المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

مَغْصُوبٍ ثُمَّ قَالَ وَقِسْ عَلَى هَذَا مَا يُشْبِهُهُ فَمَا الْجَوَابُ - الفتاوى الفقهية الكبرى - جـ ٢

[ابن حجر الهيتمي]

فهرس الكتاب

- ‌[بَابُ الْجَنَائِزِ]

- ‌[بَابُ تَارِكِ الصَّلَاةِ]

- ‌[كِتَابِ الزَّكَاةِ]

- ‌[بَابُ زَكَاةِ الْفِطْرِ]

- ‌[بَابُ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ]

- ‌[كِتَابُ الصَّوْمِ]

- ‌[كِتَابُ الِاعْتِكَافِ]

- ‌[كِتَابُ الْحَجِّ]

- ‌[بَابُ الْبَيْعِ]

- ‌[تَنْوِيرُ الْبَصَائِرِ وَالْعُيُونِ بِإِيضَاحِ حُكْمِ بَيْعِ سَاعَةٍ مِنْ قَرَارِ الْعُيُونِ]

- ‌[الْبَابُ الْأَوَّلُ فِي الْمُتَعَاقِدَيْنِ بِالسَّاعَةِ مِنْ الْقَرَارِ جُزْءًا مُشَاعًا مِنْهُ]

- ‌[الْبَابُ الثَّانِي بَيْعُ الْمَاءِ الرَّاكِدِ]

- ‌[الْبَاب الثَّالِثِ إذَا لَمْ يَقْصِدْ الْعَاقِدَانِ بِالسَّاعَتَيْنِ جُزْءًا مِنْ قَرَارٍ وَلَا مَاءَ]

- ‌[الْبَابُ الرَّابِعُ لَمْ يُرِيدَا بِالسَّاعَتَيْنِ جُزْءًا مِنْ الْقَرَارِ أَوْ الْمَاءِ]

- ‌[الْبَابُ الْخَامِسُ التَّنَاقُض فِي بَيْعِ الْمَاءِ وَالْقَرَارِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي بَيْعِ الْمَاءِ]

- ‌[الْبَابُ السَّادِسُ فِي بَيَانِ حُكْم عُيُونِ الْحِجَازِ]

- ‌[الْبَابُ السَّابِعُ فِي حُكْمِ الْقَاضِي وَفِيهِ فَصْلَانِ]

- ‌[الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي بَيَانِ الْحُكْمِ بِالْمُوجِبِ وَالْحُكْمِ بِالصِّحَّةِ]

- ‌[الْفَصْلُ الثَّانِي فِيمَا يُنْقَضُ فِيهِ قَضَاءُ الْقَاضِي وَمَا لَا يُنْقَضُ]

- ‌[بَابُ الرِّبَا]

- ‌[بَابُ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ]

- ‌[بَابُ الْخِيَارِ]

- ‌[بَابُ الْمَبِيعِ قَبْلَ قَبْضِهِ]

- ‌[بَابُ التَّحَالُفِ]

- ‌[بَابُ مُعَامَلَةِ الْعَبِيدِ]

- ‌[بَابُ السَّلَمِ]

- ‌[بَابُ الْقَرْضِ]

- ‌[بَابُ الرَّهْنِ]

- ‌[بَابُ التَّفْلِيسِ]

الفصل: مَغْصُوبٍ ثُمَّ قَالَ وَقِسْ عَلَى هَذَا مَا يُشْبِهُهُ فَمَا الْجَوَابُ

مَغْصُوبٍ ثُمَّ قَالَ وَقِسْ عَلَى هَذَا مَا يُشْبِهُهُ فَمَا الْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ يُجَابُ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ حُرْمَةَ مُكْثِ نَحْوِ الْجُنُبِ إنَّمَا مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ مَسْجِدًا الْمُشْتَرَطُ فِي الِاعْتِكَافِ فَلَمْ يُمْكِنْ تَصْحِيحُهُ حِينَئِذٍ بِخِلَافِ حُرْمَةِ الْمُكْثِ فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي أَوْرَدْت فَإِنَّهَا لِأَمْرٍ خَارِجٍ وَهُوَ كَوْنُهُ لَيْسَ مِنْ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ لَا لِأَجَلِ كَوْنِهِ مَسْجِدًا وَنَظِير ذَلِكَ عَدَمُ إجْزَاءِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفِّ الَّذِي لَبِسَهُ الْمُحْرِمُ بِخِلَافِ الْخُفِّ الَّذِي مِنْ فِضَّةٍ أَوْ ذَهَبٍ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ حَرَامٌ مِنْ حَيْثُ اللُّبْسُ الَّذِي لَا يَتَحَقَّقُ الْمَسْحُ عَلَى الْخُفِّ إلَّا بِهِ بِخِلَافِ الثَّانِي فَإِنَّ حُرْمَتَهُ لِلِاسْتِعْمَالِ الْأَعَمِّ لِحُصُولِهِ بِاللُّبْسِ وَغَيْرِهِ.

(وَسُئِلَ) نَفَعَ اللَّهُ بِهِ عَنْ قَوْلِهِمْ لَا يَصِحُّ الِاعْتِكَافُ فِيمَا وُقِفَ جُزْؤُهُ شَائِعًا مَسْجِدًا وَيَحْرُمُ الْمُكْثُ فِيهِ عَلَى الْجُنُبِ مَثَلًا وَإِذَا دَخَلَهُ مُتَطَهِّرٌ سُنَّ لَهُ صَلَاةُ التَّحِيَّةِ فَمَا الْفَرْقُ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ قَدْ يُفَرَّقُ بَعْدَ تَسْلِيمِ سَنِّ التَّحِيَّةِ لَهُ وَهُوَ الْمُتَّجَهُ بِأَنَّ الْمَدَارَ فِي حُرْمَةِ مُكْثِ الْجُنُبِ عَلَى مُمَاسَّتِهِ لِجُزْءٍ مِنْ الْمَسْجِدِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِخْلَالِ بِحُرْمَتِهِ حِينَئِذٍ وَقَدْ حَصَلَ ذَلِكَ فَحَرَّمُوا الْمُكْثَ فِيمَا ذُكِرَ كَمَا أَفْتَى بِهِ ابْنُ الصَّلَاحِ وَهُوَ الْأَوْجَهُ خِلَافًا لِلْبَارِزِيِّ وَفِي صِحَّةِ الِاعْتِكَافِ عَلَى خُلُوصِ الْمَسْجِدِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ خَصَائِصِهِ وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ فَلَمْ يَصِحَّ.

وَأَيْضًا فَاخْتِصَاصُ الِاعْتِكَافِ بِالْمَسْجِدِ إنَّمَا هُوَ لِمَزِيدِ تَعْظِيمِهِ وَحَيْثُ صَحَّ مَعَ مُمَاسَّةِ غَيْرِهِ كَانَ فِيهِ إخْلَالٌ بِذَلِكَ التَّعْظِيمِ فَرُوعِيَ الْإِخْلَالُ بِالْحُرْمَةِ ثَمَّ وَالْإِخْلَالُ بِالتَّعْظِيمِ هُنَا. وَيُفَرَّقُ بَيْنَ عَدَمِ صِحَّةِ الِاعْتِكَافِ فِيهِ وَنَدْبِ التَّحِيَّةِ لِدَاخِلِهِ بِأَنَّهُ قَدْ مَاسَّ جُزْءًا مِنْ الْمَسْجِدِ فَيُسَنُّ لَهُ تَحِيَّةُ ذَلِكَ الْجُزْءِ الَّذِي مَاسَّهُ مُبَالَغَةً فِي تَعْظِيمِهِ، وَإِشَارَةً إلَى أَنَّ مُمَاسَّةَ غَيْرِهِ لَا تُؤَثِّرُ فِيمَا طُلِبَ لَهُ مِنْ مَزِيدِ التَّعْظِيمِ. وَلَوْ قُلْنَا بِصِحَّةِ الِاعْتِكَافِ فِيهِ لَكَانَ مُعْتَكِفًا فِي جُزْءٍ غَيْرِ مَسْجِدٍ وَفِيهِ مِنْ الْإِخْلَالِ بِالتَّعْظِيمِ مَا مَرَّ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِيمَا إذَا صَلَّى التَّحِيَّةَ أَنَّهُ صَلَّاهَا لِجُزْءٍ غَيْرِ الْمَسْجِدِ؛ لِأَنَّ الِاعْتِكَافَ أَمْرٌ حِسِّيٌّ فَلَا يُمْكِنُ تَخْصِيصُهُ بِالْمَسْجِدِ مَعَ مُمَاسَّةِ بَدَنِهِ لِغَيْرِهِ بِخِلَافِ الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ يُمْكِنُ تَخْصِيصُهَا بِالْجُزْءِ الَّذِي هُوَ مَسْجِدٌ دُونَ غَيْرِهِ وَيُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْته فِيمَا مَرَّ أَنَّهُ لَوْ أَخْرَجَ الْمُعْتَكِفُ إحْدَى رِجْلَيْهِ مِنْ الْمَسْجِدِ وَاعْتَمَدَ عَلَيْهِمَا ضُرَّ عَلَى الْأَوْجَهِ، وَإِنْ نَظَرَ فِيهِ الْإِسْنَوِيُّ.

(وَسُئِلَ) أَعَادَ اللَّهُ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِهِ بِمَا لَفْظُهُ رَأَيْت فِي بَعْضِ التَّعَالِيقِ مَنْسُوبًا لِلْإِمَامِ الْبُلْقِينِيُّ أَنَّهُ قَالَ لَوْ وَقَفَ جِذْعًا لِلِاعْتِكَافِ حُرِّمَ الْمُكْثُ عَلَيْهِ وَكَذَا السَّجَّادَةُ اهـ كَلَامُهُ هَلْ قَوْلُهُ صَحِيحٌ مُؤَيَّدٌ بِكَلَامِهِمْ أَمْ لَا؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ مَا نُقِلَ عَنْ الْبُلْقِينِيُّ كَلَامٌ مُظْلِمٌ إذْ لَمْ يُبَيَّنْ كَيْفِيَّةَ وَقْفِ الْجِذْعِ لِلِاعْتِكَافِ وَلَا مَحَلَّ ذَلِكَ الْجِذْعِ، وَقَوْلُ الْمُعَلِّقِ وَكَذَا السَّجَّادَةُ يُوهِمُ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ الْبُلْقِينِيُّ وَكُلُّ ذَلِكَ تَأْبَاهُ جَلَالَةُ الْبُلْقِينِيُّ وَإِنَّمَا مَسْأَلَةُ السَّجَّادَةِ كَانَتْ نُقِلَتْ عَنْ شَيْخِنَا شَيْخِ الْإِسْلَامِ زَكَرِيَّا رحمه الله أَنَّهُ وَقَفَ سَجَّادَتَهُ مَسْجِدًا فَكَانَ يَنْوِي الِاعْتِكَافَ عَلَيْهَا فِي سَفَرِهِ لِلْحَجِّ تَقْلِيدًا لِوَجْهٍ ضَعِيفٍ يَرَى صِحَّةَ وَقْفِ الْمَنْقُولِ مَسْجِدًا.

هَذَا مَا نُقِلَ عَنْ الشَّيْخِ وَقَدْ تَتَبَّعْنَاهُ فَلَمْ نَرَهُ صَحَّ عَنْهُ أَصْلًا وَإِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ يُلْقَى بَيْنَ بَعْضِ الطَّلَبَةِ لِاسْتِغْرَابِهِ وَكُلُّ ذَلِكَ لَا حَقِيقَةَ لَهُ فِي الْمَذْهَبِ وَلَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ الْعَمَلُ بِهِ وَلَا الِاعْتِمَادُ عَلَى مَا فِي التَّعَالِيقِ الَّتِي لَا يُعْلَمُ حَالُ كَاتِبِهَا أَوْ يُعْلَمُ حَالُهُ وَأَنَّهُ غَيْرُ مَوْصُوفٍ بِالْعِلْمِ أَوْ الْعَدَالَةِ وَكَمْ مِنْ تَعَالِيقَ يَقَعُ فِيهَا غَرَائِبُ يَرَاهَا بَعْضُ مَنْ لَا يَعْرِفُ الْقَوَاعِدَ فَيَزِلَّ بِهَا قَدَمُهُ وَيَطْغَى بِنَقْلِهَا قَلَمُهُ نَعَمْ غَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَوْ بَنَى فِي مِلْكِهِ مَسْطَبَةً أَوْ أَثْبَتَ فِيهِ خَشَبًا جَازَ لَهُ وَقْفُهُ مَسْجِدًا عَلَى مَا نُقِلَ عَنْ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ؛ لِأَنَّهُ الْآنَ مُثْبِتٌ فَهُوَ فِي حُكْمِ وَقْفِ الْعُلْوِ دُونَ السُّفْلِ مَسْجِدًا وَهُوَ صَحِيحٌ.

[كِتَابُ الْحَجِّ]

(وَسُئِلَ) رضي الله عنه وَمَتَّعَ بِحَيَاتِهِ عَنْ شَخْصٍ جُوعِلَ عَلَى أَنْ يَحُجَّ وَيَعْتَمِرَ عَنْ فُلَانٍ الْفُلَانِيِّ بِكَذَا فَأَخْبَرَ الْجَعِيلُ بِأَنَّهُ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ عَنْ الشَّخْصِ الْمَذْكُورِ الَّذِي جُوعِلَ لِأَجَلِهِ وَأَخْبَرَ أَنَّهُ وَقَفَ عَنْهُ بِعَرَفَةَ فَهَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِشْهَادُ بِحُضُورِهِ فِي عَرَفَةَ فِي وَقْتِ الْوُقُوفِ فِي مَسْأَلَةِ الْجِعَالَةِ دُونَ الْإِجَارَةِ كَمَا أَفْتَى بِهِ بَعْضُ أَكَابِرِ فُقَهَاءِ الْيَمَنَ بِالنِّسْبَةِ لِلْجِعَالَةِ دُونَ الْإِجَارَةِ فَارِقًا بَيْنَ الْإِجَارَةِ وَالْجِعَالَةِ بِفُرُوقٍ أَمْ يَجِبُ

ص: 91

الْإِشْهَادُ فِيهِمَا فَإِنْ قُلْتُمْ لَا يَجِبُ الْإِشْهَادُ فَذَاكَ، وَإِنْ قُلْتُمْ بِوُجُوبِهِ فِيهِمَا أَوْ فِي أَحَدِهِمَا فَهَلْ يَكْفِيه الْإِشْهَادُ عَلَيْهِ أَنَّهُ حَضَرَ فِي أَرْضِ عَرَفَةَ فِي وَقْتِ الْوُقُوفِ، وَإِنْ لَمْ يُشْهِدْ أَنَّ وُقُوفَهُ عَلَى فُلَانٍ الْفُلَانِيِّ بَلْ إذَا أَخْبَرَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّ وُقُوفَهُ كَانَ عَنْ فُلَانٍ الْمَذْكُورِ يُقْبَلُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ ذَاكَ لَا يُعْلَمُ مِنْهُ أَوْ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يُمْكِنُهُ الْإِشْهَادُ حَالَةَ الْوُقُوفِ مَثَلًا أَنَّ وُقُوفَهُ مَثَلًا كَانَ عَنْ فُلَانٍ وَلَمْ يَفْعَلْ وَكَذَا سَائِرُ أَرْكَانِ الْحَجِّ غَيْرَ النِّيَّةِ. وَهَلْ جَمِيعُ مَا ذُكِرَ يَأْتِي فِي الْعُمْرَةِ؟

(فَأَجَابَ رضي الله عنه) بِأَنَّ الْمُعْتَمَدَ الَّذِي ذَكَرْتُهُ فِي حَاشِيَةِ الْإِيضَاحِ أَنَّهُ يُقْبَلُ بِلَا يَمِينٍ قَوْلُ الْأَجِيرِ حَجَجْت مَا لَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ كَانَ يَوْمَ الْوُقُوفِ بِبَغْدَادَ مَثَلًا بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ لَهُ آخَرُ إنْ حَجَجْت عَنْ أَبِي فَلَكَ كَذَا فَإِنَّهُ لَا يُقْبَلُ دَعْوَاهُ الْحَجَّ إلَّا بِبَيِّنَةٍ وَيَكُونُ حَلِفُ الْمُنْكِرِ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ.

كَذَا ذَكَرَهُ الزَّبِيلِيُّ وَمُرَادُهُ بِالْبَيِّنَةِ أَنَّهُ كَانَ حَاضِرًا تِلْكَ الْمَوَاقِفَ فِي السَّنَةِ الْمُعَيَّنَةِ لَا أَنَّهُ حَجَّ عَنْ فُلَانٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُعْلَمُ إلَّا مِنْهُ وَيُؤَيِّدُهُ مَا ذُكِرَ فِي الْجِعَالَةِ مِنْ قَوْلِهِمْ فِي بَابِهَا لَوْ اخْتَلَفَا بَعْدَ فَرَاغِ الْعَمَلِ فِي الرَّدِّ فَقَالَ الْعَامِلُ رَدَدْته وَقَالَ الْمَالِكُ جَاءَ بِنَفْسِهِ صُدِّقَ الْمَالِكُ اهـ فَأَفْهَمْ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ دَعْوَى الْعَامِلِ أَنَّهُ أَتَى بِالْعَمَلِ الْمُجَاعَلِ عَلَيْهِ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ يَمِينِهِ أَنَّهُ أَتَى بِهِ وَيُفَرَّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِجَارَةِ بِأَنَّ الْأَجِيرَ مَلَكَ الْأُجْرَةَ بِالْعَقْدِ، وَإِنْ كَانَ مِلْكُهُ غَيْرَ مُسْتَقِرٍّ فَإِذَا ادَّعَى مُسْتَأْجَرُهُ أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِالْعَمَلِ كَانَ مُدَّعِيًا عَلَيْهِ خِيَانَةً وَالْأَصْلُ عَدَمُهَا فَصُدِّقَ الْأَجِيرُ فِي نَفِيهَا بِيَمِينِهِ غَالِبًا، وَأَمَّا الْعَامِلُ فِي الْجِعَالَةِ فَلَمْ يَمْلِكْ الْجَعْلَ بَلْ وَلَا يَثْبُتُ لَهُ فِيهِ شَائِبَةُ حَقٍّ إلَّا بَعْدَ مَا شُرِطَ عَلَيْهِ مِنْ الْعَمَلِ كَرَدِّ الْآبِقِ فَإِذَا ادَّعَى أَنَّهُ رَدَّ كَانَ مُدَّعِيًا عَلَى الْمَالِكِ بِمَا لَمْ يَتَحَقَّقْ سَبَبَهُ فَصَدَقَ الْمَالِكُ فِي نَفْيِ دَعْوَاهُ بِيَمِينِهِ عَلَى قِيَاسِ سَائِرِ الدَّعَاوَى الَّتِي هَذَا شَأْنُهَا، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

(وَسُئِلَ) فَسَّحَ اللَّهُ فِي مُدَّتِهِ فِيمَنْ أَوْصَى بِحَجَّةٍ وَزِيَارَةٍ بِالْقَدَمِ بِأَنْ يَأْتِيَ بِهِمَا النَّائِبُ بِنَفْسِهِ فَجَاعَلَهُ الْوَصِيُّ كَذَلِكَ فَحَجَّ وَلَمْ يَزُرْ بَلْ اسْتَنَابَ مَنْ يَزُورُ عَنْ الْوَصِيِّ لِعُذْرٍ أَوْ دُونِهِ هَلْ يَسْتَحِقُّ جَمِيعَ الْمُوصَى بِهِ أَوْ قِسْطَ الْحَجِّ فَقَطْ أَوْ يُفَرَّقُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مَعْذُورًا بِنَحْوِ مَرَضٍ حَالَ الْجِعَالَةِ فَيَسْتَحِقُّ جَمِيعَ الْمُسَمَّى وَبَيْنَ أَنْ يَطْرَأَ الْعُذْرُ فَلَا يَسْتَحِقُّ إلَّا قِسْطَ الْحَجِّ كَمَا فِي نَظِيرِهِ مِنْ الْوَكَالَةِ فَلَوْ أَذِنَ لَهُ الْوَصِيُّ فِي الِاسْتِنَابَةِ فِي الزِّيَارَةِ وَالْحَالَةُ هَذِهِ هَلْ يَجُوزُ أَمْ لَا وَعَلَيْهِ هَلْ يَغْرَمُ أَمْ لَا وَمَا تَقُولُونَ فِيمَا يُسَمَّى بِالْمُلْزَمَةِ وَذَلِكَ بِأَنْ يُوصِيَ الشَّخْصُ بِقَدْرٍ قَلِيلٍ لِمَنْ يَحُجُّ عَنْهُ وَالْحَالُ أَنَّهُ لَا يُوجَدُ مَنْ يَعْتَنِي بِالْمَسِيرِ بِمِثْلِ ذَلِكَ مِنْ بَلَدِ الْمُوصِي هَلْ يَصِحُّ ذَلِكَ أَوْ تَبْطُلُ الْوَصِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْوَصِيَّ قَدْ يَقُولُ لِشَخْصٍ يَعْتَنِي بِالْحَجِّ إذَا خَرَجْت حَاجًّا أَوْ اسْتَنَبْتَ بِمَنْ يَحُجُّ عَنْ الْمُوصِي الْمَذْكُورِ فَلَكَ كَذَا أَوْ يَقُولُ لَك فِي تَرِكَتِهِ كَذَا أَوْ يَقُولُ عِنْدِي أَوْ عَلَيَّ أَوْ يُطْلِقُ هَلْ يَصِحُّ وَيَلْزَمُ الْمُوصِيَ دَفْعُ الْمُسَمَّى مِنْ التَّرِكَةِ أَوْ يَلْزَمُ ذَلِكَ مِنْ مَالِهِ أَوْ لَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا أَصْلًا أَوْ يَسْتَحِقُّ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ دُونَ بَعْضٍ عَلَى أَنَّ مِنْ الْمَعْلُومِ الْمُشَاهَدِ أَنَّ أَرْبَابَ الْمُلَازِمِ أَيْ السَّائِرِينَ بِهَا يَسْتَنِيبُونَ هُنَاكَ مَنْ لَا يَقُومُ بِوَاجِبِهَا بِقَدْرٍ قَلِيلٍ مِنْ الْأَصْلِ الَّذِي هُوَ قَلِيلٌ وَيَأْخُذُونَ الْبَاقِيَ لِأَنْفُسِهِمْ هَلْ يَحِلُّ لَهُمْ مَا أَخَذُوهُ أَمْ هُوَ مِنْ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ يَفْسُقُ مُتَعَاطِيهِ مَعَ عِلْمِهِ بِالتَّحْرِيمِ وَهَلْ يَأْثَمُ الْوَصِيُّ بِذَلِكَ أَيْضًا وَيَنْعَزِلُ أَمْ لَا؟ وَلَوْ عَاقَدَ بَيْنَهُمَا فَقِيهٌ مَعَ الْعِلْمِ بِالْحَالِ هَلْ يَأْثَمُ وَهَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ وَيُقَدَّمُ غُرْمُهُ عَلَى الْوَصِيِّ وَالْمُوصِي أَمْ لَا وَهَلْ يُشْتَرَطُ فِي الِاسْتِنَابَةِ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَالزِّيَارَةِ أَنْ يَكُونَ النَّائِبُ عَدْلًا كَمَا نُقِلَ عَنْ الْأَذْرَعِيِّ أَمْ لَا كَمَا أَفْتَى بِهِ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ اُبْسُطُوا الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ؟

(فَأَجَابَ) رضي الله عنه بِأَنَّ الْمُوصِي مَتَى شَرَطَ فِي وَصِيَّتِهِ صَرِيحًا أَنَّ مَنْ يَحُجُّ أَوْ يَزُورُ عَنْهُ يَأْتِي بِنَفْسِهِ وَكَذَلِكَ لَوْ شَرَطَ ذَلِكَ لُزُومًا بِأَنْ قَالَ بِالْقَدَمِ وَعَرَّفَهُ وَالْمُطَّرِدُ التَّعْبِيرَ بِذَلِكَ عَنْ إلْزَامِ النَّائِبِ بِأَنْ يَأْتِي بِذَلِكَ بِنَفْسِهِ وَجَبَ عَلَى الْوَصِيِّ فِي هَاتَيْنِ الصُّورَتَيْنِ أَنْ يَسْتَأْجِرَ مَنْ يَحُجُّ وَيَزُورُ عَنْهُ إجَارَةَ عَيْنٍ أَوْ أَنْ يُجَاعِلَ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ وَيَشْتَرِطُ عَلَيْهِ عَدَمَ الِاسْتِنَابَةِ فِيهِ الْعَامِلُ فِي الْجِعَالَةِ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُوَكِّلَ مَنْ يُحَصِّلُ الْعَمَلَ لَكِنْ لَا مُطْلَقًا بَلْ فِيمَا يَعْجِزُ عَنْهُ أَوْ

ص: 92

لَا يَلِيق بِهِ مَا لَمْ يُشْتَرَطْ عَلَيْهِ أَنْ يَتَوَلَّى ذَلِكَ بِنَفْسِهِ فَحِينَئِذٍ لَا يَجُوزُ لَهُ التَّوْكِيلُ فِيهِ مُطْلَقًا كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ وَلَا يُقَالُ هَذَا شَرْطٌ مُخَالِفٌ لِلْعَقْدِ لِأَنَّا نَقُولُ لَيْسَ مُخَالِفًا لَهُ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَا يَقْتَضِي جَوَازَ التَّوْكِيلِ بِقَيْدِهِ الْمَذْكُورِ إلَّا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، وَأَمَّا عِنْدَ النَّصِّ عَلَى أَنَّهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ فَلَا يَقْتَضِي جَوَازَ التَّوْكِيلِ؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَعْيَانِ الْعَامِلِينَ فَحَيْثُ شَرَطَ عَلَى الْعَامِلِ أَنْ يَتَوَلَّى الْعَمَلَ بِنَفْسِهِ اتَّبَعَ شَرْطَهُ أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَكِيلَ لَا يَجُوزُ لَهُ التَّوْكِيلُ إلَّا إنْ عَجَزَ أَوْ لَمْ يَلِقْ بِهِ مَا وُكِّلَ فِيهِ فَهُوَ كَالْعَامِلِ

وَلَوْ شَرَطَ عَلَيْهِ الْمُوَكِّلُ أَنْ يَتَوَلَّى مَا وُكِّلَ فِيهِ بِنَفْسِهِ لَمْ يَجُزْ التَّوْكِيلُ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ كَلَامُهُمْ فِي الْوَكَالَةِ فَقِيَاسُهُ أَنَّ الْعَامِلَ كَذَلِكَ إذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ فَمَتَى اُسْتُؤْجِرَتْ عَيْنُ إنْسَانٍ أَوْ جُوعِلَ عَلَى عَيْنٍ وَشَرَطَ عَلَيْهِ عَدَمَ الِاسْتِنَابَةِ مُطْلَقًا فَاسْتَنَابَ مَنْ يَزُورُ عَنْ الْمُوصِي لَمْ يَسْتَحِقَّ هُوَ وَلَا نَائِبُهُ شَيْئًا فِي مُقَابِلِ الزِّيَارَةِ وَإِنَّمَا الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ الْحَاجُّ قِسْطُ الْحَجَّةِ فَقَطْ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ اسْتَنَابَ لِعُذْرٍ أَوْ لِغَيْرِهِ وَسَوَاءٌ كَانَ مَعْذُورًا حَالَ الْجِعَالَةِ أَمْ لَا وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ قِسْطَ الْحَجَّةِ مُطْلَقًا لِوُقُوعِهَا لِلْمَحْجُوجِ عَنْهُ إجْزَاءً وَثَوَابًا فَهُوَ نَظِيرُ مَا ذَكَرَهُ الشَّيْخَانِ فِي مَسْأَلَةِ الصَّبِيِّ يَمُوتُ فِي أَثْنَاءِ التَّعْلِيمِ. وَمِنْ ثَمَّ اعْتَمَدَ جَمْعٌ مُتَأَخِّرُونَ قَوْلَ ابْنِ الصَّبَّاغِ لَوْ جَاعَلَهُ عَلَى خِيَاطَةِ ثَوْبٍ فَخَاطَ نِصْفَهُ ثُمَّ سَلَّمَهُ لِلْمَالِكِ فَاحْتَرَقَ فِي يَدِهِ اسْتَحَقَّ نِصْفَ الْمَشْرُوطِ فَقَوْلُهُمْ لَا يَسْتَحِقُّ عَامِلُ الْجِعَالَةَ الْجَعْلَ بِالْفَرَاغِ أَوْ وُقُوعُ الْعَمَلِ مُسْلِمًا لَا يُنَافِي مَا ذُكِرَ لِوُقُوعِ الْعَمَلِ فِيهِ مُسْلِمًا فِي الْبَعْضِ فَاسْتَحَقَّ بِقِسْطِهِ وَلَمْ يُرِيدُوا بِذَلِكَ وُقُوعَهُ جَمِيعِهِ بِدَلِيلِ مَسْأَلَتَيْ الصَّبِيِّ وَالثَّوْبِ الْمَذْكُورَتَيْنِ وَإِنَّمَا احْتَرَزُوا بِذَلِكَ عَنْ اخْتِلَالٍ يَقَعُ فِي الْأَثْنَاءِ يَمْنَعُ مِنْ وُقُوعِ الْعَمَلِ مِنْ أَصْلِهِ مُسَلَّمًا وَبِمَا تَقَرَّرَ عُلِمَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْوَصِيِّ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي الِاسْتِنَابَةِ فَإِنْ أَذِنَ لَهُ فِيهَا كَانَ لَغْوًا وَلَا غُرْمَ عَلَيْهِ فِيمَا يَظْهَرُ؛ لِأَنَّ الزِّيَارَةَ وَقَعَتْ لِلْمُبَاشِرِ

وَلَمْ تَقَعْ لِلْمُوصِي وَلَا لِلْمُوصَى وَمَنْ لَا يَقَعُ الْعَمَلُ مُسَلَّمًا لَهُ لَا غُرْمَ عَلَيْهِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ كَلَامُهُمْ فِي بَابِ الْجِعَالَةِ هَذَا إنْ كَانَ الْأَجِيرُ أَوْ الْعَامِلُ عَالِمًا بِفَسَادِ الْإِجَارَةِ أَوْ الْجِعَالَةِ وَإِلَّا فَاَلَّذِي يَنْبَغِي أَنَّ لَهُ أُجْرَةَ الْمِثْلِ عَلَى الْوَصِيِّ أَخْذًا مِنْ قَوْلِهِمْ إذَا لَمْ نُجَوِّزْ الِاسْتِئْجَارَ لِلتَّطَوُّعِ وَقَعَ عَنْ الْأَجِيرِ وَلَمْ يُسْتَحَقّ الْمُسَمَّى بَلْ أُجْرَةَ الْمِثْلِ وَقَدْ اسْتَشْكَلَ السُّبْكِيّ بِهَذَا قَوْلَ الشَّيْخَيْنِ فِيمَنْ اُسْتُؤْجِرَ عَنْ مَعْضُوبٍ فَبَرِئَ لَا أُجْرَةَ لَهُ وَوَقَعَ الْحَجُّ لَهُ لَا لِلْمَعْضُوبِ.

وَأَجَبْت فِي حَاشِيَةِ الْعُبَابِ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّهُ لَا تَقْصِيرَ فِي مَسْأَلَةِ الْمَعْضُوبِ مِنْ الْمُسْتَأْجِرِ لِأَنَّ الِاسْتِئْجَارَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ وَالْبُرْءُ لَمْ يَحْصُلْ بِاخْتِيَارِهِ فَاقْتَضَى عُذْرُهُ عَدَمَ وُجُوبِ شَيْءٍ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ مِنْهُ تَغْرِيرٌ لِلْأَجِيرِ بِخِلَافِ الْمُسْتَأْجِرِ فِي قَوْلِهِمْ الْمَذْكُورِ فَإِنَّهُ غَيْرُ مُضْطَرٍّ لِلِاسْتِئْجَارِ بَلْ يَحْرُمُ عَلَيْهِ ذَلِكَ إنْ عَلِمَ امْتِنَاعَهُ لِلتَّطَوُّعِ فَلَمْ يُعَارِضْ تَغْرِيرَهُ لِلْأَجِيرِ شَيْءٌ فَوَجَبَ عَلَيْهِ مُقَابِلُ مَا أَتْلَفَهُ مِنْ مَنَافِعِهِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ وَهُوَ أُجْرَةُ الْمِثْلِ وَمَحَلُّ اسْتِحْقَاقِ الْأَجِيرِ أُجْرَةَ الْمِثْلِ فِي قَوْلِهِمْ الْمَذْكُورِ مَا إذَا جَهِلَ الْأَجِيرُ الْحَالَ وَظَنَّ الصِّحَّةَ اهـ وَبِهِ يُعْلَمُ التَّفْصِيلُ الَّذِي ذَكَرْته فِي الْوَصِيِّ وَلَوْ جَاعَلَ الْوَصِيُّ مَنْ يَحُجُّ وَيَزُور وَلَمْ يَشْتَرِطْ عَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِذَلِكَ بِنَفْسِهِ فَاَلَّذِي يَظْهَرُ صِحَّةُ الْجِعَالَة، وَإِنْ قُلْنَا إنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَشْرِطَ عَلَى الْعَامِلِ الْإِتْيَانَ بِذَلِكَ بِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّ إيجَابَ ذَلِكَ لَيْسَ بِتَوَقُّفِ صِحَّةِ الْمُجَاعَلَةِ مِنْهُ عَلَيْهِ بَلْ؛ لِأَنَّ فِيهِ مُرَاعَاةً لِغَرَضِ الْمُوصِي وَاحْتِيَاطًا فِي أَمْرِ الْعَامِلِ حَتَّى لَا يُوَكَّلَ فِي ذَلِكَ، وَأَمَّا إذَا لَمْ يَشْرِطْ الْمُوصِي عَلَى مَنْ يَحُجُّ وَيَزُورُ عَنْهُ أَنْ يَأْتِيَ بِذَلِكَ بِنَفْسِهِ فَإِنْ اسْتَنَابَ مَنْ جَاعَلَهُ الْوَصِيُّ مَنْ يَزُورُ عَنْ الْمَيِّتِ لِعَجْزِهِ عَنْ الزِّيَارَةِ بِنَفْسِهِ اسْتَحَقَّ أُجْرَةَ الزِّيَارَةِ أَيْضًا سَوَاءٌ كَانَ عَاجِزًا عِنْدَ الْجِعَالَةِ أَمْ طَرَأَ عَجْزُهُ بَعْدَهَا وَسَوَاءٌ أَعَمِلَ النَّائِبُ لَهُ تَبَرُّعًا أَمْ بِعِوَضٍ.

وَأَمَّا إذَا اسْتَنَابَ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى الزِّيَارَةِ بِنَفْسِهِ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا مِنْ قِسْطِهَا مُطْلَقًا، وَإِذَا أَوْصَى الشَّخْصُ لِمَنْ يَحُجُّ عَنْهُ وَعَيَّنَ أُجْرَةً قَلِيلَةً فَإِنْ وُجِدَ أَجِيرٌ يَرْضَى لَزِمَ الْوَصِيَّ اسْتِئْجَارُهُ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ أَحَدٌ يَرْضَى بِهَا بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ وَرَجَعَ الْمَالُ الْمُعَيَّنُ لِلْوَرَثَةِ هَذَا إنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْمُوصِي حَجَّةُ فَرْضٍ وَإِلَّا لَزِمَ الْوَرَثَةَ الزِّيَادَةُ عَلَى مَا عَيْنُهُ وَالِاسْتِئْجَارُ عَنْهُ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ ثُمَّ إذَا وُجِدَ مَنْ يَرْضَى بِمَا عَيَّنَهُ وَاسْتَأْجَرَهُ الْوَصِيُّ بِهِ فَإِنْ قَالَ وَلَك فِي

ص: 93

تَرِكَتِهِ كَذَا أَوْ وَلَك كَذَا أَوْ أَطْلَقَ وَنَحْوَ ذَلِكَ صَحَّتْ الْإِجَارَةُ بِذَلِكَ الْمُعَيَّنِ وَلَا شَيْءَ حِينَئِذٍ عَلَى الْوَصِيِّ، وَإِنْ قَالَ وَلَك عَلَيَّ كَذَا أَوْ عِنْدِي كَذَا فَإِنَّهَا تَصِحُّ إنْ كَانَ الْحَجُّ عَلَى الْمَيِّتِ فَرْضًا وَيَلْزَمُ الْوَصِيَّ مِنْ مَالِهِ مَا عَيَّنَهُ وَيَقَعُ الْحَجُّ عَنْ الْمَيِّتِ وَتَبْطُلُ الْوَصِيَّةُ وَيَعُودُ مَا عَيَّنَهُ لِلْوَرَثَةِ نَعَمْ لَوْ قَالَ فِي صُورَةٍ وَلَك عِنْدِي كَذَا إنَّمَا أَرَدْت مُعَيَّنَ الْمُوصَى وَعَبَّرْت بِعِنْدِي لِأَنَّهُ تَحْتَ يَدَيَّ فَاَلَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ يَصْدُقُ فِي هَذِهِ الدَّعْوَى بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ ذَلِكَ فِي عَلَيَّ عَلَى احْتِمَالِ لِي وَعَلَيْهِ يُفَرَّقُ بِأَنَّ شُمُولَ عِنْدِي لِلْوَدِيعَةِ وَنَحْوِهَا أَظْهَرُ مِنْ شُمُولِ عَلَيَّ لِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَشْمَلُهُ إلَّا بِتَأْوِيلٍ كَعَلَيَّ حِفْظُهَا بِخِلَافِ عِنْدِي فَإِنَّهَا تَشْمَلُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ تَأْوِيلٍ كَمَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ كَلَامُهُمْ فِي بَابِ الْإِقْرَارِ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ يُقْبَلُ قَوْلُهُ بِيَمِينِهِ حَتَّى فِي عَلَيَّ؛ لِأَنَّهُ يَصْلُحُ لَأَنْ يُرِيدَ بِهِ عَلَيَّ دَفْعُهُ مِنْ التَّرِكَةِ لِأَجْلِ كَوْنِي وَصِيًّا عَلَيْهَا وَلَعَلَّ هَذَا أَقْرَبُ وَيَجِبُ عَلَى الْوَصِيِّ أَنْ لَا يَسْتَأْجِرَ أَوْ يُجَاعِلَ إلَّا عَدْلًا عَلَى الْمُعْتَمَدِ؛ لِأَنَّهُ مُتَصَرِّف عَنْ الْغَيْرِ وَكُلُّ مُتَصَرِّفٍ عَنْ الْغَيْرِ يَلْزَمُهُ الِاحْتِيَاطُ وَغَيْرُ الثِّقَةِ لَا يُوثَقُ مِنْهُ بِأَنْ يَحُجَّ عَنْ الْمَيِّتِ، وَإِنْ شُوهِدَ؛ لِأَنَّ الْمَدَارَ عَلَى النِّيَّةِ وَهِيَ أَمْرٌ قَلْبِيٌّ لَا اطِّلَاعَ لِأَحَدٍ عَلَيْهَا.

وَبِهِ يُعْلَمُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ مَنْ اُسْتُؤْجِرَ أَوْ جُوعِلَ لِأَدَاءِ فَرْضٍ أَوْ تَطَوُّعٍ كَنَفْلِ حَجٍّ أَوْصَى بِهِ أَوْ زِيَارَةٍ أَوْصَى بِهَا لِأَنَّ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ تَطَوُّعًا فِي الْأَصْلِ إلَّا أَنَّهُ بِالْوَصِيَّةِ صَارَ وَاجِبَ الْأَدَاءِ وَمَا وَجَبَ أَدَاؤُهُ لَا يَخْرُجُ عَنْ عُهْدَتِهِ بِفِعْلِ الْفَاسِقِ لَهُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ أَمِينٍ وَمُشَاهَدَةُ أَفْعَالِهِ لَا تَمْنَعُ خِيَانَتَهُ لِارْتِبَاطِهَا بِالنِّيَّةِ وَلَا مَطْلَعَ لِأَحَدٍ عَلَيْهَا كَمَا تَقَرَّرَ لَكِنَّ الَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعَدَالَةِ هُنَا الْعَدَالَةُ الظَّاهِرَةُ دُونَ الْبَاطِنَةِ نَعَمْ إنْ عَيَّنَ الْمُوصَى الْحَاجَّ عَنْهُ وَكَانَ فَاسِقًا فَإِنْ كَانَ مَعَ عِلْمِهِ بِفِسْقِهِ فَلَا كَلَامَ أَنَّهُ يَجِبُ اسْتِئْجَارُهُ وَيَصِحُّ حَجُّهُ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ مَعَ جَهْلِهِ بِحَالِهِ أَوْ شَكَكْنَا هَلْ عَلِمَ فِسْقَهُ أَوْ لَا اُحْتُمِلَ أَنْ يُقَالَ يُسْتَأْجَرُ أَيْضًا نَظَرًا لِلتَّعْيِينِ وَيُحْتَمَل أَنْ يُقَالَ لَا يَسْتَأْجِرُ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ الِاحْتِيَاطِ وَمَا كَانَ مُخَالِفًا لِلِاحْتِيَاطِ فِي أَمْرِ الْمَيِّتِ لَا يَجُوزُ فِعْلُهُ إلَّا إنْ نَصَّ عَلَيْهِ الْمَيِّتُ صَرِيحًا لِلنَّظَرِ فِي ذَلِكَ مَجَال، وَأَمَّا أَرْبَابُ الْمُلَازِمِ الْمَذْكُورُونَ فِي السُّؤَالِ فَإِنْ أُرِيدَ بِهِمْ الْمُسْتَأْجِرُونَ كَانَ فِيهِمْ تَفْصِيلٌ وَهُوَ أَنَّ الْوَصِيَّ إنْ اسْتَأْجَرَ بَعْضَهُمْ إجَارَةً عَيَّنَ كَأَنْ قَالَ لَهُ اسْتَأْجَرْتُك وَلَا يَحْتَاجُ أَنْ يَقُولَ اسْتَأْجَرْتُك عَيْنَك لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَسْتَنِيبَ مُطْلَقًا فَإِنْ اسْتَنَابَ لَمْ يَصِحَّ لِأَنَّهُ قَامَ بِهِ أَجْنَبِيٌّ وَلِنَائِبِهِ عَلَيْهِ أُجْرَةُ الْمِثْلِ إنْ اسْتَأْجَرَهُ عَنْ مَيِّتٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ مَجَّانًا وَعَلَى مُسْتَنِيبِهِ رَدُّ الْأُجْرَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ بِنَفْسِهِ قَالَهُ الْجَلَالُ الْبُلْقِينِيُّ وَإِنْ اسْتَأْجَرَ إجَارَةَ ذِمَّةٍ جَازَ لِلْأَجِيرِ أَنْ يَسْتَنِيبَ وَلَوْ بِشَيْءٍ قَلِيلٍ دُونَ الَّذِي اُسْتُؤْجِرَ هُوَ بِهِ. وَيَجُوزُ لَهُ حِينَئِذٍ أَكْلُ الزَّائِدِ نَعَمْ يَلْزَمُهُ أَنْ لَا يَسْتَأْجِرَ إلَّا عَدْلًا، وَإِنْ أُرِيدَ بِهِمْ أَنَّهُمْ وُكَلَاءُ الْأَوْصِيَاءِ فِي الِاسْتِئْجَارِ لَزِمَهُمْ أَنْ يَسْتَأْجِرُوا بِجَمِيعِ الْمَالِ الْمَدْفُوعِ إلَيْهِمْ وَأَنْ لَا يَسْتَأْجِرُوا إلَّا عَدْلًا وَلَا يَحِلُّ لَهُمْ أَخْذُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ الْمَالِ وَمَتَى أَخَذُوا مِنْهُ شَيْئًا فَسَقُوا وَكَانُوا مِنْ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَوَجَبَ عَلَى الْحَاكِمِ - أَصْلَحَهُ اللَّهُ - إذَا ثَبَتَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ عِنْدَهُ أَنْ يُعَزِّرَهُمْ عَلَيْهِ التَّعْزِيرَ الْبَلِيغَ الشَّدِيدَ الزَّاجِرَ لَهُمْ وَلِأَمْثَالِهِمْ عَنْ هَذِهِ الْقَبَائِحِ الشَّنِيعَةِ وَأَنْ يَمْنَعَهُمْ مِنْ تَعَاطِي ذَلِكَ وَحَيْثُ عَلِمَ الْوَصِيُّ بِأَحْوَالِهِمْ هَذِهِ الْقَبِيحَةِ وَوَكَّلَهُمْ أَوْ اسْتَأْجَرَهُمْ مَعَ ذَلِكَ فَسَقَ أَيْضًا وَانْعَزَلَ وَعُزِّرَ أَيْضًا التَّعْزِيرَ الشَّدِيد وَكَذَلِكَ الْفَقِيهُ الْعَاقِدُ بَيْنَهُمَا إذَا عَلِمَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ أَعَانَهُمْ عَلَى الْمُنْكَرِ، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

(وَسُئِلَ) أَعَادَ اللَّهُ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِهِ عَمَّا إذَا حَجَّ الصَّبِيُّ مَعَ أَحَدِ الْأَوْلِيَاءِ الْأَبِ أَوْ الْجَدِّ أَوْ الْأُمِّ وَأَوْقَفَهُ الْمَوَاقِفَ وَمَا قَدَرَ عَلَى تَحْصِيلِهِ مِنْ الْعِبَادَةِ هَلْ يَسْقُطُ أَمْ لَا بُدَّ إذَا بَلَغَ أَنْ يَأْتِيَ بِالْحَجِّ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ مَتَى لَمْ يَبْلُغْ الصَّبِيُّ قَبْلَ مُفَارَقَةِ مَوْقِفِ عَرَفَةَ لَمْ يُجْزِهِ حَجُّهُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ أَنْ يَحُجَّ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ إنْ وُجِدَتْ فِيهِ شُرُوطُ الِاسْتِطَاعَةِ وَاَللَّهِ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

(وَسُئِلَ) رضي الله عنه عَمَّا لَوْ أَوْصَى آفَاقِيّ بِحَجَّةٍ هَلْ يَصِحُّ أَنْ يَسْتَأْجِرَ عَنْهُ غَيْرَ آفَاقِيّ كَحَاضِرٍ؟

(فَأَجَابَ) نَفَعَ اللَّهُ بِهِ بِأَنَّ كَلَامَ الشَّافِعِيِّ وَالْأَصْحَابِ ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يَسْتَأْجِر عَنْ الْآفَاقِيِّ غَيْرُ الْآفَاقِيِّ وَعَكْسُهُ ثُمَّ

ص: 94

رَأَيْتنِي ذَكَرْت فِي بَعْضِ الْفَتَاوَى مَسْأَلَةَ أَوْصَى لِمَنْ يَزُورُ عَنْهُ قَبْرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِكَذَا فَهَلْ يَجُوزُ تَفْوِيضُ ذَلِكَ لِبَعْضِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ الشَّرِيفَةِ وَهَلْ مِثْلُهُ مَنْ أَوْصَى بِحَجٍّ وَهُوَ آفَاقِيٌّ فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ الْجَوَابُ نَعَمْ يَجُوزُ عَلَى مَا أَفْتَى بِهِ بَعْضُهُمْ لَكِنْ أَطَالَ غَيْرُهُ فِي الِاسْتِدْلَالِ لِامْتِنَاعِ ذَلِكَ لِأَنَّهُ مُنَافٍ لِغَرَضِ الْمُوصِي وَيُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى مَا إذَا اطَّرَدَ عُرْفُ بَلَدِ الْمُوصِي بِأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يَنْصَرِفُ لِمَنْ يَحُجُّ عَنْهُ مِنْ بَلَدِهِ اهـ. وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

(وَسُئِلَ) رضي الله عنه عَنْ أَنَّ الْحَمَامَ الْحَرَمِيَّ هَلْ يَجُوزُ تَطْيِيرُهُ مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إذَا عُرِفَ تَنْجِيسُهَا لَهُ بِالذَّرْقِ أَمْ لَا يَجُوزُ وَهَلْ ذَلِكَ يَكُونُ مِنْ بَابِ حِفْظِ الْمَسْجِدِ مِنْ النَّجَاسَةِ أَمْ لَا فَإِنْ قُلْتُمْ لَا لِأَنَّ الْحَمَامَ غَيْرُ مُكَلَّفٍ فَهَلْ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إنَّ الْحَمَامَ وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ لَكِنَّ صِيَانَةَ الْمَسْجِدِ عَنْ النَّجَاسَةِ وَاجِبٌ وَالْوَاجِبُ يُسْعَى إلَى فِعْلِهِ بِكُلِّ مَا أَمْكَنَ وَهَلْ يَشْهَدُ لِذَلِكَ وُجُوبُ مَنْعِ الصَّبِيَّانِ وَالْبَهَائِمِ إذَا خِيفَ تَنْجِيسُهُمْ مِنْ الْمَسْجِدِ أَمْ لَا، وَإِذَا قُلْتُمْ أَنَّ ذَرْقَهُ غَيْرُ مُنَجِّس لَهُ فَهَلْ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُنَجِّسٍ لَكِنَّهُ مُقَذِّرٌ لَهُ وَالْقَذَرُ يَجِبُ صَوْنُ الْمَسْجِدِ عَنْهُ أَوْ يُقَالُ يَجُوزُ الدَّفْعُ مِنْ جِهَةِ دَفْعِ الصَّائِلِ مِنْ الْحَيَوَانِ فَإِنَّ الْحَمَامَ صَائِلٌ بِالتَّنْجِيسِ وَهَلْ هَذَا يُعَدُّ صَائِلًا فَإِذَا قُلْتُمْ بِذَلِكَ جَازَ التَّطْيِيرُ؟

(فَأَجَابَ) رضي الله عنه بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَنْفِيرُ الْحَمَامِ الْمَذْكُورِ لِنَهْيِهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ تَنْفِيرِ صَيْدِ مَكَّةَ أَيْ كُلِّ الْحَرَمِ وَالْحَمَامُ مِنْ صَيْدِ الْحَرَمِ وَكَلَامُ أَصْحَابِنَا صَرِيحٌ فِي ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ أَطْلَقُوا حُرْمَةَ ذَلِكَ وَلَمْ يُقَيِّدُوهُ بِالْمَسْجِدِ وَلَا غَيْرِهِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي حُرْمَةِ ذَلِكَ بَيْنَ الْمَسْجِدِ وَغَيْرِهِ عَلَى أَنَّ ذَرْقَهُ فِي أَرْضِ الْمَسْجِدِ مَعْفُوٌّ عَنْهُ فَلَا ضَرُورَةَ إلَى تَنْفِيرِهِ، وَكَوْنُ صِيَانَةِ الْمَسْجِدِ عَنْ النَّجَاسَةِ وَاجِبَةٌ إنَّمَا هُوَ فِي حَقِّ الْمُكَلَّفِ أَوْ مَنْ هُوَ مِنْ جِنْسِهِ كَالْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ وَالسَّكْرَانِ وَمَا هُوَ تَحْتَ يَدِ الْمُكَلَّفِ كَالْبَهِيمَةِ وَالْحَمَام لَيْسَ وَاحِدًا مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ فَلَمْ يَجِبْ تَنْفِيرُهُ مِنْ سَائِرِ الْمَسَاجِدِ بَلْ يَحْرُمُ تَنْفِيرُهُ مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لِلنَّهْيِ الصَّحِيحِ عَنْهُ مَعَ عَدَمِ الضَّرُورَةِ إلَيْهِ كَمَا تَقَرَّرَ وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

(وَسُئِلَ) رضي الله عنه عَنْ شَخْصٍ مُجَاوِرٍ بِالْمَدِينَةِ الشَّرِيفَةِ مَثَلًا وَهُوَ يُرِيدُ الْحَجَّ وَلَكِنَّهُ مُتَرَجٍّ مَنْ يَسْتَأْجِرُهُ أَوْ يُجَاعِلُهُ لِلْحَجِّ فَلَمَّا تَقَارَبَتْ عَلَيْهِ أَيَّامُ الْحَجِّ وَلَمْ يَجُزْ لَهُ مُجَاوَزَةُ الْمِيقَاتِ بِلَا إحْرَامٍ نَوَى الْإِحْرَامَ مُطْلَقًا وَشَرَطَ التَّحَلُّلَ بِكُلِّ عُذْرٍ يَعْرِضُ لَهُ سَوَاءٌ أَكَانَ الْعُذْرُ دِينِيًّا أَوْ دُنْيَوِيًّا أَوْ نَوَى الْإِحْرَامَ بِشَرْطِ التَّحَلُّلِ إنْ وَجَدَ مَنْ يَسْتَأْجِرُهُ قَبْلَ يَوْمِ التَّرْوِيَةِ أَوْ قَبْلَ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ فَهَلْ يَصِحُّ الشَّرْطُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ كُلِّهَا أَوْ شَيْءٍ مِنْهَا وَيَتَحَلَّلُ عِنْدَ وُجُودِهِ أَمْ لَا فَإِنَّ كَلَامَهُمْ فِي الْحَجِّ رُبَّمَا يُفْهِمُ الصِّحَّةَ حَيْثُ قَالُوا وَلَا يَتَحَلَّلُ الْمُحْرِمُ لِمَرَضٍ وَفَقْدِ نَفَقَةٍ وَإِضْلَالِ طَرِيقٍ وَنَحْوِهِ مِنْ الْأَعْذَارِ إلَّا إذَا شَرَطَهُ فَلَهُ التَّحَلُّلُ بِذَلِكَ وَكَلَامُهُمْ يُشِيرُ إلَى عَدَمِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْأَعْذَارِ كُلِّهَا حَيْثُ قَالُوا إنَّ لَهُ التَّحَلُّلَ بِذَلِكَ كَمَا أَنَّ لَهُ الْخُرُوجَ مِنْ الصَّوْمِ الْمَنْذُورِ فِيمَا لَوْ نَذَرَهُ بِشَرْطِ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهُ بِعُذْرٍ وَقَدْ قَالَ الْأَصْحَابُ فِي كِتَابِ الِاعْتِكَافِ لَوْ شَرَطَ الْخُرُوجَ لِشُغْلٍ وَنَحْوِهِ كَجُوعٍ وَتَضْيِيقٍ فِي صَوْمٍ أَوْ صَلَاةٍ نَذَرَهُمَا أَوْ قَالَ فِي نَذْرِ الصَّدَقَةِ ذَلِكَ كَمَا فِي الْإِحْرَامِ الْمَشْرُوطِ أَوْ لَا يَصِحُّ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَإِنْ قُلْتُمْ بِعَدَمِ الصِّحَّةِ فَهَلْ لَهُ سَبِيلٌ إلَى مُجَاوَزَةِ الْمِيقَاتِ بِلَا إحْرَامٍ مَعَ إرَادَتِهِ النُّسُكَ بِلَا تَحْرِيمٍ أَمْ لَا فَلَوْ نَوَى الْإِحْرَامَ مُطْلَقًا فَلَمَّا وَجَدَ مَنْ يُجَاعِلُهُ عَلَى حَجِّهِ قَدَّمَ الْحَجَّ هَذِهِ السَّنَةَ قَبْلَ الْوُقُوفِ لِمَنْ جَعَلَ لَهُ كَذَا هَلْ يَصِحُّ ذَلِكَ أَمْ لَا؟ فَإِنْ قِيلَ بِالصِّحَّةِ فَهَلْ لَهُ صَرْفُ إحْرَامِهِ الْمُطْلَقِ إلَى مَا شَاءَ مِنْ أَوْجُهِ النُّسُكِ أَمْ لَا؟ وَهَلْ قَوْلُ الْإِرْشَادِ كَغَيْرِهِ إنَّهُ يَنْصَرِفُ إحْرَامُ الْأَجِيرِ وَالْمُتَطَوِّعِ إلَى حَجٍّ نَذَرَهُ قَبْلَ الْوُقُوفِ مَخْصُوصٌ بِمَا إذَا نَذَرَ الْحَجَّ لِنَفْسِهِ أَمْ هُوَ مُطْلَقٌ وَهَلْ قَوْلُهُمْ إنَّهُ يَحْرُمُ مُجَاوَزَةُ الْمِيقَاتِ بِلَا إحْرَامٍ عَلَى مُرِيدِ النُّسُكِ هَلْ ذَلِكَ لِمَنْ أَرَادَهُ فِي سَنَتِهِ الَّتِي قَدِمَ فِيهَا أَوْ الْمُرَادُ أَنَّهُ يَحْرُمُ مُجَاوَزَةُ الْمِيقَاتِ بِلَا إحْرَامٍ عَلَى مُرِيدِ الدُّخُولِ بِنُسُكٍ فَلَوْ دَخَلَ بِلَا نُسُكٍ فَلَا تَحْرِيمَ كَمَا ذَكَرُوهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى لُزُومِ الدَّمِ الَّذِي هُوَ فَرْعُ التَّحْرِيمِ؟

(فَأَجَابَ) رضي الله عنه بِقَوْلِهِ نَعَمْ يَصِحُّ الْإِحْرَامُ الْمُطْلَقُ أَوْ الْمُعَيَّنُ وَإِنْ اقْتَرَنَ بِشَرْطِ التَّحَلُّلِ مِنْهُ وَيَصِحُّ أَيْضًا

ص: 95

اشْتِرَاطُ مُرِيدِهِ وَقْتَ الدُّخُولِ فِيهِ التَّحَلُّلَ مِنْهُ بِكُلِّ مَا يَطْرَأُ لَهُ مِنْ عُذْرٍ مُبَاحٍ كَمَا اقْتَضَاهُ إطْلَاقُهُمْ فِي بَابِ الْحَجِّ وَصَرَّحَ بِهِ الْأَذْرَعِيُّ وَكَلَامُهُمْ فِي الِاعْتِكَافِ صَرِيحٌ فِيهِ وَمِنْ الْعُذْرِ الْمُبَاحِ وُجُودُ مَنْ يَسْتَأْجِرُهُ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ ثُمَّ إنْ شَرَطَهُ بِلَا هَدْيٍ كَانَ تَحَلُّلُهُ بِالنِّيَّةِ فَقَطْ، وَإِنْ شَرَطَهُ بِهَدْيٍ لَزِمَهُ وَلَا سَبِيلَ إلَى مُجَاوَزَةِ الْمِيقَاتِ بِلَا إحْرَامٍ حَيْثُ كَانَ مُرِيدًا لِلنُّسُكِ وَلَمْ يَنْوِ الْعُودَ إلَيْهِ أَوْ إلَى مِثْلِ مَسَافَتِهِ. نَعَمْ شَرْطُ التَّحْرِيمِ أَنْ يَقْصِدَ الْإِحْرَامَ بِالنُّسُكِ فِي تِلْكَ السَّنَةِ فَلَوْ قَصَدَ مَكَّةَ لَا لِلنُّسُكِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ بَلْ فِي السَّنَةِ بَعْدَهَا لَمْ يَلْزَمْهُ الْإِحْرَامُ مِنْ الْمِيقَاتِ فِيمَا يَظْهَرُ أَخْذًا مِنْ قَوْلِهِمْ شَرْطُ لُزُومِ الدَّمِ أَنْ يُحْرِمَ فِي تِلْكَ السَّنَةِ فَلَوْ أَحْرَمَ فِي سَنَةٍ أُخْرَى فَلَا دَمَ لِأَنَّ إحْرَامَ هَذِهِ السَّنَةِ لَا يَصْلُحُ لِإِحْرَامِ غَيْرِهَا اهـ وَالتَّحْرِيمُ وَالدَّمُ مُتَلَازِمَانِ غَالِبًا فَإِذَا انْتَفَى أَحَدُهُمَا فَالْأَصْلُ انْتِفَاءُ الْآخَرِ إلَّا لِدَلِيلٍ وَأَيْضًا فَعَدَمُ صَلَاحِيَةِ إحْرَامِ سَنَةٍ لِإِحْرَامِ غَيْرِهَا صَيَّرَهُ كَقَاصِدِ مَكَّةَ لِغَيْرِ نُسُكٍ وَمَنْ قَصَدَهَا لِغَيْرِ نُسُكٍ لَا إثْمَ عَلَيْهِ كَمَا لَا دَمَ عَلَيْهِ لِمَا تَقَرَّرَ وَيُؤْخَذُ مِنْ ذَلِكَ أَعْنِي تَعْلِيلَهُمْ بِأَنَّ إحْرَامَ هَذِهِ السَّنَةِ لَا يَصْلُحُ لِإِحْرَامِ غَيْرِهَا أَنَّ الْكَلَامَ فِي الْحَجِّ؛ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ بِهِ فِي سَنَةٍ هُوَ الَّذِي لَا يَصْلُحُ لِإِحْرَامِ غَيْرِهَا بِخِلَافِ الْعُمْرَةِ فَإِنَّ الْإِحْرَامَ بِهَا فِي سَنَةٍ يَصْلُحُ لِإِحْرَامِ غَيْرِهَا لِاسْتِوَاءِ الْأَزْمَانِ فِيهَا فَمَنْ قَصَدَ مَكَّةَ لِلْعُمْرَةِ وَلَوْ بَعْدَ سِنِينَ يَنْبَغِي أَنْ يَحْرُمَ عَلَيْهِ مُجَاوَزَةُ الْمِيقَاتِ بِلَا إحْرَامٍ فَإِنْ فَعَلَ لَزِمَهُ الدَّمُ إنْ لَمْ يَعُدْ إلَيْهِ أَوْ إلَى مِثْلِ مَسَافَتِهِ وَاَلَّذِي صَرَّحَ بِهِ الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا أَنَّهُ لَوْ أَحْرَمَ شَخْصٌ بِحَجِّ تَطَوُّعٍ ثُمَّ نَذَرَ حَجًّا قَبْلَ الْوُقُوفِ انْصَرَفَ الْحَجُّ إلَى النَّذْرِ لِتَقَدُّمِ الْفَرْضِ عَلَى النَّفْلِ وَأَنَّهُ.

