الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أَنَّ الْمُعْتَمَدَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ خِلَافُ مَا جَرَى عَلَيْهِ الْغَزَالِيُّ وَابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ فِي اجْتِمَاعِ نِيَّةِ الطُّهْرِ وَنَحْوِ التَّبَرُّدِ مِنْ أَنَّ كُلَّ مَنْ عَمِلَ طَاعَةً وَشَرَّكَ مَعَهَا مُبَاحًا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ التَّشْرِيكُ مُحْبِطًا لِثَوَابِهَا مِنْ أَصْلِهِ بَلْ لَهُ ثَوَابٌ بِقَدْرِ قَصْدِهِ الطَّاعَةَ لَكِنَّهُ دُونَ ثَوَابِ مَنْ لَمْ يُشَرِّكْ، وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم عَنْ اللَّهِ تَعَالَى «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ غَيْرِي فَأَنَا مِنْهُ بَرِيءٌ» هُوَ لِلَّذِي أَشْرَكَ يُحْمَلُ لِيُوَافِقَ الْآيَةَ عَلَى مَنْ رَاءَى بِعَمَلِهِ وَالرِّيَاءُ مُحْبِطٌ لِلْعَمَلِ إجْمَاعًا لِأَنَّهُ فِعْلٌ مُفَسِّقٌ لِصَاحِبِهِ يُخْرِجُ الْعَمَلَ عَنْ كَوْنِهِ طَاعَةً وَقُرْبَةً مِنْ أَصْلِهِ لِمُنَافَاتِهِ لَهَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَلَمْ يُمْكِنْ مُجَامَعَةُ الثَّوَابِ لَهُ.
وَأَمَّا ضَمُّ قَصْدٍ مُبَاحٍ إلَى الْعَمَلِ فَهُوَ لَا يُنَافِيهِ فَأُثِيبَ عَلَى قَصْدِهِ الطَّاعَةَ بِقَدْرِ قَصْدِهِ، وَإِنْ ضَعُفَ لِأَنَّ قَصْدَهُ إيَّاهَا قُرْبَةٌ وَلَمْ يَنْضَمَّ إلَيْهَا مَا يَقْتَضِي إسْقَاطَهَا فَلَمْ يُحْرَمْ ثَوَابَهَا إذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ فَمَتَى قَصَدَ الْمُتَصَدِّقُ بِإِعْطَائِهِ الْفَقِيرَ وَجْهَ اللَّهِ وَمَنَعَهُ مِنْ الْإِلْحَاحِ الْمُضِرِّ لِلنَّاسِ فَهَذَا لَا شَكَّ فِي ثَوَابِهِ أَتَمُّ الثَّوَابِ وَأَكْمَلُهُ لِأَنَّهُ قَصَدَ طَاعَتَيْنِ وُصُولَ بِرٍّ إلَيْهِ وَمَنْعَهُ مِنْ مَعْصِيَةِ الْإِيذَاءِ أَوْ الْإِضْرَارِ، وَإِنْ قَصَدَ مَعَ الْأَوَّلِ مَنْعَهُ مِنْ الْإِلْحَاحِ الْمُضِرِّ لَهُ بِخُصُوصِهِ كَمَا ذَكَرَهُ السَّائِلُ فَكَذَلِكَ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُنَافِي الْقُرْبَةَ وَالصَّدَقَةَ لَكِنَّ ثَوَابَهُ دُونَ ثَوَابِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْعِوَضَ فِي الْأَوَّلِ تَعُودُ مَنْفَعَتُهُ عَلَى الْغَيْرِ وَفِي الثَّانِي عَلَى النَّفْسِ فَرُبَّمَا يَقْصِدُ حَظَّهَا وَالظَّاهِرُ إثَابَتُهُ أَيْضًا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأَخِيرَةِ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ عَدَمُ الصَّارِفِ لَا نِيَّةُ الْقُرْبَةِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُ السُّبْكِيّ وَالزَّرْكَشِيِّ وَغَيْرِهِمَا أَخْذًا مِنْ كَلَامِ النَّوَوِيِّ رحمه الله وَغَيْرِهِ فِي حَدِّ الْأَصْحَابِ الصَّدَقَةَ بِأَنَّهَا تَمْلِيكُ مُحْتَاجٍ عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ لَا نَعْتَبِرُ الْحَاجَةَ قَيْدًا بَلْ كَوْنُهَا لِمُحْتَاجٍ هُوَ أَظْهَرُ أَنْوَاعِهَا الْغَالِبِ مِنْهُ فَلَا مَفْهُومَ لَهُ.
قَالُوا وَتَمْلِيكُ الْمُحْتَاجِ لَا مَعَ اسْتِحْضَارِ الثَّوَابِ صَدَقَةٌ أَيْضًا فَالشَّرْطُ إمَّا الْحَاجَةُ أَوْ قَصْدُ الثَّوَابِ وَتَمْلِيكُ الْغَنِيِّ لَا بِقَصْدِ الْقُرْبَةِ وَالثَّوَابِ إمَّا هِبَةٌ أَوْ هَدِيَّةٌ
[كِتَابُ الصَّوْمِ]
ِ (وَسُئِلَ) رضي الله عنه قَالَ فِي طَهَارَةِ الْقُلُوبِ لِعَلَّامِ الْغُيُوبِ: شَهْرُ رَجَبٍ شَهْرُ الْحَرْثِ فَاتَّجِرُوا رَحِمَكُمْ اللَّهُ فِي رَجَب فَإِنَّهُ مَوْسِمُ التِّجَارَةِ وَاعْمُرُوا أَوْقَاتَكُمْ فِيهِ فَهُوَ أَوَانُ الْعِمَارَةِ. رُوِيَ أَنَّهُ مَنْ صَامَ مِنْ رَجَب سَبْعَةَ أَيَّامٍ أُغْلِقَتْ عَنْهُ أَبْوَابُ جَهَنَّمَ، وَمَنْ صَامَ مِنْهُ عَشَرَةَ أَيَّامٍ لَمْ يَسْأَلْ اللَّهَ شَيْئًا إلَّا أَعْطَاهُ، وَإِنَّ فِي الْجَنَّةِ قَصْرًا الدُّنْيَا فِيهِ كَمَفْحَصِ الْقَطَاةِ لَا يَدْخُلُهُ إلَّا صَوَّامُ رَجَب وَقَالَ وَهَبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: جَمِيعُ أَنْهَارِ الْجَنَّةِ تَزُورُ زَمْزَمَ فِي رَجَب تَعْظِيمًا لِهَذَا الشَّهْرِ قَالَ وَقَرَأْت فِي بَعْضِ كُتُبِ اللَّهِ تَعَالَى مَنْ اسْتَغْفَرَ اللَّهَ تَعَالَى فِي رَجَبٍ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يَرْفَعُ يَدَيْهِ وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي وَتُبْ عَلَيَّ سَبْعِينَ مَرَّةٍ لَمْ تَمَسَّ النَّارُ جِلْدَهُ أَبَدًا ثُمَّ قَالَ بَعْد ذَلِكَ بِأَوْرَاقٍ كَثِيرَةٍ وَفِي الْحَدِيثِ: «مَنْ فَاتَهُ وِرْدُهُ فَصَلَّاهُ قَبْلَ الظُّهْرِ فَكَأَنَّمَا صَلَّاهُ فِي وَقْتِهِ» اهـ وَقَدْ وَرَدَ عَلَيْنَا جَوَابُكُمْ الشَّرِيفُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَهُوَ جَوَابٌ شَافٍ وَقَدْ حَصَلَ بِهِ النَّفْعُ لِي وَلِمَنْ سَمِعَهُ لَكِنَّ الْفَقِيهَ الَّذِي ذَكَرْتُ لَكُمْ فِي السُّؤَالِ يَنْهَى النَّاسَ عَنْ صَوْمِهِ وَيَقُولُ: أَحَادِيثُ صَوْمِ رَجَب مَوْضُوعَةٌ وَقَدْ قَالَ النَّوَوِيُّ الْحَدِيثُ الْمَوْضُوعُ لَا يُعْمَلُ بِهِ وَقَدْ اتَّفَقَ الْحُفَّاظُ عَلَى أَنَّهُ مَوْضُوعٌ. اهـ فَالْمَسْئُولُ مِنْكُمْ زَجْرُ هَذَا النَّاهِي حَتَّى يَتْرُكَ النَّهْيَ وَيُفْتِيَ بِالْحَقِّ، وَاذْكُرُوا لَنَا مَا يَحْضُركُمْ مِنْ كَلَام الْأَئِمَّةِ أَثَابَكُمْ اللَّهُ الْجَنَّةَ؟
(فَأَجَابَ) رضي الله عنه بِأَنِّي قَدَّمْت لَكُمْ فِي ذَلِكَ مَا فِيهِ كِفَايَة، وَأَمَّا اسْتِمْرَارُ هَذَا الْفَقِيهِ عَلَى نَهْيِ النَّاسِ عَنْ صَوْمِ رَجَب فَهُوَ جَهْلٌ مِنْهُ وَجُزَافٌ عَلَى هَذِهِ الشَّرِيعَةِ الْمُطَهَّرَةِ فَإِنْ لَمْ يَرْجِع عَنْ ذَلِكَ وَإِلَّا وَجَبَ عَلَى حُكَّامِ الشَّرِيعَةِ الْمُطَهَّرَةِ زَجْرُهُ وَتَعْزِيرُهُ التَّعْزِيرَ الْبَلِيغَ الْمَانِعَ لَهُ وَلِأَمْثَالِهِ مِنْ الْمُجَازَفَةِ فِي دِينِ اللَّهِ تَعَالَى وَكَأَنَّ هَذَا الْجَاهِلَ يَغْتَرُّ بِمَا رُوِيَ مِنْ أَنَّ جَهَنَّمَ تُسَعَّرُ مِنْ الْحَوْلِ إلَى الْحَوْلِ لِصَوَّامِ رَجَب وَمَا دَرَى هَذَا الْجَاهِلُ الْمَغْرُورُ أَنَّ هَذَا حَدِيثٌ بَاطِلٌ كَذِبٌ لَا تَحِلُّ رِوَايَتُهُ كَمَا ذَكَرُهُ الشَّيْخُ أَبُو عَمْرِو بْنِ الصَّلَاحِ وَنَاهِيكَ بِهِ حِفْظًا لِلسُّنَّةِ وَجَلَالَةً فِي الْعُلُومِ وَيُوَافِقهُ إفْتَاءُ الْعِزِّ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ فَإِنَّهُ سُئِلَ عَمَّا نُقِلَ عَنْ بَعْضِ الْمُحَدِّثِينَ مِنْ مَنْعِ صَوْمِ رَجَب وَتَعْظِيمِ حُرْمَتِهِ وَهَلْ يَصِحُّ نَذْرُ صَوْمِ جَمِيعِهِ فَقَالَ فِي جَوَابِهِ نَذْرُ صَوْمِهِ صَحِيحٌ لَازِمٌ يَتَقَرَّبُ إلَى
اللَّهِ تَعَالَى بِمِثْلِهِ وَاَلَّذِي نَهَى عَنْ صَوْمِهِ جَاهِلٌ بِمَأْخَذِ أَحْكَامِ الشَّرْعِ وَكَيْف يَكُونُ مُنْهَيَا عَنْهُ مَعَ أَنَّ الْعُلَمَاءَ الَّذِينَ دَوَّنُوا الشَّرِيعَةَ لَمْ يَذْكُر أَحَدٌ مِنْهُمْ انْدِرَاجَهُ فِيمَا يُكْرَه صَوْمُهُ بَلْ يَكُونُ صَوْمُهُ قُرْبَةً إلَى اللَّهِ تَعَالَى لِمَا جَاءَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ مِنْ التَّرْغِيبِ فِي الصَّوْمِ مِثْلُ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «يَقُولُ اللَّهُ كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إلَّا الصَّوْمَ» ، وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ» ، وَقَوْلُهُ «إنَّ أَفْضَلَ الصِّيَامِ صِيَامُ أَخِي دَاوُد كَانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا» وَكَانَ دَاوُد يَصُومُ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِمَا عَدَا رَجَبًا مِنْ الشُّهُورِ وَمَنْ عَظَّمَ رَجَبًا بِجِهَةٍ غَيْرِ مَا كَانَتْ الْجَاهِلِيَّةُ يُعَظِّمُونَهُ بِهِ فَلَيْسَ مُقْتَدِيًا بِهِمْ وَلَيْسَ كُلُّ مَا فَعَلُوهُ مَنْهِيًّا عَنْ فِعْلِهِ إلَّا إذَا نَهَتْ الشَّرِيعَةُ عَنْهُ أَوْ دَلَّتْ الْقَوَاعِدُ عَلَى تَرْكِهِ وَلَا يُتْرَكُ الْحَقُّ لِكَوْنِ أَهْلِ الْبَاطِلِ فَعَلُوهُ وَاَلَّذِي يَنْهَى عَنْ صَوْمِهِ جَاهِلٌ مَعْرُوفٌ بِالْجَهْلِ وَلَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُقَلِّدَهُ فِي دِينِهِ إذْ لَا يَجُوزُ التَّقْلِيدُ إلَّا لِمَنْ اُشْتُهِرَ بِالْمَعْرِفَةِ بِأَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَبِمَآخِذِهَا وَاَلَّذِي يُضَاف إلَيْهِ ذَلِكَ بَعِيدٌ عَنْ مَعْرِفَةِ دِينِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يُقَلِّد فِيهِ وَمَنْ قَلَّدَهُ غُرَّ بِدِينِهِ اهـ جَوَابُهُ فَتَأَمَّلْ كَلَامَ هَذَا الْإِمَامِ تَجِدهُ مُطَابِقًا لِهَذَا الْجَاهِل الَّذِي يَنْهَى أَهْلَ نَاحِيَتِكُمْ عَنْ صَوْمِ رَجَب وَمُنْطَبِقًا عَلَيْهِ عَلَى أَنَّ هَذَا أَحْقَرُ مِنْ أَنْ يُذْكَرَ فَلَا يُقْصَدُ بِمِثْلِ كَلَامِ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا عَنَى بِذَلِكَ بَعْضَ الْمَنْسُوبِينَ إلَى الْعِلْمِ مِمَّنْ زَلَّ قَلَمُهُ وَطَغَى فَهْمُهُ فَقَصْد هُوَ وَابْنُ الصَّلَاحِ الرَّدَّ عَلَيْهِ وَأَشَارَ إلَى أَنَّهُ يَكْفِي فِي فَضْلِ صَوْمِ رَجَب مَا وَرَدَ مِنْ الْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى فَضْلِ مُطْلَقِ الصَّوْمِ وَخُصُوصِهِ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ أَيْ كَحَدِيثِ أَبِي دَاوُد وَابْنِ مَاجَهْ وَغَيْرِهِمَا عَنْ الْبَاهِلِيِّ «أَتَيْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَا الرَّجُلُ الَّذِي أَتَيْتُك عَامَ الْأَوَّلِ قَالَ: فَمَا لِي أَرَى جِسْمَك نَاحِلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَكَلْت طَعَامًا بِالنَّهَارِ مَا أَكَلْته إلَّا بِاللَّيْلِ قَالَ مَنْ أَمَرَك أَنْ تُعَذِّبَ نَفْسَك قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي أَقْوَى قَالَ صُمْ شَهْرَ الصَّبْرِ وَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بَعْدَهُ وَصُمْ الْأَشْهُرَ الْحُرُمَ» وَفِي رِوَايَةٍ «صُمْ شَهْرَ الصَّبْرِ وَيَوْمًا مِنْ كُلِّ شَهْرٍ قَالَ زِدْنِي فَإِنَّ لِي قُوَّةً قَالَ صُمْ يَوْمَيْنِ قَالَ زِدْنِي فَإِنَّ لِي قُوَّةً قَالَ: صُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بَعْدَهُ وَصُمْ مِنْ الْحُرُمِ وَاتْرُكْ، صُمْ مِنْ الْحُرُمِ وَاتْرُكْ وَقَالَ بِأُصْبُعِهِ الثَّلَاثِ يَضُمُّهَا ثُمَّ يُرْسِلُهَا» قَالَ الْعُلَمَاءُ وَإِنَّمَا أَمَرَهُ بِالتَّرْكِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَشُقُّ عَلَيْهِ إكْثَارُ الصَّوْمِ كَمَا ذَكَره فِي أَوَّلِ الْحَدِيثِ فَأَمَّا مَنْ لَا يَشُقّ عَلَيْهِ فَصَوْمُ جَمِيعِهَا فَضِيلَةٌ. فَتَأَمَّلْ أَمْرَهُ صلى الله عليه وسلم بِصَوْمِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى وَبِالصَّوْمِ مِنْهَا فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ تَجِدهُ نَصًّا فِي الْأَمْرِ بِصَوْمِ رَجَب أَوْ بِالصَّوْمِ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ بَلْ هُوَ مِنْ أَفْضَلِهَا فَقَوْلُ هَذَا الْجَاهِلِ إنَّ أَحَادِيثَ صَوْمِ رَجَب مَوْضُوعَةٌ إنْ أَرَادَ بِهِ مَا يَشْمَلُ الْأَحَادِيثَ الدَّالَّةَ عَلَى صَوْمِهِ عُمُومًا وَخُصُوصًا فَكِذْبٌ مِنْهُ وَبُهْتَان فَلْيَتُبْ عَنْ ذَلِكَ، وَإِلَّا عُزِّرَ عَلَيْهِ التَّعْزِيرَ الْبَلِيغَ نَعَمْ. رُوِيَ فِي فَضْلِ صَوْمِهِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ مَوْضُوعَةٌ، وَأَئِمَّتُنَا وَغَيْرُهُمْ لَمْ يُعَوِّلُوا فِي نَدْبِ صَوْمِهِ عَلَيْهَا حَاشَاهُمْ مِنْ ذَلِكَ وَإِنَّمَا عَوَّلُوا عَلَى مَا قَدَّمْته وَغَيْره وَمِنْهُ مَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنْ أَنَسٍ يَرْفَعهُ «أَنَّ فِي الْجَنَّةِ نَهْرًا يُقَالُ لَهُ رَجَبٌ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنْ اللَّبَنِ وَأَحْلَى مِنْ الْعَسَلِ، مَنْ صَامَ مِنْ رَجَبٍ يَوْمًا سَقَاهُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ النَّهْرِ» وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ أَبِيهِ يَرْفَعهُ «مَنْ صَامَ يَوْمًا مِنْ رَجَبٍ كَانَ كَصِيَامِ سَنَةٍ وَمَنْ صَامَ سَبْعَةَ أَيَّامٍ غُلِّقَتْ عَنْهُ أَبْوَابُ جَهَنَّمَ، وَمَنْ صَامَ ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ فُتِحَتْ لَهُ ثَمَانِيَةُ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، وَمَنْ صَامَ عَشَرَةَ أَيَّامٍ لَمْ يَسْأَلْ اللَّهَ شَيْئًا إلَّا أَعْطَاهُ إيَّاهُ، وَمَنْ صَامَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا نَادَى مُنَادٍ مِنْ السَّمَاءِ قَدْ غُفِرَ لَك مَا سَلَفَ فَاسْتَأْنِفْ الْعَمَلَ وَقَدْ بُدِّلَتْ سَيِّئَاتُك حَسَنَاتٍ، وَمَنْ زَادَ زَادَهُ اللَّهُ» . ثُمَّ نَقَلَ عَنْ شَيْخِهِ الْحَاكِمِ أَنَّ الْحَدِيثَ الْأَوَّلَ مَوْقُوفٌ عَلَى أَبِي قِلَابَةَ وَهُوَ مِنْ التَّابِعِينَ فَمِثْلُهُ لَا يَقُولُهُ إلَّا عَنْ بَلَاغٍ عَمَّنْ قَوْلُهُ مِمَّا يَأْتِيه الْوَحْيُ ثُمَّ رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَصُمْ بَعْدَ رَمَضَانَ إلَّا رَجَبَ وَشَعْبَانَ» ثُمَّ قَالَ إسْنَادُهُ ضَعِيفٌ اهـ وَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ الْحَدِيثَ الضَّعِيفَ وَالْمُرْسَلَ وَالْمُنْقَطِعَ وَالْمُعْضِلَ، وَالْمَوْقُوفَ يُعْمَلُ بِهَا فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ إجْمَاعًا وَلَا شَكَّ أَنَّ صَوْمَ رَجَبٍ مِنْ
فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ فَيُكْتَفَى فِيهِ بِالْأَحَادِيثِ الضَّعِيفَةِ وَنَحْوِهَا وَلَا يُنْكِرُ ذَلِكَ إلَّا جَاهِلٌ مَغْرُورٌ وَرَوَى الْأَزْدِيُّ فِي الضُّعَفَاءِ مِنْ حَدِيثِ السُّنَنِ «مَنْ صَامَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ شَهْرٍ حَرَامٍ الْخَمِيسَ وَالْجُمُعَةَ وَالسَّبْتَ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ عِبَادَةَ سَبْعِمِائَةِ عَامٍ» وَلِلْحَلِيمِيِّ فِي صَوْمِ رَجَب كَلَامٌ مُحْتَمَلٌ فَلَا تَغْتَرُّ بِهِ فَإِنَّ الْأَصْحَابَ عَلَى خِلَافِ مَا قَدْ يُوهِمهُ كَلَامُهُ. وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
(وَسُئِلَ) نَفَعَ اللَّهُ بِهِ عَنْ مَسْأَلَةٍ سُئِلَ عَنْهَا بَعْضُ الْمُفْتِينَ مِنْ أَكَابِرِ الْمُتَأَخِّرِينَ عَنْ أَهْلِ بَجِيلَةَ يَشْهَدُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ بِرُؤْيَةِ هِلَالِ رَمَضَانَ فَمِنْهُمْ مَنْ يَصُومُ بِتِلْكَ الشَّهَادَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَصُومُ بِالِاسْتِفَاضَةِ فَقَطْ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَصُومُ حَتَّى يَرَى الْهِلَالَ بِنَفْسِهِ أَوْ يَسْتَكْمِلَ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا. فَمَا يَكُون الْحُكْمُ فِيهِمْ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ فِي الْبَلَدِ قَاضٍ؟ نَعَمْ إذَا رُئِيَ الْهِلَالُ بِمَكَّةَ الْمُشَرَّفَةِ وَلَمْ يُرَ بِأَرْضِ بَجِيلَةَ فَمَا يَكُونُ الْحُكْمُ فِي ذَلِكَ؟
فَأَجَابَ ذَلِكَ الْمُفْتِي بِأَنَّ الَّذِينَ يَصُومُونَ بِتِلْكَ الشَّهَادَةِ لَا يَصِحُّ صَوْمُهُمْ لِقَوْلِ الْأَئِمَّةِ رضي الله عنهم يُشْتَرَطُ فِي الشَّهَادَةِ بِرُؤْيَةِ هِلَالِ رَمَضَانَ أَنْ تَكُونَ عِنْد الْقَاضِي؛ لِأَنَّ الصَّحِيحَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ الْمُعْتَمَدُ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّهُ شَهَادَةٌ فَلَا تَثْبُت فِي حَقِّ عُمُومِ النَّاسِ مَا لَمْ تَتَّصِل بِالْحَاكِمِ قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ جَلَالُ الدِّينِ الْمَحَلِّيُّ فِي شَرْحِ الْمِنْهَاجِ وَلَا بُدّ مِنْ الْوُجُوبِ عَلَى مَنْ لَمْ يَرَهُ مِنْ ثُبُوتِ رُؤْيَتِهِ عِنْد الْقَاضِي اهـ قَالَ الْإِمَامُ شِهَابُ الدِّينِ الْأَذْرَعِيُّ: وَتُعْتَبَرُ الْعَدَالَةُ الْبَاطِنَةُ بِالِاسْتِزْكَاءِ اهـ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ وَلَا يَكْتَفِي الْقَاضِي بِالْعَدَالَةِ الظَّاهِرَةِ حَتَّى يَعْرِفَ الْعَدَالَةَ الْبَاطِنَةَ وَفِي الرَّوْضَةِ وَغَيْرهَا أَنَّ الْقَاضِيَ يَعْسُر عَلَيْهِ مَعْرِفَتُهَا قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الرِّفْعَةِ وَغَيْرُهُ: وَالْقَاضِي لَا يَشُقُّ عَلَيْهِ الْبَحْثُ عَنْهَا.
قَالَ الْإِمَامُ زَيْنُ الدِّينِ أَبُو الْحُسَيْنِ الْمَدَنِيِّ: وَالْبَحْثُ عَنْ حَالَ الشُّهُودِ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى قَالَ الشَّيْخَانِ، وَإِذَا لَمْ يَعْرِف الْقَاضِي مِنْ الشُّهُودِ عَدَالَةً وَلَا فِسْقًا لَا يَجُوز لَهُ قَبُولُ شَهَادَتِهِمْ إلَّا بَعْد الِاسْتِزْكَاءِ وَالتَّعْدِيل بَلْ قَالَ الْأَذْرَعِيُّ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ: الشَّهَادَةُ بِالْمَالِ وَغَيْره؛ لِأَنَّ تَزْكِيَةَ الشُّهُودِ إلَى الْحَاكِمِ دُون غَيْرِهِ نَعَمْ إطْلَاقهمْ يَشْمَلُ الْقُرَى وَالْبَوَادِي الَّتِي لَيْسَ فِيهَا قَاضٍ، وَإِطْلَاقُ الْأَئِمَّةِ إذَا شَمَلَ بَعْضَ الْأَحْكَامِ وَلَمْ يُصَرِّحُوا بِهِ، وَخَالَفَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ فَصَرَّحَ بِخِلَافِ مَا شَمَلَهُ إطْلَاقُهُمْ فَالصَّحِيحُ الْمُعْتَمَدُ مَا شَمَلَهُ إطْلَاقُهُمْ كَمَا فِي مَوَاضِعِ مِنْ شَرْحِ الْمُهَذَّبِ وَالْمُهِمَّاتِ وَأَفْتَى بِذَلِكَ الْجَلَالُ الْبُلْقِينِيُّ وَالْوَلِيُّ الْعِرَاقِيُّ.
وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ الْمُفْتِينَ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ: لَا أَثَرَ لِلشَّهَادَةِ بِرُؤْيَةِ هِلَالِ رَمَضَانَ عِنْد غَيْرِ الْحَاكِمِ الْمَنْصُوبِ لِذَلِكَ وَلَا يَتَرَتَّب عَلَيْهَا حُكْمٌ صَحِيحٌ وَذَلِكَ مَا يَقْتَضِيه نُصُوصُ الْمَذْهَبِ وَمَفَاهِيمه، فَإِنْ كَانَ فِي هَذِهِ الشَّاغِرَةِ عَنْ الْحُكَّامِ مَنْ يُسْمَعُ كَلَامُهُ وَيُرْجَعُ إلَيْهِ فِي الْحَلِّ وَالْعَقْدِ وَنُصِّبَ فِي الْبَلَدِ عَارِفًا بِالْأَحْكَامِ فَقِيهًا نَفَذَ حُكْمُهُ، وَسَمَاعُهُ أَدَاءَ الشَّهَادَاتِ بِمَا يَقْتَضِيه الشَّرْعُ الشَّرِيفُ كَمَا ذَكَره فِي الْعَزِيزِ وَالرَّوْضَةِ وَالْأَنْوَارِ وَغَيْرِهَا مِنْ كُتُبِ الْمَذْهَبِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا مَنْ هُوَ كَذَلِكَ يَتَعَيَّن عِنْد أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ تَوْلِيَةُ مَنْ يَصْلُحُ لِذَلِكَ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ فَإِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ وَجَبَ عَلَى مَنْ وَلَّوْهُ سَمَاعُ الْبَيِّنَةِ وَالْحُكْمُ بِمَا يَقْتَضِيه الشَّرْعُ الشَّرِيفُ فِي ذَلِكَ وَغَيْره اهـ ثُمَّ وَرَدَ هَذَا الْجَوَابُ عَلَى بَعْضِ الْفُقَهَاءِ فَكَتَبَ تَحْتَهُ هَذَا الْجَوَابَ صَحِيحٌ اهـ.
وَقَدْ ذَكَر الْمَاوَرْدِيُّ فِي الْحَاوِي أَنَّهُ إذَا خَلَا الْبَلَدُ عَنْ قَاضٍ وَخَلَا الْعَصْرُ عَنْ إمَامٍ فَقَلَّدَ أَهْلُ الِاخْتِيَارِ أَوْ بَعْضُهُمْ بِرِضَا الْبَاقِينَ وَاحِدًا وَأَمْكَنَهُمْ نُصْرَتَهُ عَلَى تَنْفِيذِ أَحْكَامِهِ وَتَقْوِيَةِ يَدِهِ جَازَ تَقْلِيدُهُ وَلَوْ انْتَفَى شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ تَقْلِيدُهُ حَتَّى لَوْ قَلَّدَ بَعْضُهُمْ وَأَنْكَرَ الْبَعْضُ لَمْ يَصِحَّ اهـ كَذَا قَالَهُ الْإِمَامُ ابْنُ الرِّفْعَةِ وَغَيْرُهُ وَنَقَلَهُ النَّهَارِيُّ الْيَمَنِيُّ فِي كِفَايَتِهِ عَنْ الرُّويَانِيِّ مِنْ غَيْرِ اعْتِرَاضٍ عَلَيْهِ وَقَدْ سُئِلَ الْأَصْبَحِيُّ عَمَّا إذَا عُدِمَ فِي قُطْرٍ ذُو شَوْكَةٍ وَحَاكِمٍ، فَهَلْ لِجَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ الْحَلّ وَالْعَقْدِ نَصْبُ فَقِيهٍ يَتَعَاطَى الْأَحْكَامَ؟
فَأَجَابَ نَعَمْ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ رَئِيسٌ يَرْجِعُ الْأَمْرُ إلَيْهِ، اجْتَمَعَ ثَلَاثَةٌ مِنْ أَهْلِ الْحَلّ وَالْعَقْد وَنَصَّبُوا قَاضِيًا صِفَتَهُ صِفَةَ الْقُضَاةِ، وَيُشْتَرَطُ فِي الثَّلَاثَةِ صِفَةُ الْكَمَالِ كَمَا فِي نَصْبِ الْإِمَامِ اهـ.
