاطِ فَإِنَّهُ يَتَعَيَّنُ حَمْلُ كَلَامِهِ عَلَى مَا فَصَّلْنَاهُ وَقَرَّرْنَاهُ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لَهُ وَجْهٌ وَزَعْمُ أَنَّ زِيَارَةَ الْأَوْلِيَاءِ بِدْعَةٌ لَمْ تَكُنْ فِي زَمَنِ السَّلَفِ مَمْنُوعٌ وَبِتَقْدِيرِ تَسْلِيمِهِ فَلَيْسَ كُلُّ بِدْعَةٍ يُنْهَى عَنْهَا بَلْ قَدْ تَكُونُ الْبِدْعَةُ وَاجِبَةً فَضْلًا عَنْ كَوْنِهَا مَنْدُوبَةً كَمَا صَرَّحُوا بِهِ.

(وَسُئِلَ) نَفَعَ اللَّهُ بِهِ عَمَّنْ مَرَّ بِمَقْبَرَةٍ فَقَرَأَ الْفَاتِحَةَ وَأَهْدَاهَا لَهُمْ فَهَلْ تُقْسَمُ بَيْنَهُمْ أَوْ يَصِلُ لِكُلٍّ مِنْهُمْ مِثْلُ ثَوَابِهَا كَامِلًا؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ أَفْتَى جَمْعٌ بِالثَّانِي وَهُوَ اللَّائِقُ بِسِعَةِ الْفَضْلِ.

(وَسُئِلَ) نَفَعَ اللَّهُ بِهِ بِمَا لَفْظُهُ مَا حُكْمُ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ عِنْدَ سَدِّ فَتْحِ اللَّحْدِ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ هُوَ بِدْعَةٌ وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ سُنَّةٌ عِنْدَ نُزُولِ الْقَبْرِ قِيَاسًا عَلَى نَدْبِهِمَا فِي الْمَوْلُودِ إلْحَاقًا لِخَاتِمَةِ الْأَمْرِ بِابْتِدَائِهِ فَلَمْ يُصِبْ وَأَيُّ جَامِعٍ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ وَمُجَرَّدُ أَنَّ ذَاكَ فِي الِابْتِدَاءِ وَهَذَا فِي الِانْتِهَاءِ لَا يَقْتَضِي لُحُوقَهُ بِهِ.

(وَسُئِلَ) أَعَادَ اللَّهُ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِهِ عَنْ حُكْمِ بِنَاءِ الْقُبُورِ قَدْرَ مِدْمَاكَيْنِ فَقَطْ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ يَحْرُمُ بِنَاءُ الْقَبْرِ فِي الْمَقْبَرَةِ الْمُسَبَّلَةِ وَهِيَ الَّتِي اعْتَادَ أَهْلُ الْبَلَدِ الدَّفْنَ فِيهَا وَمِثْلُهَا الْمَوْقُوفَةُ لِذَلِكَ سَوَاءٌ كَانَ مِدْمَاكًا أَمْ مِدْمَاكَيْنِ لِأَنَّ الْكُلَّ يُسَمَّى بِنَاءً وَلِوُجُودِ عِلَّةِ تَحْرِيمِ الْبِنَاءِ فِي ذَلِكَ وَهِيَ تَحْجِيرُ الْأَرْضِ عَلَى مَنْ يَدْفِنُ بَعْدَ بَلَاءِ الْمَيِّتِ إذْ الْغَالِبُ أَنَّ الْبِنَاءَ يَمْكُثُ إلَى مَا بَعْدَ الْبِلَى

ص: 24

وَأَنَّ النَّاسَ يَهَابُونَ فَتْحَ الْقَبْرِ الْمَبْنِيِّ فَكَانَ فِي الْبِنَاءِ تَضْيِيقٌ لِلْمَقْبَرَةِ وَمَنْعُ النَّاسِ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهَا فَحَرُمَ وَوَجَبَ عَلَى وُلَاةِ الْأَمْرِ هَدْمُ الْأَبْنِيَةِ الَّتِي فِي الْمَقَابِرِ الْمُسَبَّلَةِ وَلَقَدْ أَفْتَى جَمَاعَةٌ مِنْ عُظَمَاءِ الشَّافِعِيَّةِ بِهَدْمِ قُبَّةِ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه وَإِنْ صُرِفَ عَلَيْهَا أُلُوفٌ مِنْ الدَّنَانِيرِ لِكَوْنِهَا فِي الْمَقْبَرَةِ الْمُسَبَّلَةِ وَهَذَا أَعْنِي الْبِنَاءَ فِي الْمَقَابِرِ الْمُسَبَّلَةِ مِمَّا عَمَّ وَطَمَّ وَلَمْ يَتَوَقَّهُ كَبِيرٌ وَلَا صَغِيرٌ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ.

(وَسُئِلَ) رضي الله عنه هَلْ يَجُوزُ لِأَحَدٍ الْأَخْذُ مِنْ حِجَارَةِ الْقُبُورِ لِسَدِّ فَتْحِ لَحْدٍ وَلِبِنَاءِ قَبْرٍ أَمْ لَا؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ إنْ عُلِمَ مَالِكُ تِلْكَ الْأَحْجَارِ فَوَاضِحٌ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْأَخْذُ مِنْهَا إلَّا بِرِضَاهُ إنْ كَانَ رَشِيدًا وَإِنْ جُهِلَ فَإِنْ رُجِيَ ظُهُورُهُ لَمْ يَجُزْ أَخْذُ شَيْءٍ مِنْهَا وَإِنْ أَيِسَ مِنْ ظُهُورِهِ فَهِيَ مِنْ جُمْلَةِ أَمْوَالِ بَيْتِ الْمَالِ فَلِمَنْ لَهُ فِيهِ حَقُّ الْأَخْذِ مِنْهَا بِقَدْرِ حَقِّهِ وَقَدْ نَقَلَ الشَّيْخَانِ وَأَقَرَّاهُ فِي إحْيَاءِ الْمَوَاتِ أَنَّ الْمَالَ الضَّائِعَ أَمْرُهُ إلَى الْإِمَامِ إنْ رَأَى حِفْظَهُ حَتَّى يَظْهَرَ مَالِكُهُ أَوْ بَيْعَهُ وَحِفْظَ ثَمَنِهِ فَعَلَ وَلَهُ أَنْ يُقْرِضَهُ أَيْ الثَّمَنَ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ وَمَحَلُّ حِفْظِهِ إلَى ظُهُورِ مَالِكِهِ كَمَا فِي الْخَادِمِ عَنْ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ مَا إذَا تُوُقِّعَ ظُهُورُهُ وَهُوَ مُتَعَيِّنٌ وَمِنْ ثَمَّ جَزَمَ بِهِ ابْنُ سُرَاقَةَ فَإِنْ أَيِسَ مِنْ ظُهُورِ مَالِكِهِ صَارَ مَصْرُوفًا إلَى مَصَارِفِ بَيْتِ الْمَالِ وَأَخَذَ مِنْ هَذَا جَمَاعَةٌ أَنَّ الْأَمْوَالَ الَّتِي يَأْخُذُهَا الْمَكَّاسُونَ وَتَخْتَلِطُ وَتَنْبَهِمُ مُلَّاكُهَا تَصِيرُ مِنْ أَمْوَالِ بَيْتِ الْمَالِ.

(وَسُئِلَ) نَفَعَ اللَّهُ بِهِ وَفَسَّحَ فِي مُدَّتِهِ عَمَّا إذَا حَضَرَ الْمُسْلِمُ الْحُرُوبَ الْوَاقِعَةَ بَيْنَ الْكُفَّارِ الْحَرْبِيِّينَ

كَكَفَرَةِ مَلِيبَارَ فَإِنَّ مَنْ يُشَاهِدُ الْحَرْبَ كَافِرًا كَانَ أَوْ مُسْلِمًا يَقْصِدُ مَعَارِكَهُمْ إلَى نَحْوِ فَرْسَخَيْنِ وَيُعِدُّونَ لِذَلِكَ مَآكِلَ وَيَقُومُ عِنْدَ مَعْرَكَتِهِمْ وَيَتَفَرَّجُ عَلَى الْقَتْلِ وَالضَّرْبِ فِيمَا بَيْنَهُمْ فَهَلْ يَأْثَمُ الْمُسْلِمُ بِمُشَاهَدَتِهِ وَحُضُورِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَكْثِيرِ جَمْعِهِمْ مَعَ أَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ لَهُ إلَى ذَلِكَ وَتَقْبِيحِ طَائِفَةٍ وَتَحْسِينِ أُخْرَى وَالْحَثِّ عَلَى الْهُجُومِ عَلَى الْآخَرِينَ وَوُجُودِ الْخَطَرِ فَرُبَّمَا تَصِلُ إلَيْهِ سِهَامُهُمْ وَرُبَّمَا يُجْرَحُ وَرُبَّمَا يُقْتَلُ أَوْ لَا إثْمَ فِي ذَلِكَ وَإِذَا أَعَانَ الْمُسْلِمُونَ إحْدَى طَائِفَتَيْ الْكَفَرَةِ فِي حُرُوبِهِمْ وَقَاتَلُوا الْآخَرِينَ مَعَهُمْ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ وَلَا حَاجَةٍ حَتَّى يَقْتُلُوا أَوْ يُقْتَلُوا فِي الْحُرُوبِ فَهَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ أَوْ لَا وَهَلْ يُؤْجَرُ الْمُسْلِمُ بِذَلِكَ لِقَتْلِهِ الْكَافِرَ أَوْ لِكَوْنِهِ مَقْتُولَهُ وَهَلْ يُعَامَلُ مُعَامَلَةَ الشَّهِيدِ فِي عَدَمِ الْغُسْلِ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَقَدْ يَكُونُ خُرُوجُ الْمُسْلِمِ لِإِعَانَتِهِمْ لِطَلَبِ مُلُوكِ بِلَادِهِمْ الْكَفَرَةِ مِنْهُ أَنْ يَخْرُجَ مَعَهُمْ لِذَلِكَ فَكَيْفَ يَكُونُ الْحَكَمُ فِي ذَلِكَ وَهَلْ فَرْقٌ بَيْنَ مَا إذَا خَرَجَ بِطَلَبِ مُلُوكِهِمْ أَوْ لَا؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ حُضُورُ الْمُسْلِمِ لِحَرْبِ الْحَرْبِيِّينَ فِيمَا بَيْنَهُمْ بِقَصْدِ تَعَلُّمِهِ الشُّجَاعَةَ وَكَيْفِيَّةَ الْقِتَالِ وَقُوَّةَ النَّفْسِ عِنْدَ مُشَاهَدَتِهِ أَوْ بِقَصْدِ فَرَحِهِ بِمَنْ مَاتَ مِنْ الْحَرْبِيِّينَ لِتَعْلُوَ كَلِمَةُ اللَّهِ تَعَالَى بِضَعْفِ شَوْكَتِهِمْ وَقِلَّةِ عَدَدِهِمْ أَوْ بِقَصْدِ شَيْءٍ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَقَاصِدِ الصَّحِيحَةِ جَائِزٌ لَا مَحْذُورَ فِيهِ بِوَجْهٍ سَوَاءٌ بَعُدَ مَحَلُّ الْحَرْبِ أَوْ قَرُبَ وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ تَكْثِيرٌ لِجَمْعِهِمْ فَإِنَّ التَّكْثِيرَ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ فِي حَقِّ الْمُوَالِي وَالْمُنَاصِرِ وَأَمَّا الْحَاضِرُ رَاجِيًا لِزَوَالِهِمْ وَفَنَائِهِمْ عَنْ آخِرِهِمْ وَمُنْتَظِرًا وُقُوعَ دَائِرَةٍ عَلَيْهِمْ فَيَنْتَقِمُ مِنْهُمْ فَغَيْرُ مُكَثِّرٍ لِجَمْعِهِمْ بَلْ هُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْمُحَارَبِينَ لَهُمْ بَاطِنًا وَكَذَا لَا مَحْذُورَ أَيْضًا فِي إغْرَاءِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ لِأَنَّ التَّوَصُّلَ إلَى قَتْلِ الْحَرْبِيِّ جَائِزٌ بَلْ مَحْبُوبٌ بِأَيِّ طَرِيقٍ كَانَ هَذَا كُلُّهُ إنْ ظَنَّ سَلَامَتَهُ أَوْ قَتْلَهُ بَعْدَ إنْكَائِهِمْ أَمَّا لَوْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ مُجَرَّدَ حُضُورِهِ يُؤَدِّي إلَى قَتْلِهِ أَوْ نَحْوِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَلْحَقَهُمْ مِنْهُ نِكَايَةٌ بِوَجْهٍ فَحُضُورُهُ حِينَئِذٍ فِي غَايَةِ الذَّمِّ وَالتَّقْصِيرِ فَلْيُمْسِكْ عَنْهُ.

وَإِذَا أَعَانَ مُسْلِمٌ أَوْ أَكْثَرُ إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ فَقَتَلَهُ فِي الْحَرْبِ أَحَدُ الْحَرْبِيِّينَ فَهُوَ شَهِيدٌ لَا يُغَسَّلُ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ وَلَهُ ثَوَابٌ أَيُّ ثَوَابٍ إنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ بَيْنَ مَنْ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَنْ خَرَجَ بِطَلَبِ مَلِكِهِمْ لَهُ حَيْثُ لَا إجْبَارَ.

(وَسُئِلَ) نَفَعَ اللَّهُ بِهِ عَمَّا إذَا الْتَقَى مُسْلِمٌ وَكَافِرٌ فِي طَرِيقٍ فِي الْأَمْنِ فَتَسَابَّا فِي شَيْءٍ مِنْ الْأُمُورِ فَوَقَعَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَهُمَا حَتَّى قُتِلَ الْمُسْلِمُ فَهَلْ هُوَ شَهِيدٍ حَتَّى لَا يُغَسَّلَ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ أَوْ لَا وَلَوْ وَقَعَ بَيْنَ الْكَفَرَةِ مِنْ غَيْرِ إرَادَةِ حَرْبٍ فَأَرَادُوا قَتْلَهُ فَهَرَبَ مِنْهُمْ فَقَتَلُوهُ هَلْ هُوَ شَهِيدٌ فَلَا يُغَسَّلُ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ

ص: 25

أَوْ لَا وَلَوْ سَافَرَ جَمَاعَةٌ لِتِجَارَتِهِمْ فَالْتَقَوْا بِالْحَرْبِيِّينَ فِي طَرِيقِهِمْ فَتَقَاتَلُوا مِنْ بَعِيدٍ بِالْبَنَادِقِ وَالسِّهَامِ فَقُتِلَ الْمُسْلِمُونَ بِسَبَبِ ذَلِكَ فَهَلْ يُغَسَّلُونَ وَيُصَلَّى عَلَيْهِمْ أَوْ لَا وَلَوْ دُفِنَ مَنْ قَتَلَهُ الْكُفَّارُ الْحَرْبِيُّونَ مِنْ غَيْرِ غَسِيلٍ وَلَا صَلَاةٍ بِزَعْمِ أَنَّهُ شَهِيدٌ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ لِجَهْلِهِمْ بِالْحُكْمِ فَلَمَّا عُلِمَ الْحُكْمُ حَفَرُوا فَوَجَدُوهُ مُنْتَفِخًا أَوْ مُنْتِنًا وَتَعَذَّرَ إخْرَاجُهُ وَغَسْلُهُ فَهَلْ يَجِبُ التَّيَمُّمُ مَعَ إمْكَانِهِ وَالْحَالَة هَذِهِ أَوْ لَا؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ إذَا تَحَارَبَ مُسْلِمٌ وَكَافِرٌ فَقَتَلَ الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ ظُلْمًا لِكَوْنِهِ حَرْبِيًّا أَوْ ذِمِّيًّا وَلَمْ يَتَعَدَّ الْمُسْلِمُ عَلَيْهِ بِإِرَادَتِهِ قَتْلَهُ فَالْمُسْلِمُ شَهِيدٌ لَا يُغَسَّلُ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِالشَّهِيدِ حَيْثُ أُطْلِقَ بِخِلَافِ مَا لَوْ أَرَادَ مُسْلِمٌ قَتْلَ ذِمِّيٍّ ظُلْمًا فَدَفَعَهُ الذِّمِّيُّ عَنْ نَفْسِهِ بِالتَّدْرِيجِ إلَى أَنْ أَفْضَى الدَّفْعُ إلَى قَتْلِهِ فَإِنَّ الْمُسْلِمَ فِي هَذِهِ لَيْسَ شَهِيدًا لِتَعَدِّيهِ الْمُفْضِي إلَى قَتْلِهِ وَفِي شَرْحِي لِلْعُبَابِ وَقَيَّدَ فِي الْبَهْجَةِ الْحَرْبَ بِكَوْنِهَا حَلَالًا احْتِرَازًا عَنْ مُحَارَبَةِ مُسْلِمِينَ لِذِمِّيِّينَ ظُلْمًا فَلَا يَكُونُ مَقْتُولُهُمْ شَهِيدًا وَهُوَ ظَاهِرٌ اهـ وَبِهَا يَتَّضِحُ مَا قَرَّرْته وَمَنْ هَرَبَ مِنْهُمْ فَقَتَلُوهُ فِي الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي السُّؤَالِ غَيْرُ شَهِيدٍ فَقَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّ مَنْ اغْتَالَهُ كَافِرٌ فِي غَيْرِ قِتَالٍ غَيْرُ شَهِيدٍ وَبِأَنَّ الشَّهِيدَ هُوَ الَّذِي قَتَلَهُ كَافِرٌ مَعَ قِيَامِ الْحَرْبِ.

وَفِي شَرْحِ الْعُبَابِ وَأَفْهَمَ قَوْلُهُ مَعَ قِيَامِ الْحَرْبِ أَنَّ الْمَعْرَكَةَ لَوْ انْجَلَتْ فَوَلَّى الْمُشْرِكُونَ فَتَبِعَهُمْ الْمُسْلِمُونَ لِيَسْتَأْصِلُوهُمْ فَكَّرَ بَعْضُهُمْ عَلَى مُسْلِمٍ فَقَتَلَهُ لَا يَكُونُ شَهِيدًا لَكِنْ اسْتَبْعَدَهُ الْأَذْرَعِيُّ وَمِنْ ثَمَّ رَجَّحَ الزَّرْكَشِيُّ أَنَّهُ شَهِيدٌ لِأَنَّ آثَارَ الْقِتَالِ مَوْجُودَةٌ لَمْ يَفْصِلْ بَيْنَهُمَا شَيْءٌ اهـ.