لَوْ أَحْرَمَ أَجِيرٌ عَنْ مُسْتَأْجِرِهِ بِحَجِّ فَرْضٍ أَوْ تَطَوُّعٍ ثُمَّ نَذَرَ حَجًّا قَبْلَ الْوُقُوفِ انْصَرَفَ الْحَجُّ إلَى النَّذْرِ أَيْضًا لِتَقَدُّمِ فَرْضِ الشَّخْصِ عَلَى غَيْرِهِ اهـ وَقَضِيَّةُ الْعِلَّةِ الْأُولَى أَنَّ النَّذْرَ الْمَذْكُورَ فِي السُّؤَالِ إذَا وُجِدَتْ شُرُوطُ صِحَّتِهِ الْمَذْكُورَةِ فِي بَابِهِ يَصِحُّ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ وَيَقَعُ الْحَجُّ لِمَنْ جُعِلَ لَهُ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا أَنْ نَذَرَهُ لِلْغَيْرِ وَصَحَّحْنَاهُ صَارَ وَاجِبًا عَلَيْهِ وَقَدْ صَرَّحُوا لِمَا عَلِمْت بِأَنَّ الْوَاجِبَ مُقَدَّمٌ عَلَى التَّطَوُّعِ وَقَضِيَّةُ الْعِلَّةِ الثَّانِيَةِ أَنَّ النَّذْرَ الْمَذْكُورَ لَغْوٌ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ عَنْ الْغَيْرِ إنَّمَا انْصَرَفَ إلَى الْأَجِيرِ لِتَقَدُّمِ فَرْضِ الشَّخْصِ عَلَى فَرْضِ غَيْرِهِ فَإِذَا نَوَى الْحَجَّ لِنَفْسِهِ ثُمَّ نَذَرَهُ لِلْغَيْرِ لَا يَنْصَرِفُ لَهُ؛ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ لَا يَنْصَرِفُ عَنْ الْجِهَةِ الْمَنْوِيَّةِ إلَّا لِأَقْوَى مِنْهَا كَمَا أَفْهَمَهُ تَعْلِيلُهُمْ الِانْصِرَافَ فِي الْأَوَّلِ بِتَقَدُّمِ الْفَرْضِ عَلَى النَّفْلِ وَفِي الثَّانِيَةِ بِتَقَدُّمِ فَرْضِ الشَّخْصِ عَلَى فَرْضِ غَيْرِهِ فَلَمْ يَقُولُوا بِانْصِرَافِهِ إلَّا لِجِهَةٍ أَقْوَى مِنْ الْجِهَةِ الْمَنْوِيَّةِ بِخِلَافِ مَنْ أَحْرَمَ عَنْ نَفْسِهِ ثُمَّ أَرَادَ صَرْفَهُ عَنْهُ بِنَذْرِهِ لِغَيْرِهِ فَإِنَّ وُقُوعَهُ لِلْغَيْرِ جِهَةٌ أَضْعَفُ مِنْ وُقُوعِهِ لِنَفْسِهِ فَلَا يَنْصَرِفُ عَنْ نَفْسِهِ بِذَلِكَ النَّذْرِ بَلْ يَكُونُ لَغْوًا؛ لِأَنَّهُ عَارَضَهُ مَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ وَهُوَ وُقُوعُ الْإِحْرَامِ لِنَفْسِهِ وَلَعَلَّ هَذَا أَقْرَبُ بِذَلِكَ أَنْ يَلْتَزِمَ الْعِلَّةَ الْأُولَى لَا تَقْتَضِي صِحَّةَ النَّذْرِ الْمَذْكُورِ وَوَجْهُهُ مَا تَقَرَّرَ مِنْ أَنَّهُ وَقَعَ لَغْوًا لِمُعَارِضَتِهِ لِمَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ، وَإِذَا وَقَعَ لَغْوًا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ شَيْءٌ وَاجِبٌ عَلَيْهِ حَتَّى يُقْدِمَ عَلَى التَّطَوُّعِ الَّذِي أَحْرَمَ بِهِ هَذَا أَعْنِي عَدَمَ صِحَّةِ هَذَا النَّذْرِ هُوَ الَّذِي يَظْهَرُ الْآنَ مِمَّا تَقَرَّرَ وَلَعَلَّنَا نَزْدَادُ فِي الْمَسْأَلَةِ عِلْمًا أَوْ نَظْفَرُ فِيهَا بِنَقْلٍ بِخُصُوصِهَا يُزِيلُ التَّوَقُّفَ فِيهَا وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

(وَسُئِلَ) رضي الله عنه عَنْ رَجُلٍ اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الْحَجُّ ثُمَّ افْتَقَرَ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْأُهْبَةِ أَوْ اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ لِكَوْنِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ زَوْجَةٌ وَلَا أَوْلَادٌ ثُمَّ تَزَوَّجَ وَجَاءَ لَهُ أَوْلَادٌ هَلْ يُكَلَّفُ عَلَى الْحَجِّ أَوْ لَا بُدَّ مِنْ الِاسْتِطَاعَةِ؟

(فَأَجَابَ) نَفَعَ اللَّهُ بِعُلُومِهِ مَنْ اسْتَطَاعَ الْحَجَّ ثُمَّ افْتَقَرَ اسْتَقَرَّ الْوُجُوبُ فِي ذِمَّتِهِ فَيَلْزَمُهُ الْحَجُّ وَلَوْ مَاشِيًا إنْ قَدَرَ عَلَيْهِ نَعَمْ إنْ كَانَ لَهُ مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ لَمْ يَلْزَمْهُ الْحَجُّ إلَّا إنْ وَجَدَ مَا يَكْفِيهِمْ ذَهَابُهُ وَإِيَابُهُ وَكَذَلِكَ لَا بُدَّ أَنْ يَجِدَ مَا يُنْفِقُهُ عَلَى نَفْسِهِ ذَهَابًا وَإِيَابًا أَيْضًا لَكِنْ فِي الْإِحْيَاءِ لَوْ اسْتَطَاعَ الْحَجَّ ثُمَّ أَخَّرَهُ حَتَّى أَفْلَسَ لَزِمَهُ كَسْبُ مُؤْنَتِهِ أَوْ سُؤَالُهَا مِنْ زَكَاةٍ أَوْ صَدَقَةٍ لِيَحُجَّ وَإِلَّا مَاتَ عَاصِيًا وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

(وَسُئِلَ) نَفَعَ اللَّهُ بِهِ أَجِيرُ الْحَجِّ وَالزِّيَارَةِ هَلْ لَهُ أَجْرٌ فِيهِمَا كَغَيْرِ الْأَجِيرِ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ مَنْ اُسْتُؤْجِرَ لِلْحَجِّ أَوْ غَيْرِهِ فَإِنْ كَانَ الْبَاعِثُ لَهُ عَلَى نَحْوِ الْحَجِّ الْأُجْرَةَ وَلَوْلَاهَا

ص: 96

لَمْ يَحُجَّ لَمْ يَكُنْ لَهُ ثَوَابٌ وَإِلَّا لَهُ الثَّوَابُ بِقَدْرِ بَاعِثِ الْآخِرَةِ وَأَصْلُ ذَلِكَ مَسْأَلَةُ الْغَزَالِيِّ وَالْعِزِّ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ الْمَشْهُورَةِ وَمَا فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ فِي بَابِ الْحَجِّ فِي أَنَّ مَنْ حَجَّ تَاجِرًا نَقَصَ ثَوَابُهُ وَكَانَ لَهُ ثَوَابٌ دُونَ ثَوَابِ الْحَاجِّ مُتَخَلِّيًا عَنْ التِّجَارَةِ يُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْته أَوَّلًا مِنْ التَّفْصِيلِ وَفِي ذَلِكَ مَزِيدٌ بَسَطْته فِي حَاشِيَةِ مَنَاسِكِ النَّوَوِيِّ الْكُبْرَى بِمَا لَا مَزِيدَ عَلَيْهِ فِي التَّحْقِيقِ مَعَ أَنِّي لَمْ أَرَ مَنْ سَبَقَنِي إلَيْهِ.

وَوَرَدَ مَا يَقْتَضِي أَنَّ مَنْ حَجَّ عَنْ غَيْرِهِ تَطَوُّعًا كَانَ أَفْضَلَ مِمَّنْ حَجَّ عَنْ نَفْسِهِ زِيَادَةً عَلَى وَاجِبِهِ وَهُوَ ظَاهِرٌ إذْ الْغَالِبُ أَنَّ الْعَمَلَ الْمُتَعَدِّي أَفْضَلُ مِنْ الْعَمَلِ الْقَاصِرِ وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

(وَسُئِلَ) رضي الله عنه فِي شَخْصٍ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ الشَّرْعِيَّ وَهُوَ فِي حَالِ مُجَاوَزَتِهِ الْمِيقَاتَ مُرِيدٌ لِلْحَجِّ وَكَانَتْ مُجَاوَزَتُهُ لِلْمِيقَاتِ مَعَ إرَادَتِهِ الْحَجَّ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ فَهَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ الدَّمُ لِلْمُجَاوَزَةِ؛ لِأَنَّهُ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ مُرِيدًا لِلنُّسُكِ أَوْ لَا لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الْإِتْيَانُ بِمَا أَرَادَهُ فِي هَذَا الْوَقْتِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ فِي هَذَا الْوَقْتِ صَارَ عُمْرَةً وَفَاتَهُ تَحْصِيلُ فَضِيلَةِ تَقْدِيمِ الْحَجِّ عَلَى الْعُمْرَةِ وَلِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ أَمْرِهِ بِالْإِحْرَامِ إلْزَامُهُ بِنُسُكٍ لَمْ يُرِدْهُ وَيَلْزَمُ عَلَى ذَلِكَ أَنْ مَحَلَّ قَوْلِ الْأَصْحَابِ أَنَّ الشَّخْصَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْإِفْرَادِ وَالْقِرَانِ وَالتَّمَتُّعِ وَالْإِطْلَاقِ مَا إذَا حَاذَى الْمِيقَاتَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَإِلَّا فَلَا يُتَصَوَّرُ مِنْهُ الْإِفْرَادُ إلَّا إذَا جَاوَزَهُ غَيْرَ مُحْرِمٍ فَإِنْ قُلْتُمْ يَلْزَمُهُ الدَّمُ فَذَاكَ، وَإِنْ قُلْتُمْ لَا يَلْزَمُهُ فَلَوْ أَنَّهُ حَالَ مُجَاوَزَتِهِ الْمِيقَاتَ مُرِيدًا لِلْحَجِّ كَانَ مُرِيدًا لِلْعُمْرَةِ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يُرِدْهَا إلَّا بَعْدَ الْإِتْيَانِ بِالْحَجِّ فَهَلْ يَلْزَمُهُ الدَّمُ بِهَذِهِ الْإِرَادَةِ أَمْ لَا؛ لِأَنَّ الدَّمَ إنَّمَا يَلْزَمُهُ إذَا جَاوَزَ وَهُوَ مُرِيدٌ لِلنُّسُكِ فِي حَالَةِ الْمُجَاوَزَةِ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ؟

(فَأَجَابَ) فَسَّحَ اللَّهُ فِي مُدَّتِهِ ظَاهِرُ كَلَامِهِمْ بَلْ صَرِيحُهُ كَمَا يَأْتِي لُزُومُ الدَّمِ إنْ حَجَّ مِنْ عَامِهِ فَفِي الْمَجْمُوعِ عَنْ الدَّارِمِيِّ فِي كَافِرٍ مَرَّ بِالْمِيقَاتِ مُرِيدًا لِلنُّسُكِ ثُمَّ أَسْلَمَ إنْ كَانَ حِينَ مَرَّ بِالْمِيقَاتِ أَرَادَ حَجَّ تِلْكَ السَّنَةِ ثُمَّ حَجَّ بَعْدَهَا فَلَا دَمَ اتِّفَاقًا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَلْزَمُ تَارِكَ مِيقَاتٍ حَجَّ مِنْ سَنَتِهِ، وَإِنْ كَانَ حَالَ مُرُورِهِ نَوَى حَجَّ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ ثُمَّ حَجَّ فِيهَا فَفِي وُجُوبِ الدَّمِ وَجْهَانِ قَالَ فِيهِ أَيْضًا وَلَوْ مَرَّ مُسْلِمٌ بِالْمِيقَاتِ مُرِيدًا لِلْحَجِّ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ فَفَعَلَهُ مِنْ مَكَّةَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ فَفِي وُجُوبِ الدَّمِ الْوَجْهَانِ كَالْكَافِرِ اهـ وَاَلَّذِي رَجَّحَهُ فِي الْكَافِرِ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الدَّمُ فَظَاهِرُهُ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ فِي مَسْأَلَةِ الْمُرُورِ الْمُشَبَّهَةِ بِمَسْأَلَةِ الْكَافِرِ وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُمْ لَوْ جَاوَزَ مُرِيدًا لِلنُّسُكِ غَيْرَ مُحْرِمٍ ثُمَّ لَمْ يُحْرِمْ أَصْلًا لَمْ يَلْزَمْهُ لِأَنَّ لُزُومَهُ إنَّمَا هُوَ لِنَقْصِ النُّسُكِ لَا بَدَلٌ مِنْهُ فَأَفْهَمَ قَوْلُهُمْ وَلَمْ يُحْرِمْ أَصْلًا أَنَّهُ مَتَى أَحْرَمَ بِمَا نَوَاهُ وَلَوْ فِي سَنَةٍ ثَانِيَةٍ لَزِمَهُ دَمٌ وَيُفْهِمُ ذَلِكَ أَيْضًا تَعْلِيلُهُمْ الْمَذْكُورُ لِأَنَّهُ إذَا أَحْرَمَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ السَّنَةِ بِالْحَجِّ مِنْ مَكَّةَ نَقَصَ نُسُكُهُ إذَا كَانَ مِنْ حَقِّهِ أَنْ يُحْرِم مِنْ مِيقَاتِهِ؛ لِأَنَّ الْفَرْضَ أَنَّهُ آفَاقِيٌّ فَاتَّضَحَ أَنَّ أَرْجَحَ الْوَجْهَيْنِ لُزُومُ الدَّمِ فِي مَسْأَلَةِ الْمَجْمُوعِ الْمَذْكُورَةِ، وَصُورَةُ السُّؤَالِ مِثْلُهَا بِلَا رَيْبٍ بَلْ أَوْلَى لِأَنَّهُ فِي مَسْأَلَةِ الْمَجْمُوعِ نَوَاهُ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ وَهُوَ فِي صُورَةِ السُّؤَالِ نَوَاهُ فِي سَنَتِهِ، فَإِذَا لَزِمَهُ فِي تِلْكَ مَعَ سَبْقِ النِّيَّةِ بِسَنَتَيْنِ فَلَأَنْ يَلْزَمَهُ مَعَ سَبْقِ النِّيَّةِ بِدُونِ ذَلِكَ بِالْأَوْلَى بَلْ صُورَةُ السُّؤَالِ غَيْرُ مَسْأَلَةِ الْمَجْمُوعِ إذْ ذَكَرَ السَّنَةَ الثَّانِيَةَ لِلتَّمْثِيلِ لَا لِلتَّقْيِيدِ فَالْمَدَار عَلَى أَنْ يَكُونَ الَّذِي أَتَى بِهِ مِنْ مَكَّةَ الَّذِي كَانَ قَاصِدُهُ عِنْدَ الْمِيقَاتِ وَحِينَئِذٍ مَكَّةُ لَيْسَتْ مِيقَاتَهُ فَإِذَا لَمْ يُحْرِمْ بِهِ وَلَا بِمَا لَمْ يَخْلُفْهُ وَهُوَ الْعُمْرَةُ مِنْ الْمِيقَاتِ كَانَ فِي نُسُكِهِ نَقْصٌ أَيُّ نَقْصٍ فَلَزِمَهُ دَمٌ جَبْرًا لَهُ فَإِنْ قُلْت قَدْ يُنَافِي ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ جَاوَزَ مُرِيدًا لِلْحَجِّ ثُمَّ أَحْرَمَ بِهِ فِي سَنَةٍ أُخْرَى لَمْ يَلْزَمْهُ دَمٌ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الدَّارِمِيُّ وَأَقَرَّهُ فِي الْمَجْمُوعِ وَالْقَاضِي وَالْبَغَوِيُّ وَأَقَرَّهُمَا فِي الْكِفَايَةِ الْمُتَوَلِّي وَالْخُوَارِزْمِيِّ وَأَقَرَّهُمَا فِي الْمُهِمَّاتِ قَالَ وَفِي كَلَامِ الرَّافِعِيِّ فِي حَجِّ الصَّبِيِّ مَا يَدُلُّ لَهُ؛ لِأَنَّ إحْرَامَ هَذِهِ السَّنَةِ لَا يَصْلُحُ لِإِحْرَامِ غَيْرِهَا وَبِهِ فَارَقَ الْعُمْرَةَ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ الدَّمُ فِيهَا مُطْلَقًا؛ لِأَنَّهَا لَا تَتَأَقَّت بِوَقْتٍ.

قُلْت لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ هَذَا وَمَا قَدَّمْتُهُ مِنْ تَرْجِيحِ أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ فِي مَسْأَلَةِ الْمَجْمُوعِ وَإِجْرَائِهِ فِي مَسْأَلَتِنَا؛ لِأَنَّهُ هُنَا لَمَّا نَوَى عِنْدَ الْمِيقَاتِ الْحَجَّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ ثُمَّ لَمْ يَحُجَّ فِيهَا بَلْ حَجَّ فِيمَا بَعْدَهَا كَانَ حَجُّهُ فِيمَا بَعْدَهَا غَيْرَ مَا نَوَاهُ لِمَا تَقَرَّرَ أَنَّ إحْرَامَ سَنَةٍ لَا يَصْلُحُ لِإِحْرَامِ مَا بَعْدَهَا إذَا أَتَى بِغَيْرِ مَا نَوَاهُ لَا دَمَ عَلَيْهِ

ص: 97

وَأَمَّا فِي مَسْأَلَتِنَا فَأَتَى بِمَا نَوَاهُ فِي سَنَتِهِ وَفِي مَسْأَلَةِ الْمَجْمُوعِ نَوَاهُ فِي سَنَةٍ وَأَتَى بِهِ فِيهَا مِنْ غَيْرِ مِيقَاتِهِ فَدَخَلَ عَلَيْهِ النَّقْصُ فِيهِ فَجَبْرُهُ بِالدَّمِ وُجُوبًا كَمَا مَرَّ، وَقَوْلُ السَّائِلِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الْإِتْيَانُ بِمَا أَرَادَهُ إلَخْ جَوَابُهُ أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ الْإِتْيَانُ بِمِثْلِهِ مِنْ حَيْثُ رِعَايَةُ حُرْمَةِ الْمِيقَاتِ وَهُوَ الْعُمْرَةُ أَوْ بِعَيْنِهِ بِأَنْ يَخْرُجَ عِنْدَ إرَادَةِ الْحَجِّ فِي أَشْهُرِهِ إلَى مِيقَاتِهِ وَيُحْرِمُ مِنْهُ.

فَإِذَا تَرَكَ ذَلِكَ كُلَّهُ كَانَ مُقَصِّرًا وَمُدْخِلًا لِلنَّقْصِ عَلَى نُسُكِهِ فَلَزِمَهُ دَمٌ وَبِهَذَا انْدَفَعَ قَوْلُهُ وَلِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ أَمْرِهِ بِالْإِحْرَامِ إلْزَامُهُ بِنُسُكٍ لَمْ يُرِدْهُ، وَقَوْلُهُ وَفَاتَهُ إلَخْ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ تَقْدِيمَ الْعُمْرَةِ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ عَلَى الْحَجِّ فِي أَشْهُرِهِ لَا يَمْنَعُ فَوَاتَ فَضِيلَةِ الْإِحْرَامِ إذَا أَتَى بِعُمْرَةِ أُخْرَى بَعْدَ حَجّه بَلْ قِيلَ إنَّ هَذِهِ الصُّورَةَ أَفْضَلُ صُوَرِ الْإِفْرَادِ وَبِهَذَا انْدَفَعَ قَوْلُ السَّائِلِ وَيَلْزَمُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ مَحَلَّ قَوْلِ الْأَصْحَابِ إلَخْ وَوَجْهُ انْدِفَاعِ مَا تَقَرَّرَ أَنْ تُقَدَّمَ الْعُمْرَةُ عَلَى أَشْهُرِ الْحَجِّ لَا يَمْنَعُ الْإِفْرَادَ، وَقَوْلُهُ فَلَوْ أَنَّهُ حَالَ مُجَاوَزَتِهِ الْمِيقَاتَ إلَخْ جَوَابُهُ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الدَّمُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ أَيْضًا كَمَا عُلِمَ بِالْأُولَى مِنْ الصُّورَةِ الَّتِي قَبْلَهَا وَلَا نَظَرَ لِنِيَّةِ تَأْخِيرِ الْعُمْرَةِ عَنْ الْحَجِّ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ عَلَيْهِ لَوْ تَرَكَ الْإِحْرَامَ مِنْ الْمِيقَاتِ أَصْلًا إدْخَالُ النَّقْصِ عَلَى حَجِّهِ كَمَا مَرَّ وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

(وَسُئِلَ) رضي الله عنه عَنْ قَوْلِهِمْ وَأَهْمَلَ بَعْضُهُمْ شَرْطًا خَامِسًا لِلْحَجِّ وَهُوَ سَعَةُ الْوَقْتِ لِتَمَكُّنِهِ مِنْ السَّيْرِ مَا الْمُرَادُ بِهَذَا الْوَقْتِ هَلْ هُوَ مُدَّةُ السَّنَةِ بِأَنْ يَبْقَى مِنْهَا قَدْرُ مَا يَصِلُ بِهِ إلَى مَكَّةَ الْمُشَرَّفَةِ فَيُشْكِلُ عَلَى مَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ فَوْقَ سَنَةٍ أَوْ فَوْقَ السَّنَةِ فَالْوَقْتُ وَاسِعٌ بَيِّنُوا لَنَا حَقِيقَةَ ذَلِكَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَبْقَى مِنْ الزَّمَانِ عِنْدَ وُجُودِ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ مَا يُمْكِنُ فِيهِ السَّيْرُ بِأَنْ لَا يَحْتَاجَ أَنْ يَقْطَعَ فِي كُلِّ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ مَرْحَلَةٍ مَا الْمُرَادُ بِهَذَا الزَّمَانِ وَلَا يَخْفَى الْإِشْكَالُ السَّابِقُ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الشَّرْطِ أَنَّهُ يُعْتَبَر فِي لُزُومِ الْحَجِّ لَهُ لَا فِي اسْتِقْرَارِهِ عَلَيْهِ أَنْ يَتَمَكَّنَ بِأَنْ يَجِدَ الزَّادَ وَالرَّاحِلَةَ وَقَدْ بَقِيَ زَمَنٌ يَسَعُ الْوُصُولَ فِيهِ إلَى مَكَّةَ بِالسَّيْرِ الْمُعْتَادِ غَالِبًا بِحَيْثُ لَا يَقْطَعُ فِي يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ مَرْحَلَة.

فَلَوْ كَانَ بَيْنَ بَلَدِهِ وَمَكَّةَ سَنَةٌ مَثَلًا اُشْتُرِطَ أَنْ يَقْدِرَ عَلَى نَحْوِ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ تِلْكَ السَّنَة جَمِيعهَا فَمَتَى مَضَتْ لَهُ سَنَةِ بِأَنْ يَمْضِيَ مَا يُمْكِنُ ذَهَابُ الْحُجَّاجِ فِيهِ وَرُجُوعُهُمْ إلَى بَلَدِهِ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى مَا مَرَّ بِأَنَّ لُزُومَ الْحَجِّ لَهُ فَإِذَا مَاتَ أَوْ افْتَقَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَالْحَجُّ بَاقٍ فِي ذِمَّتِهِ لِأَنَّهُ اسْتَطَاعَهُ وَتَرَكَهُ وَمَتَى مَرِضَ أَوْ افْتَقَرَ قَبْلَ وُصُولِهِمْ لِمَكَّةَ أَوْ بَعْدَ وُصُولِهِمْ وَقَبْلَ الْحَجِّ بَانَ أَنَّهُ لَمْ يَلْزَمْهُ حَجٌّ وَكَذَا لَوْ افْتَقَرَ بَعْدَ حَجِّهِمْ وَقَبْلَ وُصُولِهِمْ لِبَلَدِهِ فَعَلِمْنَا أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَمْضِيَ عَلَيْهِ وَهُوَ قَادِرٌ مُدَّةٌ يُمْكِنُ فِيهَا الذَّهَابُ إلَى مَكَّةَ بِالسَّيْرِ الْمُعْتَادِ وَإِدْرَاكُ الْحَجِّ فِيهَا وَوُصُولُهُ إلَى بَلَدِهِ بِالنِّسْبَةِ لِلْفَقْرِ دُونَ الْمَوْتِ؛ لِأَنَّهُ بَانَ بِهِ أَنَّهُ كَانَ مُسْتَغْنِيًا عَنْ الرُّجُوعِ فَإِذَا مَاتَ بَعْدَ إمْكَانِ حَجِّ النَّاسِ وَقَبْلَ رُجُوعِهِمْ بَانَ أَنَّهُ مَاتَ وَهُوَ مُسْتَطِيعٌ وَمَعَ هَذَا التَّقْدِيرِ فَلَا إشْكَالَ فِيمَا ذَكَرُوهُ فَإِنَّا لَا نَعْتَبِرُ سَنَةً وَلَا دُونَهَا وَلَا أَكْثَرَ مِنْهَا دَائِمًا وَإِنَّمَا الْمُعْتَبَرُ الْمُدَّةُ الَّتِي يُمْكِنُهُ الْوُصُولُ فِيهَا إلَى مَكَّةَ وَالرُّجُوعُ مِنْهَا بِالسَّيْرِ الْمُعْتَادِ عَلَى مَا تَقَرَّرَ حَتَّى لَوْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ أَرْبَعَةُ أَيَّامٍ مَثَلًا اُعْتُبِرَتْ قُدْرَتُهُ تِلْكَ الْأَرْبَعَةَ مَعَ الْعَوْدِ أَيْضًا فِي غَيْرِ الْمَوْتِ أَوْ سَنَتَانِ اُعْتُبِرَتْ قُدْرَتُهُ مُدَّتَهُمَا مَعَ الْعَوْد كَمَا ذُكِرَ.

وَلَا بُدَّ أَنْ يُوجَدَ نَحْوُ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ فِي الْوَقْتِ فَمَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ شَهْرَانِ مَثَلًا لَوْ اسْتَطَاعَ شَعْبَانَ وَرَمَضَانَ لَمْ يُؤَثِّرْ ذَلِكَ فِي الْوُجُوبِ عَلَيْهِ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ اسْتِطَاعَتِهِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ حَتَّى لَوْ اسْتَطَاعَ الشَّهْرَ مِنْ قَبْلِ أَشْهُرِهِ ثُمَّ افْتَقَرَ قَبْلَ أَشْهُرِهِ لَمْ يُعْتَدَّ بِتِلْكَ الِاسْتِطَاعَةِ وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

(وَسُئِلَ) رضي الله عنه فِي امْرَأَةٍ حَاضَتْ قَبْلَ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ وَكَانَتْ تَتَضَرَّرُ بِانْتِظَارِ انْقِطَاعِهِ لِتَطُوفَ مَا الْحُكْمُ فِي ذَلِكَ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ مَنْ حَاضَتْ قَبْلَ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ وَتَضَرَّرَتْ بِانْقِطَاعِهَا جَازَ لَهَا السَّفَرُ وَيَبْقَى لَهَا الطَّوَافُ فِي ذِمَّتِهَا مَا لَمْ تُقَلِّدْ أَبَا حَنِيفَةَ، وَإِذَا لَمْ تُقَلِّدْهُ فَهِيَ بَاقِيَةٌ عَلَى إحْرَامِهَا فَلَا يَحِلُّ لِلزَّوْجِ قُرْبَانُهَا إلَّا إذَا وَصَلَتْ إلَى مَسَافَةٍ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهَا الرُّجُوعُ مِنْهَا إلَى مَكَّةَ فَلَهَا حِينَئِذٍ التَّحَلُّلُ كَتَحَلُّلِ الْمُحْصَرِ وَتُقَصِّرُ وَتَذْبَحُ بِنِيَّةِ التَّحَلُّلِ وَيَحِلُّ وَطْؤُهَا حِينَئِذٍ وَلِلْيَافِعِيِّ

ص: 98

- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - هُنَا اعْتِرَاضٌ شَنِيعٌ عَلَى الْبَارِزِيِّ ادَّعَى فِيهِ أَنَّ الْبَارِزِيَّ خَالَفَ فِي تَجْوِيزِ السَّفَرِ بِلَا طَوَافٍ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَقَدْ رَدَدْت عَلَيْهِ اعْتِرَاضَهُ هَذَا فِي حَاشِيَةِ الْإِيضَاحِ وَبَسَطْت فِيهَا الْكَلَامَ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَسْطًا شَافِيًا وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

(وَسُئِلَ) نَفَعَ اللَّهُ بِهِ عَنْ مُطْلَقِ الْحَجِّ الْمَبْرُورِ هَلْ يُكَفِّرُ الْكَبَائِرَ كَالْإِسْلَامِ؟

(فَأَجَابَ) الْحَجُّ الْمَبْرُورُ يُكَفِّرُ مَا عَدَا تَبِعَاتِ الْآدَمِيِّينَ كَمَا حَكَى بَعْضُهُمْ الْإِجْمَاعَ عَلَى هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ وَالْحَدِيثُ الْمُقْتَضِي لِتَكْفِيرِ التَّبِعَاتِ أَيْضًا ضَعِيفٌ فَقَوْلُ بَعْضِهِمْ بِقَضِيَّتِهِ وَهْمٌ وَتَكْفِيرُ ذَلِكَ لَا يُنَافِي وُجُوبَ التَّوْبَةِ مِنْهُ؛ لِأَنَّ التَّكْفِيرَ مِنْ الْأُمُورِ الْأُخْرَوِيَّةِ الَّتِي لَا تَظْهَرُ فَائِدَتُهَا إلَّا فِي الْآخِرَةِ بِخِلَافِ التَّوْبَةِ فَإِنَّهَا مِنْ الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ الَّتِي تَظْهَرُ فَائِدَتُهَا فِي الدُّنْيَا كَرَفْعِ الْفِسْقِ وَنَحْوِهِ فَهَذَا لَا دَخْلَ لِلْحَجِّ وَغَيْرِهِ فِيهِ بَلْ لَا يُفِيدُ فِيهِ إلَّا التَّوْبَةُ بِشُرُوطِهَا وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

(وَسُئِلَ) أَدَامَ اللَّهَ النَّفْعَ بِعُلُومِهِ كَيْفَ صِيغَتَا الْإِجَارَةِ وَالْجِعَالَةِ الْمُخْتَصَرَتَانِ الْمُعْتَبَرَتَانِ لِتَحْصِيلِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَالزِّيَارَةِ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ صِيغَةُ الْأُولَى اسْتَأْجَرْت ذِمَّتَك أَوْ عَيْنَك بِكَذَا لِتَحُجَّ وَتَعْتَمِرَ إفْرَادًا مَثَلًا وَتَدْعُوَ تُجَاهَ قَبْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنْ مَيِّتِي أَوْ عَنِّي فِي الْمَعْضُوبُ وَصِيغَةُ الثَّانِيَةِ حُجَّ وَاعْتَمِرْ وَادْعُ تُجَاهَ قَبْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِمَيِّتِي أَوْ لِي وَلَكَ كَذَا وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

(وَسُئِلَ) رضي الله عنه شَخْصٌ أَوْصَى بِحَجَّةٍ عَلَى يَدِ إنْسَانٍ ثُمَّ مَاتَ ثُمَّ جَاعَلَ الْوَصِيُّ شَخْصًا عَلَى أَنْ يَحُجَّ عَنْ الْمَيِّتِ الْمَذْكُورِ ثُمَّ أَحْرَمَ وَلَدُ الْمَيِّتِ مَثَلًا عَنْ وَالِدِهِ قَبْلَ إحْرَامِ الْجَعِيلِ بِغَيْرِ إذْنِ الْوَصِيِّ طَمَعًا فِي الْمَعْلُومِ هَلْ يَسْتَحِقُّهُ بِالْوَصِيَّةِ كَمَا لَوْ أَوْصَى لِمَنْ حَجَّ عَنْهُ بِكَذَا؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِالْمَأْمُورِ بِهِ وَوَقَعَ عَنْ الْمَيِّتِ وَلِأَنَّ الْوَصِيَّ مُقَصِّرٌ بِتَأْخِيرِ الْجِعَالَةِ وَكَانَ حَقُّهُ أَنْ يُبَادِرْ لِأَنَّ الْمَيِّتَ قَدْ تُضَيِّقُ عَلَيْهِ الْحَجِّ وَهَلْ يَسْتَحِقُّ الْجَعِيلُ شَيْئًا لِأَنَّ لِلْوَسَائِلِ حُكْمُ الْمَقَاصِدِ فَيُعْطَى أُجْرَةَ مَسِيرِهِ أَمْ لَا كَسَائِرِ الْجِعَالَاتِ فَإِنْ قُلْتُمْ يُعْطَى هَلْ يَكُونُ مِنْ تَرِكَةِ الْمَيِّتِ أَوْ مِنْ مَالِ الْوَصِيِّ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَوْقَعَ الْجَعِيلَ فِي مَشَقَّةِ السَّفَرِ وَالْإِحْرَامِ كَالْوَلِيِّ إذَا أَذِنَ لِلصَّبِيِّ فِي الْإِحْرَامِ وَأَتَى بِشَيْءٍ مِنْ الْمَحْظُورَاتِ فَإِنَّهُ يَغْرَمُ الْفِدْيَةَ؟

(فَأَجَابَ) رضي الله عنه بِقَوْلِهِ يَقَعُ حَجُّ الْوَلَدِ عَنْ وَالِدِهِ تَبَرُّعًا فَلَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا فِي مُقَابَلَتِهِ وَلَيْسَتْ هَذِهِ الصُّورَةُ نَظِيرَ الصُّورَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا السَّائِلُ؛ لِأَنَّهُ ثَمَّ أَوْصَى لِمَنْ حَجَّ عَنْهُ فَيَشْمَلُ الْوَارِثَ وَغَيْرَهُ وَهُنَا قَيَّدَ بِمَنْ يَحُجُّ عَلَى يَدِ فُلَانٍ وَلَمْ يَحُجَّ الْوَلَدُ عَلَى يَدِهِ فَلَمْ يُوجَدْ فِيهِ الشَّرْطُ الَّذِي ذَكَرَهُ فَكَانَ حَجُّهُ تَطَوُّعًا مَحْضًا وَلَمْ يُنْظَرْ لِطَمَعِهِ؛ لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى ظَنٍّ بَانَ خَطَؤُهُ وَهُوَ لَا عِبْرَةَ بِهِ سَوَاءً أَفُرِضَ مِنْ الْوَصِيِّ تَقْصِيرٌ أَمْ لَا؛ لِأَنَّ تَقْصِيرَهُ إنْ لَمْ يَقْتَضِ انْعِزَالَهُ فَظَاهِرٌ وَإِلَّا قَامَ الْوَصِيُّ مَقَامَهُ لَا الْوَارِثُ وَاَلَّذِي يَتَّجِهُ أَنَّ الْجَعِيلَ لَا أُجْرَةَ لَهُ عَلَى أَحَدٍ؛ لِأَنَّ تَقَدُّمَ إحْرَامِ الْوَلَدِ عَلَى إحْرَامِهِ يُوجِبُ وُقُوعَ إحْرَامِهِ لِنَفْسِهِ فَيَكُونَ مَا لَقِيَهُ مِنْ الْمَشَاقِّ فِي مُقَابَلَةِ الثَّوَابِ الْحَاصِلِ لَهُ فَهُوَ كَمَا لَوْ بَرِئَ الْمَعْضُوبُ بَعْدَ حَجِّ الْأَجِيرِ عَنْهُ يَقَعُ الْحَجُّ لِلْأَجِيرِ وَلَا أُجْرَةَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْمَعْضُوبَ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ مِنْ فِعْلِهِ فَائِدَةُ ثَوَابٍ وَلَا غَيْرِهِ.

وَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ حُضُورِ الْمَعْضُوبِ مَعَ أَجِيرِهِ عَرَفَةَ فَإِنَّ الْحَجَّ فِي هَذِهِ، وَإِنْ وَقَعَ لِلْأَجِيرِ لَا يَمْنَعُ اسْتِحْقَاقَهُ لِلْأُجْرَةِ بِأَنَّ الْإِجَارَةَ هُنَا وَقَعَتْ صَحِيحَةً ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَلَكِنْ لَمَّا تَكَلَّفَ الْمَعْضُوبُ وَحَضَرَ تَعَيَّنَ وُقُوعُ فِعْلِهِ بِنَفْسِهِ دُونَ فِعْلِ غَيْرِهِ عَنْهُ فَالْوُقُوعُ عَنْهُ لِحُضُورِهِ وَلُزُومِ الْأُجْرَةِ لَهُ لِتَقْصِيرِهِ بِالْحُضُورِ مَعَ بَذْلِ الْأَجِيرِ مَنَافِعَهُ فِي إجَارَةٍ صَحِيحَةٍ بِخِلَافِهِ فِي تَيْنِكَ الصُّورَتَيْنِ فَإِنَّ الْإِجَارَةَ فِيهِمَا صَحِيحَةٌ ظَاهِرًا فَقَطْ لِتَبَيُّنِ بُطْلَانِهَا مِنْ أَصْلِهَا بِالْبُرْءِ وَبِالْحَجِّ عَنْ الْمَيِّتِ فَلَمْ يَسْتَحِقَّ الْأَجِيرُ شَيْئًا فِي مُقَابَلَةِ فِعْلِهِ فَإِنْ قُلْت يُنَافِي ذَلِكَ قَوْلَهُمْ إذَا لَمْ يُجَوَّزْ الِاسْتِئْجَارُ لِلتَّطَوُّعِ وَقَعَ الْحَجُّ عَنْ الْأَجِيرِ وَلَمْ يَسْتَحِقَّ الْمُسَمَّى بَلْ أُجْرَةَ الْمِثْلِ قُلْت لَا يُنَافِيه؛ لِأَنَّهُ فِي تِينك لَا تَقْصِيرَ مِنْ الْمُسْتَأْجِرِ لِأَنَّ الِاسْتِئْجَارَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ ظَاهِرًا وَالْبُرْءُ وَحَجُّ الْوَلَدِ لَمْ يَحْصُلْ بِاخْتِيَارِهِ فَاقْتَضَى عُذْرُهُ عَدَمَ وُجُوبِ شَيْءٍ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ مِنْهُ تَعْزِيرٌ لِلْأَجِيرِ. بِخِلَافِ الْمُسْتَأْجَرِ لِلنَّفْلِ فَإِنَّهُ غَيْرُ مُضْطَرٍّ لِلِاسْتِئْجَارِ بَلْ يَحْرُمُ عَلَيْهِ ذَلِكَ إنْ عُلِمَ امْتِنَاعُهُ لِلنَّفْلِ فَلَمْ يُعَارِضْ تَغْرِيرَهُ شَيْءٌ

ص: 99

فَلَزِمَهُ مُقَابِلَةُ مَا أَتْلَفَهُ مِنْ مَنَافِعِ الْأَجِيرِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ وَهُوَ أُجْرَةُ الْمِثْلِ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ لَا فِي التَّرِكَةِ كَمَا قَالَهُ الْقَمُولِيُّ نَعَمْ لَوْ قَصَّرَ الْأَجِيرُ بِأَنْ عُلِمَ امْتِنَاعُهُ الِاسْتِئْجَارَ لِلتَّطَوُّعِ لَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا؛ لِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ حِينَئِذٍ لَمْ يَغْرُرْهُ وَلَمَا نَظَرَ الْإِسْنَوِيُّ وَالْأَذْرَعِيُّ إلَى مَا ذَكَرْته مِنْ الْإِشْكَالِ صَوَّبَا أَنَّ الْأَجِيرَ لَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا مُطْلَقًا وَغَفَلَا عَمَّا قَرَرْته مِنْ الْجَوَابِ وَالْفَرْقِ بِمَا ذَكَرْته بَيْنَهُ وَبَيْنَ نَظَائِرِهِ وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

(وَسُئِلَ) رضي الله عنه فِي رَجُلٍ حَجَّ عَنْ امْرَأَةٍ بِأُجْرَةٍ مَعْلُومَةٍ فَأَحْرَمَ عَنْهَا مِنْ الْمِيقَاتِ الشَّرْعِيِّ وَدَخَلَ إلَى مَكَّةَ وَطَافَ طَوَافَ الْقُدُومِ ثُمَّ حَصَلَ لَهُ مَرَضٌ وَوَقَفَ بِجَبَلِ عَرَفَاتٍ وَهُوَ مَرِيضٌ ثُمَّ نَزَلَ إلَى مِنَى وَرَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ وَحَلَقَ رَأْسَهُ ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ طَوَافِهِ لِلْحَجِّ وَالسَّعْيِ فَمَا حُكْمُ اللَّهِ فِي حَجِّهِ الَّذِي حَجَّهُ عَنْ الْمَرْأَةِ الْمَيِّتَةِ هَلْ هُوَ صَحِيحٌ أَوْ لَا فَإِنْ قُلْتُمْ أَنَّهُ صَحِيحٌ فَلَا بَأْسَ، وَإِنْ قُلْتُمْ إنَّهُ غَيْرُ صَحِيحٍ وَلَا يَسْقُطُ الْحَجُّ عَنْ الْمَرْأَةِ الْمَيِّتَةِ فَهَلْ يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ كُلَّهَا أَوْ يَسْتَحِقُّ مِنْهَا شَيْئًا وَتَرْجِعُ وَرَثَةُ الْمَيِّتَةِ عَلَى تَرِكَةِ الْمَيِّتِ بِشَيْءٍ مِنْ الْأُجْرَةِ؟

(فَأَجَابَ) الْحَجُّ بَاقٍ فِي ذِمَّةِ الْمَرْأَةِ وَلَكِنْ لَهَا ثَوَابُ مَا فَعَلَهُ الْأَجِيرُ وَلِأَجْلِ ذَلِكَ اسْتَحَقَّ مَا يَخُصُّ الْمَفْعُولَ مِنْ الْمُسَمَّى لَوْ سَقَطَ وَيُعْتَبَرُ مِنْ ابْتِدَاءِ السَّيْرِ ثُمَّ إنْ كَانَ الْأَجِيرُ أَجِيرَ عَيْنٍ انْفَسَخَتْ الْإِجَارَةُ بِمَوْتِهِ فَيَسْتَنِيبُ عَنْهَا الْوَصِيُّ أَوْ الْوَارِثُ مَنْ يَحُجُّ عَنْهَا مِنْ تَرِكَتِهَا أَوْ أَجِيرَ ذِمَّةٍ وَلَمْ يُمْكِنْهُ الْحَجُّ الْكَامِلُ عَنْهَا فِي عَامِ مَوْتِهَا تَخَيَّرَ الْوَصِيُّ أَوْ الْوَارِثُ بَيْنَ بَقَاءِ الْإِجَارَةِ فَإِذَا حَجَّ الْأَجِيرُ عَنْهَا فِي السَّنَةِ الْقَابِلَةِ اسْتَحَقَّ بَقِيَّةَ الْمُسَمَّى وَبَيْنَ فَسْخِهَا وَإِعْطَائِهِ مَا خَصَّهُ بِالتَّوْزِيعِ السَّابِقِ وَيَسْتَأْجِرُ وَارِثُهَا أَوْ وَصِيُّهَا مَنْ يَحُجُّ عَنْهَا السَّنَةَ الْآتِيَةَ مِنْ تَرِكَتِهَا وَمِنْهَا مَا بَقِيَ مِنْ مُسَمَّى الْإِجَارَةِ الْأُولَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

(وَسُئِلَ) رضي الله عنه أَوْصَى بِأَنْ يُسْتَأْجَرَ عَنْهُ مَنْ يَحُجُّ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ فَهَلْ لِلْوَصِيِّ أَنْ يَسْتَأْجِر بِغَيْرِ إذْنِ الْوَارِثِ؟

(فَأَجَابَ) فَسَّحَ اللَّهُ فِي مُدَّتِهِ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ فَتَبْطُلُ الْإِجَارَةُ؛ لِأَنَّ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ كَقَضَاءِ الدَّيْنِ وَلِلْوَارِثِ قَضَاؤُهُ مِنْ مَالِهِ نَعَمْ وَلَيْسَ لِلْوَصِيِّ قَضَاؤُهُ مِنْ غَيْرِ مُرَاجَعَةِ الْوَارِثِ نَعَمْ إنْ عَيَّنَ الْمُوصِي عَيْنًا لِلِاسْتِئْجَارِ بِهَا لَمْ يَحْتَجْ لِإِذْنِ الْوَارِثِ حِينَئِذٍ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَرَادَ إبْدَالَهَا مِنْ مَالِهِ لَمْ يُمْكِنْ وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

(وَسُئِلَ) رضي الله عنه عَنْ مَسْأَلَةٍ وَهِيَ أَنَّهُمْ جَوَّزُوا الْحَلْقَ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ لِبَعْضِ الرَّأْسِ فَالْحَنَفِيَّةُ جَوَّزُوا الرُّبْعَ وَالشَّافِعِيَّةُ جَوَّزُوا الِاكْتِفَاءَ بِثَلَاثِ شَعَرَاتٍ قِيَاسًا عَلَى مَسْأَلَةِ الْمَسْحِ وَالْحَالُ أَنَّ الْقِيَاسَ مَعَ الْفَارِقِ لِعَدَمِ اتِّحَادِ الْفِعْلَيْنِ وَعَدَمِ الْقَرِينَةِ عَلَى عَدَمِ إرَادَةِ الْكُلِّ هُنَا بِخِلَافِهِ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ حَيْثُ تَدُلُّ الْبَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ لَيْسَ مَسْحَ الْكُلِّ كَمَا بَيَّنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ فِي مَحَلِّهِ فَكَيْفَ يُرَادُ الْبَعْضُ قِيَاسًا عَلَى تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ مَعَ أَنَّهُ لَا مَانِعَ هُنَا مِنْ إرَادَةِ حَلْقِ الْكُلِّ كَمَا هُوَ حَقُّ الْعِبَارَةِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى حَلَقْت رَأْسِي أَيْ حَلَقْت شَعْرَ رَأْسِي وَحَقِيقَتُهُ إزَالَةُ شَعْرِ كُلِّ الرَّأْسِ.

وَإِرَادَةُ الْبَعْضِ هُنَا مَجَازٌ حَيْثُ يَصِحُّ أَنْ يُقَالُ أَزَالَ ثَلَاثَ شَعَرَاتٍ مِنْ رَأْسِهِ أَوْ أَزَالَ شَعْرَ رُبْعَ رَأْسِهِ وَلَمْ يَحْلِقْ رَأْسَهُ وَهَذَا مِنْ عَلَامَاتِ الْمَجَازِ وَالْآيَةُ الْمُسْتَدَلُّ بِهَا {مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} [الفتح: 27] أَفْتُونَا جَزَاكُمْ اللَّهُ خَيْرًا وَلَقَدْ أَجَابَ عَنْ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ بِقَوْلِهِ فِي الْآيَةِ قَرِينَةٌ ظَاهِرَةٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ حَلْقَ الْجَمِيعِ لَيْسَ بِلَازِمٍ حَيْثُ قَالَ {مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} [الفتح: 27] يَعْنِي بَعْضُكُمْ مُحَلِّقِينَ وَبَعْضُكُمْ مُقَصِّرِينَ فَجَوَازُ التَّقْصِيرِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ إزَالَةَ شَعْرِ الْكُلِّ لَيْسَتْ بِلَازِمَةٍ إذْ التَّقْصِيرُ لَيْسَ إزَالَةَ الْكُلِّ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ لَيْسَ إزَالَةُ الْجَمِيعِ فَصَارَ كَآيَةِ الْمَسْحِ حَيْثُ كَانَ هُنَاكَ قَرِينَةٌ وَهِيَ الْبَاءُ تَدُلُّ عَلَى عَدَم إرَادَةِ مَسْحِ الْجَمِيعِ فَظَهَرَ أَنَّ الْحَقِيقَةَ لَيْسَتْ بِمُرَادَةٍ فَلَا بُدَّ مِنْ إرَادَةِ الْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ فَأَرَادَ الْحَنَفِيَّةُ الرُّبْعَ إذْ قَدْ يَكُونُ الرُّبْعُ قَائِمًا مَقَامَ الْكُلِّ كَمَا ذَكَرُوا فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَحْكَامِ.

وَمِنْهَا فِي بَابِ الْجَنَابَةِ فَإِنَّ حَلْقَ الرُّبْعِ يَقُومَ مَقَامَ الْكُلِّ وَقَدْ وَقَعَ فِي الْآيَةِ اسْمٌ لِلْكُلِّ فَلَا بُدَّ مِنْ إرَادَةِ أَمْرٍ يَقُومُ مَقَامَهُ وَكَذَلِكَ النِّصْفُ وَأَكْثَرُ مِنْهُ لَكِنَّ الِاحْتِيَاطَ اقْتَضَى اعْتِبَارَ الرُّبْعِ وَلِهَذَا أَرَادُوا فِي بَابِ الْمَسْحِ الرُّبْعَ حَيْثُ نَظَرُوا إلَى نَفْسِ الْمَحِلِّ وَهُوَ الرَّأْسُ أَوْ أَرَادُوا مِقْدَارَ ثَلَاثِ أَصَابِعَ حَيْثُ نَظَرُوا إلَى أَنَّ

ص: 100

الْمَحِلَّ هُنَا شَبِيه بِالْآلَةِ وَأَكْثَرُ آلَةِ الْمَسْحِ ثَلَاثُ أَصَابِعَ فَيَصِحُّ أَنْ يُعَبَّرَ عَنْهُ بِاسْمِ الْكُلِّ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ قِيَاسًا عَلَى مَسْأَلَةِ الْمَسْحِ وَلَا يَخْفَى هَذَا عَلَى الْمُتَفَطِّنِ الْمُتَأَمِّلِ وَأَرَادَ الشَّافِعِيَّةُ ثَلَاثَ شَعَرَاتٍ لَا أَقَلَّ مِنْهَا إذْ أَقَلُّ مِنْهَا غَيْرُ مُعْتَدٍّ بِهِ وَلِهَذَا لَمْ يُثْبِتُوا عَلَيْهِ الْجِنَايَةَ.

وَوَجْه إرَادَةِ هَذَا الْمَعْنَى أَنَّهُ إذَا حَلَقَ رَأْسَهُ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ حَلَقَ ثَلَاثَ شَعَرَاتٍ مِنْهُ فَإِزَالَةُ ثَلَاثِ شَعَرَاتٍ جُزْءٌ مِنْ إزَالَةِ الْمَحَلِّ وَكَذَلِكَ إزَالَةُ الرُّبْعِ أَوْ الْخُمُسِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ لَكِنَّهُمْ أَخَذُوا احْتِيَاطًا أَيْضًا مَا هُوَ أَقَلُّ مَرْتَبَةً فِي مَرَاتِبِ الِاحْتِمَالَاتِ فَيَصِحُّ إسْنَادُ إزَالَةِ شَعْرِ الرَّأْسِ إذَا أَزَالَ ثَلَاثَ شَعَرَاتٍ لِأَنَّ هَذِهِ جُزْءٌ مِنْ الْأُولَى فَالْحَاصِلُ أَنَّ الشَّافِعِيَّ رحمه الله جَعَلَ هَذَا مِنْ قَبِيلِ الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ وَهُوَ الْمَجَازُ فِي النِّسْبَةِ وَأَبُو حَنِيفَةَ جَعَلَهُ مِنْ قَبِيلِ الْمَجَازِ فِي الطَّرَفِ لَكِنْ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ هُنَا أَوْلَى لِأَنَّ الْمَجَازَ فِي الطَّرَفِ أَكْثَرُ وَأَشْهَرُ حَتَّى إنَّ بَعْضَ أَرْبَابِ الْعَرَبِيَّةِ اسْتَنْكَرَ الْمَجَازَ الْعَقْلِيَّ هَذَا مَا ظَهَرَ لِي فِي تَحْقِيقِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.

(فَأَجَابَ) رضي الله عنه وَنَفَعَ بِعُلُومِهِ وَبَرَكَتِهِ بِمَا صُورَتُهُ أَمَّا قَوْلُ السَّائِلِ قِيَاسًا عَلَى مَسْأَلَةِ الْمَسْحِ فَمَمْنُوعٌ بِالنِّسْبَةِ لِلشَّافِعِيَّةِ لِأَنَّهُمْ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْبَابَيْنِ بِوُجُوهٍ وَكَذَلِكَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ أَقَلَّ الْوَاجِبِ فِي الْحَلْقِ عِنْدَنَا ثَلَاثَ شَعَرَاتٍ وَعِنْدَ مَالِكٍ لَا بُدَّ مِنْ مَسْحِ الْجَمِيعِ وَأَمَّا أَحْمَدُ فَالْوَاجِبُ فِي الْمَسْحِ عِنْدَهُ الْجَمِيعُ وَفِي الْحَلْقِ الْأَكْثَرُ وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَمَشَى فِي الْبَابَيْنِ عَلَى مِنْوَالٍ وَاحِدٍ وَلِخَفَاءِ ذَلِكَ خَالَفَهُ صَاحِبُهُ الْإِمَامُ أَبُو يُوسُفَ فَقَالَ لَا بُدَّ فِي الْحَلْقِ مِنْ النِّصْفِ وَاحْتَجَّ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم حَلَقَ جَمِيعَ رَأْسِهِ وَصَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِتَأْخُذُوا عَنِّي جَمِيعَ مَنَاسِكِكُمْ قَالُوا وَلِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى حَالِقًا بِدُونِ أَكْثَرِهِ وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} [الفتح: 27] وَالْمُرَادُ شَعْرُ رُءُوسِكُمْ وَالشَّعْرُ اسْمُ جِنْسٍ أَقَلُّهُ ثَلَاثَ شَعَرَاتٍ وَلِأَنَّهُ يُسَمَّى حَلْقًا يُقَالُ حَلَقَ رَأْسَهُ وَرُبْعَهُ وَثَلَاثَ شَعَرَاتٍ مِنْهُ فَجَازَ الِاقْتِصَارُ عَلَى مَا يُسَمَّى حَلْقُ شَعْرٍ.

وَأَمَّا حَلْقُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم جَمِيعَ رَأْسِهِ فَقَدْ أَجْمَعنَا عَلَى أَنَّهُ لِلِاسْتِحْبَابِ وَأَنَّهُ لَا يَجِبُ الِاسْتِيعَابُ وَأَمَّا قَوْلُهُمْ لَا يُسَمَّى حَلْقًا بِدُونِ أَكْثَرِهِ فَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي الْمَجْمُوعِ إنَّهُ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ إنْكَارٌ لِلْحِسِّ وَاللُّغَةِ وَالْعُرْفِ اهـ وَبِهِ يُعْلَمُ أَنَّ التَّقْدِيرَ بِالرُّبْعِ هُنَا لَمْ يَظْهَرْ دَلِيلُهُ وَلَعَلَّهُ قِيَاسُ مَا هُنَا عَلَى مَا هُنَاكَ لِأَنَّ الْمَلْحَظَ فِي الْبَابَيْنِ مُتَّحِدٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ يُوجِبُ عَلَى مَنْ لَا شَعْرَ بِرَأْسِهِ أَنْ يُمِرَّ الْمُوسَى عَلَيْهِ وَيَحْتَجُّ بِأَنَّهُ حُكْمٌ تَعَلَّقَ بِالرَّأْسِ فَإِذَا فَقَدَ الشَّعْرَ انْتَقَلَ الْوُجُوبُ إلَى نَفْسِ الرَّأْسِ كَالْمَسْحِ فِي الْوُضُوءِ وَبِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَجِبُ الْكَفَّارَةُ بِإِفْسَادِهَا فَوَجَبَ التَّشْبِيهُ فِي أَفْعَالِهَا كَالصَّوْمِ فِيمَا إذَا قَامَتْ بَيِّنَةٌ فِي أَثْنَاءِ يَوْمِ الشَّكِّ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ.

وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِأَنَّهُ فَرْضٌ تَعَلَّقَ بِجُزْءٍ مِنْ الْآدَمِيِّ فَسَقَطَ بِفَوَاتِ الْجُزْءِ كَالْيَدِ فِي الْوُضُوءِ فَإِنَّ غَسْلَهَا يَسْقُطُ بِقَطْعِهَا لَا يُقَالُ الْفَرْضُ هُنَاكَ مُتَعَلِّقٌ بِالْيَدِ وَقَدْ سَقَطَتْ وَهُنَا مُتَعَلِّقٌ بِالرَّأْسِ وَهُوَ بَاقٍ لِأَنَّا نَقُولُ بَلْ الْفَرْضُ هُنَا مُتَعَلِّقٌ بِالشَّعْرِ فَقَطْ وَلِهَذَا لَوْ كَانَ عَلَى بَعْضِ رَأْسِهِ شَعْرٌ دُونَ بَعْضِ لَزِمَهُ الْحَلْقُ فِي الشَّعْرِ وَلَا يَكْفِيه الِاقْتِصَارُ عَلَى إمْرَارِ الْمُوسَى عَلَى مَا لَا شَعْرَ عَلَيْهِ وَلَوْ تَعَلَّقَ الْفَرْضُ بِهِ لَأَجْزَأَ وَالْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِ مَا هُنَا عَلَى الْمَسْحِ فِي الْوُضُوءِ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْفَرْضَ هُنَاكَ تَعَلَّقَ بِالرَّأْسِ قَالَ تَعَالَى {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6] وَهُنَا تَعَلَّقَ بِالشَّعْرِ بِدَلِيلِ مَا مَرَّ مِنْ الْآيَةِ الْأُخْرَى وَمَا بَعْدَهَا الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِنَا لِأَنَّا نَقُولُ إلَخْ وَالثَّانِي أَنَّهُ إذَا مَسَحَ بَشَرَةَ الرَّأْسِ يُسَمَّى مَاسِحًا فَيَلْزَمُهُ وَإِذَا أَمَرَّ الْمُوسَى لَا يَكُونُ حَالِقًا وَالْجَوَابُ عَلَى الْقِيَاسِ عَلَى الصَّوْمِ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِإِمْسَاكِ جَمِيعِ النَّهَارِ فَبَقِيَّةُ بَعْضِ مَا تَنَاوَلَهُ وَهُنَا إنَّمَا هُوَ مَأْمُورٌ بِإِزَالَةِ الشَّعْرِ وَلَمْ يَبْقَ شَيْءٌ مِنْهُ وَعُلِمَ مِمَّا تَقَرَّرَ فَرَّقَ الشَّافِعِيَّةُ وَغَيْرُهُمْ بَيْنَ الْبَابَيْنِ.

وَبَيَانُهُ أَنَّ آيَةَ الْمَسْحِ إنَّمَا تَعَلَّقَتْ بِالْبَشَرَةِ أَصَالَةً لِأَنَّهَا حَقِيقَةُ الرَّأْسِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ التَّعَلُّقِ فَقَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ بِأَنَّهُ شَامِلٌ لِجَمِيعِ الْبَشَرَةِ وَيُعَضِّدُهُ الْإِجْمَاعُ مِنَّا وَمِنْهُمْ عَلَى وُجُوبِ التَّعْمِيمِ فِي التَّيَمُّمِ مَعَ اسْتِوَاءِ آيَتِهِ وَآيَةِ مَسْحِ الرَّأْسِ فِي لَفْظِ الْفِعْلِ

ص: 101

وَالْجَارِ وَأَجَابَ أَصْحَابُنَا بِأَنَّهُ صَحَّ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم «تَوَضَّأَ فَمَسَحَ بِنَاصِيَتِهِ وَعَلَى عِمَامَتِهِ» وَهَذَانِ دَالَّانِ صَرِيحًا عَلَى الِاكْتِفَاءِ بِمَسْحِ الْبَعْضِ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْعُذْرِ فَلَا يَجُوزُ ادِّعَاءُ احْتِمَالِهِ وَلِأَنَّ أَحَدًا مِمَّنْ يُعْتَدُّ بِهِ لَمْ يَقُلْ بِخُصُوصِ النَّاصِيَةِ الَّتِي هِيَ مَا بَيْنَ النَّزْعَتَيْنِ وَالِاكْتِفَاءُ يَمْنَعُ وُجُوبَ الِاسْتِيعَابِ الَّذِي قَالَ بِهِ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَوُجُوبُ الرُّبْعِ الَّذِي قَالَ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ لِأَنَّهُ دُونَ رُبْعِ الرَّأْسِ بَلْ قِيلَ دُونَ نِصْفِ رُبْعِهِ وَيُعَضِّدُهُ أَنَّ الْبَاءَ الدَّاخِلَةَ فِي حَيِّزِ فِعْلٍ مُتَعَدٍّ بِنَفْسِهِ كَمَا هُنَا تَكُونُ لِلتَّبْعِيضِ أَيْ حَتَّى تُفِيدَ مَعْنًى لَا يُسْتَفَادُ مَعَ عَدَمِهَا وَإِلَّا لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْإِتْيَانُ بِهَا لَغْوًا لِأَنَّ الْفِعْلَ لَا يَحْتَاجُ إلَيْهَا وَالْمَعْنَى الْمُسْتَفَادُ مَعَهَا مُسْتَفَادٌ مَعَ عَدَمِهَا فَلَزِمَ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنًى لَا يُوجَدُ مَعَ حَذْفِهَا.

وَهُوَ مَا قُلْنَاهُ وَأَمَّا الْبَاءُ الدَّاخِلَةُ فِي حَيِّزٍ قَاصِرٍ فَإِنَّهَا تَكُونُ لِمُجَرَّدِ التَّعْدِيَةِ وَالْإِلْصَاقِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ} [الحج: 29] وَإِنَّمَا وَجَبَ التَّعْمِيمُ فِي التَّيَمُّمِ مَعَ اسْتِوَاءِ آيَتَيْهِمَا كَمَا تَقَرَّرَ لِثُبُوتِهِ بِالسُّنَّةِ وَلِجَرَيَانِهِ عَلَى حُكْمِ مُبَدِّلِهِ وَلَمْ يَجِبْ فِي الْحَلْقِ لِلْإِجْمَاعِ وَلِأَنَّهُ لَمْ يُفْسِدْهُ وَأَمَّا آيَةُ الْحَلْقِ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ تَتَعَلَّقَ بِالْبَشَرَةِ لِمَا تَقَرَّرَ مِنْ أَنَّ إمْرَارَ الْمُوسَى عَلَيْهَا لَا يُسَمَّى حَلْقًا فَوَجَبَ إضْمَارُ شَعْرٍ فَيَكُونُ مِنْ بَابِ الْإِضْمَارِ لَا الْمَجَازِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ النَّقْلِ وَأَنْ يَكُونَ مِنْ الِاشْتِرَاكِ لَكِنَّ الْمَجَازَ وَالنَّقْلَ وَالْإِضْمَارَ أَوْلَى مِنْ الِاشْتِرَاكِ وَالْإِضْمَارِ وَالْمَجَازِ سِيَّانِ لِاحْتِيَاجِ كُلٍّ مِنْهُمَا إلَى قَرِينَةٍ وَالْإِضْمَارُ وَالْمَجَازُ أَوْلَى مِنْ النَّقْلِ لِسَلَامَتِهِمَا مِنْ نَسْخِ الْمَعْنَى الْأَوَّلِ إذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ فَنَعُودُ حِينَئِذٍ إلَى الْكَلَامِ عَلَى مَا فِي السُّؤَالِ وَإِنْ كَانَ قَدْ عُلِمَ مِمَّا تَقَرَّرَ الْجَوَابُ عَمَّا فِيهِ فَنَقُولُ أَمَّا قَوْلُ السَّائِلِ وَالْحَالُ إلَخْ فَمَمْنُوعٌ بِمَا مَرَّ مِنْ أَنَّهُ لَا قِيَاسَ عِنْدَنَا.

وَعِنْدَ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ بِخِلَافِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَلَا يَتَوَجَّهُ أَبَدًا وَإِنْ سَلِمَتْ صِحَّتُهُ فَالْإِشْكَالُ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ لَا عَلَى غَيْرِهِ وَقَوْلُهُ مَعَ أَنَّهُ لَا مَانِعَ هُنَا مِنْ إرَادَةِ حَلْقِ الْكُلِّ إلَخْ مَمْنُوعٌ أَيْضًا لِمَا مَرَّ مِنْ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ التَّعْمِيمُ هُنَا وَقَوْلُهُ وَحَقِيقَتُهُ إزَالَةُ شَعْرِ كُلِّ الرَّأْسِ إلَخْ قَدْ مَرَّ عَنْ الْمَجْمُوعِ أَنَّهُ بَاطِلٌ وَأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلُّغَةِ وَالْعُرْفِ وَقَوْلُهُ وَلَقَدْ أَجَابَ عَنْ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ إلَخْ يُقَالُ عَلَيْهِ لَيْسَ هَذَا الْإِشْكَالُ بِصَحِيحٍ كَمَا تَقَرَّرَ حَتَّى يَحْتَاجَ لِلْجَوَابِ عَنْهُ وَعَلَى التَّنَزُّلِ فَالْقَرِينَةُ الْمَذْكُورَةُ لَا يُحْتَاجُ إلَيْهَا لِمَا تَقَرَّرَ مِنْ الْإِجْمَاعِ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ التَّعْمِيمِ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْقَرِينَةَ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ الْإِجْمَاعِ قَابِلَةٌ لِلْمَنْعِ بِأَنْ يُقَالَ لَيْسَ فِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ أَرَادَ الْحَلْقَ يُجْزِئُهُ حَلْقُ الْبَعْضِ وَلَا يُقَاسُ عَلَى التَّقْصِيرِ لِوُضُوحِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا وَإِنَّمَا الْقَرِينَةُ الصَّحِيحَةُ مَا مَرَّ مِنْ أَنَّ هُنَاكَ شَعْرًا مُضْمَرًا وَهُوَ اسْمُ جِنْسٍ أَقَلُّهُ ثَلَاثُ شَعَرَاتٍ.

وَقَوْلُهُ إذْ قَدْ يَكُونُ الرُّبْعُ قَائِمًا مَقَامَ الْكُلِّ إلَخْ يُقَالُ عَلَيْهِ إنْ أَرَدْتُمْ أَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ الْكُلِّ عِنْدَ الْمُخَالِفِ أَيْضًا فَغَيْرُ صَحِيحٍ أَوْ عِنْدَكُمْ فَإِنْ كَانَ لِشَيْءٍ اسْتَحْسَنْتُمُوهُ كَمَا هُنَا فَالْقِيَاسُ غَيْرُ صَحِيحٍ وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنَّهُ بِدَلِيلٍ آخَرَ غَيْرَ الِاسْتِحْسَانِ فَبَيِّنُوهُ حَتَّى نَتَكَلَّمَ فِيهِ وَقَوْلُهُ الِاحْتِيَاطُ اقْتَضَى الرُّبْعَ مَمْنُوعٌ بَلْ إنْ أُرِيدَ الِاسْتِنَادُ لِمُجَرَّدِ الِاحْتِيَاطِ فَهُوَ مَعَ أَحْمَدَ الْقَائِلِ بِوُجُوبِ حَلْقِ الْأَكْثَرِ أَوْ مَعَ أَبِي يُوسُفَ الْقَائِلِ بِوُجُوبِ حَلْقِ النِّصْفِ وَأَمَّا الرُّبْعُ فَلَا احْتِيَاطَ فِيهِ يَصْلُحُ مُرَجِّحًا لَهُ عَلَى النِّصْفِ وَالْأَكْثَرِ وَقَوْلُهُ وَلِهَذَا أَرَادُوا فِي بَابِ الْمَسْحِ الرَّابِعِ إلَخْ يُقَالُ عَلَيْهِ لَا احْتِيَاطَ فِي ذَلِكَ أَيْضًا وَإِنَّمَا الِاحْتِيَاطُ مَعَ الْقَائِلِ بِمَسْحِ الْكُلِّ فَنَتَجَ أَنَّ الِاحْتِيَاطَ لَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِتَخْصِيصِ الرُّبْعِ بِالِاعْتِبَارِ فِي وَاحِدٍ مِنْ الْبَابَيْنِ وَإِذَا لَمْ يَصْلُح سَبَبًا لِذَلِكَ فَأُولَى أَنْ لَا يَصْلُحَ سَبَبًا لِاعْتِبَارِ ثَلَاثِ أَصَابِعِ الْمَذْكُورِ بِقَوْلِ السَّائِلِ أَوْ أَرَادُوا إلَخْ الْمَعْطُوفَ عَلَى أَرَادُوا الْأَوَّلَ الْمُعَلَّلَ بِالِاحْتِيَاطِ فِي قَوْلِهِ وَلِهَذَا عَلَى أَنَّهُ يُقَالُ عَلَيْهِ إنْ نَظَرَ لِلْمَحِلِّ اُعْتُبِرَ الرُّبْعُ أَوْ إلَى الْآلَةِ اُعْتُبِرَ ثَلَاثَةُ أَصَابِعَ وَكُلُّ مُحْتَمَلٍ فَمَا الْمُرَجِّحُ الرَّاجِحُ مِنْ اعْتِبَارِ الرُّبْعِ غَيْرَ أَنَّ الِاحْتِيَاطَ فِيهِ أَكْثَرِ أَوْ أَنَّهُ اُعْتُبِرَ اسْتِحْسَانًا فِي أَحْكَامٍ أُخْرَى عِنْدَكُمْ.