وَالْحَاصِلُ مِنْ هَذَا أَنَّ الشَّهَادَةَ بِرُؤْيَةِ هِلَالِ رَمَضَانَ إذَا لَمْ تَكُنْ عِنْد مَنْصُوبٍ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ فِي الْبَلَدِ قَاضٍ أَنَّهَا لَا تُقْبَلُ كَمَا سَبَقَ بَلْ قَالَ الْغَزَالِيُّ وَالْجَمَالُ الْيَمَنِيُّ: إذَا
تَحَدَّثَ النَّاسُ بِرُؤْيَتِهِ وَلَمْ يَثْبُت عِنْد قَاضٍ فَهُوَ يَوْمُ شَكٍّ، وَأَمَّا الَّذِينَ يَصُومُونَ بِالِاسْتِفَاضَةِ فَلَا يَصِحُّ صَوْمُهُمْ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْهِلَالَ لَا يَثْبُت بِالِاسْتِفَاضَةِ بَلْ هُوَ يَوْمُ شَكٍّ فَفِي الْعَزِيزِ وَالرَّوْضَةِ وَفِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ أَنَّهُ إذَا وَقَعَ فِي الْأَلْسُنِ أَنَّهُ رُئِيَ الْهِلَالُ وَلَمْ يَقُلْ عَدْلٌ أَنَا رَأَيْتُهُ أَوْ قَالَهُ وَلَمْ يَقْبَل الْوَاحِدُ أَوْ قَالَهُ عَدَدٌ مِنْ النِّسَاءِ أَوْ الْعَبِيدِ أَوْ الْفُسَّاقِ فَظُنَّ صِدْقُهُمْ فَهُوَ يَوْمُ شَكٍّ اهـ وَعِبَارَةُ الْوَلِيِّ الْعِرَاقِيِّ إذَا شَهِدَ عَدَدٌ مِنْ الْفُسَّاقِ أَوْ ظُنَّ صِدْقُهُمْ فَهُوَ يَوْمُ شَكٍّ،، وَقَوْلُهُ اثْنَانِ فَأَكْثَر يَتَنَاوَلُ الْجَمْعَ الْكَثِيرَ أَيْ وَهُوَ يَوْمُ شَكٍّ قُلْت صَوْمُ يَوْمِ الشَّكِّ مِنْ رَمَضَانَ حَرَامٌ كَمَا نَقَلَهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ عَنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَالْجُمْهُورِ وَالْأَحَادِيثُ دَلِيلٌ لِذَلِكَ.
وَنَقَلَ الْإِمَامُ الْأَذْرَعِيُّ الِاتِّفَاقَ عَلَيْهِ وَعَدَمَ صِحَّتِهِ عَنْ رَمَضَانَ وَنَقَلَ عَنْ الْقَاضِي ابْنِ كَجٍّ أَنَّ ذَلِكَ مُرَادُ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه وَنَقَلَ ابْنُ الرِّفْعَةِ وَغَيْرُهُ عَنْ الْبَنْدَنِيجِيِّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ صَوْمُ يَوْمِ الشَّكِّ احْتِيَاطًا لِرَمَضَانَ قَالَ الْإِسْنَوِيُّ وَالدَّمِيرِيُّ فِي شَرْحَيْ الْمِنْهَاجِ وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ اهـ قَالَ الْإِمَامُ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: وَسَمِعْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ يَنْهَوْنَ عَنْ صَوْمِ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَقَدْ أَمَرَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ رَجُلًا صَامَ يَوْمَ الشَّكِّ أَنْ يُفْطِرَ بَعْد الظُّهْرِ وَقَالَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ -: مَنْ صَامَ يَوْمَ الشَّكِّ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ تَعَالَى وَرَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ سُئِلَ بَعْضُهُمْ عَنْ الْيَوْمِ الَّذِي يَقُولُ النَّاسُ إنَّهُ مِنْ رَمَضَان فَقَالَ لَا تَصُمْ إلَّا مَعَ الْإِمَامِ.
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّهُ قَالَ: إنِّي لَأَعْجَبُ مِنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَصُومُونَ قَبْلَ رَمَضَان إنَّمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إذَا رَأَيْتُمْ الْهِلَالَ فَصُومُوا،، وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَعُدُّوا ثَلَاثِينَ» فَعَلَى هَذَا لَمَّا ثَبَتَ تَحْرِيمُ صَوْمِ يَوْمِ الشَّكِّ مِنْ رَمَضَان بِنَصِّ صَاحِبِ الشَّرْعِ صلى الله عليه وسلم وَإِمَامِ الْمَذْهَبِ تَعَيَّنَ الْأَخْذُ بِهِ وَطَرْحُ مَا عَدَاهُ وَقَدْ سُئِلَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ عَمَّا إذَا رَأَى هِلَالَ رَمَضَانَ رَجُلٌ أَوْ رِجَالٌ كَثِيرُونَ فِي طَرَفِ بَلْدَةٍ وَلَمْ يَرَهُ بَاقِي الْبِلَادِ دُون مَسَافَةِ الْقَصْرِ وَصَاحَ عَلَيْهِ مَنْ رَآهُ مِنْهُمْ وَأَهْلُ قَرْيَتِهِمْ ثُمَّ صَاحَ قَرْيَة لِقَرْيَةٍ حَتَّى صَاحَتْ قُرًى كَثِيرَةٌ بَعْضُهَا لِبَعْضِ وَهَذَا الصِّيَاحُ سَالِفٌ لِأَهْلِ هَذِهِ الْبَلْدَةِ وَيَصُومُونَ فِي عُرْفِهِمْ وَعَادَتِهِمْ فَهَلْ يَصِحّ صِيَامُ مَنْ لَمْ يَرَهُ بِسَمَاعِ صِيَاحِهِمْ أَمْ لَا يَصِحّ؟
فَأَجَابَ نَفَعَ اللَّهُ بِعُلُومِهِ قَالَ: صِيَاحُ هَذَا لَا يُفِيدُ وَلَوْ كَانَ سَالَفَهُمْ الصِّيَاحُ لِلصِّيَامِ فَلَا يَصِحُّ صِيَامُ مَنْ لَمْ يَرَهُ بِسَمَاعِ صِيَاحِهِمْ. وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.
وَأَمَّا الَّذِينَ لَا يَصُومُونَ حَتَّى يَرَوْا الْهِلَالَ أَوْ يَسْتَكْمِلُوا شَعْبَانَ فَهُمْ عَلَى الصَّوَابِ لِمَا سَبَقَ وَلِقَوْلِ الشَّيْخِ الصَّيْرَفِيِّ بِالدِّيَارِ الْمَصْرِيَّةِ إذَا لَمْ يَشْهَدْ الرَّاءُونَ بِالرُّؤْيَةِ عِنْدَ حَاكِمٍ شَرْعِيٍّ وَلَمْ يَثْبُتْ لَمْ يَلْزَمْ مَنْ لَمْ يَرَهُ الْعَمَلُ بِقَوْلِ مَنْ رَآهُ وَلَوْ كَثُرُوا وَلَهُ الْفِطْرُ إلَى اسْتِكْمَالِ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ وَكَذَا بِالنِّسْبَةِ إلَى آخِرِ يَوْمِ مِنْهُ وَأَوَّلِ يَوْمٍ مِنْ شَوَّال لَهُ اسْتِكْمَالُ رَمَضَانَ الثَّلَاثِينَ إنْ لَمْ يَرَهُ لَيْلَةَ الثَّلَاثِينَ مِنْ رَمَضَانَ قَالَ وَقَدْ أَطْلَقَ الرَّافِعِيُّ النَّقْلَ عَنْ الْإِمَامِ وَابْنِ الصَّبَّاغِ فِيمَا إذَا أَخْبَرَ بِهِ مَنْ يُوَثَّقُ أَيْ وَلَمْ يَثْبُت عِنْد حَاكِمٍ أَنَّهُ لَا يَلْزَم الْمُخْبَرَ بِفَتْحِ الْبَاء الْعَمَلُ بِقَوْلِ الْمُخْبِر بِكَسْرِهَا إلَّا إذَا بَنَيْنَا عَلَى أَنَّهُ مِنْ بَابِ الرِّوَايَةِ وَهُوَ ضَعِيفٌ، أَمَّا إذَا بَنَيْنَا عَلَى أَنَّهُ مِنْ بَابِ الشَّهَادَةِ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ فِي الْمَذْهَبِ فَلَا يَلْزَمُ الْمُخْبَرَ الْعَمَلُ بِقَوْلِ الْمُخْبِرِ.
ثُمَّ نَقَلَ الْإِمَامُ ابْنُ عَبْدَانِ وَمَنْ وَافَقَهُ الْقَوْلَ بِوُجُوبِ الْعَمَلِ بِقَوْلِ الْمُخْبِرِ مُطْلَقًا وَلَمْ يُرَجَّحْ شَيْءٌ مِنْهُمَا لَكِنَّ قَضِيَّةَ كَلَامِهِ فِي النَّقْلِ عَنْ الْإِمَامِ وَابْنِ الصَّبَّاغِ وَتَفْرِيعُهُ عَلَى ذَلِكَ وَبِنَاؤُهُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ فِي أَنَّهُ مِنْ بَابِ الرِّوَايَةِ أَوْ الشَّهَادَةِ كَمَا ذَكَر تَقْتَضِي تَرْجِيحَ مَا قَالَاهُ أَيْ فِي أَنَّ طَرِيقَهُ الشَّهَادَةُ دُونَ الْإِخْبَار لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «فَإِنْ شَهِدَ ذُو عَدْلٍ فَصُومُوا وَافْطِرُوا» فَثَبَتَ أَنَّهَا شَهَادَةٌ وَلِأَنَّهُ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ فَتَعَلَّقَ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ قَالَ وَيَلْزَم مِنْ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى الْمُعْتَمَدِ عَدَمُ لُزُومِ الْعَمَلِ بِقَوْلِ الْمُخْبِرِ حَيْثُ لَمْ يَثْبُت عِنْد حَاكِمٍ شَرْعِيٍّ كَمَا تَقَدَّمَ وَذَلِكَ مُوَافِقٌ لِمَا ذَكَره الْأَذْرَعِيُّ فِي التَّوَسُّطِ حَيْثُ قَالَ وَلَا أَحْسَبُ أَحَدًا يُنَازِعُ فِي أَنَّ الْحَاكِمَ لَوْ أَخْبَرَ رَعِيَّتَهُ أَنَّهُ رَأَى الْهِلَالَ أَوْ الْإِمَامَ الْعَادِلَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمهُمْ الصَّوْمَ إلَّا أَنْ يَشْهَدَ بِهِ عِنْد قَاضٍ آخَر بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ انْتَهَى جَوَابُ الْإِمَامِ الصَّيْرَفِيِّ. وَيُؤَيِّدُهُ أَيْضًا قَوْلُ
بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّ قَوْلَ الرَّائِينَ فِي الصَّوْمِ وَالْفِطْرِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى الْغَيْرِ إلَّا إذَا أَدَّى عِنْد قَاضٍ أَوْ مُحَكَّمٍ مِنْ جِهَةِ أَهْلِ الْبَلَدِ كُلِّهِمْ وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ شِهَابُ الدِّينِ ابْنُ الْعِمَادِ فِي تَوْقِيفِ الْحُكَّامِ لَوْ أَخْبَرَهُ عَدْلٌ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ يَوْمَ الثَّلَاثِينَ مِنْ شَعْبَان لَمْ يَلْزَم الصَّوْم عَلَى الصَّوْم تَفْرِيعًا عَلَى أَنَّهُ يَسْلُكُ بِهِ مَسْلَكَ الشَّهَادَةِ وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَخْتَصّ بِمَجْلِسِ الْحُكْمِ اهـ.
فَحِينَئِذٍ الْحَاصِلُ مِمَّا سَبَقَ أَنَّ الشُّهُودَ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ عِنْد رُؤْيَةِ الْقَاضِي أَوْ الْمَنْصُوبِ أَوْ الْمُحَكَّمِ مِنْ جِهَةِ أَهْلِ الْبَلَدِ لَا تُقْبَلُ كَشَهَادَةِ بَجِيلَةَ بَعْضُهُمْ عِنْدَ بَعْضٍ، وَإِذَا لَمْ تُقْبَل حُرِّمَ صَوْمُهُ عَنْ رَمَضَان بِشَهَادَتِهِمْ لِمَنْ لَمْ يَرَ الْهِلَالَ بِنَفْسِهِ، وَأَمَّا مَنْ رَآهُ فَنَقَلَ الْإِمَامُ الْأَذْرَعِيُّ عَنْ الْإِمَامِ سُلَيْمٍ الرَّازِيِّ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَثْبُت لَمْ يُجْزِئْهُ صَوْمُهُ وَمُقْتَضَى كَلَامِ غَيْرِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ صَوْمُهُ وَيُجْزِئْهُ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَم، وَأَمَّا قَوْلُ السَّائِلِ إذَا رَأَى الْهِلَالَ بِمَكَّةَ الْمُشَرَّفَةِ وَلَمْ يَرَ بِأَرْضِ بَجِيلَةَ فَمَا يَكُون الْحُكْمُ فِي ذَلِكَ - فَاعْلَمْ أَنَّ الْمَطَالِعَ قَدْ تَخْتَلِفُ فَيَلْزَم مِنْ رُؤْيَتِهِ فِي الشَّرْقِيِّ رُؤْيَتُهُ فِي الْغَرْبِيِّ وَلَا يَنْعَكِسُ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّيْلَ يَدْخُلُ فِي الْبِلَادِ الشَّرْقِيَّةِ قَبْلَ دُخُولِهِ فِي الْبِلَادِ الْغَرْبِيَّةِ وَعَلَى ذَلِكَ حَدِيث كُرَيْبٍ فَإِنَّ الشَّامَ غَرْبِيَّةٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَدِينَةِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ رُؤْيَتِهِ بِالشَّامِ رُؤْيَتُهُ بِالْمَدِينَةِ كَذَا قَالَ الْإِمَامُ جَمَالُ الدِّينِ الْإِسْنَوِيُّ فَعَلَى هَذَا قَالَ الْقَاضِي بُرْهَانُ الدِّينِ إبْرَاهِيمُ بْنُ ظَهِيرَةَ قَاضِي مَكَّةَ الْمُشَرَّفَةِ فِي بَعْضِ أَجْوِبَتِهِ بَجِيلَةُ شَرْقِيُّ مَكَّةَ فَيَلْزَمُ مِنْ الرُّؤْيَةِ بِبَجِيلَةَ الرُّؤْيَةُ بِمَكَّةَ الْمُشَرَّفَةِ وَلَا عَكْسَ اهـ قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الرِّفْعَةِ وَغَيْرُهُ وَحَيْثُ قُلْنَا لَا يَتَعَدَّى الْحُكْمُ فَسَارَ شَخْصٌ مِنْ مَوْضِعٍ رُئِيَ فِيهِ إلَى حَيْثُ لَمْ يُرَ وَاسْتَكْمَلَ ثَلَاثِينَ وَلَمْ يُرَ فِي الْبَلَدِ الثَّانِي فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ أَنْ يَصُومَ مَعَهُ لِأَنَّ «ابْنَ عَبَّاسٍ أَمَرَ كُرَيْبًا بِذَلِكَ حِين قَالَ اسْتَهَلَّ عَلَيَّ رَمَضَانُ وَأَنَا بِالشَّامِ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَتَى رَأَيْتُمْ الْهِلَالَ فَقُلْت لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ قَالَ أَنْتَ رَأَيْت الْهِلَالَ قُلْت نَعَمْ، وَرَآهُ النَّاسُ وَصَامُوا وَصَامَ مُعَاوِيَةُ فَقَالَ لَكِنَّا رَأَيْنَاهُ لَيْلَةَ السَّبْتِ فَلَا نَزَالُ نَصُومُ حَتَّى يُكْمِلَ ثَلَاثِينَ أَوْ نَرَاهُ فَقُلْت أَلَا تَكْتَفِي بِرُؤْيَةِ مُعَاوِيَةَ وَالنَّاسِ؟ فَقَالَ لَا هَكَذَا أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ» صلى الله عليه وسلم وَقِيَاسًا عَلَى أَوْقَاتِ الصَّلَاةِ فَإِنَّ لِكُلِّ بَلْدَةٍ حُكْمَهَا مِنْ الطَّوَالِعِ وَالْغَوَارِبِ كَطُلُوعِ الشَّمْسِ وَغُرُوبِهَا كَمَا قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ وَجَزَمَ بِهِ فِي الْكِفَايَةِ أَيْضًا.