وَبِهَذَا الْأَخِيرِ يُفَرَّقُ عَلَى كَلَامِ الزَّرْكَشِيّ بَيْنَ هَذِهِ وَمَسْأَلَتِنَا بِأَنَّ آثَارَ الْقِتَالِ لَمَّا بَقِيَتْ هُنَا كَانَ الْقِتَالُ كَأَنَّهُ مَوْجُودٌ وَأَمَّا فِي مَسْأَلَةِ السُّؤَالِ فَلَيْسَ فِيهَا آثَارُ قِتَالٍ أَلْبَتَّةَ فَلَا مُقْتَضَى فِيهَا لِلشَّهَادَةِ وَفِيهِ أَيْضًا أَنَّ الشَّهِيدَ هُوَ الَّذِي قَتَلَهُ كَافِرٌ مَعَ قِيَامِ الْحَرْبِ أَوْ مَاتَ بِسَبَبِ الْحَرْبِ كَأَنْ رَمَحَتْهُ دَابَّةٌ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ أَوْ عَادَ إلَيْهِ سِلَاحُهُ أَوْ سِلَاحُ مُسْلِمٍ خَطَأً وَبِهِ يُعْلَمُ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ الْمَقْتُولِينَ فِي قَوْلِ السَّائِلِ نَفَعَ اللَّهُ بِعُلُومِهِ وَبَرَكَتِهِ وَلَوْ سَافَرَ جَمَاعَةٌ لِتِجَارَتِهِمْ إلَخْ شُهَدَاءُ لَا يُغَسَّلُونَ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِمْ وَفِيهِ أَيْضًا لَوْ دُفِنَ الْمَيِّتُ قَبْلَ الْغُسْلِ أَوْ بَدَلِهِ وَهُوَ التَّيَمُّمُ نُبِشَ لَهُ الْقَبْرُ وُجُوبًا تَدَارُكًا لِلْوَاجِبِ إلَّا إنْ تَغَيَّرَ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ بِالنَّتْنِ وَالرَّائِحَةِ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَابْنُ الصَّبَّاغِ بِالتَّقَطُّعِ وَهَذَا أَبْلَغُ مِمَّا قَبْلَهُ فَإِنَّ التَّأَذِّي بِرَائِحَتِهِ أَبْلَغُ مِنْ تَقْطِيعِهِ فَيَحْرُمُ النَّبْشُ حِينَئِذٍ لِمَا فِيهِ مِنْ هَتْكِ حُرْمَتِهِ اهـ.

وَبِهَا يُعْلَمُ فِي مَسْأَلَةِ السُّؤَالِ الْأَخِيرَةِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ النَّبْشُ لِمَا فِيهِ مِنْ هَتْكِ حُرْمَةِ الْمَيِّتِ وَأَنَّهُ لَا يَجِبُ التَّيَمُّمُ بَلْ يَحْرُمُ النَّبْشُ لَهُ كَالْغُسْلِ بَعْدَ التَّغَيُّرِ لِمَا تَقَرَّرَ مِنْ أَنَّ فِيهِ هَتْكًا لِحُرْمَتِهِ فَإِنْ ظُنَّ عَدَمُ تَغَيُّرِهِ فَنُبِشَ فَرَأَى التَّغَيُّرَ وَجَبَ رَدُّ التُّرَابِ فَوْرًا كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ وَيَلْزَمُ مِنْ وُجُوبِ الْفَوْرِيَّةِ فِيهِ عَدَمُ وُجُوبِ الْغُسْلِ أَوْ التَّيَمُّمِ بَلْ عَدَمُ الْجَوَازِ وَفِي شَرْحِ الْعُبَابِ أَيْضًا فَإِنْ دُفِنَ مَنْ يَجِبُ غَسْلُهُ قَبْلَ غَسْلِهِ أَوْ تَيَمُّمِهِ كَمَا قَالَهُ الْأَذْرَعِيُّ وَغَيْرُهُ نُبِشَ لَهُ ثُمَّ بَعْدَهُ يُصَلَّى عَلَيْهِ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ مَقْدُورٌ عَلَيْهِ فَوَجَبَ فِعْلُهُ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ بِنَحْوِ نَتْنٍ شَدِيدٍ كَمَا يَأْتِي فَحِينَئِذٍ لَا يَجُوزُ نَبْشُهُ لِهَتْكِ حُرْمَتِهِ.

وَتَرَدَّدَ الْأَذْرَعِيُّ فِي النَّبْشِ عِنْدَ دَفْنِهِ بِلَا غُسْلٍ جَهْلًا أَوْ نِسْيَانًا أَوْ خَوْفًا مِنْ نَحْوِ عَدُوٍّ أَوْ لِفَقْدِ الطَّهُورِ ثُمَّ أَشَارَ إلَى أَنَّهُ حَيْثُ صَحَّتْ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ بِلَا غُسْلٍ لَمْ يُنْبَشْ وَإِلَّا نُبِشَ وَهُوَ مُحْتَمَلٌ وَيُحْتَمَلُ الْأَخْذُ بِإِطْلَاقِهِمْ مِنْ النَّبْشِ مُطْلَقًا حَيْثُ لَا تَغَيُّرَ مُبَالَغَةً فِي إكْرَامِهِ وَلَعَلَّ هَذَا أَقْرَبُ اهـ.

(وَسُئِلَ) نَفَعَ اللَّهُ بِهِ عَنْ قَوْلِ الْأَصْحَابِ رضي الله عنهم يُسَنُّ قِرَاءَةُ يس عِنْدَ مَنْ حَضَرَهُ الْمَوْتُ يَعْنِي مُقَدَّمَاتِهِ لِأَنَّ الْمَيِّتَ لَا يُقْرَأُ عَلَيْهِ هَلْ لَا يُؤْمَرُ بِالْقِرَاءَةِ عَلَيْهِ لِعَدَمِ انْتِفَاعِهِ بِهَا لِلصُّعُودِ بِرُوحِهِ إلَى الْحَضْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ فَلِانْتِفَاءِ انْتِفَاعِهِ بِالْقِرَاءَةِ حِينَئِذٍ كَمَا ذَاكَرَنِي بِذَلِكَ بَعْضُ أَئِمَّتِنَا أَمْ الْمُرَادُ غَيْرُ ذَلِكَ وَمَا هُوَ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ قَوْلُهُمْ الْمَيِّتُ لَا يُقْرَأُ عَلَيْهِ مَبْنِيٌّ عَلَى مَا أَطْلَقَهُ الْمُتَقَدِّمُونَ مِنْ أَنَّ الْقِرَاءَةَ لَا تَصِلُ إلَى الْمَيِّتِ لِأَنَّ ثَوَابَهَا لِلْقَارِئِ وَالثَّوَابُ الْمُتَرَتِّبُ عَلَى عَمَلٍ لَا يُنْقَلُ عَنْ عَامِلِ ذَلِكَ الْعَمَلِ قَالَ تَعَالَى {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلا مَا سَعَى} [النجم: 39] وَوُصُولُ الدُّعَاءِ وَالصَّدَقَةِ وَرَدَ بِهِمَا النَّصُّ فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِمَا إذْ لَا مَجَالَ لِلْقِيَاسِ فِي ذَلِكَ فَاتَّجَهَ قَوْلُهُمْ أَنَّ الْمَيِّتَ

ص: 26

لَا يُقْرَأُ عَلَيْهِ لِمَا ذَكَرْته وَلَمَّا كَانَ الْمُتَأَخِّرُونَ يَرَوْنَ وُصُولَ الْقِرَاءَةِ لِلْمَيِّتِ عَلَى تَفْصِيلٍ فِيهِ مُقَرَّرٍ فِي مَحَلِّهِ أَخَذَ ابْنُ الرِّفْعَةِ كَغَيْرِهِ بِظَاهِرِ الْخَبَرِ مِنْ أَنَّهَا تُقْرَأُ عَلَيْهِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَهُوَ مُسَجًّى بَلْ فِي وَجْهٍ لِبَعْضِ أَصْحَابِنَا أَنَّهَا تُقْرَأُ عَلَيْهِ عِنْدَ الْقَبْرِ.

وَتَبِعَ هَؤُلَاءِ الزَّرْكَشِيُّ فَقَالَ لَا يَبْعُدُ عَلَى الْقَوْلِ بِاسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ أَنَّهُ يُنْدَبُ قِرَاءَتُهَا فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَمَا نُقِلَ فِي السُّؤَالِ مِنْ التَّعْلِيلِ بِعَدَمِ انْتِفَاعِهِ لِلصُّعُودِ بِرُوحِهِ إلَخْ كَلَامٌ فِي غَايَةِ السُّقُوطِ وَالْفَسَادِ لِأَنَّ صُعُودَ الرُّوحِ لِلْمَلَإِ الْأَعْلَى لَا يُنَافِي انْتِفَاعَهَا بِمَا يَصِلُ إلَيْهَا إجْمَاعًا مِنْ الدُّعَاءِ وَالصَّدَقَةِ فَكَذَا الْقِرَاءَةُ لَوْلَا مَا أَشَرْت إلَيْهِ مِنْ الْفَرْقِ عَلَى أَنَّ الْحَقَّ وُصُولُهَا إنْ عَقَبَهَا دُعَاءٌ بِوُصُولِ ثَوَابِهَا أَوْ مِثْلِهِ لِأَنَّ حَذْفَ لَفْظِ مِثْلٍ وَإِرَادَةَ مَعْنَاهَا صَحِيحٌ كَبِعْتُك بِمَا بَاعَ بِهِ فُلَانٌ فَرَسَهُ وَأَوْصَيْت لَك بِنَصِيبِ ابْنِي وَكَذَا إنْ لَمْ يَعْقُبْهَا دُعَاءٌ وَكَانَتْ عَلَى الْقَبْرِ لِأَنَّ الْمَيِّتَ حِينَئِذٍ كَالْحَاضِرِ تُرْجَى لَهُ الرَّحْمَةُ وَالْبَرَكَةُ.

وَبِهَذَا يَتَّضِحُ فَسَادُ تِلْكَ الْمُذَاكَرَةِ إذْ لَوْ نَظَرُوا إلَى صُعُودِ رُوحِهِ بِالْمَعْنَى الَّذِي فِي السُّؤَالِ لَمْ يَقُولُوا بِذَلِكَ فَإِنْ قُلْت يُنَافِي قَوْلَهُمْ الْمَيِّتُ لَا يُقْرَأُ عَلَيْهِ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه يَقْرَأُ عِنْدَ الْقُبُورِ مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ وَيَدْعُو لَهُمْ عَقِبَهَا قُلْت لَا يُنَافِيهِ لِأَنَّ كَلَامَهُمْ فِي مُجَرَّدِ الْقِرَاءَةِ عِنْدَ الْمَيِّتِ وَكَلَامُ الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه هَذَا تَأْيِيدٌ لِلْمُتَأَخِّرِينَ فِي حَمْلِهِمْ مَشْهُورَ الْمَذْهَبِ عَلَى مَا إذَا لَمْ يَكُنْ بِحَضْرَةِ الْمَيِّتِ أَوْ لَمْ يَدْعُ عَقِبَهَا.