وَكُلٌّ مِنْ هَذَيْنِ لَا يَكُونُ مُرَجَّحًا لِمَا تَقَرَّرَ قَرِيبًا عَلَى أَنَّ فِي تَشْبِيهِ الْمَحَلَّ بِالْآلَةِ حَتَّى تَرَتَّبَ عَلَيْهِ مَا ذُكِرَ مِنْ اعْتِبَارِ الِاعْتِبَارِ الْأَغْلَبِ وَذَلِكَ غَيْرُ مُخَصَّصٍ كَمَا يُعْلَمُ مِنْ كَلَامِ الْأُصُولِيِّينَ ثُمَّ ظَاهِرُ كَلَامِ السَّائِلِ أَنَّ نَظِيرَ هَذِهِ

ص: 102

الْمَقَالَةِ فِي الْمَسْحِ يَأْتِي فِي الْحَلْقِ لِلْعِلَّةِ الَّتِي ذَكَرَهَا وَهُوَ إنْ صَحَّ مَنْقُولًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ غَيْرُ جَلِيِّ الْمَعْنَى لِمَا هُوَ وَاضِحٌ أَنَّ عِلَّةَ مَسْحِ مِقْدَارِ ثَلَاثِ أَصَابِعَ لَا يَأْتِي فِي حَلْقِ مِقْدَارِهَا وَقَوْلُهُ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ قِيَاسًا إلَخْ وَقَوْلُهُ وَلَا يَخْفَى عَلَى هَذَا إلَخْ يُقَالُ عَلَيْهِ قَدْ بَانَ أَنَّهُ خَفِيٌّ غَيْرُ صَحِيحٍ وَقَوْلُهُ وَلِهَذَا لَمْ يُثْبِتُوا عَلَيْهِ الْجِنَايَةَ إنْ أَرَادَ أَنَّهُ لَا حُرْمَةَ فِي إزَالَةِ دُونَ ثَلَاثِ شَعَرَاتٍ فَغَيْرُ صَحِيحٍ أَوْ لَا كَفَّارَةَ فَكَذَلِكَ لِأَنَّ فِي الْوَاحِدَةِ كَفَّارَةٌ عِنْدَهُمْ وَإِنَّمَا تَخْتَلِفُ كَفَّارَةُ الثَّلَاثِ وَمَا دُونَهَا وَلَيْسَ ذَلِكَ لِمَعْنًى مُنَاسِبٍ لِمَا فِي الْحَلْقِ لِأَنَّهُمْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ إزَالَةَ ثَلَاثِ شَعَرَاتٍ لَا يَحْصُلُ بِهِ التَّحَلُّلُ.

وَاتَّفَقُوا أَيْضًا أَنَّ إزَالَةَ مَا دُونَهَا فِيهِ الْكَفَّارَةُ فَالْمَلْحَظُ فِي الْمَحَلَّيْنِ مُخْتَلِفٌ خِلَافًا لِمَا يُوهِمُهُ صَرِيحُ كَلَامِ السَّائِلِ وَقَوْلُهُ وَوَجْهُ إرَادَةِ هَذَا الْمَعْنَى إلَخْ لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ مَعَ مَا قَدَّمْته فِي تَوْجِيهِ اكْتِفَاءِ الشَّافِعِيَّةِ بِثَلَاثِ شَعَرَاتٍ بَلْ هَذَا التَّوْجِيهُ لَا يَرْضَاهُ الشَّافِعِيَّةُ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّعَسُّفِ الْخَارِجِ عَنْ قَوَانِينِ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ وَقَوْلُهُ فَالْحَاصِلُ إلَخْ يُقَالُ عَلَيْهِ هَذَا الْحَاصِلُ مَبْنِيٌّ عَلَى غَيْرِ أَسَاسٍ لِمَا تَقَرَّرَ مِنْ هَدْمِ جَمِيعِ مَا قَبْلَهُ الْمَبْنِيِّ هُوَ عَلَيْهِ ثُمَّ عَلَى تَسْلِيمِ الْمَجَازَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرَهُمَا وَأَنَّ الثَّانِيَ أَكْثَرُ يُقَالُ عَلَيْهِ لَا يَكُونُ أَوْلَى هُنَا مِنْ الْأَوَّلِ إلَّا لَوْ كَانَ التَّجَوُّزُ فِيهِ خَاصًّا بِالرُّبْعِ أَوْ بِالثَّلَاثِ أَصَابِعَ وَلَا قَائِلَ بِذَلِكَ مِنْ حَيْثُ التَّجَوُّزِ أَمَّا إذَا كَانَ غَيْرَ مُخْتَصٍّ بِذَلِكَ فَلَا يَكُونُ أَوْلَى مِنْ الْأَوَّلِ بَلْ الْأَوَّلُ أَوْلَى مِنْهُ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ إضْمَارِ شَعْرٍ أَوْ التَّجَوُّزِ عَنْهُ بِالرَّأْسِ الِاكْتِفَاءُ بِثَلَاثِ شَعَرَاتٍ لِأَنَّ اسْمَ الْجِنْسِ لَا يَصْدُقُ عَلَى أَقَلَّ مِنْهَا اتِّفَاقًا وَإِنْ صَدَقَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْهَا فَهِيَ مُتَيَقَّنَةٌ وَغَيْرُهَا مَشْكُوكٌ فِيهِ.

وَأَمَّا الْمَجَازُ الثَّانِي فَيَصْدُقُ عَلَى الرُّبْعِ وَأَقَلَّ مِنْهُ وَأَكْثَرَ مِنْهُ اتِّفَاقًا فَلَا وَجْهَ لِلتَّخْصِيصِ بِالرُّبْعِ مِنْ حَيْثُ هَذَا الْمَجَازِ فَلَا أَوْلَوِيَّةَ فِيهِ عَلَى الْأَوَّلِ بَلْ الْأَوَّلُ أَوْلَى مِنْهُ هُنَا لِمَا تَقَرَّرَ وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ اهـ.

مَا أَجَابَ بِهِ شَيْخُنَا فَسَحَ اللَّهُ فِي مُدَّتِهِ وَأَدَامَ النَّفْعَ بِعُلُومِهِ وَبَرَكَتِهِ ثُمَّ رَأَيْت السَّائِلَ لَمَّا اطَّلَعَ عَلَى الْجَوَابِ كَتَبَ وَرَقَةً أُخْرَى صُورَةُ مَا فِيهَا أَمَّا قَوْلُهُ وَالْمُرَادُ شَعْر رُءُوسِكُمْ وَجَعَلَهُ مِنْ بَابِ الْإِضْمَارِ أَوْ الْحَذْفِ فَلَيْسَ كَذَلِكَ إذْ الْإِضْمَارُ أَوْ الْحَذْفُ لَا يَكُونُ إلَّا إذَا لَمْ يَكُنْ لِإِسْنَادِ الْفِعْلِ أَوْ شِبْهِهِ إلَى ذَلِكَ الْأَمْرِ الْمَذْكُورِ مَعْنًى مُحَصَّلٍ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] قَالَ أَحْمَدُ بْنُ فَارِسٍ إذَا أَسْنَدْت لَمْ يَكُنْ لَهُ فَائِدَةٌ فَهَهُنَا إضْمَارٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ} [العنكبوت: 9] أَيْ فِي زُمْرَةِ الصَّالِحِينَ.

وَمَا نَحْنُ فِيهِ لَيْسَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ لِأَنَّهُ إذَا قِيلَ حَلَقْت رَأْسِي يَصِحُّ وَيُفِيدُ مِنْ غَيْرِ التَّقْدِيرِ بَلْ التَّقْدِيرُ فِيهِ قَبِيحٌ لِأَنَّ مَعْنَى الْحَلْقِ إزَالَةُ الشَّعْرِ لَا الْإِزَالَةُ الْمُطْلَقَةُ وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ حَلَقْت الدَّنَسَ مِنْ بَدَنِي فَلَا يُقَالُ فِي صَحِيحِ الْكَلَامِ حَلَقْت شَعْرَ رَأْسِيِّ وَلِهَذَا لَمْ يَقَعْ فِي كَلَامِ الْفُصَحَاءِ وَلَوْ وَقَعَ لَكَانَ مَجَازًا بِاعْتِبَارِ التَّجْرِيدِ فَإِذَا تَعَلَّقَ هَذَا الْفِعْلُ الْمُتَعَدِّي بِنَفْسِهِ إلَى مَحِلِّهِ لَا بُدَّ مِنْ تَعَلُّقِهِ بِجَمِيعِ الْمَحِلِّ كَمَا قَالُوا فِي آيَةِ الْمَسْحِ لَوْ لَمْ تَكُنِ الْبَاءُ مَوْجُودَةٌ لَكَانَ الْوَاجِبُ مَسْحَ الْكُلِّ بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّهُ فِعْلٌ مُتَعَدٍّ تَعَلَّقَ بِمَحَلِّهِ عَلَى أَنَّ التَّقْدِيرَ هُنَا يُنَافِي مَا أَوْجَبُوهُ لِأَنَّ الشَّعْرَ اسْمُ جِنْسٍ كَمَا قَالَ بِهِ الْقَائِلُ فَهُوَ يُطْلَقُ عَلَى الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ حَتَّى عَلَى نِصْفِ شَعْرَةٍ أَوْ أَقَلَّ كَمَا أَنَّ الْمَاءَ يُطْلَقُ عَلَى قَطْرَةٍ أَوْ قَطْرَتَيْنِ.

وَأَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّهُ جَمْعٌ فَلَمْ يَذْهَبْ إلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ وَأَيْضًا الْعُرْفُ يُنَافِيهِ فَإِنَّ إطْلَاقَ الشَّعْرِ عَلَى الْوَاحِدِ وَالْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ سَوَاءٌ فَالْوَاجِبُ حِينَئِذٍ حَلْق شَعْرَةٍ أَوْ أَقَلَّ مِنْهَا أَخْذًا بِالْأَقَلِّ الْمُتَيَقَّنِ فَلَا يَثْبُتُ فِي وُجُوبِ حَلْقِ الثَّلَاثِ وَأَمَّا قَوْلُهُ وَلِأَنَّهُ يُسَمَّى حَلْقًا يُقَالُ حَلَقَ رَأْسَهُ وَرُبُعَهُ وَثَلَاثَ شَعَرَاتٍ هَذَا الْكَلَامُ لَا يَنْفَعُهُ إذْ الْخَصْمُ يَقُولُ لَا يُقَالُ بِحَلْقِ الرُّبْعِ وَحَلْقِ ثَلَاثِ شَعَرَاتٍ مِنْهُ وَالْحَقُّ أَنَّ اسْتِعْمَالَ حَلْقِ الرَّأْسِ فِي حَلْقِ الرُّبْعِ أَوْ أَقَلَّ مِنْهُ وَلَيْسَ النِّزَاعُ فِي أَنَّ إسْنَادَ حَلْقٍ لَا يَجُوزُ إلَى الرُّبْعِ وَثَلَاثِ شَعَرَاتٍ مِنْهُ كَانَتْ الْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ بِمَنْزِلَةِ بَدَلِ الْبَعْضِ مَجَازًا لَا حَقِيقَةً أَلَا تَرَى أَنَّك إذَا قُلْت حَلَقَ رَأْسَهُ حَلَقَ رُبْعَهُ أَوْ ثَلَاثَ شَعَرَاتٍ مِنْهُ كَانَتْ الْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ بِمَنْزِلَةِ الْبَعْضِ مِنْ قَبِيلِ قَوْله تَعَالَى {أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ} [الشعراء: 133] الْآيَةَ.

وَلَوْ كَانَ فِي الثَّانِي

ص: 103

وَالثَّالِثِ حَقِيقَةً لَكَانَتْ الْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ بِمَنْزِلَةِ بَدَلِ الْكُلِّ وَلَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ اللِّسَانِ وَأَيْضًا صِحَّةُ قَوْلِهِ يُقَالُ حَلَقَ رَأْسَهُ وَرُبْعَهُ وَثَلَاثَ شَعَرَاتٍ مِنْهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ الْإِضْمَارِ إذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ التَّقْدِيرُ حَلَقْت شَعْرَ رَأْسِهِ وَشَعْرَ رُبْعِهِ وَشَعْرَ ثَلَاثِ شَعَرَاتٍ مِنْهُ وَفَسَادُهُ ظَاهِرٌ وَقَوْلُهُ وَأَمَّا قَوْلُهُمْ لَا يُسَمَّى حَلْقًا بِدُونِ أَكْثَرِهِ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ إنْكَارٌ لِلْحِسِّ وَاللُّغَةِ وَالْعُرْفُ لَيْسَ عَلَى مَا يَنْبَغِي بَلْ الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ فَإِنَّ مَعْنَى قَوْلِ الْقَائِلِ لَا يُسَمَّى حَلْقًا أَيْ حَلْقَ الرَّأْسِ وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يُسَمَّى حَلْقًا أَصْلًا كَمَا عَرَفْت.

وَأَمَّا قَوْلُهُ فَالْوَاجِبُ فِي الْحَلْقِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ مَالِكٍ ثَلَاثُ شَعَرَاتٍ يَأْبَى عَنْهُ كَتَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَفُقَهَاؤُهَا وَاَلَّذِي هُوَ مَشْهُورٌ وَمَعْمُولٌ بِهِ عِنْدَهُمْ حَلْقُ الْكُلِّ قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ وَلَا يَتِمُّ نُسُكُ الْحَلْق إلَّا بِجَمِيعِ الرَّأْسِ ثُمَّ قَالَ فَإِنْ اُقْتُصِرَ عَلَى الْبَعْضِ فَكَالْعَدِمِ وَفِي الْمُدَوَّنَةِ لِابْنِ الْقَاسِمِ وَإِذَا قَصَّرَ الرَّجُلُ فَلْيَأْخُذْ مِنْ جَمِيعِ شَعْرِ رَأْسِهِ وَكَذَا فِي حَقِّ الصَّبِيَّانِ وَلَيْسَ عَلَى الْمَرْأَةِ إلَّا التَّقْصِيرُ وَلْتَأْخُذْ مِنْ جَمِيعِ قُرُونِهَا وَلَا يَجْزِيهِمَا أَنْ يُقَصِّرَا بَعْضًا وَيُبْقِيَا بَعْضًا وَكَذَا عِنْدَ أَحْمَدَ فَإِنَّ الصَّحِيحَ الْمَعْمُولَ بِهِ عِنْدَ أَصْحَابِهِ حَلْقُ الْكُلِّ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي بَعْضِ كُتُبِهِمْ الْمُعْتَبَرَةِ فَمِنْ أَيْنَ يَتَأَتَّى الْإِجْمَاعُ عَلَى عَدَمِ كَوْنِ حَلْقِ الْكُلِّ مُرَادًا مِنْ الْآيَةِ عَلَى أَنَّا لَوْ فَرَضْنَا اتِّفَاقَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ لَا يَحْصُلُ الْإِجْمَاعُ أَيْضًا وَعَلَى تَقْدِيرِ تَسْلِيمِ كَوْنِهِ إجْمَاعًا عَدِمَ احْتِيَاجَ تَبْيِينِ الْقَرِينَةِ فِي إرَادَتِهِمْ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ الْآيَةِ مَعَ كَوْنِهِ خِلَافَ ظَاهِرِهَا مَمْنُوعٌ إذْ عَلَى الْفَقِيهِ بَحْثُ مَعْرِفَةِ مَأْخَذِ مَسَائِلِهِمْ وَطُرُقِ اسْتِنْبَاطِهِمْ مِنْ الْأَدِلَّةِ وَإِلَّا يَكُنْ مَحْضَ التَّقْلِيدِ وَلَا يُسَمَّى فَقِيهًا.

وَأَمَّا قَوْلُهُ بِأَنْ يُقَاسَ لَيْسَ فِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ أَرَادَ حَلْقَ الْكُلِّ يُجَزِّئهُ حَلْقُ الْبَعْضِ وَلَا يُقَاسُ عَلَى التَّقْصِيرِ لِوُضُوحِ الْفَرْقِ مِمَّا لَا يَحْصُلُ لَهُ لِأَنَّ النُّسُكَ وَاحِدٌ وَالْمَحَلَّ وَاحِدٌ وَلَا مَعْنَى بِأَنْ يَقُولُ حَلْقُ الْكُلِّ وَاجِبٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْبَعْضِ وَحَلْقُ الْبَعْضِ وَاجِبٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى بَعْضٍ آخَرَ وَالتَّقْصِيرُ وَاجِبٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى بَعْضٍ آخَرَ بَلْ الْوَاجِبُ فِي هَذَا الْمَقَامِ هُوَ الْحَلْقُ أَوْ التَّقْصِيرُ كُلًّا أَوْ بَعْضًا عَلَى اخْتِلَافِ الْمَذَاهِبِ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ أَرَادَ أَوَّلًا أَنْ يَحْلِقَ الْكُلَّ ثُمَّ اكْتَفَى بِالْبَعْضِ يَجُوزُ عِنْدَ مَنْ ذَهَبَ إلَى وُجُوبِ الْبَعْضِ وَكَذَا إذَا أَرَادَ أَوَّلًا الْحَلْقَ ثُمَّ قَصَّرَ يُجَزِّئهُ وَأَمَّا قَوْلُهُ عَلَى مَسْأَلَةِ الْمَسْحِ فَمَمْنُوعٌ فَفِيهِ أَنَّ الْمَنْعَ لَا يَتَوَجَّهُ عَلَى النَّاقِلِ وَهُوَ نَاقِلٌ مِنْ كَلَامِهِمْ وَاَلَّذِي عَلَيْهِ تَصْحِيحُ النَّقْلِ وَعَلَى تَقْدِيرِ تَسْلِيمِ تَوَجُّهِ الْمَنْعِ هَذَا الْمَنْعُ لَا يَضُرُّ إذْ الْإِشْكَالُ بَاقٍ لِأَنَّ نَظِيرَهُ عَلَى أَنَّ إرَادَةَ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ خِلَافُ الظَّاهِرِ سَوَاءٌ أَكَانَ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ عِبَارَاتُ بَعْضِهِمْ أَوْ بِطَرِيقٍ آخَرَ فَإِنْ كَانَ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ فَالْقِيَاسُ لَا يَصِحُّ كَمَا ذَكَرَهُ وَإِنْ كَانَ بِطَرِيقٍ آخَرَ فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِهِ لِعَدَمِ ظُهُورِهِ.

وَأَمَّا الْكَلَامُ عَلَى مَسْأَلَةِ الْمَسْحِ فَهُوَ مُبَيَّنٌ فِي مَحَلِّهِ فِي كُتُبِ كُلٌّ مِنْ الْأَئِمَّةِ وَلَا يَحْتَمِلهُ الْمَقَامُ وَأَمَّا تَجْوِيزُ النَّقْلِ وَالِاشْتِرَاكُ فِي الْآيَةِ فَلَا مَعْنَى لَهُ أَمَّا الِاشْتِرَاكُ فَظَاهِرٌ وَأَمَّا النَّقْلُ فَلِأَنَّ النَّقْلَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ فِي حَلْقٍ أَوْ الرَّأْسِ وَالْأَوَّلُ لَا يَصِحُّ لِأَنَّ الْمَنْقُولَ لَا يَكُونُ إلَّا اسْمًا وَحَلَقَ هُنَا لَمْ يُنْقَلْ مِنْ الْفِعْلِيَّةِ إلَى الِاسْمِيَّةِ وَكَذَا الثَّانِي لَا يَصِحُّ لِأَنَّ النَّقْلَ وَضْعٌ ثَانٍ وَالْقَوْلُ بِأَنَّ الرَّأْسَ مَوْضُوعٌ لِثَلَاثِ شَعَرَاتٍ مِنْهُ مِمَّا لَا قَائِلَ بِهِ هَذَا حَالُ أُصُولِ مُقَدِّمَاتِهِ وَفُرُوعُهَا عَلَى هَذَا الْقِيَاسِ فَالْحَقُّ وَالْإِنْصَافُ أَنَّ سُؤَالَ السَّائِلِ مُوَجَّهٌ لَا مُخَلِّصَ مِنْهُ لِهَذِهِ الْمُقَدَّمَاتِ وَلَيْسَ الْمُخَلِّصُ مِنْهُ إلَّا بِمَا ذَكَرَهُ الْمُجِيبُ وَأَمَّا وَجْهُ إرَادَةِ الْحَنَفِيَّةِ الرُّبْعَ فَلِأَنَّ الْمَلْحَظَ فِي الْبَابَيْنِ عِنْدَهُمْ مُتَّحِدٌ كَمَالِكٍ.

وَبَيَانُهُ أَنَّهُ فِي كُلٍّ مِنْ الْمَوْضِعَيْنِ تَعَلَّقَ الْفِعْلُ الْمُتَعَدِّي بِنَفْسِهِ بِمَحَلِّهِ وَالْمَحَلُّ وَاحِدٌ وَهُوَ الرَّأْسُ وَلِهَذَا يُوجِبَانِ إمْرَارَ الْمُوسَى عَلَى الرَّأْسِ عِنْدَ عَدَمِ الشَّعْرِ كَمَا أَنَّ الْمُرَادَ عِنْدَ مَالِكٍ رحمه الله فِي الْأَوَّلِ الْكُلُّ كَذَلِكَ الْمُرَادُ مِنْ الثَّانِي وَكَمَا أَنَّ الْمُرَاد عِنْد أَبِي حَنِيفَة رحمه الله فِي الْأَوَّل الرُّبْع كَذَلِكَ فِي الثَّانِي وَكَذَا عِنْد أَحْمَدَ فَإِنَّهُ صَرَّحَ فِي بَعْضِ كُتُبِهِمْ أَنَّهُ يَجِب حَلْقُ الْكُلِّ وَهُوَ صَحِيحٌ وَالْأَكْثَر لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْكُلِّ كَمَا فِي الْمَسْحِ فَإِنَّ عِنْدَهُ فِي الصَّحِيحِ أَيْضًا الصَّحِيحُ مَسْحُ الْكُلِّ وَرُوِيَ عَنْهُ

ص: 104

الِاكْتِفَاءُ بِالْأَكْثَرِ وَوَجْهُ إرَادَةِ الرُّبْعِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ كَمَا ذَكَرُوا أَنَّهُ لَمَّا صَارَتْ الْبَاءُ فِي صِلَةِ الْمَسْحِ مَانِعَةٌ عَنْ إرَادَةِ الْكُلِّ بِالْأَكْثَرِ كَمَا بُيِّنَ فِي مَحَلِّهِ صَارَتْ الْآيَةُ مُجْمَلَةً فَجَعَلُوهَا مُبَيَّنَةً بِحَدِيثِ الْمُغِيرَةِ وَهُوَ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَسَحَ عَلَى نَاصِيَتِهِ» وَعَلَى إمَّا لِتَأْكِيدِ الِاسْتِيعَابِ أَوْ زَائِدَةٌ.

وَيُؤَيِّدُهُ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَسَحَ نَاصِيَتَهُ» عَلَى مَا فِي جَامِعِ الْأُصُولِ وَفِعْلُ الْمَسْحِ إذَا تَعَلَّقَ بِالْمَحَلِّ يَقْتَضِي الِاسْتِيعَابَ كَمَا بُيِّنَ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ ثُمَّ قَدْ بُيِّنَ فِي عِلْمِ الْحِكْمَةِ أَنَّ الرَّأْسَ مُرَكَّب مِنْ أَرْبَعَةِ أَجْزَاءٍ النَّاصِيَةِ وَالْفَوْدَيْنِ وَالْعَقِبِ فَالنَّاصِيَةُ وَإِنْ اُحْتُمِلَ أَنْ تَكُونَ هِيَ صُغْرَى بِالنِّسْبَةِ إلَى سَائِرِ أَجْزَائِهِ لَكِنْ قَدَّرُوهَا تَخْمِينًا بِالرُّبْعِ لِلِاحْتِيَاطِ خَوْفَ التَّنْقِيصِ مِنْ الْأَصْلِ وَمِثْلُ هَذَا الِاعْتِبَارِ تَخْمِينًا أَوْ تَقْرِيبًا شَائِعٌ فِي الْمَسَائِلِ الشَّرْعِيَّةِ وَأَمَّا مَعْنَى قَوْلِ الْمُجِيبِ لَمْ يُثْبِتُوا عَلَيْهِ الْجِنَايَةَ فَمُرَادُهُ مِنْ الْجِنَايَةِ الدَّمُ وَهُوَ الْعُرْفُ فِي الْمَنَاسِكِ وَدُونَ الدَّمِ يُسَمُّونَهُ صَدَقَةً وَإِيرَادُهَا فِي بَابِ الْجِنَايَاتِ لِطَلَبِ الِاخْتِصَارِ وَالْعِلْمِ عِنْدَ اللَّهِ وَنَسْأَلُ اللَّهَ الْهِدَايَةَ وَالتَّوْفِيقَ فَلَمَّا رُفِعَتْ الْوَرَقَةُ الْمَكْتُوبُ فِيهَا ذَلِكَ لِشَيْخِنَا فَسَحَ اللَّهُ فِي مُدَّتِهِ كَتَبَ عَلَيْهَا جَوَابًا صُورَتُهُ اعْلَمْ أَنَّ مُنْشَأَ هَذِهِ الرُّدُودِ وَالْإِشْكَالَاتِ عَدَمُ صِدْقِ التَّأَمُّلِ مَعَ الِاتِّكَالِ عَلَى مَا يَسْبِقُ إلَى الْفَهْمِ مِنْ غَيْرِ مُرَاجَعَةِ كَلَامِ الْأَئِمَّةِ كَمَا سَتَعْلَمُهُ مِمَّا سَامَرَهُ.

وَبَيَانُ ذَلِكَ مَعَ بَعْضِ الْبَسْطِ فِيهِ لِمَا أَنَّ الْمَقَامَ مُحْوِجٌ إلَى ذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ فَلَيْسَ كَذَلِكَ إذْ الْإِضْمَارَ وَالْحَذْفُ لَا يَكُونُ إلَخْ مِمَّا يُتَعَجَّبُ مِنْهُ فَإِنَّ نُصُوصَ الْأَئِمَّةِ قَاضِيَةٌ بِرَدِّهِ سِيَّمَا نَصُّ إمَامِهِ أَبِي حَنِيفَةَ رضي الله عنه لِأَنَّهُ آثَرَ الْإِضْمَارَ عَلَى النَّقْلِ فِي قَوْله تَعَالَى {وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] فَقَالَ أَيْ أَخْذَهُ وَهُوَ الزِّيَادَةُ فِي بَيْعِ دِرْهَمٍ بِدِرْهَمَيْنِ مَثَلًا فَإِذَا أُسْقِطَ صَحَّ الْبَيْعُ وَارْتَفَعَ الْإِثْمُ وَعَكَسَ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه وَغَيْرُهُ ذَلِكَ فَآثَرُوا النَّقْلَ عَلَى الْإِضْمَارِ فَقَالُوا نَقْلُ الرِّبَا شَرْعًا إلَى الْعَقْدِ فَهُوَ فَاسِدٌ وَإِنْ أُسْقِطَتْ الزِّيَادَةُ فِي الصُّوَرِ الْمَذْكُورَةِ مَثَلًا وَالْإِثْمُ فِيهَا بَاقٍ فَانْظُرْ كَوْنَ أَبِي حَنِيفَةَ رضي الله عنه أَضْمَرَ مَعَ صِحَّةِ الْمَعْنَى بَلْ ظُهُورِهِ مَعَ عَدَمِ الْإِضْمَارِ وَأَوْضَحُ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ أَيْضًا فِي قَوْله تَعَالَى {فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} [المجادلة: 4] أَنَّ فِيهِ إضْمَارًا أَيْ طَعَامَ سِتِّينَ مِسْكِينًا وَهُوَ سِتُّونَ مُدًّا فَيَجُوز إعْطَاؤُهُ الْمِسْكِينَ الْوَاحِدَ سِتِّينَ مُدًّا.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ الْآيَةُ عَلَى ظَاهِرِهَا فَلَا يَجُوزُ إعْطَاؤُهُ لِأَقَلَّ مِنْ سِتِّينَ مِسْكِينًا لِأَنَّ الْآيَةَ ظَاهِرَةٌ فِيهِ وَمِنْ ثَمَّ اُعْتُرِضَ الْقَوْلُ بِالْإِضْمَارِ بِأَنَّهُ اُعْتُبِرَ فِيهِ مَا لَمْ يُذْكَرْ مِنْ الْمُضَافِ الْمُضْمَرِ وَأُلْغِيَ فِيهِ مَا ذُكِرَ مِنْ عَدَدِ الْمَسَاكِينِ الظَّاهِرَةِ قَصَدَهُ بِفَضْلِ الْجَمَاعَةِ وَبَرَكَتِهِمْ أَيْضًا فَقَدْ اخْتَلَفَ الْأَئِمَّةُ رضي الله عنهم فِي قَوْله تَعَالَى {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179] فَقَدَّرَ فِيهِ جَمَاعَةٌ مُضْمَرًا أَيْ فِي مَشْرُوعِيَّتِهِ لِأَنَّ بِهَا يَحْصُلُ الِانْكِفَافُ عَنْ الْقَتْلِ فَيَكُونُ الْخِطَابُ عَامًّا وَلَمْ يُقَدِّرْ ذَلِكَ آخَرُونَ فَقَالُوا فِي الْقِصَاصِ نَفْسِهِ حَيَاةٌ لِوَرَثَةِ الْقَتِيلِ الْمُقْتَصِّينَ بِدَفْعِ شَرِّ الْقَاتِلِ الَّذِي صَارَ عَدُوًّا لَهُمْ فَيَكُونَ مُخْتَصًّا بِهِمْ فَتَأَمَّلْ صَنِيعَ الْأَئِمَّةِ وَتَصَرُّفَهُمْ فِي النُّصُوصِ بِالْإِضْمَارِ تَارَةً وَعَدَمِهِ أُخْرَى مَعَ صِحَّةِ الْمَعْنَى بَلْ ظُهُورُهُ مَعَ عَدَمِ الْإِضْمَارِ فَازْدَدْ بِذَلِكَ تَعَجُّبًا مِمَّا ذَكَرَهُ هَذَا الْقَائِلُ وَمِنْ فِرَارِهِ عَنْ نُصُوصِ الْأَئِمَّةِ هَذِهِ وَأَمْثَالِهَا إلَى النَّقْلِ عَمَّنْ لَا يُجْدِيهِ النَّقْلُ عَنْهُ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْطِنِ شَيْئًا لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ إذْ أَهْلُهُ الْمُجْتَهِدُونَ وَمَنْ دَانَاهُمْ.

فَإِنْ قُلْت إنَّمَا سَلَكَ الْإِضْمَارَ مَنْ ذَكَرَ لِأَنَّهُ لَمَّا قَامَ الدَّلِيلُ عِنْدَهُ عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي ظَهَرَ لَهُ وَلَمْ يَصِحَّ اللَّفْظُ لِمُقْتَضَى مَا ظَهَرَ لَهُ إلَّا بِالْإِضْمَارِ كَانَ الْإِضْمَارُ مُتَعَيِّنًا وَلَمْ يَصِحَّ الْمَعْنَى حِينَئِذٍ بِدُونِهِ فَهُوَ مِمَّا ذَكَرَهُ الْمُسْتَشْكِلُ فَلَا يَرِدُ كَلَامُ الْأَئِمَّةِ الْمَذْكُورُ عَلَيْهِ نَقْضًا قُلْت بَلْ هُوَ وَارِدٌ عَلَيْهِ نَقْضًا وَرَدًّا لِأَنَّ الْحَامِلَ عَلَى الْإِضْمَارِ إذَا كَانَ بِاعْتِبَارِ مَا ظَهَرَ مِنْ الدَّلِيلِ الْمُتَوَقِّفِ هُوَ عَلَيْهِ كَانَ مَا سَلَكْنَاهُ فِي الْآيَةِ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّ الدَّلِيلَ قَامَ عِنْدَنَا عَلَى أَنَّهُ يَكْفِي ثَلَاثُ شَعَرَاتٍ فَأَضْمَرْنَا مَا يَدُلُّ عَلَيْهَا فِي الْآيَةِ وَلَا يُقَالُ مَا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ يَكْفِي لِأَنَّا نَقُولُ هَذَا السُّؤَالُ لَا يَتَوَجَّهُ لِأَنَّ الْفَرْضَ أَنَّ الْحَامِلَ عَلَى الْإِضْمَارِ يُفَوَّضُ إلَى رَأْي الْمُجْتَهِدِ سَوَاءٌ أَظَهَرَ دَلِيلُهُ أَمْ لَا كَمَا مَرَّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رضي الله عنه -

ص: 105

فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ الَّتِي أَضْمَرْنَا فِيهَا لَيْسَتْ مِمَّا يَصِحُّ الْمَعْنَى فِيهِ مَعَ عَدَمِ الْإِضْمَارِ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ أَحَاطَ بِكَلَامِ اللُّغَوِيِّينَ الْمُصَرِّحِ بِأَنَّ الْحَلْقَ إذَا أُطْلِقَ لُغَةً يَكُونُ لِمُطْلَقِ الْإِزَالَةِ خِلَافًا لِمَا زَعَمَهُ الْمُسْتَشْكِلُ وَقَوْلُهُ وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ حَلَقْتُ الدَّنَسَ عَنْ ثَوْبِي يُقَالُ عَلَيْهِ إنْ أُرِيدَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ عُرْفًا فَمُسَلَّمٌ وَلَا يُجْدِيهِ هُنَا أَوْ لُغَةٌ فَلَيْسَ كَذَلِكَ.

وَالنُّصُوصُ إنَّمَا تُحْمَلُ عَلَى عُرْفِ الشَّارِعِ فَإِنْ تَعَذَّرَ فَعَلَى اللُّغَةِ فَإِنْ تَعَذَّرَتْ فَعَلَى الْعُرْفِ الْعَامِّ فَالْخَاصِّ كَمَا فِي الْأَيْمَانِ وَالْإِحْيَاءِ، وَالْحِرْزُ فِي السَّرِقَةِ وَالْقَبْضُ فِي الْمَبِيعِ مِمَّا لَمْ يَرِدْ فِيهِ ضَابِطٌ لُغَةً وَلَا شَرْعًا وَإِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ فَالْحَلْقُ لَا يَصِحُّ تَسَلُّطُهُ عَلَى الرَّأْسِ الْمُرَادِ بِهِ الْبَشَرَةُ فَوَجَبَ تَقْدِيرُ مَا يُتِمُّ الْمَعْنَى الْمُرَادُ بِهِ وَهُوَ شَعْرٌ وَحِينَئِذٍ انْدَفَعَ قَوْلُهُ إنْ حَلَقْت رَأْسِي يُفِيدُ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرٍ وَقَوْلُهُ بَلْ التَّقْدِيرُ فِيهِ قَبِيحٌ وَمِنْ أَيْنَ لَهُ هَذَا الِاسْتِقْبَاحُ مَعَ تَعْلِيلِهِ لَهُ بِمَا لَمْ يَنْقُلْهُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ وَلَا مِنْ غَيْرِهِمْ بَلْ هُوَ مَحْضُ ادِّعَاءٍ سِيَّمَا مَعَ مَنْ يُنَازِعُهُ فِيهِ وَيَقُولُ لَهُ مِنْ أَيْنَ لَك هَذَا مَعَ قَوْلِ الْأَئِمَّةِ إنْ حَلَقَ هُنَا لَا يَصِحُّ تَسَلُّطُهُ عَلَى مَفْعُولِهِ أَيْ الَّذِي هُوَ الرَّأْسُ الْمُرَادُ بِهِ الْبَشَرَةُ إلَّا بِإِضْمَارٍ فَهَلْ قَالَ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ مَذْهَبِهِ مَا زَعَمَهُ بِقَوْلِهِ لِأَنَّ مَعْنَى الْحَلْقِ إلَى قَوْلِهِ بِاعْتِبَارِ التَّحْدِيدِ.

إمَّا يَدْفَعُ قَوْلَهُ لَمْ يَقَعْ فِي كَلَامِ الْفُصَحَاءِ أَنَّهُ وَقَعَ فِي الصِّحَاحِ الْمُبَيِّنِ لِلْحَقَائِقِ اللُّغَوِيَّةِ وَقَوْلُهُ وَلَوْ وَقَعَ لَكَانَ مَجَازًا يَرُدُّهُ أَنَّهُ وَقَعَ كَمَا تَقَرَّرَ وَأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْإِطْلَاقِ الْحَقِيقَةُ لَا يُقَالُ أَيْضًا وَقَعَ حَلْقُ رَأْسِهِ فَمَا الرَّاجِحُ لِأَنَّا نَقُولُ حَلَقَ شَعْرَهُ لَا نِزَاعَ فِي صِحَّتِهِ وَلَا فِي احْتِيَاجِهِ لِتَقْدِيرٍ بِخِلَافِ حَلْق رَأْسِهِ فَإِنَّ الْأَئِمَّةَ صَرَّحُوا بِأَنَّهُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ التَّقْدِيرِ وَقَوْلُهُ كَمَا قَالُوهُ فِي آيَةِ الْمَسْحِ إلَخْ قَدْ تَقَرَّرَ غَيْرَ مَرَّةٍ بُطْلَانُ قِيَاسِ مَا هُنَا عَلَى الْمَسْحِ لِأَنَّ تَعَلُّقَ الْمَسْحِ ثُمَّ بِالرَّأْسِ صَحِيحٌ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرٍ إجْمَاعًا سَوَاءٌ أُرِيدَ بِهِ الْبَشَرَةَ أَوْ الشَّعْرَ فَإِنَّهُ يُطْلَقُ عَلَيْهِمَا كَمَا صَرَّحُوا بِهِ خِلَافًا لِمَا زَعَمَهُ الْمُسْتَشْكِلُ وَهُنَا لَا يَصِحُّ تَعَلُّقُ الْحَلْقِ بِهِ وَالْمُرَادُ بِهِ الْبَشَرَةُ إلَّا بِتَقْدِيرٍ وَإِذَا كَانَ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ التَّقْدِيرِ فَذَلِكَ الْمُقَدَّرُ لَا يَقْتَضِي الْعُمُومَ.

فَإِنْ قُلْت بَلْ يَقْتَضِيه لِأَنَّهُ مُضَافٌ فَيَعُمُّ قُلْت مِنْ أَيْنَ لَك أَنَّا إذَا أَضْمَرْنَاهُ يَكُونُ مُضَافًا بَلْ يَصِحُّ تَقْدِيرُهُ نَكِرَةً مَقْطُوعَةً عَنْ الْإِضَافَةِ أَيْ شَعْرٌ مَنْ رُءُوسِكُمْ وَأَمَّا قَوْلُهُ عَلَى أَنَّ التَّقْدِيرَ هُنَا يُنَافِي مَا أَوْجَبُوهُ لِأَنَّ الشَّعْرَ اسْمُ جِنْسٍ إلَخْ فَفِيهِ تَلْبِيسٌ وَتَمْوِيهٌ وَغَفْلَةٌ شَدِيدَةٌ لِأَنَّ اسْمَ الْجِنْسِ إمَّا جَمْعِيٌّ أَوْ إفْرَادِيٌّ فَالْأَوَّلُ كَشَعْرٍ وَتَمُرُّ فِي حُكْمِ الْجَمْعِ وَالثَّانِي كَمَاءٍ وَعَسَلٍ فِي حُكْمٍ الْمُفْرَدِ وَحِينَئِذٍ فَانْظُرْ إلَى مَا فِي غُضُونِ كَلَامِهِ هَذَا مِنْ الْإِيهَامِ وَالتَّمْوِيهِ سِيَّمَا قَوْلُهُ وَأَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّهُ جَمْعٌ إلَخْ فَإِنَّا لَمْ نَقُلْ إنَّهُ جَمْعٌ عَلَى أَنَّ اللُّغَوِيِّينَ قَائِلُونَ بِأَنَّهُ جَمْعٌ وَإِنْ كَانَ الصَّحِيحُ مَا عَلَيْهِ النُّحَاةُ وَالصَّرْفِيُّونَ وَهُوَ مَا قُلْنَاهُ مِنْ أَنَّهُ اسْمُ جِنْسٍ أَيْ جَمْعِيٌّ وَاسْمُ الْجِنْسِ الْجَمْعِيُّ فِي حُكْمِ الْجَمْعِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْأَئِمَّةُ.

أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِمْ لَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ عَدَدَ التُّرَابِ فَإِنْ قُلْنَا إنَّهُ اسْمُ جِنْسٍ إفْرَادِيٍّ وَقَعَتْ طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ أَوْ اسْمُ جِنْسٍ جَمْعِيٍّ لِأَنَّهُ سُمِعَ تُرَابَةٌ وَقَعَ ثَلَاثٌ وَحِينَئِذٍ بَطَلَ قَوْلُهُ فَالْوَاجِبُ حِينَئِذٍ حَلْقُ شَعْرَة إلَخْ عَلَى أَنَّ لَنَا احْتِمَالًا بَعِيدًا بَلْ شَاذًّا لَا يُعَدُّ مِنْ الْمَذْهَبِ كَمَا قَالَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ إنَّهُ يُجْزِئُ حَلْقُ شَعْرَةٍ تَخْرِيجًا مِنْ لُزُومِ الْفِدْيَةِ بِحَلْقِهَا لَا لِمَا ذَكَرَهُ هَذَا الْقَائِلُ لِأَنَّ مَدَارِكَ الْمُجْتَهِدِينَ تَنْبُو عَنْهُ وَغَلِطَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ أَيْضًا وَغَيْرُهُ ابْنُ الْقَاصِّ وَغَيْرُهُ تَخْرِيجَ الْمَسْحِ فِي الْوُضُوءِ عَلَى الْحَلْقِ هُنَا فَأَوْجَبُوا مَسْحَ ثَلَاثِ شَعَرَاتٍ قِيَاسًا عَلَى لُزُومِ حَلْقِهَا.

وَرَدَّ أَصْحَابُنَا عَلَيْهِمْ بِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْمَطْلُوبَ فِي الْحَلْقِ الشَّعْرُ وَتَقْدِيرُ الْآيَةِ مُحَلِّقِينَ شَعْرَ رُءُوسِكُمْ وَالشَّعْرُ أَقَلُّهُ ثَلَاثُ شَعَرَاتٍ فِي الْحَلْقِ بِخِلَافِ الْمَسْحِ فَإِنَّهُ غَيْرُ مَنُوطٍ بِالشَّعْرِ وَيَقَعُ عَلَى الْقَلِيلِ وَمِنْ ثَمَّ اتَّفَقَ الْأَصْحَابُ عَلَى تَضْعِيفِ هَذَا التَّخْرِيجِ وَتَزْيِيفِهِ وَأَمَّا قَوْلُهُ هَذَا الْكَلَامُ لَا يَنْفَعُهُ إذْ الْخَصْمُ يَقُولُ إلَخْ فَجَوَابُهُ أَنَّ قَوْلَ الْخَصْمِ ذَلِكَ هُوَ الَّذِي لَا يَنْفَعُهُ لِأَنَّهُ وَإِنْ سَلَّمَ أَنَّهُ لَا يُقَالُ الْحَلْقُ الرُّبْعُ وَحَلَقَ ثَلَاثَ شَعَرَاتٍ ذَلِكَ فَلَا يَضُرُّ لِأَنَّ حَلْقَ الرَّأْسِ الْمُرَادَ بِهِ الْبَشَرَةُ غَيْرُ مُرَادٍ لِاسْتِحَالَتِهِ بِدُونِ الْمُضْمَرِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ وَيَلْزَمُ مِنْ ذِكْرِهِ بُطْلَانُ إرَادَةِ الْكُلِّ الَّذِي

ص: 106

زَعَمَهُ هَذَا الْخَصْمُ وَبُطْلَانُ قَوْلِهِ.

وَالْحَقُّ أَنَّ اسْتِعْمَالَ حَلْقِ الرَّأْسِ فِي حَلْقِ الرُّبْعِ إلَخْ إذْ لَا مَجَازَ فِي ذَلِكَ بَلْ إسْنَادُهُ إلَى الشَّعْرِ حَقِيقَةٌ وَكَذَا إلَى ثَلَاثِ شَعَرَاتٍ مِنْهُ أَوْ الْأَكْثَرِ وَإِنَّمَا الَّذِي يُسْأَلُ عَنْهُ فِي ذَلِكَ سَبَبُ التَّحْدِيدِ بِالثَّلَاثِ وَبِالرُّبْعِ.

فَأَمَّا الثَّلَاثُ فَقَدْ وَجَّهْنَاهُ فِيمَا مَرَّ لِأَنَّهَا أَقَلُّ الْجَمْعِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ فَهِيَ الْمُتَيَقَّنَةُ وَمَا عَدَاهَا مَشْكُوكٌ فِيهِ وَالْأَصْلُ عَدَمُ الْإِيجَابِ إلَّا بِدَلِيلٍ وَأَمَّا الرُّبْعُ فَلَمْ يُبْدِ الْمُسْتَشْكِلُ عَنْ الِاقْتِصَارِ عَلَيْهِ مَعْنَى يُعْتَدُّ بِهِ كَمَا يَأْتِي وَقَوْلُهُ أَلَا تَرَى إلَخْ مُجَرَّدُ دَعْوَى بِلَا مُسْتَنَدٍ إلَيْهِ بَلْ كَلَامُهُمْ صَرِيحٌ فِي بُطْلَانِهَا وَمَنْ ذَا الَّذِي صَرَّحَ بِالتَّلَازُمِ بَيْنَ كَوْنِ التَّابِعِ بَدَلَ بَعْضٍ وَكَوْنِهِ مَجَازًا الْمُصَرَّحُ بِهِ كَلَامُ الْمُسْتَشْكِلِ هَذَا مِمَّا لَا قَائِلَ بِهِ فَعَلَى مَنْ ادَّعَاهُ بَيَانُهُ وَلَا تَظْفَرُ بِهِ وَمِمَّا يُبْطِلُهُ تَمْثِيلُهُمْ لِبَدَلِ الْبَعْضِ بِأَكَلْتُ الرَّغِيفَ أَكَلْت ثُلُثَهُ فَهَلْ هَذَا الثَّانِي مَجَازٌ بَلْ هُوَ حَقِيقَةٌ وَمِنْ ثَمَّ لَوْ عُكِسَ لَرُبَّمَا اسْتَقَامَ كَلَامُهُ وَإِنْ لَمْ يَنْفَعْهُ هُنَا وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْأَصْلِيَّ فِي الْبَدَلِ هُوَ الثَّانِي وَتَأَمَّلْ مَا فِي قَوْلِنَا الْأَصْلِيِّ مِنْ الْجَوَابِ عَلَى الْإِيرَادِ الطَّوِيلِ الْمُقَرَّرِ فِي بَعْضِ كُتُبِ الْفَنِّ فَفِي الْمِثَالِ السَّابِقِ الْمَقْصُودُ بِالْحُكْمِ أَصَالَةُ الْإِسْنَادِ إلَى الثُّلُثِ فَهُوَ إلَى الرَّغِيفِ مَجَازًا بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْمُرَادَ بَعْضُهُ كَمَا بَيَّنَهُ ذِكْرُ الْبَدَلِ فَمَعَ هَذَا الَّذِي هُوَ أَظْهَرُ مِنْ أَنْ يَخْفَى عَلَى فَاضِلٍ كَيْفَ يُتَوَهَّمُ أَنَّ الثَّانِيَ وَالثَّالِثَ فِي بَدَلِ الْبَعْضِ مُجَازَانِ الْأَوَّلُ حَقِيقَةٌ.

ثُمَّ رَأَيْتُ الرَّضِيَّ صَرَّحَ بِذَلِكَ فَقَالَ وَالْفَائِدَةُ فِي بَدَلِ الْبَعْضِ وَالِاشْتِمَالِ الْبَيَانُ بَعْدَ الْإِجْمَالِ وَالتَّفْسِيرُ بَعْدَ الْإِبْهَامِ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّأْثِيرِ فِي النَّفْسِ وَذَلِكَ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ تَحَقَّقَ بِالثَّانِي بَعْدَ التَّجَوُّزِ وَالْمُسَامَحَةُ فِي الْأَوَّلِ تَقُولُ أَكَلْت الرَّغِيفَ ثُلُثَهُ فَتَقْصِدُ بِالرَّغِيفِ ثُلُثَ الرَّغِيفِ ثُمَّ تُبَيِّنُ ذَلِكَ بِقَوْلِك ثُلُثَهُ اهـ الْمَقْصُودُ مِنْهُ وَبِهِ يُعْلَمُ صِحَّةُ مَا قُلْنَاهُ دُونَ غَيْرِهِ وَأَمَّا قَوْلُهُ وَأَيْضًا صِحَّةُ قَوْلِهِ يُقَالُ حَلَقَ رَأْسَهُ وَرُبْعَهُ وَثَلَاثَ شَعَرَاتٍ مِنْهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ الْإِضْمَارِ إلَخْ فَغَيْرُ صَحِيحٍ أَيْضًا لِأَنَّهُ بَنَاهُ عَلَى عِلَّتِهِ الَّتِي ذَكَرَهَا بِقَوْلِهِ إذْ لَوْ كَانَ كَذَا لَكَانَ التَّقْدِيرُ إلَخْ. وَهَذَا التَّلَازُمُ مَمْنُوعٌ لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِنَا يُقَالُ حَلَقَ رَأْسَهُ وَرُبْعَهُ وَثَلَاثَ شَعَرَاتٍ مِنْهُ أَيْ أَنَّ هَذَا الْإِطْلَاقَ شَائِعٌ فِي الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثِ وَإِنْ كَانَ اثْنَانِ مِنْهَا يَحْتَاجَانِ إلَى إضْمَارٍ بِخِلَافِ الثَّالِثِ وَظَنَّ الْمُسْتَشْكِلُ أَنَّ الْإِضْمَارَ فِي الثَّالِثِ أَيْضًا فَأَفْسَدَهُ بِقَوْلِهِ وَشَعْرُ ثَلَاثِ شَعَرَاتٍ مِنْهُ وَمَا دَرَى أَنَّ الْإِضْمَارَ لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ إلَّا إذَا عَلِقَ بِالْبَشَرَةِ الَّتِي هِيَ الرَّأْسُ أَوْ بِبَعْضِ الْبَشَرَةِ.

وَأَمَّا إذَا عَلِقَ بِالشَّعْرِ فَلَا يُحْتَاجُ إلَى إضْمَارٍ كَمَا صَرَّحْنَا بِهِ فِيمَا سَبَقَ فَكَيْفَ مَعَ ذَلِكَ يَسُوغُ لِفَاضِلٍ أَنْ يَزْعُمَ أَنَّ صِحَّةَ قَوْلِنَا يُقَالُ حَلَقَ رَأْسَهُ وَرُبْعَهُ وَثَلَاثَ شَعَرَاتٍ مِنْهُ يَسْتَلْزِمُ أَنَّ التَّقْدِيرَ حَلَقَ شَعْرَ ثَلَاثِ شَعَرَاتٍ مِنْهُ هَذَا تَمْوِيهٌ عَظِيمٌ وَأَمَّا قَوْلُهُ عَقِبَ مَا حَكَيْنَاهُ عَنْ الْمَجْمُوعِ لَيْسَ مِمَّا يَنْبَغِي بَلْ الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ إلَخْ فَغَيْرُ صَحِيحٍ أَيْضًا وَإِنْ سَلَّمَ لَهُ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِ الْقَائِلِ لَا يُسَمَّى حَلْقًا أَيْ حَلْقَ الرَّأْسِ لِمَا أَطْبَقُوا عَلَيْهِ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ لَا يَدْفَعُ الْإِيرَادَ أَيْ لِخَفَاءِ الْأَوَّلِ وَظُهُورِ الثَّانِي عَلَى أَنَّا وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ هَذَا مُرَادُهُ فَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ أَيْضًا لِأَنَّ قَوْلَهُمْ لَا يُسَمَّى حَلْقًا بِدُونِ أَكْثَرِهِ مُنْدَفِعٌ لِأَنَّهُمْ أَرَادُوا نَفْيَ التَّسْمِيَةِ حَقِيقَةً فَهَذَا لَا يُسَمَّى حَلْقُ الرَّأْسِ بِدُونِ أَكْثَرِهِ وَلَا بِدُونِ أَقَلِّهِ فَقَوْلُهُمْ بِدُونِ أَكْثَرِهِ غَيْرُ صَحِيحٍ لِإِيهَامِهِ أَنَّهُ يَسُمَّاهُ بِدُونِ أَقَلِّهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ.

وَإِنْ أَرَادُوا نَفْيَ التَّسْمِيَةِ مَجَازًا فَبُطْلَانُهُ ظَاهِرٌ فَاتَّضَحَ أَنَّ هَذَا التَّأْوِيلَ لَا يَدْفَعُ كَلَامَ النَّوَوِيِّ وَأَنَّ هَذَا الْمُسْتَشْكِلَ لَوْ سُكِتَ عَنْهُ لَكَانَ أَوْلَى بِهِ وَأَمَّا قَوْلُهُ يَأْبَى عَنْهُ كُتُبُ الْمَالِكِيَّةِ إلَخْ فَجَوَابُهُ أَنَّ الْمُعَبَّرَ بِقَوْلِهِ أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّهُ لِلِاسْتِحْبَابِ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ وَهُوَ الثِّقَةُ الْعَدْلُ الْأَمِينُ فِيمَا يَنْقُلُهُ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ مَذْهَبِهِ وَغَيْرِهِمْ فَإِنْ صَحَّ مَا ذُكِرَ عَنْ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ نَفْسِهِمَا تَعَيَّنَ تَأْوِيلُ قَوْلِهِ أَجْمَعْنَا وَمَا بَعْدَهُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ إجْمَاعُ الْأَكْثَرِ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَإِجْمَاعُ الْأَكْثَرِ قَدْ يَكُونُ قَرِينَةً وَقَدْ يُحْتَجُّ بِهِ عَلَى الْخَصْمِ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَوَاضِعِ لِمَا قَالُوهُ مِنْ أَنَّ الْخَطَأَ إلَى الْقَلِيلِ أَقْرَبُ مِنْهُ إلَى الْكَثِيرِ وَأُوضِحَ مِنْ كُتُبِ الْمَالِكِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ أَنَّ الْقَوْلَ عِنْدَهُمْ بِوُجُوبِ التَّعْمِيمِ لَمْ يَسْتَنِدْ إلَى الِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهِ بِالْآيَةِ وَإِنَّمَا اسْتَنَدُوا فِي ذَلِكَ إلَى فِعْلِهِ صلى الله عليه وسلم -

ص: 107

الْمُؤَيَّدِ بِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «لِتَأْخُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» وَأَمَّا الْآيَةُ فَلَا دَلَالَةَ فِيهَا عَلَى وُجُوبِ التَّعْمِيمِ إلَّا إنْ نَظَرُوا لِمَا أَبْدَاهُ بَعْضُ أَئِمَّتِنَا مِنْ أَنَّهُ مُفْرَدٌ مُضَافٌ فَيَعُمُّ لَكِنْ مَرَّ الْجَوَابُ عَنْهُ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ عَدَمُ احْتِيَاجِ تَبْيِينِ الْقَرِينَةِ إلَخْ فَلَيْسَ فِي مَحَلِّهِ وَهِيَ عَدَمُ دَلَالَتِهَا عَلَى إرَادَةِ الْكُلِّ وَالرُّبْعِ وَظُهُورُهَا فِي إرَادَةِ ثَلَاثِ شَعَرَاتٍ لِمَا مَرَّ غَيْرَ مَرَّةٍ مِنْ أَنَّهُ اسْمُ جِنْسٍ جَمْعِيٌّ وَأَقَلُّهُ ثَلَاثٌ فَهِيَ الْمُتَيَقَّنَةُ وَمَا زَادَ عَلَيْهَا مَشْكُوكٌ فِيهِ فَلَمْ يُوجِبْهُ فَأَيُّ قَرِينَةٍ يُطْلَبُ بَيَانُهَا مَعَ ذِكْرِنَا هَذَا هُنَا مُخْتَصَرًا وَفِيمَا مَرَّ مَبْسُوطًا وَقَوْلُهُ مِمَّا لَا يَحْصُلُ لَهُ إلَخْ يُقَالُ عَلَيْهِ هُوَ كَذَلِكَ بِاعْتِبَارِ عَدَمِ فَهْمِك لَهُ وَإِحَاطَتِك بِهِ وَرُبَّمَا أُشِيرَ إلَيْهِ لِأَنَّ غَايَةَ مَا فِي الْآيَةِ أَنَّ قِسْمًا يَحْلِقُ وَقِسْمًا يُقَصِّرُ فَأَيُّ دَلِيلٍ فِي الْآيَةِ مِنْ حَيْثُ لَفْظِهَا مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ الْأُمُورِ الْخَارِجَةِ عَلَى أَنَّ مَنْ أَرَادَ الْحَلْقَ الْأَفْضَلَ يَجُوزُ لَهُ الِانْتِقَالُ عَنْهُ بَعْدَ إرَادَتِهِ لَهُ وَعَزْمِهِ عَلَيْهِ إلَى التَّقْصِيرِ.

وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى ذَلِكَ تَعَيَّنَ أَنَّ جَوَازَ التَّقْصِيرِ لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ الِاسْتِيعَابِ بِالْحَلْقِ لِمَنْ أَرَادَهُ لِأَنَّهُ يَحْتَاطُ فِي الْفَاضِلِ مَا لَا يَحْتَاطُ فِي الْمَفْضُولِ وَلِأَنَّ الْحَلْقَ يُشْبِهُ الْعَزِيمَةَ وَالتَّقْصِيرَ يُشْبِهُ الرُّخْصَةَ وَقِيَاسُ تِلْكَ عَلَى هَذِهِ مَمْنُوعٌ فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ تَجِدْ إيضَاحَ رَدِّ جَوَابِ الْبَعْضِ الَّذِي ذَكَرْته مُنْتَصِرًا لَهُ بِمَا لَا يَنْصُرُهُ وَقَوْلُهُ فَفِيهِ أَنَّ الْمَنْعَ لَا يَتَوَجَّهُ عَلَى النَّاقِلِ يُقَالُ عَلَيْهِ بَلْ إذَا أَسْنَدَ حُكْمًا إلَى كُتُبِ قَوْمٍ وَلَيْسَ فِيهَا قُضِيَ عَلَيْهِ بِالسَّهْوِ أَوْ التَّسَاهُلِ فِي النَّقْلِ وَمَذْهَبُنَا لَمْ يَجْرِ فِيهِ قَوْلٌ بِأَنَّ الْبَابَيْنِ عَلَى مِنْوَالٍ وَاحِدٍ وَقَوْلُهُ إذْ الْإِشْكَالُ بَاقٍ إلَخْ مَمْنُوعٌ لِأَنَّا وَإِنْ نَظَرْنَا إلَى الْآيَةِ لَا إشْكَالَ فِيهَا بِوَجْهٍ بَعْدَ مَا قَرَّرْنَاهُ بِدَلَائِلِهِ السَّابِقَةِ مِنْ أَنَّ فِيهَا إضْمَارًا وَأَنَّهُ اسْمُ جِنْسٍ جَمْعِيٌّ وَأَنَّ أَقَلَّهُ ثَلَاثٌ فَظَاهِرُهَا لَا يُنَافِي مَا ذَهَبْنَا إلَيْهِ وَإِنَّمَا يُنَافِي مَا ذَهَبْتُمْ إلَيْهِ مِنْ التَّقْدِيرِ بِالرُّبْعِ فَإِشْكَالُكُمْ لَا يَتَوَجَّهُ عَلَيْنَا بَلْ عَلَيْكُمْ لَكِنْ لَا مِنْ الْحَيْثِيَّةِ الَّتِي ذَكَرْتُمُوهَا بَلْ مِنْ الْحَيْثِيَّةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا وَهِيَ أَنَّ التَّقْدِيرَ بِالرُّبْعِ يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ لِأَنَّ الشَّعْرَ الْمُضْمَرَ يَشْمَلُ الثَّلَاثَ وَأَكْثَرَ فَقَصْرُهُ عَلَى الْأَكْثَرِ مِنْ الثَّلَاثِ وَقَصْرُ الْأَكْثَرِ مِنْهَا عَلَى الرُّبْعِ يَحْتَاجُ لِدَلِيلٍ.

وَالْقِيَاسُ عَلَى الْجِنَايَةِ فِي الْحَجِّ فِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ بِالرُّبْعِ فِي الْأَصْلِ مُنَازَعٌ فِيهِ أَيْضًا إذْ لَمْ يَذْكُرُوا دَلِيلَهُ فِيمَا عَلِمْت فَكَيْفَ يَتَأَتَّى الْقِيَاسُ عَلَى أَصْلٍ مُنَازَعٍ فِيهِ لَمْ يَتَّفِقْ عَلَيْهِ الْمُعْتَرِضُ وَالْمُسْتَدِلُّ وَلَا ظَهَرَ دَلِيلُهُ وَقَوْلُهُ إنَّ تَجْوِيزَ النَّقْلِ وَالِاشْتِرَاكِ فِي الْآيَةِ لَا مَعْنَى لَهُ بِمُجَرَّدِ الرَّأْيِ وَغَفْلَةٍ عَنْ كَلَامِ الْأَئِمَّةِ أَوْ عَنْ فَهْمِهِ عَلَى وَجْهِهِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ ذَكَرُوا مِنْ تَعَارُضِ التَّخْصِيصِ وَالِاشْتِرَاكِ قَوْله تَعَالَى {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 22] فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ أَيْ مَا وَطِئُوهُ لِأَنَّ النِّكَاحَ حَقِيقَةٌ فِي الْوَطْءِ فَيَحْرُمُ عَلَى الشَّخْصِ مَزْنِيَّةُ أَبِيهِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ أَيْ مَا عَقَدُوا عَلَيْهِ فَلَا يَحْرُمُ قَالُوا وَيَلْزَمُ الْأَوَّلَ الِاشْتِرَاكُ لِمَا ثَبَتَ مِنْ أَنَّ النِّكَاحَ حَقِيقَةٌ فِي الْعَقْدِ لِكَثْرَةِ اسْتِعْمَالِهِ فِيهِ حَتَّى إنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِي الْقُرْآنِ لِغَيْرِهِ كَمَا قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيَّ أَيْ فِي غَيْرِ مَحَلِّ النِّزَاعِ نَحْو حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ وَاشْتِرَاطُ الْوَطْءِ فِي هَذِهِ عُلِمَ مِنْ السُّنَّةِ وَيَلْزَمُ الثَّانِيَ التَّخْصِيصُ حَيْثُ قَالَ يَحِلُّ لِلرَّجُلِ مِنْ النِّسَاءِ مَنْ عَقَدَ عَلَيْهَا أَبُوهُ فَاسِدًا كَالصَّحِيحِ وَقِيلَ لَا فَانْظُرْ إلَى إلْزَامِ الْأَوَّلِ بِالِاشْتِرَاكِ مَعَ أَنَّهُ قَائِلُ أَنَّ النِّكَاحَ حَقِيقَةٌ فِي الْوَطْءِ مَجَازٌ فِي الْعَقْدِ لَكِنْ لِكَثْرَةِ اسْتِعْمَالِهِ فِي الْعَقْدِ صَارَ كَأَنَّهُ حَقِيقَةٌ حَتَّى عِنْدَ الْقَائِلِ بِأَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الْوَطْءِ فَأُلْزِمَ بِالِاشْتِرَاكِ لِذَلِكَ.

وَمِنْ تَعَارُضِ الْإِضْمَارِ وَالِاشْتِرَاكِ قَوْله تَعَالَى {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] أَيْ أَهْلَهَا وَقِيلَ الْقَرْيَةُ حَقِيقَةٌ فِي الْأَهْلِ كَالْأَبْنِيَةِ الْمُجْتَمِعَةِ لِهَذِهِ الْآيَةِ وَغَيْرِهَا وَمِنْ تَعَارُضِ الْمَجَازِ وَالنَّقْلِ قَوْله تَعَالَى {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [البقرة: 43] أَيْ الْعِبَادَةَ الْمَخْصُوصَةَ فَقِيلَ هِيَ مَجَازٌ فِيهَا عَنْ الدُّعَاءِ بِخَيْرٍ لِاشْتِمَالِهَا عَلَيْهِ وَقِيلَ نُقِلَ شَرْعًا إلَيْهَا فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ تَجِدْهُ مُؤَيِّدًا لِمَا ذَكَرْته مِنْ احْتِمَالِ الِاشْتِرَاكِ وَالنَّقْلِ إذْ لَا يُشْتَرَطُ فِي احْتِمَالِهِمَا تَحَقُّقُهُمَا كَمَا يُصَرِّحُ بِهِ قَوْلُ الْأُصُولِيِّينَ إذَا احْتَمَلَ لَفْظٌ هُوَ حَقِيقَةٌ فِي بَعْضٍ أَنْ يَكُونَ فِي آخَرَ حَقِيقَةً وَمَجَازًا أَوْ حَقِيقَةً وَمَنْقُولًا فَحَمْلُهُ عَلَى الْمَجَازِ أَوْ الْمَنْقُولِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ الْمُؤَدِّي إلَى الِاشْتِرَاكِ فَالْأَوَّلُ كَالنِّكَاحِ حَقِيقَةٌ فِي الْعَقْدِ مَجَازٌ فِي الْوَطْءِ وَقِيلَ الْعَكْسُ وَقِيلَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا فَهُوَ حَقِيقَةٌ

ص: 108

فِي أَحَدِهِمَا مُحَصِّلٌ لِلْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ فِي الْآخَرِ.