قَالَ الشَّيْخُ الْمُقْرِي فِي التَّمْشِيَةِ: فَإِنَّ الشَّمْسَ قَدْ تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ فَيَفُوتهُمْ الصُّبْحُ وَغَيْرُهُمْ حِينَئِذٍ فِي لَيْلٍ يُمْكِنُهُمْ أَدَاءُ الْعِشَاءِ فِيهِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْأَصْحَابُ فَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يُعْتَبَرَ وَقْتُ الصَّوْمَ بِمَطَالِعِ الْفَجْرِ انْتَهَى كَلَامُ التَّمْشِيَةِ قَالَ الْإِمَامُ الْأَذْرَعِيُّ وَحَدِيثُ كُرَيْبٍ رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَذَكَره الْقَفَّالُ وَمَنْ تَبِعَهُ وَاعْتَمَدُوهُ وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ عِنْد أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَهُوَ حَسَنٌ تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ وَهُوَ قَوْلُ صَحَابِيٍّ كَبِيرٍ لَا مُخَالِفَ لَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم، وَقَوْلُ فُقَهَاءِ التَّابِعِينَ اهـ قَالَ الْإِمَامُ الْإِسْنَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمِنْهَاجِ: وَلَا شَكَّ أَنَّ مَوْرِدَ النَّصِّ وَهُوَ حَدِيثُ كُرَيْبٍ السَّابِق فِي الشَّامِ وَالْحِجَازِ وَقَدْ وُجِدَ فِيهِ مَسَافَةُ الْقَصْرِ وَاخْتِلَافُ الْإِقْلِيمِ وَاخْتِلَافُ الْمَطَالِعِ وَاحْتِمَالُ عَدَمِ الرُّؤْيَةِ، فَاسْتَنَدَ كُلُّ طَائِفَةٍ إلَى وَاحِدَةٍ مِنْهَا وَأَيَّدَ بِهِ اهـ، وَقَوْلُ الْإِمَامِ نَجْمِ الدِّينِ ابْنِ الرِّفْعَةِ وَحَيْثُ قُلْنَا لَا يَتَعَدَّى الْحُكْمُ قَالَ الْإِمَامُ الْأَذْرَعِيُّ هُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدنَا وَصَحَّحَهُ الْجُمْهُورُ مِنْ أَنَّ لِكُلِّ بَلَدٍ رُؤْيَتَهُمْ وَصَحَّحَهُ أَيْضًا الرَّافِعِيُّ وَالنَّوَوِيُّ وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ انْتَهَى جَوَابُ هَذَا الْمُفْتِي. فَهَلْ يَا شَيْخَ الْإِسْلَامِ جَوَابُكُمْ كَذَلِكَ أَمْ لَا؟
(فَأَجَابَ) رضي الله عنه وَمَتَّعَ الْمُسْلِمِينَ بِحَيَاتِهِ وَنَفَعَهُمْ بِمَعْلُومَاتِهِ بِقَوْلِهِ أَمَّا مَا ذَكَره الْمُفْتِي الْمَذْكُورُ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ فَفِيهِ نَظَرٌ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ فَلَا يَصِحُّ صَوْمُهُمْ لِقَوْلِ الْأَئِمَّةِ إلَخْ لَا مُطَابِقَةَ فِيهِ بَيْن الْعِلَّةِ وَالْمُعَلَّلِ،؛ لِأَنَّ قَوْلَ الْأَئِمَّةِ الْمَذْكُورُ إنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ لِعُمُومِ النَّاسِ بِدَلِيلِ أَنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِيمَنْ أَخْبَرَهُ مَنْ يَثِق بِهِ بِأَنَّهُ رَآهُ هَلْ يَلْزَمهُ الصَّوْمَ أَوْ لَا وَسَيَأْتِي مَا فِيهِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ كَلَامَهُمْ هَذَا فِي ثُبُوتِ رَمَضَانَ بِالنِّسْبَةِ لِعُمُومِ النَّاسِ.
ثَانِيهَا أَنَّ قَوْلَهُ قَالَ الْأَذْرَعِيُّ وَتُعْتَبَر الْعَدَالَةُ الْبَاطِنَةُ إلَخْ ضَعِيفٌ وَالْمُعْتَمَدُ مَا فِي الْمَجْمُوعِ، وَإِنْ
نَازَعَ فِيهِ جَمْعٌ مِنْ أَنَّ الْمَسْتُورَ هُنَا يُقْبَلُ إذَا شَهِدَ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ فَلَا تُشْتَرَطُ الْعَدَالَةُ الْبَاطِنَةُ وَهِيَ الَّتِي يُرْجَعُ فِيهَا إلَى قَوْلِ الْمُزَكِّينَ وَبِهِ يُعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ مَحْضُ شَهَادَةٍ بَلْ فِيهِ شَائِبَةٌ بَلْ شَوَائِبُ مِنْ الرِّوَايَةِ مِنْهَا ثُبُوتُهُ بِوَاحِدِ وَعَدَمُ احْتِيَاجه إلَى دَعْوَى وَعَدَمُ تَصَوُّر الْحُكْمِ بِهِ،؛ لِأَنَّهُ إلْزَامٌ لِمُعَيَّنٍ وَإِنَّمَا يُثْبِتُ الْقَاضِي الشَّهْرَ فَقَطْ وَالثُّبُوتُ لَيْسَ بِحُكْمٍ وَقَبُولُ قَوْلِ الشَّاهِدِ: أَشْهَدُ أَنِّي رَأَيْتُ الْهِلَالَ عَلَى الْمُعْتَمَد عِنْد الرَّافِعِيِّ وَغَيْره.
وَثَالِثُهَا أَنَّ قَوْلَهُ نَعَمْ إطْلَاقهمْ إلَخْ لَيْسَ فِي مَحِلّه لِأَنَّ ذَاكَ ذَكَرُوهُ فِي بَابِ الْقَضَاء وَهُوَ مَخْصُوصٌ بِغَيْرِ رَمَضَان لِمَا ذَكَرُوهُ فِيهِ فِي بَابِهِ مِمَّا ذُكِرَ.
رَابِعهَا أَنَّ قَوْلَهُ: وَلِهَذَا قَالَ بَعْض الْمُفْتِينَ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ إلَخْ غَيْرُ صَحِيحٍ، أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّهُ لَا يُنَاسِبُ مَا قَبْلَهُ حَتَّى يَجْعَلَهُ عِلَّةً لَهُ،، وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ مَحِلَّهُ حَيْثُ لَا مُحَكِّمَ أَمَّا إذَا حَكَّمُوا مَنْ يَسْمَع الشَّهَادَةَ بِرَمَضَانَ فَإِنَّهُ يَجُوزُ كَمَا ذَكَره الزَّرْكَشِيُّ حَيْثُ قَالَ مَا حَاصِلُهُ وَلَا يَحْكُمُ الْقَاضِي بِكَوْنِ اللَّيْلَةِ مِنْ رَمَضَان؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ لِأَنَّهُ إلْزَامٌ بِمُعَيَّنٍ وَهُوَ هُنَا غَيْرُ مَقْصُودٍ لِعُمُومِ الْأَمْرِ فِيهِ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ إنَّمَا يَثْبُت الشَّهْرُ مِنْ غَيْرِ حُكْمٍ وَالثُّبُوتُ لَيْسَ بِحُكْمٍ نَعَمْ إذَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ حَقُّ آدَمِي وَدَعَتْ حَاجَةٌ إلَى الْحُكْمِ بِهِ حَكَمَ بِهِ بِشُرُوطِهِ، مُسْتَنِدًا إلَى ذَلِكَ الثُّبُوتِ وَالظَّاهِرُ أَيْضًا أَنَّ رَمَضَان يَثْبُتُ بِالتَّحْكِيمِ سِيَّمَا بِمَوْضِعٍ لَا حَاكِمَ فِيهِ حَتَّى إذَا جَاءَ إلَى رَجُلٍ وَحَكَّمَاهُ بِشَرْطِهِ لَزِمَهُمَا وَلَزِمَ النَّاسُ صَوْمَهُ، وَإِنْ كَانَ الشَّاهِدُ وَاحِدًا اهـ.
نَعَمْ مَا ذَكَره أَعْنِي الزَّرْكَشِيّ مِنْ إلْزَامِ النَّاسِ بِالصَّوْمِ إذَا حَكَمَ بِهِ الْمُحَكَّم مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَرْضَ بِتَحْكِيمِهِ إلَّا اثْنَانِ. فِيهِ نَظَرٌ وَاَلَّذِي يَتَّجِهُ أَنَّ الصَّوْمَ لَا يَلْزَمُ إلَّا مَنْ رَضِيَ بِحُكْمِهِ وَمَا ذَكَره الزَّرْكَشِيُّ أَيْضًا مِنْ أَنَّ الْحُكْمَ إلْزَامٌ بِمُعَيَّنٍ أَرَادَ بِهِ الْغَالِبَ وَإِلَّا فَقَدْ لَا يَكُون فِيهِ إلْزَامٌ لِذَلِكَ كَمَا بَيَّنَهُ الْعَلَائِيُّ فِي قَوَاعِده عَلَى أَنَّ مَا ذَكَره مِمَّا لَا إلْزَامَ فِيهِ بِمُعَيَّنٍ يُمْكِن أَنْ يُوَجَّه بِأَنَّ فِيهِ إلْزَامًا بِمُعَيَّنٍ فَلَا يَكُونُ التَّقْيِيدُ بِذَلِكَ لَازِمًا كَمَا يُعْلَمُ ذَلِكَ لِمَنْ أَمْعَنَ النَّظَرَ فِيهِ فِي مَحَالِّهِ مَنْ الْقَوَاعِدِ الْمَذْكُورَةِ.
وَخَامِسُهَا أَنَّ قَوْلَهُ فَحِينَئِذٍ الْحَاصِلُ إلَخْ لَيْسَ عَلَى إطْلَاقِهِ كَمَا عُلِمَ مِمَّا تَقَرَّرَ وَمَا نَقَلَهُ عَنْ الْغَزَالِيِّ وَمَنْ تَبِعَهُ لَا يَشْهَد لَهُ عَلَى أَنَّ تَخْصِيصَهُ بِهَذَيْنِ مَعَ أَنَّهُ فِي كُتُبِ الْمَذْهَبِ الْمَشْهُورَةِ وَغَيْرِهِمَا يُشْعِر بِانْفِرَادِهِمَا بِهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ.
وَإِذْ قَدْ فَرَغْنَا مِنْ الْكَلَامِ عَلَى مَا فِي عِبَارَته مِنْ هَذَا الْقِسْمِ فَلْنَذْكُرْ الْمُعْتَمَد فِيهِ وَهُوَ أَنَّ مَنْ أَخْبَرَهُ ثِقَةٌ بِرُؤْيَةِ هِلَالِ رَمَضَانَ وَغَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ صِدْقُهُ لَزِمَهُ الصَّوْمُ كَمَا قَالَهُ جَمْعٌ مُتَقَدِّمُونَ مِنْهُمْ الْبَغَوِيّ وَاعْتَمَدَهُ جَمْعٌ مُتَأَخِّرُونَ وَمَا ذَكَره عَنْ الصَّيْرَفِيِّ ضَعِيفٌ، وَإِنْ جَرَى عَلَيْهِ غَيْره كَابْنِ الْعِمَادِ وَغَيْرِهِ، وَقَوْلُهُ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَلْزَم إلَّا إذَا فَرَغْنَا عَلَى أَنَّهُ مِنْ بَابِ الرِّوَايَةِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ يُرَدُّ بِمَا قَدَّمْته مِنْ أَنَّ هَذَا لَيْسَ مَحْضُ شَهَادَةٍ بَلْ فِيهِ شَوَائِبُ مِنْ الرِّوَايَةِ احْتِيَاطًا لِلصَّوْمِ فَيَكُونُ مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ شَوَائِبِ الرِّوَايَةِ كَذَلِكَ فَلَزِمَ الْمُخْبَر بِفَتْحِ الْبَاء إذَا اعْتَقَدَ صِدْقَ الْمُخْبِر الصَّوْمُ احْتِيَاطًا لَهُ بَلْ اللُّزُوم حِينَئِذٍ أَوْلَى مِنْهُ إذَا ثَبَتَ بِوَاحِدٍ عِنْد الْقَاضِي وَوَقَعَتْ الرِّيبَةُ وَالشَّكُّ فِي صِدْقِهِ فِي شَهَادَته فَإِنَّهُمْ صَرَّحُوا بِأَنَّهُ يَجِب الصَّوْمُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ إذَا شَهِدَ بِهِ عِنْد الْقَاضِي وَلَوْ عَلَى مَنْ بَقِيَ عِنْده بَعْد الْحُكْمِ رِيبَةٌ فِي تِلْكَ الشَّهَادَةِ وَلَيْسَ ذَلِكَ إلَّا لِلِاحْتِيَاطِ لِلصَّوْمِ فَاللُّزُوم فِي مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ لِلِاحْتِيَاطِ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ مُعْتَقِدٌ الصِّدْقَ وَلَا رِيبَةَ عِنْده فِي وُجُود الْهِلَالِ فَهُوَ كَمَنْ رَأَى الْهِلَالَ، وَإِنْ كَانَ الْعِلْمُ الَّذِي عِنْد الرَّائِي أَقْوَى.
وَقَوْلُ الصَّيْرَفِيِّ وَلَوْ كَثُرُوا لَيْسَ فِي مَحِلِّهِ كَمَا يَأْتِي مِنْ اللُّزُومِ بِالْخَبَرِ الْمُتَوَاتِر، وَقَوْلُهُ عَنْ الْأَذْرَعِيِّ وَلَا أَحْسَبُ أَحَدًا يُنَازِع فِي أَنَّ الْحَاكِمَ إلَخْ لَا يُشْهَدُ لَهُ، أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ قَضِيَّةَ كَلَامِ الدَّارِمِيِّ خِلَافُ مَا قَالَهُ الْأَذْرَعِيُّ، وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ مُرَادَ الْأَذْرَعِيِّ اللُّزُومُ عَلَى الْعُمُومِ وَكَلَامُنَا هُنَا فِي خُصُوصِ مَنْ صَدَّقَ الْمُخْبِرَ، وَإِذَا جَوَّزُوا لِلْمُنَجِّمِ وَالْعَارِفِ بِمَنَازِلِ الْقَمَرِ أَنْ يَعْمَلَ بِحِسَابِ نَفْسِهِ مَعَ أَنَّهُ لَا يُفِيدهُ إلَّا مُجَرَّدُ الظَّنِّ فَلَأَنْ يَجُوزَ بَلْ يَلْزَمُ الْعَمَلُ بِإِخْبَارِ الثِّقَةِ الْمُعْتَمَدِ لِلِاعْتِقَادِ أَوْ غَلَبَةَ الظَّنِّ بِالْأُولَى بَلْ الَّذِي يَتَّجِهُ أَنَّ مَنْ أَخْبَرَهُ فَاسِقٌ وَصَدَّقَهُ أَنَّ لَهُ الصَّوْمَ؛ لِأَنَّ الظَّنَّ الَّذِي اسْتَفَادَهُ مِنْ تَصْدِيقِ مُخْبِرِهِ يُسَاوِي الظَّنَّ الَّذِي يَسْتَفِيدهُ الْحَاسِبُ مِنْ حِسَابِهِ.