(وَسُئِلَ) نَفَعَ اللَّهُ بِهِ عَمَّا قَالُوهُ فِي غُسْلِ الْمَيِّتِ

فِي أَنَّهُ يُغْسَلُ أَوَّلًا رَأْسُهُ ثُمَّ لِحْيَتُهُ هَلْ الْمُرَادُ تَقَدُّمُهُمَا بِغَسْلَةِ السِّدْرِ وَالتَّنْظِيفِ وَالْفَرْضِ وَالتَّثْلِيثِ أَوْ بِالْأُولَى فَقَطْ وَاسْتَظْهَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ يُقَدَّمُ بِغَسَلَاتِ السِّدْرِ رَأْسُهُ ثُمَّ لِحْيَتُهُ ثُمَّ بَاقِي بَدَنِهِ ثَلَاثًا بِالْمَاءِ الصِّرْفِ كَذَلِكَ هَلْ هُوَ كَذَلِكَ أَمْ لَا؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ إنَّ الْغَاسِلَ يُخَيَّرُ بَيْنَ كُلِّ مَا ذُكِرَ فِيهِ كَمَا حَقَّقَهُ السُّبْكِيّ وَغَيْرُهُ حَيْثُ قَالَ لَا وَجْهَ لِتَخْصِيصِ السِّدْرِ بِالْأُولَى مِنْ غَسَلَاتِ التَّنْظِيفِ أَيْ الَّذِي يُفْهِمُهُ كَلَامُ الرَّوْضَةِ وَغَيْرِهَا بَلْ الْوَجْهُ التَّكْرِيرُ بِهِ إلَى أَنْ يَحْصُلَ النَّقَاءُ عَلَى وَجْهِ الْخَبَرِ وَالْمَعْنَى يَقْتَضِيهِ فَإِذَا حَصَلَ النَّقَاءُ وَجَبَ غَسْلُهُ بِالْمَاءِ الْخَالِصِ وَيُسَنُّ بَعْدَهَا ثَانِيَةً وَثَالِثَةً كَغُسْلِ الْحَيِّ فَإِنْ اسْتَعْمَلَ الْخَالِصَ بَعْدَ كُلِّ غَسْلَةٍ مِنْ غَسَلَاتِ التَّنْظِيفِ كَفَاهُ ذَلِكَ عَنْ اسْتِعْمَالِهِ بَعْدَ تَمَامِهَا وَتَكُونُ كُلُّ مَرَّةٍ مِنْ التَّنْظِيفِ وَاسْتِعْمَالِ الْخَالِصِ يُعَدُّ غَسْلَةً وَاحِدَةً وَكَلَامُهُ الْأَخِيرُ بَيَانٌ لِكَلَامِهِمْ وَكَذَا الْأَوَّلُ وَمِنْ ثَمَّ قَالَ ابْنُهُ فِي التَّوْشِيحِ قَدْ لَا يُجْعَلُ ذَلِكَ خِلَافًا وَيُقَالُ إنَّمَا خُصَّتْ الْأُولَى بِالذِّكْرِ لِحُصُولِ النَّقَاءِ بِهَا غَالِبًا.

أَيْ فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْغَاسِلَ يُخَيَّرُ بَيْنَ الْكَيْفِيَّتَيْنِ وَأَنَّ مُرَادَهُمْ بِالثَّلَاثِ فِي قَوْلِهِمْ بَعْدَ غَسْلَةِ السِّدْرِ ثُمَّ يَصُبُّ مَاءً قَرَاحًا مِنْ فَرْقِهِ إلَى قَدَمِهِ ثُمَّ يَغْسِلُهُ بِالْمَاءِ الْقَرَاحِ ثَلَاثًا إنَّهَا ثَلَاثٌ مُتَوَالِيَةٌ فِي الْكَيْفِيَّةِ الْأُولَى وَمُتَفَرِّقَةٌ فِي الْكَيْفِيَّةِ الثَّانِيَةِ فَإِنْ قُلْت أَيُّ الْكَيْفِيَّتَيْنِ أَفْضَلُ قُلْت ظَاهِرُ كَلَامِ السُّبْكِيّ وَغَيْرِهِ أَنَّ الْأُولَى هِيَ الْأَفْضَلُ لِمَا تَقَرَّرَ أَنَّهَا الْمُوَافِقَةُ لِلْخَبَرِ وَلِأَنَّهَا أَبْلَغُ فِي النَّظَافَةِ مَعَ السُّهُولَةِ.

(وَسُئِلَ) نَفَعَ اللَّهُ بِهِ عَنْ قَوْلِهِمْ إنَّ أَقَلَّ الدَّفْنِ مَا يَمْنَعُ الْمَيِّتَ وَرَائِحَتَهُ هَلْ الْمُرَادُ يَمْنَعُ رَائِحَتَهُ بِحَيْثُ لَا يُدْرِكُهَا الْقَاعِدُ الْمُلَاصِقُ لِلْقَبْرِ أَوْ الْمُرَادُ أَنْ لَا يُدْرِكَهَا بِالشَّمِّ مَعَ تَقْرِيبِ الْأَنْفِ إلَى تُرَابِ الْقَبْرِ لِأَنَّهَا إذَا أُدْرِكَتْ بِذَلِكَ أَدْرَكَهَا السَّبُعُ فَيَحْمِلُهُ عَلَى النَّبْشِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ ظَاهِرُ كَلَامِهِمْ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ مَنْعِ الرَّائِحَةِ مَنْعُ السَّبُعِ وَعَكْسُهُ وَهُوَ ظَاهِرٌ كَمَا قَالَهُ جَمْعٌ مُتَأَخِّرُونَ فَلَا يَكْفِي أَحَدُهُمَا كَمَا قَالَهُ جَمْعٌ مُتَقَدِّمُونَ نَقَلَهُ ابْنُ الرِّفْعَةِ عَنْ الْأَصْحَابِ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ وَإِنْ نَازَعَ فِيهِ الْأَذْرَعِيُّ وَمَنْ تَبِعَهُ إذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِمَنْعِ الرَّائِحَةِ مَنْعُهَا عَمَّنْ عِنْدَ الْقَبْرِ بِحَيْثُ لَا يَتَأَذَّى بِهَا تَأَذِّيًا لَا يُحْتَمَلُ عَادَةً لِأَنَّ مَلْحَظَ اشْتِرَاطِ مَنْعِ الْقَبْرِ لَهَا دَفْعُ الْأَذَى عَنْ النَّاسِ وَالْأَذَى إنَّمَا يَتَحَقَّقُ بِمَا ذَكَرْته مِنْ أَنْ يَفُوحَ مِنْهُ رِيحٌ يُؤْذِي مَنْ قَرُبَ مِنْهُ عُرْفًا إيذَاءً لَا يُصْبَرُ عَلَيْهِ عَادَةً وَيُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْته أَنَّهُ لَا أَثَرَ لِرَائِحَةٍ لَا تُؤْذِي كَذَلِكَ قَوْلُ الْأَصْحَابِ يُسَنُّ أَنْ يُعَمَّقَ الْقَبْرُ قَدْرَ قَامَةٍ وَبَسْطَةٍ لِأَنَّهُ أَبْلَغُ

ص: 27

فِي الْمَقْصُودِ مِنْ مَنْعِ السَّبُعِ وَالرَّائِحَةِ فَعَلِمْنَا مِنْ ذَلِكَ أَنَّ أَصْلَ الرَّائِحَةِ لَا يُؤَثِّرُ وَإِنَّمَا الْمُؤَثِّرُ مِنْهُ مَا تَقَرَّرَ وَبِمَا تَقَرَّرَ مِنْ عَدَمِ التَّلَازُمِ يَنْدَفِعُ قَوْلُ السَّائِلِ لِأَنَّهَا إذَا أُدْرِكَتْ بِذَلِكَ أَدْرَكَهَا السَّبُعُ.

(وَسُئِلَ) فَسَّحَ اللَّهُ فِي مُدَّتِهِ عَنْ قِرَاءَةِ {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} [الحشر: 10] الْآيَةَ فِي رَابِعَةِ الْجِنَازَةِ هَلْ لَهُ أَصْلٌ مُعْتَبَرٌ أَمْ يُقَالُ لَا بَأْسَ بِهَا لِلْمُنَاسَبَةِ وَكَذَلِكَ قِرَاءَةُ {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ} [الكهف: 46] عِنْدَ الْمُرُورِ عَلَى الْقَبْرِ وَكَوْنُهَا كَفَّارَةً لِإِثْمِ مُرُورِهِ عَلَيْهِ هَلْ لَهُ أَصْلٌ أَيْضًا أَمْ لَا؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ جَمِيعُ مَا ذُكِرَ فِيهِ لَا أَصْلَ لَهُ بَلْ يَنْبَغِي كَرَاهَةُ قِرَاءَةِ الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الرَّابِعَةِ كَمَا تُكْرَهُ الْقِرَاءَةُ فِي غَيْرِ الْقِيَامِ مِنْ بَقِيَّةِ الصَّلَوَاتِ وَقَوْلُ السَّائِلِ عِنْدَ الْمُرُورِ عَلَى الْقَبْرِ إنْ أَرَادَ الْمَشْيَ عَلَيْهِ لَا إثْمَ فِيهِ أَوْ بِحِذَائِهِ فَلَا كَرَاهَةَ وَلَا إثْمَ فَأَيُّ إثْمٍ فِي الْمُرُورِ حَتَّى يَحْتَاجَ لِرَفْعِهِ.