وَالثَّانِي كَالزَّكَاةِ حَقِيقَةٌ فِي النَّمَاءِ أَيْ الزِّيَادَةِ مُحْتَمَلٌ فِيمَا يَخْرُجُ مِنْ الْمَالِ لَأَنْ يَكُونَ حَقِيقَةً أَيْضًا أَيْ لُغَوِيَّةً وَمَنْقُولًا شَرْعًا فَكَذَلِكَ نَقُولُ الرَّأْسُ حَقِيقَةٌ فِي الْبَشَرَةِ مُحْتَمَلٌ فِي الشَّعْرِ لَأَنْ يَكُونَ حَقِيقَةً أَيْضًا أَيْ لُغَوِيَّةً أَوْ مَنْقُولًا شَرْعِيًّا فَتَأَمَّلْ هَذَا مَعَ مَا مَرَّ مِنْ الْقَوْلِ بِأَنَّ الْقَرْيَةَ حَقِيقَةٌ فِي الْأَبْنِيَةِ الْمُجْتَمِعَةِ يَظْهَرُ لَك مَا زَعَمَهُ هَذَا الْمُسْتَشْكِلُ سِيَّمَا قَوْلُهُ لِأَنَّ النَّقْلَ وَضْعٌ ثَانٍ وَالْقَوْلُ بِأَنَّ الرَّأْسُ مَوْضُوعٌ لِثَلَاثِ شَعَرَاتٍ مِنْهُ مِمَّا لَا قَائِلَ بِهِ لِأَنَّ هَذَا الَّذِي زَعَمَهُ مَبْنِيٌّ عَلَى مَا تَوَهَّمَهُ مِنْ أَنَّ ادِّعَاءَ النَّقْلِ أَوْ الِاشْتِرَاكِ يَسْتَلْزِمُ تَحَقُّقَ وَضْعِهِمْ لِذَلِكَ الْمُحْتَمَلِ فِي الْمَعْنَى الثَّانِي حَقِيقَةً أَوْ مَنْقُولًا وَلَيْسَ ذَلِكَ مُرَادًا كَمَا عَلِمْته وَقَوْلُهُ هَذَا حَالُ أُصُولِ مُقَدِّمَاتِهِ وَفُرُوعِهَا عَلَى هَذَا الْقِيَاسِ يُقَالُ عَلَيْهِ قَدْ بَانَ أَنَّ كُلَّ مُقَدِّمَةٍ مِنْهَا وَأَنَّ الِاعْتِرَاضَ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا مَبْنِيٌّ إمَّا عَلَى عَدَمِ الْإِحَاطَةِ بِكَلَامِ الْأَئِمَّةِ أَوْ عَلَى الْوَهْمِ فِي فَهْمِهِ وَإِمَّا عَلَى مُجَرَّدِ الدَّعْوَى كَمَا بَانَ ذَلِكَ وَاتَّضَحَ.

وَقَوْلُهُ فَالْحَقُّ وَالْإِنْصَافُ إلَخْ مَبْنِيٌّ عَلَى مَا زَعَمَهُ وَقَدْ بَانَ وَاتَّضَحَ بُطْلَانُ الْإِشْكَالِ وَالْجَوَابِ مَعًا فِيمَا سَبَقَ وَفِي هَذَا الثَّانِي أَيْضًا وَأَمَّا قَوْلُهُ وَجْهُ إرَادَةِ الْحَنَفِيَّةِ الرُّبْعُ إلَخْ فَيُقَالُ عَلَيْهِ لَمْ يَأْتِ فِيهِ بِطَائِلٍ يَنْفَعُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ وَالْمَسْحُ عَلَى النَّاصِيَةِ لَا يَشْهَدُ لَهُ سَوَاءٌ أَجُعِلَتْ عَلَى مُؤَكِّدَةً لِلِاسْتِيعَابِ أَوْ زَائِدَةً لِأَنَّ النَّاصِيَةَ لُغَةً وَشَرْعًا مَا بَيْنَ النَّزْعَتَيْنِ وَهُوَ دُونَ نِصْفِ الرُّبْعِ بِكَثِيرٍ كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ فَكَيْفَ يَتَأَتَّى الِاحْتِيَاطُ الَّذِي ذَكَرَهُ وَقَوْلُهُ وَفِعْلُ الْمَسْحِ إذَا عَلِقَ بِالْمَحَلِّ يَقْتَضِي الِاسْتِيعَابَ إلَخْ يُقَالُ عَلَيْهِ لَا مُنَازَعَةَ فِي ذَلِكَ إنَّمَا الْمُنَازَعَةُ فِي أَنَّ اسْتِيعَابَ النَّاصِيَةِ يَقْتَضِي التَّحْدِيدَ بِالرُّبْعِ وَهِيَ دُونَ نِصْفِهِ بِكَثِيرٍ.

وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِكَلَامِ الْحُكَمَاءِ فَغَيْرُ نَافِعٍ لَهُ بَلْ هُوَ اخْتِرَاعُ طَرِيقَةٍ لَمْ تُؤْلَفْ قَبْلَهُ وَالْحَامِلُ عَلَيْهِ حُبُّ التَّكَثُّرِ وَالتَّشَيُّعِ وَقَدْ قَالَ صلى الله عليه وسلم «الْمُتَشَيِّعُ بِمَا لَمْ يُعْطَ كَلَابِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ» وَعَجِيبٌ ظَنُّهُ أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِكَلَامِ الْحُكَمَاءِ يَنْفَعُ فِي هَذَا الْمَوْطِنِ وَغَفْلَتُهُ عَنْ أَنَّهُمْ لَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِمْ سِيَّمَا فِي الْمَوْضُوعَاتِ اللُّغَوِيَّةِ وَالْحَقَائِقَ الشَّرْعِيَّةِ وَلَوْ تُرِكَ ذِكْرُ مَا قَالُوهُ لَكَانَ أَوْلَى بِهَذَا وَمَعَ ذَلِكَ كُلِّهِ فَلِلَّهِ تَعَالَى أَتَمُّ الْحَمْدِ وَأَكْمَلُهُ عَلَى أَنْ أَبْقَى فِي هَذِهِ الْأَزْمِنَةِ الْمُؤْذِنَةِ حَوَادِثُهَا بِتَغَيُّرِ الْعَالَمِ كَمَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ أَنْدِيَةٍ لِلْفَضْلِ لَمْ تَزَلْ بِالْعُلَمَاءِ عَامِرَةٌ وَرِيَاضُ التَّحْقِيقِ يَانِعَةٌ أَشْجَارُهَا مُثْمِرَةٌ أَجِلَّاءٌ يَتَحَادَثُونَ أَزِمَّةَ الْأَدِلَّةِ وَيَتَجَاوَزُونَ فِي الْبَحْثِ الْأَقْيِسَةِ وَمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنْ السَّبَبِ وَالْعِلَّةِ مَعَ إبْدَاءِ كُلِّ مَا عِنْدَهُ مِنْ غَيْرِ كَدَرٍ بَيْنَهُمْ وَإِنْ سَلَّ كُلٌّ مِنْهُمْ حَدَّهُ لِمَا أَنَّهَا سُيُوفٌ لَا تُسَلّ إلَّا فِي الْجِهَادِ الْأَكْبَرِ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا بِحَسَبِ مَا رَأَى كُلٌّ مِنْهُمْ وَاسْتَظْهَرَ وَهِيَ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ مُؤْتَلِفَةٌ جَحَدَ ذَلِكَ مَنْ جَحَدَهُ وَعَرَفَهُ مَنْ عَرَفَهُ أَسْأَلُ اللَّهَ الْكَرِيمَ الْجَوَادَ أَنْ يَمْنَحَنَا رِضَاهُ فِي دَارَيْ الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

(سُئِلَ) عَمَّنْ مَاتَ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ الْحَجِّ عَلَيْهِ فَحَجَّ عَنْهُ آخَرُ مُتَطَوِّعًا وَلَمْ يَنْوِ بِحَجِّهِ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ بَلْ نَوَى بِهِ التَّنَفُّلَ عَنْ الْمَيِّتِ ظَنًّا مِنْهُ جَوَازَ ذَلِكَ فَهَلْ يَقَعُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ عَلَى الْمَيِّتِ؟

(فَأَجَابَ) يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ بِوُقُوعِ الْحَجِّ لِلْمُبَاشِرِ دُونَ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالُ بِوُقُوعِهِ لِلْمَحْجُوجِ عَنْهُ أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ نِيَّةَ النَّفْلِ عَنْهُ مَعَ كَوْنِهِ لَمْ يُوصِهِ بِهِ بَاطِلَةٌ وَإِنْ كَانَ جَاهِلًا وَيَلْزَمُ مِنْ بُطْلَانِ نِيَّتِهِ عَنْ الْغَيْرِ وُقُوعُ الْحَجِّ لِنَفْسِهِ فَإِنْ قُلْت الْقِيَاسُ وُقُوعُهُ عَنْ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ كَمَا أَنَّ مَنْ نَوَى عَنْ نَفْسِهِ النَّفَلَ وَعَلَيْهِ فَرْضٌ تَبْطُلُ نِيَّتُهُ وَيَقَعُ حَجُّهُ عَنْ الْفَرْضِ قُلْت هَذَا وَإِنْ كَانَ مُحْتَمَلًا وَلَهُ وَجْهٌ إلَّا أَنَّ الْفَرْقَ مُمْكِنٌ بَلْ ظَاهِرٌ فَإِنَّ بُطْلَانَ النِّيَّةِ حَيْثُ وُجِدَ وَالْإِنْسَانُ حَاجٌّ عَنْ نَفْسِهِ لَا يُمْكِنُ صَرْفُ الْحَجِّ حِينَئِذٍ لِغَيْرِهِ فَإِنَّ الْفَرْضَ أَنَّهُ لَمْ يَنْوِ ذَلِكَ الْغَيْرَ وَكَانَ الْقِيَاسُ مَعَ بُطْلَانِ النِّيَّةِ أَنْ لَا يَقَعَ الْحَجُّ عَنْ أَحَدٍ كَمَا فِي سَائِرِ الْعِبَادَاتِ لَكِنْ لَمَّا كَانَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْحَجِّ فَرْقٌ وَاضِحٌ هُوَ مَا فِيهِ مِنْ شِدَّةِ التَّعَلُّقِ وَاللُّزُومِ جَعَلُوهُ وَاقِعًا عَمَّا فِي الذِّمَّةِ مُسَارَعَةً لِبَرَاءَتِهَا فَلَمْ يَكُنْ فَسَادُ النِّيَّةِ مُوجِبًا لِإِلْغَائِهِ بِالْكُلِّيَّةِ وَإِنَّمَا كَانَ مُلْغِيًا لِخُصُوصِ النَّفْلِ فَحَسْبُ.

وَيَلْزَمُ مِنْ إلْغَاءِ ذَلِكَ وَحْدَهُ الْوُقُوعُ عَمَّا اسْتَقَرَّ فِي الذِّمَّةِ كَمَا تَقَرَّرَ وَأَمَّا الْحَجُّ عَنْ الْغَيْرِ فَهُوَ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ فَإِذَا فَسَدَتْ

ص: 109

النِّيَّةُ فِيهِ لَزِمَ وُقُوعُهُ لِلْأَصْلِ وَهُوَ الْوُقُوعُ عَنْ الْمُبَاشِرِ دُونَ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ لِأَنَّ النِّيَّةَ الْمُتَعَرِّضَةَ لَهُ قَدْ فَسَدَتْ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَقَعَ لَهُ شَيْءٌ بِدُونِ نِيَّةٍ وَشَاهِدُ ذَلِكَ أَنَّ الْأَجِيرَ لِلْحَجِّ مَثَلًا لَوْ نَوَاهُ لِلْمُسْتَأْجِرِ مَعَ الْعُمْرَةِ لِنَفْسِهِ انْصَرَفَا جَمِيعًا لِلْأَجِيرِ وَلَمْ يَقَعْ لِلْمُسْتَأْجِرِ مِنْهُمَا شَيْءٌ لِأَنَّهُ لَمَّا ضَمَّ الْحَجَّ لِلْعُمْرَةِ صَارَ نَاوِيًا مَا لَا يَصِحُّ وُقُوعُهُ لَهُ وَحَيْثُ نَوَى مَا لَا يَصِحُّ وُقُوعُهُ لَهُ انْقَلَبَ لِلْأَجِيرِ.

وَمِثْلُ ذَلِكَ مَا لَوْ نَوَى أَجِيرٌ الْحَجَّ قِرَانًا فَقَطْ لِلْمُسْتَأْجِرِ الَّذِي لَا عُمْرَةَ عَلَيْهِ أَوْ لَهُ وَلِنَفْسِهِ أَوْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ لِمُسْتَأْجِرِهِ وَلِنَفْسِهِ فَيَقَعُ لِنَفْسِهِ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَلَا يَقَعُ لِلْمُسْتَأْجِرِ شَيْءٌ لِأَنَّ مَا لَمْ يَأْذَنْ فِيهِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَقَعَ لَهُ وَالنُّسُكَانِ لَا يَفْتَرِقَانِ فَلَزِمَ الْوُقُوعُ لِلْأَجِيرِ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ كَمَا تَقَرَّرَ فَإِنْ قُلْت يُنَافِي مَا ذَكَرْته فِي صُورَةِ السُّؤَالِ قَوْلُهُمْ لَوْ اسْتَأْجَرَ مَعْضُوبٌ لِنَذْرِهِ وَعَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ فَنَوَى الْأَجِيرُ النَّذْرَ وَقَعَ لِفَرْضِ الْإِسْلَامِ قُلْت أَجِيرُ الْمَعْضُوبِ نَائِبٌ عَنْهُ فَنَزَلَ مَنْزِلَتَهُ وَأَمَّا الْمُبَاشِرُ فِي صُورَةِ السُّؤْلِ فَلَيْسَ نَائِبًا عَنْ الْمَيِّتِ وَإِنَّمَا هُوَ مُتَطَوِّعٌ عَنْهُ وَقَدْ نَوَى مَا لَا يَصِحُّ وُقُوعُهُ لَهُ هُنَا بِوَجْهٍ فَإِنْ حَجَّ النَّفَلَ عَنْ الْمَيِّتِ الَّذِي عَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ لَا يَصِحُّ مُطْلَقًا وَكَذَا لَا يَصِحُّ عَمَّنْ لَيْسَ عَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ إلَّا إنْ أَوْصَى بِهِ فَلَمَّا تَعَذَّرَ وُقُوعُ الْمَنْوِيِّ هُنَا عَنْ الْمَيِّتِ لَزِمَ وُقُوعُهُ لِلْمُتَطَوِّعِ وَلَمَّا لَمْ يَتَعَذَّرْ وُقُوعُ النَّذْرِ عَنْ الْمَعْضُوبِ مَعَ كَوْنِ الْحَاجِّ نَائِبُهُ وَقَعَ عَمَّا عَلَى الْمَعْضُوبِ وَهُوَ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ وَأَيْضًا فَالنَّذْرُ مِنْ جِنْسِ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ فَلَمْ تَكُنْ نِيَّتُهُ مَانِعَةً لِوُقُوعِ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ عَنْ الْمُسْتَأْجِرِ لِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَأْجَرَهُ لِلنَّذْرِ كَأَنَّهُ اسْتَأْجَرَهُ لِلْوَاجِبِ الَّذِي عَلَيْهِ الصَّادِقِ بِحَجَّةِ الْإِسْلَامِ وَالنُّذُورُ وَحَجَّةُ الْإِسْلَامِ مُقَدَّمَةٌ فَلَغَتْ نِيَّةَ النَّذْرِ وَوَقَعَ مَا أَتَى بِهِ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ.

وَأَمَّا حَجَّةُ الْإِسْلَامِ وَحَجَّةُ التَّطَوُّعِ فَمُتَبَايِنَتَانِ فَإِذَا نَوَى النَّفَلَ بَطَلَ وَلَمْ يَصْلُحْ أَنْ يُخَلِّفَ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ لِتَعَذُّرِ وُقُوعِهِ لِلْمَيِّتِ فَوَقَعَ لِلْمُبَاشَرِ وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ الْحَجَّ شَدِيدُ التَّشَبُّثِ وَاللُّزُومِ وَمِنْ ثَمَّ لَمْ يَفْسُدْ بِفَسَادِ نِيَّتِهِ مَعَ تَطَلُّعِ الشَّارِعِ إلَى إسْقَاطِ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ عَنْ الْغَيْرِ مَا أَمْكَنَ فَمِنْ ثَمَّ لَا يَلْزَمُ مِنْ بُطْلَانِ خُصُوصِ نِيَّةِ النَّفْلِيَّةِ بُطْلَانَ عُمُومِ النِّيَّةِ عَنْ الْغَيْرِ فَلَزِمَ مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ الْوُقُوعُ عَنْ الْغَيْرِ لِمَا تَقَرَّرَ أَنَّ الشَّارِعَ مُتَشَوِّفٌ إلَى ذَلِكَ وَمِنْ ثَمَّ أَبَاحَ التَّبَرُّعَ بِهِ مَعَ انْتِفَاءِ الْإِذْنِ وَالْقَرَابَةِ إلْحَاقًا لَهُ بِالدُّيُونِ وَأَنْتَ خَبِيرٌ فِي أَنَّ الْخَطَأَ فِي طَرِيقِ أَدَاءِ الدُّيُونِ لَا يَمْنَعُ إبْرَاءَهَا لِذِمَّةِ الْمُؤَدَّى عَنْهُ فَكَذَلِكَ الْخَطَأُ هُنَا.

وَلَعَلَّ هَذَا أَقْرَبُ وَعَلَيْهِ فَيُفَرَّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا مَرَّ فِيمَنْ اُسْتُؤْجِرَ لِحَجٍّ فَقَرَنَ وَنَحْوِهِ بِأَنَّ الْمُلْغَى هُنَا نِيَّةُ النُّسُكِ فَقَطْ دُونَ ذَاتِهِ وَهُنَاكَ جُزْؤُهُ لِأَنَّا إذَا أَوْقَعْنَاهُ عَنْ الْغَيْرِ يَلْزَمنَا إمَّا إبْطَالُ الْإِحْرَامِ بِالْعُمْرَةِ الَّتِي ضَمَّهَا إلَى الْحَجِّ مِنْ أَصْلِهَا وَهَذَا مُتَعَذَّرٌ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ بِالنُّسُكِ فِي الْوَقْتِ الْقَابِلِ لَهُ لَا يَقْبَلُ الْإِلْغَاءَ وَأَمَّا وُقُوعُهَا لِلْمَحْجُوجِ عَنْهُ تَبَرُّعًا مِنْ غَيْرِ وَصِيَّةٍ وَهُوَ مُتَعَذِّرٌ أَيْضًا فَلَزِمَ وُقُوعُهُمَا لِلْمُبَاشِرِ وَأُلْغِيَ الْإِحْرَامُ بِالْحَجِّ عَنْ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ حِينَئِذٍ لِمَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ مِمَّا قَرَّرَتْهُ وَأَمَّا هُنَا فَلَا يَلْزَمُ عَلَى إلْغَاءِ خُصُوصِ النَّفْلِيَّةِ وَصِحَّةُ عُمُومِ الْحَجِّ عَنْ الْغَيْرِ إلَّا إبْطَالُ صِفَةٍ لِلنُّسُكِ دُونَ أَصْلِهِ وَهَذَا لَا مَحْذُورَ فِيهِ وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

(وَسُئِلَ) عَمَّنْ وَكَّلَ فَقِيهًا بِإِجَارَةِ النُّسُكَيْنِ وَلَمْ يَكُنْ بَاشَرَهُمَا هَلْ يَكْفِي عِلْمُهُ لَهُمَا بِالْمُطَالَعَةِ وَالْقِرَاءَةِ وَكَيْفَ الْحِيلَةُ فِي عَقْدِ الْإِجَارَةِ مِنْ الْوَكِيلِ مَعَ عَدَمِ كَوْنِهِ طَرِيقًا لِلْمُطَالَبَةِ بِالْأُجْرَةِ وَإِذَا قُرِئَ عَلَى الْمُوَكَّلِ أَعْمَالُ النُّسُكَيْنِ أَعْنِي الْوَاجِبَاتِ وَشَيْئًا مِنْ السُّنَنِ لِيَعْقِدَ لِنَفْسِهِ فَعَقَدَ مَا الْحُكْمُ وَهَلْ يَجِبُ عَلَى الْقَاضِي الْبَحْثُ عَمَّنْ مَاتَ وَهُوَ مُسْتَطِيعٌ وَلَمْ يَحُجَّ عَنْهُ وَإِلْزَامُ وَرَثَتِهِ بِالْإِحْجَاجِ عَنْهُ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ أَوْ كَانَ وَهُوَ غَائِبٌ هَلْ الْقَاضِي يَتَوَلَّى ذَلِكَ وَهَلْ يَلْزَمُهُ مُرَاعَاةُ تَقْلِيلِ الْأُجْرَةِ مَا أَمْكَنَ وَإِذَا بَادَرَ أَحَدُ الْوَرَثَةِ فَأَجَّرَ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ أَوْ كَانَ حَائِزًا وَلَمْ يُرَاجِعْ الْقَاضِي مَا حُكْمُهُ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ الشَّرْطُ عِلْمُ الْمُبَاشِرِ لِعَقْدِ الْإِجَارَةِ بِأَعْمَالِهَا فَيَكْفِي عِلْمُ الْوَكِيلِ بِذَلِكَ وَإِنْ جَهِلَهُ الْمُوَكَّلُ وَطَرِيقُ خَلَاصِ الْوَكِيلِ مِنْ الْمُطَالَبَةِ بِالْأُجْرَةِ أَنْ يَعْقِدَ بِأُجْرَةٍ مُعَيَّنَةٍ فِي يَدِ مُوَكِّلِهِ فَإِنَّهَا حِينَئِذٍ إذَا بَانَتْ مُسْتَحِقَّةٌ لَا يَكُونُ الْوَكِيلُ طَرِيقًا فِي ضَمَانِهَا وَإِذَا بَيَّنَ لِلْمُوَكَّلِ أَعْمَالَ النُّسُكِ وَاجِبَاتِهِ وَمَسْنُونَاتِهِ وَتَصَوَّرَهَا ثُمَّ عَقَدَ وَهُوَ مُتَصَوِّرٌ لَهَا جَازَ وَلَا يَجِبُ عَلَى الْقَاضِي بَحْثٌ عَمَّا ذُكِرَ وَلَا إلْزَامٌ بِهِ فَفِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا لَوْ امْتَنَعَ

ص: 110

الْمَعْضُوبُ مِنْ الِاسْتِئْجَارِ أَوْ الْإِذْنِ لِلْمُطِيعِ لَمْ يَقُمْ الْقَاضِي مَقَامَهُ فِي الْإِذْنِ وَلَا يَلْزَمُهُ بِذَلِكَ وَإِنْ كَانَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ بِسَفَهٍ وَإِنْ وَجَبَ الِاسْتِئْجَارُ وَالِاسْتِنَابَةُ فَوْرًا وَهُوَ فِي حَقِّ مَنْ عُضِبَ مُطْلَقًا فِي الِاسْتِنَابَةِ وَبَعْدَ يَسَارِهِ فِي الِاسْتِئْجَارِ خِلَافًا لِلْأَذْرَعِيِّ.

وَذَلِكَ لِأَنَّ مَبْنَى الْحَجِّ عَلَى التَّرَاخِي وَلِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِلْغَيْرِ فِيهِ بِخِلَافِ الزَّكَاةِ وَأَمَّا مَا وَقَعَ فِي الْمَجْمُوعِ مِنْ أَنَّ الْحَاكِمَ يَلْزَمُهُ بِالْإِنَابَةِ فَنَظَرَ فِيهِ بَلْ قَالَ الْإِسْنَوِيُّ إنَّهُ لَا يَسْتَقِيمُ وَلَمْ أَرَ مَنْ قَالَ بِهِ وَالْمُدْرَكُ فِي الِاسْتِنَابَةِ وَالِاسْتِئْجَارُ وَاحِدٌ اهـ نَعَمْ قَدْ يُجَابُ عَنْ الْمَجْمُوعِ بِأَنَّ مَعْنَى لُزُومِهِ بِهَا أَنَّهُ يَأْمُرُهُ بِهَا مِنْ بَابِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ لَا مِنْ بَابِ إلْزَامِهِ بِذَلِكَ وَالْحُكْمِ عَلَيْهِ بِهِ حَتَّى يُبَاعَ فِيهِ مَالُهُ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُ الْبَيَانِ فَإِنْ اسْتَأْذَنَ الْمُطِيعُ الْمُطَاعَ فَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ فَإِنَّ الْحَاكِمَ يَأْمُرُهُ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ وَانْدَفَعَ أَيْضًا بِمَا قَرَّرْته قَوْلُ بَعْضِهِمْ لَا يَظْهَرُ فَرْقِ بَيْنَ إلْزَامِهِ وَأَمْرِهِ وَوَجْهُ انْدِفَاعِهِ أَنَّ إلْزَامَهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى مَا فِيهِ حَقٌّ لِلْغَيْرِ وَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ الْحَجَّ لَا حَقَّ فِيهِ لِلْغَيْرِ فَلَمْ يَتَأَتَّ إلْزَامُهُ بِهِ بِخِلَافِ الزَّكَاةِ فَإِنَّ فِيهَا حَقْلٌ لِلْغَيْرِ فَتَأَتَّى إلْزَامُهُ بِهَا.

وَأَمَّا أَمْرُهُ فَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى ذَلِكَ لِمَا تَقَرَّرَ أَنَّهُ مِنْ بَابِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالْأَمْرُ بِهِ مِنْ الْحَاكِمِ أَوْ غَيْرِهِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى مَا فِيهِ حَقٌّ لِلْغَيْرِ فَكَانَ الْحَجُّ قَابِلًا لِأَمْرِهِ لَا لِإِلْزَامِهِ فَافْهَمْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ مُهِمٌّ وَلِلْقَاضِي أَنْ يَتَوَلَّى الْإِحْجَاجَ عَنْ مَيِّتٍ بِلَا وَارِثٍ بَلْ عَلَيْهِ ذَلِكَ إنْ خَلَّفَ تَرِكَةً كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ وَعَنْ مَيِّتٍ عَنْ وَارِثٍ غَائِبٍ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ فَأَقَلَّ وَلِلْوَارِثِ الْإِحْجَاجُ عَنْهُ مِنْ التَّرِكَةِ بِغَيْرِ إذْنِ الْقَاضِي.

(وَسُئِلَ) فَسَحَ اللَّهُ فِي مُدَّتِهِ عَمَّا لَوْ وَجَبَ عَلَى رَجُلٍ الْحَجُّ فَهَلَكَ قَبْلَ أَنْ يَحُجَّ ثُمَّ أَنَّ وَارِثَهُ اسْتَأْجَرَ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ وَكَانَتْ الْإِجَارَةُ فَاسِدَةٌ فَهَلْ يَسْتَحِقُّ الْأَجِيرُ أُجْرَةَ الْمِثْلِ أَوْ الْمُسَمَّى فَإِنْ قُلْتُمْ أُجْرَةُ الْمِثْلِ فَهَلْ تَكُونُ مِنْ تَرِكَةِ الْهَالِكِ أَوْ تَلْزَمُ الْمُسْتَأْجِرَ لِمَا أَنَّهُ اسْتَأْجَرَهُ إجَارَةً فَاسِدَةً؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ لَمْ أَرَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ نَقْلًا وَإِنَّمَا رَأَيْت لِلْقَمُولِيِّ وَالْأَذْرَعِيِّ كَلَامًا يُؤَيِّدُ مَا سَأَذْكُرُهُ وَكَذَلِكَ كَلَامُهُمْ فِي وَكِيلِ الْمَرْأَةِ فِي الْخُلْعِ إذَا خَالَفَ يُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَيْضًا وَالْجَامِعِ بَيْنَ الْبَابَيْنِ أَنَّ لِكُلٍّ مِنْ الْمُسْتَأْجَرِ هُنَا وَالْوَكِيلِ ثَمَّ إيقَاعُ الْعَقْدِ لِنَفْسِهِ وَلِغَيْرِهِ لِجَوَازِ اسْتِبْدَادِ الْأَجْنَبِيِّ بِالْخُلْعِ وَالْحَجِّ بِنَفْسِهِ وَبِغَيْرِهِ عَنْ الْغَيْرِ.

وَحَاصِلُ مَا يُتَّجَهُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْأَجِيرَ إنْ ظَنَّ فَسَادَ الْإِجَارَةِ وَأَنَّهُ حِينَئِذٍ لَا أُجْرَةَ لَهُ لَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ مُتَبَرِّعٌ عَنْ الْمَيِّتِ إذْ لَمْ يَدْخُلْ طَامِعًا فِي شَيْءٍ وَإِنْ جَهِلَ ذَلِكَ فَإِنْ ظَنَّ الْوَارِثُ الْفَسَادَ لَزِمَتْهُ أُجْرَةُ الْمِثْلِ لِأَنَّهُ مَعَ ظَنِّ الْفَسَادِ يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ مُسْتَأْجَرًا مِنْ التَّرِكَةِ فَتَجِبُ الْأُجْرَةُ فِي مَالِهِ لَا مِنْ التَّرِكَةِ حَتَّى لَوْ كَانَ عَلَى الْمَيِّتِ دُيُونٌ أَخَذَتْ التَّرِكَةُ جَمِيعَهَا فِيهَا وَإِنْ جُهِلَ الْفَسَادُ وَجَبَتْ أُجْرَةُ الْمِثْلِ مِنْ التَّرِكَةِ مَا لَمْ يَسْتَأْجِرْ مِنْ مَالِهِ أَوْ يُطْلِقْ بِأَنْ لَا يَتَعَرَّضَ لِمَالِهِ وَلَا لِلتَّرِكَةِ لِعُذْرِهِ حِينَئِذٍ فَلَا يُنَاسِبُهُ التَّغْرِيمُ بِخِلَافِ مَا إذَا اسْتَأْجَرَ مِنْ مَالِهِ وَهُوَ ظَاهِرُ أَوْ أَطْلَقَ لِأَنَّ فَسَادَ الْعَقْدِ يَقْتَضِي إضَافَةَ آثَارِهِ إلَى مُبَاشِرِهِ إلَّا لِمَانِعٍ هَذَا مَا يَظْهَرُ وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَهُوَ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

(وَسُئِلَ) أَعَادَ اللَّهُ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِهِ عَنْ شَخْصٍ أَوْصَى أَنْ يُحَجَّ عَنْهُ بِمِائَةٍ مَثَلًا وَجَعَلَ النَّظَرَ فِي ذَلِكَ لِشَخْصٍ مُعَيَّنٍ فَجَاعَلَ الْوَصِيُّ شَخْصًا مُعَيَّنًا أَوْ أَذِنَ لَهُ فِي أَنْ يَحُجَّ عَنْ ذَلِكَ الْمَيِّتِ بِذَلِكَ الْقَدْرِ ثُمَّ أَذِنَ لِآخَرَ أَوْ جَاعِله كَذَلِكَ فَهَلْ يَنْزِلُ الْإِذْنُ لِلثَّانِي أَوْ الْمُجَاعَلَةُ لَهُ مَنْزِلَةَ الرُّجُوعِ عَنْ الْإِذْنِ لِلْأَوَّلِ عَلِمَ الْأَوَّلُ أَوْ جَهِلَ فَلَوْ جَهِلَ وَعَمِلَ فَهَلْ يَسْتَحِقُّ الْمُسَمَّى كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ وَاسْتَحْسَنَهُ الْبُلْقِينِيُّ أَوْ لَا يَسْتَحِقُّ فِي صُورَةِ الْجَهْلِ شَيْئًا كَمَا اقْتَضَاهُ كَلَامُ الشَّيْخَيْنِ وَعَلَيْهِ جَرَى فِي الْعُبَابِ كَالرَّوْضِ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ إذَا جَاعَلَ الْوَصِيُّ آخَرَ لِيَحُجَّ عَنْ الْمُوصِي بِمَا عَيَّنَهُ جَعَالَةً صَحِيحَةً فَعِنْدِي تَرَدُّدٌ فِي أَنَّهُ هَلْ يَجُوزُ لَهُ فَسْخُ تِلْكَ الْجَعَالَةِ لِإِطْلَاقِهِمْ جَوَازَهَا مِنْ الْجَانِبَيْنِ أَوْ لَا يَجُوزُ أَخْذًا مِنْ قَوْلِ ابْنِ الصَّلَاحِ وَأَقَرُّوهُ لَوْ اسْتَأْجَرَ الْوَرَثَةُ مَنْ يَحُجُّ عَنْ مُورِثِهِمْ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ الْوَاجِبَةِ وَلَمْ يَكُنْ أَوْصَى بِهَا ثُمَّ تَقَايَلُوا مَعَ الْأَجِيرِ لَمْ تَصِحَّ الْإِقَالَةُ لِوُقُوعِ الْعَقْدِ لِمُوَرِّثِهِمْ اهـ أَيْ فَالْحَقُّ فِيهِ عِنْدَ الْإِقَالَةِ لِمُورِثِهِمْ لَا لَهُمْ وَقَوْلُهُ وَلَمْ يَكُنْ أَوْصَى بِهَا لَيْسَ بِقَيْدٍ بَلْ لِيُفْهَمَ خِلَافُهُ بِالْأَوْلَى فَتَأَمَّلْهُ وَلَعَلَّ عَدَمَ الْجَوَازِ فِي مَسْأَلَتِنَا أَقْرَبُ أَخْذًا مِنْ كَلَامِ ابْنِ الصَّلَاحِ.

هَذَا فَإِنْ رَضَا الْمُتَعَاقِدَيْنِ فِي الْإِجَارَةِ بِالْإِقَالَةِ

ص: 111

يَصِيرُهَا جَائِزَةً كَالْجَعَالَةِ فَإِذَا امْتَنَعَتْ الْإِقَالَةُ فِي مَسْأَلَةِ ابْن الصَّلَاحِ لِمَا تَقَرَّرَ مِنْ أَنَّ الْعَقْدَ لِلْمُورِثِ لَا لِلْوَرَثَةِ وَإِنْ كَانَ الْوَارِثُ خَلِيفَةَ الْمُورِثِ فَكَذَا يَنْبَغِي مَنْعُ الْفَسْخِ فِي مَسْأَلَتِنَا لِأَنَّ الْعَقْدَ لِلْمُوصِي لَا لِلْوَصِيِّ وَأَيْضًا فَالْوَصِيُّ بِمُجَاعَلَةِ غَيْرِهِ جَعَالَةً صَحِيحَةً قَدْ فَعَلَ مَا فُوِّضَ لَهُ فَلَيْسَ لَهُ نَقْضُهُ بِلَا مُوجِبٍ هَذَا هُوَ الَّذِي يَتَّجِهُ لِي الْآنَ فَعَلَيْهِ إذْنُهُ أَوْ مُجَاعَلَتُهُ لِلثَّانِي فَاسِدٌ فَلَا شَيْءَ لَهُ وَيَقَعُ حَجُّهُ عَنْ نَفْسِهِ وَأَمَّا عَلَى الْأَوَّلِ فَقَوْلُهُ لِلثَّانِي مَا ذُكِرَ غَيْرُ فَسْخٍ لِلْأَوَّلِ أَخْذًا مِنْ قَوْلِهِمْ لَوْ قَالَ لِوَاحِدِ رُدَّ عَبْدِي وَلَك كَذَا ثُمَّ قَالَ ذَلِكَ لِثَانٍ ثُمَّ لِثَالِثٍ فَرَدُّوهُ وَقَصَدَ كُلٌّ نَفْسَهُ فَلِكُلٍّ مِنْهُمْ ثُلُثُ مَا شُرِطَ لَهُ سَوَاءٌ اتَّفَقَ مَا سَمَّاهُ لِكُلٍّ أَمْ لَا.

فَهَذَا صَرِيحٌ فِي بَقَاءِ الْأَوَّلِ عَلَى صِحَّتِهِ مَعَ قَوْلِهِ بَعْدَهُ لِلثَّانِي ذَلِكَ وَفِي صِحَّةِ الثَّانِي أَيْضًا مَعَ قَوْلِهِ بَعْدَهُ لِلثَّالِثِ ذَلِكَ فَيَكُونُ صَرِيحًا فِي مَسْأَلَتِنَا أَنَّ قَوْلَهُ لِلثَّانِي جَاعَلْتُكَ أَوْ حُجَّ عَنْ فُلَانٍ بِكَذَا غَيْرُ فَسْخٍ لِلْأَوَّلِ وَيَلْزَمُ مَعَ بَقَاءِ الْأَوَّلِ عَلَى صِحَّتِهِ بُطْلَانُ الثَّانِي لِأَنَّ الْوَصِيَّ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ إلَّا فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ وَأَيْضًا فَتَوْزِيعُ الْعَمَلِ هُنَا غَيْرُ مُمْكِنٍ بِخِلَافِهِ فِي الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي كَلَامِهِمْ فِي الْجَعَالَةِ إذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ عُلِمَ أَنَّ الْمُسْتَحِقَّ لِلْجُعْلِ هُوَ الْأَوَّلُ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ وَأَنَّ الثَّانِي لَا شَيْءَ لَهُ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ وَإِذَا تَنَزَّلْنَا وَفَرَضْنَا أَنَّ الْوَصِيَّ صَرَّحَ بِفَسْخِ الْأَوَّلِ وَقُلْنَا بِجَوَازِ الْفَسْخِ لَهُ وَنُفُوذِهِ فَاَلَّذِي يَتَّجِهُ تَرْجِيحُهُ أَنَّ لِلْعَامِلِ الْأَوَّلِ إذَا جَهِلَ عَلَيْهِ الْمُسَمَّى مِنْ مَالِهِ لِأَنَّهُ غَرَّهُ بِتَوْرِيطِهِ لَهُ فِي الْعَمَلِ مَعَ عَدَمِ إعْلَامِهِ لَهُ بِالْفَسْخِ وَلَا نَظَرَ إلَى أَنَّ الْحَجَّ يَقَعُ لِلْعَامِلِ فَالثَّوَابُ لَهُ لِأَنَّ تَقْصِيرَ الْوَصِيِّ أَلْغَى النَّظَرَ إلَى ذَلِكَ كَمَا فِي نَظَائِرَ لِذَلِكَ مِنْ كَلَامِهِمْ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ أَحَاطَ بِأَطْرَافِهِ وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

(وَسُئِلَ) رضي الله عنه عَمَّنْ نَوَى بِطَوَافِهِ النَّفَلَ مُلَازَمَةَ غَرِيمٍ لَهُ هَلْ لَهُ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ فِي طَوَافِ الْفَرْضِ هَلْ لَهُ ذَلِكَ أَمْ لَا؟

(فَأَجَابَ) بِأَنَّهُ إذَا صَرَفَ طَوَافَهُ النَّفَلَ أَوْ الْفَرْضَ إلَى مُلَازَمَةِ غَرِيمٍ أَوْ نَحْوِهِ بَطَلَ لِأَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِيهِ فَقْدُ الصَّارِفِ نَعَمْ إنْ كَانَ ذَاكِرًا لِنِيَّةِ الطَّوَافِ وَلَمْ يَقْصِدْ صَرْفَهُ بَلْ شَرَّكَ مَعَ النِّيَّةِ غَيْرَهَا لَمْ يُؤَثِّرْ كَمَا قَالَهُ الزَّرْكَشِيُّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

(وَسُئِلَ) نَفَعَ اللَّهُ بِهِ هَلْ يُتَصَوَّرُ انْعِقَادُ الْحَجِّ فَاسِدًا فِي غَيْرِ الْجِمَاعِ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ نَعَمْ فِيمَا إذَا أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ ثُمَّ أَفْسَدَهَا ثُمَّ أَدْخَلَ الْحَجَّ عَلَيْهَا فَإِنَّهُ يَنْعَقِدُ فَاسِدًا عَلَى الْمَذْهَبِ.

(وَسُئِلَ) نَفَعَ اللَّهُ بِهِ بِمَا صُورَتُهُ قَالَ الْبَغَوِيّ وَغَيْرُهُ لَوْ اعْتَمَرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ قَرَنَ لَزِمَهُ دَمَانِ وَخَالَفَهُ السُّبْكِيّ فَمَا الْمُعْتَمَدُ وَعَلَى الْأَوَّلِ فَقِيَاسُهُ أَنَّهُ لَوْ كَرَّرَ الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ تَكَرَّرَ الدَّمُ فَمَا الْمُعْتَمَدُ فِي ذَلِكَ مَعَ بَسْطِ مَا فِيهِ.

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ الْمُعْتَمَدُ مَا قَالَهُ الْبَغَوِيّ وَأَمَّا مَا قَالَهُ السُّبْكِيّ فَمَبْنِيٌّ عَلَى وَجْهٍ ضَعِيفٍ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ كَلَامُهُ وَبَيَّنْته فِي حَاشِيَتِي عَلَى إيضَاحِ النَّوَوِيِّ وَبَيَّنْت فِيهَا أَيْضًا أَنَّ الْمُعْتَمَدَ عَدَمُ تَكَرُّرِ الدَّمِ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ مَعَ الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ بِمَا حَاصِلُهُ مَعَ إيضَاحِ أَنَّ الْعِلَّةَ فِي وُجُوبِ الدَّمِ عَلَى الْقَارِنِ كَوْنُهُ رَبِحَ مِيقَاتًا إذْ لَوْ أَحْرَمَ بِكُلِّ نُسُكٍ عَلَى حِدَتِهِ لَاحْتَاجَ إلَى الْإِحْرَامِ مِنْ مِيقَاتِهِ وَهُوَ مِيقَاتُ بَلَدِهِ وَالْخُرُوجِ إلَى أَدْنَى الْحِلِّ أَوْ الْعِلَّةِ تَرَفُّهُهُ بِكَوْنِ الْعَمَلَيْنِ صَارَا عَمَلًا وَاحِدًا وَالْعِلَّةُ فِي وُجُوبِ الدَّمِ عَلَى الْمُتَمَتِّعِ كَوْنُهُ رَبِحَ مِيقَاتًا أَيْضًا أَوْ تَرَفَّهَ بِمَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ فِيمَا بَيْنَ النُّسُكَيْنِ وَكُلٌّ مِنْ الْعِلَّتَيْنِ مَوْجُودٌ فِي مَسْأَلَةِ الْبَغَوِيِّ وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ صَارَ مُتَمَتِّعًا الْآنَ فَلَزِمَهُ الدَّمُ لِوُجُودِ شَرْطِهِ.

وَحِينَ أَحْرَمَ بِالنُّسُكَيْنِ مَعًا لَزِمَهُ دَمٌ آخَرُ لِأَنَّهُ رَبِحَ مِيقَاتَ الْعُمْرَةِ الَّتِي قَرَنَهَا بِالْحَجِّ وَتَرَفَّهَ بِانْدِرَاجِ عَمَلِهَا فِي عَمَلِ الْحَجِّ فَوَجَبَ الدَّمَانِ وَلَمْ يَدْخُلُ أَحَدُهُمَا فِي الْآخَر لِاخْتِلَافِ الْمُوجِبِ كَمَا عَرَفْته مِمَّا تَقَرَّرَ وَأَمَّا فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ فَإِنَّهُ لَمَّا أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ لَزِمَهُ الدَّمُ أَيْ دَخَلَ سَبَبُ لُزُومِهِ إذْ لَا يُتِمُّ لُزُومُهُ بِالْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ وَعِلَّةُ لُزُومِهِ مَا مَرَّ مِنْ كَوْنِهِ رَبِحَ مِيقَاتَ الْحَجِّ أَوْ تَرَفَّهَ بِالْمُحَرَّمَاتِ فِيمَا بَيْنَ الْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ وَعُمْرَتِهِ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ وَهَكَذَا لَمْ تَكُنْ سَبَبًا فِي رِبْحِ مِيقَاتِ الْحَجِّ وَلَا فِي تَرَفُّهِهِ فَأَيُّ مُوجِبٍ لِلدَّمِ فِيهَا وَمَا أَظُنُّ مَنْ قَالَ بِوُجُوبِهِ بِالتَّكَرُّرِ إلَّا وَهِمَ كَمَا تَبَيَّنَ لَك مِمَّا قَرَّرْته.

(وَسُئِلَ) فَسَحَ اللَّهُ فِي مُدَّتِهِ عَنْ الْجَاعِلِ وَالْمَجْعُولِ لَهُ إذَا اخْتَلَفَا فِي الْحَجِّ فَمَنْ الْمُصَدَّقُ مِنْهُمَا

ص: 112

فَإِنْ قُلْتُمْ الْجَاعِلَ فَبِمَ فَارَقَ الْمُسْتَأْجِرَ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ يُصَدَّقُ الْجَاعِلِ بِيَمِينِهِ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ أَنَّ الْمَجْعُولَ لَهُ لَمْ يَحُجَّ كَمَا حَكَاهُ الْأَذْرَعِيُّ وَالْغَزِّيُّ عَنْ الدَّبِيلِيِّ وَأَقَرَّاهُ وَفَارَقَ الْمُسْتَأْجَرَ بِأَنَّهُ يَرُومُ بِدَعْوَاهُ إسْقَاطَ أُجْرَةٍ الْتَزَمَهَا بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ وَالْأَصْلُ عَدَمُ السُّقُوطِ وَالْجَاعِلُ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ بِمُجَرَّدِ الْجَعَالَةِ وَإِنَّمَا الْمَجْعُولُ لَهُ يُحَاوِلُ بِدَعْوَاهُ إلْزَامَ ذَلِكَ وَالْأَصْلُ عَدَمُ لُزُومِهِ وَبِأَنَّ الْأَجِيرَ قَدْ الْتَزَمَ الْحَجَّ بِالْعَقْدِ وَهُوَ مُضْطَرٌّ إلَى التَّخَلُّصِ مِمَّا الْتَزَمَهُ وَلَا طَرِيقَ لَهُ إلَّا قَبُولُ قَوْلِهِ إذْ لَا مَطْلَعَ لِلشُّهُودِ عَلَى النِّيَّةِ وَالْمَجْعُولُ لَهُ لَمْ يَلْتَزِمْ شَيْئًا وَإِنَّمَا يَرُومُ إثْبَاتَ عَمَلٍ يَتَوَصَّلُ بِهِ إلَى اسْتِحْقَاقِ الْجُعْلِ وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ وَعَدَمُ الِاسْتِحْقَاقِ فَكَلَّفَ الْبَيِّنَةَ بِمَا يَدَّعِيه قَالَ الْأَذْرَعِيُّ وَالْغَزِّيُّ وَلَعَلَّ مُرَادَ الدَّبِيلِيِّ بِالْبَيِّنَةِ هُنَا أَنَّهُ رُئِيَ فِي مَوَاطِنِ النُّسُكِ فِي السَّنَةِ الْمُعَيَّنَةِ لَا أَنَّهُ حَجَّ عَنْهُ فَقَدْ قُدِّمَ أَنَّ تَصْحِيحَ الْحَجِّ بِالْبَيِّنَةِ لَا يُمْكِنُ قَالَ الْأَذْرَعِيُّ وَهَذَا فِقْهٌ غَرِيبٌ أَيْ فَالْوَجْهُ أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ بَيِّنَةُ الْمَجْعُولِ لَهُ أَيْضًا.

(وَسُئِلَ) رضي الله عنه عَمَّنْ اُسْتُؤْجِرَ لِحَجَّةٍ إجَارَةَ عَيْنٍ أَوْ ذِمَّةٍ فَهَلْ لَهُ السَّفَرُ فِي الْبَحْرِ بِغَيْرِ إذْنِ أَبَوَيْهِ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ قَضِيَّةُ قَوْلِهِمْ أَمَّا سَفْرُ التِّجَارَةِ وَغَيْرِهَا فَإِنْ كَانَ فِيهِ خَطَرٌ كَرُكُوبِ الْبَحْرِ أَيْ وَإِنْ غَلَبَتْ السَّلَامَةُ فَلَا بُدَّ مِنْ إذْنِهِمَا لَهُ عَدَمُ جَوَازِ سَفَرِهِ بِلَا إذْنٍ فِي إجَارَةِ الْعَيْنِ إذْ لَا مَحِيصَ عَنْهُ دُونَ إجَارَةِ الذِّمَّةِ إنْ أَيَسَرَ وَأَمْكَنَهُ اسْتِئْجَارُ غَيْرِهِ عَنْهُ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ لِأَنَّ لَهُ حِينَئِذٍ مَنْدُوحَةٌ عَنْ السَّفَرِ.

(وَسُئِلَ) فَسَحَ اللَّهُ فِي مُدَّتِهِ هَلْ يَجِبُ إتْمَامُ الطَّوَافِ الْوَاجِبِ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ قَالَ جَمْعٌ مُتَقَدِّمُونَ يَجِبُ وَغَلَّطَهُمْ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ وَبَحَثَ الْبَارِزِيُّ حَمْلَ الْأَوَّلِ عَلَى طَوَافِ النُّسُكِ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ وَاَلَّذِي يُتَّجَهُ عِنْدِي عَدَمُ حُرْمَةِ الْقَطْعِ مُطْلَقًا أَلَا تَرَى أَنَّ الْفَاتِحَةَ وَاجِبَةٌ فِي الصَّلَاةِ وَلِمَنْ شَرَعَ فِيهَا أَنْ يَقْطَعَهَا وَيَأْتِي بِهَا مِنْ أَوَّلِهَا وَالْحَاصِلُ أَنَّ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ اسْتِقْرَاءُ كَلَامِهِمْ أَنَّ مَحَلَّ حُرْمَةِ قَطْعِ الْفَرْضِ إذَا كَانَ الْمَاضِي مِنْهُ يَبْطُلُ بِالْقَطْعِ كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ أَمَّا إذَا كَانَ مَا مَضَى مِنْهُ لَا يَبْطُلُ بِالْقَطْعِ فَلَا يَحْرُمُ كَالْقِرَاءَةِ وَالطَّوَافِ وَيَدُلُّ لِذَلِكَ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ عَدَمِ حُرْمَةِ الْإِعْرَاضِ عَلَى مَنْ أَنِسَ مِنْ نَفْسِهِ التَّبَحُّرَ فِي الْعُلُومِ وَعَلَّلُوهُ بِأَنَّ كُلَّ مَسْأَلَةٍ مُنْفَصِلَةٌ عَمَّا قَبْلَهَا لِأَنَّ تَعْلِيلَهُمْ عَدَمَ الْحُرْمَةِ بِالِانْفِصَالِ مُتَأَتٍّ فِي نَحْوِ الْقِرَاءَةِ وَالطَّوَافِ إذْ كُلُّ جُزْءٍ مِنْهُمَا مُنْفَصِلٌ عَمَّا قَبْلَهُ.

(وَسُئِلَ) رضي الله عنه هَلْ يُكْرَهُ شِرَاءُ الْجَوَارِي لِلْمُحْرِمِ وَلَوْ بِقَصْدِ التَّسَرِّي؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ لَا كَرَاهَةَ فِي ذَلِكَ لِأَنَّ الْوَطْءَ فِي مِلْكِ الْيَمِينِ عَرَضِيٌّ لَا ذَاتِيٌّ بِخِلَافِهِ فِي النِّكَاحِ وَلِأَنَّ الْوَطْءَ لَا يَدْخُلُ وَقْتُهُ بِمُجَرَّدِ الشِّرَاءِ إذْ لَا بُدَّ مِنْ الِاسْتِبْرَاءِ بِخِلَافِهِ فِي النِّكَاحِ فَلِذَلِكَ لَمْ يَضُرَّ قَصْدُهُ.

(وَسُئِلَ) فَسَحَ اللَّهُ فِي مُدَّتِهِ بِمَا صَوَّرْته هَلْ إذَا اسْتَطَاعَ إنْسَانٌ الْحَجَّ وَمَاتَ وَلَمْ يَحُجَّ وَخَلَّفَ تَرِكَةً وَقُلْتُمْ يُحَجُّ عَنْهُ مِنْ تَرِكَتِهِ فَقَالَتْ الْوَرَثَةُ لَمْ يَجِبْ الْحَجُّ عَلَيْهِ لِزِيَادَةِ الْمَرَاحِلِ فَهَلْ يُقْبَلُ قَوْلُهُمْ فِي ذَلِكَ وَيَسْقُطُ عَنْهُ الْحَجُّ وَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ لَمْ يَعْرِفْ الْمَسْأَلَةَ وَإِذَا عَلِمَ إنْسَانٌ أَنَّ الْوَرَثَةَ لَمْ يَهْتَدُوا لِلْحَجِّ عَنْهُ لِعَدَمِ فِعْلِ ذَلِكَ بِبَلَدِهِمْ وَعَدَمِ إقَامَةِ الْحُكْمِ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ وَتَحَكُّمِ الْعَادَةِ فَهَلْ لَهُ أَنْ يُعْلِمَهُمْ بِعَدَمِ الْوُجُوبِ لِيَخِفَّ عَنْهُمْ الْإِثْمُ وَإِذَا كَانَ الْمَيِّتُ لَمْ يَعْرِفْ الْمَسْأَلَةَ وَأَخَّرَ الْحَجَّ لِغَيْرِ ذَلِكَ فَهَلْ يَكُونُ عَاصِيًا وَهَلْ تَجْرِي الْمَسْأَلَةُ فِي الْمَعْضُوبِ كَذَلِكَ أَوْ لَا؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ إذَا اسْتَطَاعَ إنْسَانٌ الْحَجَّ وَمَاتَ وَلَمْ يَحُجَّ وَجَبَ الْإِحْجَاجُ عَنْهُ مِنْ تَرِكَتِهِ وَزِيَادَةُ السَّفَرِ عَلَى السَّيْرِ الْمُعْتَادِ إنَّمَا تَمْنَعُ الْوُجُوبَ وَالْعِصْيَانَ بِالْمَوْتِ لَا الِاسْتِقْرَارِ فِي الذِّمَّةِ وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَنْ يَمُوتَ قَادِرًا أَوْ يُعْضَبَ قَبْلَ مَوْتِهِ لَكِنْ مَتَى تَمَكَّنَ الْمَعْضُوبُ مِنْ الِاسْتِنَابَةِ فَأَخَّرَهَا مَاتَ عَاصِيًا فَاسِقًا وَبِهَذَا التَّقْرِيرِ تَعْلَمُ الْجَوَابَ عَنْ جَمِيعِ مَا ذَكَرَهُ السَّائِلُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ

(وَسُئِلَ) رضي الله عنه وَنَفَعَ بِعُلُومِهِ بِمَا صُورَتُهُ الطَّوَافُ تَحِيَّةً لِلْبَيْتِ أَوْ لِلْمَسْجِدِ وَإِذَا طَافَ ثُمَّ دَخَلَ الْبَيْتَ يُسَنُّ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ التَّحِيَّةَ لِأَنَّهُ لِرُؤْيَةِ الْبَيْتِ لَا لِدُخُولِهِ أَوْ لَا؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ الَّذِي صَرَّحَ بِهِ الْأَصْحَابُ كَالْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ وَالْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ وَالْمَحَامِلِيُّ وَأَبِي حَامِدٍ أَنَّهُ تَحِيَّةٌ لِلْبَيْتِ قَالَ أَبُو الطَّيِّبِ وَالرُّويَانِيُّ وَإِنَّمَا

ص: 113

نَأْمُرُهُ بَعْدَ الطَّوَافِ بِصَلَاةِ التَّحِيَّةِ لِأَجْلِ الْمَسْجِدِ لِدُخُولِهَا فِي سُنَّةِ الطَّوَافِ كَمَا لَوْ صَلَّى مَكْتُوبَةً وَلِأَنَّ الْقَصْدَ أَنْ لَا يَدْخُلَ الْمَسْجِدَ لَاهِيًا فَإِذَا طَافَ زَالَ هَذَا الْمَعْنَى فَإِنْ قِيلَ هَلَّا أَسْقَطْتُمْ سُنَّةَ الطَّوَافِ إذَا بَدَأَ بِالْفَرْضِ فِيهِ مَعَ جَمَاعَةٍ كَمَا تَسْقُطُ التَّحِيَّةُ بِذَلِكَ قُلْت لِأَنَّ الصَّلَاةَ وَالطَّوَافَ جِنْسَانِ فَلَمْ يَتَدَاخَلَا وَرَكْعَتَا التَّحِيَّةِ وَالْمَكْتُوبَةِ جِنْسٌ فَتَدَاخَلَا قَالَ الزَّرْكَشِيُّ وَعَلَى مَا مَرَّ فَيَنْبَغِي أَنْ يَنْوِيَ بِرَكْعَتَيْ الطَّوَافِ مَعَهُ التَّحِيَّةِ أَيْ لِيَحْصُلَ لَهُ ثَوَابُهَا قَالَ وَمُقْتَضَى كَلَامِهِمْ فِيمَا مَرَّ أَنَّهُ لَوْ جَلَسَ بَعْدَ الطَّوَافِ مِنْ غَيْرِ صَلَاةِ فَاتَتْ التَّحِيَّةُ وَفِيهِ نَظَرٌ اهـ.

وَلَا وَجْهَ لِلنَّظَرِ حَيْثُ سَلِمَ مَا ذَكَرُوهُ مِمَّا مَرَّ قَالَ وَلَوْ طَافَ وَصَلَّى ثُمَّ دَخَلَ الْكَعْبَةَ فَهَلْ نَقُولُ حَصَلَتْ تَحِيَّتُهَا بِالطَّوَافِ لِتَعْلِيلِهِمْ السَّابِقِ أَمْ لَا بَلْ ذَاكَ تَحِيَّةُ رُؤْيَتِهَا فَلَا بُدَّ مِنْ تَحِيَّةٍ لِدُخُولِهَا فِيهِ نَظَرٌ وَرَجَّحَ فِي قَوَاعِدِهِ الْأَوَّلَ وَعَلَّلَهُ بِأَنَّ الْمَسَاجِدَ الْمُتَّصِلَةَ لَهَا حُكْمُ الْوَاحِدِ وَقَدْ صَلَّى عَنْ الْأَوَّلِ فَلَا يُصَلِّي لِلثَّانِي قَالَ وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ تَحِيَّةٌ لِلرُّؤْيَةِ عَجِيبٌ وَإِنَّمَا هُوَ تَحِيَّةُ الْبَيْتِ.

(وَسُئِلَ) رضي الله عنه عَنْ الْأَجِيرِ فِي الْحَجِّ هَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ السَّعْيُ مِنْ بَلَدِ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ وَهَلْ قَالَ أَحَدٌ أَنَّ الْمَكِّيَّ أَوْ الْآفَاقِيَّ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ أَجِيرًا فِي الْحَجِّ عَنْ مَيِّتٍ غَائِبٍ عَنْ بَلَدِ الْأَجِيرِ وَهَلْ لِلْآفَاقِيِّ أَنْ يُوَكِّلَ مَنْ يَقْبَلُ لَهُ عَقْدَ الْإِجَارَةِ الْعَيْنِيَّةِ فِي الْحَجِّ وَهُوَ غَائِبٌ أَوْ لَا؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ الْأَجِيرُ إمَّا أَنْ يَكُونَ عِنْدَ الْإِجَارَةِ بِبَلَدِ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ فَقَطْعُ الْمَسَافَةَ حِينَئِذٍ إلَى الْمِيقَاتِ ضَرُورِيٌّ وَإِنْ كَانَ كَمَا فِي النِّهَايَةِ غَيْرَ مَقْصُودٍ فِي نَفْسِهِ وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ الْحَجُّ وَهُوَ مِنْ ضَرُورِيَّاتِهِ فَهُوَ مِنْ عَمَلِ الْأَجِيرِ فَلَوْ أَسَاءَ الْأَجِيرُ فَأَحْرَمَ مِنْ مَكَّةَ لَزِمَهُ الْحَطُّ مِنْ الْأُجْرَةِ وَهُوَ بِنَاءً عَلَى الْأَصَحِّ مِنْ أَنَّ الْأُجْرَةَ مُوَزَّعَةٌ عَلَى السَّيْرِ وَأَعْمَالِ الْحَجِّ التَّفَاوُتُ بَيْنَ حَجَّةِ مِنْ بَلَدِ الْإِجَارَةِ إحْرَامُهَا مِنْ الْمِيقَاتِ وَحَجَّةٍ مِنْهَا إحْرَامُهَا مِنْ مَكَّةَ فَإِذَا كَانَتْ أُجْرَةُ الْأُولَى مِائَةٌ وَالثَّانِيَةِ ثَمَانِينَ حُطَّ خُمْسُ الْمُسَمَّى وَنَظَرَ الزَّرْكَشِيُّ فِيمَا إذَا صَرَفَ الْأَجِيرُ السَّيْرَ إلَى مَقْصِدٍ لَهُ ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ مِنْ الْمِيقَاتِ هَلْ يَحُطُّ مِنْ الْأُجْرَةِ مَا يُقَابِلُ السَّيْرَ تَفْرِيعًا عَلَى أَنَّ الْأُجْرَةَ مُوَزَّعَةٌ عَلَى السَّيْرِ وَالْعَمَلِ أَمْ لَا وَلَمْ يُرَجِّحْ شَيْئًا وَلَكِنَّ مُقْتَضَى كَلَامِهِمْ تَرْجِيحُ الْأَوَّلِ خِلَافًا لِمَنْ رَجَّحَ الثَّانِي.

وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ قَالُوا لَوْ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ مِنْ الْمِيقَاتِ عَنْ نَفْسِهِ وَبِالْحَجِّ مِنْ مَكَّةَ بَعْدَ تَحَلُّلِهِ عَنْ مُسْتَأْجِرِهِ حُسِبَ لَهُ فِي التَّوْزِيعِ قَطْعُ الْمَسَافَةِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ قَصَدَ الْحَجُّ مِنْ الْمِيقَاتِ ثُمَّ عَرَضَ لَهُ الْعُمْرَةُ اهـ فَظَاهِرُ عِلَّتِهِمْ أَنَّهُ لَوْ مَحْضُ قَصْدِهِ لِعُمْرَتِهِ لَمْ تُحْسَبْ لَهُ الْمَسَافَةُ إلَى الْمِيقَاتِ وَقِيَاسُهُ فِي مَسْأَلَتِنَا مَا ذَكَرْنَاهُ وَكَوْنُ السَّيْرِ إلَى مَا قَبْلَ الْمِيقَاتِ تَابِعًا لَا يَقْتَضِي عَدَمَ النَّظَرِ إلَيْهِ بَلْ هُوَ مَنْظُورٌ إلَيْهِ وَمِنْ ثَمَّ أَدْخَلُوهُ فِي التَّوْزِيعِ فَاشْتُرِطَ أَنْ لَا يَصْرِفَهُ الْأَجِيرُ إلَى غَرَضِ غَيْرِ غَرَضِ الْمُسْتَأْجِرِ فَاتُّجِهَ تَرْجِيحُ مَا ذَكَرْنَاهُ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِالْمِيقَاتِ أَوْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ بَلَدِ الْمُسْتَأْجِرِ فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ قَطْعُ الْمَسَافَةِ مِنْ مَحِلِّهِ فَقَطْ وَلَمْ نَعْلَمْ قَائِلًا بِمَا ذَكَرَهُ السَّائِلُ.

وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي تَعَيُّنِ مِيقَاتِ بَلَدِ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ وَحَاصِلُ مَا فِي التَّتِمَّةِ أَنَّهُ إذَا سَلَكَ غَيْرَ طَرِيقِ بَلَدِ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ فَإِنْ كَانَ مِيقَاتُ طَرِيقِهِ أَبْعَدَ فَقَدْ زَادَ خَيْرًا أَوْ أَقْرَبَ إلَى مَكَّةَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِأَنَّ الشَّرْعَ سَوِيٌّ بَيَّنَ الْمَوَاقِيتَ قِيلَ وَفِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ مَا يُوَافِقُهُ لَكِنَّ الَّذِي يَقْتَضِيه كَلَامُ الشَّيْخَيْنِ فِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا خِلَافُهُ وَهُوَ الْأَوْجَهُ فَعَلَيْهِ لَوْ اُسْتُؤْجِرَ مَكِّيٌّ عَنْ آفَاقِيٍّ وَلَمْ يُعَيِّنْ لَهُ الْمُسْتَأْجِرُ مِيقَاتًا فَأَحْرَمَ مِنْ مَكَّةَ أَسَاءَ وَلَزِمَهُ دَمٌ وَتَوْكِيلُ الْآفَاقِيِّ الْمَذْكُورِ صَحِيحٌ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ إنْ تَمَكَّنَ الْمُوَكَّلُ مِنْهُ فِيمَا بَقِيَ مِنْهَا وَقَبْلَهَا إنْ وَقَعَ الْعَقْدُ وَقْتَ اعْتِيَادِ النَّاسِ السَّفَرَ وَأَمْكَنَ سَيْرُ الْمُوَكَّلِ مَعَهُمْ بِأَنْ تَيَسَّرَ إعْلَامُهُ قَبْلَ سَفَرِهِمْ أَوْ عَيَّنَ هُوَ ذَلِكَ الْوَقْتَ لِيَعْقِدَ لَهُ فِيهِ وَيَأْخُذَ هُوَ فِي التَّأَهُّبِ.