وَإِذَا قُلْنَا إنَّ لِهَذَا وَمَنْ
أَلْحَقْنَا بِهِ الصَّوْمَ فَهَلْ يُجْزِئْهُ قَالَ فِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا وَالْمَجْمُوعِ فِي مَوْضِعٍ نَعَمْ وَنَقَلَهُ فِي الْكِفَايَةِ عَنْ الْأَصْحَابِ وَصَحَّحَهُ وَصَوَّبَهُ السُّبْكِيّ وَالْإِسْنَوِيُّ وَالزَّرْكَشِيُّ وَغَيْرُهُمْ وَرَدُّوا مَا وَقَعَ فِي الْمَجْمُوعِ فِي مَوْضِعٍ آخَر مِنْ أَنَّ لَهُ ذَلِكَ وَلَا يُجْزِئْهُ إذَا بَانَ أَنَّ الْيَوْمَ الَّذِي صَامَهُ مِنْ رَمَضَانَ عَلَى أَنَّ مَا وَقَعَ فِيهِ لَيْسَ نَصَّا فِي تَصْحِيحِ ذَلِكَ كَمَا بَيَّنْته فِي حَاشِيَةِ الْعُبَابِ، وَإِذَا كَانَ هَذَا فِي الْإِجْزَاء فِي نَحْوِ الْحَاسِبِ فَالْإِجْزَاءُ فِي الرَّائِي الَّذِي رُدَّتْ شَهَادَتُهُ بِالْأَوْلَى عَلَى أَنَّ الْخِلَافَ فِي هَذَا لَا وَجْهَ لَهُ فَإِنَّهُ مُسْتَنِدٌ إلَى تَعَيُّن الرُّؤْيَةِ وَيَلْزَمُ الْعَمَلُ بِرُؤْيَتِهِ نَفْسِهِ، وَإِنْ رُدَّتْ شَهَادَتُهُ فَكَيْف يُسَوَّغُ حِينَئِذٍ أَنْ يُحْكَى فِي الْإِجْزَاء فِي حَقِّهِ خِلَافٌ؛ لِأَنَّ وَجْهَ الْخِلَافِ فِي نَحْوِ الْحَاسِبِ عَدَمُ الْجَزْمِ بِالنِّيَّةِ وَلَيْسَ ذَلِكَ مَوْجُودًا فِي الرَّائِي فَالْوَجْهُ الْقَطْعُ بِالْإِجْزَاءِ فِي حَقِّهِ وَأَنَّ مَا وَقَعَ فِي قَوْلِ الْمُجِيبِ.
وَأَمَّا مَنْ رَآهُ فَنَقَلُ الْإِمَامِ الْأَذْرَعِيِّ إلَخْ فَهُوَ بِالتَّحْرِيفِ وَالْغَلَطِ أَشْبَهُ، وَأَمَّا مَا ذَكَره الْمُفْتِي الْمَذْكُورَ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي فَفِي إطْلَاقِهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الِاسْتِفَاضَةَ تَارَةً تَقْوَى حَتَّى تَصِلَ إلَى حَدِّ التَّوَاتُرِ وَتَارَةً لَا فَإِنْ وَصَلَتْ لِلتَّوَاتُرِ وَجَبَ الصَّوْمُ عَلَى مَنْ تَوَاتَرَ عِنْده الْخَبَرُ بِالرُّؤْيَةِ، بِأَنْ أَخْبَرَهُ بِهَا عَنْ الْمُعَايَنَةِ جَمْعٌ كَثِيرُونَ، لَا يُمْكِنُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ، وَإِنْ كَانُوا فَسَقَةً أَوْ نَحْوَهُمْ؛ لِأَنَّ الْخَبَرَ الْمُتَوَاتِرَ يُفِيدُ الْعِلْمَ وَلَوْ مِنْ نَحْوِ فُسَّاقٍ، وَإِنْ لَمْ تَصِل لِلتَّوَاتُرِ فَفِيهَا كَلَامٌ ظَاهِرُهُ التَّنَافِي وَذَلِكَ أَنَّ الشَّيْخَيْنِ وَغَيْرَهُمَا قَالُوا أَوَّلَ بَابِ الصَّوْمِ وَلَوْ أَخْبَرَهُ مَوْثُوقٌ بِهِ بِرُؤْيَتِهِ وَلَمْ يَذْكُرهُ عِنْد الْقَاضِي فَقَطَعَتْ طَائِفَةٌ بِوُجُوبِ الصَّوْمِ مُطْلَقًا وَطَائِفَةٌ بِوُجُوبِهِ إنْ قُلْنَا هُوَ رِوَايَةٌ. وَقَالُوا فِي الْكَلَامِ عَلَى النِّيَّةِ لَا بُدَّ مِنْ الْجَزْمِ بِهَا فَلَوْ نَوَى لَيْلَةَ ثَلَاثِينَ مِنْ شَعْبَان صَوْمَ غَدٍ إنْ كَانَ مِنْ رَمَضَانَ فَكَانَ مِنْهُ لَمْ يَقَع عَنْهُ، وَإِنْ جَزَمَ بِالنِّيَّةِ إلَّا إنْ اعْتَقَدَ كَوْنَهُ مِنْهُ بِقَوْلِ مَنْ يَثِقُ بِهِ مِنْ حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ أَوْ امْرَأَةٍ أَوْ صِبْيَان رُشَدَاءَ أَوْ حِسَابِ مُنَجِّمٍ حَيْثُ يَجُوزُ اهـ وَالْمُرَادُ بِالرُّشْدِ هُنَا الِاخْتِبَارُ بِالصِّدْقِ لَا الْمَعْنَى الْمُرَادُ فِي قَوْلِهِمْ شَرْطُ الْعَاقِدِ الرُّشْدُ قَالَهُ الْإِسْنَوِيُّ وَغَيْرُهُ وَوَقَعَ فِي الرَّوْضَةِ وَغَيْرِهَا جَمْعُ نَحْوِ الْعَبِيدِ وَلَيْسَ بِمُعْتَبَرِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ كَلَامُ الْمَجْمُوعِ وَصَرَّحَ بِهِ جَمْعٌ مُتَقَدِّمُونَ وَأَلْحَقَ الْجُرْجَانِيُّ بِمَنْ ذُكِرَ الْفَاسِقَ الَّذِي سَكَنَتْ نَفْسُهُ إلَيْهِ قَالَهُ ابْنُ كَجٍّ وَكَذَا الْكَافِرُ لَكِنْ جَزَمَ الدَّارِمِيُّ بِخِلَافِهِ وَقَالُوا فِي يَوْمِ الشَّكِّ الَّذِي يَحْرُمُ صَوْمُهُ: إنَّهُ يَوْمُ الثَّلَاثِينَ مِنْ شَعْبَان إذَا تَحَدَّثَ النَّاسُ بِرُؤْيَتِهِ أَوْ شَهِدَ بِهَا صِبْيَانٌ أَوْ عَبِيدٌ أَوْ فَسَقَةٌ اهـ وَالْمُرَادُ تَحَدَّثَ النَّاسُ بِرُؤْيَتِهِ بِحَيْثُ يَقْرُبُ مِنْ الِاسْتِفَاضَةِ، وَإِنْ لَمْ يُسْمَع مِمَّنْ يُظَنُّ صِدْقُهُ مِنْهُمْ أَنَّهُ رَأَى الْهِلَالَ كَمَا أَفْهَمهُ كَلَامُ الْمِنْهَاجِ وَأَشَارَ بَعْضُ شَارِحِيهِ إلَى هَذَا الْأَخِيرِ.
وَلَا بُدَّ مِنْ الْعَدَدِ هُنَا فِيمَنْ ذُكِرَ بِأَنْ يَكُونَ اثْنَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ فَانْظُرْ إلَى مَا بَيْن هَذِهِ الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ مِنْ الِاخْتِلَافِ، وَقَدْ أَشَارَ السُّبْكِيّ وَغَيْرُهُ إلَى الْجَمْعِ بَيْنهَا. مُلَخَّصُهُ أَنَّهُ إنَّمَا اعْتَبَرْنَا الْعَدَدَ هُنَا بِخِلَافِهِ فِيمَا مَرَّ فِي صِحَّةِ النِّيَّةِ احْتِيَاطًا لِلْعِبَادَةِ فِيهِمَا وَإِنَّمَا لَمْ يَصِحَّ صَوْمُ يَوْمِ الشَّكِّ حِينَئِذٍ عَنْ رَمَضَان لِأَنَّهُ لَمْ يَتَبَيَّن كَوْنُهُ مِنْهُ. نَعَمْ مَنْ اعْتَقَدَ صِدْقَ مَنْ قَالَ أَنَّهُ رَآهُ مِمَّنْ ذُكِرَ يَصِحُّ صَوْمُهُ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ كَمَا مَرَّ أَوَّلَ الْبَابِ، وَاَلَّذِي تَقَدَّمَ فِي الْكَلَامِ عَلَى النِّيَّةِ مِنْ صِحَّةِ نِيَّةِ مُعْتَقِدِ ذَلِكَ وَوُقُوعِ الصَّوْمِ عَنْ رَمَضَان مَحِلُّهُ إذَا تَبَيَّنَ كَوْنُهُ مِنْهُ فَحِينَئِذٍ لَا تَنَافِيَ بَيْنَ الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ إذْ كَلَامُهُمْ فِي صِحَّةِ النِّيَّةِ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا تَبَيَّنَ كَوْنُهُ مِنْ رَمَضَان وَكَلَامُهُمْ هُنَا مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا لَمْ يَتَبَيَّن شَيْءٌ فَلَيْسَ الِاعْتِمَادُ عَلَى مَنْ ذُكِرَ فِي الصَّوْمِ بَلْ فِي النِّيَّةِ فَقَطْ إذَا نَوَى اعْتِمَادًا عَلَى قَوْلِهِمْ ثُمَّ بَانَ كَوْنُ غَدٍ مِنْ رَمَضَان لَمْ يَحْتَجْ إلَى تَجْدِيدِ نِيَّةٍ أُخْرَى سَوَاء بَانَ ذَلِكَ قَبْلَ الْفَجْرِ أَوْ بَعْدِهِ، وَإِنْ لَمْ يَتَبَيَّن ذَلِكَ بَلْ اسْتَمَرَّ الْحَالُ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ فَهُوَ يَوْمُ الشَّكِّ.
وَأُجِيب عَنْ عَدَمِ التَّنَافِي بِأَجْوِبَةٍ أُخْرَى مِنْهَا: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ فِي يَوْمِ الشَّكِّ فِي عُمُومِ النَّاسِ دُون أَفْرَادِهِمْ فَيَكُونُ شَكَّا بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ لَمْ يُظَنَّ صِدْقُهُمْ وَهُمْ أَكْثَرُ النَّاسِ دُون أَفْرَادِ مَنْ اعْتَقَدَ صِدْقَهُمْ لِوُثُوقِهِ بِهِمْ وَمِنْهَا أَنَّ الْمُرَادَ ثُمَّ إذَا حَصَلَ بِقَوْلِهِمْ ظَنٌّ وَهُنَا إذَا حَصَلَ بِهِ شَكٌّ وَيَرُدُّهُ تَقْيِيدُ الرَّافِعِيِّ هُنَا بِمَا إذَا ظَنَّ صِدْقَهُمْ، وَمِنْهَا أَنَّ الْمُرَادَ ثَمَّ الِاعْتِقَادَ وَهُنَا
الظَّنُّ وَيَرُدُّهُ أَنْ جَمْعًا عَبَّرُوا بِالظَّنِّ ثُمَّ مَوْضِعِ الِاعْتِقَادِ، وَمِنْهَا وَهُوَ أَجْوَدُهَا وَأَحْسَنُهَا: أَنَّ إخْبَارَ مَنْ لَا يُقْبَلُ خَبَرُهُ إمَّا أَنْ يُفِيدَ مُجَرَّدَ ظَنِّ الصِّدْقِ وَهُوَ مَا هُنَا أَوْ ظَنِّ الْحُكْمِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَيْهِ بِأَنْ لَمْ يُعَارِض ظَنَّهُ مُعَارِضٌ وَهُوَ مَا فِيهِ النِّيَّةُ، أَوْ يَنْضَمُّ إلَى ذَلِكَ تَصْدِيقُهُ بِأَنْ قَامَتْ قَرِينَةٌ عَلَيْهِ وَهُوَ مَا مَرَّ أَوَّل الْبَابِ فَعُلِمَ مِمَّا تَقَرَّرَ أَنَّ مَا أَطْلَقَهُ الْمُفْتِي الْمَذْكُورَ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي غَيْرُ صَحِيحٍ عَلَى إطْلَاقِهِ.
وَأَمَّا مَا ذُكِرَ عَنْ بَعْض الْمُفْتِينَ فِي صِيَاحِ الْعَرَبِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ إعْلَامًا بِرَمَضَانَ فَغَيْرُ صَحِيحٍ عَلَى إطْلَاقِهِ أَيْضًا فَقَدْ ذَكَر الْأَذْرَعِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ رُؤْيَةَ الْقَنَادِيلِ مَوْقُودَةً عَلَى الْمَنَائِرِ لَيْلَةَ ثَلَاثِينَ مِنْ شَعْبَانَ كَرُؤْيَةِ الْهِلَالِ؛ لِأَنَّهَا عَلَامَةٌ مُطَّرِدَةٌ فَكَانَتْ كَخَبَرِ الْوَاحِدِ وَبِهِ يُعْلَمُ أَنَّ الصِّيَاحَ لَوْ كَانَ عَلَامَةً مُطَّرِدَةً عِنْد أَهْلِ تِلْكَ الْبِلَادِ عَلَى دُخُولِ رَمَضَان جَازَ لِكُلِّ مَنْ سَمِعَهُ بَلْ وَجَبَ عَلَيْهِ اعْتِمَادَهُ فِي الصَّوْمِ وَأَنَّ غَدًا مِنْ رَمَضَانَ، وَأَمَّا مَا ذَكَره الْمُفْتِي الْمَذْكُورُ فِي جَوَابِ قَوْلِ السَّائِلِ إذَا رُئِيَ الْهِلَال بِمَكَّةَ وَلَمْ يُرَ بِأَرْضِ بَجِيلَةَ فَهُوَ صَحِيحٌ وَالْحَاصِلُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِاتِّحَادِ الْمَطَالِعِ وَاخْتِلَافِهَا لَا بِمَسَافَةِ الْقَصْرِ قَالَ فِي الْأَنْوَارِ وَالْمُرَادُ بِاخْتِلَافِهَا أَنْ تَتَبَاعَد الْبُلْدَان بِحَيْثُ لَوْ رُئِيَ فِي أَحَدِهِمَا لَمْ يُرَ فِي الْآخَرِ غَالِبًا اهـ.