(وَسُئِلَ) فَسَّحَ اللَّهُ فِي مُدَّتِهِ عَنْ قَوْلِ الْأَئِمَّةِ لَوْ اخْتَلَطَ مُسْلِمُونَ بِكُفَّارٍ أَوْ مَاتَتْ كَافِرَةٌ وَلَوْ حَرْبِيَّةٌ أَوْ مُرْتَدَّةٌ وَفِي بَطْنِهَا جَنِينٌ مُسْلِمٌ مَيِّتٌ قُبِرُوا بَيْنَ مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ وَعَكْسُهُ لَكِنْ هَلْ تُطْمَسُ قُبُورُهُمْ أَوْ تُرْفَعُ شِبْرًا اسْتَظْهَرَ بَعْضُهُمْ الْأَوَّلَ قَالَ لِأَنَّ رَفْعَهُ يُؤَدِّي إلَى أَنْ يُزَارَ الْكَافِرُ وَيُحْتَرَمَ فَحِينَئِذٍ يُطْمَسُ قَبْرُهُ هَلْ هُوَ كَذَلِكَ أَمْ لَا؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ مَا بُحِثَ مِنْ الطَّمْسِ مُحْتَمَلٌ وَإِنْ كَانَ مَا عُلِّلَ بِهِ غَيْرَ مُطَّرِدٍ بَلْ غَيْرَ صَحِيحٍ لِأَنَّا إنْ نَظَرْنَا إلَى مَحَلِّ الدَّفْنِ وَهُوَ كَوْنُهُ بَيْنَ مَقْبَرَتَيْ الْمُسْلِمِينَ وَالْكُفَّارِ انْتَفَى كَوْنُهُ يُزَارُ وَيُحْتَرَمُ سَوَاءٌ أَرُفِعَ أَمْ لَمْ يُرْفَعْ وَإِنْ نَظَرْنَا إلَى أَنَّ الرَّفْعَ يَسْتَلْزِمُ الزِّيَارَةَ وَالِاحْتِرَامَ حَرَّمْنَاهُ فِي مَقْبَرَةِ الْكُفَّارِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَالْوَجْهُ أَنْ يُقَالَ لَا يُسَنُّ الرَّفْعُ لِأَنَّ فِيهِ نَوْعَ احْتِرَامٍ وَلَا يُقَالُ يُسَنُّ الطَّمْسُ لِأَنَّ الْأَئِمَّةَ لَمْ يَطْلُبُوهُ إلَّا عِنْدَ خَشْيَةِ النَّبْشِ لَا غَيْرُ وَفَرْقٌ وَاضِحٌ بَيْنَ الْعِبَارَتَيْنِ فَتَأَمَّلْهُ.

(وَسُئِلَ) نَفَعَ اللَّهُ بِهِ عَنْ كَيْفِيَّةِ التَّصَدُّقِ بِثَوَابِ الْقِرَاءَةِ هَلْ يَكُونُ ذَلِكَ عَلَى التَّرْتِيبِ كَأَنْ يَقُولَ اللَّهُمَّ أَوْصِلْ ثَوَابَ مَا قَرَأْته وَأَجْرَ مَا تَلَوْته إلَى رُوحِ فُلَانٍ ثُمَّ إلَى رُوحِ فُلَانٍ وَهَكَذَا كَمَا فِي وَقْفِ التَّرْتِيبِ وَيُقَدَّمُ الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ وَبَعْدَهُمْ مَنْ شَاءَ أَوْ التَّشْرِيكِ كَأَوْصِلْ اللَّهُمَّ ثَوَابَ مَا ذُكِرَ إلَى رُوحِ فُلَانٍ وَفُلَانٍ أَوْ هُمَا سِيَّانِ فِي الْحُكْمِ بَيِّنُوا لَنَا مَا فِي ذَلِكَ مِنْ نَصٍّ أَوْ قِيَاسٍ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ إيصَالُ عَيْنِ ثَوَابِ مَا قَرَأَهُ إلَى غَيْرِهِ غَيْرُ مُرَادٍ وَإِنَّمَا الْمُرَادُ الدُّعَاءُ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَتَفَضَّلُ وَيُوصِلُ مِثْلَهُ إلَى الْمَدْعُوِّ لَهُ فَلَفْظَةُ الْمِثْلِ إنْ صَرَّحَ بِهَا فَوَاضِحٌ وَإِلَّا فَهِيَ مُرَادَةٌ وَحَذْفُ لَفْظِهَا وَإِرَادَةُ مَعْنَاهَا شَائِعٌ فِي كَلَامِهِمْ فِي الْوَصِيَّةِ وَالْبَيْعِ وَغَيْرِهِمَا.

وَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ الْمُرَادَ الدُّعَاءُ بِإِيصَالِ مِثْلِ ثَوَابِ الْقِرَاءَةِ اتَّضَحَ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَأْتِيَ بِالْمَدْعُوِّ لَهُمْ مُرَتَّبِينَ أَوْ مَجْمُوعِينَ بِالْعَطْفِ بِالْوَاوِ أَوْ بِدُونِهِ كَأَوْصِلْ ثَوَابَ ذَلِكَ إلَى الْمُسْلِمِينَ أَوْ الْأَشْرَافِ أَوْ أَهْلِ بَلَدِ كَذَا أَلَا تَرَى أَنَّك لَوْ قُلْت اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِفُلَانٍ وَفُلَانٍ أَوْ لِفُلَانٍ ثُمَّ فُلَانٍ أَوْ لِلْمُسْلِمِينَ كُنْتَ دَاعِيًا وَمُؤَدِّيًا لِسُنَّةِ الدُّعَاءِ الْخَاصِّ أَوْ الْعَامِّ فِي الْكُلِّ فَكَذَلِكَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ نَعَمْ فِي النَّفْسِ تَوَقُّفٌ مِنْ الْإِتْيَانِ بِالتَّرْتِيبِ لِأَنَّ فِيهِ نَوْعَ تَحَكُّمٍ فِي الدُّعَاءِ فَيَنْبَغِي أَنَّهُ خِلَافُ الْأَدَبِ إذْ اللَّائِقُ فِي الْأَدَبِ أَنْ يُفَوَّضَ وَقْتُ إعْطَاءِ الْمَطْلُوبِ لِلْغَيْرِ إلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَمَّا التَّنْصِيصُ عَلَى طَلَبِ أَنَّ إعْطَاءَ فُلَانٍ قَبْلَ فُلَانٍ وَفُلَانٍ قَبْلَ فُلَانٍ فَفِيهِ نَوْعُ قِلَّةِ أَدَبٍ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى مُوَفَّقٍ.

فَإِنْ قُلْت ظَاهِرُ قَوْلِهِمْ وَيَقْرُبُ زَائِرُهُ مِنْهُ كَقُرْبِهِ مِنْهُ حَيًّا أَنَّهُ يُعَامِلُهُ بِمَا كَانَ يُعَامِلُهُ بِهِ لَوْ كَانَ حَيًّا كَتَقَدُّمِهِ عَلَى غَيْرِهِ فِي الزِّيَارَةِ إنْ كَانَ لَهُ عَلَيْهِ وِلَادَةٌ أَوْ مَشْيَخَةٌ أَوْ نَحْوُهُمَا وَإِذَا سُنَّ ذَلِكَ فَلَيْسَ تَقْدِيمُهُ فِي الدُّعَاءِ عَلَى غَيْرِهِ قُلْت فَرْقٌ وَاضِحٌ بَيْنَ الْمَقَامَيْنِ لِأَنَّ الزِّيَارَةَ إكْرَامٌ نَاجِزٌ تَتَفَاخَرُ بِهِ الْأَرْوَاحُ كَمَا وَرَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ فَسَاغَ التَّقْدِيمُ فِيهَا لِذَلِكَ وَأَمَّا الدُّعَاءُ فَهُوَ طَلَبُ أَفْضَالٍ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْمَدْعُوِّ لَهُ وَالْخِيرَةُ فِي وَقْتِ ذَلِكَ إلَيْهِ تَعَالَى فَلَا دَخْلَ لِلتَّرْتِيبِ فِيهِ بِوَجْهٍ بَلْ فِيهِ تَحَكُّمٌ وَقِلَّةُ أَدَبٍ كَمَا تَقَرَّرَ فِيهِ فَلَمْ يَقُلْ بِهِ نَعَمْ يَنْبَغِي إذَا أَرَادَ ذِكْرَ جَمَاعَةٍ كُلًّا عَلَى انْفِرَادِهِ أَنْ يُقَدِّمَ فِي اللَّفْظِ مَعَ الْعَطْفِ بِالْوَاوِ لَا بِنَحْوِ ثُمَّ الْأَفْضَلَ فَالْأَفْضَلَ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ.

(وَسُئِلَ) نَفَعَ اللَّهُ بِهِ عَنْ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ هَلْ كَانَتْ عَلَى مَنْ قَبْلَنَا؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ نَعَمْ فَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُد وَالطَّيَالِسِيُّ وَابْنُ مَنِيعٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ

ص: 28

وَالرُّويَانِيُّ وَابْنُ عَسَاكِرَ وَالنَّسَائِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُمْ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَمَّا قَبَضُوا رُوحَ آدَمَ صلى الله عليه وسلم وَأَوْلَادُهُ يَنْظُرُونَ غَسَّلُوهُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ وَكَفَّنُوهُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ وَصَلَّوْا عَلَيْهِ ثُمَّ حَفَرُوا لَهُ وَدَفَنُوهُ ثُمَّ أَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ فَقَالُوا يَا بَنِي آدَمَ هَذِهِ سُنَّتُكُمْ فِي مَوْتَاكُمْ وَهَذِهِ سَبِيلُكُمْ.

(وَسُئِلَ) فَسَّحَ اللَّهُ فِي مُدَّتِهِ بِمَا لَفْظُهُ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ مُرَّ بِجِنَازَةٍ فَأُثْنِيَ عَلَيْهَا خَيْرًا إلَخْ هَلْ هُوَ عَلَى ظَاهِرِهِ مِنْ أَنَّ ثَنَاءَ الْوَاحِدِ يُوجِبُ الْجَنَّةَ وَإِنْ خَالَفَ الْأَكْثَرَ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ هُوَ مَحْمُولٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ عَلَى ظَاهِرِهِ بِشَرْطِ كَوْنِ الثَّنَاءِ مِنْ عَدْلٍ خَبِيرٍ صَالِحٍ لِلتَّزْكِيَةِ وَهَذَا الثَّنَاءُ عَلَامَةٌ عَلَى مَا عِنْدَ اللَّهِ لِلْعَبْدِ بِإِخْبَارِ الصَّادِقِ صلى الله عليه وسلم وَثَنَاءِ الِاثْنَيْنِ كَافٍ كَمَا فِي الْخَبَرِ.