(وَسُئِلَ) نَفَعَ اللَّهُ بِهِ بِمَا لَفْظُهُ وَرَدَ: «يَنْزِلُ عَلَى هَذَا الْبَيْتِ كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ عِشْرُونَ وَمِائَةُ رَحْمَةٍ سِتُّونَ مِنْهَا لِلطَّائِفِينَ بِالْبَيْتِ وَأَرْبَعُونَ لِلْعَاكِفِينَ حَوْلَ الْبَيْتِ وَعِشْرُونَ لِلنَّاظِرِينَ إلَى الْبَيْتِ» أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ وَفِي رِوَايَةٍ «يَنْزِلُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى أَهْلِ الْمَسْجِدِ مَسْجِدِ مَكَّةَ كُلَّ يَوْمٍ عِشْرُونَ وَمِائَةٌ» الْحَدِيثُ لَكِنْ قَالَ فِيهِ وَأَرْبَعُونَ لِلْمُصَلِّينَ وَلَمْ يَقُلْ لِلْعَاكِفِينَ أَخْرَجَهُ الْأَزْرَقِيُّ وَغَيْرُهُ فَمَا الْمُرَادُ بِالْبَيْتِ وَهَلْ

ص: 114

الْقِسْمَةُ بِحَسَبِ قِلَّةِ الْعَمَلِ وَكَثْرَتِهِ وَهَلِ الْمُرَادُ الْمُصَلِّينَ سُنَّةَ الطَّوَافِ أَوْ أَعُمَّ اُبْسُطُوا الْجَوَابَ عَنْ ذَلِكَ وَعَنْ غَيْرِهِ مِمَّا يُفْهِمُهُ الْحَدِيثَانِ أَثَابَكُمْ اللَّهُ الْجَنَّةَ.

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِمَسْجِدِ مَكَّةَ الْبَيْتُ لِأَنَّهُ يُسَمَّى مَسْجِدًا وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ مَسْجِدُ الْجَمَاعَةِ وَهُوَ الْأَظْهَرُ كَمَا قَالَهُ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالتَّنْزِيلِ عَلَى أَهْلِ الْبَيْتِ التَّنْزِيلُ عَلَى أَهْلِ الْمَسْجِدِ وَلِهَذَا قُسِمَتْ عَلَى أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ الْكَائِنَةِ فِيهِ وَقَوْلُهُ سِتُّونَ لِلطَّائِفِينَ إلَخْ يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ حَيْثُ أَتَى كُلٌّ مِنْهُمْ بِمُسَمَّى الطَّوَافِ أَوْ الصَّلَاةِ أَوْ النَّظَرِ شَرْعًا مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلَى قِلَّةِ الْعَمَلِ أَوْ كَثْرَتِهِ وَمَا زَادَ فَلَهُ ثَوَابٌ مِنْ غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ وَيُحْتَمَلُ قِسْمَتُهَا بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ الْعَمَلِ.

وَالْمُتَّجَهُ عِنْدِي الْأَوَّلُ لِأَنَّ الطَّائِفِينَ مَثَلًا جَمْعٌ مُحَلَّى بِأَلْ فَهُوَ عَامٌّ وَمَدْلُولُهُ كُلِّيَّةً أَيْ مَحْكُومٌ فِيهَا عَلَى كُلِّ فَرْدٍ فَرْدٍ فَالسِّتُّونَ مَحْكُومٌ بِهَا عَلَى كُلِّ فَرْدٍ فَرْدٍ مِنْ الطَّائِفِينَ فَحَيْثُ أَتَى وَاحِدٌ مِنْهُمْ بِمُسَمَّى الطَّوَافِ شَرْعًا حَصَلَ لَهُ السِّتُّونَ لَكِنْ مَنْ أَتَى بِالْأَكْثَرِ أَوْ قَارَنَ عَمَلَهُ كَمَالٌ خَلَى عَنْهُ عَمَلُ الْآخِرِ تَكُونُ رَحَمَاتُهُ أَكْمَلُ وَيَدُلُّ لِذَلِكَ أَنَّ الْخَمْسَةَ أَوْ السَّبْعَةَ وَالْعِشْرِينَ دَرَجَةً الْمُتَرَتِّبَةَ عَلَى صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ تَحْصُلُ لِكُلِّ مُصَلٍّ فِي جَمَاعَةٍ قُلْت أَوْ كَثُرَتْ لَكِنْ دَرَجَاتِ الْأَكْثَرِ أَكْمَلُ وَكَذَا يُقَالُ فِي الْمُصَلِّينَ وَالنَّاظِرِينَ ثُمَّ الرَّحَمَاتُ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مِنْ نَوْعٍ أَوْ أَنْوَاعٍ كَالْمَغْفِرَةِ وَالْحِفْظِ وَالرِّضَا وَالْقُرْبِ إذْ الرَّحْمَةُ الْعِطْفُ فَتَارَةً تَكُونُ بِإِسْدَاءِ نِعْمَةٍ وَتَارَةً تَكُونُ بِدَفْعِ نِقْمَةٍ وَكِلَاهُمَا يَتَنَوَّعَانِ إلَى مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ وَيُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْته قَوْلُ الْقُطْبِ الْقَسْطَلَّانِيِّ.

وَلَيْسَ هَذَا الْعَدَدُ جُزْءًا مِنْ الرَّحْمَةِ الْمَبْثُوثَةِ فِي الْأَرْضِ الْمَقْسُومَةِ بَيْنَ الْأَنَامِ بَلْ هُوَ غَيْرُهَا فَإِنَّهُ يَتَجَدَّدُ بِتَجَدُّدِ اللَّيَالِي وَالْأَيَّامِ تَشْرِيفًا لِأَهْلِ الْحَرَمِ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ قَالَ ثُمَّ أَنَّ هَذَا الثَّوَابَ هَلْ يَتَجَزَّأُ عَلَى كُلِّ عَامِلٍ بِحَسَبِ كَثْرَةِ الْعَمَلِ وَقِلَّتِهِ أَوْ يَسْتَوِي فِيهِ الْمُقِلُّ وَالْمُكْثِرُ فَيَحْصُلُ لِلطَّائِفِ وَلَوْ أُسْبُوعًا وَمُصَلٍّ وَلَوْ رَكْعَةً وَنَاظِرٍ وَلَوْ لَمْحَةً وَهَلْ يَتَكَرَّرُ الْعَمَلُ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ عَلَى تَعَاقُبِ الْأَوْقَاتِ أَمْ يَخْتَصُّ بِأَوَّلِ عَمَلٍ وَالْبَاقِي تَابِعٌ أَوْ يُحْمَلُ عَلَى طَوَافِ النُّسُكِ وَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ أَوْ يَخْتَصُّ بِالْوَافِدِينَ الَّذِي يَظْهَرُ وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ أَنَّهُ يَشْتَرِكُ فِيهِ كُلُّ عَامِلٍ مِنْ سَابِقٍ وَلَاحِقٍ وَمُقِلٍّ وَمُكْثِرٍ وَمُقْرِنٍ وَمُفْرِدٍ فَيَنَالُ كُلٌّ مِنْهُمْ ذَلِكَ الْعَدَدَ الْمُعَيَّنَ عَلَى الْعَمَلِ الْمُعَيَّنِ وَمَنْ زَادَ مِنْهُمْ يَحْصُلُ لَهُ ثَوَابُ زِيَادَةِ عَمَلِهِ فَإِنَّ الْحَسَنَةَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا اهـ.

الْمَقْصُودُ مِنْ كَلَامِهِ لَا يُقَالُ الْحَدِيثُ يَقْتَضِي فَضْلُ الطَّوَافِ عَلَى الصَّلَاةِ لِأَنَّا نَقُولُ ظَاهِرَهُ وَإِنْ اقْتَضَى ذَلِكَ وَأَخَذَ بِهِ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ مَتْرُوكٌ بِالْأَحَادِيثِ الْكَثِيرَةِ الدَّالَّةِ عَلَى فَضْلِ الصَّلَاةِ وَالْقَوْلِ بِأَنَّ الطَّوَافَ يُسَمَّى صَلَاةً فَهُوَ دَاخِلٌ فِيهَا يُرَدُّ بِأَنَّ هَذِهِ تَسْمِيَةٌ مَجَازِيَّةٌ وَقَعَتْ فِي الْحَدِيثِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ كَالصَّلَاةِ فَحُذِفَ حَرْفُ التَّشْبِيهِ مُبَالَغَةً فِي الْمُشَابَهَةِ وَمِنْ ثَمَّ قَالَ كَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمْ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ وَجْهُ الْقِسْمَةِ كَمَا ذُكِرَ أَنَّ الرَّحَمَاتِ الْمِائَةِ وَالْعِشْرِينَ قُسِمَتْ سِتَّةَ أَجْزَاءٍ جُزْءٌ لِلنَّاظِرِينَ وَجُزْءَانِ لِلْمُصَلِّينَ لِأَنَّ الْمُصَلِّي نَاظِرٌ غَالِبًا فَجُزْءٌ لِلنَّظَرِ وَجُزْءٌ لِلصَّلَاةِ وَالطَّائِفُ لَمَّا كَانَ نَاظِرًا طَائِفًا مُصَلِّيًا كَانَ لَهُ ثَلَاثَةُ أَجْزَاءٍ اهـ وَحِينَئِذٍ فَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ تَعَرُّضٌ لِفَضْلِ شَيْءٍ مِنْ النَّظَرِ وَالصَّلَاةِ وَالطَّوَافِ عَلَى شَيْءٍ وَنَظَرَ فِيهِ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ بِأَنَّ الْأَعْمَى الطَّائِفَ وَالْمُصَلِّي وَكَذَا الْمُتَعَمِّدَ تَرْكَ النَّظَرِ يَنَالُهُمَا مَا ثَبَتَ لِلطَّائِفِ وَالْمُصَلِّي وَإِنْ لَمْ يَنْظُرَا فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ غَيْرُ رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ وَمَا نُظِرَ بِهِ مَدْفُوعٌ بِقَوْلِهِمْ غَالِبًا فَيَلْحَقُ بِهِ مَا جَاءَ عَلَى خِلَافِ الْغَالِبِ إلْحَاقًا لِشَاذِّ الْجِنْسِ بِهِ.

(وَسُئِلَ) فَسَحَ اللَّهُ فِي مُدَّتِهِ بِمَا لَفْظُهُ قَالُوا إنَّهُ صلى الله عليه وسلم وَقَفَ بِعَرَفَةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَقَالُوا أَيْضًا إنَّهُ صلى الله عليه وسلم تُوُفِّيَ لَيْلَةَ الِاثْنَيْنِ لِثِنْتَيْ عَشْرَةَ مَضَتْ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ وَهَذَا مُسْتَحِيلٌ إذْ لَوْ فُرِضَ كَمَالُ الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمِ وَصَفَرٍ كَانَ ثَانِي رَبِيعٍ الْأَحَدِ فَكَيْفَ إذَا فُرِضَ نَقْصُهَا أَوْ نَقْصُ أَحَدِهَا فَهَلْ يُمْكِنُ الْجَوَابُ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ يُمْكِنُ تَصَوُّرُ ذَلِكَ بِأَنْ يَفْرِضَ أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ رَأَوْا هِلَالَ الْحِجَّةِ يَوْمَ الْخَمِيسِ وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ رَأَوْهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَاتَّفَقَا فِي هِلَالِ الْمُحَرَّمِ وَصَفَرٍ وَرَبِيعٍ فَقَوْلُهُمْ وَقَفَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِاعْتِبَارِ حِسَابِ أَهْلِ مَكَّةَ وَقَوْلُهُمْ لَيْلَةَ الِاثْنَيْنِ لِثِنْتَيْ عَشْرَةَ بِاعْتِبَارِ

ص: 115

حِسَابِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ.

(وَسُئِلَ) رضي الله عنه عَنْ قَوْلِهِمْ الْقِرَاءَةُ فِي الطَّوَافِ أَفْضَلُ مِنْ الذَّكَرِ غَيْرِ الْمَأْثُورِ وَالْمَأْثُورُ أَفْضَلُ مِنْهَا مَا الْمُرَادُ بِالْمَأْثُورِ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ الْمُرَادُ بِهِ كَمَا قِيلَ مَا أُثِرَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَوْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ أَوْ التَّابِعِينَ لَكِنْ فِي كَوْنِ الْمَأْثُورِ عَنْ صَحَابِيٍّ مَثَلًا أَفْضَلُ مِنْ الْقِرَاءَةِ نَظَرٌ لَا يَخْفَى إلَّا أَنْ يُجَابَ بِأَنَّ هَذَا الْمَحَلَّ لَمَّا كَانَ بِالدُّعَاءِ وَنَحْوِهِ أَلِيقَ مِنْهُ بِالْقِرَاءَةِ وَلِذَا كَرِهَهَا بَعْضُهُمْ فِيهِ مُطْلَقًا قَدَّمُوا الْمَأْثُورَ وَلَوْ عَنْ صَحَابِيٍّ عَلَيْهَا رِعَايَةً لِذَلِكَ وَإِنْ كَانَ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَأْثُورَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم لَا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ أَنْ يَصِحَّ سَنَدُهُ أَوْ لَا لِأَنَّ الْحَدِيثَ الضَّعِيفَ وَالْمُرْسَلَ وَالْمُنْقَطِعَ يُعْمَلُ بِهِ فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ اتِّفَاقًا كَمَا فِي الْمَجْمُوع.

(وَسُئِلَ) نَفَّعَ اللَّه بِهِ عَمَّنْ نَذَرَ الْحَجّ مَاشِيًا فَرَكِّبْ لَزِمَهُ دَم مَعَ أَنَّهُ فَعَلَ الْأَفْضَل فَمَا وَجْه ذَلِكَ وَمَا الْمُرَاد بِالدَّمِ هُنَا وَلَمْ وَجَبَ مَعَ أَنَّ مُخَالِفَة الْمَنْذُور فِي غَيْر ذَلِكَ تَقْتَضِي الْإِثْم فَقَطْ وَهَلْ يَتَكَرَّر الدَّم بِتَكَرُّرِ الرُّكُوب قِيَاسًا عَلَى اللُّبْس فِي حَقّ الْمُحْرِم أَوْ يُفَرَّق؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ إنَّمَا لَزِمَهُ الدَّم وَإِنَّ فَعَلَ الْأَفْضَل لِأَنَّ الْمَشْي فِيهِ مَشَقَّة مَقْصُودَة لِلشَّارِعِ أَيْضًا فَوَجَبَتْ رِعَايَتهَا لِأَنَّ الْأَفْضَل خَلَا عَنْهَا بَلْ وَرَدَ فِي فَضْلهَا مَا اقْتَضَى ذَهَابَ كَثِيرٍ إلَى أَنَّ الْمَشْيَ أَفْضَلُ وَأَيْضًا فَأَفْضَلِيَّةُ الرُّكُوبِ لَيْسَتْ لِذَاتِهِ بَلْ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّأَسِّي بِهِ صلى الله عليه وسلم وَلِأَنَّهُ أَعْوَنُ عَلَى الْحُضُورِ فِي الْأَذْكَارِ وَالْعِبَادَاتِ فَوَجَدَ فِي كُلِّ شَيْءٍ مَقْصُودٍ لَيْسَ فِي الْآخَرِ فَلَمْ يُجَزِّئ أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ وَإِذَا تَأَمَّلْت ذَلِكَ حَقَّ التَّأَمُّلِ ظَهَرَ لَك الْفَرْقَ بَيْنَ هَذَا وَمَا لَوْ نَذَرَ الصَّلَاةَ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَيْثُ تُجْزِئهُ الصَّلَاةُ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْأَفْضَلَ هُنَا اشْتَمَلَ عَلَى مَا فِي الْمَفْضُولِ وَزِيَادَةٍ بِخِلَافِهِ فِي مَسْأَلَةِ الْمَشْيِ وَالرُّكُوبِ وَالْمُرَادُ بِالدَّمِ هُنَا شَاةٌ.

وَإِنَّمَا وَجَبَ الدَّمُ هُنَا مَعَ مَا ذُكِرَ فِي السُّؤَالِ لِأَنَّ الْمَنْذُورَ صِفَةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِالنُّسُكِ فَاقْتَضَتْ مُخَالَفَتُهَا لُزُومَ الدَّمِ وَاَلَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ إذَا رَكِبَ لِغَيْرِ عُذْرٍ تَكَرَّرَ الدَّمُ مُطْلَقًا أَوْ لِعُذْرٍ فَإِنْ اسْتَمَرَّ الْعُذْرُ لَمْ يَتَكَرَّرْ الدَّمُ بِتَكَرُّرِ الرُّكُوبِ وَإِنْ زَالَ ثُمَّ حَدَثَ عُذْرٌ آخَرُ تَكَرَّرَ بِتَكَرُّرِ الْعُذْرِ وَيُفَرَّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ نَظِيرِهِ فِي مَسْأَلَةِ اللُّبْس بِأَنَّ اسْتِدَامَةَ اللُّبْسِ مُمْكِنَةٌ غَالِبًا فَلَا عُذْرَ فِي تَكَرُّرِهِ فَاقْتَضَى تَكَرُّرَ الدَّمَ بِشَرْطِهِ وَأَمَّا اسْتِدَامَةُ الرُّكُوبِ فَغَيْرُ مُمْكِنَةٍ فَنَظَرْنَا لِلْعُذْرِ وَلَمْ نَنْظُرْ إلَيْهَا لِاسْتِحَالَتِهَا غَالِبًا.

(وَسُئِلَ) رضي الله عنه بِمَا لَفْظُهُ مَا قَوْلُكُمْ فِي حَدِيثٍ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ «مَنْ اسْتَطَاعَ أَنْ يَحُجَّ وَلَمْ يَحُجَّ مَاتَ إنْ شَاءَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا» اهـ فَهَذَا الْحَدِيثُ هُوَ صَحِيحٌ ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَوْ مَوْضُوعٌ وَهَلْ هُوَ فِي حَقِّ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ الْبَعِيدِ مِنْهُمْ وَالْقَرِيبِ مِنْ غَيْرِ تَفَاوُتٍ أَمْ لَا وَإِذَا كَانَ فِي حَقِّ الْجَمِيعِ وَكَانَ الْمَكَانُ بَعِيدًا وَالشَّخْصُ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْمَشْيِ إلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ وَلَمْ يَجِدْ أَحَدًا يَحْمِلُهُ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ وَبَقِيَ عَنْ الْحَجِّ إلَى أَنْ مَاتَ فَهَلْ يَكُونُ لَهُ عُذْرٌ فِي هَذَا الْحُكْمِ أَمْ لَا وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الطَّرِيقُ مَخُوفًا وَبَقِيَ عَنْ الْحَجِّ إلَى أَنْ مَاتَ فَهَلْ يَكُونُ لَهُ عُذْرٌ فِي تَرْكِهِ الْحَجَّ وَيَخْرُجُ عَنْ هَذَا الْحُكْمِ أَمْ لَا؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ الْحَدِيثُ صَحِيحٌ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه مَوْقُوفًا عَلَيْهِ وَمِثْلُهُ لَا يُقَالُ مِنْ قَبِيلِ الرَّأْي فَلَهُ حُكْمُ الْمَرْفُوعِ عَلَى أَنَّهُ وَرَدَ مَرْفُوعًا مِنْ طُرُقٍ فِي بَعْضِهَا مَقَالٌ وَقَدْ أَخْطَأَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي عَدِّهِ مِنْ الْمَوْضُوعَاتِ وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُسْتَحِلِّ وَعَامٌّ فِي حَقِّ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ لَكِنْ بِشَرْطِ الِاسْتِطَاعَةِ وَمِنْ عَدَمِ الِاسْتِطَاعَةِ الْعَجْزُ عَنْ دَابَّةٍ إذَا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ مَرْحَلَتَانِ وَكَذَا إذَا كَانَ الطَّرِيقُ مَخُوفًا فَإِذَا تَرَكَ الْحَجَّ لِأَجْلِ تِلْكَ لَمْ يَكُنْ دَاخِلًا فِي هَذَا الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ.

(وَسُئِلَ) رضي الله عنه بِمَا لَفْظُهُ إذَا جَاعِل رَجُلٌ آخَرَ عَلَى أَنْ يَحُجَّ أَوْ يَعْتَمِرَ عَنْ مَيِّتِهِ بِمِائَةٍ مِثْلًا فَفَعَلَ وَجَاعَلَهُ أَيْضًا عَلَى أَنْ يَرُدَّ السَّلَامَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَصَاحِبَيْهِ وَيَدْعُو لَهُ عِنْدَهُمْ فَاسْتَنَابَ غَيْرَهُ فِي الزِّيَارَةِ فَهَلْ يَسْتَحِقُّ مَا سَمَّى لَهُ أَمْ لَا فَإِنْ قُلْتُمْ يَسْتَحِقُّ فَهَلْ فَرْقٌ بَيْنَ أَنْ يَشْرِطُوا عَلَيْهِ أَنْ يَزُورَ بِنَفْسِهِ أَوْ يُطْلِقُوا وَإِذَا قُلْتُمْ لَا يَسْتَحِقُّ إذَا شَرَطُوا عَلَيْهِ أَنْ يَزُورَ بِنَفْسِهِ فَهَلْ فَرَّقَ بَيْنَ أَنْ تُمْكِنَهُ الزِّيَارَةُ أَوْ لَا تُمْكِنَهُ كَأَنْ تَمْرَضَ أَوْ يُكْمِلَ نَفَقَتَهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ أَمْ لَا؟

(فَأَجَابَ) بِأَنَّهُ إذَا جُوعِلَ

ص: 116

عَلَى الدُّعَاءِ عِنْدِ الْقَبْرِ الشَّرِيفِ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَرْتَبِطَ الْعَقْدُ بِعَيْنِهِ لِجَاعِلَتِك أَوْ اسْتَأْجَرْتُك لِتَدْعُوَ لِي أَوْ لِمَيِّتِي عِنْدَ قَبْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم سَوَاءٌ أَقَالَ بِنَفْسِك أَمْ لَمْ يَقُلْهُ وَإِمَّا أَنْ يَرْبِطَ بِذِمَّتِهِ كَأَلْزَمْتُ ذِمَّتَك تَحْصِيلَ الدُّعَاءِ الْمَذْكُورِ فَفِي الْأَوَّلِ لَا بُدَّ أَنْ يَقُولَ هَذِهِ السَّنَة أَوْ يُطْلِقَ فَإِنْ عَيَّنَ غَيْرَ السَّنَةِ الْأُولَى مِنْ سِنِي إمْكَانِ الْوُصُولِ إلَى الْمَدِينَةِ الشَّرِيفَةِ لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ كَاسْتِئْجَارِ الدَّارِ لِلشَّهْرِ الْقَابِلِ وَيُشْتَرَطُ فِي هَذَا الْقِسْمِ قُدْرَةُ الْأَجِيرِ عَلَى الشُّرُوعِ فِي الْعَمَلِ بِنَفْسِهِ بِأَنْ لَا يَكُونَ ثَمَّ مَانِعٌ لَهُ مِنْ الْخُرُوجِ كَخَوْفٍ أَوْ مَرَضٍ أَوْ نَحْوِهِمَا وَاتِّسَاعِ الْوَقْتِ لِلْعَمَلِ وَأَنْ يُوجَدَ الْعَقْدُ حَالَ الْخُرُوجِ.

فَإِنْ لَمْ يَشْرَعْ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ مِنْ عَامِهِ لِعُذْرٍ أَوْ غَيْرِهِ انْفَسَخَتْ الْإِجَارَةُ لِفَوَاتِ الْمَقْصُودِ فَلَوْ ذَهَبَ فِي الْعَامِ الثَّانِي مَثَلًا إلَى الْمَدِينَةِ الشَّرِيفَةِ وَدَعَا لَهُ وَقَعَ عَنْ الْمَعْقُودِ لَهُ لِأَنَّهُ أَمَرَهُ أَنْ يَدْعُوَ لَهُ وَقَدْ فَعَلَ لَكِنَّهُ أَسَاءَ هَذَا كُلُّهُ حُكْمُ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي فَيَصِحُّ سَوَاءٌ أَعَيَّنَ السَّنَةَ الْحَاضِرَةَ أَوْ سَنَةً مُسْتَقْبَلَةً فَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْ شَيْئًا حُمِلَ عَلَى الْحَاضِرَةِ فَيَبْطُلُ إنْ ضَاقَ الْوَقْتُ وَلَا يُشْتَرَطُ قُدْرَتُهُ عَلَى السَّفَرِ بِنَفْسِهِ بَلْ لَهُ الِاسْتِنَابَةُ وَإِنْ قَدَرَ عَلَيْهِ بِنَفْسِهِ وَمَتَى أَخَّرَ الشُّرُوعَ بِنَفْسِهِ أَوْ نَائِبِهِ عَنْ الْعَامِ الَّذِي تَعَيَّنَ لَهُ تَخَيَّرَ الْمُسْتَأْجِرُ أَوْ الْمُجَاعَلُ لَهُ عَلَى التَّرَاخِي فَإِنْ شَاءَ فَسَخَ وَإِنْ شَاءَ أَخَّرَ إلَى الْعَامِ الثَّانِي وَيَجِبُ عَلَى مَنْ اسْتَأْجَرَ أَوْ جَاعَلَ بِمَالِ مَيِّتٍ أَنْ يَعْمَلَ فِي الْفَسْخِ وَعَدَمِهِ بِالْمَصْلَحَةِ وَبِمَا تَقَرَّرَ فِي هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ يُعْلَمُ الْجَوَابُ عَنْ تَرْدِيدَاتِ السَّائِلِ الَّتِي ذَكَرَهَا.

(وَسُئِلَ) فَسَحَ اللَّهُ فِي مُدَّتِهِ عَمَّنْ أَوْصَى بِحَجَّةٍ ثُمَّ حَجَّ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ هَلْ تَنْزِلُ وَصِيَّتُهُ عَلَيْهَا مَعَ الْإِطْلَاقِ فَتَسْقُطُ بِفِعْلِهِ أَمْ لَا؟

(فَأَجَابَ) بِأَنَّ قَضِيَّةَ كَلَامِ الشَّيْخِ الْعَلَّامَةِ تَقِيِّ الدِّينِ الْفَتَى أَنَّ الْوَصِيَّةَ تَنْزِلُ عَلَى حَجَّةِ الْإِسْلَامِ فَإِنَّهُ أَفْتَى فِيمَنْ أَوْصَى بِأَنْ يَحُجَّ عَنْهُ بِعَشْرَةٍ مَثَلًا فَحَجَّ عَنْهُ آخَرُ تَبَرُّعًا بِأَنَّ الْوَصِيَّةَ تَبْطُلُ وَتَرْجِعُ الْوَرَثَةُ بِمَا أَوْصَى بِهِ وَيُحْمَلُ لَفْظُهُ عَلَى الْفَرْضِ وَقَدْ تَعَذَّرَ تَنْجِيزُهَا فَلَغَتْ وَقَضِيَّةُ كَلَامِهِمْ فِي مَبْحَثِ الرُّجُوعِ عَنْ الْوَصِيَّةِ أَنَّ الْحَجَّةَ الْمُوصَى بِهَا بَاقِيَةٌ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ ذَكَرُوا أَمْثِلَةً لِلرُّجُوعِ عَنْ الْوَصِيَّةِ بِالْقَوْلِ أَوْ الْفِعْلِ وَكُلُّهَا تَرْجِعُ إلَى مَعْنَيَيْنِ إمَّا زَوَالُ الِاسْمِ أَوْ الْإِشْعَارُ بِالْإِعْرَاضِ عَنْ الْوَصِيَّةِ.

وَوَاضِحٌ أَنَّ زَوَالَ الِاسْمِ لَمْ يُوجَدْ وَأَمَّا الْإِشْعَارُ بِالْإِعْرَاضِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ هُنَا أَيْضًا لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ كَمَا اقْتَضَاهُ فَحْوَى كَلَامِهِمْ إلَّا إذَا وَقَعَ التَّصَرُّفُ فِي عَيْنِ الْمُوصَى بِهِ وَهُوَ هُنَا لَمْ يَقَعْ فِي عَيْنِ الْمُوصَى بِهِ لِأَنَّ إطْلَاقَ الْحَجَّةِ يَشْمَلُ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ وَغَيْرَهَا عَلَى أَنَّهُ قَدْ يَقَعُ فِي عَيْنِ الْمُوصَى بِهِ وَلَا يُؤَثِّرُ لِأَنَّهُ عَارَضَهُ مَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ وَمِنْ ثَمَّ لَمْ يُؤَثِّرْ نَحْوَ التَّجْفِيفِ وَالتَّزْوِيجِ وَالْإِيجَارِ وَالِاسْتِعْمَالِ لِأَنَّهُ إمَّا انْتِفَاعٌ أَوْ اسْتِصْلَاحٌ مَحْضٌ وَكِلَاهُمَا لَيْسَ قَوِيًّا فِي الْإِشْعَارِ بِالْإِعْرَاضِ فَكَذَلِكَ حَجُّهُ هُنَا لَيْسَ قَوِيًّا فِي ذَلِكَ لِأَنَّ النَّاسَ كَثِيرًا مَا يَقْصِدُونَ إكْثَارَ الْحَجِّ وَإِنْفَاقَ أَمْوَالِهِمْ فِيهِ وَإِنْ حَجُّوا حَجَّةَ الْإِسْلَامِ وَيُفَرَّقُ بَيْنَ الصُّورَةِ الْمَسْئُولِ عَنْهَا وَمَا أَفْتَى بِهِ الْفَتَى بِأَنَّ الْمُوصِي فِيهَا مَاتَ قَبْلَ الْحَجِّ بِنَفْسِهِ وَنَائِبِهِ فَوَجَبَ حِينَئِذٍ انْصِرَافُ الْوَصِيَّةِ إلَى حَجَّةِ الْإِسْلَامِ لِتَعَيُّنِهَا وَعَدَمِ جَوَازِ غَيْرِهَا عَنْهُ قَبْلَهَا فَلَمَّا تَبَرَّعَ عَنْهُ بِهَا سَقَطَتْ عَنْهُ وَتَعَذَّرَ تَنْفِيذُ وَصِيَّتِهِ بِهَا فَأُلْغِيَتْ وَأَمَّا فِي مَسْأَلَتِنَا فَإِنَّهُ حَجَّ بِنَفْسِهِ وَالْمُوصَى بِهِ إنَّمَا يُعْتَبَرُ عِنْدَ الْمَوْتِ وَهُوَ عِنْدَ الْمَوْتِ لَيْسَ عَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ فَانْصَرَفَ الْمُوصَى بِهِ إلَى غَيْرِهَا وَوَجَبَ الْإِحْجَاجُ عَنْهُ مِنْ ثُلُثِهِ مُسَارَعَةً لِغَرَضِهِ مِنْ تَحْصِيلِ هَذِهِ الْقُرْبَةِ الْعَظِيمَةِ.

(وَسُئِلَ) نَفَعَنَا اللَّهُ بِهِ عَمَّنْ اُسْتُؤْجِرَ لِلْحَجِّ مُفْرِدًا إجَارَةً عَيْنِيَّةً وَاشْتَبَهَ عَلَيْهِ حَالُهُ بَعْدَ الْإِحْرَامِ فَقَرَنَ مَثَلًا فَهَلْ تَبْرَأُ ذِمَّةُ الْمُسْتَأْجِرِ بِذَلِكَ مِنْ النُّسُكَيْنِ إذَا أَتَى الْأَجِيرُ بِالْعُمْرَةِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ أَعْمَالِ الْحَجِّ أَوْ لَا تَبْرَأُ ذِمَّةُ الْمُسْتَأْجِرِ وَلَا يَسْتَحِقُّ الْأَجِيرُ شَيْئًا لِلشَّكِّ فِي حُصُولِ الْعَمَلِ الْمَشْرُوطِ فِي الْإِجَارَةِ.

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ الَّذِي صَرَّحَ بِهِ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه وَالْأَصْحَابُ أَنَّ مَنْ اُسْتُؤْجِرَتْ عَيْنُهُ لِيُفْرِدَ فَقَرَنَ فَإِنْ كَانَتْ الْإِجَارَةُ عَنْ حَيٍّ انْفَسَخَتْ فِي النُّسُكَيْنِ مَعًا لِأَنَّهُمَا لَا يَفْتَرِقَانِ لِاتِّحَادِ الْإِحْرَامِ وَلَا يُمْكِنُ صَرْفُ مَا لَمْ يَأْمَرْ بِهِ الْمُسْتَأْجِرُ إلَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ عَنْ مَيِّتٍ وَقَعَ لِلْمَيِّتِ اتِّفَاقًا لِأَنَّهُ يَجُوزُ لِلْأَجْنَبِيِّ التَّبَرُّعُ عَنْهُ بِهَا مِنْ غَيْرِ وَصِيَّةٍ وَلَا إذْنٍ قَالَ السُّبْكِيّ وَهَذَا صَحِيحٌ مِنْ حَيْثُ الْوُقُوعِ عَنْ الْفَرْضِ وَأَمَّا

ص: 117

كَوْنُهُ عَنْ جِهَةِ الْإِجَارَةِ فَيَظْهَرُ أَنَّهُ كَالْحَيِّ وَبَيَّنَ فَائِدَةَ ذَلِكَ وَمَا يُنَاسِبُهُ كَمَا ذَكَرْته مُوَجِّهًا لَهُ فِي شَرْحِ الْعُبَابِ.

إذَا عَلِمْت ذَلِكَ عَلِمْت أَنَّ مَنْ اُسْتُؤْجِرَتْ عَيْنُهُ لِلْإِفْرَادِ فَأَحْرَمَ ثُمَّ شَكَّ هَلْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ أَوْ بِالْعُمْرَةِ أَوْ بِهِمَا ثُمَّ جَعَلَ نَفْسَهُ قَارِنًا فَإِنْ كَانَتْ الْإِجَارَةُ لِمَيِّتٍ بَرِئَ مِنْ الْحَجِّ لِأَنَّهُ الْمُتَيَقَّنُ دُونَ الْعُمْرَةِ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ أَوَّلًا فَلَا تَدْخُلُ الْعُمْرَةُ عَلَيْهِ فَإِذَا أَحْرَمَ عَنْهُ بِهَا بَعْدَ فَرَاغِ مَا هُوَ فِيهِ وَقَعَتْ لَهُ أَيْضًا وَحِينَئِذٍ فَهَلْ يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لِأَنَّهُ أَتَى بِمَا اُسْتُؤْجِرَ لَهُ وَهُوَ الْإِفْرَادُ عَلَى احْتِمَالٍ أَوْ لَا يَسْتَحِقُّهَا لِأَنَّا لَمْ نَتَحَقَّقْ أَنَّهُ أَتَى بِالْعَمَلِ الَّذِي اُسْتُؤْجِرَ لَهُ لِلنَّظَرِ فِي ذَلِكَ مَجَالٌ وَلَعَلَّ الْأَوْجَهَ الْأَوَّلُ لِأَنَّا قَدْ تَحَقَّقْنَا انْعِقَادِ الْإِجَارَةِ ثُمَّ شَكَكْنَا بَعْدَ قِرَانِهِ هَلْ وُجِدَ الْقِرَانُ حَقِيقَةً بِأَنْ يَكُونَ أَحْرَمَ بِهِمَا أَوَّلًا أَوْ بِالْعُمْرَةِ ثُمَّ أَدْخَلَ عَلَيْهِ الْحَجَّ فَتَنْفَسِخ الْإِجَارَةُ فِيهِمَا مِنْ حَيْثُ الْأُجْرَةِ لِمَا مَرَّ عَنْ السُّبْكِيّ أَمْ لَمْ يُوجَدْ بِأَنْ يَكُونَ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ أَوَّلًا فَلَا يَنْفَسِخُ وَالثَّانِي أَقْرَبُ لِأَنَّ الْأَصْلُ عَدَمُ وُجُودِ خُصُوصِ الْقِرَانِ وَدَوَامُ الْإِجَارَةِ إذْ الِانْفِسَاخُ طَارِئٌ عَلَى الْعَقْدِ وَالْأَصْلُ عَدَمُ طَرَّوْهُ وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ أَجِيرَ الْعَيْنِ إنَّمَا يَحْرُمُ بِمَا اُسْتُؤْجِرَ لَهُ لَا بِغَيْرِهِ فَهَذَا كُلُّهُ يُرَجِّحُ الِاسْتِحْقَاقَ.

وَإِنْ كَانَتْ لِحَيٍّ لَمْ يَقَعْ لَهُ وَاحِدٌ مِنْ النُّسُكَيْنِ وَلَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا مِنْ الْأُجْرَةِ فِيمَا يَظْهَرُ أَيْضًا لِأَنَّا لَمَّا لَمْ نَتَحَقَّقْ مَا أَحْرَمَ بِهِ الْأَجِيرُ كُنَّا بَعْدَ قِرَانِهِ شَاكِّينَ فِي أَنَّهُ أَتَى بِالْعَمَلِ الْمُسْتَأْجَرِ لَهُ بِأَنْ يَكُونَ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ أَوَّلًا فَيَكُونَ قِرَانُهُ لَغْوًا أَوْ لَمْ يَأْتِ بِهِ بِأَنْ يَكُونَ أَحْرَمَ أَوَّلًا بِالْعُمْرَةِ ثُمَّ أَدْخَلَ عَلَيْهَا الْحَجَّ فَتَنْفَسِخَ الْإِجَارَةُ وَيَقَعَانِ لَهُ وَالْأَصْلُ عَدَمُ إتْيَانِهِ بِمَا اُسْتُؤْجِرَ لَهُ وَلَا يُعَارِضُهُ أَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ انْفِسَاخِ الْإِجَارَةِ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ لِهَذَا الْأَصْلِ لِأَنَّ بَقَاءَهَا مَعَ عَدَمِ تَيَقُّنِ إتْيَانِ الْأَجِيرِ بِالْعَمَلِ الْمُسْتَأْجَرِ لَهُ لَا يُفِيدُ شَيْئًا وَفَارَقَتْ هَذِهِ الصُّورَةُ صُورَةَ الْمَيِّتِ السَّابِقَةِ بِأَنَّا هُنَاكَ تَيَقَّنَّا وُقُوعَ النُّسُكَيْنِ لِلْمُسْتَأْجَرِ لَهُ وَشَكَكْنَا هَلْ عَرَضَ مَا يَمْنَعُ اسْتِحْقَاقَ الْأَجِيرِ لِلْأُجْرَةِ وَهُوَ الْقِرَانُ وَالْأَصْلُ عَدَمُ عُرُوضِهِ وَلَمْ يُعَارِضْ هَذَا الْأَصْلَ ثَمَّ شَيْءٌ يُقَاوِمُهُ وَهُنَا لَمْ يُتَيَقَّنْ وُقُوعُهَا لِلْمُسْتَأْجِرِ بَلْ شَكَكْنَا هَلْ وَقَعَ لَهُ أَوْ لَا وَالْأَصْلُ عَدَمُ وُقُوعِهِمَا وَلَمْ يُعَارِضْ هَذَا الْأَصْلَ مَا يُقَاوِمُهُ فَعَلِمْنَا بِأَقْوَى الْأَصْلَيْنِ فِي الصُّورَتَيْنِ هَذَا مَا ظَهَرَ لِي الْآنَ وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

(وَسُئِلَ) رضي الله عنه عَمَّا إذَا شَرَطَ الْمُحْرِمُ عِنْدَ الْإِحْرَامِ التَّحَلُّلَ بِنَفْسِ الْمَرَضِ فَبِمَاذَا يَصِيرُ حَلَالًا بِمُبِيحِ التَّيَمُّمِ أَوْ بِمُبِيحِ الْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ أَوْ بِمَا لَا يُمْكِنُ الْإِتْيَانُ بِشَيْءٍ مَعَهُ مِنْ أَعْمَالِ النُّسُكِ؟

(فَأَجَابَ) رضي الله عنه بِقَوْلِهِ قَدْ بَيَّنْت فِي شَرْحِ الْعُبَابِ وَغَيْرِهِ أَنَّ ضَابِطَ الْمَرَضِ الْمُبِيحِ لِلتَّيَمُّمِ وَالْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ وَاحِدٌ وَمِثْلُهُمَا التَّحَلُّلُ بِهِ لِمَنْ شَرَطَهُ فَمَتَى وُجِدَ مُبِيحُ التَّيَمُّمِ جَازَ التَّحَلُّلُ وَمَتَى لَا فَلَا.

(وَسُئِلَ) رضي الله عنه عَنْ مَقَالَةٍ صَدَرَتْ مِنْ بَعْضِ مُتَفَقِّهَةِ الْيَمَنِ بِأَنْ قَالَ إنَّ بِقَاعَ الْأَرْضِ لَا يَفْضُلُ بَعْضُهَا بَعْضًا وَإِنَّ مَكَّةَ شَرَّفَهَا اللَّهُ مِثْلَ غَيْرِهَا مِنْ سَائِرِ بِقَاعِ الْأَرْضِ وَلَمْ يَأْتِ بِدَلِيلٍ عَلَى مَقَالَتِهِ فَتَعَيَّنَ الْبَحْثُ عَمَّا هُوَ الْحَقُّ فَهَلْ بِقَاعُ الْأَرْضِ يُفَضَّلُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضِ أَمْ لَا وَهَلْ مَكَّةُ شَرَّفَهَا اللَّهُ تَعَالَى شُرِّفَتْ لِذَاتِهَا أَمْ لِمَاذَا وَهَلْ طِيبَةُ شُرِّفَتْ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَمْ بِمَاذَا وَهَلِ الْمُدُنُ أَيْ الْأَمْصَارُ تُفَضَّلُ عَلَى الْقُرَى أَمْ لَا وَهَلْ أَمَاكِنُ الْعُلَمَاءِ وَالصَّالِحِينَ مِثْلُ الْمَدَارِسِ وَالزَّوَايَا وَالرُّبُطُ تَلْتَحِقُ بِالْمَسَاجِدِ فِي الْفَضْلِ وَالِاحْتِرَامِ أَمْ دُونَهَا أَمْ لَا فَضْلَ لَهَا وَهَلِ الْمَوَاضِعُ الَّتِي نَزَلَ بِهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كَقُبَاءَ وَبَدْرٍ وَسَائِرِ الْأَمَاكِنِ الَّتِي نَزَلَهَا دَائِمَةُ الْفَضْلِ أَمْ ارْتَفَعَ الْفَضْلُ وَالْحُرْمَةُ لَهَا بِارْتِحَالِهِ مِنْهَا وَهَلْ إذَا شُرِّفَتْ الْبُقْعَةُ لِأَجْلِ الْعُلَمَاءِ وَالصَّالِحِينَ ثُمَّ ارْتَحَلُوا عَنْهَا يَرْتَفِعُ فَضْلُهَا أَمْ لَا وَهَلْ تَعَبُّدُنَا بِالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ لِمَزِيدِ فَضْلِهَا أَمْ لِمَاذَا وَكَذَلِكَ سَائِرُ أَمَاكِنِ النُّسُكِ كَالْمَوَاقِيتِ الَّتِي لِلْإِحْرَامِ وَمُزْدَلِفَةَ وَمِنًى وَغَيْرِهَا أَفْتَوْنَا بِمَا أَمْكَنَ مِنْ الدَّلَائِلِ وَالتَّعْلِيلِ فَالْقَضِيَّةُ وَاقِعَةٌ.

(فَأَجَابَ) فَسَحَ اللَّهُ فِي مُدَّتِهِ بِقَوْلِهِ مَا نُسِبَ لِذَلِكَ الْقَائِلِ قَدْ خَالَفَ فِيهِ الْإِجْمَاعَ وَاتَّصَفَ بِسَبَبِهِ بِأَقْبَحِ الْكَذِبِ وَالِابْتِدَاعِ وَلِمَ لَا وَتَفْضِيلُ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ عَلَى مَا عَدَاهُمَا أَوْضَحُ مِنْ الشَّمْسِ بَلْ وَأَظْهَرُ وَأَشْهُرُ مِنْ أَنْ يُذْكَرَ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي أَيِّهِمَا أَفْضَلُ وَمَكَّةُ هِيَ الْأَفْضَلُ عِنْدَ إمَامِنَا الشَّافِعِيِّ

ص: 118

- رضي الله عنه وَأَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ فِي ذَلِكَ الَّتِي لَا تَقْبَلُ التَّأْوِيلَ عِنْدَ مِنْ أُلْهِمَ رُشْدَهُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ بَعْضُ أَئِمَّةِ الْمَالِكِيَّةِ مِنْهَا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ فِرَاقِهِ لِمَكَّةَ «وَاَللَّهِ إنَّكِ لَأَحَبُّ أَرْضِ اللَّهِ إلَيَّ وَلَوْلَا أَنِّي أُخْرِجْت مِنْك قَهْرًا مَا خَرَجَتْ» .

وَمِنْهَا «صَلَاةٌ وَاحِدَةٌ بِمَسْجِدِ مَكَّةَ أَفْضَلُ مِنْ مِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ بِمَسْجِدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَصَلَاةٌ وَاحِدَةٌ بِمَسْجِدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ بِالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى وَصَلَاةٌ بِالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ» وَقَدْ أَخَذْت مِنْ ذَلِكَ مَا حَرَّرْته فِي حَاشِيَةِ مَنَاسِكِ النَّوَوِيِّ مِنْ أَنَّ الصَّلَاةَ الْوَاحِدَةَ بِمَسْجِدِ مَكَّةَ أَفْضَلُ مِنْ مِائَةِ أَلْفِ أَلْفِ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا عَدَا مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ وَالْأَقْصَى وَنَصُّ كَثِيرِينَ عَلَى أَنَّهَا أَفْضَلُ مِنْ مِائَةِ أَلْفِ اسْتِرْوَاحٍ لِعَدَمِ اطِّلَاعِهِمْ عَلَى مَا ذَكَرْته مِنْ الْأَحَادِيثِ فَاسْتَفِدْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ مُهِمٌّ نَفِيسٌ وَفِيهِ أَبْلَغُ رَدٍّ عَلَى ذَلِكَ الْمُعَانِدِ بِزَعْمِهِ أَنَّ الْبِقَاعَ كُلَّهَا مُسْتَوِيَةٌ وَفِيهِ أَيْضًا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ سَبَبَ تَفْضِيلِ مَكَّةَ كَثْرَةُ مُضَاعَفَةِ الصَّلَاةِ فِيهَا عَلَى غَيْرِهَا بَلْ سَائِرِ الْعِبَادَاتِ فَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَوْ الْحَسَنِ أَنَّ «حَسَنَةَ الْحَرَمِ بِمِائَةِ أَلْفِ حَسَنَةٍ» أَيْ غَيْرِ الصَّلَاةِ لِمَا مَرَّ فِيهَا.

ثُمَّ الْخِلَافُ فِي غَيْرِ التُّرْبَةِ الَّتِي ضَمَّتْ أَعْضَاءَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَمَّا هِيَ فَهِيَ أَفْضَلُ مِنْ مَكَّةَ إجْمَاعًا بَلْ وَمِنْ السَّمَوَاتِ وَالْعَرْشِ وَالْكُرْسِيِّ نَعَمْ قَالَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ الْعَارِفِينَ أَعْنِي الشِّهَابَ السُّهْرَوَرْدِيَّ صَاحِبَ الْعَوَارِفِ إنَّ الطُّوفَانَ مَوَّجَ تِلْكَ التُّرْبَةَ الْمَكْرُمَةَ مِنْ مَحَلِّ الْكَعْبَةِ حَتَّى أَرْسَاهَا بِالْمَدِينَةِ فَهِيَ مِنْ جُمْلَةِ مَكَّةَ وَتَشْرِيفِ طِيبَةَ بَلْ وَتَحْرِيمُ حَرَمِهَا وَإِثْبَاتُ جَمِيعِ مَا لَهُ مِنْ الْخُصُوصِيَّاتِ إنَّمَا هُوَ بِسُؤَالِهِ صلى الله عليه وسلم لِرَبِّهِ فِي ذَلِكَ كَمَا فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ وَأَمَّا مَكَّةُ فَقِيلَ أَنَّ تَحْرِيمَ حَرَمِهَا إنَّمَا هُوَ بِسُؤَالِ إبْرَاهِيمَ صلى الله عليه وسلم فِي ذَلِكَ أَيْضًا وَالْأَصَحُّ

كَمَا بَيَّنْته فِي شَرْحِ الْعُبَابِ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ لَمْ تَزَلْ حَرَامًا مُعَظِّمَةً مِنْ يَوْمِ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَالْمَدَنُ مُفَضَّلَةٌ عَلَى الْقُرَى وَالْقُرَى عَلَى الْبَوَادِي مِنْ حَيْثُ ظُهُورِ الدِّينِ وَتَيَسُّرِ تَعْلِيمِهِ وَتَعَلُّمِهِ وَفِعْلُ الْعِبَادَاتِ فِي تِلْكَ أَكْثَرُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْأَئِمَّةُ فِي بَابِ اللَّقِيطِ وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ مُضَاعَفَةِ الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا فَلَا لِمَا مَرَّ أَنَّ مَا عَدَا مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَبَيْتِ الْمَقْدِسِ لَا تُضَاعَفُ فِيهِ الصَّلَاةُ نَعَمْ صَحَّ أَنَّ رَكْعَتَيْنِ فِي مَسْجِدِ قُبَاءَ بِعُمْرَةٍ وَلَا يُلْحَقُ بِالْمَسْجِدِ غَيْرُهُ مِمَّا ذُكِرَ نَعَمْ يَتَأَكَّدُ نَدْبُ احْتِرَامِ نَحْوِ الْمَدَارِسِ وَالرُّبُطِ وَمَحَالُّ الْعُلَمَاءِ وَالصُّلَحَاءِ وَكُلُّ مَحَلٍّ عُلِمَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم نَزَلَهُ أَوْ صَلَّى فِيهِ فَلَهُ فَضْلٌ عَظِيمٌ عَلَى غَيْرِهِ عَلَى مَمَرِّ الدَّهْرِ فَيَتَأَكَّدُ الِاعْتِنَاءُ بِتَحَرِّي نُزُولِهِ وَالتَّبَرُّكِ بِهِ كَمَا كَانَ ابْنُ عُمَرَ وَغَيْرُهُ رضي الله عنهم يَفْعَلُونَ ذَلِكَ بَعْدَ وَفَاتِهِ.

صلى الله عليه وسلم وَحِكْمَةُ وُجُوبِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ بَلْ وَأَنَّهُ الْحَجُّ كَمَا فِي الْحَدِيثِ أَيْ مُعْظَمُهُ مَا وَقَعَ فِيهَا مِنْ اجْتِمَاعِ آدَمَ صلى الله عليه وسلم وَحَوَّاءَ وَتَعَارُفِهِمَا بِهَا أَوْ مِنْ تَعْرِيفِ اللَّهِ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ إبْرَاهِيمَ صلى الله عليه وسلم الْمَنَاسِكَ بِهَا فَلِوُقُوعِ ذَلِكَ الِاجْتِمَاعِ الَّذِي هُوَ أَصْلُ وُجُودِ هَذَا الْعُنْصُرِ الْإِنْسَانِيِّ أَوْ ذَلِكَ التَّعْرِيفِ لِتِلْكَ الْعُلُومِ الَّتِي هِيَ أَصْلُ شَرَفِ ذَلِكَ النَّوْعِ أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ الْخُرُوجَ مِنْ حَرَمِهِ وَأَمْنِهِ إلَى الْوُقُوفِ بِذَلِكَ الْبَابِ الْجَلِيلِ لِيَبْتَهِلُوا إلَيْهِ فِي إمْدَادِ أَشْبَاحِهِمْ وَأَرْوَاحِهِمْ بِحَيَاتِهِ وَمَعَارِفِهِ الْأَزَلِيَّةِ الْأَبَدِيَّةِ الَّتِي مَا شُرِّفَ عُنْصُرُ الْإِنْسَانِ حَتَّى عَلَى عُنْصُرِ الْمَلَائِكَةِ إلَّا بِهَا فَلِهَذِهِ الْخُصُوصِيَّةِ الْعَظِيمَةِ وَالْمَوْهِبَةِ الْجَسِيمَةِ كَانَ الْوُقُوفُ بِمَحَلِّهَا أَعْظَمُ الْأَرْكَانِ لِلْحَجِّ وَكَانَ كَأَنَّهُ كُلُّ الْحَجِّ فَمِنْ ثَمَّ «قَالَ صلى الله عليه وسلم الْحَجُّ عَرَفَةَ» فَيَنْبَغِي لِلْوَاقِفِ بِهَا أَنْ يَسْتَحْضِرَ ذَلِكَ الِاجْتِمَاعَ وَذَلِكَ التَّعْرِيفَ لَعَلَّ أَنْ يَحْصُلَ لَهُ الِاجْتِمَاعُ الْأَكْبَرُ عَلَى رَبِّهِ الْمُسْتَلْزِمِ لَأَنْ يَمُدَّهُ بِعِظَمِ مَوَاهِبِهِ اللَّدُنِّيَّةِ وَمَعَارِفِهِ الْإِلَهِيَّةِ وَقُرْبِهِ الْأَقْدَسِ وَكَرْمِهِ الْأَنْفَسِ الْمُشَارِ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ عَزَّ قَائِلًا «لَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْته صِرْت سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرَجُلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا فَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ» .

وَأَمَّا مَبِيتُ مُزْدَلِفَةَ وَمِنًى وَرَمْيُ الْجِمَارِ فَحِكْمَتُهَا إحْيَاءُ مَحَالِّ الْأَنْبِيَاءِ وَمَآثِرِهِمْ أَلَا تَرَى «أَنَّ إبْرَاهِيمَ صلى الله عليه وسلم لَمَّا أَرَادَ ذَبْحَ وَلَدِهِ عِنْدَ مَحَلِّ

ص: 119

الْجَمْرَةِ الْأُولَى ظَهَرَ لَهُ إبْلِيسُ اللَّعِينُ لِيُثْنِيَ عَزْمَهُ عَنْ ذَلِكَ فَرَمَاهُ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ حَتَّى غَابَ عَنْهُ ثُمَّ انْتَقَلَ إبْرَاهِيمُ إلَى مَحَلِّ الْجَمْرَةِ الْوُسْطَى فَبَرَزَ لَهُ اللَّعِينُ وَرَمَاهُ بِسَبْعٍ إلَى أَنْ غَابَ فِي الْأَرْضِ أَيْضًا ثُمَّ انْتَقَلَ إلَى مَحَلِّ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ فَبَرَزَ لَهُ فَرَمَاهُ بِسَبْعٍ حَتَّى غَابَ فِي الْأَرْضِ أَيْضًا» كَمَا جَاءَ ذَلِكَ كُلُّهُ فِي حَدِيثٍ فَلِذَا وَجَبَ الرَّمْيَ إحْيَاءً لِتِلْكَ الْمَنْقَبَةِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي وَقَعَتْ لِأَبِينَا إبْرَاهِيمَ لِنَتَذَكَّرَهُ وَنُحْيِيَ مَعَالِمَهُ وَنَتَأَسَّى بِهِ فِي دَفْعِ الشَّيْطَانِ بِكُلِّ مَا نَقْدِرُ عَلَيْهِ حَتَّى لَوْ بَرَزَ لَنَا لَحَصَبْنَاهُ كَمَا حَصَبَهُ أَبُونَا.

وَمِنْ ثَمَّ يَنْبَغِي لِلْإِنْسَانِ عِنْدَ الرَّمْيِ أَنْ يَتَذَكَّرَ ذَلِكَ وَظَهَرَ بِمَا تَقَرَّرَ حِكْمَةُ وُجُوبِ رَمْيِ الْحِجَارَةِ دُونَ غَيْرِهَا وَالرَّدِّ عَلَى مَنْ قَالَ أَنَّ ذَلِكَ تَعَبُّدٌ وَنَظِيرُهُ وُجُوبِ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ إظْهَارًا لِتَعْظِيمِهِ وَلِإِحْيَاءِ شِعَارِ الْمَلَائِكَةِ فَإِنَّهُمْ طَافُوا بِهِ أَلْفَيْ سَنَةٍ قَبْلَ آدَمَ صلى الله عليه وسلم وَشِعَارُ الْأَنْبِيَاءِ فَإِنَّهُ مَا مِنْ نَبِيٍّ إلَّا حَجَّ الْبَيْتَ خِلَافًا لِمَنْ اسْتَثْنَى هُودًا وَصَالِحًا.

- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ - وَأَمَّا الْمَوَاقِيتُ فَحِكْمَتُهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّهُ قَدْ جَرَتْ الْعَادَةُ فِي مُلُوكِ الدُّنْيَا أَنَّهُ إذَا وَفَدَ عَلَيْهِمْ عَبِيدُهُمْ أَوْ عُصَاةُ عَبِيدهمْ يَكُونُونَ عَلَى غَايَة مِنْ الذِّلَّة وَالْخُضُوع وَالشُّعْثِ وَالْغَبَرَةِ رَجَاءً لِرِضَا سَادَاتِهِمْ إذَا رَأَوْهُمْ عَلَى ذَلِكَ الْحَالِ الَّذِي كُلُّ مَنْ رَأَى صَاحِبَهُ رَحِمَهُ فَأَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى قَاصِدِي الدُّخُولِ إلَى حَضْرَتِهِ الْعُظْمَى الَّتِي هِيَ أَعْظَمُ حَضَرَاتِ الدُّنْيَا إذْ اجْتِمَاعُ النَّاسِ بِعَرَفَةَ كَاجْتِمَاعِهِمْ فِي الْمَوْقِفِ وَدُخُولُهُمْ إلَى حَرَمِهِ وَأَمْنِهِ كَدُخُولِهِمْ إلَى الْجَنَّةِ أَنْ لَا يَأْتُوهَا إلَّا وَهُمْ غُبْرٌ شُعْثٌ عُرَى عَلَى غَايَةٍ مِنْ الْخُضُوعِ وَالذِّلَّةِ كَمَا يَبْعَثُهُمْ اللَّهُ فِي الْمَحْشَرِ كَذَلِكَ لِيَتَحَقَّقُوا بِمَا يُنِيلُهُمْ خَيْرَ مَا عِنْدَهُ أَنَّهُ عِنْدَ الْمُنْكَسِرَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ أَجْلِهِ وَإِنَّمَا كَانَ مِيقَاتُهُ صلى الله عليه وسلم أَبْعَدَهَا لِمَزِيدِ فَضْلِهِ وَلِيُنَاسَبَ إكْمَالَ الْأَكْبَرِ الَّذِي أُوتِيَهُ وَكَانَتْ الْجُحْفَةُ كَذَلِكَ لِأَنَّهَا الَّتِي تَلِيه بِخِلَافِ بَقِيَّةِ الْمَوَاقِيتِ فَلِذَا اسْتَوَتْ وَهَذَا الْمَحَلُّ يَحْتَاجُ إلَى مَزِيدِ بَسْطٍ لَكِنْ ضَاقَ الْقِرْطَاسُ عَنْهُ وَقَدْ أَشَرْت إلَى أُصُولِهِ بِمَا لَمْ أَرَ مَنْ سَبَقَنِي إلَيْهِ وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ

(وَسُئِلَ) نَفَعَ اللَّهُ بِعُلُومِهِ عَنْ شَخْصٍ أَحْرَمَ إحْرَامًا مُطْلَقًا ثُمَّ أَفْسَدَهُ وَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُعَيِّنَ شَيْئًا وَأَرَادَ الْوَرَثَةُ أَنْ يَقْضُوا عَنْهُ مَا أَفْسَدَهُ أَيَقْضُونَ عَنْهُ حَجًّا وَعُمْرَةً وَلَا تَبْرَأُ ذِمَّتُهُ بِغَيْرِ هَذَا لِأَنَّهُ اشْتَغَلَتْ ذِمَّتُهُ بِإِحْرَامٍ وَهِيَ مُحْتَمِلَةٌ لَهُمَا فَلَا يَبْرَأُ إلَّا بِقَضَائِهِمَا كَمَا لَوْ شَكَّ مَنْ عَلَيْهِ خَمْسُ دَرَاهِمَ وَشَاةٍ هَلْ أُخْرِجُ أَحَدَهُمَا أَمْ لَا فَإِنَّهُ لَا تَبْرَأُ ذِمَّتُهُ إلَّا بِقَضَائِهِمَا أَمْ يَقْضُونَ عَنْهُ أَحَدَهُمَا وَتَبْرَأُ ذِمَّتُهُ بِهِ لِأَنَّهُ اشْتَغَلَتْ ذِمَّتُهُ بِإِحْرَامٍ وَهِيَ مُحْتَمِلَةٌ لِأَحَدِهِمَا وَإِذَا فَعَلُوا أَحَدَهُمَا كَانَ الْآخَرُ كَالْمَشْكُوكِ وَالْمَشْكُوكُ كَالْمَعْدُومِ كَمَا لَوْ شَكَّ هَلْ عَلَيْهِ خَمْسُ دَرَاهِمَ أَوْ شَاةٍ فَقَضَى أَحَدُهُمَا فَإِنَّهُ تَبْرَأُ ذِمَّتُهُ بِهِ.

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ أَمَّا الْجَوَابُ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى مُقَدَّمَةٍ غَفَلَ عَنْهَا السَّائِلُ نَفَعَ اللَّهُ بِهِ وَهِيَ أَنَّ إفْسَادَ الْإِحْرَامِ الْمُطْلَقِ لَا يَقْتَضِي تَعْيِينَهُ بَلْ هُوَ بَعْدَ الْإِفْسَادِ بَاقٍ عَلَى إطْلَاقِهِ فَإِنْ عَيَّنَهُ بَعْدَ الْإِفْسَادِ لِحَجٍّ كَانَ مُفْسِدًا لَهُ أَوْ لِعُمْرَةٍ كَانَ مُفْسِدًا لَهَا أَوْ لَهُمَا وَإِنَّ الْوَارِثَ هَلْ يَقُومُ مَقَامَهُ مُورِثُهُ فِي التَّعْيِينِ أَخْذًا بِعُمُومِ قَوْلِهِمْ أَنَّهُ خَلِيفَتُهُ أَوَّلًا يَقُومُ مَقَامَهُ فِي هَذَا لِأَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ النِّيَّاتِ وَهِيَ لَا تَقْبَلُ النِّيَابَةَ وَاَلَّذِي يَتَّجِهُ تَرْجِيحُهُ هُوَ الثَّانِي فَقَدْ صَرَّحُوا بِنَظِيرِهِ فِي قَوْلِهِمْ لَوْ أَسْلَمَ عَلَى أَكْثَرِ مِنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ وَمَاتَ قَبْلَ اخْتِيَارِ وَاحِدَةٍ أَوْ أَكْثَرِ مِنْهُنَّ لَمْ يَقُمْ وَارِثُهُ مَقَامَهُ فِي ذَلِكَ.

وَقَوْلُهُمْ لَوْ قَالَ لِزَوْجَتَيْهِ إحْدَاكُمَا طَالِقٌ وَلَمْ يَقْصِدْ مُعَيَّنَةً مِنْهُمَا وَمَاتَ قَبْلَ التَّعْيِينِ لَمْ يُعَيَّنْ وَارِثُهُ كَمَا صَحَّحَهُ فِي الْمِنْهَاجِ وَتَصْحِيحِ التَّنْبِيهِ خِلَافًا لِمَا اقْتَضَاهُ كَلَامُ الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا وَتَبِعَهُ الْحَاوِي مِنْ أَنَّهُ يَقُومُ مَقَامَهُ فِيهِ كَالْبَيَانِ وَالْفَرْقُ عَلَى الْأَوَّلِ الْمُعْتَمِدِ كَمَا جَزَمَ بِهِ صَاحِبُ الْإِرْشَادِ وَغَيْرُهُ أَنَّ الْبَيَانَ إخْبَارٌ يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَيْهِ بِخَبَرٍ أَوْ قَرِينَةٍ وَالتَّعَيُّنُ اخْتِيَارٌ يَصْدُرُ عَنْ شَهْوَةٍ فَلَا يَخْلُفُهُ الْوَارِثُ فِيهِ وَيُؤَيِّدُهُ مَا مَرَّ فِيمَنْ أَسْلَمَ عَلَى أَكْثَرِ مِنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ.