قَالَ الشَّيْخُ تَاجُ الدِّينِ التَّبْرِيزِيُّ: وَرُؤْيَةُ الْهِلَالِ فِي بَلَدٍ تُوجِبُ ثُبُوت حُكْمِهَا إلَى أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ فَرْسَخًا؛ لِأَنَّهَا فِي أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ لَا تَخْتَلِف وَقَالَ السُّبْكِيّ وَالْإِسْنَوِيُّ قَدْ تَخْتَلِفُ وَتَكُون رُؤْيَته فِي أَحَدِهِمَا مُسْتَلْزِمَةً لِرُؤْيَتِهِ فِي الْأُخْرَى مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ إذْ اللَّيْلَةُ تَدْخُل فِي الْبِلَادِ الشَّرْقِيَّةِ قَبْلَ دُخُولِهَا فِي الْغَرْبِيَّةِ، وَحِينَئِذٍ فَيَلْزَم عِنْد اخْتِلَافِ الْمَطَالِعِ مَنْ رُؤْيَتِهِ فِي الشَّرْقِيّ رُؤْيَتُهُ فِي الْغَرْبِيّ مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ، وَأَمَّا عِنْد اتِّحَادِهِمَا فَيَلْزَم مِنْ رُؤْيَتِهِ فِي أَحَدِهِمَا رُؤْيَتُهُ فِي الْآخَرِ، وَقَدْ أَفْتَى جَمَاعَةٌ بِأَنَّهُ لَوْ مَاتَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ وَقْتَ الزَّوَالِ أَخَوَانِ أَحَدُهُمَا بِالْمَشْرِقِ وَالْآخَرُ بِالْمَغْرِبِ وَرِثَ الْمَغْرِبِيُّ الْمَشْرِقِيَّ لِتَقَدُّمِ مَوْتِهِ. وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
(وَسُئِلَ) رضي الله عنه وَنَفَعَ بِعُلُومِهِ وَبَرَكَتِهِ لَوْ شَاعَتْ رُؤْيَةُ هِلَالِ رَمَضَانَ بِبَلَدٍ مَثَلًا وَلَمْ يَتَحَقَّق لَنَا رُؤْيَتُهُ أَوْ أَخْبَرَ بِذَلِكَ مَنْ لَا يُقْبَلُ خَبَرُهُ أَوْ مَنْ يُقْبَلُ خَبَرُهُ وَقُلْتُمْ لَا يَجِبُ الصَّوْمُ إلَّا عَلَى مَنْ وَقَعَ فِي قَلْبِهِ صِدْقُهُ فَهَلْ عَلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ - أَصْلَحَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِالْبَلَدِ الَّتِي بَعُدَتْ عَنْ بَلَدِ الرُّؤْيَةِ نَدْبُ مَنْ يُحَقِّقُ الْخَبَرَ لَهُ لُزُومًا أَوْ نَدْبًا قَرُبَتْ الْمَسَافَةُ أَمْ بَعُدَتْ أَوْ لَا يَجِب شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ وَهَلْ يَثْبُت رَمَضَانُ بِالِاسْتِفَاضَةِ أَوْ التَّوَاتُرِ أَوْ لَا؟ وَهَلْ الْإِشَاعَةُ وَالِاسْتِفَاضَةُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ أَمْ لَا؟ وَلَوْ بَلَغَ الْخَبَرُ أَهْلَ بَلَدٍ بِأَنَّ قُطَّاعَ الطَّرِيقِ أَخَذُوا مَالًا لِمُسْلِمٍ وَرَجَوْا اسْتِنْقَاذَهُ مِنْهُمْ فَهَلْ لَهُمْ الْفِطْرُ مِنْ رَمَضَانَ إنْ تَوَقَّفَ اسْتِنْقَاذُهُمْ عَلَيْهِ مَعَ أَنَّهُمْ لَمْ يَرَوْهُمْ أَيْ الْقُطَّاعَ وَلَا عَلِمُوا عَدَدَهُمْ وَلَا أَيْنَ ذَهَبُوا أَوْ يَخْتَصُّ الْجَوَازُ بِمَنْ رَآهُمْ وَحَقَّقَ الِاسْتِنْفَاذَ مِنْهُمْ بِظَنٍّ مُؤَكَّدٍ وَهَلْ خَوْفُ الْمَشَقَّةِ الَّتِي عِيلَ مَعَهَا الصَّبْرُ تُبِيحُ الْفِطْرَ أَمْ لَا بُدَّ مِنْ وُجُوبِ مَحْذُورِ التَّيَمُّمِ وَلَوْ وَقَعَ الْبَذْرُ أَوْ الْحَصَادُ أَوْ تَنْقِيَةُ الزَّرْعِ فِي رَمَضَانَ وَلَا يُطَاقُ الصَّوْمُ مَعَهُ فَهَلْ يَجُوزُ الْفِطْرُ لِمَنْ لَحِقَهُ بِذَلِكَ مَشَقَّةٌ شَدِيدَةٌ كَمَا ذَكَره الْأَذْرَعِيُّ بِالنِّسْبَةِ لِلْحَصَادِ فَإِنْ قُلْتُمْ بِذَلِكَ فَمَا الْمُرَادُ بِالْمَشَقَّةِ فِي كَلَامه هَلْ هِيَ خَشْيَةُ مَحْذُورِ التَّيَمُّمِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ وَمَا هُوَ وَهَلْ يُشْتَرَطُ لِذَلِكَ خَبَرُ عَارِفٍ مِنْ نَفْسِهِ أَوْ غَيْرِهِ كَمَا فِي التَّيَمُّمِ فَإِنْ قِيلَ بِهِ فَهَلْ يَجْرِي فِي جَمِيعِ مُسَوِّغَاتِ الْفِطْرِ أَوْ يَخْتَصُّ بِبَعْضِهَا؟
(فَأَجَابَ) رضي الله عنه بِقَوْلِهِ الظَّاهِرُ أَنَّ وَلِيَّ الْأَمْرِ لَا يَلْزَمُهُ فِي الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ إرْسَالُ مَنْ يُحَقِّقُ الْخَبَرَ أَخْذًا مِنْ قَوْلِهِمْ إنَّ تَحْصِيلَ سَبَبِ الْوُجُوبِ لَا يَجِب وَهَذَا أَعْنِي الْإِرْسَالَ الْمَذْكُورَ تَحْصِيلٌ لِسَبَبِ الْوُجُوبِ وَهُوَ الْعِلْمُ بِدُخُولِ رَمَضَان الْمُوجِبُ لِلصَّوْمِ وَقَدْ صَرَّحُوا بِعَدَمِ وُجُوبِ تَحْصِيلِ سَبَبِ الْوُجُوب كَمَا عَلِمْت فَلَا يَجِب ذَلِكَ. عَلَى أَنَّ لَك أَنْ تَقُولَ هَذَا يُعْلَم عَدَمُ وُجُوبِهِ مِنْ ذَلِكَ بِالْأَوْلَى لِأَنَّهُمْ إنَّمَا نَفَوْا وُجُوبَ تَحْصِيلِ السَّبَبِ الْمُحَقَّقِ الَّذِي إذَا حَصَلَ لَزِمَهُ مِنْهُ الْوُجُوبُ كَالْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ بِالنِّسْبَةِ لِنَحْوِ الْمُتَمَتِّعِ الْمُعْسِر الْمُرِيدِ لِلصَّوْمِ وَفِي مَسْأَلَتِنَا السَّبَبُ لَيْسَ مُحَقَّقًا؛ لِأَنَّهُمْ شَاكُّونَ هَلْ صَامَ أَهْلُ بَلَدٍ مُتَّحِدٍ مَعَ بَلَدِهِمْ فِي الْمَطْلَعِ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ فِي بَلَدِهِمْ
فَيَلْزَمهُمْ الصَّوْمُ تَبَعًا لَهُمْ أَوْ لَيْسُوا بِصَائِمِينَ أَصْلًا أَوْ صَامُوا بِرُؤْيَةِ بَلَدٍ مُتَّحِدَةٍ مَعَهُمْ فِي الْمَطْلَعِ وَلَيْسَتْ مُتَّحِدَةً مَعَ الْبَلَدِ الْمُرْسَلِ مِنْهَا كَذَلِكَ فَلَيْسَ عَلَى ثِقَةٍ مِنْ أَنَّهُمْ إذَا أَرْسَلُوا إلَى تِلْكَ الْبَلَد يَلْزَمهُمْ الصَّوْمَ فَلَا يَجِبُ الْإِرْسَالُ هُنَا جَزْمًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسُوا سَبَبًا مُحَقِّقًا لِلْوُجُوبِ بِخِلَافِ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ فَإِنَّهُ سَبَبٌ مُحَقِّقٌ لِلْوُجُوبِ فَلِذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ تَحْصِيلِهِ.
وَالرَّاجِحُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ تَحْصِيلُهُ بِخِلَافِ الْإِرْسَالِ هُنَا فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ تَحْصِيلُهُ جَزْمًا لِمَا عَلِمْتَ سَوَاء أَقَرُبَتْ الْمَسَافَةُ أَمْ بَعُدَتْ نَعَمْ لَوْ قِيلَ يُنْدَبُ لَهُ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ بَعِيدًا لِأَنَّ فِيهِ احْتِيَاطًا لِلصَّوْمِ وَهُوَ إذَا لَمْ يَجِب يَكُونُ مَنْدُوبًا وَمِنْ ثَمَّ تَأَكَّدَ لِلْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ أَنْ يُقِيمَ مَنْ يَثِقُ بِهِ لِيَبْحَثَ عَنْ الْأَهِلَّةِ سِيَّمَا رَمَضَان وَشَوَّال وَذَا الْحِجَّة لِتَعَلُّقِهَا بِأُمُورٍ دِينِيَّةٍ يَعُمُّ الِاحْتِيَاجُ إلَيْهَا دُون غَيْرِهَا عَلَى أَنَّ تَرَائِي الْأَهِلَّةِ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ كَمَا قِيلَ فَعَلَيْهِ إذَا فُرِضَ أَنَّ النَّاسَ تَرَكُوهُ لَزِمَ الْإِمَامَ أَنْ يَحُثَّهُمْ عَلَى الْقِيَامِ بِهِ، وَقَوْلُ السَّائِل نَفَعَنِي اللَّهُ بِهِ وَهَلْ يَثْبُتُ رَمَضَانُ إلَخْ جَوَابَهُ أَنَّهُمْ صَرَّحُوا بِأَنَّ مَنْ أَخْبَرَهُ ثِقَةٌ بِرُؤْيَةِ هِلَالِهِ وَاعْتَقَدَ صِدْقَهُ لَزِمَهُ الصَّوْمُ وَبِهِ يُعْلَم كَمَا ذَكَرْته فِي حَاشِيَةِ الْعُبَابِ أَنَّ مَنْ تَوَاتَرَتْ عِنْده رُؤْيَتُهُ لَزِمَهُ الصَّوْمَ قِيَاسًا عَلَى ذَلِكَ بِالْأَوْلَى اهـ وَالِاسْتِفَاضَةُ كَالتَّوَاتُرِ بِخِلَافِ الْإِشَاعَةِ.
وَمِنْ ثَمَّ قَالَ أَصْحَابُنَا لَوْ شَاعَ بَيْنَ النَّاسِ أَنَّ الْهِلَالَ رُئِيَ وَلَمْ يَشْهَد بِالرُّؤْيَةِ أَحَدٌ كَانَ ذَلِكَ الْيَوْمُ يَوْمَ شَكٍّ حَتَّى يَحْرُمَ صَوْمُهُ وَلَا يُنَافِي مَا ذَكَرْته مِنْ أَنَّ الِاسْتِفَاضَةَ كَالتَّوَاتُرِ قَوْلُ السُّبْكِيّ لَمْ أَرَهُمْ ذَكَرُوا الشَّهَادَةَ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ بِالِاسْتِفَاضَةِ وَاَلَّذِي أَمِيلُ إلَيْهِ عَدَمُ جَوَازِ ذَلِكَ اهـ؛ لِأَنَّهُ يَنْبَغِي حَمْلُهُ عَلَى مَا إذَا لَمْ يَحْصُل لِمَنْ بَلَغَتْهُ اعْتِقَادُ صِدْقِ الْمُخْبِرِينَ أَمَّا إذَا اعْتَقَدَ صِدْقَهُمْ فَيَلْزَمهُ الصَّوْمُ كَمَنْ اعْتَقَدَ صِدْقَ ثِقَةٍ أَخْبَرَهُ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ التَّوَاتُرِ وَالِاسْتِفَاضَةِ وَالْإِشَاعَة يُعْلَمُ مِنْ تَعْرِيفَيْ الْمُتَوَاتِرِ وَالْمُسْتَفِيضِ فَالْمُتَوَاتِرُ مَعْنًى أَوْ لَفْظًا هُوَ خَبَرُ جَمْعٍ يَمْتَنِعُ عَادَةً تُوَافِقُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ عَنْ أَمْرٍ مَحْسُوسٍ لَا مَعْقُولٍ كَخَبَرِ الْفَلَاسِفَةِ بِقِدَمِ الْعَالَمِ فَإِنْ اتَّفَقَ الْجَمْعُ الْمَذْكُورُ لَفْظًا وَمَعْنًى فَلَفْظِيٌّ. وَإِنْ اخْتَلَفُوا فِيهِمَا مَعَ وُجُودِ مَعْنًى كُلِّيٍّ فَمَعْنَوِيٌّ كَخَبَرِ وَاحِدٍ عَنْ حَاتِم بِأَنَّهُ أَعْطَى دِينَارًا وَآخَرَ بِأَنَّهُ أَعْطَى فَرَسًا وَآخَرَ بِأَنَّهُ أَعْطَى بَعِيرًا وَهَكَذَا فَقَدْ اتَّفَقُوا عَلَى مَعْنًى كُلِّيٍّ وَهُوَ الْإِعْطَاءُ وَلَا يَكْفِي فِي عَدَدِ الْجَمْعِ الْمَذْكُورِ الْأَرْبَعَةُ لِاحْتِيَاجِهِمْ لِلتَّزْكِيَةِ فِيمَا لَوْ شَهِدُوا بِالزِّنَا بِخِلَافِ مَا لَوْ زَادُوا عَلَيْهَا فَإِنَّهُ يَصْلُحُ لِأَنَّهُ يَكْفِي فِي ذَلِكَ وَلَيْسَ لَهُ عَدَدٌ مُعَيَّنٌ وَمَنْ عَيَّنَ لَهُ عَدَدًا كَعَشْرَةٍ أَوْ اثْنَيْ عَشَرَ أَوْ عِشْرِينَ أَوْ أَرْبَعِينَ أَوْ سَبْعِينَ أَوْ ثَلَثمِائَةِ وَبِضْعَةَ عَشَرَ فَقَدْ تَحَكَّمَ وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِمْ إسْلَامٌ وَلَا عَدَالَةٌ وَلَا عَدَمُ احْتِوَاءِ بَلَدٍ عَلَيْهِمْ خِلَافًا لِمَنْ قَالَ بِذَلِكَ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ مَتَى حَصَلَ مِنْ خَبَرٍ بِمَضْمُونِهِ كَانَ عَلَامَةً عَلَى اجْتِمَاع شَرَائِطِ التَّوَاتُرِ فِيهِ وَهِيَ كَمَا عُلِمَ مِنْ تَعْرِيفِهِ كَوْنُهُ خَبَرُ جَمْعٍ وَكَوْنُهُمْ بِحَيْثُ يَمْتَنِعُ تُوَافِقُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ وَكَوْنُهُ عَنْ مَحْسُوسٍ ثُمَّ الْعِلْمُ الْحَاصِلُ بِالْمُتَوَاتِرِ ضَرُورِيّ بِمَعْنَى أَنَّهُ يَحْصُلُ مِنْ سَمَاعِهِ مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إلَى نَظَرٍ وَاسْتِدْلَالٍ وَتَوَقُّفُهُ عَلَى مُقَدِّمَاتٍ وَهِيَ الشُّرُوطُ الثَّلَاثَةُ السَّابِقَة لَا يُنَافِي كَوْنَهُ ضَرُورِيًّا وَيُقَابِلُ الْمُتَوَاتِرَ مَظْنُونُ الصِّدْقِ وَمِنْهُ خَبَرُ الْوَاحِدِ وَالْمُرَادُ بِهِ مَا لَمْ يَنْتَهِ إلَى الْمُتَوَاتِرِ سَوَاءً كَانَ رِوَايَةُ وَاحِدٍ أَوْ أَكْثَر أَفَادَ الْعِلْمَ بِالْقَرَائِنِ الْمُنْفَصِلَةِ عَنْهُ أَمْ لَا وَمِنْ خَبَرِ الْوَاحِدِ وَالْمُسْتَفِيضِ وَهُوَ الشَّائِعُ بَيْن النَّاسِ عَنْ أَصْلٍ بِخِلَافِ الشَّائِعِ لَا عَنْ أَصْلٍ وَقَدْ يُسَمَّى الْمُسْتَفِيضُ مَشْهُورًا فَهُمَا بِمَعْنَى وَقِيلَ الْمَشْهُورُ بِمَعْنَى الْمُتَوَاتِرِ وَقِيلَ قِسْمٌ ثَالِثٌ غَيْرُ الْمُتَوَاتِرِ وَالْآحَادِ وَعِنْد الْمُحْدِثِينَ هُوَ أَعَمُّ مِنْ الْمُتَوَاتِرِ وَأَقَلُّ عَدَدِ الْمُسْتَفِيضِ اثْنَانِ وَهُوَ قَوْلُ الْفُقَهَاءِ وَقِيلَ مَا زَادَ عَلَى ثَلَاثَةٍ وَهُوَ قَوْلُ الْأُصُولِيِّينَ وَقِيلَ ثَلَاثَةٌ وَهُوَ قَوْلُ الْمُحْدِثِينَ وَبِمَا تَقَرَّرَ عُرِفَ الْفَرْقُ بَيْنَ التَّوَاتُرِ وَالِاسْتِفَاضَةِ وَبَيْنَ خُصُوصِ الِاسْتِفَاضَةِ وَمُطْلَقِ الْإِشَاعَةِ فَالِاسْتِفَاضَةُ أَخَصُّ مِنْ الْإِشَاعَةِ.