(وَسُئِلَ) نَفَعَ اللَّهُ بِهِ هَلْ يَعْلَمُ الْأَمْوَاتُ بِزِيَارَةِ الْأَحْيَاءِ وَبِمَا هُمْ فِيهِ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ نَعَمْ يَعْلَمُونَ بِذَلِكَ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِزَمَانٍ خِلَافًا لِمَنْ قَيَّدَ كَمَا أَفَادَهُ حَدِيثُ ابْنِ أَبِي الدُّنْيَا «مَا مِنْ رَجُلٍ يَزُورُ قَبْرَ أَخِيهِ وَيَجْلِسُ عَلَيْهِ إلَّا اسْتَأْنَسَ وَرُدَّ حَتَّى يَقُومَ» وَصَحَّ حَدِيثُ «مَا مِنْ أَحَدٍ يَمُرُّ بِقَبْرِ أَخِيهِ الْمُؤْمِنِ كَانَ يَعْرِفُهُ فِي الدُّنْيَا فَيُسَلِّمُ عَلَيْهِ إلَّا عَرَفَهُ وَرَّدَ عليه السلام» .

(وَسُئِلَ) فَسَّحَ اللَّهُ فِي مُدَّتِهِ هَلْ يَعْلَمُ الْأَمْوَاتُ بِأَحْوَالِ الْأَحْيَاءِ وَبِمَا هُمْ فِيهِ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ نَعَمْ لِحَدِيثِ مُسْنَدِ أَحْمَدَ «إنَّ أَعْمَالَكُمْ تُعْرَضُ عَلَى أَقَارِبِكُمْ وَعَشَائِرِكُمْ مِنْ الْأَمْوَاتِ فَإِنْ كَانَ خَيْرًا اسْتَبْشَرُوا وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ قَالُوا اللَّهُمَّ لَا تُمِتْهُمْ حَتَّى تَهْدِيَهُمْ كَمَا هَدَيْتَنَا» وَبِهِ يُعْلَمُ أَنَّهَا إنَّمَا تُعْرَضُ عَلَى صَالِحِي الْأَقَارِبِ وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُد الطَّيَالِسِيِّ «وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ قَالُوا اللَّهُمَّ أَلْهِمْهُمْ أَنْ يَعْمَلُوا بِطَاعَتِك» وَفِي حَدِيثٍ ضَعِيفٍ «إنَّ نَفْسَ الْمُؤْمِنِ إذَا قُبِضَتْ تَلَقَّاهَا أَهْلُ الرَّحْمَةِ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ كَمَا يَلْقَوْنَ الْبَشِيرَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا فَيَقُولُونَ اُنْظُرُوا صَاحِبَكُمْ لِيَسْتَرِيحَ فَإِنَّهُ فِي كَرْبٍ شَدِيدٍ ثُمَّ يَسْأَلُونَهُ مَا فَعَلَ فُلَانٌ وَفُلَانَةُ هَلْ تَزَوَّجَتْ» الْحَدِيثَ وَفِيهِ «إنَّ أَعْمَالَكُمْ تُعْرَضُ عَلَى أَقَارِبِكُمْ وَعَشَائِرِكُمْ مِنْ أَهْلِ الْآخِرَةِ فَإِنْ كَانَ خَيْرًا فَرِحُوا وَاسْتَبْشَرُوا وَقَالُوا اللَّهُمَّ هَذَا فَضْلُك وَرَحْمَتُك فَأَتْمِمْ نِعْمَتَك عَلَيْهِ وَأَمِتْهُ عَلَيْهَا وَيُعْرَضُ عَلَيْهِمْ عَمَلُ الْمُسِيءِ فَيَقُولُونَ اللَّهُمَّ أَلْهِمْهُ عَمَلًا صَالِحًا تَرْضَى بِهِ وَيُقَرِّبُهُ إلَيْك» وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ الْحَكِيمُ حَدِيثَ «تُعْرَضُ الْأَعْمَالُ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ عَلَى اللَّهِ وَتُعْرَضُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَعَلَى الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ الْجُمُعَةَ فَيَفْرَحُونَ بِحَسَنَاتِهِمْ وَتَزْدَادُ وُجُوهُهُمْ بَيَاضًا وَإِشْرَاقًا فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُؤْذُوا أَمْوَاتَكُمْ» وَفِي حَدِيثِ ابْنِ أَبِي الدُّنْيَا «لَا تَفْضَحُوا مَوْتَاكُمْ بِسَيِّئَاتِ أَعْمَالِكُمْ فَإِنَّهَا تُعْرَضُ عَلَى أَوْلِيَائِكُمْ مِنْ أَهْلِ الْقُبُورِ» .

(وَسُئِلَ) فَسَّحَ اللَّهُ فِي مُدَّتِهِ هَلْ يَسْمَعُ الْمَيِّتُ كَلَامَ النَّاسِ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ نَعَمْ لِحَدِيثِ أَحْمَدَ وَجَمَاعَةٍ «إنَّ الْمَيِّتَ يَعْرِفُ مَنْ يُغَسِّلُهُ وَيَحْمِلُهُ وَيُدْلِيهِ فِي قَبْرِهِ» وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ «الرُّوحُ بِيَدِ مَلَكٍ يَمْشِي بِهِ مَعَ الْجِنَازَةِ يَقُولُ لَهُ أَتَسْمَعُ مَا يُقَالُ لَك فَإِذَا بَلَغَ حُفْرَتَهُ دَفَنَهُ مَعَهُ» .

(وَسُئِلَ) فَسَّحَ اللَّهُ فِي مُدَّتِهِ مَا مَقَرُّ الْأَرْوَاحِ بَعْدَ مَوْتِ أَجْسَادِهَا؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ صَحَّ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ «إنَّمَا نَسَمَةُ الْمُؤْمِنِ أَيْ رُوحُهُ طَائِرٌ أَيْ عَلَى صُورَتِهِ تَعَلَّقَ فِي شَجَرِ الْجَنَّةِ حَتَّى يُرْجِعَهُ اللَّهُ إلَى جَسَدِهِ يَوْمَ يَبْعَثُهُ» وَفِي حَدِيثٍ سَنَدُهُ حَسَنٌ «تَكُونُ النَّسَمُ طَيْرًا يُعَلَّقُ بِالشَّجَرِ حَتَّى إذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ دَخَلَتْ كُلُّ نَفْسٍ فِي جَسَدِهَا» وَفِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ «أَرْوَاحُ الشُّهَدَاءِ عِنْدَ اللَّهِ فِي حَوَاصِلِ طَيْرٍ تَسْرَحُ فِي أَنْهَارِ الْجَنَّةِ حَيْثُ شَاءَتْ ثُمَّ تَأْوِي إلَى قَنَادِيلَ تَحْتَ الْعَرْشِ» وَفِي رِوَايَةٍ سَنَدُهَا حَسَنٌ «إنَّ أَرْوَاحَهُمْ فِي قُبَّةٍ خَضْرَاءَ عَلَى نَهْرٍ بِبَابِ الْجَنَّةِ يَخْرُجُ إلَيْهِمْ مِنْهَا رِزْقُهُمْ غُدْوَةً وَعَشِيَّةً» وَلَا تُخَالِفُ مَا قَبْلَهَا لِأَنَّهُمْ مَرَاتِبُ وَصَحَّ حَدِيثُ «أَوْلَادُ الْمُؤْمِنِينَ فِي جَبَلٍ فِي الْجَنَّةِ يَكْفُلُهُمْ إبْرَاهِيمُ وَسَارَةُ حَتَّى يَرُدَّهُمْ إلَى آبَائِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» .

وَأَخْرَجَ جَمَاعَةٌ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ «أُتِيت بِالْمِعْرَاجِ الَّذِي تَعْرُجُ عَلَيْهِ أَرْوَاحُ بَنِي آدَمَ فَمَا تَرَى الْخَلَائِقُ أَحْسَنَ مِنْ الْمِعْرَاجِ مَا رَأَيْت الْمَيِّتَ حِينَ يَشُقُّ بَصَرُهُ طَامِحًا إلَى السَّمَاءِ فَإِنَّ ذَلِكَ عَجَبُهُ بِالْمِعْرَاجِ فَصَعِدْت أَنَا وَجِبْرِيلُ فَاسْتَفْتَحَ بَابَ السَّمَاءِ فَإِذَا أَنَا بِآدَمَ تُعْرَضُ عَلَيْهِ أَرْوَاحُ ذُرِّيَّتِهِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فَيَقُولُ رُوحٌ طَيِّبَةٌ وَنَفْسٌ طَيِّبَةٌ اجْعَلُوهَا فِي

ص: 29

عِلِّيِّينَ ثُمَّ تُعْرَضُ عَلَيْهِ أَرْوَاحُ ذُرِّيَّتِهِ الْفُجَّارِ فَيَقُولُ رُوحٌ خَبِيثَةٌ وَنَفْسٌ خَبِيثَةٌ اجْعَلُوهَا فِي سِجِّينٍ» وَفِي حَدِيثٍ عِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ الْأَصْبَهَانِيِّ «إنَّ أَرْوَاحَ الْمُؤْمِنِينَ فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ يَنْظُرُونَ إلَى مَنَازِلِهِمْ فِي الْجَنَّةِ» وَلَا تَنَافِيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا قَبْلَهُ لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ دَرَجَاتٌ كَالشُّهَدَاءِ.