وَوَجْهُ الْمُشَابَهَةِ بَيْنَ مَسْأَلَتِنَا وَهَذَيْنِ أَنَّ التَّعْيِينَ فِيهَا اخْتِيَارٌ يُصْدَرُ عَنْ شَهُوّهُ أَيْضًا لِأَنَّ مَنْ أَحْرَمَ إحْرَامًا مُطْلَقًا يُفَوَّضُ التَّعْيِينُ إلَى اخْتِيَارِهِ وَشَهْوَتِهِ فَهُمَا عَيْنُهُ مِنْهُمَا لَزِمَهُ الْجَرْيُ عَلَى أَحْكَامِهِ فَإِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ وَأَنَّ الْوَارِثَ لَا يَقُومُ مَقَامَ الْمُوَرِّثِ فِي تَعْيِينِ ذَلِكَ الْإِحْرَامِ

ص: 120

الْمُطْلَقِ لَمْ يَتَأَتَّ مَا قَالَهُ السَّائِلُ نَفَعَ اللَّهُ بِهِ لِأَنَّهُ إذَا مَاتَ قَبْلَ التَّعْيِينِ كَانَ مُفْسِدًا لِإِحْرَامِ مُطْلَقٍ وَالْإِحْرَامُ الْمُطْلَقُ الَّذِي لَا يُمْكِنُ تَعْيِينُهُ يَتَعَذَّرُ بِهِ الْإِتْيَانُ فَلَا يَلْزَمُ الْوَارِثَ قَضَاءٌ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لِتَعْذِرْهُ لِمَا تَقَرَّرَ مِنْ أَنَّ الَّذِي فَسَدَ إحْرَامٌ مُطْلَقٌ وَأَنَّهُ لَا بُدَّ بَعْدِ الْإِفْسَادِ مِنْ التَّعْيِينِ حَتَّى يَقَعَ الْقَضَاءُ لِمَاهِيَّتِه وَأَنَّ التَّعْيِينَ مِنْ الْوَارِثِ مُتَعَذِّرٌ وَأَنَّهُ إذَا تَعَذَّرَ التَّعْيِينُ تَعَذَّرَ الْقَضَاءُ لِتَعْذِرْ قَضَاءِ الْإِحْرَامِ الْمُطْلَقِ.

هَذَا كُلُّهُ بِنَاءً عَلَى الِاحْتِمَالِ الثَّانِي وَأَمَّا عَلَى الْأَوَّلِ وَهُوَ الْوَارِثُ يَقُومُ مَقَامَهُ فِي التَّعْيِينِ فَلَا يَتَأَتَّى مَا ذَكَرَهُ السَّائِلَ أَيْضًا لِأَنَّا إذَا فَوَّضْنَا التَّعْيِينَ إلَى الْوَارِثِ فَإِنَّ عَيَّنَ حَجًّا لَزِمَهُ قَضَاؤُهُ أَوْ عُمْرَةً لَزِمَهُ قَضَاؤُهَا أَوْ حَجًّا وَعُمْرَةً لَزِمَهُ قَضَاؤُهُمَا كَمَا أَنَّ الْمُوَرَّثَ الْمُفْسِدَ يَلْزَمُهُ قَضَاءُ مَا عَيَّنَهُ دُونَ غَيْرِهِ فَلَيْسَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ نَظِيرَةُ مَا ذَكَرَهُ السَّائِلُ فِيمَنْ اشْتَغَلَتْ ذِمَّتُهُ بِخَمْسِ دَرَاهِمَ وَشَاةٍ ثُمَّ شَكَّ فِي إخْرَاجِ أَحَدِهِمَا لِتَيَقُّنِ شَغْلِ ذِمَّتِهِ فِي هَذِهِ بِشَيْئَيْنِ مُعَيَّنَيْنِ ثُمَّ شَكَّ فِي سُقُوطِ أَحَدِهِمَا وَالْأَصْلُ بَقَاؤُهُ وَأَمَّا فِي مَسْأَلَتِنَا فَذِمَّتُهُ لَمْ تَشْتَغِلْ إلَّا بِإِحْرَامٍ مُطْلَقٍ فَإِنْ قُلْنَا يَتَعَذَّرُ تَعْيِينُهُ عَلَى الْوَارِثِ فَوَاضِحٌ أَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ الْقَضَاءُ فِيهِ فَلَا يَجِبُ وَإِنْ قُلْنَا بِعَدَمِ تَعَذُّرِهِ عَلَيْهِ فَهُوَ يُعَيِّنُ مَا شَاءَ وَيَقْضِيه.

(وَسُئِلَ) رضي الله عنه عَنْ شَخْصٍ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ ثُمَّ أَدْخَلَ عَلَيْهِ الْعُمْرَةَ قَالَ أَصْحَابُنَا الْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ هَذَا الْإِدْخَالُ وَلَا يَصِيرُ قَارِنًا مَعَ أَنَّهُ الْوَاقِعُ مِنْ فِعْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّتِهِ وَقَالَ أَصْحَابُنَا رحمهم الله أَنَّهُ مِنْ خَصَائِصِهِ مَا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ مِنْ خَصَائِصِهِ؟

(فَأَجَابَ) نَفَعَ اللَّهُ بِهِ بِقَوْلِهِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم إنَّمَا أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ لِحَاجَةٍ هِيَ إعْلَامُهُ لِمُنْكَرِي الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ بِجَوَازِهَا فِيهَا فَآثَرَ صلى الله عليه وسلم الْإِحْرَامَ بِالْحَجِّ أَوَّلًا لِفَضْلِهِ ثُمَّ ظَهَرَتْ لَهُ الْمَصْلَحَةُ بِإِدْخَالِ الْعُمْرَةِ عَلَيْهِ لِيُبَيِّنَ لِأُمَّتِهِ فِي هَذَا الْمَجْمَعِ الْعَظِيمِ الَّذِي لَمْ يَجْتَمِعْ لَهُ نَظِيرُهُ جَوَازَهَا رَدًّا لِمَا كَانَ عَلَيْهِ الْجَاهِلِيَّةُ مِنْ عَدِّهَا فِيهَا مِنْ أَفْجَرِ الْفُجُورِ وَإِنْ كَانَ بَيَّنَهُ قَبْلَ ذَلِكَ وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذِهِ الْحَاجَةَ لَا تُوجَدُ فِي غَيْرِهِ فَهَذَا هُوَ سَبَبُ الْخُصُوصِيَّةِ وَدَلِيلُهَا فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ حُجَّةٌ لِمُجِيزِ إدْخَالِ الْعُمْرَةِ عَلَى الْحَجِّ لِأَنَّهَا وَاقِعَةٌ فِعْلِيَّةٌ وَهِيَ إذَا تَطَرَّقَ إلَيْهَا الِاحْتِمَال سَقَطَ الِاسْتِدْلَال بِهَا فَمَا بَالُك بِهَذِهِ الَّتِي قَامَتْ الْأَدِلَّةُ الصَّرِيحَةُ عَلَى أَنَّ الْإِحْرَامَ بِالْعُمْرَةِ إنَّمَا كَانَ لِأَجْلِ هَذَا الْغَرَضِ فَظَهَرَ بِذَلِكَ دَلِيلُ الْمَذْهَبِ وَأَنَّهُ لَا غُبَارَ عَلَيْهِ.

(وَسُئِلَ) رضي الله عنه وَأَدَامَ النَّفْعَ بِهِ عَمَّنْ أَحْرَمَ وَبِيَدِهِ صَيْدٌ مَرْهُونٌ أَوْ أَحْرَمَ الْوَلِيُّ عَنْ الصَّبِيِّ وَبِمِلْكِ الصَّبِيِّ صَيْدٌ مَا الْحُكْمُ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ لَا يَزُولُ مِلِكُهُ عَنْ الصَّيْدِ الَّذِي أَحْرَمَ وَهُوَ مَرْهُونٌ كَمَا ذَكَرْته فِي شَرْح الْعُبَابِ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ بِهِ قَالَ الزَّرْكَشِيُّ وَلَوْ كَانَ فِي مِلْكِ الصَّبِيِّ صَيْدٌ فَهَلْ يَلْزَمُ الْوَلِيَّ إرْسَالُهُ وَيَغْرَمُ قِيمَتَهُ كَمَا يَغْرَمُ النَّفَقَةَ الزَّائِدَةَ بِالسَّفَرِ فِيهِ احْتِمَالَانِ اهـ وَاَلَّذِي يُتَّجَهُ تَرْجِيحُهُ مِنْهُمَا أَنَّهُ يَلْزَمُهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ الَّذِي وَرَّطَهُ فِيهِ وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

(وَسُئِلَ) مَتَّعَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ بِحَيَاتِهِ عَمَّنْ وَكَّلَ آخَرَ لِيَسْتَأْجِرَ رَجُلًا لِيَحُجَّ عَنْ مَيِّتِ الْمُوَكِّلِ فَاسْتَأْجَرَ رَجُلًا بِأُجْرَةٍ مَعْلُومَةٍ وَحَجَّ الْأَجِيرُ ثُمَّ طَلَبَ أُجْرَتَهُ فَقَالَ الْمُوَكِّلُ أَنَا عَزَلْت الْوَكِيلَ قَبْلَ أَنْ يَسْتَأْجِرَ وَمَعَهُ بَيِّنَةٌ فَهَلْ يَلْزَمُهُ تَسْلِيمُ الْأُجْرَةِ لِكَوْنِهِ أَلْجَأَ الْوَكِيلَ إلَى ذَلِكَ وَلَمْ يُعْلِمْهُ أَوْ لَا يَلْزَمُهُ وَيَلْزَمُ الْوَكِيلَ.

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ أَمَّا الْوَكِيلُ فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ إذْ لَا تَقْصِيرَ مِنْهُ وَلَا تَعْزِيرَ وَأَمَّا الْمُوَكِّلُ فَإِنْ لَمْ يَقُمْ بَيِّنَةٍ عَادِلَةٍ عَلَى الْعَزْلِ لَزِمَهُ الْمُسَمَّى فِي عَقْدِ الْإِجَارَةِ وَإِنْ أَقَامَ بَيِّنَةً عَادِلَةً أَنَّهُ عَزَلَ وَكِيلَهُ قَبْلَ الِاسْتِئْجَارِ بَانَ بُطْلَانُ الْإِجَارَةِ لَكِنَّهُ قَدْ غَرَّ الْأَجِيرَ وَوَقَعَ الْحَجُّ لِلْمَيِّتِ وَإِنْ فَسَدَتْ الْإِجَارَةُ فَحِينَئِذٍ يَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ عَلَى الْمُوَكِّلِ لِلْأَجِيرِ أُجْرَةَ الْمِثْلِ قِيَاسًا أَوْلَوِيًّا عَلَى قَوْلِهِمْ إذَا لَمْ نُجَوِّزْ الِاسْتِئْجَارَ لِلتَّطَوُّعِ وَقَعَ الْحَجُّ عَنْ الْأَجِيرِ وَلَمْ يَسْتَحِقَّ الْمُسَمَّى بَلْ أُجْرَةَ الْمِثْلِ وَيُوَجِّهُ بِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ غَيْرَ مُضْطَرٍّ لِلِاسْتِئْجَارِ بَلْ يَحْرُمُ عَلَيْهِ ذَلِكَ إنْ عَلِمَ امْتِنَاعَهُ لِلتَّطَوُّعِ فَلَمْ يُعَارِضْ تَعْزِيرَهُ لِلْأَجِيرِ شَيْءٌ فَلَزِمَهُ لَهُ مُقَابِلُ مَا أَتْلَفَهُ مِنْ مَنَافِعِهِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ وَهُوَ أُجْرَةُ الْمِثْلِ.

فَكَذَا فِي مَسْأَلَتِنَا الْمُوَكِّلُ قَدْ غَرَّ الْأَجِيرَ وَلَمْ يُعَارِضْ تَغْرِيرَهُ شَيْءٌ فَيَلْزَمهُ لَهُ مُقَابِلُ مَنَافِعِهِ الَّتِي أَتْلَفَهَا وَهُوَ أُجْرَةُ الْمِثْلِ عَلَى أَنَّ الْحَجَّ فِي مَسْأَلَتِنَا وَقَعَ لِمُوَرِّثِ الْمُوَكِّلِ وَفِي صُورَةِ الْأَصْحَابِ وَقَعَ لِلْأَجِيرِ نَفْسِهِ

ص: 121

فَإِذَا أَوْجَبُوا لَهُ مَعَ ذَلِكَ أُجْرَةَ الْمِثْلِ كَمَا قُلْنَا أَوْ نَحْوَهُ فَأَوْلَى أَنْ يُوجِبُوهَا لَهُ هُنَا فِي صُورَةِ السُّؤَالِ وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

(وَسُئِلَ) أَدَامَ اللَّهُ النَّفْعَ بِعُلُومِهِ عَنْ قَوْلِ الدَّمِيرِيِّ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ أَنْ يُهَاجِرَ يَحُجُّ كُلَّ سَنَةٍ اهـ مَا مُرَادُهُ فَإِنَّ الْحَجَّ فُرِضَ سَنَةَ خَمْسٍ وَلَمْ يَحُجَّ صلى الله عليه وسلم إلَّا سَنَةَ عَشْرٍ حَجَّةَ الْوَدَاعِ وَاعْتَمَرَ أَرْبَعًا لَكِنْ هَلْ هَذِهِ الْعُمَرُ الْأَرْبَعُ قَبْلَ الْفَتْحِ أَوْ بَعْدَهُ.

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ الْمُرَادُ بِالْحَجِّ فِي هَذِهِ الْمَقَالَةِ عَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِهَا صُورَتُهُ الَّتِي كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ مُسْتَمِرِّينَ عَلَيْهَا إلَى أَنْ فُرِضَ الْحَجُّ سَنَةَ خَمْسٍ أَوْ سِتٍّ أَوْ ثَمَانٍ أَوْ تِسْعٍ أَقْوَالٌ بَلْ مَا مِنْ سَنَةٍ مِنْ سِنِي الْهِجْرَةِ إلَّا قِيلَ أَنَّ الْحَجَّ فُرِضَ فِيهَا وَفِي سَنَةِ ثَمَانٍ أُذِنَ صلى الله عليه وسلم لِأَمِيرِ مَكَّةَ عَتَّابِ بْنِ أَسِيدٍ رضي الله عنه فِي الْحَجِّ بِالنَّاسِ فَحَجَّ بِهِمْ وَفِي السَّنَةِ التَّاسِعَةِ أُذِنَ صلى الله عليه وسلم لِأَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه أَنْ يَحُجَّ بِالنَّاسِ فَحَجَّ بِهِمْ ثُمَّ بَعَثَ فِي أَثَرِهِ عَلِيًّا كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ لِيُؤَذِّنَ بِسُورَةٍ بَرَاءَةٍ فِي الْمَوْسِمِ لِأَنَّ الْعَادَةَ عِنْدَ الْعَرَبِ أَنَّ نَبْذَ الْعُهُودِ وَنَحْوَهُ لَا يَبْلُغُهُ عَنْ الْكَبِيرِ إلَّا رَجُلٌ مِنْ أَقَارِبِهِ وَجِلْدَتِهِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ فَهَذَا هُوَ حِكْمَةُ بَعْثِ عَلِيٍّ رضي الله عنه.

وَلَمْ يَكُنْ لِعَلِيٍّ دَخْلٌ فِي الْإِمَارَةِ تِلْكَ السَّنَةِ ثُمَّ حَجَّ صلى الله عليه وسلم بِنَفْسِهِ حَجَّةَ الْوَدَاعِ وَكَانَ مَعَهُ أَكْثَرُ أَصْحَابِهِ وَكَانَتْ عِدَّتُهُمْ أَكْثَرُ مِنْ مِائَةِ أَلْفٍ فِي الْأَشْهُرِ وَفِيهَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ وَاقِفٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِعَرَفَةَ بَعْدَ الْعَصْرِ قَوْله تَعَالَى {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة: 3] فَاسْتَشْعَرَ صلى الله عليه وسلم مِنْ ذَلِكَ قُرْبَ أَجْلِهِ إذْ الْكَمَالُ عَلَامَةٌ عَلَى الزَّوَالِ فَوَدَّعَ أَصْحَابَهُ فِي خُطْبَتِهِ بِمِنًى وَقَالَ لَهُمْ «بَلِّغُوا عَنِّي فَلَعَلِّي لَا أَلْقَاكُمْ بَعْدَ هَذَا الْعَامِ» وَكَانَ كَذَلِكَ وَلَا زَالَ صلى الله عليه وسلم يُشِيرُ إلَيْهِمْ إلَى أَنْ وَصَلَ وَهُوَ رَاجِعٌ لِلْمَدِينَةِ إلَى غَدِيرِ خُمٍّ قُرْبَ رَابِغٍ فَأَمَرَ بِجَمْعِهِمْ ثُمَّ خَطَبَهُمْ وَوَصَّاهُمْ بِالِاسْتِمْسَاكِ بِالْقُرْآنِ وَبِأَهْلِ بَيْتِهِ.

وَقَالَ فِي حَقِّ عَلِيٍّ «مَنْ كُنْت مَوْلَاهُ فِعْلِيٌّ مَوْلَاهُ وَقَالَ لَهُ أَنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى إلَّا أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي» ثُمَّ لَمَّا وَصَلَ الْمَدِينَةَ أَقَامَ بِهَا شَهْرَ الْمُحْرِمِ وَشَهْرَ صَفَرٍ فَوَعَكَ فِي أَوَاخِرِهِ فَرَقَى الْمِنْبَرَ وَخَطَبَ وَأَعْلَمَ النَّاسَ أَنَّ اللَّهَ خَيَّرَهُ بَيْنَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ فَاخْتَارَ مَا عِنْدَهُ لَكِنْ لَمْ يَفْهَمْ مِنْ الصَّحَابَةُ الْإِشَارَةَ إلَى ذَلِكَ إلَّا خَلِيفَتُهُ الْأَكْبَرُ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رضي الله عنه وَكَرَّمَ وَجْهَهُ فَحِينَئِذٍ أَثْنَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَأَعْلَمَهُمْ بِغُرَرِ فَضَائِلِهِ وَأَشَارَ لَهُمْ إلَى أَنَّهُ الْخَلِيفَةُ الْحَقُّ بَعْدَهُ ثُمَّ أَكَّدَ ذَلِكَ فَأَمَرَ بِسَدِّ الْخَوْخِ النَّافِذَةِ لِلْمَسْجِدِ إلَّا خَوْخَةَ أَبِي بَكْرٍ فَسُدَّتْ كُلُّهَا حَتَّى خَوْخَةَ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ.

ثُمَّ أَكَّدَ ذَلِكَ وَزَادَ فِي تَأْكِيدِهِ إلَى أَنْ قَرَّبَ مِنْ التَّصْرِيحِ بِتَقْدِيمِهِ لِإِمَامَةِ الصَّلَاةِ بَعْدَ أَنْ حَاوَلَتْهُ عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ رضي الله عنهما مِرَارًا عَلَى تَقْدِيمِ غَيْرِهِ كَعُمَرَ رضي الله عنه فَلَمْ يَلْتَفِتْ صلى الله عليه وسلم لِذَلِكَ بَلْ زَجَرَهُمَا وَعَنَّفَهُمَا أَعْنِي عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ رضي الله عنهما ثُمَّ قَالَ مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ ثُمَّ بَعْدَ وَفَاتِهِ صلى الله عليه وسلم أَجْمَعَ الصَّحَابَةُ حَتَّى عَلِيٌّ وَأَهْلُ الْبَيْتِ عَلَى خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه.

وَأَمَّا عُمَرُهُ صلى الله عليه وسلم فَهِيَ سِتٌّ عُمْرَةٌ فِي رَجَبَ وَأُخْرَى فِي شَوَّالٍ وَأَرْبَعَةٌ فِي ذِي الْقَعْدَةِ أُولَاهَا سَنَةَ سِتٍّ وَهِيَ عُمْرَةُ الْحُدَيْبِيَةِ فَصُدَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْبَيْتِ لِلصُّلْحِ الَّذِي وَقَعَ فِيهَا فَتَحَلَّلَ وَرَجَعَ ثُمَّ عَادَ فِي الْقَعْدَةِ وَأَحْرَمَ فِي بِالْعُمْرَةِ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ وَمَنْ قَالَ كَالرَّافِعِيِّ أَنَّهُ أَحْرَمَ بِهَذِهِ مِنْ الْجِعْرَانَةِ فَقَدْ غَلِطَ ثُمَّ جَاءَ وَدَخَلَ مَكَّةَ وَتُسَمَّى عُمْرَةُ الْقَضَاءِ وَالْقَضِيَّةُ وَلَمَّا قَضَوْا أَفْعَالَ عُمْرَتِهِمْ خَرَجُوا مِنْهَا بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ثَالِثُهَا عُمْرَةُ الْجِعْرَانَةِ سَنَةَ ثَمَانٍ فَإِنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَذِنَ لَهُ فِي فَتْحِ مَكَّةَ فَفَتَحَهَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ فِي رَمَضَانَ ثُمَّ ذَهَبَ إلَى غَزْوَةِ حُنَيْنٍ وَالطَّائِفِ فَنَصَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَجَعَ بِغَنَائِمِهِمْ إلَى الْجِعْرَانَةِ وَأَقَامَ بِهَا ثُمَّ خَرَجَ مِنْهَا لَيْلًا مُحْرِمًا بِالْعُمْرَةِ وَرَابِعُهَا الْعُمْرَةُ الَّتِي أَدْخَلَهَا عَلَى حَجِّهِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَهُوَ مِنْ خُصُوصِيَّاتِهِ كَمَا قُرِّرَ فِي مَحَلِّهِ وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

(وَسُئِلَ) رضي الله عنه بِمَا لَفْظُهُ قَالُوا فِي بَابِ الْحَجِّ وَأَهْمَلَ

ص: 122

بَعْضُهُمْ شَرْطًا خَامِسًا لِلْحَجِّ وَهُوَ سَعَةُ الْوَقْتِ لِتَمَكُّنِهِ مِنْ السَّيْرِ مَا الْمُرَادُ بِهَذَا الْوَقْتِ هَلْ هُوَ مُدَّةُ السَّنَةِ بِأَنْ يَبْقَى مِنْهَا قَدْرَ مَا يَصِلُ بِهِ إلَى مَكَّةَ فَيُشَكَّل بِمَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ فَوْقَ سَنَةٍ أَوْ فَوْقَ السَّنَةِ وَالْوَقْتُ وَاسِعٌ وَقَالَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَبْقَى مِنْ الزَّمَانِ عِنْدَ وُجُودِ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ مَا يُمْكِنُ فِيهِ السَّيْرُ بِأَنْ لَا يَحْتَاجَ أَنْ يَقْطَعَ كُلَّ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ مُرَحِّلَةٍ مَا الْمُرَادُ بِهَذَا الزَّمَانِ وَلَا يَخْفَى الْإِشْكَالُ السَّابِقُ.

(فَأَجَابَ) بِأَنَّهُ لَا إشْكَالَ فِي ذَلِكَ لِوُضُوحِ الْمُرَادِ مِنْهُ وَهُوَ أَنَّا نَعْتَبِرُ فِي وُجُوبِ الْحَجِّ حَتَّى تَجِبَ الْمُبَاشَرَةُ وَيَسْتَقِرُّ فِي الذِّمَّةِ وَيُقْضَى عَنْهُ بَعْدَ مَوْتِهِ أَنْ يَجِدَ الزَّادَ وَالرَّاحِلَةَ بِشُرُوطِهِمَا وَقْتَ خُرُوجِ قَافِلَةِ أَهْلِ بَلَدِهِ حَقِيقَةً أَوْ تَقْدِيرًا وَقَدْ بَقِيَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ إدْرَاكِ وُقُوفِ عَرَفَةَ زَمَنَ يَصِلُونَ فِيهِ لَوْ سَارُوا السَّيْرَ الْمُعْتَادَ بِحَيْثُ لَا يَقْطَعُونَ أَكْثَرَ مِنْ مَرْحَلَةٍ كُلَّ يَوْمٍ فَمِنْ بَيْنِ بَلَدِهِ وَمَكَّةَ مَسَافَةُ شَهْرٍ أَوْ سَنَةٍ أَوْ عَشْرِ سِنِينَ أَوْ أَكْثَرِ أَوْ أَقَلَّ يُعْتَبَرُ فِي وُجُوبِ الْحَجِّ عَلَيْهِ أَنْ يُتَمَكَّنَ مِنْهُ بِأَنْ تُوجَدَ فِيهِ شُرُوطُهُ أَوَّلُ تِلْكَ الْمَسَافَةِ فَإِذَا كَانَ بَيْنَهُمَا ثَلَاثُ سِنِينَ مَثَلًا وَتَمَكَّنَ فِي زَمَنٍ ثُمَّ مَضَى عَلَيْهِ وَهُوَ مُتَمَكِّنٌ ثَلَاثَ سِنِينَ ثُمَّ مَاتَ حَكَمْنَا بِوُجُوبِ الْحَجِّ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَوْ سَافَرَ أَوَّلَ مَا تَمَكَّنَ أَدْرَكَ الْحَجَّ.

فَلَمَّا تَرَكَ إلَى أَنْ مَاتَ وَلَمْ يَحُجَّ عَلِمْنَا أَنَّهُ مُقَصِّرٌ وَحَكَمْنَا بِفِسْقِهِ فِي هَذَا الْمِثَالِ مِنْ أَوَّلِ أَوْقَاتِ التَّمَكُّنِ إلَى مَوْتِهِ لِأَنَّ الْفَرْضَ أَنَّهُ لَمْ يَحْصُلُ لَهُ تَمَكُّنٌ قَبْلَ ذَلِكَ فَشَمَلَهُ قَوْلُهُمْ يُحْكَمُ بِفِسْقِهِ مِنْ آخِرِ سِنِي التَّمَكُّنِ أَيْ مِنْ آخِرِ أَوْقَاتِهِ مِنْهَا وَالثَّلَاثُ فِي مِثَالِنَا بِمَنْزِلَةِ أَوَاخِرِ شَوَّالٍ بِالنِّسْبَةِ لِأَهْلِ مِصْرَ وَنَحْوِهِمْ فَاتَّضَحَ الْجَوَابُ عَنْ جَمِيعِ مَا فِي السُّؤَالِ وَأَنَّهُ لَا إشْكَالَ فِيهِ بِوَجْهٍ.

(وَسُئِلَ) نَفَعَ اللَّهُ بِهِ عَنْ مَكِّيٍّ خَرَجَ لِزِيَارَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَزَارَ ثُمَّ وَصَلَ ذَا الْحُلَيْفَةِ فَهَلْ يَلْزَمُهُ الْإِحْرَامُ مِنْهَا لِأَنَّ مِنْ الْغَالِبِ أَنَّ الْمَكِّيَّ الْمُقِيمَ بِمَكَّةَ يَحُجُّ كُلَّ سَنَةٍ فَكَانَ كَقَاصِدِ مَكَّةَ لِلنُّسُكِ أَوْ لَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ.

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ لَا بُدَّ مِنْهُ لِأَنَّهُ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ كَلَامُ النَّوَوِيِّ فِي مَجْمُوعِهِ فِي مَوَاضِعَ حَيْثُ قَالَ إذَا حَجَّ وَاعْتَمَرَ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ وَعُمْرَتَهُ ثُمَّ أَرَادَ دُخُولَ مَكَّةَ لِحَاجَةٍ لَا تَتَكَرَّرُ كَزِيَارَةِ أَوْ رِسَالَةٍ أَوْ كَانَ مَكِّيًّا سَافَرَ فَأَرَادَ دُخُولَهَا عَائِدًا مِنْ سَفَرٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْهُ الْإِحْرَامُ بِحَجٍّ وَلَا عُمْرَةٍ وَكَذَا لَوْ أَرَادَ دُخُولَ الْحَرَمِ دُونَ مَكَّةَ بِلَا خِلَافٍ كَمَا صَرَّحَ بِهِ جَمِيعُ الْأَصْحَابِ اهـ مُلَخَّصًا وَقَالَ أَيْضًا لَوْ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ مَرِيدًا حَجَّ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ وَأَقَامَ بِمَكَّةَ وَأَحْرَمَ مِنْهَا فِيهَا فَفِي وُجُوبِ الدَّمِ وَجْهَانِ أَوْ حَجَّ الْأُولَى فَحَجَّ الثَّانِيَةَ فَلَا دَمَ لِأَنَّهُ إنَّمَا تَجِبُ إذَا حَجَّ مِنْ عَامِهِ اهـ.

وَقَالَ أَيْضًا وَلَوْ مَرَّ مُسْلِمٌ بِالْمِيقَاتِ مَرِيدًا لِلْحَجِّ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ فَفِي وُجُوبِ الدَّمِ الْوَجْهَانِ كَالْكَافِرِ اهـ وَالْمُرَجَّحُ فِي الْكَافِرِ لُزُومُ الدَّمِ فَيُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّ الْأَرْجَحَ مِنْ الْوَجْهَيْنِ الْمُطْلَقَيْنِ فِي الْعِبَارَةِ الثَّانِيَةِ لُزُومُ الدَّمِ وَالْمُسَاوَاةِ فِي الْخِلَافِ وَإِنْ لَمْ يَلْزَمْ مِنْهَا الِاتِّحَادُ فِي التَّرْجِيحِ لَكِنَّهَا ظَاهِرَةٌ فِيهِ إذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ فَيُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّ مَنْ مَرَّ بِالْمِيقَاتِ مَرِيدًا نُسُكًا وَلَوْ فِي سَنَةٍ آتِيَةٌ يَلْزَمُهُ الْإِحْرَامُ بِنُسُكٍ مِنْ الْمِيقَاتِ إمَّا حَجٌّ إنْ كَانَ فِي وَقْتِهِ أَوْ عُمْرَةٌ وَإِنَّمَا لَزِمَهُ الْإِحْرَامُ بِمَا لَمْ يَنْوِهِ لِأَنَّهُ بِإِرَادَتِهِ لِلنُّسُكِ الْآتِي عِنْدَ مُجَاوَزَةٍ الْمِيقَاتِ صَارَ قَاصِدًا الْحَرَمَ بِمَا وَضَعَ لَهُ فَلَزِمَهُ أَنْ لَا يُجَاوِزَ حَرِيمَهُ وَهُوَ الْمِيقَاتُ إلَّا بِالتَّلَبُّسِ بِمَا نَوَاهُ إنْ أَمْكَنَ وَإِلَّا فَبِنَظِيرِهِ رِعَايَةً لِتَعْظِيمِ الْحَرَمِ الَّذِي وَجَبَ الْإِحْرَامُ مِنْ الْمِيقَاتِ لِأَجْلِهِ مَا أَمْكَنَ وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ مَا يُقَالُ قَدْ لَا يَفْعَلُ النُّسُكَ إلَّا فِي الَّذِي نَوَاهُ فَلَا يَلْزَمُهُ دَمٌ إذَا شَرَطَ لُزُومَهُ أَنْ يَفْعَلَ مَا قَصَدَهُ عِنْدَ الْمُجَاوَزَةِ.

وَوَجْهُ انْدِفَاعِهِ أَنَّهُمْ لَا يَنْظُرُونَ لِلْمِيقَاتِ إلَّا بِالنِّسْبَةِ لِلُزُومِ الدَّمِ وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلْعِصْيَانِ بِالْمُجَاوَزَةِ فَلَا نَظَرَ إلَّا إلَى نِيَّتِهِ فَحَسْب كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ مِنْ كَلَامِهِمْ وَبِمَا تَقَرَّرَ الْمَأْخُوذُ مِنْ مَجْمُوعَيْ عِبَارَتَيْ الْمَجْمُوعِ الْأَخِيرَتَيْنِ مَعَ مَا ذَكَرَهُ فِي الْأُولَى فِي الْمَكِّيِّ مِنْ أَنَّهُ حَيْثُ لَمْ يَقْصِدْ النُّسُكَ لَا يَلْزَمُهُ الْإِحْرَامُ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ سَيَحُجُّ غَالِبًا يَعْلَمُ أَنَّ الْحَقَّ فِي الْمَكِّيِّ الْمَذْكُورِ فِي السُّؤَالِ أَنَّهُ إنْ كَانَ عِنْدَ الْمِيقَاتِ قَاصِدًا نُسُكًا حَالًّا أَوْ مُسْتَقْبَلًا لَزِمَهُ الْإِحْرَامُ مِنْ الْمِيقَاتِ بِذَلِكَ النُّسُكِ أَوْ بِنَظِيرِهِ وَإِلَّا أَثِمَ وَلَزِمَهُ الدَّمُ بِشَرْطِهِ وَإِنْ كَانَ عِنْدَ الْمِيقَاتِ قَاصِدًا وَطَنَهُ أَوْ غَيْرَهُ وَلَمْ يَخْطِرْ لَهُ قَصْدُ مَكَّةَ لِنُسُكٍ لَمْ يَلْزَمْهُ الْإِحْرَامُ مِنْ الْمِيقَاتِ بِشَيْءٍ وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ إذَا

ص: 123

جَاءَ الْحَجُّ وَهُوَ بِمَكَّةَ حَجَّ أَوْ أَنَّهُ رُبَّمَا خَطَرَتْ لَهُ الْعُمْرَةُ وَهُوَ بِمَكَّةَ فَيَفْعَلُهَا لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ لَيْسَ قَاصِدًا الْحَرَمَ بِمَا وَضَعَ لَهُ مِنْ النُّسُكِ وَإِنَّمَا هُوَ قَاصِدُهُ لِأَمْرٍ آخَرَ وَاحْتِمَالُ وُقُوعِ ذَلِكَ مِنْهُ بَعْدُ لَا نَظَرَ إلَيْهِ بِخِلَافِ مَا إذَا قَصْدَهُ عِنْدَ الْمُجَاوَزَةِ لِنُسُكٍ حَاضِرٍ أَوْ مُسْتَقْبَلٍ فَإِنَّهُ قَاصِدُهُ لِمَا وُضِعَ لَهُ فَلَزِمَهُ تَعْظِيمُهُ بِهِ أَوْ بِنَظِيرِهِ لِوُجُودِ الْمَعْنَى الَّذِي وَجَبَ الْإِحْرَامُ لِأَجْلِهِ مِنْ الْمِيقَاتِ فِيهِ فَتَدَبَّرْ جَمِيعَ مَا ذَكَرْته لَك فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَإِنَّهُ مُهِمٌّ وَلَقَدْ زَلَّ فِيهِ نَظَرُ مَنْ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى شَيْءٍ مِنْ عِبَارَاتِ الْمَجْمُوعِ الَّتِي ذَكَرْتهَا فَأَفْتَى بِمَا ظَهَرَ لَهُ مِنْ غَيْرِ تَأَمُّلٍ.

(وَسُئِلَ) رضي الله عنه عَمَّا إذَا أَوْصَى بِحَجَّةٍ مِنْ بَلَدِهِ وَجَاوَزَ وَارِثُهُ الْمِيقَاتَ وَاسْتَأْجَرَ عَنْهُ مِنْ مَكَّةَ فَهَلْ الدَّمُ وَالْمَحْطُوطُ مِنْ الْأُجْرَةِ عَلَى الْوَارِثِ أَوْ عَلَى الْمُسْتَأْجَرِ؟

(فَأَجَابَ) بِأَنَّ الْوَارِثَ لَمَّا اسْتَأْجَرَ مِنْ مَكَّةَ فَإِنَّ شَرَطَ الْإِحْرَامَ مِنْهَا أَوْ مِنْ دُونَ مِيقَاتِ الْمَيِّتِ الشَّرْطِيِّ أَوْ الشَّرْعِيِّ فَسَدَتْ الْإِجَارَةُ وَلَيْسَ لِلْأَجِيرِ إلَّا أُجْرَةَ الْمِثْلِ وَالدَّمُ عَلَى الْوَارِثِ وَإِنْ لَمْ يَشْرِطْ عَلَيْهِ ذَلِكَ فَالدَّمُ وَالْحَطُّ عَلَى الْأَجِيرِ لِتَقْصِيرِهِ بِنَاءً عَلَى مَا عَلَيْهِ كَثِيرُونَ أَوْ الْأَكْثَرُونَ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِمِيقَاتِ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ لَا الْمُبَاشِرِ وَقَالَ آخَرُونَ الْعِبْرَةُ بِمِيقَاتِ الْمُبَاشِرِ كَمَكَّةَ لِلْمَكِّيِّ فَعَلَيْهِ لَا دَمَ وَلَا حَطَّ مُطْلَقًا إلَّا إنْ عَيَّنَ الْمُوصِي فِي وَصِيَّتِهِ أَنَّهُ يُحْرِمُ عَنْهُ مِنْ مَوْضِعِ مُعَيَّنٍ قَبْلَ مَكَّةَ فَإِنَّهُ يَتَعَيَّنُ اتِّفَاقًا وَمَتَى خَالَفَهُ الْأَجِيرُ لَزِمَهُ الدَّمُ وَالْحَطُّ إنْ صَحَّتْ الْإِجَارَةُ وَإِلَّا لَزِمَهُ الدَّمُ وَأُجْرَةُ الْمِثْلِ مَا لَمْ يَشْرِطْ الْوَارِثُ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَإِلَّا فَالدَّمُ عَلَيْهِ كَمَا تَقَرَّرَ.

(وَسُئِلَ) عَمَّا إذَا مَاتَ مَنْ لَمْ تَلْزَمْهُ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ قَبْلَ أَنْ يَحُجَّ وَلَمْ يُوصِ بِهَا فَحَجَّ عَنْهُ وَارِثُهُ هَلْ يَقَعُ عَنْهُ أَمْ لَا؟

(فَأَجَابَ) بِأَنَّ الْمُعْتَمَدَ أَنَّهُ يَقَعُ لَهُ كَمَا حَرَّرْته مَعَ اسْتِيعَابِ مَا فِيهِ مِنْ كَلَامِ الْأَصْحَابِ فِي حَاشِيَةِ إيضَاحِ النَّوَوِيِّ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ مَحْضُ نُسُكٍ نَفْلٍ حَتَّى يُقَالَ بِامْتِنَاعِهِ لِأَنَّ الْفَرْضَ أَنَّهُ لَمْ يُوصِ بِهِ وَإِنَّمَا هُوَ حَجَّ إذَا وَقَعَ يَقَعُ فَرْضًا إذْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَقَعَ عَنْ الْمَيِّتِ وَلَا عَنْ غَيْرِهِ حَجٌّ وَعَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ فَلَمَّا أَنْ كَانَ هَذَا يَقَعُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ خَرَجَ عَنْ مُشَابَهَتِهِ النَّفَلَ نَظَرًا لِهَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ تَوْسِيعًا لِتَحْصِيلِ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ لِعَظْمِ نَفْعِهَا وَإِنْ لَمْ يُشَابِهْهُ مِنْ حَيْثِيَّةِ عَدَمِ وُجُوبِهِ عَلَى الْوَارِثِ وَإِنْ خَلَّفَ الْمَيِّتُ تَرِكَةً.

(وَسُئِلَ) عَمَّا لَوْ قَالَ أَلْزَمْت ذِمَّتَك حَجَّةً عَنْ فُلَانٍ بِنَفْسِك هَلْ يَصِحُّ الْعَقْدُ أَمْ لَا؟

(فَأَجَابَ) بِأَنَّ الْمُعْتَمَدَ مَا فِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا هُنَا عَنْ الْبَغَوِيِّ وَغَيْرِهِ مِنْ صِحَّةِ ذَلِكَ وَأَنَّهُ لَا يَسْتَنِيبُ فَتَكُونُ إجَارَةَ عَيْنٍ وَقَوْلُ الْإِمَامِ يَبْطُلُ ضَعِيفٌ وَإِنْ تَبِعَاهُ فِي الْإِجَارَةِ وَمَالَ إلَيْهِ السُّبْكِيّ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحَجَّ قُرْبَةٌ عَظِيمَةٌ يَتَعَيَّنُ الِاحْتِيَاطُ فِي أَدَائِهَا مَا أَمْكَنَ وَأَغْرَاضُ النَّاسِ فِي عَيْنِ مَنْ يُحَصِّلُ هَذِهِ الْقُرْبَةَ مُتَفَاوِتَةٌ تَفَاوُتًا كَثِيرًا وَحِينَئِذٍ فَلَمَّا عَقَبَ إلْزَامَ ذِمَّتِهِ بِقَوْلِهِ لِتَحُجَّ بِنَفْسِك عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ حَقِيقَةَ الْإِجَارَةِ الذِّمِّيَّةِ مُطْلَقًا وَإِنَّمَا أَرَادَ تَعَلُّقَهُ بِعَيْنِهِ لِمَا عَلِمْت مِنْ أَنَّ الْأَغْرَاضَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَإِنْ وُجِدَتْ الْعَدَالَةُ فِي الْكُلِّ وَبَقِيَ فِي ذَلِكَ كَلَامٌ مُهِمٌّ بَسَطْته فِي شَرْحِ الْعُبَابِ.

(وَسُئِلَ) نَفَعَ اللَّهُ بِهِ عَمَّنْ فَاتَهُ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ وَقُلْتُمْ يَلْزَمُهُ التَّحَلُّلُ هَلْ يُحْتَاجُ إلَى نِيَّةُ التَّحَلُّلِ قِيَاسًا عَلَى الْمُحْصَرِ أَمْ لَا يُحْتَاجُ إلَى نِيَّةٍ وَهَلْ فِي الْمَسْأَلَةِ نَقْلٌ أَمْ لَا فَإِنْ كَانَ ثَمَّ نَقْلٌ عَنْ أَحَدٍ فِيهَا فَبَيَّنُوهُ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ عِبَارَةُ شَرْحِي لِلْعُبَابِ كَغَيْرِهِ وَيَتَحَلَّلُ مَنْ فَاتَهُ الْوُقُوفُ بِأَعْمَالِ الْعُمْرَةِ وَقَضَيْته أَنَّهُ لَا يُحْتَاجُ لِنِيَّةِ الْعُمْرَةِ وَأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ نِيَّةِ التَّحَلُّلِ وَهُوَ كَذَلِكَ انْتَهَتْ وَوَجْهُهُ اتِّفَاقُ الْأَصْحَابِ عَلَى أَنَّ هَذِهِ لَيْسَتْ عُمْرَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ كَمَا حَقَقْته فِي الشَّرْحِ الْمَذْكُورِ وَبِمَا تَقَرَّرَ عُلِمَ أَنَّ فِي الْمَسْأَلَةِ نَقْلًا وَأَنَّ لِذَلِكَ وَجْهًا وَاضِحًا وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

(وَسُئِلَ) رضي الله عنه بِمَا لَفْظُهُ لِمَ قُلْتُمْ بِسُقُوطِ الدَّمِ عَنْ الْقَارِنِ بِعَوْدِهِ إلَى الْمِيقَاتِ قِيَاسًا عَلَى الْمُتَمَتِّعِ مَعَ أَنَّ الْمُتَمَتِّعَ لَمْ يَرْبَحْ أَحَدَ الْعَمَلَيْنِ وَالْقَارِنُ رَبِحَهُ فَكَانَ الْقِيَاسُ لُزُومُ الدَّمِ لَهُ مَا لَمْ يَعُدْ لِلْمِيقَاتِ وَيُكَرِّرُ الْأَعْمَالَ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ لَمْ يَرْبَحْ شَيْئًا فَيَكُونُ نَظِيرَ الْمُتَمَتِّعِ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ لَمْ يَقْتَصِرُوا فِي إيجَابِ الدَّمِ عَلَى الْقَارِنِ بِأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ الْقِيَاسِ عَلَى الْمُتَمَتِّعِ فَقَطْ حَتَّى يَرُدَّ مَا ذُكِرَ وَإِنَّمَا ضَمُّوا إلَى ذَلِكَ الِاسْتِدْلَالَ بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم «ذَبَحَ

ص: 124

عَنْ نِسَائِهِ الْبَقَرَ وَكُنَّ قَارِنَاتٍ» .

فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الدَّمَ الْوَاحِدَ كَافٍ فِي الْقِرَانِ مَعَ التَّرَفُّهِ فِيهِ بِشَيْئَيْنِ تَرْكِهِ الْمِيقَاتِ وَتَرْكِ أَحَدِ النُّسُكَيْنِ وَحِينَئِذٍ فَكُلٌّ مِنْ هَذَيْنِ إذَا وُجِدَ غَيْرُ مَنْظُورٍ إلَيْهِ عَلَى انْفِرَادِهِ وَإِلَّا لَمْ يَجْبُرهُمَا دَمٌ وَاحِدٌ وَإِذَا لَمْ يُنْظَرْ لِكُلٍّ عَلَى انْفِرَادِهِ فَإِمَّا أَنْ يُنْظَرَ لَهُمَا مَعًا أَوْ لِأَقْوَاهُمَا لَكِنَّهُمْ آثَرُوا النَّظَرَ لِأَقْوَاهُمَا وَهُوَ رِبْحُ الْمِيقَاتِ لِأَنَّهُ الْعِلَّةَ الصَّحِيحَةَ فِي إيجَابِ دَمِ التَّمَتُّعِ فَمِنْ ثَمَّ جَعَلُوا التَّمَتُّعَ أَصْلًا لِلْقِرَانِ فِي هَذَا كَمَا أَنَّهُ أَصْلٌ لَهُ فِي سُقُوطِ دَمِهِ إذَا كَانَ فَاعِلُهُ مِنْ حَاضِرِي الْحَرَمِ عَلَى أَنَّ قِيَاسَ الدُّونِ حُجَّةٌ وَهُوَ مَا كَانَتْ الْعِلَّةُ فِي أَصْلِهِ مَظْنُونَةٌ مَعَ احْتِمَالِ غَيْرِهَا كَقِيَاسِ التُّفَّاحِ عَلَى الْبُرِّ بِجَامِعِ الطَّعْمِ مَعَ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّ الْعِلَّةَ الْكَيْلُ أَوْ صَلَاحِيَّةُ الِادِّخَارِ أَوْ غَيْرِهِمَا. وَمَا هُنَا كَذَلِكَ فَإِنَّ كَوْنَ الْعِلَّةِ فِي التَّمَتُّعِ رِبْحُ الْمِيقَاتِ مَظْنُونَةً لِاحْتِمَالِ أَنَّهَا تُمَتِّعُهُ بِمَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ كَمَا قِيلَ بِهِ.

(وَسُئِلَ) نَفَعَ اللَّهُ بِهِ هَلْ يُشْتَرَطُ فِي سُقُوطِ الدَّمِ بِالْعَوْدِ إلَى الْمِيقَاتِ قَصْدُ الْعَوْدِ لِأَجْلِ سُقُوطِ الدَّمِ أَوْ يَكْفِي بِمُطْلَقِ النِّيَّةِ وَلَوْ لِشُغْلٍ كَمَا فِي الْوُقُوفِ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ يَكْفِي هَذَا الْأَخِيرُ كَالْوُقُوفِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْقَاضِي وَالْبَغَوِيُّ حَيْثُ قَالَا لَوْ أَحْرَمَ الْمَكِّيُّ بِالْعُمْرَةِ مِنْ مَكَّةَ وَعَادَ لِمِيقَاتِهَا لِشُغْلٍ لَا لِأَجْلِ قَطْعِ الْمَسَافَةِ مِنْ الْمِيقَاتِ سَقَطَ الدَّمُ زَادَ ابْنُ الرِّفْعَةِ تَخْرِيجَهُ عَلَى الْوُقُوفِ فَافْهَمْ أَنَّهُ مِثْلُهُ فِي أَنَّهُ لَا يَتَأَثَّرُ بِالصَّارِفِ وَوَجْهُهُ ظَاهِرٌ وَهُوَ أَنَّ الْقَصْدَ قَطْعُ الْمَسَافَةِ مُحْرِمًا.

(وَسُئِلَ) نَفَعَ اللَّهُ بِهِ عَنْ إحْرَامِ مِصْرِيٍّ مَثَلًا جَاوَزَ رَابِغًا مُرِيدًا النُّسُكَ مِنْ رَابِغٍ ثُمَّ عَادَ مِنْ عُسْفَانَ إلَى رَابِغٍ مُحْرِمًا هَلْ يَسْقُطُ عَنْهُ الدَّمُ بِذَلِكَ أَوْ يَحْتَاجُ بَعْدَ عَوْدِهِ مِنْ عُسْفَانَ إلَى رَابِغٍ ثُمَّ رُجُوعُهُ وَدُخُولُهُ مَكَّةَ إلَى عَوْدِهِ إلَى عُسْفَانَ كَمَا أَفْتَى بِهِ بَعْضُهُمْ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ الصَّوَابُ الْأَوَّلُ وَالْإِفْتَاءُ بِالثَّانِي لَا وَجْهَ لَهُ لِأَنَّ الْقَصْدَ قَطْعُ الْمَسَافَةِ مِنْ الْمِيقَاتِ إلَى مَكَّةَ مُحْرِمًا وَهُوَ حَاصِلٌ بِعَوْدِهِ مِنْ عُسْفَانَ لِلْمِيقَاتِ وَإِنْ لَمْ يَعُدْ مِنْ مَكَّةَ إلَى عُسْفَانَ.

(وَسُئِلَ) نَفَعَ اللَّهُ بِهِ عَمَّنْ مَرَّ بِمِيقَاتِهِ مَرِيدًا لِلنِّسْكَيْنِ بِلَا إحْرَامٍ إلَى أَنْ دَخَلَ إلَى مَكَّةَ ثُمَّ أَحْرَمَ بِهِمَا فِيهَا فَهَلْ يَكْفِي لِإِسْقَاطِ الدَّمِ عَوْدُهُ لِلْمِيقَاتِ مَرَّة أَوْ مَرَّتَيْنِ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ الْوَجْهُ الِاكْتِفَاءُ بِالْعَوْدِ مَرَّةً لِأَنَّ عُمْرَةَ الْقَارِنِ مُنْغَمِرَةٌ فِي حَجِّهِ صِحَّةً وَفَسَادًا وَغَيْرَهُمَا كَمَا صَرَّحُوا بِهِ.

(وَسُئِلَ) فَسَحَ اللَّهُ فِي مُدَّتِهِ عَمَّنْ أَحْرَمَ وَفِي يَدِهِ صَيْدٌ مَرْهُونٌ أَوْ أَحْرَمَ الْوَلِيُّ عَنْ الصَّبِيِّ وَفِي مِلْكِ الصَّبِيِّ صَيْدٌ مَا الْحُكْمُ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ الَّذِي رَجَحْته فِي شَرْحِ الْعُبَابِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ إرْسَالُ صَيْدٍ بِمِلْكِهِ لَكِنْ تَعَلَّقَ بِهِ حَقٌّ لَازِمٌ كَالرَّهْنِ لِأَنَّهُ بِتَعَلُّقِ الْحَقِّ بِهِ صَارَ عَاجِزًا عَنْ إرْسَالِهِ وَإِنْ أَيْسَرَ بِقِيمَتِهِ وَيُفَرَّقُ بَيْنَ الْإِحْرَامِ وَالْعِتْقِ حَيْثُ يَصِحُّ مِنْ الرَّاهِنِ الْمُوسَرِ وَتَلْزَمُهُ الْقِيمَةُ بِأَنَّ الشَّارِعَ مُتَشَوِّفٌ لِلْعِتْقِ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِ فَلَا يُقَاسُ بِهِ غَيْرُهُ قَالَ الزَّرْكَشِيُّ وَلَوْ كَانَ فِي مِلْكِ الصَّبِيِّ صَيْدٌ فَهَلْ يَلْزَمُ الْوَلِيَّ إرْسَالُهُ وَيَغْرَمُ قِيمَتَهُ كَمَا يَغْرَمُ النَّفَقَةَ الزَّائِدَةَ بِالسَّفَرِ فِيهِ احْتِمَالَانِ اهـ وَاَلَّذِي يُتَّجَهُ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ إرْسَالُهُ وَيَغْرَمُ قِيمَتَهُ لِأَنَّهُ الَّذِي وَرَّطَهُ فِي كَمَا يَلْزَمُهُ جَمِيعُ الدِّمَاءِ الَّتِي لَزِمَتْ الصَّبِيَّ بِسَبَبِ الْإِحْرَامِ لِأَنَّهُ الَّذِي وَرَّطَهُ فِيهِ.

(وَسُئِلَ) رضي الله عنه عَمَّنْ وَكَّلَ آخَرَ فِي اسْتِئْجَارِ مَنْ يَحُجُّ عَنْ مَيِّتِهِ فَاسْتَأْجَرَ الْوَكِيلُ وَسَافَرَ الْأَجِيرُ لِلْحَجِّ وَعَادَ وَطَلَبَ أُجْرَتَهُ فَقَالَ الْمُوَكِّلُ كُنْت عَزَلْت وَكِيلِي قَبْلَ أَنْ يَسْتَأْجِرَك وَأَقَامَ بِذَلِكَ بَيِّنَةً فَهَلْ تَلْزَمُهُ الْأُجْرَةُ لِإِلْجَائِهِ الْوَكِيلَ لِذَلِكَ أَوْ لَا فَيَلْزَمُ الْوَكِيلَ لِإِلْجَائِهِ الْأَجِيرَ لِذَلِكَ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ لَا يَلْزَمُ وَاحِدًا مِنْهُمَا شَيْءٌ لِأَنَّ الْحَجَّ يَقَعُ لِلْأَجِيرِ حِينَئِذٍ فَلَمْ يَقَعْ سَعْيُهُ عَبَثًا بَلْ حَصَلَ لَهُ فِي مُقَابَلَتِهِ وُقُوعُ الْحَجِّ لَهُ وَهُوَ فَائِدَةٌ أَيُّ فَائِدَةٍ.

(وَسُئِلَ) فَسَحَ اللَّهُ فِي مُدَّتِهِ عَنْ قَوْلِ الدَّمِيرِيِّ رحمه الله كَانَ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ أَنْ يُهَاجِرَ يَحُجُّ كُلَّ سَنَةٍ اهـ مَا مُرَادُهُ فَإِنَّ الْحَجَّ فُرِضَ سَنَةَ خَمْسٍ وَلَمْ يَحُجَّ صلى الله عليه وسلم إلَّا سَنَةَ عَشْرٍ حَجَّةَ الْوَدَاع وَاعْتَمَرَ أَرْبَعًا وَهَلْ هَذِهِ الْعُمَرُ الْأَرْبَعُ قَبْلَ الْفَتْحِ أَوْ بَعْدَهُ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ مَا قَالَهُ الدَّمِيرِيُّ مَقَالَةٌ لِبَعْضِ الْعُلَمَاءِ وَاَلَّذِي صَحَّ أَنَّهُ لَمْ يَحُجَّ قَبْلَ الْهِجْرَةِ إلَّا الْمَرَّتَيْنِ اللَّتَيْنِ بَايَعَ فِيهِمَا الْأَنْصَارَ عِنْدَ الْعَقَبَةِ وَأَمَّا مَا عَدَا ذَلِكَ فَهُوَ مُحْتَمَلٌ ثُمَّ الْمُرَادُ أَنَّهُ كَانَ يَحْضُرُ مَعَ قُرَيْشٍ مَوَاسِمَ حَجِّهِمْ الَّذِي كَانُوا يَأْتُونَ بِصُورَتِهِ

ص: 125

وَكَانَ يُعْلِنُ فِيهِمْ النِّدَاءَ بِرِسَالَتِهِ وَالدُّعَاءَ بِهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَوُجُوبِ طَاعَتِهِ فَتَسْمِيَتُهُ ذَلِكَ حَجًّا إنَّمَا هُوَ بِاعْتِبَارِ الصُّورَةِ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُفْرَضْ قَبْلَ الْهِجْرَةِ.

وَأَمَّا بَعْدَ الْهِجْرَةِ فَوَقَعَ الْخِلَافُ فِيهِ فَقِيلَ فُرِضَ أُولَى سِنِيهَا وَقِيلَ ثَانِيَةَ سِنِيهَا وَقِيلَ ثَالِثَتَهَا وَقِيلَ رَابِعَتَهَا وَقِيلَ خَامِسَتَهَا وَعَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ وَقِيلَ سَادِسَتَهَا وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ وَقِيلَ سَابِعَتَهَا وَقِيلَ ثَامِنَتَهَا وَقِيلَ تَاسِعَتَهَا وَقِيلَ عَاشِرَتَهَا وَالْمُرَاد بِعُمَرِهِ الْأَرْبَعِ الَّتِي صَحَّتْ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم مِنْ غَيْرِ نِزَاعٍ عُمْرَةُ الْحُدَيْبِيَةِ وَهِيَ الَّتِي أَحْرَمَ بِهَا هُوَ وَأَصْحَابُهُ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ ثُمَّ لَمَّا وَصَلُوا الْحُدَيْبِيَةَ صَدَّهُ عَنْهَا أَهْلُ مَكَّةَ فَتَحَلَّلَ صلى الله عليه وسلم هُوَ وَأَصْحَابُهُ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ - فِي الْحُدَيْبِيَةِ قُرْبَ الْحَرَمِ أَوْ بَعْضُهَا فِيهِ لَمَّا وَقَعَ الصُّلْحُ أَنَّهُمْ يَرْجِعُونَ لِئَلَّا تُعَيِّرَ الْعَرَبُ أَهْلَ مَكَّةَ بِدُخُولِهِمْ لَهَا قَهْرًا عَلَيْهِمْ ثُمَّ يَأْتُونَ السَّنَةَ الْقَابِلَةَ لِلْقَضَاءِ فَرَجَعُوا وَتَرْكُهُ صلى الله عليه وسلم لِلْقِتَالِ حِينَئِذٍ كَانَ تَوَاضُعًا وَتَفْوِيضًا لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى يَمُنَّ عَلَيْهِ بِالْفَتْحِ الْأَكْبَرِ الَّذِي هُوَ فَتْحُ مَكَّةَ.

فَكَانَ ذَلِكَ الصُّلْحُ سَبَبًا لِذَلِكَ فَإِنَّهُمْ نَقَضُوا بَعْضَ مَا فِيهِ مِنْ الشُّرُوطِ فَعُلِمَ صلى الله عليه وسلم حِينَئِذٍ أَنَّ ذَلِكَ عَلَامَةً عَلَى الْإِذْنِ لَهُ فِي إغْزَائِهِمْ وَالتَّمْكِينِ مِنْهُمْ فَقَصَدَهُمْ صلى الله عليه وسلم وَأَلْقَى الرُّعْبَ فِي قُلُوبِهِمْ إلَى أَنْ دَخَلَ مَكَّةَ فِي غَايَةٍ مِنْ الْعِزَّةِ وَالْعَظَمَةِ لَهُ وَلِأَصْحَابِهِ وَأَهْلُهَا فِي غَايَةِ الْخَوْفِ وَالْمَذَلَّةِ حَتَّى آمَنَهُمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ لَمْ يُخْرِجْ مَنْ عِنْدَهُمْ وَلَيْسَ فِيهِمْ إلَّا مَنْ هُوَ مُسْلِمٌ أَوْ مُسَالِمٌ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَامَةً عَلَى قُرْبِ أَجْلِهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا فَهِمَهُ مِنْ قَوْله تَعَالَى {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر: 1] إلَى آخِرِ السُّورَةِ وَلَمَّا رَجَعَ صلى الله عليه وسلم إلَى الْمَدِينَةِ مِنْ الْحُدَيْبِيَةِ رَجَعَ فِي السَّنَةِ السَّابِعَةِ إلَى قَضَاءِ عُمْرَتِهِ فَأَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ أَيْضًا ثُمَّ دَخَلُوا مَكَّةَ وَتَحَلَّلُوا مِنْ نُسُكِهِمْ ثُمَّ خَرَجُوا مِنْهَا بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ كَمَا وَقَعَ الشَّرْطُ عَلَيْهِ فِي الصُّلْحِ فَهَذِهِ هِيَ الْعُمْرَةُ الثَّانِيَةُ.

وَأَمَّا الْعُمْرَةُ الثَّالِثَةُ فَهِيَ عُمْرَةُ الْجِعْرَانَةِ سَنَةَ فَتْحِ مَكَّةَ فَإِنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمَّا فَتَحَ مَكَّةَ فِي رَمَضَانَ سَنَةَ ثَمَانٍ خَرَجَ مِنْهَا إلَى حَرْبِ هَوَازِنَ وَالطَّائِفِ ثُمَّ جَاءَ إلَى الْجِعْرَانَةِ لِقَسْمِ الْغَنَائِمِ فَأَقَامَ بِهَا أَيَّامًا فَفِي لَيْلَةِ ثَامِنِ عَشْرِ ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةَ ثَمَانٍ خَرَجَ صلى الله عليه وسلم هُوَ وَبَعْضُ أَصْحَابِهِ مُحْرِمِينَ بِالْعُمْرَةِ حَتَّى دَخَلُوا مَكَّةَ وَتَحَلَّلُوا ثُمَّ خَرَجُوا إلَى أَنْ جَاءُوا الْجِعْرَانَةِ وَأَصْبَحَ صلى الله عليه وسلم فِيهَا كَبَائِتٍ وَلَمْ يَعْلَمْ بِعُمْرَتِهِ إلَّا جَمْعٌ مِنْ أَصْحَابِهِ وَلِذَا أَنْكَرَهَا بَعْضُهُمْ ثُمَّ رَجَعَ صلى الله عليه وسلم هُوَ وَأَصْحَابُهُ إلَى الْمَدِينَةِ وَلَمْ يَحُجَّ تِلْكَ السَّنَةِ لِيُعْلِمَ الْأُمَّةِ أَنَّ الْحَجَّ وَاجِبٌ عَلَى التَّرَاخِي وَأَمَّرَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَلَى الْحَجِّ أَمِيرَ مَكَّةَ وَهُوَ عَتَّابُ بْنُ أَسِيدٍ رضي الله عنه ثُمَّ أَمَّرَ عَلَى الْحَجِّ فِي السَّنَةِ التَّاسِعَةِ أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه.

ثُمَّ أَرْسَلَ بَعْدَهُ عَلِيًّا رضي الله عنه لِيُؤَذِّنَ هُوَ وَجَمْعٌ فِي النَّاسِ فِي الْمَوْسِمِ بِمِنًى بِسُورَةِ بَرَاءَةٍ وَحِكْمَتُهُ أَنَّهُ جَرَتْ عَادَةُ الْعَرَبِ أَنَّهُ لَا يَبْلُغُ عَنْهُمْ إلَّا مَنْ هُوَ مِنْ جِلْدَتِهِمْ وَقَرَابَتِهِمْ ثُمَّ فِي سَنَةِ عَشْرٍ حَجَّ بِنَفْسِهِ صلى الله عليه وسلم هُوَ وَأَصْحَابُهُ فَأَحْرَمَ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ بِالْحَجِّ ثُمَّ بِالْعُمْرَةِ فَكَانَ أَوَّلًا مُفْرِدًا ثُمَّ صَارَ قَارِنًا فَهَذِهِ هِيَ عُمْرُهُ الْأَرْبَعِ وَكُلُّهَا كَانَتْ فِي الْقَعْدَةِ وَصَحَّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم اعْتَمَرَ فِي رَجَبٍ وَأَنْكَرَتْ ذَلِكَ عَلَيْهِ عَائِشَةُ رضي الله عنها وَغَلَّطَتْهُ فِيهِ.

(وَسُئِلَ) نَفَعَ اللَّهُ بِعُلُومِهِ عَنْ قَوْلِهِمْ مِنْ شَرَائِطِ الْحَجِّ أَمْنُ الطَّرِيقِ فَهَلْ هُوَ مَوْجُودٌ أَوْ لَا؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ نَعَمْ هُوَ مَوْجُودٌ فِي غَالِبِ الْجِهَاتِ كَمَا هُوَ جَلِيٌّ إذْ الْمُرَادُ بِهِ الْأَمْنُ ظَنًّا لَا يَقِينًا أَمْنًا لَائِقًا بِالسَّفَرِ لَا بِالْحَضَرِ عَلَى مَا يُخَلِّفُهُ أَوْ يَسْتَصْحِبُهُ لَكِنْ مِمَّا يَحْتَاجُهُ لِسَفَرِهِ فَقَطْ دُونَ نَحْوٍ خَطِيرٍ مَعَهُ لِتِجَارَةٍ أَوْ نَحْوِهَا فَلَا يُشْتَرَطُ الْأَمْنُ عَلَيْهِ لِعَدَمِ الضَّرُورَةِ إلَى اسْتِصْحَابِهِ وَمِنْ ثَمَّ لَوْ لَمْ يُمْكِنْهُ تَرْكُهُ فِي الْحَضَرِ لِعَدَمِ أَمْنِهِ اُشْتُرِطَ الْأَمْنُ عَلَيْهِ فِي السَّفَرِ لِاضْطِرَارِهِ لِاسْتِصْحَابِهِ حِينَئِذٍ.

(وَسُئِلَ) رضي الله عنه عَمَّا إذَا مَاتَ الْعَامِلُ الْمُجَاعِلُ عَلَى حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ وَزِيَارَةٍ بَعْدَ الْإِحْرَامِ وَقَبْلَ فَرَاغِ الْأَعْمَالِ فَهَلْ يَسْتَحِقُّ شَيْئًا مِنْ الْجُعْلِ كَالْإِجَارَةِ أَوْ لَا وَهَلْ يُقَسَّطُ الْجُعْلُ عَلَى مَا فَعَلَ مِنْ الْأَرْكَانِ وَالْأَعْمَالِ أَوْ لَا وَكَيْفَ صِفَةُ التَّقْسِيطِ هَلْ هُوَ كَالْإِجَارَةِ أَوْ لَا؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ ظَاهِرُ كَلَامِهِمْ بَلْ

ص: 126

صَرِيحُهُ فِي بَابِ الْجَعَالَةِ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا أَصْلًا وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ شَرَطُوا فِيمَا إذَا مَاتَ الْعَامِلُ قَبْلَ الْفَرَاغِ أَنْ يُتَمِّمَ الْوَارِثُ قَالُوا وَإِذَا تَمَّمَ لَمْ يَسْتَحِقَّ إلَّا قِسْطَ مَا عَمِلَهُ مُورِثُهُ دُونَ مَا عَمِلَهُ هُوَ لِانْفِسَاخِ الْجَعَالَةِ بِمَوْتِ الْعَامِلِ وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الْبِنَاءَ عَلَى عَمَلِ الْغَيْرِ فِي النُّسُكِ مُتَعَذِّرٌ فَتَتْمِيمُ الْوَارِثِ مُتَعَذِّرٌ وَيَلْزَمُ مِنْ تَعَذُّرِهِ عَدَمُ اسْتِحْقَاقِهِ لِقِسْطِ مَا عَمِلَهُ مُوَرِّثُهُ إذْ الِاسْتِحْقَاقُ فِي الْجَعَالَةِ لِكَوْنِهَا عَقْدًا جَائِزًا مِنْ الْجَانِبَيْنِ إنَّمَا هُوَ بِفَرَاغِ الْعَمَلِ لَا بِبَعْضِهِ إلَّا إنَّ وَقَعَ مُسَلِّمًا لِلْمَالِكِ وَبِهَذَا الَّذِي قَرَرْته اتَّضَحَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْجَعَالَةِ وَالْإِجَارَةِ وَمَا أَحْسَنَ قَوْلِ الْقَمُولِيُّ فِي جَوَاهِرِهِ.