(وَسُئِلَ) نَفَعَ اللَّهُ بِهِ هَلْ تَجْتَمِعُ الْأَرْوَاحُ وَيَرَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ نَعَمْ لِلْخَبَرِ أَنَّهُمْ يَجْتَمِعُونَ وَيَتَلَقَّوْنَ الْمَيِّتَ ثُمَّ يَسْأَلُونَهُ مَا فَعَلَ فُلَانٌ وَفُلَانَةُ إلَخْ وَفِي حَدِيثِ ابْنِ أَبِي الدُّنْيَا «لَمَّا مَاتَ بِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ بْنِ مَعْرُورٍ وَجَدَتْ عَلَيْهِ أُمُّهُ وَجْدًا شَدِيدًا فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ يَتَعَارَفُ الْمَوْتَى فَأُرْسِلُ إلَى بِشْرٍ بِالسَّلَامِ فَقَالَ نَعَمْ وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنَّهُمْ لَيَتَعَارَفُونَ كَمَا يَتَعَارَفُ الطَّيْرُ فِي رُءُوسِ الشَّجَرِ» وَفِي حَدِيثِ أَحْمَدَ «إنَّ رُوحَيْ الْمُؤْمِنَيْنِ لَيَلْتَقِيَانِ عَلَى مَسِيرَةِ يَوْمٍ وَمَا رَأَى أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ قَطُّ» وَصَحَّ حَدِيثُ «إنَّ الْمُؤْمِنَ يَنْزِلُ بِهِ الْمَوْتُ وَيُعَايِنُ مَا يُعَايِنُ يَوَدُّ لَوْ خَرَجَتْ نَفْسُهُ وَاَللَّهُ يُحِبُّ لِقَاءَ الْمُؤْمِنِ وَإِنَّ الْمُؤْمِنَ تَصْعَدُ رُوحُهُ إلَى السَّمَاءِ فَتَأْتِيهِ أَرْوَاحُ الْمُؤْمِنِينَ يَسْتَخْبِرُونَهُ عَنْ مَعَارِفِهِ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ فَإِذَا قَالَ تَرَكْت فُلَانًا فِي الدُّنْيَا أَعْجَبَهُمْ ذَلِكَ وَإِذَا قَالَ إنَّ فُلَانًا قَدْ مَاتَ قَالُوا مَا جِيءَ بِهِ إلَيْنَا» وَفِي رِوَايَةٍ «فَيَقُولُونَ إنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ ذُهِبَ بِهِ إلَى أُمِّهِ الْهَاوِيَةِ» .

(وَسُئِلَ) فَسَّحَ اللَّهُ فِي مُدَّتِهِ هَلْ يُسْأَلُ الشَّهِيدُ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ لَا كَمَا صَرَّحَ بِهِ جَمَاعَةٌ وَاسْتَدَلَّ لَهُ الْقُرْطُبِيُّ بِخَبَرِ مُسْلِمٍ «هَلْ يُفْتَنُ الشَّهِيدُ قَالَ كَفَى بِبَارِقَةِ السُّيُوفِ عَلَى رَأْسِهِ فِتْنَةً» قَالَ وَمَعْنَاهُ أَنَّ السُّؤَالَ فِي الْقَبْرِ إنَّمَا جُعِلَ لِامْتِحَانِ الْمُؤْمِنِ الصَّادِقِ فِي إيمَانِهِ مِنْ الْمُنَافِقِ وَثُبُوتُهُ تَحْتَ بَارِقَةِ السُّيُوفِ أَدَلُّ دَلِيلٍ عَلَى صِدْقِهِ فِي إيمَانِهِ وَإِلَّا لَفَرَّ لِلْكُفَّارِ قَالَ وَإِذَا كَانَ الشَّهِيدُ لَا يُفْتَنُ فَالصِّدِّيقُ أَوْلَى لِأَنَّهُ أَجَلُّ قَدْرًا وَوَرَدَتْ أَحَادِيثُ إنَّ الْمَرَابِطَ لَا يُسْأَلُ أَيْضًا وَكَذَا الْمَطْعُونُ وَالصَّابِرُ فِي بَلَدِ الطَّعْنِ مُحْتَسِبًا وَمَاتَ بِغَيْرِ الطَّاعُونِ كَمَا فِي بَذْلِ الْمَاعُونِ لِشَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ حَجَرٍ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

(وَسُئِلَ) فَسَّحَ اللَّهُ فِي مُدَّتِهِ هَلْ يُسْأَلُ الطِّفْلُ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ لَا كَمَا أَفَادَهُ قَوْلُ أَئِمَّتِنَا خِلَافًا لِابْنِ يُونُسَ لَا يُلَقَّنُ صَبِيٌّ لَمْ يَبْلُغْ وَمِثْلُهُ مَجْنُونٌ لَمْ يَسْبِقْ لَهُ تَكْلِيفٌ قَالَ الزَّرْكَشِيُّ لِأَنَّهُمْ لَا يُسْأَلُونَ وَبِهِ أَفْتَى شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ حَجَرٍ وَلِلْحَنَابِلَةِ وَالْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ قَوْلٌ إنَّ الطِّفْلَ يُسْأَلُ وَرَجَّحَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ هَؤُلَاءِ وَاسْتُدِلَّ لَهُ بِمَا لَا يَصِحُّ «إنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَقَّنَ ابْنَهُ إبْرَاهِيمَ» وَلَا يُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «إنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي صَلَاتِهِ عَلَى الطِّفْلِ اللَّهُمَّ أَجِرْهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ» لِأَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِعَذَابِ الْقَبْرِ فِيهِ عُقُوبَتَهُ وَلَا السُّؤَالَ بَلْ مُجَرَّدَ أَلَمِ الْهَمِّ وَالْغَمِّ وَالْوَحْشَةِ وَالضَّغْطَةِ الَّتِي تَعُمُّ الْأَطْفَالَ وَغَيْرَهُمْ.

(وَسُئِلَ) فَسَّحَ اللَّهُ فِي مُدَّتِهِ بِمَا لَفْظُهُ مَا قِيلَ إنَّ الْمَوْتَى يُفْتَنُونَ فِي قُبُورِهِمْ أَيْ يُسْأَلُونَ كَمَا أَطْبَقَ عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ سَبْعَةَ أَيَّامٍ هَلْ لَهُ أَصْلٌ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ نَعَمْ لَهُ أَصْلٌ أَصِيلٌ فَقَدْ أَخْرَجَهُ جَمَاعَةٌ عَنْ طَاوُسِ بِالسَّنَدِ الصَّحِيحِ وَعُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ بِسَنَدٍ احْتَجَّ بِهِ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَهُوَ أَكْبَرُ مِنْ طَاوُسِ فِي التَّابِعِينَ بَلْ قِيلَ إنَّهُ صَحَابِيٌّ لِأَنَّهُ وُلِدَ فِي زَمَنِهِ صلى الله عليه وسلم وَكَانَ بَعْضُ زَمَنِ عُمَرَ بِمَكَّةَ وَمُجَاهِدٍ وَحُكْمُ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ الثَّلَاثِ حُكْمُ الْمَرَاسِيلِ الْمَرْفُوعَةِ لِأَنَّ مَا لَا يُقَالُ مِنْ جِهَةِ الرَّأْيِ إذَا جَاءَ عَنْ تَابِعِيٍّ يَكُونُ فِي حُكْمِ الْمُرْسَلِ الْمَرْفُوعِ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَمَا بَيَّنَهُ أَئِمَّةُ الْحَدِيثِ وَالْمُرْسَلُ حُجَّةٌ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ وَكَذَا عِنْدَنَا إذَا اعْتَضَدَ وَقَدْ اعْتَضَدَ مُرْسَلُ طَاوُسِ بِالْمُرْسَلَيْنِ الْآخَرَيْنِ بَلْ إذَا قُلْنَا بِثُبُوتِ صُحْبَةِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ كَانَ مُتَّصِلًا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَبِقَوْلِهِ الْآتِي عَنْ الصَّحَابَةِ كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ إلَخْ لِمَا يَأْتِي أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الْمَرْفُوعِ عَلَى الْخِلَافِ فِيهِ وَفِي بَعْضِ تِلْكَ الرِّوَايَاتِ زِيَادَةُ إنَّ الْمُنَافِقَ يُفْتَنُ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا وَمِنْ ثَمَّ صَحَّ عَنْ طَاوُسِ أَيْضًا أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ أَنْ يُطْعَمَ عَنْ الْمَيِّتِ تِلْكَ الْأَيَّامَ وَهَذَا مِنْ بَابِ قَوْلِ التَّابِعِيِّ كَانُوا يَفْعَلُونَ وَفِيهِ قَوْلَانِ لِأَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْأُصُولِ:

أَحَدُهُمَا أَنَّهُ أَيْضًا مِنْ بَابِ الْمَرْفُوعِ وَأَنَّ مَعْنَاهُ كَانَ النَّاسُ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَيَعْلَمُ بِهِ وَيُقِرُّ عَلَيْهِ وَالثَّانِي أَنَّهُ مِنْ بَابِ الْعَزْوِ إلَى الصَّحَابَةِ دُونَ انْتِهَائِهِ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَعَلَى هَذَا قِيلَ إنَّهُ إخْبَارٌ عَنْ جَمِيعِ الصَّحَابَةِ

ص: 30

فَيَكُونُ نَقْلًا لِلْإِجْمَاعِ وَقِيلَ عَنْ بَعْضِهِمْ وَرَجَّحَهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ وَقَالَ الرَّافِعِيُّ مِثْلُ هَذَا اللَّفْظِ يُرَادُ بِهِ أَنَّهُ كَانَ مَشْهُورًا فِي ذَلِكَ الْعَهْدِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ ثُمَّ مَا ذُكِرَ فِي السُّؤَالِ عَنْ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْفِتْنَةِ سُؤَالُ الْمَلَكَيْنِ صَحِيحٌ.

وَيُؤَيِّدُهُ خَبَرُ الْبُخَارِيِّ «أُوحِيَ إلَيَّ أَنَّكُمْ تُفْتَنُونَ فِي الْقُبُورِ فَيُقَالُ مَا عِلْمُك بِهَذَا الرَّجُلِ» إلَخْ وَرَوَى ابْن أَبِي الدُّنْيَا «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِعُمَرَ كَيْفَ أَنْتَ إذَا رَأَيْت مُنْكَرًا وَنَكِيرًا قَالَ وَمَا مُنْكَرٌ وَنَكِيرٌ قَالَ فَتَّانَا الْقَبْرِ» الْحَدِيثُ وَفِي مُرْسَلٍ عِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ «فَتَّانُ الْقَبْرِ ثَلَاثَةٌ أَنَكُورُ وَنَاكُورُ وَرُومَانُ» وَفِي حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ رَوَاهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ «فَتَّانُو الْقَبْرِ أَرْبَعَةٌ مُنْكَرٌ وَنَكِيرٌ وَنَاكُورُ وَرُومَانُ» .

وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ فِي ذِكْرِ السَّبْعَةِ الْأَيَّامِ مُعَارَضَةٌ لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ لِأَنَّهَا مُطْلَقَةٌ وَهَذَا فِيهِ زِيَادَةٌ عَلَيْهَا فَوَجَبَ قَبُولُهَا كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي الْأُصُولِ وَقَوْلُهُ فِيهَا نَمْ صَالِحًا لَا يُنَافِيهِ السُّؤَالُ فِي يَوْمٍ ثَانٍ وَهَكَذَا خِلَافًا لِمَنْ وَهَمَ فِيهِ وَنَظِيرُ ذَلِكَ أَنَّهُ أَطْلَقَ السُّؤَالَ فِيهَا وَفِي حَدِيثٍ حَسَنٍ إنَّ السُّؤَالَ يُعَادُ عَلَيْهِ فِي الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَإِنَّهُ جَاءَ فِي أَحَادِيثَ إنَّ السَّائِلَ مَلَكٌ وَفِي أَحَادِيثَ إنَّهُ مَلَكَانِ وَأَحَادِيثَ إنَّهُ ثَلَاثَةٌ وَأَحَادِيثَ إنَّهُ أَرْبَعَةٌ وَلَا تَنَافِيَ لِأَنَّ ذَاكِرَ الْوَاحِدِ لَمْ يَقُلْ وَلَا يَأْتِيهِ غَيْرُهُ ذَكَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ.

وَاعْلَمْ أَيْضًا أَنَّ السُّؤَالَ فِيمَا بَعْدَ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ تَأْكِيدٌ لَهُ لِحَدِيثِ إنَّهُمْ لَا يُسْأَلُونَ عَنْ شَيْءٍ سِوَى مَا ذُكِرَ فِي السُّؤَالِ الْأَوَّلِ وَحِكْمَةُ التَّكْرِيرِ تَمْحِيصُ الصَّغَائِرِ وَإِظْهَارُ شَرَفِهِ صلى الله عليه وسلم وَمَزِيَّتِهِ عَلَى سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ فَإِنَّ سُؤَالَ الْقَبْرِ إنَّمَا جُعِلَ تَعْظِيمًا لَهُ إذْ لَمْ يُجْعَلْ ذَلِكَ لِنَبِيٍّ غَيْرِهِ وَصَحَّ حَدِيثُ «وَأَمَّا فِتْنَةُ الْقَبْرِ فَبِي يُفْتَنُونَ وَعَنِّي يُسْأَلُونَ» وَبَيَّنَ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ أَنَّ سُؤَالَ الْقُبُورِ خَاصٌّ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ فَإِنْ قُلْت لِمَ كَرَّرَ الْإِطْعَامَ سَبْعَةَ أَيَّامٍ دُونَ التَّلْقِينِ قُلْت لِأَنَّ مَصْلَحَةَ الْإِطْعَامِ مُتَعَدِّيَةٌ وَفَائِدَتُهُ لِلْمَيِّتِ أَعْلَى إذْ الْإِطْعَامُ عَنْ الْمَيِّتِ صَدَقَةٌ وَهِيَ تُسَنُّ عَنْهُ إجْمَاعًا وَالتَّلْقِينُ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ بِدْعَةٌ وَإِنْ كَانَ الْأَصَحُّ عِنْدَنَا خِلَافَهُ لِمَجِيءِ الْحَدِيثِ بِهِ وَالضَّعِيفُ يُعْمَلُ بِهِ فِي الْفَضَائِلِ.

(وَسُئِلَ) فَسَّحَ اللَّهُ فِي مُدَّتِهِ بِمَا لَفْظُهُ مَا مَيِّتٌ مَاتَ وَلَمْ تَطْلُعْ رُوحُهُ كَمَا صَحَّ بِهِ الْخَبَرُ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ الْمُرَادُ بِذَلِكَ النُّطَفُ فِي الْأَصْلَابِ سَمَّاهَا اللَّهُ أَمْوَاتًا مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِيهَا رُوحٌ فَقَالَ {وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ} [البقرة: 28] .

(وَسُئِلَ) أَعَادَ اللَّهُ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِهِ عَنْ تَرْكِ الْعِيَادَةِ لِلْمَرْضَى يَوْمَ السَّبْتِ هَلْ لَهُ أَصْلٌ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ لَا أَصْلَ لَهُ بَلْ هُوَ بِدْعَةٌ قَبِيحَةٌ اخْتَرَعَهَا بَعْضُ الْيَهُودِ لَمَّا أَلْزَمَهُ الْمَلِكُ بِقَطْعِ سَبْتِهِ وَالْإِتْيَانِ لِمُدَاوَاتِهِ فَتَخَلَّصَ مِنْهُ بِقَوْلِهِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُدْخَلَ عَلَى مَرِيضٍ يَوْمَ السَّبْتِ فَتَرَكَهُ وَأَمَّا زَعْمُ بَعْضِهِمْ أَنَّ لِذَلِكَ أَصْلًا وَهُوَ زِيَارَتُهُ صلى الله عليه وسلم الْقُبُورَ يَوْمَ السَّبْتِ قَالَ فَفِيهِ تَفَاؤُلٌ عَلَى مَوْتِ الْمَرِيضِ فَهُوَ فِي غَايَةِ السُّقُوطِ إذْ لَيْسَ فِيهِ إشَارَةٌ لِذَلِكَ بِوَجْهٍ كَمَا هُوَ وَاضِحٌ فَتَرْكُ ذَلِكَ لِذَلِكَ مِنْ بَابِ التَّشَاؤُمِ وَالطِّيَرَةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُمَا وَالْمُسْلِمُونَ بُرَآءُ مِنْ ذَلِكَ وَلَيْسَ هَذَا إلَّا كَقَوْلِ بَعْضِ الْعَوَامّ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُزَارَ الْمَرِيضُ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم مَاتَ فِيهِ وَهَذَا أَيْضًا مِنْ بَابِ التَّشَاؤُمِ وَالطِّيَرَةِ.

نَعَمْ هُنَا فَائِدَةٌ دَقِيقَةٌ يَنْبَغِي التَّفَطُّنُ لَهَا وَهِيَ أَنَّهُ رَسَخَ فِي أَذْهَانِ الْعَوَامّ أَنَّ أَيَّامًا مَشْئُومَةً عَلَى الْمَرِيضِ إذَا أُعِيدَ فِيهَا فَيَنْبَغِي لِمَنْ عُلِمَ مِنْهُ اعْتِقَادُ ذَلِكَ أَنْ لَا يُعَادَ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ لِأَنَّ ذَلِكَ يُؤْذِي الْمَرِيضَ وَيَزِيدُ فِي مَرَضِهِ لِمَا رَكَزَ فِي عُقُولِهِمْ السَّخِيفَةِ مِنْ التَّشَاؤُمِ وَالطِّيَرَةِ فَيَحْصُلُ بِذَلِكَ ضَرَرٌ كَبِيرٌ وَقَدْ قَالَ صلى الله عليه وسلم «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ» وَقَدْ تُتْرَكُ السُّنَّةُ لِعَوَارِضَ قَوِيَّةٍ.

فَإِنْ قُلْت يَنْبَغِي لِلْعَالِمِ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ إظْهَارًا لِلسُّنَّةِ وَإِعْلَامًا لِلنَّاسِ بِهَا لِيَتْرُكُوا مَا فِي أَذْهَانِهِمْ قُلْت هَذَا وَاضِحٌ إنْ لَمْ يَغْلِبْ عَلَيْهِمْ الْجَهْلُ وَالتَّشَاؤُمُ وَيَرْسَخُ ذَلِكَ فِي أَذْهَانِهِمْ حَتَّى يُعَادُوا بِسَبَبِهِ الْعَالِمَ وَيَسْتَسْخِرُوا بِهِ وَيَحْصُلَ لَهُ مِنْهُمْ مِنْهُ أَذًى شَدِيدٌ أَمَّا إذَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ ذَلِكَ فَتَرْكُهُ أَوْلَى لِأَنَّ

دَرْءَ الْمَفَاسِدِ

أَوْلَى مِنْ جَلْبِ الْمَصَالِحِ.

(وَسُئِلَ) فَسَّحَ اللَّهُ فِي أَجَلِهِ عَمَّا اُعْتِيدَ مِنْ أَنَّ مَنْ عَادَ مَرِيضًا لَا بُدَّ أَنْ يَأْتِيَ مَعَهُ بِشَيْءٍ وَإِلَّا عِيبَ عَلَيْهِ هَلْ لَهُ أَصْلٌ أَوْ هُوَ بِدْعَةٌ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ لَا أَصْلَ لِذَلِكَ بَلْ هُوَ بِدْعَةٌ إنْ كَانَ مَعَ اعْتِقَادِهِ تَوَقُّفُ الْعِيَادَةِ عَلَى شَيْءٍ يَصْحَبُهُ مَعَهُ

ص: 31