وَلَوْ مَاتَ الْعَامِلُ الْمُعَيَّنُ فِي أَثْنَاءِ الْعَمَلِ كَمَا لَوْ مَاتَ فِي طَرِيقِ الرَّدِّ فَإِنْ رَدَّهُ وَارِثُهُ إلَى الْمَالِكِ اسْتَحَقَّ مِنْ الْجُعْلِ الْمُعَيَّنِ بِقَدْرِ عَمَلِ مُوَرِّثِهِ دُونَ عَمَلِهِ وَإِنْ لَمْ يَرُدَّهُ إلَيْهِ لَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا لِعَمَلِ مُوَرِّثِهِ عَلَى الصَّحِيحِ ثُمَّ قَالَ هُوَ وَغَيْرُهُ مَا حَاصِلُهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْعَامِلُ شَيْئًا مِنْ الْجُعْلِ إلَّا بِالْفَرَاغِ مِنْ الْعَمَلِ نَعَمْ لَوْ مَاتَ الصَّبِيُّ أَثْنَاءَ التَّعْلِيمِ اسْتَحَقَّ أُجْرَةَ مَا عَمِلَ وَكَذَا إذَا تَلِفَ الثَّوْبُ الَّذِي خَاطَ بَعْضَهُ أَوْ الْجِدَارُ الَّذِي بَنَى بَعْضَهُ بَعْدَ تَسْلِيمِهِ لِلْمَالِكِ وَكَذَا لَوْ مَنَعَ الصَّبِيَّ أَبُوهُ مِنْ التَّعْلِيمِ أَيْ لِوُقُوعِ الْعَمَلِ مُسَلِّمًا بِقَبْضِ الْمَالِكِ لِلثَّوْبِ وَالْجِدَارِ وَبِتَعْلِيمِ الْحُرِّ مَعَ عَدَمِ تَقْصِيرٍ مِنْ الْعَامِلِ وَبِهَذَا ظَهَرَ إيضَاحُ الْفَرْقِ بَيْنَ هَذِهِ الصُّورَةِ وَصُورَةِ السُّؤَالِ لِأَنَّ بَعْضَ النُّسُكِ لَمْ يَقَعْ مُسَلَّمًا لِمَنْ وَقَعَتْ الْجَعَالَةُ لَهُ كَمَا هُوَ وَاضِحٌ فَتَأَمَّلْهُ.

(وَسُئِلَ) نَفَعَ اللَّهُ بِهِ عَنْ رَجُلٍ أَحْرَمَ بِنُسُكٍ وَبِهِ سَلَسُ بَوْلٍ لَا يَسْتَمْسِكُ إلَّا بِالشَّدِّ فَشَدَّ ذَكَرَهُ حِرْصًا عَلَى طَهَارَتِهِ الْمُعْتَبَرَةِ شَرْطًا لِطَوَافِهِ وَصَلَاتِهِ وَصَوْنًا لِبَدَنِهِ وَإِزَارِهِ عَنْ نَجَاسَتِهِ سِيَّمَا فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ عِبَادَتِهِ فَهَلْ عَلَيْهِ فِدْيَةٌ بِذَلِكَ أَمْ لَا وَإِذَا قُلْتُمْ لَا فَأُفِيدُونَا الْجَوَابِ عَمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ شَافِعِيٌّ مِنْ كَلَامِ الْأَصْحَابِ فِي إفْتَائِهِ بِنَفْيِ ذَلِكَ فِي ذَلِكَ زَاعِمًا أَنَّ انْتِفَاءَهَا فِي ذَلِكَ أَوْلَى مِنْ انْتِفَائِهَا فِيمَا اسْتَدَلَّ بِهِ مِنْ كَلَامِهِمْ السَّابِقِ مِنْ ذَلِكَ مَا جَوَّزَهُ لِلْمُحْرِمِ مِنْ لُبْسِ الْخُفِّ بِشَرْطِهِ قَاصِدِينَ بِذَلِكَ حَسْمَ الْأَذَى عَنْ الْقَدَمِ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ السُّنَّةُ الشَّرِيفَةُ.

وَالْعِبَادَةُ بِذَلِكَ أَوْلَى إذْ لِأَجْلِهَا خُلِقَ الْمُكَلَّفُ وَمِنْهُ لُبْسُ السِّرْوَالِ بِشَرْطِهِ وَالْقَصْدُ بِهِ سَتْرُ الْعَوْرَةِ بَلْ فِيهِ زَائِدٌ عَلَيْهَا وَبِأَنَّ السِّرْوَالَ قُصِدَ بِهِ الْحِفْظُ عَلَى فَاقِدِ الطَّهُورَيْنِ دُونَ فَاقِدِ السُّتْرَةِ وَكَمَا وَجَبَ السَّتْرُ خَارِجَ الصَّلَاةِ حُرِّمَ التَّضَمُّخُ بِالنَّجَاسَةِ خَارِجَهَا وَإِنْ قَلَّ وُقُوعَهُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَجِدْ إلَّا سَاتِرَ ذَكَرِهِ وَجَبَ وَلَا فَدِيَةَ إذْ لَمْ يَعْمَلْ بِهَا فِي سَاتِرِ الْعَوْرَةِ فَفِيمَا ذُكِرَ أَوْلَى أَخْذًا مِنْ مَزِيدِ الِاعْتِبَارِ الْمَذْكُورِ وَمِنْهُ شَدُّ الْمِنْطَقَةِ وَالْهِمْيَانِ عَلَى وَسَطِهِ وَالْقَصْدُ مِنْهُ تَيَسُّرُ أَمْرِ السَّفَرِ سَيْرًا وَحَلًّا وَارْتِحَالًا وَمَصْلَحَةُ الدِّينِ أَعْلَى وَقَدْ أَعْطَوْا بَعْضَ الْعِوَضِ حُكْمَ كُلِّهِ كَمَا فِي سَتْرِ بَعْضِ الرَّأْسِ بِنَحْوِ عِصَابَةٍ وَكَمَا فِي حَلْقِ بَعْضِ شَعْرِ الرَّأْسِ.

وَإِنَّمَا وَجَبَ الْفِدْيَةُ فِي الْبَعْضِ الْمَذْكُورِ لِأَنَّهُ فِي مَحَلِّ الْإِحْرَامِ وَفِي مَعْنَى السَّتْرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ مَعَ أَنَّ الْحَلْقَ الْمَذْكُورَ إتْلَافٌ بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يُصَرِّحُوا بِتَعَيُّنِ الْوَسَطِ لِلْهِمْيَانِ وَإِنْ كَانَتْ الْعَادَةُ كَذَلِكَ بَلْ ذَكَرُوهُ بِمَا يَحْتَمِلُ الْمِثَالَ وَالْمِثَالُ لَا يُخَصَّصُ فَيَصْدُقُ بِرَبْطِهِ عَلَى الذَّكَرِ وَالِاحْتِيَاجُ بِمَفْهُومِ الْمَجْرُورِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ وَقَدْ صَرَّحَ أَصْحَابُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَعَنْهُمْ بِانْتِفَاءِ الْفِدْيَةِ فِيمَا ذُكِرَ فِي السُّؤَالِ مَعَ احْتِيَاطِهِمْ فِي هَذَا الْبَابِ بِمَا لَمْ يَحْتَطْ الشَّافِعِيَّةُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - وَمِنْهُ تَجْوِيزُهُمْ إزَالَةَ مَا ضَرَّ مِنْ الشَّعْرِ دَاخِلَ الْجَفْنِ مَعَ أَنَّهُ إتْلَافٌ لِدَفْعِ الضَّرَرِ الْمَذْكُورِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا ذَكَرُوهُ فِي أَبْوَابِ الْفِقْهِ مِمَّا لَا يَخْفَى وَإِذَا تَحَمَّلَ مَا يُخَالِفُ ظَاهِرَهُ مَا تَقَرَّرَ مِنْ نَحْوِ كَيْسِ اللِّحْيَةِ وَلَفِّ شَيْءٌ عَلَى السَّاقِ وَالْيَدِ وَرَبْطِهِ مِنْ كُلِّ مَا أَحَاطَ بِالْبَدَنِ عَلَى وَجْهِ السَّتْرِ عُرْفًا عَلَى الْأَعْضَاءِ الظَّاهِرَةِ كَمَا يُرْشِدُ إلَيْهِ عَدُّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَا لَا يَلْبَسُهُ الْمُحْرِمُ حِينَ سُئِلَ عَمَّا يَلْبَسُ.

وَأَمْثِلَتُهُمْ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - دُونَ الْبَاطِنَةِ كَاللِّسَانِ وَالذَّكَرِ بَلْ لِإِزَالَةِ مَا كَانَ دَاخِلَ الْعَيْنِ كَمَا مَرَّ وَلِأَنَّ الشُّعُوثَةَ وَالْغَبَرَةَ الْمَقْصُودُ بِهِمَا تَرْكُ التَّرَفُّهِ الْمُسْتَفَادِ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «الْمُحْرِمُ أَشْعَثُ أَغْبَرُ» إنَّمَا يُلَاقِيَانِ الظَّاهِرَ فَكَانَ التَّرَفُّهُ مِنْ حَيْثُ اللِّبَاسُ خَاصًّا بِهِ وَلَئِنْ سَلَّمْنَا أَنْ لَا دَلَالَةَ فِي ذَلِكَ لِذَلِكَ فَحَسْبُنَا جَهْلُ السَّائِلِ بِحُكْمِ الْمَسْئُولِ عَنْهُ بِدَلِيلِ اسْتِفْتَائِهِ هَذِهِ

ص: 127

عِبَارَةُ الْمُفْتِي الْمَذْكُورَةِ إفَادَةً مُسَايِرَةً لِجَوَابِهِ عَنْ جَمِيعِ جُزْئِيَّاتِهِ بِحَيْثُ لَا يَخْلُو عَنْهُ مِنْ الْجَوَابِ لَفْظَةٌ.

(فَأَجَابَ) أَفَاضَ اللَّهُ عَلَيْنَا مِنْ مَدَدِهِ بِقَوْلِهِ لَا فَدِيَةَ عَلَيْهِ بِالشَّدِّ الْمَذْكُورِ لِأُمُورٍ مِنْهَا قَوْلُهُمْ كُلُّ مَحْظُورٍ فِي الْإِحْرَامِ أُبِيحَ لِلْحَاجَةِ فِيهِ الْفِدْيَةِ إلَّا نَحْوَ السَّرَاوِيلِ وَالْخُفَّيْنِ لِأَنَّ سَتْرَ الْعَوْرَةِ وَوِقَايَةُ الرِّجْلِ مِنْ النَّجَاسَةِ مَأْمُورٌ بِهِمَا لِمَصْلَحَةِ الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا فَخُفِّفَ فِيهَا اهـ وَمِنْهَا قَوْلِي فِي حَاشِيَةِ الْإِيضَاحِ لَوْ لَبِسَ عِمَامَةً لِضَرُورَةٍ وَاحْتَاجَ لِكَشْفِ كُلِّ رَأْسِهِ لِلْغُسْلِ مِنْ الْحَدَثِ الْأَكْبَرِ أَوْ لِبَعْضِهِ لِنَحْوِ مَسْحِهِ فِي الْوُضُوءِ فَاَلَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْفِدْيَةَ لَا تَتَعَدَّدُ بِذَلِكَ وَإِنْ اخْتَلَفَ الزَّمَانُ وَالْمَكَانُ أَخْذًا مِنْ قَوْلِهِمْ لَوْ فَقَدَ الْإِزَارَ جَازَ لَهُ لُبْسُ السَّرَاوِيلِ وَلَا دَمَ عَلَيْهِ وَوَجَّهُوهُ بِأَنَّ الْأَصْلَ فِي مُبَاشَرَةِ الْجَائِزِ نَفْيُ الضَّمَانِ.

وَأَيْضًا فَإِيجَابُ الْكَشْفِ عَلَيْهِ يُصَيِّرُهُ مُكْرَهًا عَلَيْهِ شَرْعًا وَقَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّ الْإِكْرَاهَ الشَّرْعِيَّ كَالْإِكْرَاهِ الْحِسِّيِّ فَكَمَا أَنَّهُ لَوْ أُكْرِهَ هُنَا حِسًّا عَلَى الْكَشْفِ لَا يَتَعَدَّدُ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ فَكَذَا إذَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ شَرْعًا فَإِنْ قُلْت قَدْ جَوَّزُوا لَهُ اللُّبْسَ لِنَحْوِ حَرٍّ وَمَرَضٍ مَعَ الدَّمِ قُلْت ذَاكَ فِيهِ تَرَفُّهٌ وَحَظٌّ لِلنَّفْسِ وَهَذَا لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْهُمَا وَإِنَّمَا هُوَ لِأَجْلِ تَحْصِيلِ الْوَاجِبِ الْمُتَوَقِّفِ عَلَيْهِ صِحَّةُ عِبَادَتِهِ فَهُوَ بِسَتْرِ الْعَوْرَةِ بِالسَّرَاوِيلِ أَشْبَهُ اهـ وَهَذَا كُلُّهُ يَأْتِي فِي صُورَةِ شَدِّ السَّلَسِ كَمَا هُوَ وَاضِحٌ وَمِنْهَا قَوْلُ الْمَجْمُوعِ قَالَ أَصْحَابُنَا لَوْ كَانَ عَلَى الْمُحْرِمِ جِرَاحَةٌ فَشَدَّ عَلَيْهَا خِرْقَةً فَإِنْ كَانَتْ فِي غَيْرِ الرَّأْسِ فَلَا فَدِيَةَ وَإِنْ كَانَتْ فِي الرَّأْسِ لَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ لِأَنَّهُ يَمْتَنِعُ فِي الرَّأْسِ الْمُحِيطِ وَغَيْرِهِ اهـ.

قَالَ بَعْضُهُمْ وَالْمُرَادُ بِالشَّدِّ هُنَا هُوَ مُجَرَّدُ اللَّفِّ لَا الْعَقْدِ وَإِنْ كَانَ هُوَ الْمُرَادُ مِنْ الشَّدِّ الْوَاقِعِ فِي نَحْوِ شَدِّ الْهِمْيَانِ وَالْخَيْطِ عَلَى الْإِزَارِ اهـ وَفِي حَاشِيَتِي لِلْإِيضَاحِ عَقِبَ ذَلِكَ وَهُوَ مُتَّجَهٌ وَإِنْ لَمْ يَحْتَجْ لِلْعَقْدِ لِلِاسْتِمْسَاكِ عَلَى الْجِرَاحَةِ وَإِلَّا فَالْوَجْهُ جَوَازُ الْعَقْدِ أَيْضًا لَكِنْ مَعَ الْفِدْيَةِ ثُمَّ الْمُرَادُ بِالْعَقْدِ عَقْدُ الْخِرْقَةِ نَفْسِهَا أَمَّا لَوْ شَدَّ عَلَيْهَا فِي غَيْرِ الرَّأْسِ خَيْطًا وَرَبَطَهُ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُسَمَّى عَقْدًا فَلَا يَحْرُمُ وَلَا فَدِيَةَ فِيهِ اهـ وَبِهِ يَعْلَمُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالشَّدِّ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا هُوَ عَقْدُ الْخِرْقَةِ الْمُتَعَيِّنُ لِدَفْعِ النَّجَاسَةِ بِأَنْ لَمْ يَجِدْ خَيْطًا يَشُدُّهُ عَلَيْهَا أَمَّا لَوْ وَجَدَ ذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ لَهُ الْعَقْدُ إذْ لَا ضَرُورَةَ إلَيْهِ حِينَئِذٍ لِأَنَّ دَفْعَ النَّجَاسَةِ مُمْكِنٌ بِشَدِّ الْخَيْطِ.

وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَقْدِ أَنَّ الْعَقْدَ يُصَيِّرُ الْمَعْقُودَ مُسْتَمْسِكًا بِنَفْسِهِ فَوَجَدَ فِيهِ حَقِيقَةَ الْإِحَاطَةِ الْمُمْتَنِعَةَ وَلَا كَذَلِكَ الْمَشْدُودُ عَلَيْهِ خَيْطٌ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَمْسِكٍ بِنَفْسِهِ فَلَا يُسَمَّى مَخِيطًا وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ يَحْرُمُ عَلَيْهِ شَقُّ إزَارِهِ وَلَفُّ كُلِّ نِصْفٍ عَلَى سَاقٍ إنْ عَقَدَهُ كَمَا فِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا وَقَوْلُ الْمَجْمُوعِ وَشَدِّهِ الْمُرَادُ بِهِ عَقْدُهُ لِمَا تَقَرَّرَ مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ الشَّدِّ وَالْعَقْدِ وَمِنْ ثَمَّ عَلَّلُوا الْحُرْمَةَ بِقَوْلِهِمْ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ يُشْبِهُ الْمَخِيطَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مُسْتَمْسِكٌ بِنَفْسِهِ.

وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَا فَدِيَةَ عَلَيْهِ بِالشَّدِّ مُطْلَقًا وَلَا بِالْعَقْدِ الْمُتَعَيَّنِ لِدَفْعِ النَّجَاسَةِ وَأَنَّهُ مَتَى أَمْكَنَهُ الشَّدُّ بِنَحْوِ خَيْطٍ أَوْ لَفِّ الْخِرْقَةِ مِنْ غَيْرِ عَقْدٍ لَمْ يَجُزْ بِهِ الْعَقْدُ وَلَزِمَتْهُ بِهِ الْفِدْيَةُ وَفِيمَا اسْتَدَلَّ بِهِ السَّائِلُ مِمَّا لَا مَرْجِعَ لِمَا قُلْنَاهُ مُنَاقَشَاتٌ يَضِيقُ عَنْهَا الْقِرْطَاسُ مَعَ أَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَيْهَا بَعْدَ تَأَمُّلِ مَا قَرَّرْنَاهُ مِنْ كَلَامِ الْأَصْحَابِ وَمَا أُخِذَ مِنْهُ، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

(وَسُئِلَ) رضي الله عنه عَنْ رَجُلٍ لَهُ وَلَدٌ عَاقِلٌ بَالِغٌ رَشِيدٌ فَأَرَادَ الْوَلَدُ التَّرَدُّدَ إلَى الْفُقَهَاءِ لِقِرَاءَةِ الْعِلْمِ وَاسْتِعَارَةِ الْكُتُبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَسْتَغْنِي عَنْهُ طَالِبُ الْعِلْمِ وَكَذَا الْخُرُوجُ لِقَضَاءِ حَوَائِجِهِ أَوْ زِيَارَةِ الصَّالِحِينَ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْقُرْبِ فَمَنَعَهُ الْوَالِدُ مِنْ ذَلِكَ وَأَمَرَهُ بِالْقُعُودِ فِي الْبَيْتِ وَعُلِّلَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ يَخْشَى عَلَيْهِ مِنْ صُحْبَةِ الْأَشْرَارِ وَالْوَلَدُ لَا يَرْتَابُ فِي حَالِهِ أَنَّهُ يَكْرَهُ ذَلِكَ وَيَحْتَرِزُ مِنْهُ فَهَلْ لِلْوَلَدِ ذَلِكَ أَمْ لَا وَإِذَا أَرَادَ الْوَلَدُ السَّفَرِ لِطَلَبِ الْعِلْمِ لِمَا لَا يَخْفَى أَنَّ مُعَاشَرَةَ الْأَهْلِ وَنَحْوِهِمْ تُخِلُّ بِهِ وَالْوَالِدُ تَشُقُّ عَلَيْهِ الْمُفَارِقَةُ فَهَلْ لِلْوَلَدِ ذَلِكَ أَمْ لَا وَإِذَا أَرَادَ الْوَلَدُ التَّقَشُّفَ وَالزُّهْدَ فِي الدُّنْيَا وَغَيْرِهَا فَكَرِهَ الْوَالِدُ ذَلِكَ فَهَلْ لِلْوَلَدِ ذَلِكَ أَمْ لَا وَإِذَا أَمَرَهُ وَالِدُهُ بِأَمْرٍ مُبَاحٍ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْوَالِدِ فَهَلْ يَلْزَمُ الْوَلَدَ امْتِثَالُهُ وَإِذَا أَمَرَهُ بِمَا فِيهِ خِلَافٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ وَكَانَتْ عَقِيدَةُ الْوَلَدِ فِي ذَلِكَ مُخَالِفَةٌ لِعَقِيدَةِ وَالِدِهِ فَهَلْ يَلْزَمُهُ امْتِثَالُهُ اعْتِبَارًا بِعَقِيدَةِ الْوَالِدِ أَمْ يَحْرُمُ اعْتِبَارًا بِعَقِيدَةِ نَفْسِهِ فَإِنْ قُلْتُمْ يَجِبُ فَهَلْ

ص: 128

يَفْعَلُهُ مَعَ اعْتِقَادِ خِلَافِهِ أَمْ يَلْزَمُهُ اعْتِقَادُ حَلِّ ذَلِكَ وَمَا حَدُّ الْبِرِّ وَالْعُقُوقِ.

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ إذَا ثَبَتَ رُشْدُ الْوَلَدِ الَّذِي هُوَ صَلَاحُ الدِّينِ وَالْمَالِ مَعًا لَمْ يَكُنْ لِلْأَبِ مَنْعِهِ مِنْ السَّعْيِ فِيمَا يَنْفَعُهُ دِينًا أَوْ دُنْيَا وَلَا عِبْرَةَ بِرِيبَةٍ يَتَخَيَّلُهَا الْأَبُ مَعَ الْعِلْمِ بِصَلَاحِ دِينِ وَلَدِهِ وَكَمَالِ عَقْلِهِ نَعَمْ إنْ كَانَ فِي الْبَلَدِ فَجَرَةٌ يَأْخُذُونَ مَنْ خَرَجَ مِنْ الْمُرْدِ إلَى السُّوقِ مَثَلًا قَهْرًا عَلَيْهِمْ تَأَكَّدَ عَلَى الْوَلَدِ إذَا كَانَ كَذَلِكَ أَنْ لَا يَخْرُجَ حِينَئِذٍ وَحْدَهُ لِنَهْيِهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْوُقُوعِ فِي مَوَاطِنِ التُّهَمِ فَأَمْرُ الْوَالِدِ لَهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بِعَدَمِ الْخُرُوجِ مَعَ الْخَوْفِ يُعْذَرُ فِيهِ فَلَا يَجُوزُ لِلْوَلَدِ مُخَالَفَتُهُ إذَا تَأَذَّى الْوَالِدُ بِذَلِكَ تَأَذِّيًا لَيْسَ بِالْهَيِّنِ وَلَمْ يَضْطَرَّ الْوَلَدُ لِلْخُرُوجِ وَلَا يَجُوزُ لِلْأَمْرَدِ كَمَا يُعْلَمُ مِمَّا يَأْتِي فِي قَطْعِ صَلَاةِ النَّفْلِ السَّفَرَ وَلَوْ لِلْعِلْمِ إلَّا مَعَ نَحْوِ مَحْرَمٍ وَرَجَاءِ حُصُولِ تَعَلُّمٍ أَوْ زِيَادَةٍ فِيهِ وَحِينَئِذٍ لَا نَظَرَ لِكَرَاهَةِ الْوَالِدِ لَهُ حَيْثُ لَا حَامِلَ عَلَيْهَا إلَّا مُجَرَّدَ فِرَاقِ الْوَلَدِ لِأَنَّ ذَلِكَ حُمْقٌ مِنْهُ وَحَيْثُ نَشَأَ أَمْرُ الْوَالِدِ أَوْ نَهْيُهُ عَنْ مُجَرَّدِ الْحُمْقِ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَيْهِ أَخْذًا مِمَّا ذَكَرَهُ الْأَئِمَّةُ فِي أَمْرِهِ لِوَلَدِهِ بِطَلَاقِ زَوْجَتِهِ.

وَكَذَا يُقَالُ فِي إرَادَةِ الْوَلَدِ لِنَحْوِ الزُّهْدِ وَمَنْعِ الْوَالِدِ لَهُ أَنَّ ذَلِكَ إنْ كَانَ لِمُجَرَّدِ شَفَقَةِ الْأُبُوَّةِ فَهُوَ حُمْقٌ وَغَبَاوَةٌ فَلَا يَلْتَفِتُ لَهُ الْوَلَدُ فِي ذَلِكَ وَأَمْرُهُ لِوَلَدِهِ بِفِعْلٍ مُبَاحٍ لَا مَشَقَّةَ عَلَى الْوَلَدِ فِيهِ يَتَعَيَّنُ عَلَى الْوَلَدِ امْتِثَالُ أَمْرِهِ إنْ تَأَذَّى أَذًى لَيْسَ بِالْهَيِّنِ إنْ لَمْ يَمْتَثِلْ أَمْرَهُ وَمَحَلَّهُ أَيْضًا حَيْثُ لَمْ يَقْطَعْ كُلُّ عَاقِلٍ بِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ الْأَبِ مُجَرَّدَ حُمْقٍ وَقِلَّةِ عَقْلٍ لِأَنِّي أُقَيِّدُ حِلّ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ لِلْعُقُوقِ بِأَنْ يَفْعَلَ مَعَ وَالِدِهِ مَا يَتَأَذَّى بِهِ إيذَاءً لَيْسَ بِالْهَيِّنِ بِمَا إذَا كَانَ قَدْ يُعْذِرُ عُرْفًا بِتَأَذِّيه بِهِ أَمَّا إذَا كَانَ تَأَذِّيه بِهِ لَا يَعْذُرُهُ أَحَدٌ بِهِ لِإِطْبَاقِهِمْ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا نَشَأَ عَنْ سُوءِ خُلُقٍ وَحِدَةِ حُمْقٍ وَقِلَّةِ عَقْلٍ فَلَا أَثَرَ لِذَلِكَ التَّأَذِّي وَإِلَّا لَوَجَبَ طَلَاقُ زَوْجَتِهِ لَوْ أَمَرَهُ بِهِ وَلَمْ يَقُولُوا بِهِ.

فَإِنْ قُلْت لَوْ نَادَاهُ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ اخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ إجَابَتِهِ وَالْأَصَحُّ وُجُوبُهَا فِي نَفْلٍ إنْ تَأَذَّى التَّأَذِّي الْمَذْكُورَ وَقَضِيَّةُ هَذَا أَنَّهُ حَيْثُ وُجِدَ ذَلِكَ التَّأَذِّي وَلَوْ مِنْ طَلَبِهِ لِلْعِلْمِ أَوْ زُهْدِهِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْقُرَبِ لَزِمَهُ إجَابَتُهُ قُلْت هَذِهِ الْقَضِيَّةُ مُقَيَّدَةٌ بِمَا ذَكَرْته إنَّ شَرْط ذَلِكَ التَّأَذِّي أَنْ لَا يَصْدُرَ عَنْ مُجَرَّدِ الْحُمْقِ وَنَحْوِهِ كَمَا تَقَرَّرَ وَلَقَدْ شَاهَدْت مِنْ بَعْضِ الْآبَاءِ مَعَ أَبْنَائِهِمْ أُمُورًا فِي غَايَةِ الْحُمْقِ الَّتِي أَوْجَبَتْ لِكُلِّ مَنْ سَمِعَهَا أَنْ يَعْذُرَ الْوَلَدَ وَيُخَطِّئَ الْوَالِدَ فَلَا يُسْتَبْعَدُ ذَلِكَ.

وَبِهَذَا يُعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ الْوَلَدَ امْتِثَالُ أَمْرِ وَالِدِهِ بِالْتِزَامِ مَذْهَبِهِ لِأَنَّ ذَاكَ حَيْثُ لَا غَرَضَ فِيهِ صَحِيحٌ مُجَرَّدُ حُمْقٍ وَمَعَ ذَلِكَ كُلِّهِ فَلْيَحْتَرِزْ الْوَلَدُ مِنْ مُخَالَفَةِ وَالِدِهِ فَلَا يَقْدُمُ عَلَيْهَا اغْتِرَارًا بِظَوَاهِرِ مَا ذَكَرْنَا بَلْ عَلَيْهِ التَّحَرِّي التَّامُّ فِي ذَلِكَ وَالرُّجُوعُ لِمَنْ يَثِقُ بِدِينِهِمْ وَكَمَالِ عَقْلِهِمْ فَإِنْ رَأَوْا لِلْوَالِدِ عُذْرًا صَحِيحًا فِي الْأَمْرِ أَوْ النَّهْيِ وَجَبَتْ عَلَيْهِ طَاعَتُهُ وَإِنْ لَمْ يَرَوْا لَهُ عُذْرًا صَحِيحًا لَمْ يَلْزَمْهُ طَاعَتُهُ لَكِنَّهَا تَتَأَكَّدُ عَلَيْهِ حَيْثُ لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهَا نَقْصُ دِينِ الْوَلَدِ وَعِلْمِهِ أَوْ تَعَلُّمِهِ وَالْحَاصِلُ أَنَّ مُخَالِفَةَ الْوَالِدِ خَطِيرَةٌ جِدًّا فَلَا يُقْدِمْ عَلَيْهَا إلَّا بَعْدَ إيضَاحِ السَّبَبِ الْمُجَوِّزِ لَهَا عِنْدَ ذَوِي الْكَمَالِ وَقَدْ عُلِمَ مِمَّا قَرَّرْته حَدُّ الْبِرِّ وَالْعُقُوقِ فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ مُهِمٌّ.

(وَسُئِلَ) رضي الله عنه عَمَّنْ اسْتَأْجَرَ مَنْ يَحُجُّ عَنْ مَيِّتٍ فَهَلْ يَجِبُ عَلَى الْأَجِيرِ إذَا أَحْرَمَ أَنْ يَنْوِيَ الْإِحْرَامَ عَنْ الْمُسْتَأْجَرِ لَهُ أَوْ يَكْفِيه الْإِطْلَاقُ قَالَ بَعْضُهُمْ إنْ كَانَتْ الْإِجَارَةُ فِي الذِّمَّةِ فَلَا بُدَّ مِنْ النِّيَّةِ لِلْمُسْتَأْجَرِ وَإِنْ كَانَتْ إجَارَةَ عَيْنٍ وَقَدْ وَقَعَتْ صَحِيحَةً فِي وَقْتِهَا فَلَا يُشْتَرَطُ بَلْ الشَّرْطُ أَنْ لَا يَصْرِفَ الْإِحْرَامَ لِغَيْرِ الْمُسْتَأْجَرِ لَهُ وَإِنْ وَقَعَتْ الْإِجَارَةُ فَاسِدَةً فَلَا بُدَّ مِنْ النِّيَّةِ لِيَقَعَ عَنْ الْمُسْتَأْجَرِ لَهُ قَالَ وَقَدْ يُشْكِلُ عَلَى الْأَوَّلِ مَا ذَكَرُوهُ فِي خَلْعِ الزَّوْجَةِ فِيمَا إذَا وَكَّلَتْ الزَّوْجَةُ مَنْ يُخَالِعُ عَنْهَا أَنَّ الْوَكِيلَ لَهُ أَنْ يُخَالِعَ عَنْ نَفْسِهِ فَهَلْ مَا ذَكَرَهُ مِنْ قَوْلِهِ الظَّاهِرُ أَنَّهُ إنْ كَانَتْ الْإِجَارَةُ فِي الذِّمَّةِ فَلَا بُدَّ مِنْ النِّيَّةِ لِلْمُسْتَأْجَرِ لَهُ وَإِنْ كَانَتْ إجَارَةَ عَيْنٍ وَقَدْ وَقَعَتْ صَحِيحَةً فَلَا يُشْتَرَطُ بَلْ الشَّرْطُ أَنْ لَا يُصْرَفَ الْإِحْرَامُ لِغَيْرِ الْمُسْتَأْجَر لَهُ وَإِنْ وَقَعَتْ فَاسِدَةً إلَخْ فَهَلْ كَلَامُهُ هَذَا كُلُّهُ صَحِيحٌ أَمْ لَا وَهَلِ اسْتِشْكَالُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ أَمْ يُمْكِنُ الْفَرْقُ بَيْنَ مَسْأَلَةِ الْوَكَالَةِ وَمَسْأَلَةِ الْإِجَارَةِ.

فَإِنْ قُلْتُمْ بِصِحَّةِ كَلَامِ الْقَائِلِ بِذَلِكَ الَّذِي نَقَلَهُ عَنْهُ فِي غُنْيَةِ الْفَقِيرِ فِي أَحْكَامِ الْأَجِيرِ فَلَوْ لَمْ تَكُنْ

ص: 129

إجَارَةً بَلْ جَعَالَةً فَهَلْ الْحُكْمُ فِيهَا كَمَا فِي الْإِجَارَةِ أَفْتَوْنَا وَقَدْ نُقِلَ فِي الْكِتَابِ الْمَذْكُورِ آنِفًا أَنَّ الْمَاوَرْدِيُّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ بِقَلِيلٍ تَعْيِينُ مَنْ يُؤَدِّي عَنْهُ النُّسُكَ شَرْطٌ فِي إجْزَاءِ الْحَجِّ دُونَ صِحَّةِ الْعَقْدِ فَإِنْ ذَكَرَهُ فِي الْعَقْدِ لَمْ يَحْتَجْ إلَى ذِكْرِهِ فِيمَا بَعْدُ وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهُ فِي الْعَقْدِ صَحَّ وَلَيْسَ لِلْأَجِيرِ الْإِحْرَامُ إلَّا بَعْدَ تَعْيِينِ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ إلَخْ وَالْمَسْأَلَةُ وَاقِعَةٌ لِبَعْضِ الْيَمْنَةِ وَإِذَا قِيلَ بِوُجُوبِ النِّيَّةِ عِنْدَ الْإِحْرَامِ فَنَسَى فَهَلْ يَكُونُ النِّسْيَانُ عُذْرًا أَمْ لَا وَهَلْ هَذَا مِنْ خِطَابِ الْوَضْعِ فَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ النِّسْيَانُ أَوْ مِنْ خِطَابِ التَّكْلِيفِ فَيُؤَثِّر فِيهِ النِّسْيَانُ.

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ مَا ذَكَرُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ التَّفْصِيلِ الْمَذْكُورِ اعْتَرَضَهُ غَيْرُهُ بِأَنَّ الْوَجْهَ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَنْوِيَ الْإِحْرَامَ عَنْ الْمُسْتَأْجَرِ لَهُ فِي الْجَمِيعِ وَهُوَ اعْتِرَاضٌ وَاضِحٌ وَيُوَجَّهُ بِأَنَّ الْأَجِيرَ فِي إجَارَةِ الْعَيْنِ وَالذِّمَّةِ الصَّحِيحَةِ وَالْفَاسِدَةِ لَوْ صَرَفَ الْحَجَّ لِنَفْسِهِ وَقَعَ لَهُ فَإِذَا أَطْلَقَ تَعَارَضَ أَصْلُ وُقُوعِ الْعِبَادَةِ مِنْ الْمُبَاشِرِ وَأَصْلُ وُقُوعِ الْعَمَلِ بَعْدَ عَقْدِ الْإِجَارَةِ عَنْ الْمُسْتَأْجَرِ وَلَا مُرَجِّحَ فَوَجَبَ التَّمْيِيزُ بِالنِّيَّةِ مُطْلَقًا وَبِهَذَا يُعْلَمُ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ مِنْ الْإِشْكَالِ لَيْسَ فِي مَحَلِّهِ لِأَنَّ الْوَكِيلَ فِي مَسْأَلَةِ الْخُلْعِ كَمَا لَهُ أَنْ يُخَالِعَ عَنْ نَفْسِهِ كَذَلِكَ لِلْأَجِيرِ أَنْ يَحُجَّ عَنْ نَفْسِهِ كَمَا تَقَرَّرَ فَهُمَا عَلَى حَدٍّ وَاحِدٍ وَأَنَّ مَنْ قَالَ بِأَنَّ الْوَكِيلَ فِي مَسْأَلَةِ الْخُلْعِ لَا يَحْتَاجُ لِنِيَّةٍ لَهُ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ هَذَا وَمَا نَحْنُ فِيهِ بِأَنَّ الْوَكِيلَ لَمْ يَتَعَارَضْ فِي حَقِّهِ أَصْلَانِ حَتَّى يَحْتَاجَ لِلتَّمْيِيزِ بِالنِّيَّةِ بِخِلَافِ الْأَجِيرِ هَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِنِيَةِ الْأَجِيرِ. وَأَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِمَعْرِفَةِ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ الَّذِي كَلَامُ الْمَاوَرْدِيُّ الْمَذْكُورُ فِيهِ فَفِي اشْتِرَاطِ ذَلِكَ خِلَافٌ طَوِيلٌ بَيْنَ الْأَصْحَابِ وَحَاصِلُ الْمُعْتَمَدِ مِنْهُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَمْيِيزِهِ فِي النِّيَّةِ بِوَجْهٍ مَا وَبِهَذَا يَجْمَعُ بَيْنَ مَنْ أَطْلَقَ اشْتِرَاطَ الْمَعْرِفَةِ وَمَنْ أَطْلَقَ عَدَمَ اشْتِرَاطِهَا، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

(وَسُئِلَ) نَفَعَ اللَّهُ بِهِ هَلْ تَصِحُّ النِّيَابَةُ فِي الطَّوَافِ وَالْقِرَاءَةِ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ لَا تَصِحُّ النِّيَابَةُ فِي الطَّوَافِ اسْتِقْلَالًا وَلَا فِي الْقِرَاءَةِ إلَّا مِمَّنْ اُسْتُؤْجِرَ لَهُمَا بِشَرْطِهِ.

(وَسُئِلَ) نَفَعَ اللَّهُ بِهِ عَمَّنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ تَطَوُّعًا ثُمَّ مَاتَ وَقَدْ بَقِيَ عَلَيْهِ نَحْوَ طَوَافِ الرُّكْنِ فَهَلْ يَجِبُ الْقَضَاءُ مِنْ تَرِكَتِهِ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ لِأَنَّ مُوجِبَهُ الْفَوَاتُ أَوْ الْإِفْسَادُ وَلَمْ يُوجَدْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا هُنَا وَتَقْصِيرُهُ بِتَأْخِيرِ نَحْوِ الطَّوَافِ لَوْ فُرِضَ أَنَّ فِيهِ تَقْصِيرًا لَا يُوجِبُ الْقَضَاءَ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ.

(وَسُئِلَ) نَفَعَ اللَّهُ بِهِ بِمَا لَفْظُهُ هَلْ الْأَفْضَلُ لِشَخْصٍ صَلَّى صَلَاةَ الصُّبْحِ فِي هَذَا الْحَرَمِ الشَّرِيفِ أَنْ يَمْكُثَ مَكَانَهُ وَيَشْتَغِلَ بِالذِّكْرِ إلَى أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ كَمَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَسْجِدِ مِنْ سَائِرِ الْمَسَاجِدِ لِمَا عَلِمَ مِنْ الْفَضْلِ الْحَاصِلِ لِمَنْ اشْتَغَلَ بِالذِّكْرِ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ وَهُوَ مَكَانَهُ إلَى أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ أَمْ الْأَفْضَلُ لَهُ الِاشْتِغَالُ بِالطَّوَافِ لِأَنَّهُ انْتَقَلَ إلَى عِبَادَةٍ أَفْضَلَ مِنْ الْعِبَادَةِ الَّتِي هُوَ فِيهَا وَقَدْ قَالَ الْفُقَهَاءُ إنَّ الْأَفْضَلَ لِمَنْ صَلَّى بِالتَّيَمُّمِ ثُمَّ وَجَدَ الْمَاءَ أَنَّ الْأَفْضَلَ قَطْعُ الصَّلَاةِ بِشَرْطِهِ لِيُصَلِّيَ بِالْوُضُوءِ وَأَنَّ مَنْ أُقِيمَتْ صَلَاةٌ وَهُوَ يُصَلِّي مُنْفَرِدًا نُدِبَ قَطْعُهَا بِشَرْطِهِ لِيُصَلِّيَهَا مَعَ الْجَمَاعَةِ وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي السَّعْيِ أَوْ الطَّوَافِ وَأُقِيمَتْ صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ نُدِبَ لَهُ قَطْعُ السَّعْيِ وَنَحْوِهِ وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي طَوَافِ نَفْلٍ وَحَضَرَتْ صَلَاةُ الْجِنَازَةِ نُدِبَ لَهُ قَطْعُهُ لِأَنَّهَا أَفْضَلُ مِنْهُ.

وَقَضِيَّةُ كَلَامِ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الطَّوَافَ أَفْضَلُ مِنْ سَائِرِ الْعِبَادَاتِ غَيْرِ الصَّلَاةِ بَلْ صَرَّحَ السُّيُوطِيّ فِي كِتَابِهِ الَّذِي جَمَعَ فِيهِ عُلُومًا كَثِيرَةً مُخْتَصَرَةً بِأَنَّ الطَّوَافَ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِ مِنْ الْعِبَادَاتِ وَعِبَارَتُهُ وَالصَّلَاةُ أَفْضَلُ مِنْ الطَّوَافِ وَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ عَلَى الْأَصَحِّ وَهُوَ أَيْ الطَّوَافُ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِ مِنْ الْعِبَادَاتِ حَتَّى مِنْ الْعُمْرَةِ وَقِيلَ الْعُمْرَةُ أَفْضَلُ قَالَ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ فِي تَأْلِيفٍ لَهُ عَلَى الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ خَطَأٌ ظَاهِرٌ وَأَدَلُّ دَلِيلٍ عَلَيْهِ مُخَالِفَةُ السَّلَفِ فَإِنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ تَكْرَارُهَا عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَمَنْ بَعْدَهُ بَلْ كَرِهَ مَالِكٌ رضي الله عنه تَكْرَارَهَا فِي الْعَامِ الْوَاحِدِ وَأَجْمَعُوا عَلَى اسْتِحْبَابِ الطَّوَافِ اهـ كَلَامُهُ وَنُقِلَ عَنْ الْمَجْمُوعِ أَنَّ الِاشْتِغَالَ بِالذِّكْرِ بَعْدَ الصُّبْحِ أَفْضَلُ مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ هَلْ هُوَ كَذَلِكَ أَمْ لَا وَهَلْ مَا نَقَلَهُ السُّيُوطِيّ رحمه الله عَنْ الْمُحِبِّ الطَّبَرِيِّ عَلَى ظَاهِرِهِ أَمْ لَا.

وَنُقِلَ عَنْ عَوَارِفِ الْمَعَارِفِ أَنَّ الِانْتِقَالَ مِنْ مَوْضِعِ الصَّلَاةِ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ إلَى مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّهُ

ص: 130

لَا بَأْسَ بِهِ إذَا كَانَ أَجْمَعَ لِهَمِّهِ وَأَصْلَحَ لَهُ هَلْ يَمْشِي هَذَا عَلَى كَلَامِ الْفُقَهَاءِ أَمْ هُوَ مَخْصُوصٌ بِأَهْلِ مُعَامَلَاتِ الْقُلُوبِ؟

(فَأَجَابَ) فَسَحَ اللَّهُ فِي مُدَّتِهِ وَنَفَعَ بِعُلُومِهِ وَبَرَكَتِهِ بِقَوْلِهِ نَقَلْت فِي شَرْحِ الْمِنْهَاجِ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ أَفْتَى بِأَفْضَلِيَّةِ الِاشْتِغَالِ بِالطَّوَافِ ثُمَّ رَدَدْته بِمَا هُوَ أَصَحُّ أَنَّهُ يُسْتَدَلُّ عَلَى تَمَايُزِ الْعِبَادَاتِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ بِمَا وَرَدَ فِي ثَوَابِهَا وَلَا شَكَّ أَنَّهُ وَرَدَ فِي ثَوَابِ هَذِهِ الْجِلْسَةِ مِنْ الثَّوَابِ مَا لَمْ يَرِدْ مِثْلُهُ فِي الطَّوَافِ بَلْ لَك أَنْ تَقُولَ إنَّ قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم «لَهُ ثَوَابُ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ تَامَّتَيْنِ تَامَّتَيْنِ تَامَّتَيْنِ» فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَفْضَلِيَّتِهَا عَلَى خُصُوصِ الطَّوَافِ لِأَنَّهَا إذَا سَاوَتْ الْحَجَّةَ وَالْعُمْرَةَ التَّامَّتَيْنِ.

الطَّوَافُ بَعْضُ أَجْزَائِهِمَا لَزِمَ زِيَادَتُهَا عَلَيْهِ وَأَنَّهَا أَفْضَلُ مِنْهُ وَهَذَا ظَاهِرٌ لِلْمُتَأَمِّلِ وَإِنَّمَا كَانَ الْأَفْضَلُ قَطْعُ الصَّلَاةِ فِيمَا ذُكِرَ أَوَّلًا لِلْخُرُوجِ مِنْ خِلَافِ مَنْ حَرَّمَ الِاسْتِمْرَارَ فِيهَا وَلَيْسَ هَذَا مِمَّا نَحْنُ فِيهِ وَثَانِيًا لِفَوَاتِ الْجَمَاعَةِ مِنْ أَصْلِهَا وَالطَّوَافُ هُنَا لَا يَفُوتُ لِإِمْكَانِ فِعْلِهِ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ بَلْ هُوَ أَوْلَى لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ حِينَئِذٍ فِيهِ بِخِلَافِهِ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ وَنُدِبَ قَطْعُهُ كَالسَّعْيِ لِلْجَمَاعَةِ إنَّمَا هُوَ لِأَجْلِ ذَلِكَ أَيْضًا أَعْنِي بَقَاءَ تَدَارُكِهِمَا بِخِلَافِهَا وَكَذَا يُقَالُ فِي طَوَافِ النَّفْلِ وَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَقَوْلُ السَّائِلِ نَفَعَ اللَّهُ بِهِ وَقَضِيَّةُ كَلَامِ الْفُقَهَاءِ إلَخْ لَا يُنَافِي مَا ذَكَرْته بِفَرْضِ تَسْلِيمِهِ لِأَنَّ كَلَامَهُمْ فِي التَّفْضِيلِ مِنْ حَيْثُ الْجِنْسِ لَا بِاعْتِبَارِ الْإِفْرَادِ.

أَلَا تَرَى إلَى تَفْضِيلِهِمْ الصَّلَاةَ عَلَى الصَّوْمِ ثُمَّ قَالُوا الْمُرَادُ الْجِنْسُ فَلَا يُقَالُ أَنَّ صَلَاةَ رَكْعَتَيْنِ أَفْضَلُ مِنْ صَوْمِ يَوْمٍ فَكَذَا هُنَا سَلَّمْنَا أَنَّ الطَّوَافَ أَفْضَلُ مِمَّا يُقَالُ فِي هَذِهِ الْجِلْسَةِ لَكِنَّ ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ الْجِنْسِ لَا لِخُصُوصِ هَذَا الْفَرْدِ لِأَنَّ فِي هَذِهِ الْجِلْسَةِ مِنْ الْمَشَقَّةِ عَلَى النَّفْسِ وَحَبْسِهَا عَلَيْهَا مَا لَا يُوجَدُ فِي الطَّوَافِ غَالِبًا كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ وَزَعَمَ أَنَّ الطَّوَافَ أَفْضَلُ مِنْ الْعُمْرَةِ مَرْدُودٌ بَلْ لَا وَجْهَ لَهُ كَيْفَ وَهِيَ لَا تَقَعُ إلَّا فَرْضًا بِخِلَافِهِ وَشَتَّانَ مَا بَيْنَ الْفَرْضِ وَغَيْرِهِ وَعَدَمُ نَقْلِ تُكَرِّرْهَا لَا يُنَاسَبُ قَوَاعِدَنَا فَاسْتِدْلَالُ الْمُحِبِّ الطَّبَرِيِّ بِهِ لَيْسَ فِي مَحَلِّهِ.

وَمَا نُقِلَ عَنْ الْمَجْمُوعِ لَمْ يَحْضُرْنِي الْآنَ لَكِنَّ وَجْهَهُ ظَاهِرٌ لِأَنَّ كُلَّ ذِكْرٍ مَخْصُوصٍ يَكُونُ الِاشْتِغَالُ بِهِ أَفْضَلَ مِنْ الِاشْتِغَالِ بِالْقِرَاءَةِ وَمَا نُقِلَ عَنْ عَوَارِفِ الْمَعَارِفِ اخْتِيَارٌ لَهُ وَظَاهِرُ كَلَامِ الْأَئِمَّةِ خِلَافُهُ فَيَلْزَمُ مَوْضِعَهُ ثُمَّ يُكَلِّفُ نَفْسَهُ الْحُضُورَ وَالْإِخْلَاصَ مَا أَمْكَنَهُ لِأَنَّ هَذَا أَشُقُّ عَلَيْهَا مِنْ الِانْتِقَالِ وَالْمَدَارُ فِي تَهْذِيبِ أَخْلَاقِهَا إنَّمَا هُوَ عَلَى تَجْرِيعِهَا مَرَارَةَ الصَّبْرِ عَلَى أَنْ تَأْتِي بِالْمَأْمُورَاتِ عَلَى وَجْهِهَا مَا أَمْكَنَهَا وَحَاصِلُ مَا مَرَّ أَنَّ مَنْ تَأَمَّلَ إجْمَاعَهُمْ عَلَى طَلَبِ هَذِهِ الْجِلْسَةِ وَاخْتِلَافِهِمْ فِي طَلَبِ الطَّوَافِ بَعْدَ الصُّبْحِ عَلِمَ أَفْضَلِيَّتَهَا عَلَيْهِ وَأَنَّ قَطْعَ النَّظَرِ عَمَّا قَدَّمْنَاهُ مِمَّا يَشْهَدُ لِفَضْلِهَا عَلَيْهِ غَيْرُ مَا ذُكِرَ وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

(وَسُئِلَ) نَفَعَ اللَّهُ بِهِ عَنْ الْمَرْمَى فِي الْجِمَارِ الثَّلَاثِ هَلْ هُوَ مُحِيطٌ بِالْأَعْلَامِ الثَّلَاثَةِ الْمَنْصُوبَةِ مِنْ جِهَاتِهَا الْأَرْبَعِ حَتَّى يُجْزِئَ الرَّمْيُ فِيهَا كَمَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُمْ يُسَنُّ لِلرَّامِي أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ وَيَجْعَلَ الْجَمْرَةَ عَنْ يَمِينِهِ أَمْ هُوَ مُخْتَصٌّ بِجِهَةِ الْجَادَّةِ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمُحَقَّقُ إذْ هُوَ الْمَوْجُودُ فِي زَمَنِهِ صلى الله عليه وسلم وَمَا عَدَاهُ مَظْنُونٌ لِاحْتِمَالِ كَوْنِ الشَّاخِصِ مَوْضُوعًا فِي مُنْتَهَى الْمَرْمَى مِنْ جِهَةِ مَكَّةَ لَا فِي وَسَطِهِ حَتَّى يُجْزِئُ الرَّمْيُ فِيمَا إذَا اسْتَقْبَلَ الْجَمْرَةَ وَاسْتَدْبَرَ الْقِبْلَةَ مَثَلًا أَمْ يُفَرَّقُ فِي ذَلِكَ بَيْنَ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ وَالْجَمْرَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ فَيَكُونُ فِيهِمَا مُحِيطًا بِالشَّاخِصَيْنِ وَفِي جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ خَاصًّا بِجِهَةِ الْجَادَّةِ وَهَلْ ضَبْطُ الْمَرْمَى بِثَلَاثَةِ أَذْرُعٍ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْجَمَالُ الطَّبَرِيُّ مُعْتَمَدٌ أَمْ يُرْجَعُ فِي تَحْدِيدِهِ إلَى الْعُرْفِ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ الَّذِي صَرَّحُوا بِهِ أَنَّهُ يُفَرَّقُ فِي ذَلِكَ بَيْنَ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ وَالْجَمْرَتَيْنِ الْآخِرَتَيْنِ فَهِيَ لَيْسَ لَهَا إلَّا جِهَةٌ وَاحِدَةٌ هِيَ مَا بِأَسْفَلِهَا عَلَى الْجَادَّةِ دُونَ مَا عَدَاهُ مِنْ سَائِرِ الْجَوَانِبِ وَهَذَا مِنْ خُصُوصِيَّاتِهَا وَأَمَّا الْجَمْرَتَانِ الْآخِرَتَانِ فَيُرْمَى إلَى كُلٍّ مِنْهُمَا مِنْ سَائِرِ الْجَوَانِبِ كَمَا يُومِئُ إلَيْهِ نَصُّ الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه وَغَيْرِهِ وَعِبَارَةُ الْمَجْمُوعِ عَنْ النَّصِّ الْجَمْرَةُ مُجْتَمَعُ الْحَصَى لَا مَا سَالَ مِنْهُ فَمَنْ أَصَابَ مُجْتَمِعَهُ أَجُزْأَهُ أَوْ سَائِلَهُ فَلَا وَالْمُرَادُ مُجْتَمِعُهُ فِي زَمَنِهِ صلى الله عليه وسلم دُونَ مَا حُوِّلَ عَنْهُ وَلَوْ نَحَّاهُ

ص: 131

مِنْ مَوْضِعِهِ الشَّرْعِيِّ وَرَمَى إلَى نَفْسِ الْأَرْضِ أَجُزْأَهُ لِأَنَّهُ رَمَى فِي مَوْضِع الرَّمْيِ انْتَهَتْ مُلَخَّصَةً وَعِبَارَةُ الْمُحِبِّ الطَّبَرِيِّ عَنْ النَّصِّ أَيْضًا.

وَالْعِبْرَةُ بِمُجْتَمِعِ الْحَصَى لَا مَا سَالَ عَنْهُ وَلَا الشَّاخِصِ وَلَمْ يَذْكُرُوا فِي الْمَرْمَى حَدًّا مَعْلُومًا غَيْرَ أَنَّ كُلَّ جَمْرَةٍ عَلَيْهَا عَلَمٌ فَيَنْبَغِي أَنْ يَرْمِيَ تَحْتَهُ عَلَى الْأَرْضِ وَلَا يُبْعِدُ عَنْهُ احْتِيَاطًا اهـ وَحَدَّ الْجَمَالُ الطَّبَرِيُّ مُجْتَمَعَ الْحَصَى بِأَنَّهُ مَا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَصْلِ الْجَمْرَةِ ثَلَاثَةُ أَذْرُعٍ فَقَطْ وَهُوَ مِنْ تَفَقُّهِهِ وَكَأَنَّهُ قَرَّبَ بِهِ مُجْتَمِعَ الْحَصَى غَيْرَ السَّائِلِ وَالْمُشَاهَدَةُ تُؤَيِّدُهُ فَإِنَّ مُجْتَمِعَهُ غَالِبًا لَا يَنْقُصُ عَنْ ذَلِكَ فَعَدَمُ تَخْصِيصِ الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه وَالْأَصْحَابِ مُجْتَمِعَ الْحَصَى الْمَذْكُورِ بِجِهَةٍ مَعَ تَخْصِيصِهِمْ لَهُ فِي جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ بِمَا بِأَسْفَلِ الْوَادِي صَرِيحٌ فِي تَعْمِيمِ جِهَاتِ الْأَوَّلِينَ وَمِمَّا يُصَرِّحُ بِهِ أَيْضًا قَوْلُهُ أَعْنِي الْجَمَالَ لَا يُشْتَرَط لِصِحَّةِ الرَّمْيِ أَنْ يَكُونَ الرَّامِي فِي مَكَان مَخْصُوصٍ أَيْ جِهَةٍ مَخْصُوصَةٍ مِنْ جِهَاتِ الْأَوَّلِينَ وَأَسْفَلَ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ وَمِمَّا يُصَرِّحُ بِهِ أَيْضًا مَا أَشَارَ إلَيْهِ السَّائِلُ نَفَعَ اللَّهُ بِهِ وَهُوَ قَوْلُهُمْ يُسَنُّ لِلرَّامِي أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ إلَخْ إذْ صَرِيحُهُ جَوَازُ مَا عَدَا ذَلِكَ الِاسْتِقْبَالِ الشَّامِلِ لِلرَّمْيِ مِنْ سَائِرِ الْجِهَاتِ.

ثُمَّ تَحْدِيدُ الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه وَالْأَصْحَابِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ إلَى زَمَانِنَا رضي الله عنهم الْمَرْمَى بِمُجْتَمِعِ الْحَصَى صَرِيحٌ أَيْ صَرِيحٌ فِي أَنَّ مُجْمِعَ الْحَصَى الْمَعْهُودِ الْآنَ بِسَائِرِ جَوَانِبِ الْجَمْرَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ وَتَحْتَ شَاخِصِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ هُوَ الَّذِي كَانَ فِي عَهْدِهِ صلى الله عليه وسلم وَلَيْسَ بِبَعِيدٍ إذْ الْأَصْلُ بَقَاءُ مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ حَتَّى يُعْرَفَ خِلَافُهُ وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ قَوْلُ السَّائِلِ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمُحَقَّقُ إلَخْ وَكَوْنُ الْجَمْرَةِ كَانَتْ عَلَى نَحْوِهِ لَا يُنْتِجُ لَهُ هَذِهِ الدُّعَى كَمَا هُوَ وَاضِحٌ وَقَدْ حَفِظَ اللَّهُ تَعَالَى آثَارَ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم وَمَعَالِمَ دِينِهِ أَنْ يَتَطَرَّقَ إلَيْهَا تَغْيِيرٌ عَمَّا كَانَتْ عَلَيْهِ.

وَمِنْ ثَمَّ قَالَ الْأَزْرَقِيُّ وَهُوَ إمَامُ النَّاسِ وَقُدْوَتُهُمْ فِي أَمْكِنَةِ الْمَنَاسِكِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا وَكَانَتْ الْجَمْرَةُ أَيْ جَمْرَةُ الْعَقَبَةِ زَائِلَةً عَنْ مَحَلِّهَا أَزَالَهَا جُهَّالُ النَّاسِ بِرَمْيِهِمْ الْحَصَى وَغُفِلَ عَنْهَا حَتَّى ارْتَخَتْ مِنْ مَوْضِعِهَا شَيْء يَسِيرًا مِنْهَا وَمِنْ فَوْقِهَا فَرَدَّهَا بَعْضُ رُسُلِ الْمُتَوَكِّلِ الْعَبَّاسِيِّ إلَى مَوْضِعِهَا الَّتِي لَمْ تَزَلْ عَلَيْهِ وَبَنَى مِنْ وَرَائِهَا جِدَارًا أَعْلَاهُ عَلَمُهَا وَمَسْجِدًا مُتَّصِلًا بِذَلِكَ الْجِدَارِ لِئَلَّا يَصِلَ إلَيْهَا مَنْ يُرِيدُ الرَّمْيَ مِنْ أَعْلَاهَا اهـ وَبِهِ يُعْلَمُ أَنَّ إطْبَاقَ النَّاسِ عَلَى الرَّمْيِ إلَى الْجَمْرَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ وَعَدَمُ تَعَرُّضِ الْمُلُوكِ لِمَا يَمْنَعُهُمْ مِنْ ذَلِكَ أَوْضَحُ دَلِيلٍ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ وَأَنَّهُ الَّذِي كَانَ فِي زَمَنِهِ صلى الله عليه وسلم وَهَذَا مِمَّا لَا مِرْيَةَ فِيهِ وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى وَلِيُّ التَّوْفِيقِ.

(وَسُئِلَ) رضي الله عنه مَا حُكْمُ أَهْلِ مِنًى لَوْ أَرَادُوا النَّفَرَ الْأَوَّلَ حَتَّى يَسْقُطَ عَنْهُمْ مَبِيتُ اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ وَرَمْيُ يَوْمِهَا؟

(فَأَجَابَ) رضي الله عنه بِقَوْلِهِ الَّذِي يَظْهَرُ الْآنَ أَنَّهُمْ كَغَيْرِهِمْ فِي ذَلِكَ فَلَا يَسْقُطُ عَنْهُمْ إلَّا إنْ فَارَقُوا مِنًى بِنِيَّةِ عَدَمِ الْعَوْدِ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ إلَى زَوَالِ الثَّالِثِ فَمَنْ خَرَجَ بِنِيَّةِ ذَلِكَ سَقَطَ عَنْهُ وَمَنْ لَا لَزِمَهُ الْمَبِيتُ وَرَمَى الْيَوْمَ الثَّالِثَ فَإِنْ قُلْت كَيْفَ هَذَا مَعَ أَنَّ فِيهِمْ مَعْنَى يُفَارِقُونَ بِهِ غَيْرَهُمْ هُوَ أَنَّهُمْ مُتَوَطِّنُونَ فَلَا يُسْقِطُ كَوْنُهُمْ مِنْ أَهْلِ مِنًى خُرُوجَهُمْ وَلَوْ بِنِيَّةِ ذَلِكَ فَقِيَاسُ ذَلِكَ أَنَّهُمْ يَلْزَمُهُمْ مَبِيتُ الثَّالِثَةِ وَرَمْيُ يَوْمِهَا مُطْلَقًا لِأَنَّهُمْ لَا يُقَالُ فِيهِمْ أَنَّهُمْ بِمُفَارِقَتِهِمْ مِنًى انْقَطَعَتْ عَنْهُمْ الْعَلَائِقُ الَّذِي صَرَّحُوا بِهِ تَعْلِيلًا لِلسُّقُوطِ قُلْت هَذَا وَاضِحُ الْمَعْنَى لَوْلَا أَنَّ سُكُوتَهُمْ عَنْ اسْتِثْنَائِهِمْ كَالصَّرِيحِ فِي أَنَّهُمْ فِي ذَلِكَ كَغَيْرِهِمْ وَيُوَجَّهُ عَلَى مَا فِيهِ بِأَنَّ التَّوَطُّنَ أَمْرٌ خَارِجٌ عَنْ اعْتِبَارِ الرَّمْيِ وَالْمَبِيتِ.

أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ يَلْزَمُهُمْ الْمَبِيتُ بِالْفِعْلِ وَلَا عِبْرَةَ بِكَوْنِهِمْ مُتَوَطِّنِينَ الَّذِي لَوْ نَظَرَ إلَيْهِ نَاظِرٌ لَقَالَ الْمَبِيتُ لِأَنَّ تَوَطُّنَهُمْ يُحَصِّلُ الْمَعْنَى الْمَقْصُودَ مِنْ وُجُوبِ الْمَبِيتِ عَلَى غَيْرِهِمْ لَكَانَ لَهُ وَجْهُ عَدَمِ اعْتِبَارِ التَّوَطُّنِ مَا أَشَرْت إلَيْهِ أَنَّهُ أَمْرٌ خَارِجٌ حُكْمِيٌّ مُسْتَحَبٌّ وَالْمَقْصُودُ مِنْ الْمَنَاسِكِ مُبَاشَرَةُ الْحَجِّ وَإِحْرَامُهُ وَوَاجِبَاتُهُ بِالْفِعْلِ فَلَا يُغْنِي عَنْهُ غَيْرُهُ فَلِذَلِكَ وَجَبَ الْمَبِيتُ عَلَيْهِمْ مَعَ تَوَطُّنِهِمْ وَكَذَلِكَ رَمْيُ الثَّالِثِ وَمَبِيتُهُ حَيْثُ لَا نَفْرَ وَسَقَطَ عَنْهُمْ النَّفْرُ كَغَيْرِهِمْ فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ مُهِمٌّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

(وَسُئِلَ) نَفَعَ اللَّهُ بِعُلُومِهِ عَمَّا وَقَعَ فِي مَوْسِمِ سَنَةَ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ وَتِسْعِمِائَةٍ ضُحَى يَوْمِ النَّحْرِ بَيْنَ صَاحِبِ مَكَّةَ وَأَمِيرِ الْحَاجِّ مِنْ فِتْنَةٍ اقْتَضَتْ خَوْفَ النَّاسِ كُلِّهِمْ مِنْ أَعْرَابِ

ص: 132

الْبَوَادِي وَغَيْرِهِمْ عَلَى نُفُوسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ إنْ أَقَامُوا بِمِنًى لِلْمَبِيتِ أَوْ الرَّمْيِ ثُمَّ تَزَايَدَتْ وَاشْتَدَّ الْخَوْفُ إلَى أَنْ رَحَلَ أَكْثَرُ النَّاسِ مِنْ مِنًى وَتَرَكُوا الْمَبِيتَ وَرَمْيَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ وَتَعَذَّرَتْ الِاسْتِنَابَةُ وَلَمْ يَبْقَ بِهَا إلَّا الْمُخَاطِرُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَكَثُرَ سُؤَالُ النَّاسِ عَنْ حُكْمِ تَرْكِهِمْ لِهَذَيْنِ فَمَا حُكْمُ اللَّهُ فِيهِ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ أَمَّا تَرْكُ الْمَبِيتِ فَسُقُوطُهُ وَعَدَمُ الدَّمِ فِيهِ وَاضِحٌ وَإِنَّمَا الْمُشْكِلُ حُكْمُ الرَّمْيِ لِأَنَّ كَلَامَهُمْ ظَاهِرٌ فِي وُجُوبِ الدَّمِ فِيهِ وَلَوْ مَعَ هَذَا الْعُذْرِ الْعَامِّ لِأَنَّهُمْ جَعَلُوهُ كَتَرْكِ الْإِحْرَامِ مِنْ الْمِيقَاتِ فِي الِاتِّفَاقِ عَلَى وُجُوبِهِ بِخِلَافِ الْمَبِيتِ وَلِأَنَّ الْمَبِيتَ تَابِعٌ لَهُ وَهُوَ الْمَقْصُودُ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ سُقُوطِ الْمَبِيتِ بِمَا ذَكَرُوهُ سُقُوطُ الرَّمْيِ بِهِ لِأَنَّهُ يُغْتَفَرُ فِي التَّابِعِ مَا لَا يُغْتَفَرُ فِي الْمَتْبُوعِ.

وَاَلَّذِي يَنْقَدِحُ عِنْدِي مَعَ أَنِّي ذَبَحْت احْتِيَاطًا لِمَا ذَكَرْته مِنْ ظَاهِرِ كَلَامِهِمْ أَنَّهُ يَنْبَغِي فِي خُصُوصِ هَذِهِ الصُّورَةِ عَدَمُ وُجُوبِ الدَّمِ لِأُمُورٍ مِنْهَا أَنَّهُمْ شَبَّهُوا الرَّمْيَ بِأَصْلِ الْحَجِّ فِي وُجُوبِ الْإِنَابَةِ فِيهِ عَلَى الْعَاجِزِ عَنْهُ وَفِي اعْتِبَارِ ظَنِّ الْيَأْسِ عَنْ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ فِي وَقْتِهِ وَفِي اشْتِرَاطِ كَوْنِ النَّائِبِ لَيْسَ عَلَيْهِ رَمْيٌ كَمَا يُشْتَرَطُ فِي النَّائِبِ ثَمَّ أَنْ لَا يَكُونَ عَلَيْهِ حَجٌّ وَفِي أَنَّهُ إذَا اسْتَنَابَ مَنْ عَلَيْهِ رَمْيٌ وَقَعَ لِلنَّائِبِ نَفْسِهِ كَمَا لَوْ اسْتَنَابَ مَنْ عَلَيْهِ حَجٌّ وَقَعَ عَنْ الْمُسْتَنِيبِ بِخِلَافِهِ ثُمَّ قَالُوا لِأَنَّ الرَّمْيَ تَابِعٌ وَتَرْكُهُ قَابِلٌ لِلْجَبْرِ بِالدَّمِ بِخِلَافِ الْحَجِّ فِيهِمَا.

وَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّهُ مِثْلُ الْحَجِّ فِيمَا ذُكِرَ فَلْيَكُنْ مِثْلُهُ فِيمَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه وَالْأَصْحَابُ فِيهِ مِنْ أَنَّ الْخَوْفَ إذَا عَمَّ مَنَعَ وُجُوبَهُ لِتَعَذُّرِ فِعْلِهِ مَعَ تَعَذُّرِ الِاسْتِنَابَةِ حِينَئِذٍ بِخِلَافِ مَا عَدَا هَذِهِ الصُّورَةِ فَإِنَّهُ وَإِنْ تَعَذَّرَ فِعْلُهُ لَمْ تَتَعَذَّرْ الِاسْتِنَابَةُ فَإِذَا تَرَكَهُمَا لَزِمَهُ الدَّمُ لِتَقْصِيرِهِ وَهَذَا هُوَ السَّبَبُ فِي ذِكْرِهِمْ أَعْذَارًا كَثِيرَةً فِي الْمَبِيتِ وَلَمْ يَذْكُرُوا نَظِيرَهَا فِي الرَّمْيِ مَعَ كَوْنِ الْخَبَرِ سَوَّى بَيْنَهُمَا فِي الْعُذْرِ وَمِنْهَا قَوْلُ ابْنِ الرِّفْعَةِ وَغَيْرِهِ وَكَلَامُ الْقَاضِي حُسَيْنٍ صَرِيح فِيهِ وَمَنْ عُذْرُهُ كَعُذْرِ الرُّعَاةِ أَوْ أَهْلِ السِّقَايَةِ جَازَ لَهُمْ مَا جَازَ لَهُمْ اهـ وَإِذَا لَحِقَتْ تِلْكَ الْأَعْذَارُ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا إلَّا مُجَرَّدَ مَصْلَحَةٍ لِلنَّفْسِ أَوْ الْغَيْرِ بِالْمَنْصُوصِ فِي عَدَمِ الْإِثْمِ وَالدَّمِ أَيْ فِي الْمَبِيتِ فَأُولَى أَنْ يُلْحَقَ بِذَلِكَ هَذَا الْعُذْرُ الْعَامُّ الَّذِي لَمْ يُطِقْ أَحَدٌ الصَّبْرَ مَعَهُ عَلَى الرَّمْيِ وَالْمَبِيتِ فِي عَدَمِ لُزُومِ الدَّمِ كَالْإِثْمِ وَمِنْهَا مَا بَحَثَهُ الْإِسْنَوِيُّ وَتَبِعَهُ جَمْعٌ وَجَرَيْت عَلَيْهِ فِي شَرْحِ الْعُبَابِ وَغَيْرِهِ مِنْ أَنَّ الرَّمْيَ كَالْمَبِيتِ فِي سُقُوطِهِ لِلْعُذْرِ وَعَدَمِهِ عِنْدَ عَدَمِ الْعُذْرِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُتَعَجِّلِ.

وَعِبَارَةُ شَرْحِ الْعُبَابِ مَعَ الْمَتْنِ (فَرْعٌ مَنْ نَفَرَ مِنْ مِنًى) النَّفْرُ الْأَوَّلُ الَّذِي هُوَ (فِي ثَانِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ بَعْدَ رَمْيِهِ) الْوَاقِعِ بَعْدَ الزَّوَالِ قَبْلَ الْغُرُوبِ ظَرْفٌ لِنَفْرٍ قُصِدَ بِهِ الْإِيضَاحُ وَإِلَّا فَهُوَ قَدْ فُهِمَ مِمَّا قَبْلَهُ أَعْنِي الْمَجْرُورَ بِفِي (فَإِنْ كَانَ قَدْ بَاتَ مَا) أَيْ اللَّيْلَتَيْنِ اللَّتَيْنِ (قَبْلَهُ وَرَمَى) الْيَوْمَيْنِ اللَّذَيْنِ قَبْلَهُ أَيْضًا (أَوْ سَقَطَ مَبِيتُهُ) وَرَمْيُهُ (لِعُذْرٍ كَمَا مَرَّ جَازَ وَسَقَطَ عَنْهُ بَاقِي الْمَبِيتِ وَالرَّمْيُ) فَلَا دَمَ عَلَيْهِ وَلَا إثْمَ إجْمَاعًا انْتَهَتْ فَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ سَقَطَ مَبِيتُهُ وَرَمْيُهُ لِعُذْرٍ إلَخْ تَجِدُهُ صَرِيحًا فِيمَا مَرَّ أَنَّ الْعُذْرَ قَدْ يُسْقِطُ الرَّمْيَ.

فَإِنْ قُلْت هَذَا كُلُّهُ مُسَلَّمٌ لَوْلَا تَصْرِيحُ الْأَصْحَابِ فِي بَابِ الْإِحْصَارِ بِمَا يُخَالِفُهُ حَيْثُ قَالَ الْقَاضِي ابْنُ كَجٍّ لَوْ وَقَفَ بِعَرَفَاتٍ ثُمَّ صُدَّ فَإِنْ كَانَ بَعْدَ الرَّمْيِ قَالَ أَصْحَابُنَا لَا مَعْنَى لَأَنْ يَتَحَلَّلَ وَلَكِنْ يَمْتَنِعُ مِنْ الْوَطْءِ فَإِذَا قَدَرَ عَلَى الْمَبِيتِ طَافَ لِأَنَّهُ قَدْ حَلَّ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ غَيْرَ النِّسَاءِ وَإِنْ كَانَ قَدْ أُحْصِرَ قَبْلَ الرَّمْيِ قَالَ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه أَحْبَبْت أَنْ يَثْبُتَ عَلَى إحْرَامِهِ فَإِنْ فَعَلَ أَرَاقَ دَمًا لِتَرْكِ الْجِمَارِ وَلَيَالِي مِنًى فَإِذَا قَدَرَ عَلَى الْمَبِيتِ طَافَ وَسَعَى إنْ لَمْ يَكُنْ سَعَى وَقَدْ أَجْزَأَتْهُ حَجَّتُهُ وَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يَتَحَلَّلَ فَلَهُ ذَلِكَ وَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْمُحْصَرِينَ سَوَاءٌ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِ دَمٌ لِأَجْلِ التَّحَلُّلِ وَلَوْ كَانَتْ مَحَالَّهَا فَكَانَ قَدْ أُحْصِرَ قَبْلَ الْوُصُولِ إلَى مِنًى وَالرَّمْيِ فَقُلْنَا لَهُ لَك أَنْ تَتَحَلَّلَ فَلَمْ يَفْعَلْ حَتَّى خَرَجَتْ أَيَّامُ مِنًى.

فَقَدْ حَصَلَ مُتَحَلِّلًا وَيَكُونُ عَلَيْهِ دَمٌ لِلرَّمْيِ لِأَنَّهُ تَرَكَهُ وَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ أُحْصِرَ فَيَمْتَنِع مِنْ الْوَطْءِ إلَى أَنْ يَطُوفَ هَذَا لَفْظُهُ اهـ كَذَا ذَكَرَهُ الْأَذْرَعِيُّ وَذَكَرَ قَبْلَهُ مَا لَفْظُهُ الْإِحْصَارُ الْمُجَوَّزُ لِلتَّحَلُّلِ هُوَ الْمَنْعُ عَنْ الْأَرْكَانِ فَلَوْ مَنَعَ مِنْ الرَّمْيِ وَالْمَبِيتِ بِمِنًى لَمْ يَجُزْ التَّحَلُّلُ لِأَنَّهُ مُتَمَكِّنٌ مِنْ

ص: 133

التَّحَلُّلِ بِالطَّوَافِ وَالْحَلْقِ وَيَقَعُ حَجُّهُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ وَيُجْبَرُ الرَّمْيُ وَالْمَبِيتُ بِالدَّمِ اهـ وَقَالَ غَيْرُهُ إذَا لَمْ لَمْ يَتَحَلَّلْ حَتَّى فَاتَهُ الرَّمْيُ وَالْمَبِيتُ بِمِنًى فَعَلَيْهِ الدَّمُ لِفَوَاتِ الرَّمْيِ كَغَيْرِ الْمُحْصَرِ فَيَحْصُلُ عَلَى الْأَصَحِّ بِالدَّمِ وَالْحَلْقُ التَّحَلُّلُ الْأَوَّلُ ثُمَّ يَطُوفُ مَتَى أَمْكَنَهُ لِبَقَائِهِ عَلَيْهِ وَيَسْعَى إنْ لَمْ يَكُنْ سَعَى وَتَمَّ حَجُّهُ وَعَلَيْهِ دَمٌ ثَانٍ لِلْمَبِيتِ بِمِنًى لِفَوَاتِهِ وَظَاهِرٌ أَنَّهُ إنْ فَاتَهُ الْمَبِيتُ بِمُزْدَلِفَةَ لَزِمَهُ دَمٌ ثَالِثٌ.

وَفِي الْخَادِمِ بَعْدَ قَوْلِ الرَّافِعِيِّ وَإِنْ لَمْ يَتَحَلَّلْ حَتَّى فَاتَهُ الرَّمْيُ وَالْمَبِيتُ فَهُوَ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى وُجُوبِ الدَّمِ بِفَوَاتِهِمَا كَغَيْرِ الْمُحْصَرِ أَيْ وَلَا يُفِيدُ الْإِحْصَارُ إلَّا عَدَمَ الْإِثْمِ فَإِنَّ الْأَيَّامَ إذَا مَضَتْ وَجَبَ عَلَيْهِ لِأَجَلِ تَرْكِ الرَّمْيِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ لَوْ تُرِكَ ذَلِكَ بِدُونِ الْحُصْرِ وَمَا ذَكَرَهُ فِي الرَّمْيِ ظَاهِرٌ وَأَمَّا الدَّمُ لِتَرْكِ الْمَبِيتِ قَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ وُجُوبُهُ مَبْنِيًّا عَلَى أَنَّ مَنْ لَهُ عُذْرٌ غَيْرُ السِّقَايَةِ وَالرَّعْيِ هَلْ يَلْحَقُ بِهِمَا إذَا قُلْنَا بِوُجُوبِ الْمَبِيتِ أَمْ لَا فَإِنْ أَلْحَقْنَاهُ بِهِمَا لَمْ يَجِبْ هُنَا شَيْءٌ وَإِلَّا وَجَبَ اهـ قُلْت وَحَكَى ابْنُ كَجٍّ عَنْ النَّصِّ أَنَّهُ قَالَ لَوْ كَانَ أُحْصِرَ قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أُحِبُّ أَنْ يَثْبُتَ عَلَى إحْرَامِهِ فَإِنْ فَعَلَ أَرَاقَ دَمًا لِتَرْكِ الْجِمَارِ وَلَيَالِي مِنًى فَإِذَا قَدَرَ عَلَى الْبَيْتِ طَافَ وَسَعَى اهـ كَلَامُ الْخَادِمِ.

وَفِي الْمَجْمُوعِ نَقْلًا عَنْ الرُّويَانِيِّ وَغَيْرِهِ لَوْ أُحْصِرَ بَعْدَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَاتٍ وَمُنِعَ مَا سِوَى الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ وَتَمَكَّنَ مِنْهُمَا لَمْ يَجُزْ لَهُ التَّحَلُّلُ بِالْإِحْصَارِ لِتَمَكُّنِهِ مِنْهُ بِالطَّوَافِ وَالْحَلْقِ وَيَلْزَمُهُ دَمٌ لِتَرْكِ الرَّمْيِ وَيُجْزِئُهُ حَجُّهُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ اهـ فَهَذِهِ الْعِبَارَاتُ كُلُّهَا صَرِيحَةٌ فِي وُجُوبِ الدَّمِ فِي الْوَاقِعَةِ الْمَذْكُورَةِ لِأَنَّ غَايَةَ الْأَمْرِ فِيهَا أَنَّهُمْ كَالْمُحْصَرِينَ وَقَدْ تَقَرَّرَ فِيهِمْ وُجُوبُ الدَّمِ فِي الرَّمْيِ وَالْمَبِيتِ قُلْت لَيْسَ مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ هَذَا فِي شَيْءٍ بِدَلِيلِ قَوْلِهِمْ فِي تَرْكِ الْمَبِيتِ لِعُذْرٍ لَا دَمَ فِيهِ مَعَ قَوْلهمْ هُنَا بِوُجُوبِهِ فِيهِ مَعَ أَنَّهُ مَعْذُورٌ فِي تَرْكِهِ فَعَلِمْنَا بِذَلِكَ أَنَّ مَلْحَظَ وُجُوبِ الدَّمِ هُنَا غَيْرُ مَلْحَظِهِ فِي صُورَتِنَا فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهَا الْإِحْصَارُ الَّذِي ذَكَرُوهُ وَإِنَّمَا فِيهَا مُجَرَّدُ خَوْفٍ مِنْ الْإِقَامَةِ لِلرَّمْيِ وَالْمَبِيتِ وَبَيَانِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْإِحْصَارَ فِيهِ صَدٌّ عَنْ نَفْسِ الْحَجِّ أَوْ بَعْضِ أَرْكَانِهِ بِالْقَصْدِ لَا بِطَرِيقِ اللَّازِمِ وَمَا نَحْنُ فِيهِ لَيْسَ فِيهِ ذَلِكَ أَصْلًا.

وَأَيْضًا الْإِحْصَارُ مُجَوِّزٌ لِلْخُرُوجِ عَنْ أَصْلٍ الْحَجَّ إلَى بَدَلِهِ وَهُوَ الدَّمُ فَكَانَ مَا هُوَ مِنْ تَوَابِعِهِ الَّذِي هُوَ الرَّمْيُ وَالْمَبِيتُ مِثْلُهُ فِي ذَلِكَ إذَا أُحْصِرَ عَنْهُمَا فَمِنْ ثَمَّ أَوْجَبُوا فِي الْمَبِيتِ الدَّمَ هُنَا وَإِنْ أُحْصِرَ عَنْهُ وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ اسْتِشْكَالُ ابْنِ الرِّفْعَةِ الْمَذْكُورِ فِي الْمَبِيتِ وَيُعْلَمُ أَنَّ مَلْحَظَ مَا أَطْبَقُوا عَلَيْهِ هُنَا مِنْ وُجُوبِ الدَّمِ فِيهِ غَيْرُ مَلْحَظٍ مَا ذَكَرُوهُ ثُمَّ مِنْ عَدَمِ وُجُوبِهِ عَلَى الْخَائِفِ وَنَحْوِهِ إذَا تَرَكَهُ فَإِنْ قُلْت مَا الْفَرْقُ بَيْنَ الرَّمْيِ حَيْثُ سَقَطَ بِهَذَا الْخَوْفِ الْعَامِّ عَلَى مَا ذَكَرْت وَبَيْنَ تَرْكِ الْإِحْرَامِ مِنْ الْمِيقَاتِ فَإِنَّهُ يَجِبُ فِيهِ الدَّمُ وَإِنْ تَرَكَ لِذَلِكَ قُلْت قَدْ أَشَرْت لِلْفَرْقِ فِيمَا مَرَّ بِأَنَّ الرَّمْيَ لَمَّا دَخَلَتْهُ الْإِنَابَةُ دَخَلَتْهُ الْأَعْذَارُ وَأَثَّرَتْ فِي سُقُوطِهِ بِالْأُولَى كَأَصْلِ الْحَجِّ بِخِلَافِ الْإِحْرَامِ مِنْ الْمِيقَاتِ وَنَحْوِهِ فَإِنَّهُ لَمْ تَدْخُلْهُ نِيَابَةً فَلَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ الْعُذْرُ بِالسُّقُوطِ فَتَأَمَّلْهُ وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.

فَإِنَّ قُلْت هُنَا صُورَةٌ تَتَعَذَّرُ فِيهَا الْإِنَابَةُ وَمَعَ ذَلِكَ يَجِبُ فِيهَا الدَّمُ فَلْتَكُنْ مَسْأَلَتِنَا كَذَلِكَ وَتِلْكَ الصُّورَةُ أَنْ يَطْرَأَ عَلَيْهِ الْإِغْمَاءُ أَوْ الْجُنُونُ وَلَمْ يَأْذَنْ لِغَيْرِهِ فِي الرَّمْيِ عَنْهُ أَوْ أَذِنَ لَهُ وَلَيْسَ بِعَاجِزٍ آيِسٍ إذْ لَا يَصِحُّ إذْنُهُ إلَّا إنْ كَانَ عَاجِزًا آيِسًا كَأَنْ كَانَ مَرِيضًا آيِسًا فَأَذِنَ ثُمَّ جُنَّ أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ فَإِذَا لَمْ يَأْذَنْ كَمَا ذُكِرَ لَمْ يُجْزِئ عَنْهُ الرَّمْيُ وَعَلَيْهِ دَمٌ إذَا أَفَاقَ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِالرَّمْيِ هُوَ وَلَا نَائِبِهِ وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ عَمَّنْ تَأَمَّلَهُ مَا فِي الْخَادِمِ وَإِذَا تَقَرَّرَ الدَّمُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ فَصُورَتُنَا مِثْلُهَا بَلْ أَوْلَى قُلْت هَذِهِ لَا تَرِدُ عَلَيْنَا لِمَا قَرَّرْنَاهُ مُوَضَّحًا أَنَّهُمْ غَلَبُوا فِي أَحْكَامِ الرَّمْيِ مُشَابَهَتَهُ لِأَصْلِ الْحَجِّ وَلَا شَكَّ أَنَّ أَصْلَ الْحَجِّ يَسْقُطُ دَوَامًا كَمَا فِي بَعْضِ صُوَرِ الْحَصْرِ وَابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ اسْتِقْرَارٍ بِالْخَوْفِ الْعَامِّ بَلْ الْخَاصِّ عَلَى مَا فِيهِ وَلَا كَذَلِكَ الْجُنُونُ أَوْ الْإِغْمَاءُ وَكَانَ سِرُّ ذَلِكَ أَنَّ الْخَوْفَ يَكْثُرُ وُقُوعُهُ وَقَدْ يَقَعُ فِيهِ هَتْكُ حَرِيمٍ أَوْ نَفْسٍ فَوَسِعَ فِيهِ بِخِلَافِ الْجُنُونِ أَوْ الْإِغْمَاءِ.

وَلَمَّا فَرَغَ ذَلِكَ أَخْبَرَنِي بَعْضُ مُسِنِّي مَكَّةَ وَأَصْلَابُهُمْ أَنَّهُ كَانَ وَقَعَ نَظِيرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ سَنَةَ إمْسَاكِ قِيتِ الرَّجَا الْمَرْسُولِ مِنْ جِهَةِ سُلْطَانِ مِصْرَ الْغُورِيِّ لِسُلْطَانِ

ص: 134

مَكَّةَ الشَّرِيفِ بَرَكَاتِ بْنِ مُحَمَّدٍ رحمه الله وَأَنَّ عُلَمَاءَ مِصْرَ وَمَكَّةَ اسْتَفْتَوْا فِيهَا فَاخْتَلَفُوا وَأَنَّ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ أَفْتَى بِعَدَمِ لُزُومِ الدَّمِ شَيْخُنَا شَيْخُ الْإِسْلَامِ زَكَرِيَّا رحمه الله وَآخَرُونَ فَسُرِرْت لِذَلِكَ إنْ صَحَّ وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

(وَسُئِلَ) فَسَحَ اللَّهُ فِي مُدَّتِهِ بِمَا لَفْظُهُ مَا وَجْهُ أَفْضَلِيَّةِ التَّأْخِيرِ لِثَالِثِ مِنًى مَعَ أَنَّ الْآيَةَ مُخَيِّرَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّعْجِيلِ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ وَجْهُ ذَلِكَ مِنْ الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ أَمَّا الْآيَةُ فَلِأَنَّ فِيهَا التَّعْبِيرَ بِالتَّعْجِيلِ الْمَأْخُوذِ مِنْ الْعَجَلَةِ الْمَذْمُومِ جِنْسُهَا {خُلِقَ الإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} [الأنبياء: 37] فَكَانَ فِيهِ نَوْعُ إشْعَارٍ بِتَقْدِيمِ الشَّيْءِ عَلَى وَقْتِهِ الْأَصْلِيِّ أَوْ الْفَاضِلِ وَكَأَنَّ هَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ هُوَ السَّبَبُ عَنْ الْعُدُولِ عَمَّا يَقْتَضِيه نَظْمُ الْآيَةِ مِنْ التَّعْبِيرِ بِالتَّقْدِيمِ لِأَنَّهُ الْمُقَابِلُ لِلتَّأْخِيرِ الْمَذْكُورِ فِيهَا فَلَمَّا كَانَ التَّقْدِيمُ لَا يُفِيدُ ذَلِكَ الْمَعْنَى بَلْ رُبَّمَا أَفَادَهُ ضِدُّهُ مِنْ الْمُبَادَرَةِ لِلْعِبَادَةِ فَيَكُونُ أَفْضَلُ لَمْ يَحْسُنْ الْإِتْيَانُ بِهِ وَإِنْ اقْتَضَتْهُ الْمُقَابِلَةُ بَلْ بِالتَّعْجِيلِ لِلْإِشَارَةِ إلَى أَنَّهُ مَفْضُولٌ وَأَنَّ التَّأْخِيرَ أَفْضَلُ مِنْهُ وَهَذَا كُلُّهُ ظَاهِرٌ لِمَنْ لَهُ أَدْنَى تَأَمُّلٍ وَإِنْ لَمْ أَرَ مَنْ تَعْرِضُ لَهُ وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَلِأَنَّهُ صَحَّ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ لَمْ يَنْفِرْ النَّفْرَ الْأَوَّلَ بَلْ مَكَثَ فِي مِنًى إلَى أَنَّ نَفَرَ النَّفْرُ الثَّانِي وَمِنْ ثَمَّ أَخَذَ أَئِمَّتُنَا أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى مُتَوَلِّي أَمْرِ الْحَاجِّ أَنْ يَنْفِرَ بِهِمْ النَّفْرَ الثَّانِي إلَّا لِعُذْرٍ كَغَلَاءٍ وَخَوْفٍ

(وَسُئِلَ) فَسَحَ اللَّهُ فِي مُدَّتِهِ عَمَّنْ قَالَ إنَّ حَدِيثَ «الْبَاذِنْجَانُ لِمَا أُكِلَ لَهُ» أَصَحُّ مِنْ حَدِيثِ مَاءِ زَمْزَمَ هَلْ هُوَ مُصِيبٌ أَوْ مُخْطِئٌ.

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ قَالَ الْحُفَّاظُ كَالْبَدْرِ الزَّرْكَشِيّ وَغَيْرِهِ هُوَ مُخْطِئٌ أَشَدَّ الْخَطَإِ وَمَا قَالَهُ خَطَأٌ قَبِيحٌ فَإِنَّ حَدِيثَ الْبَاذِنْجَانِ كَذِبٌ بَاطِلٌ مَوْضُوعٌ بِإِجْمَاعِ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْمَوْضُوعَاتِ وَالذَّهَبِيُّ فِي الْمِيزَانِ وَغَيْرُهُمَا وَحَدِيثُ زَمْزَمَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ قِيلَ صَحِيحٌ وَقَدْ أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ وَرَوَاهُ الْخَطِيبُ فِي تَارِيخِ بَغْدَادَ بِإِسْنَادٍ قَالَ فِيهِ الْحَافِظُ شَرَفُ الدِّينِ الدِّمْيَاطِيُّ إنَّهُ عَلَى رَسْمِ الصَّحِيحِ وَقِيلَ حَسَنٌ وَقِيلَ ضَعِيفٌ فَأَدْنَى دَرَجَاتِهِ الضَّعْفُ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ إنَّهُ فِي حَدِّ الْوَضْعِ وَقَدْ أَطَالَ النَّفَسَ فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ زَمْزَمَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي تَخْرِيجِ أَحَادِيثِ الْأَذْكَارِ وَذَكَرَ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ صَحَّحَهُ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ وَالْحَافِظُ الدِّمْيَاطِيُّ قَالَ وَالصَّوَابُ أَنَّهُ حَسَنٌ لِشَوَاهِدِهِ ثُمَّ أَوْرَدَهُ مِنْ طُرُقٍ ثُمَّ قَالَ وَلَهُ شَوَاهِدُ أُخَرُ مَرْفُوعَةٌ وَمَوْقُوفَةٌ تَرَكْتهَا خَشْيَةَ الْإِطَالَةِ وَلِمَا نَظَرَ الْمُنْذِرِيُّ وَالدِّمْيَاطِيُّ إلَى كَثْرَةِ شَوَاهِدِهِ مَعَ جُودَةِ بَعْضِ طُرُقِهِ حَكَمَا لَهُ بِالصِّحَّةِ وَوَرَدَ هَذَا اللَّفْظُ أَيْضًا عَنْ مُعَاوِيَةَ مَوْقُوفًا بِسَنَدٍ حَسَنٍ لَا عِلَّةَ فِيهِ وَهُوَ فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ مِنْ قِبَلِ الرَّأْيِ

(وَسُئِلَ) نَفَعَ اللَّهُ بِهِ عَنْ خَبَرِ «مَنْ طَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا وَصَلَّى خَلْفَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ وَشَرِبَ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ ذُنُوبَهُ كُلَّهَا بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ» مَنْ رَوَاهُ وَمَا حُكْمُهُ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ هُوَ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ رَوَاهُ الْحُمَيْدِيُّ فِي فَضَائِلِ مَكَّةَ شَرَّفَهَا اللَّهُ

(وَسُئِلَ) أَعَادَ اللَّهُ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِهِ هَلْ وَرَدَ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ كُلَّهُمْ حَجُّوا الْبَيْتَ إلَّا هُودًا وَصَالِحًا لِتَشَاغُلِهِمَا بِأَمْرِ قَوْمِهِمَا حَتَّى قَبْضِهِمَا وَمَنْ حَلَقَ رَأْسَ آدَمَ لَمَّا حَجَّ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ الْأَوَّلُ رَوَاهُ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ رضي الله عنهما مَوْقُوفًا عَلَيْهِ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي الْمُبْتَدَإِ وَابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَارِيخِهِ وَرَوَى الْخَطِيبُ فِي تَارِيخِهِ مِنْ طَرِيقِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ آبَائِهِ رضي الله عنهم أَنَّ جِبْرِيلَ حَلَقَ رَأْسَ آدَمَ - عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - حِين حَجَّ بِيَاقُوتَةٍ مِنْ الْجَنَّةِ

(وَسُئِلَ) رضي الله عنه عَنْ حَدِيثِ أَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُد وَالْبَيْهَقِيِّ «مَا مِنْ أَحَدٍ يُسَلِّمُ عَلَيَّ إلَّا رَدَّ اللَّهُ إلَيَّ» وَفِي رِوَايَةٍ «عَلَيَّ رُوحِي حَتَّى أَرُدَّ عليه السلام» مَا الْجَوَابُ عَنْهُ مَعَ الْإِجْمَاعِ عَلَى حَيَاةِ الْأَنْبِيَاءِ كَمَا تَوَاتَرَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ وَهَلْ عَلَى تَفْسِيرِ الرُّوحِ بِالنُّطْقِ الَّذِي قِيلَ فِيهِ أَنَّهُ أَحْسَنُ الْأَجْوِبَةِ اعْتِرَاضٌ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ الْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ مَعَ بَيَانِ مَا فِيهِ ذَكَرْته فِي كِتَابِي الْجَوْهَرُ الْمُنَظَّمُ فِي زِيَارَةِ الْقَبْرِ الْمُكَرَّمِ وَكِتَابِي الدُّرُّ الْمَنْضُودُ فِي الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَى صَاحِبِ الْمَقَامِ الْمَحْمُودِ وَحَاصِلُ الْأَجْوِبَةِ عَنْ ذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ رَدَّ اللَّهُ عَلَيَّ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ فَيُقَدَّرُ فِيهَا قَدْ عَلَى الْقَاعِدَةِ فِي وُقُوعِ الْمَاضِي حَالًا فَيَكُونُ الرَّدُّ سَابِقًا عَلَى السَّلَامِ الْوَاقِعِ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ وَحَتَّى

ص: 135

لَيْسَتْ تَعْلِيلِيَّةً بَلْ عَاطِفَةٌ وَالتَّقْدِيرُ مَا مِنْ أَحَدٍ يُسَلِّمُ عَلَيَّ إلَّا قَدْ رَدَّ اللَّهُ عَلَيَّ رُوحِي قَبْلَ ذَلِكَ وَأَرُدُّ عَلَيْهِ وَقَدْ صُرِّحَ بِقَدْ فِي رِوَايَةِ الْبَيْهَقِيّ فَمُرَادُ الْحَدِيثِ الْإِخْبَارُ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَرُدُّ إلَيْهِ رُوحَهُ بَعْدَ الْمَوْتِ فَيَصِيرُ حَيًّا عَلَى الدَّوَامِ حَتَّى لَوْ سَلَّمَ عَلَيْهِ أَحَدٌ رَدَّ عَلَيْهِ لِوُجُودِ الْحَيَاةِ فِيهِ دَائِمًا جَاءَ الْإِشْكَالُ مِنْ ظَنِّ أَنَّ حَتَّى تَعْلِيلِيَّةً وَجُمْلَةُ رَدَّ بِمَعْنَى الْحَالِ أَوْ الِاسْتِقْبَالِ الَّذِي يَلْزَمُ عَلَيْهِ تَكَرُّرُ الرَّدِّ عِنْدَ تَكَرُّرِ السَّلَامِ عَلَيْهِ وَيَلْزَمُ مِنْ تَكْرَارِ الرَّدِّ تَكْرَارُ الْمُفَارَقَةِ الْمُوجِبِ لِنَوْعِ أَلَمٍ.

وَالْمُخَالِفُ لِلَفْظِ الْقُرْآنِ أَنَّهُ لَيْسَ إلَّا مَوْتَتَانِ أَوْ لَفْظُ الرَّدِّ لَيْسَ لِلْمُفَارِقَةِ بَلْ كِنَايَةً عَنْ مُطْلَقِ الصَّيْرُورَةِ كَمَا فِي {إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ} [الأعراف: 89] أَيْ صِرْنَا لِاسْتِحَالَةِ الْكُفْرِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ أَوْ لَيْسَ الْمُرَادُ بِرَدِّ الرُّوحِ عَوْدُهَا بَعْدَ مُفَارِقَةِ الْبَدَنِ وَإِنَّمَا هُوَ صلى الله عليه وسلم مَشْغُولٌ فِي الْبَرْزَخِ بِأَحْوَالِ الْمَلَكُوتِ مُسْتَغْرِقٌ فِي شُهُودِ رَبِّهِ فَعَبَّرَ عَنْ إفَاقَتِهِ مِنْ ذَلِكَ بِالرَّدِّ وَنَظِيرُهُ جَوَابُهُمْ عَمَّا وَقَعَ فِي بَعْضِ أَحَادِيثِ الْإِسْرَاءِ فَاسْتَيْقَظْت وَأَنَا بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَإِنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ الِاسْتِيقَاظُ مِنْ نَوْمٍ لِأَنَّ الْإِسْرَاءَ لَمْ يَكُنْ مَنَامًا بَلْ الْإِفَاقَةُ مِمَّا خَامَرَهُ مِنْ عَجَائِبِ الْمَلَكُوتِ أَوْ الرَّدُّ يَسْتَلْزِمُ الِاسْتِمْرَارَ إذْ لَا يَخْلُو مِنْ مُسَلِّمٍ عَلَيْهِ فِي أَقْطَارِ الْأَرْضِ أَوْ الْمُرَادُ بِالرُّوحِ هُنَا النُّطْقُ مَجَازًا وَلَا يَلْزَمُ مِنْ حَيَاتِهِ عَلَى الدَّوَامِ نُطْقُهُ.

وَعَلَاقَةُ الْمَجَازِ اسْتِلْزَامُ النُّطْقِ لِلرُّوحِ وَعَكْسُهُ بِالْفِعْلِ أَوْ الْقُوَّةِ فَعَبَّرَ بِأَحَدِ الْمُتَلَازِمَيْنِ عَنْ الْآخَرِ وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ ظَاهِرَهُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم مَعَ كَوْنِهِ حَيًّا يُمْنَعُ عَنْهُ النُّطْقُ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ وَيُرَدُّ عَلَيْهِ عِنْدَ سَلَامِ الْمُسَلِّمِ وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلنَّقْلِ لِمَا فِي الْأَخْبَارِ أَنَّ كُلَّ مُؤْمِنٍ فِي قَبْرِهِ يَنْطِقُ بِمَا شَاءَ لِمَا وَرَدَ أَنَّهُ لَا يَمْنَعُ النُّطْقَ فِي قَبْرِهِ إلَّا مَنْ مَاتَ عَنْ غَيْرِ وَصِيَّةٍ وَلِلْعَقْلِ لِأَنَّ الْحَصْرَ عَنْ النُّطْقِ وَإِنْ قَلَّ زَمَنُهُ نَوْع حَصْر وَهُوَ صلى الله عليه وسلم مُبَرَّأٌ عَنْ ذَلِكَ وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالرَّدِّ الِاسْتِمْرَارُ مِنْ غَيْرِ مُفَارِقَةٍ فَالْمَجَازُ فِي لَفْظِ الرَّدِّ وَالرُّوحِ فَالْأَوَّلُ اسْتِعَارَةٌ تَبَعِيَّةٌ وَالثَّانِي مَجَازٌ مُرْسَلٌ أَوْ.

الْمُرَادُ بِالرُّوحِ السَّمْعُ الْخَارِقُ لِلْعَادَةِ بِحَيْثُ يَسْمَعُ الْمُسَلِّمَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ وَإِنْ بَعُدَ أَوْ الْمُوَافِقُ لِلْعَادَةِ وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِرَدِّهِ إفَاقَتَهُ مِنْ الِاسْتِغْرَاقِ الْمَلَكُوتِيِّ أَوْ الْمُرَادُ بِالرُّوحِ الْفَرَاغُ مِنْ الشُّغْلِ مِمَّا هُوَ بِصَدَدِهِ فِي الْبَرْزَخِ مِنْ النَّظَرِ فِي أَعْمَالِ أُمَّتِهِ وَالِاسْتِغْفَارُ لِمُسِيئِهِمْ وَالدُّعَاءُ بِكَشْفِ الْبَلَاء عَنْهُمْ وَالتَّرَدُّدُ فِي أَقْطَارِ الْأَرْضِ بِحُلُولِ الْبَرَكَةِ فِيهَا أَوْ حُضُورُ جِنَازَةِ صَالِحِي أُمَّتِهِ كَمَا وَرَدَتْ بِذَلِكَ الْأَحَادِيثُ وَالْأَخْبَارُ فَلَمَّا كَانَ السَّلَامُ عَلَيْهِ مِنْ أَجْلِ الْأَعْمَالِ خُصَّ الْمُسَلَّمُ عَلَيْهِ بِأَنْ يُفْرِغَ لَهُ مِنْ أَشْغَالِهِ الْمُهِمَّةِ لَحْظَةً يَرُدُّ عَلَيْهِ فِيهَا تَشْرِيفًا لَهُ وَمُجَازَاةً أَوْ الْمُرَادُ بِالرُّوحِ الِارْتِيَاحُ أَوْ الرَّحْمَةُ عَلَى حَدِّ قِرَاءَةِ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ بِضَمِّ الرَّاءِ أَيْ يَحْصُلُ لَهُ بِسَلَامِ الْمُسَلَّمِ عَلَيْهِ ارْتِيَاحٌ وَفَرْحَةٌ لِحُبِّهِ لِذَلِكَ مِنْ أُمَّتِهِ أَوْ مِنْهُ رَحْمَةً لَهُ فَيَحْمِلَهُ ذَلِكَ عَلَى أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ رَدًّا مَخْصُوصًا (تَنْبِيهٌ رِوَايَةُ عَلَيَّ بِمَعْنَى إلَيَّ فَإِنَّ (رَدَّ) يُعَدَّى بِعَلَى فِي الْإِهَانَةِ وَبِإِلَى فِي الْإِكْرَامِ كَمَا فِي الصِّحَاحِ وَالنِّهَايَةِ وَغَيْرِهِمَا، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

(وَسُئِلَ) نَفَعَ اللَّهُ بِهِ عَنْ رَجُلٍ مُقِيمٍ بِمِصْرٍ نَذَرَ لِلَّهِ تَعَالَى أَنْ يَحُجَّ فِي عَامِهِ هَذَا فَهَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِحْرَامُ بِالْحَجِّ مِنْ مِيقَاتِ بَلَدِهِ حَتَّى لَوْ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ مِنْ الْمِيقَاتِ وَفَرَغَ مِنْهَا ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ مِنْ مَكَّةَ كَانَ آثِمًا لِأَنَّهُ الْتَزَمَ حَجًّا مُعَيَّنًا قَصَدَ مَكَّةَ لِأَدَائِهِ أَمْ يَكْفِيه أَنْ يُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ وَيَفْرُغَ مِنْهَا وَيُحْرِمَ بِالْحَجِّ مِنْ مَكَّةَ وَلَا إثْمَ عَلَيْهِ أَفْتَوْنَا مَأْجُورِينَ وَابْسُطُوا الْجَوَابَ وَهَلِ الْمَسْأَلَةُ مَنْقُولَةٌ أَوْ لَا فَاخْتَلَفَ فِيهِ عُلَمَاؤُهَا وَأَجِلَّاؤُهُمْ عَلَى أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْإِحْرَامُ بِالْحَجِّ مِنْ الْمِيقَاتِ وَإِلَّا فَالْإِثْمُ وَالدَّمُ قَالَ بَعْضُهُمْ لِلنَّقْصِ الْحَاصِلِ فِي الْحَجِّ الَّذِي الْتَزَمَهُ بِالنَّذْرِ وَقَالَ آخَرُونَ الْمَسْأَلَةُ مَنْقُولَةٌ فِي مَحَلِّهَا فَمَا الَّذِي تَرَوْنَهُ فِي ذَلِكَ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ الْمَسْأَلَةُ مَنْقُولَةٌ فِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا وَالْمَجْمُوعِ وَغَيْرِهَا لَكِنْ لَا كَمَا قِيلَ فِي السُّؤَالِ بَلْ يَحِلُّ التَّمَتُّعُ وَالْقِرَانُ

وَلَا إثْمَ وَلَا دَمَ مِنْ حَيْثُ مُخَالَفَةِ الْمَنْذُورِ وَعِبَارَةُ أَصْلِ الرَّوْضَةِ يُخْرِجُ النَّاذِرَ عَنْ حَجِّ النَّذْرِ بِالْإِفْرَادِ وَبِالتَّمَتُّعِ وَبِالْقِرَانِ وَإِذَا نَذَرَ الْقِرَانَ فَقَدْ الْتَزَمَ النُّسُكَيْنِ فَإِنْ أَتَى بِهِمَا مُفْرَدَيْنِ فَقَدْ أَتَى بِالْأَفْضَلِ وَخَرَجَ عَنْ نَذْرِهِ وَإِنْ تَمَتَّعَ فَكَذَلِكَ وَإِنْ نَذَرَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ مُفْرَدَيْنِ فَقَرَنَ أَوْ تَمَتَّعَ وَقُلْنَا بِالْمَذْهَبِ إنَّ الْإِفْرَادَ أَفْضَلُ فَهُوَ كَمَا

ص: 136

إذَا نَذَرَ الْحَجَّ مَاشِيًا وَقُلْنَا الْمَشْيُ أَفْضَلُ فَحُجَّ رَاكِبًا انْتَهَتْ وَكَانَ الْمَوْقِعُ فِي ذَلِكَ الْإِفْتَاءِ أَنَّ صَاحِبَ الرَّوْضَةِ حَذَفَ مِنْ أَصْلِهِ قَوْلَهُ وَيَخْرُجُ عَنْ حَجِّ النَّذْرِ بِالْإِفْرَادِ وَالتَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ وَلَمْ يُنَبِّهْ شَيْخُنَا فِي شَرْحِهِ عَلَى إسْقَاطِهِ لِهَذَا الْحُكْمِ الْمُهِمِّ مِنْ أَصْلِهِ فَظَنَّ مَنْ أَفْتَى بِمَا ذُكِرَ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ غَيْرُ مَنْقُولَةٍ وَأَنَّ الْمَسْأَلَةَ قِيَاسُ مَا يَأْتِي فِي الْمَشْيِ وَالرُّكُوبِ وَلَيْسَ كَمَا ظَنُّوا فِي الْأَمْرَيْنِ كَمَا يَأْتِي بَسْطُ ذَلِكَ وَتَحْقِيقُهُ فَفَرِّغْ ذِهْنَك لَهُ فَإِنَّهُ مُهِمٌّ وَعِبَارَةُ الْمَجْمُوعِ قَالَ أَصْحَابُنَا إذَا نَذَرَ الْحَجَّ مُطْلَقًا أَجْزَأَهُ أَنْ يَحُجَّ مُفْرِدًا أَوْ مُتَمَتِّعًا أَوْ قَارِنًا

لِأَنَّ الْجَمِيعَ حَجٌّ صَحِيحٌ وَلَوْ نَذَرَ الْقِرَانَ كَانَ مُلْتَزِمًا لِلنُّسُكَيْنِ فَإِنْ أَتَى بِهِمَا مُفْرَدَيْنِ أَجْزَأَهُ وَهُوَ أَفْضَلُ وَكَذَا إنْ تَمَتَّعَ وَإِنْ نَذَرَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ مُفْرَدَيْنِ فَقَرَنَ أَوْ تَمَتَّعَ وَقُلْنَا بِالْمَذْهَبِ إنَّ الْإِفْرَادَ أَفْضَلُ فَهُوَ كَمَا إذَا أَحْرَمَ بِالْحَجِّ مَاشِيًا وَقُلْنَا الْمَشْيُ أَفْضَلُ فَحَجَّ رَاكِبًا وَإِذَا نَذَرَ الْقِرَانَ فَأَفْرَدَهُمَا لَزِمَهُ دَمُ الْقِرَانِ لِأَنَّهُ الْتَزَمَهُ بِالنَّذْرِ فَلَا يَسْقُطُ انْتَهَتْ فَعُلِمَ مِنْ الْعِبَارَتَيْنِ أَنَّهُمَا مَفْرُوضَتَانِ فِي عَيْنِ صُورَةِ السُّؤَالِ وَهُوَ نَذْرُ الْحَجِّ مُطْلَقًا أَيْ مِنْ غَيْرِ ضَمِّ نُسُكٍ آخَرَ إلَيْهِ وَأَنَّهُمَا صَرِيحَتَانِ فِي جَوَازِ الْإِحْرَامِ بِالْعُمْرَةِ مِنْ الْمِيقَاتِ عَلَى وَجْهِ التَّمَتُّعِ بَلْ وَفِي أَنَّ ذَلِكَ أَفْضَلُ مِنْ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ وَحْدَهُ لَا بِنِيَّةِ الْإِفْرَادِ مِنْ الْمِيقَاتِ وَبِأَنَّ ذَلِكَ تَصْرِيحٌ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مُصَرِّحٌ بِأَنَّ مَنْ نَذَرَ الْقِرَانَ أَجْزَأَهُ الْإِفْرَادُ وَالتَّمَتُّعُ وَكَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا أَفْضَلَ مِمَّا الْتَزَمَهُ بِالنَّذْرِ وَهُوَ الْقِرَانُ مَعَ أَنَّ فِي الْإِفْرَادِ تَأْخِيرَ الْعُمْرَةِ الْمُلْتَزَمَةِ مِنْ الْمِيقَاتِ عَنْهُ وَفِي التَّمَتُّعِ تَأْخِيرُ الْحَجِّ الْمُلْتَزَمِ مِنْهُ عَنْهُ أَيْضًا

وَلَمْ يَنْظُرُوا لِهَذَا التَّأْخِيرِ لِأَنَّهُ مَجْبُورٌ بِالزِّيَادَةِ عَلَى مَا الْتَزَمَهُ الْحَاصِلَةُ فِي الْإِفْرَادِ وَالتَّمَتُّعِ فَكَذَلِكَ لَا نَظَرَ فِي مَسْأَلَتِنَا لِتَأْخِيرِ الْحَجِّ الْمُلْتَزَمِ مِنْ الْمِيقَاتِ عَنْهُ لِوُجُودِ الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ فِي كُلٍّ مِنْ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ الْفَاضِلَيْنِ عَلَيْهِ بِعَيْنِ مَا قَرَّرُوهُ كَمَا هُوَ وَاضِحٌ جَلِيٌّ وَوَجْهُهُ أَعْنِي مَا ذَكَرُوهُ أَنَّ النَّذْرَ مَحْمُولٌ عَلَى وَاجِبِ الشَّرْعِ وَوَاجِبُهُ أَنَّ الْإِفْرَادَ وَالتَّمَتُّعَ كُلٌّ مِنْهُمَا أَفْضَلُ مِنْ الْقِرَانِ فَكَانَا فِي النَّذْرِ كَذَلِكَ فَإِنْ قُلْت يُنَافِي ذَلِكَ قَوْلَهُمْ لَوْ نَذَرَ التَّصَدُّقَ بِفِضَّةٍ لَمْ يَكْفِ الذَّهَبُ قُلْت لَا يُنَافِيه لِأَنَّ الذَّهَبَ جِنْسٌ مُغَايِرٌ لِلْفِضَّةِ ذَاتًا وَصِفَةً وَلَيْسَ وُجُوهُ النُّسُكَيْنِ كَذَلِكَ بَلْ جِنْسُهُمَا مُتَّحِدٌ وَإِنَّمَا الِاخْتِلَافُ بَيْنَهُمَا فِي الْكَيْفِيَّةِ لَا غَيْرُ وَإِذَا عَلِمْت أَنَّهُمْ مُصَرِّحُونَ فِي النُّسُكِ بِأَفْضَلِيَّةِ غَيْرِ الْمَنْذُورِ الْمَذْكُورِ حَمْلًا لِلنَّذْرِ عَلَى الْوَاجِبِ الْأَصْلِيِّ عَلِمْت أَنَّهُمْ مُصَرِّحُونَ فِي مَسْأَلَةِ السُّؤَالِ بِجَوَازِ كُلٍّ مِنْ الْإِفْرَادِ وَالتَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ وَأَنَّهُ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا أَتَى بِالْأَفْضَلِ لِتَصْرِيحِهِمْ بِأَنَّ كُلًّا مِنْ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ أَفْضَلُ مِنْ الْحَجِّ وَحْدَهُ فَلَزِمَ بِمُقْتَضَى مَا تَقَرَّرَ جَوَازُ كُلٍّ مِنْهَا وَإِجْزَاؤُهُ عَنْهُ وَأَنَّهُ الْأَفْضَلُ فَإِنْ قُلْت لَا يَلْزَمُ مِنْ تَعْبِيرِ أَصْلِ الرَّوْضَةِ بِيَخْرُجُ وَالْمَجْمُوعُ بِأَجْزَأَ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ

قُلْت بَلْ يَلْزَمُ ذَلِكَ لِأَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ مَنْ سَبَرَ كُتُبَهُمْ عَلِمَ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ لَا يَقُولُونَ أَحَدَ هَاتَيْنِ الْعِبَارَتَيْنِ أَعْنِي الْخُرُوجَ وَالْإِجْزَاءَ إلَّا فِي الْجَائِزِ وَبِتَسْلِيمِ أَنَّهُمْ قَدْ يَسْتَعْمِلُونَ أَحَدَهُمَا فِي الْحَرَامِ كَانَ يَلْزَمُهُمْ أَنْ يُبَيِّنُوا حُرْمَتَهُ وَإِلَّا كَانَ غِشًّا لِلْمُسْلِمِينَ لِأَنَّ الْأَفْهَام لَا يَتَبَادَرُ إلَيْهَا مِنْ إطْلَاقِ الْخُرُوجِ بِشَيْءٍ عَنْ الْوَاجِبِ وَإِجْزَائِهِ عَنْهُ إلَّا أَنَّهُ جَائِزٌ.

ثَانِيهِمَا: مَا ذَكَرُوهُ مِنْ جَوَازِ كُلٍّ مَنْ الْإِفْرَادِ وَالتَّمَتُّعِ عَنْ الْقِرَانِ الْمُلْتَزَمِ بَلْ أَفْضَلِيَّتُهُ مَعَ مَا فِي كُلٍّ مِنْهُمَا مِنْ تَأْخِيرِ بَعْضِ الْمُلْتَزَمِ مِنْ الْمِيقَاتِ عَنْهُ لَكِنَّ الْجَائِزَ أَقْوَى كَمَا قَدَّمْته مَعَ بَيَانِ أَنَّ مَسْأَلَتَنَا وَإِنْ كَانَ فِيهَا نَظِيرُ ذَلِكَ التَّأْخِيرِ إلَّا أَنَّهُ لِجَائِزٍ أَقْوَى أَيْضًا فَسَاوَى مَا قَالُوهُ حَرْفًا بِحَرْفٍ وَهَذَا صَرِيحٌ وَاضِحٌ فِي أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِمْ يَخْرُجُ فِي الْعِبَارَةِ الْأُولَى وَأَجْزَأَ فِي الثَّانِيَةِ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ بَلْ أَفْضَلُ هَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِجَوَازِ كُلٍّ مِنْ الثَّلَاثَةِ

وَأَمَّا دَمُ الْعُدُولِ عَنْ الْمَنْذُورِ فَهَلْ يَجِبُ وَإِنْ عَدَلَ إلَى الْأَفْضَلِ كَمَا لَوْ عَدَلَ عَنْ الْمَشْيِ الْمُلْتَزَمِ فِي نَذْرِ النُّسُكِ إلَى الرُّكُوبِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ دَمٌ وَإِنْ كَانَ الرُّكُوبُ أَفْضَلَ أَوْ لَا يَجِبُ لِإِمْكَانِ الْفَرْقِ وَاَلَّذِي جَرَيْت عَلَيْهِ كَشَيْخِنَا شَيْخِ الْإِسْلَامِ زَكَرِيَّا سَقَى اللَّهُ عَهْدَهُ صَيِّبَ الرِّضْوَانِ فِي شَرْحِ الْعُبَابِ الثَّانِي وَعِبَارَتُهُ أَوْ نَذَرَ قِرَانًا أَوْ تَمَتُّعًا كَمَا فِي الْمَجْمُوعِ وَغَيْرِهِ فَأَفْرَدَ فَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ وَغَيْرِهِ وَيَلْزَمُهُ إنْ أَفْرَدَ دَمُ الْقِرَانِ أَوْ التَّمَتُّعِ لِالْتِزَامِهِ لَهُ بِالنَّذْرِ فَلَا يَسْقُطُ بِالْعُدُولِ عَنْهُ كَمَا مَرَّ نَظِيرُهُ فِي الْحَجِّ اهـ وَتَبِعَهُ عَلَيْهِ الْقَمُولِيُّ

ص: 137

وَغَيْرُهُ وَظَنَّ بَعْضُهُمْ أَنَّ هَذَا مِنْ تَفَرُّدِ الْقَمُولِيِّ فَاعْتَرَضَهُ بِأَنَّ دَمَ الْقِرَانِ لَا يَجِبُ بِمُجَرَّدِ الْتِزَامِهِ بَلْ بِفِعْلِهِ يُرَدُّ بِأَنَّ هَذِهِ دَعْوَى لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا بَلْ يَجِبُ بِكُلٍّ مِنْ الْأَمْرَيْنِ وَكَلَامُهُمْ يُشْعِرُ بِأَنْ لَا دَمَ عَلَيْهِ لِلْعُدُولِ أَيْ عَنْ الْقِرَانِ أَوْ التَّمَتُّعِ إلَى الْإِفْرَادِ قَالَ شَيْخُنَا زَكَرِيَّا وَهُوَ ظَاهِرٌ اكْتِفَاءً بِالدَّمِ الْمُلْتَزَمِ مَعَ كَوْنِ الْأَفْضَلِ الْمَأْتِيِّ بِهِ مِنْ جِنْسِ الْمَنْذُورِ وَبِهَذَا كُلِّهِ فَارَقَ لُزُومَهُ بِالْعُدُولِ مِنْ الْمَشْيِ إلَى الرُّكُوبِ.

وَيُفَارِقُ مَا مَرَّ فِيمَا لَوْ جَامَعَ قَارِنًا أَوْ مُتَمَتِّعًا ثُمَّ أَفْرَدَ فَإِنَّهُ لَا يُسْقِطُ الدَّمَ بِعُدُولِهِ إلَى الْإِفْرَادِ بِأَنَّهُ ثَمَّ تَلَبُّسٌ بِمُوجِبِ الدَّمِ وَهُوَ الْإِحْرَامُ قَارِنًا أَوْ مُتَمَتِّعًا فَلَمْ يُفِدْهُ الْعُدُولُ بِخِلَافِهِ هُنَا انْتَهَتْ عِبَارَةُ شَرْحِ الْعُبَابِ فَإِنْ قُلْت ظَاهِرُ قَوْلِ الشَّيْخِ وَهُوَ ظَاهِرٌ اكْتِفَاءً بِالدَّمِ الْمُلْتَزَمِ مَعَ كَوْنِ الْأَفْضَلِ إلَخْ وُجُوبُ الدَّمِ فِي مَسْأَلَتِنَا لِلْعُدُولِ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ أَفْضَلُ أَيْضًا لَكِنَّهُ لَمْ يَلْتَزِمْ دَمًا يُغْنِي عَنْهُ قُلْت مَسْأَلَتُنَا انْتَفَى فِيهَا دَمُ الْعُدُولِ لِمَعْنَى آخَرَ هُوَ أَنَّ فِيهَا جَابِرًا لِلْعُدُولِ وَهُوَ النُّسُكُ الْمَزِيدُ عَلَى مَا نَذَرَهُ كَمَا أَنَّ فِي الْعُدُولِ عَنْ الْقِرَانِ أَوْ التَّمَتُّعِ إلَى الْإِفْرَادِ جَابِرًا هُوَ الدَّمُ الْمُلْتَزَمُ وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْعُدُولَ عَنْ الْمُلْتَزَمِ فِيهِ الدَّمُ إلَّا أَنْ يَخْلُفَهُ غَيْرُهُ وَهُوَ فِي مَسْأَلَتِنَا زِيَادَةُ نُسُكٍ آخَرَ وَفِي تِلْكَ الدَّمُ الْمُلْتَزَمُ وَبِهَذَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مَسْأَلَتِنَا وَمَسْأَلَةِ الْعُدُولِ عَنْ الْمَشْيِ إلَى الرُّكُوبِ لِأَنَّ الرُّكُوبَ وَإِنْ كَانَ أَفْضَلُ إلَّا أَنَّهُ لَا جَابِرَ فِيهِ بَلْ فِيهِ تَفْوِيتُ مَشَقَّةٍ مَقْصُودَةٍ مِنْ نَذْرِ الْمَشْيِ لِتَعْظِيمِ ثَوَابِهِ وَمِنْ ثَمَّ فَضَّلَهُ عَلَى الرُّكُوبِ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ فَحِينَئِذٍ جَبَرَهُ الْأَئِمَّةُ بِالدَّمِ فَلَا جَامِعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَسْأَلَتِنَا فَتَأَمَّلْهُ.

فَإِنْ قُلْت قِيَاسُ مَا مَرَّ أَنَّ مَنْ نَذَرَ قِرَانًا فَتَمَتَّعَ أَوْ عَكْسه لَزِمَهُ دَمَانِ دَمٌ لِلْمُلْتَزِمِ وَآخَرُ لِمَا فَعَلَهُ فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَيْنِ وَمَسْأَلَتُنَا قُلْت الْفَرْقُ وَاضِحٌ فَإِنَّ فِي كُلٍّ مِنْ هَذَيْنِ دَمًا مُلْتَزَمًا بِالنَّذْرِ وَدَمًا مُلْتَزَمًا بِالْفِعْلِ وَمَسْأَلَتُنَا لَيْسَ فِيهَا دَمٌ مُلْتَزَمٌ بِالنَّذْرِ وَهَذَا وَاضِحٌ وَأَمَّا الْفِعْلُ فَإِنْ اقْتَضَى دَمًا كَالتَّمَتُّعِ أَوْ الْقِرَانِ وَجَبَ دَمُهُ وَإِلَّا كَالْإِفْرَادِ فَلَا فَإِنْ قُلْت صَرَّحُوا بِأَنَّ الرُّكُوبَ مَعَ كَوْنِهِ أَفْضَلُ يَأْثَمُ بِهِ مِنْ غَيْرِ عُذْرِ نَاذِرِ الْمَشْيِ فَقِيَاسُهُ فِي مَسْأَلَةِ السُّؤَالِ الْإِثْمُ بِكُلٍّ مِنْ الْإِفْرَادِ وَالتَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ وَإِنْ كَانَتْ أَفْضَلُ قُلْت قَدْ عَلِمْت مِمَّا قَدَّمْته آنِفًا أَنَّ سَبَبَ ذَلِكَ فَوَاتُ الْمَشَقَّةِ الْمَقْصُودَةِ فِي الْمَشْيِ بِالرُّكُوبِ لَا إلَى بَدَلٍ بِخِلَافِهِ فِي مَسْأَلَتِنَا وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا ذَكَرْته فِي شَرْحِ الْعُبَابِ مِنْ اسْتِشْكَالِ جَمْعٍ أَنَّ الرُّكُوبَ لَا يَلْزَمُ بِالنَّذْرِ إلَّا إنْ قُلْنَا بِأَفْضَلِيَّتِهِ بِخِلَافِ الْمَشْيِ يَلْزَمُ بِالنَّذْرِ وَإِنْ قُلْنَا بِمَفْضُولِيَّتِهِ وَالْجَوَابُ عَنْهُ بِأَنَّ الْمَشْيَ مَقْصُودٌ وَأَفْضَلِيَّةُ الرُّكُوبُ إنَّمَا هِيَ مِنْ حَيْثُ الِاتِّبَاعِ وَمَا فِيهِ مِنْ زِيَادَةِ تَحَمُّلِ الْمُؤْنَةِ فِي الْعِبَادَةِ وَإِيضَاحُهُ أَنْ يُقَالَ لَمَّا كَانَتْ النَّفْسُ تَمِيلُ لِلرُّكُوبِ طَبْعًا كَانَ الْتِزَامُهَا لَهُ وَتَحَمُّلُهَا لِمُؤْنَتِهِ مُحْتَمَلٌ أَنَّهُ لِإِيثَارِ رَاحَتِهِ وَأَنَّهُ لِأَفْضَلِيَّتِهِ فَلَمَّا تَرَدَّدَ الْأَمْرُ بَيْنَهُمَا لَمْ يَكُنِ الْجَزْمُ بِلُزُومِهِ إلَّا إنْ قِيلَ بِأَفْضَلِيَّتِهِ وَأَمَّا الْمَشْيُ فَإِنَّهَا تَنْفِرُ عَنْهُ طَبْعًا أَيْضًا فَلَمْ يَكُنِ الْتِزَامُهُ إلَّا لِكَسْرِ نَفْسِهِ وَإِيثَارِ ثَوَابِهِ فَلَزِمَ وَإِنْ قُلْنَا بِمَفْضُولِيَّتِهِ.

فَإِنْ قُلْت فَلِمَ وَجَبَ الدَّمُ فِي الْمَشْيِ الْبَدَلُ عَنْ الرُّكُوبُ قُلْت لِمَا فِيهِ مِنْ تَفْوِيتِ الْأَفْضَلِيَّةِ الْمَقْصُودَةِ شَرْعًا وَإِنْ كَانَ أَشُقُّ فَإِنْ قُلْت فَهَلْ فِيهِ إثْمٌ أَيْضًا قُلْت الْقِيَاسُ نَعَمْ نَظَرًا لِذَلِكَ التَّفْوِيتِ وَهَذَا كُلُّهُ غَيْرُ جَارٍ نَظِيرُهُ فِي مَسْأَلَتِنَا لِأَنَّ كُلًّا مِنْ الْإِفْرَادِ وَالتَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ أَفْضَلُ وَأَشَقُّ مِنْ مُجَرَّدِ الْحَجِّ فَجَازَ كُلٌّ مِنْ تِلْكَ الثَّلَاثَةِ وَأَجْزَأَ مِنْ غَيْرِ دَمٍ نَظَرًا لِمَا فِيهِ مِنْ زِيَادَةِ نُسُكٍ وَمَشَقَّةٍ عَلَى الْحَجِّ الْمُلْتَزَمِ وَمِنْ الْأَفْضَلِيَّةِ فَلَيْسَ ذَلِكَ نَظِيرُ مَسْأَلَةِ الرُّكُوبِ وَالْمَشْيِ بِوَجْهٍ وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ مَتَى فَوَّتَ بِالْعُدُولِ الْأَفْضَلِيَّةَ فَالدَّمُ وَالْإِثْمُ وَمَتَى لَمْ يُفَوِّتْهَا بِأَنْ أَتَى بِالْأَفْضَلِ فَإِنْ فَوَّتَ مَشَقَّةً مَقْصُودَةً فَالدَّمُ وَالْإِثْمُ وَإِلَّا فَلَا.

(وَسُئِلَ) نَفَعَ اللَّهُ بِهِ بِمَا لَفْظُهُ قَالَ ابْنُ أَبِي شَرِيفٍ فِي شَرْحِ الْإِرْشَادِ وَلَوْ حَلَّ الْحَلْقُ لِلْمُحْرِمِ فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يَفْعَلَهُ فَهَلْ يُفْعَلُ عَنْهُ الظَّاهِرُ أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ لَا مَكْرُوهٌ لَكِنْ فِي الْأَسْنَى وَقَضِيَّةُ كَلَامِهِمْ أَنَّهُ لَا يَحْلِقُ رَأْسَهُ إذَا مَاتَ وَقَدْ بَقِيَ عَلَيْهِ لِيَأْتِيَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُحْرِمًا وَهُوَ ظَاهِرٌ لِانْقِطَاعِ تَكْلِيفِهِ فَلَا يُطْلَبُ مِنْهُ حَلْقٌ وَلَا يَقُومُ غَيْرُهُ بِهِ كَمَا لَوْ كَانَ عَلَيْهِ طَوَافٌ أَوْ سَعْيٌ وَهُوَ خِلَافُ مَا ذُكِرَ عَنْ الْإِسْعَادِ فَمَا الْمُعْتَمَدُ مِنْ ذَلِكَ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ رضي الله عنه الْجَوَابُ عَنْ هَذَا مَذْكُورٌ فِي شَرْحِ الْعُبَابِ وَعِبَارَتُهُ وَقَضِيَّةُ كَلَامِهِمْ أَنَّهُ لَوْ مَاتَ بَعْدَ

ص: 138