وَمِنْ ثَمَّ قَالَ الْفُقَهَاءُ يُشْتَرَط فِي الِاسْتِفَاضَةِ أَنْ يَسْمَعَ الشَّاهِدُ مِنْ جَمْعٍ كَثِيرِينَ يَقَعُ فِي نَفْسِهِ صِدْقُهُمْ وَيُؤْمَنُ تُوَافِقُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ فَلَا يَكْفِي سَمَاعُهُ مِنْ عَدْلَيْنِ لَمْ يُشْهِدَاهُ عَلَى أَنْفُسِهِمَا وَلَا يُشْتَرَطُ عَدَالَتُهُمْ وَحُرِّيَّتُهُمْ وَذُكُورَتُهُمْ كَمَا لَا يُشْتَرَط فِي الْمُتَوَاتِرِ
اهـ، وَقَوْلُ السَّائِلِ وَلَوْ بَلَغَ الْخَبَرُ إلَخْ جَوَابُهُ أَنَّ الَّذِي يَتَّجِهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُمْ الْفِطْرُ الْمُتَوَقِّفُ عَلَيْهِ اسْتِنْقَاذُ الْمَالِ الْمُحْتَرَمِ إلَّا إنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِمْ حُصُولُ الِاسْتِنْقَاذ مِنْهُمْ لَوْ أَفْطَرُوا بَلْ عِبَارَةُ الْأَنْوَارِ تَقْتَضِي أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ التَّحَقُّقِ فَإِنَّهُ قَالَ لَوْ رَأَى حَيَوَانًا مُحْتَرَمًا أَشْرَفَ عَلَى الْهَلَاكِ وَاحْتَاجَ إلَى الْفِطْرِ لِتَخْلِيصِهِ وَجَبَ الْفِطْرُ وَالْفِدْيَةُ وَلَوْ رَأَى غَيْرَ الْحَيَوَانِ جَازَ لَهُ الْفِطْرُ وَيَكْفِي الْقَضَاءُ وَلَا فَدِيَةَ اهـ فَتَعْبِيره بِالرُّؤْيَةِ قَدْ يُفْهِمُ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي حِلِّ الْفِطْرِ أَوْ وُجُوبِهِ مِنْ تَحَقُّقِ الِاسْتِنْقَاذ لَكِنَّ الَّذِي يَتَّجِهُ أَنَّهُ يَكْفِي فِي ذَلِكَ الظَّنُّ وَأَنَّ تَعْبِيرَهُ بِالرُّؤْيَةِ إنَّمَا هُوَ لِلْغَالِبِ إذْ لَوْ أَخْبَرَهُ عَدْلٌ بِذَلِكَ وَجَبَ الْفِطْرُ أَوْ جَازَ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ وَإِنَّمَا لَمْ يَجُزْ الْفِطْرُ فِيمَا ذُكِرَ بِمُجَرَّدِ التَّوَهُّمِ أَوْ الشَّكِّ؛ لِأَنَّ صَوْمَ الْفَرْضِ الَّذِي تَلَبَّسُوا بِهِ مَانِعٌ مُحَقَّقٌ مِنْ الْإِفْطَارِ فَلَا يَجُوزُ الْخُرُوجُ مِنْهُ إلَّا إنْ تَحَقَّقَ الْمُقْتَضِي أَوْ ظُنَّ.
وَقَوْلُهُ وَهَلْ خَوْفُ الْمَشَقَّةِ إلَخْ جَوَابَهُ أَنَّ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ كَلَامُ الرَّوْضَةِ وَغَيْرِهَا أَنَّهُ لَا يَكْفِي خَوْفُ الْمَشَقَّةِ الْمَذْكُورَةِ حَتَّى يُخْشَى مِنْهَا مُبِيحُ تَيَمُّمٍ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ النَّوَوِيُّ مَنْ غَلَبَهُ الْجُوعُ أَوْ الْعَطَشُ فَخَافَ الْهَلَاكَ فَلَهُ الْفِطْرُ وَفِي التَّوَسُّطِ فِي قَوْلِ النَّوَوِيِّ ثُمَّ شَرْطُ كَوْنِ الْمَرَضِ مُبِيحًا أَنْ يُجْهِدهُ الصَّوْمُ مَعَهُ فَيَلْحَقهُ ضَرَرٌ يَشُقُّ احْتِمَالُهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ وُجُوهِ الْمَضَارِّ فِي التَّيَمُّمِ أَنَّ قَوْلَهُ فَيُلْحِقهُ بِالْفَاءِ أَحْسَنُ مِنْ قَوْلِ الرَّافِعِيِّ فِي الشَّرْحَيْنِ وَيُلْحِقهُ بِالْوَاوِ فَإِنَّهُ يُفْهِمُ اعْتِبَارَ الْأَمْرَيْنِ فِي إبَاحَةِ الْفِطْرِ وَالْمَدَار إنَّمَا هُوَ عَلَى الثَّانِي. وَمِنْ ثَمَّ اعْتَرَضَ الْإِسْنَوِيُّ أَيْضًا كَلَام الرَّافِعِيِّ بِأَنَّ قَضِيَّتَهُ أَنَّ الضَّرَرَ الْمَذْكُورَ لَا يُبِيحُ وَحْدُهُ بَلْ لَا بُدَّ مَعَهُ مِنْ كَوْنِ الصَّوْمِ يُجْهِدهُ فَلَوْ وُصِفَ لَهُ دَوَاءٌ إنْ لَمْ يُفْطِر بِهِ وَإِلَّا حَصَلَ لَهُ الضَّرَرُ لَمْ يَكُنْ لَهُ الْفِطْرُ وَكَذَلِكَ بِالْعَكْسِ وَهَذَا لَا يَتَأَتَّى الْقَوْلُ بِهِ وَقَدْ اُعْتُبِرَ فِي الْمُحَرَّرِ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ وَهُوَ الصَّوَابُ فَإِنْ قُلْت قَضِيَّةُ كَلَامِ الْإِسْنَوِيِّ هَذَا الِاكْتِفَاءُ بِغَلَبَةِ الْجُوعِ، وَإِنْ لَمْ يَخْشَ مِنْهُ مُبِيحَ تَيَمُّمٍ قُلْت قَضِيَّته بَلْ صَرِيحُهُ ذَلِكَ لَكِنَّهُ إمَّا ضَعِيفٌ أَوْ مُؤَوَّلٌ كَعِبَارَاتٍ لِبَعْضِ الْأَصْحَابِ تُوَافِقهُ وَمِنْ ثَمَّ قُلْت فِي حَاشِيَةِ الْعُبَابِ أَيْ بِأَنْ يَشُقَّ عَلَيْهِ الصَّوْمُ مَعَهُ أَوْ خَافَ بِسَبَبِهِ نَحْوَ: زِيَادَةِ مَرَضٍ أَوْ بُطْءِ بُرْءٍ أَوْ غَيْرِهِمَا مِمَّا يُبِيحُ التَّيَمُّمَ أَخْذًا مِنْ قَوْلِ الشَّيْخَيْنِ، وَحَكَاهُ فِي الْمَجْمُوعِ عَنْ الْأَصْحَابِ: أَنْ يُجْهِدهُ الصَّوْمُ مَعَهُ وَيَلْحَقهُ أَوْ فَيَلْحَقهُ ضَرَرٌ يَشُقُّ احْتِمَالُهُ عَلَى مَا ذَكَرنَا مِنْ وُجُوهِ الْمَضَارِّ فِي التَّيَمُّمِ.
وَعَلَى ذَلِكَ يُحْمَل قَوْلُهُمْ: الْمُبِيحُ: الضَّرَرُ الظَّاهِرُ، وَقَوْلُ الْإِمَامِ وَالْغَزَالِيِّ هُوَ مَا يَمْنَعُ التَّصَرُّفَ مَعَ الصَّوْمِ، وَقَوْلُ الْمُهَذَّبِ هُوَ خَوْفُ الزِّيَادَةِ بِالصَّوْمِ أَوْ رَجَاءُ الزَّوَالِ بِفَقْدِهِ، وَقَوْلُ التَّهْذِيبِ هُوَ أَنْ يُجْهِدهُ وَيَلْحَقهُ بِهِ ضَرَرٌ يَشُقُّ احْتِمَالُهُ، وَقَوْلُ غَيْرِهِ رَجَاءَ خِفَّةِ الْمَرَضِ بِالْفِطْرِ أَوْ وُقُوفِهِ وَمَا اقْتَضَاهُ كَلَامُ الْمُحَرَّرِ وَصَوَّبَهُ الْإِسْنَوِيُّ مِنْ أَنَّهُ مَتَى صَعُبَ عَلَيْهِ الصَّوْمُ بِهِ أَوْ نَالَهُ ضَرَرٌ شَدِيدٌ جَازَ لَهُ الْفِطْرُ وَمَا شَابَهَ ذَلِكَ مِنْ الْعِبَارَاتِ فَكُلُّهَا يَنْبَغِي حَمْلُهَا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهَا مُبِيحُ التَّيَمُّمِ اهـ مَا ذَكَرْته فِيهَا وَهُوَ مُتَعَيِّنٌ لَا مَحِيصَ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الْعُدُولَ عَنْ الْمَاءِ إذَا اشْتَرَطُوا فِيهِ ذَلِكَ مَعَ أَنَّهُ عُدُولٌ إلَى بَدَلٍ فَأَوْلَى أَنْ يَشْتَرِطَ ذَلِكَ فِي الْعُدُولِ عَنْ الصَّوْمِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ بَدَلٍ وَوُجُوبُ الْقَضَاءِ إنَّمَا هُوَ بِأَمْرِ جَدِيدٍ عَلَى أَنَّ الْمَشَقَّةَ الْمَذْكُورَةَ فِي السُّؤَالِ يُخْشَى مِنْهَا غَالِبًا مُبِيحُ تَيَمُّمٍ لِأَنَّهُ إذَا عِيلَ مَعَهَا الصَّبْرُ وَلَمْ تُطْفَأْ حَرَارَتُهَا إلَّا بِالْأَكْلِ أَوْ الشُّرْبِ يَتَوَلَّدُ عَنْهَا غَالِبًا مُبِيحُ تَيَمُّمٍ وَبِمَا قَرَّرْته فِي ضَبْطِ الْمَشَقَّةِ الشَّدِيدَةِ فِي كَلَامِهِمْ بِمَا يُخْشَى مِنْهُ مُبِيحُ التَّيَمُّمِ انْدَفَعَ اسْتِشْكَالُ الْعِزِّ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ فِي قَوَاعِدِهِ مِنْ الْمُشْكِلِ ضَبْطُ الْمَشَقَّةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلتَّخْفِيفِ كَالْمَرَضِ فِي الصَّوْمِ فَإِنَّهُ إنْ ضُبِطَ بِالْمَشَقَّةِ فَالْمَشَقَّةُ نَفْسُهَا غَيْرُ مَضْبُوطَةٍ، وَإِنْ ضُبِطَ بِمَا يُسَاوِي مَشَقَّةَ الْأَسْفَارِ فَذَلِكَ غَيْرُ مَحْدُودٍ وَكَذَلِكَ مَشَقَّةُ الْأَعْذَارِ الْمُبِيحَةِ لِكَشْفِ الْعَوْرَةِ، وَمَنْ ضَبَطَ ذَلِكَ بِأَقَلِّ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ كَأَهْلِ الظَّاهِرِ خَلَصَ مِنْ هَذَا الْإِشْكَالِ اهـ.
وَإِذَا انْضَبَطَتْ الْمَشَقَّةُ الشَّدِيدَةُ بِمَا قُلْنَاهُ أَخْذًا مِنْ كَلَامِهِمْ فِي التَّيَمُّمِ بِالْأَوْلَى كَمَا عَلِمْت زَالَ الْإِشْكَالُ وَبِذَلِكَ يَزُولُ أَيْضًا اسْتِشْكَالُ بَعْضِهِمْ لِلْمَشَقَّةِ الشَّدِيدَةِ الَّتِي ضَبَطُوا بِهَا جَوَازَ الْفِطْر لِلشَّيْخِ الْهَرِم وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهَا فِي حَقِّهِ كَمَا قَالَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِد
أَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُهُ الْإِمْسَاكُ عَنْ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ قَالَ؛ لِأَنَّهُ مَا مِنْ أَحَدٍ إلَّا وَيُمْكِنهُ هَذَا وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَنْ تَلْحَقَهُ الْمَشَقَّةُ الشَّدِيدَةُ اهـ. وَبِذَلِكَ أَيْضًا يَنْدَفِعُ قَوْلُ بَعْضِهِمْ إنَّمَا تُضْبَطُ الْمَشَقَّةُ فِي ذَلِكَ بِالْمَحْسُوسِ وَمَنْ تَوَقَّفَ حَصَادُهُ لِزَرْعِهِ وَنَحْوِهِ عَلَى فِطْرِهِ وَلَمْ يَتَيَسَّر لَهُ فِعْلُهُ لَيْلًا جَازَ لَهُ الْفِطْرُ كَمَا اقْتَضَاهُ كَلَامُهُمْ السَّابِقُ نَقْلُهُ عَنْ الْأَنْوَارِ فِي جَوَازِ الْفِطْرِ لِاسْتِنْقَاذِ الْمَالِ الْمُحْتَرَمِ إذَا تَوَقَّفَ عَلَى الْفِطْرِ مِنْ الصَّوْمِ وَالْمُرَادُ بِالتَّوَقُّفِ هُنَا أَنَّهُ مَتَى لَمْ يُفْطِر عَجَزَ عَنْ نَحْوِ حَصَادِهِ وَخَشِيَ عَلَيْهِ التَّلَفَ فَعُلِمَ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَط هُنَا خَشْيَةُ مُبِيحِ تَيَمُّمٍ دَائِمًا لِأَنَّهُ لَمْ يُفْطِر لِأَمْرِ قَامَ بِذَاتِهِ وَإِنَّمَا فِطْرُهُ لِاسْتِنْقَاذِ مَالٍ مُحْتَرَمٍ يَخْشَى عَلَيْهِ الضَّيَاعَ لَوْ لَمْ يُفْطِر بِصَوْمِهِ لَا يَلْحَقهُ بِهِ ضَرَرٌ مِنْ حَيْثُ الصَّوْمُ بَلْ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَضْطَرُّ إلَى الْعَمَلِ الْمَذْكُورِ وَلَوْ صَامَ مَعَهُ حَصَلَ لَهُ مُبِيحُ التَّيَمُّمِ مِنْ حَيْثُ انْضِمَامُ الْعَمَلِ إلَى الصَّوْمِ فَجَازَ لَهُ الْفِطْرُ لَا لِخَشْيَةِ الضَّرَرِ فَقَطْ بَلْ؛ لِأَنَّهُ لَوْ صَامَ وَلَمْ يَعْمَل فَاتَ الْمَالُ، وَإِنْ صَامَ وَعَمِلَ حَصَلَ لَهُ مُبِيحُ التَّيَمُّمِ.
وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ الزَّرْعِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ وَلَا بَيْنَ أَنْ يَعْمَلَ فِيهِ مُتَبَرِّعًا أَوْ بِأُجْرَةٍ أَخْذًا مِمَّا قَالُوهُ فِي الْمُرْضِعَةِ إذَا أَفْطَرَتْ خَوْفًا عَلَى نَفْسِهَا أَوْ الْوَلَدِ، وَإِذَا أَفْطَرَ لِأَجْلِ ذَلِكَ لَزِمَهُ الْقَضَاءُ وَلَا فَدِيَةَ عَلَيْهِ كَمَا عُلِمَ مِنْ عِبَارَةِ الْأَنْوَارِ السَّابِقَةِ وَحَيْثُ أُنِيطَ الْفِطْرُ بِمُبِيحِ التَّيَمُّمِ يَأْتِي فِيهِ مَا قَالُوهُ فِي التَّيَمُّمِ مِنْ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إخْبَارِ عَدْلٍ وَلَوْ عَدْلِ رِوَايَةِ عَارِفٍ بِالطِّبِّ إنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ عَارِفًا بِهِ وَإِلَّا لَمْ يَحْتَجْ لِإِخْبَارِ أَحَدٍ، وَمَعْرِفَتُهُ لِخَوْفِ الضَّرَرِ بِهِ بِالتَّجْرِبَةِ كَافِيَةٌ عَلَى الْمُعْتَمَدِ فِي التَّيَمُّم فَلْتَكْفِ هُنَا قِيَاسًا عَلَيْهِ وَبِمَا تَقَرَّرَ عُلِمَ أَنَّ ذَلِكَ يَجْرِي فِي مُسَوِّغَات الْفِطْرِ الَّتِي أَنَاطُوهَا بِمُبِيحِ التَّيَمُّمِ لَا فِي كُلِّ مُسَوِّغٍ لَهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَتَأَتَّى فِيهِ كَمَا هُوَ جَلِيٌّ وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.
(وَسُئِلَ) فَسَّحَ اللَّهُ فِي مُدَّتِهِ وَمَتَّعَ بِحَيَاتِهِ فِيمَنْ طَارَتْ ذُبَابَةٌ عَلَى أَنْفِهِ وَهُوَ صَائِمٌ حَتَّى بَلَغَتْ حَدَّ الْبَاطِنِ فَاسْتَنْثَرَهَا عَامِدًا عَالِمًا مُخْتَارًا حَتَّى خَرَجَتْ فَهَلْ يُفْطِرُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى التَّقَيُّؤ أَمْ لَا؛ لِأَنَّ النَّصَّ وَرَدَ فِي الْقَيْءِ، وَغَيْرُهُ لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ مَعَ أَنَّهُ وَقَعَ فِي ظَنِّي الْفِطْرُ مِمَّا دَخَلَ لَا مِمَّا خَرَجَ أَفْتَوْنَا أَثَابَكُمْ اللَّهُ الْجَنَّةَ بِفَضْلِهِ وَمَنِّهِ آمِينَ.
(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ الَّذِي يَتَّجِه عَدَمُ الْفِطْرِ أَخْذًا مِنْ قَوْلِ الْمَجْمُوعِ وَغَيْرِهِ لَوْ اقْتَلَعَ نُخَامَةً مِنْ بَاطِنِهِ وَلَفَظَهَا لَمْ يُفْطِر عَلَى الْمَذْهَبِ وَبِهِ قَطَعَ الْحَنَّاطِيُّ وَكَثِيرُونَ وَحَكَى الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ فِيهِ وَجْهَيْنِ أَصَحُّهُمَا لَا يُفْطِر؛ لِأَنَّهُ مِمَّا تَدْعُو الْحَاجَةُ إلَيْهَا وَالثَّانِي يُفْطِر كَالْقَيْءِ اهـ فَتَأَمَّلْ تَعْلِيلَهُ عَدَمَ الْفِطْرِ. الْأَصَحُّ بِأَنَّهُ مِمَّا تَدْعُو الْحَاجَةُ إلَيْهِ وَبِمُقَابَلَةِ الضَّعِيفِ بِالْقِيَاسِ عَلَى الْقَيْءِ نَجِدُ الذُّبَابَةَ يَجْرِي فِيهَا هَذَانِ الْوَجْهَانِ بِعِلَّتَيْهِمَا لِمَا هُوَ وَاضِحٌ أَنَّ إخْرَاجَهَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ إبْقَائِهَا فِي الْبَاطِنِ يُوَرِّثُ ضَرَرًا فِي الْغَالِبِ وَحِينَئِذٍ فَهُوَ أَوْلَى بِعَدَمِ الْإِفْطَارِ مِنْ النُّخَامَةِ؛ لِأَنَّ تَرْكَهَا لَيْسَ فِيهِ مِنْ الضَّرَرِ مَا فِي تَرْكِ الذُّبَابَةِ فَعُلِمَ أَنَّ الْوَجْهَ أَنَّ تَعَمُّدَ إخْرَاجِهَا لَا يُفْطِر وَيَدُلُّ لِذَلِكَ أَيْضًا قَوْلُ الْمَجْمُوعِ وَاسْتَدَلَّ أَصْحَابنَا أَيْ عَلَى الْفِطْرِ بِوُصُولِ عَيْنٍ إلَى الْحَلْقِ مَثَلًا وَإِنْ لَمْ تُؤْكَل عَادَةً بِمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ أَوْ صَحِيحٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّهُ قَالَ إنَّمَا الْوُضُوءُ مِمَّا يَخْرُجُ وَلَيْسَ مِمَّا يَدْخُلُ وَإِنَّمَا الْفِطْرُ مِمَّا دَخَلَ وَلَيْسَ مِمَّا خَرَجَ اهـ لَكِنْ لَيْسَ ذَلِكَ عَلَى إطْلَاقِهِ فِي قَوْلِهِ وَلَيْسَ مِمَّا خَرَجَ لِمَا ذَكَرُوا فِيمَنْ أَصْبَحَ وَقَدْ ابْتَلَعَ طَرْفَ خَيْطٍ لَيْلًا وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
(وَسُئِلَ) رضي الله عنه عَنْ مَسْأَلَةِ الذُّبَاب؟
(فَأَجَابَ) بِخِلَافِ مَا ذُكِرَ حَيْثُ قَالَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ عُمُومُ كَلَامِهِمْ فِي الْقَيْءِ أَنَّهُ يُفْطِر بِتَعَمُّدِ إخْرَاجِهَا بَعْد وُصُولِهَا لِلْجَوْفِ، وَإِنْ احْتَاجَ إلَيْهِ وَيُؤَيِّدهُ قَوْلُهُمْ لَوْ أَكَلَ لِغَلَبَةِ الْجُوعِ وَخَشْيَةِ الْهَلَاكِ مِنْهُ أَوْ تَنَاوَلَ مُفْطِرًا لِمَرَضٍ لَا يُطِيقُ مَعَهُ الصَّوْمَ لِخَشْيَتِهِ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ أَفْطَرَ وَقَدْ تَرَدَّدَ الزَّرْكَشِيُّ وَغَيْرُهُ فِيمَا لَوْ تَعَارَضَ وَاجِبَانِ: الْإِمْسَاك وَالْقَيْء فِي حَقِّ مَنْ شَرِبَ خَمْرًا لَيْلًا وَاَلَّذِي رَجَّحْته فِي شَرْحِ الْعُبَابِ أَنَّهُ يَلْزَمهُ رِعَايَةُ وَاجِبِ الْإِمْسَاك فَلَا يَتَقَيَّأُ وَإِلَّا أَفْطَرَ؛ لِأَنَّ وَاجِبَ الْإِمْسَاكِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَوَاجِبُ التَّقَيُّؤِ عَلَى شَارِبِ الْخَمْرِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ وَقَاعِدَة تَعَارُضِ الْوَاجِبِينَ أَنَّهُ يُقَدَّم أَقْوَاهُمَا وَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ وَاجِبَ الْإِمْسَاكِ هُنَا أَقْوَى فَمِنْ ثَمَّ أَفْطَرَ بِالتَّقَيُّؤِ فَإِذَا أَفْطَرَ بِهِ حِينَئِذٍ مَعَ وُجُوبِهِ فِي الْجُمْلَةِ فَأَوْلَى إخْرَاج الذُّبَابَةِ لِعَدَمِ
وُجُوبِهِ لِذَاتِهِ مُطْلَقًا وَلَا يُنَافِي جَمِيعَ مَا تَقَرَّرَ عَدَمُ الْإِفْطَارِ بِاقْتِلَاعِ النُّخَامَةِ وَلَوْ مِنْ الصَّدْرِ لِلْحَاجَةِ إلَى ذَلِكَ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْحَاجَةَ لِذَلِكَ عَامَّةٌ لِكُلِّ أَحَدٍ وَغَالِبَةٌ إذْ لَا يَخْلُو أَحَدٌ مِنْ الِاحْتِيَاجِ إلَى مَجِّهَا فِي صَوْمِهِ لِئَلَّا تَضُرَّ بِهِ فَلِذَلِكَ عَفَا عَنْهَا لِعُمُومِ وُقُوعِهَا وَغَلَبَته وَلَمْ يَلْحَق بِهَا مَسْأَلَةُ الذُّبَابَةِ؛ لِأَنَّهَا نَادِرَةٌ جِدًّا وَغَيْرُ عَامَّةٍ فَأَفْطَرَ إخْرَاجهَا.
عَلَى أَنَّهُمْ صَرَّحُوا بِأَنَّ الْقِيَاسَ فِي النُّخَامَةِ الْفِطْرُ وَمِنْ الْقَوَاعِدِ أَنَّ مَا خَرَجَ عَنْ الْقِيَاسِ لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ فَاتَّضَحَ مَا ذَكَرْته مِنْ الْإِفْطَار بِإِخْرَاجِ الذُّبَابَةِ مِنْ الْجَوْفِ، وَإِنْ احْتَاجَ لِذَلِكَ فَإِنْ عَلِمَ مِنْ بَقَائِهَا ضَرَرًا أَخْرَجَهَا، وَإِنْ أَفْطَرَ بِذَلِكَ كَمَا فِي مَرِيضٍ يَضُرّهُ الصَّوْمُ وَقَدْ كَانَ سَبَقَ مِنِّي إفْتَاءٌ بِأَنَّ إخْرَاجَهَا غَيْرُ مُفْطِرٍ وَالْأَوْجَهُ مَا ذَكَرْته الْآن وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
(وَسُئِلَ) نَفَعَ اللَّهُ بِعُلُومِهِ عَنْ غُبَارِ السِّرْجِين إذَا دَخَلَ فِي أَنْفِ الصَّائِمِ أَوْ فَمِهِ هَلْ يُفْطِر بِبَلْعِ رِيقِهِ أَوْ بِوُصُولِ الْغُبَارِ مَاءً هَلْ يَبْطُلُ الْعَفْوُ وَتَجِبُ إزَالَتُهُ وَمَا الْحُكْم لَوْ انْتَقَلَ الْمَعْفُوُّ عَنْهُ فِي الْفَمِ إلَى يَدِهِ أَوْ نَحْوِهِ.
(فَأَجَابَ) رضي الله عنه بِأَنَّ الَّذِي يَتَّجِهُ أَنَّهُ لَا يُفْطِر بِبَلْعِ رِيقِهِ الْمُخْتَلِطُ بِالْغُبَارِ النَّجِسِ وَأَنَّهُ لَوْ وَصَلَ الْغُبَارُ الْمَذْكُورُ مَاءً لَمْ يُنَجِّس وَمِمَّا يُصَرِّحُ بِذَلِكَ مَا فِي الْمَجْمُوعِ وَغَيْرِهِ مِنْ أَنَّهُ لَوْ أَصَابَ عُضْوَهُ الْمُبْتَلَّ غُبَارٌ نَجِسٌ لَا يَنْجُسُ قَالَ الرَّافِعِيُّ وَمِثْلُ الْعُضْوِ فِي ذَلِكَ الْمَاءُ وَالثِّيَابُ وَنَقَلَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ عَنْ الْأَصْحَابِ لَكِنْ قَيَّدَهُ الْأَذْرَعِيُّ وَالزَّرْكَشِيُّ بِمَا إذَا لَمْ يَكْثُر ذَلِكَ بِحَيْثُ يُجْمَع مِنْهُ فِي دَفَعَاتٍ مَاءٌ نَجِسٌ اهـ فَعُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّ الْغُبَارَ لَا يَنْجُس مَا وَصَلَ إلَيْهِ مِنْ الرِّيقِ أَوْ غَيْرِهِ، وَإِذَا لَمْ يَنْجُس بِهِ الرِّيقُ فَلَا فِطْرَ بِابْتِلَاعِهِ؛ لِأَنَّهُ بَاقٍ عَلَى طَهَارَتِهِ بِخِلَافِ مَا لَوْ تَنَجَّسَ فَمُهُ ثُمَّ صَفَّا رِيقَهُ فَإِنَّهُ يُفْطِر بِابْتِلَاعِهِ، وَإِنْ قُلْنَا بِالْعَفْوِ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ مُتَنَجِّسٌ وَابْتِلَاع الْمُتَنَجِّسِ يُفْطِر، وَإِنْ قِيلَ بِالْعَفْوِ عَنْهُ كَمَا اقْتَضَاهُ إطْلَاقُهُمْ، وَإِذَا انْتَقَلَ الْمَعْفُوُّ عَنْهُ مِنْ بَعْض بَدَنِهِ إلَى بَعْضِهِ الْآخَرِ فَإِنْ كَانَ نَحْوَ دَمٍ أَوْ قَيْحٍ عُفِيَ عَنْ قَلِيلِ الْمُنْتَقِلِ فَقَطْ أَخْذًا مِمَّا قَالَهُ الْأَذْرَعِيُّ مِنْ أَنَّ قَوْلَهُمْ يُعْفَى عَنْ قَلِيلِ الْأَجْنَبِيِّ مِنْ نَحْوِ الدَّمِ وَالْقَيْحِ مِنْ غَيْرِ مُغَلَّظٍ شَامِلٌ لِمَا انْفَصَلَ مِنْ بَدَنِهِ ثُمَّ أَصَابَهُ أَيْ فَيُعْفَى عَنْ الَّذِي أَصَابَهُ إنْ كَانَ قَلِيلًا؛ لِأَنَّهُ بِانْفِصَالِهِ عَنْ بَدَنِهِ صَارَ أَجْنَبِيًّا فَعَوْدُهُ إلَى الْبَدَنِ لَا يُلْحِقُهُ بِمَا لَمْ يَنْفَصِل عَنْهُ حَتَّى يُعْفَى عَنْ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ إنْ كَانَ دَمٌ نَحْوُ فَصْدٍ مِنْ نَفْسِهِ أَوْ كَانَ نَحْوُ دُمَّلٍ أَوْ قَيْحِهِ.
وَمَا فِي التَّحْقِيقِ وَالْمَجْمُوعِ تَبَعًا لِلْجُمْهُورِ مِنْ أَنَّ الثَّانِيَ كَدَمِ الْأَجْنَبِيِّ فَلَا يُعْفَى إلَّا عَنْ قَلِيلِهِ يَنْبَغِي حَمْلُهُ كَمَا ذَكَرْته فِي شَرْح الْإِرْشَادِ وَغَيْرِهِ عَلَى مَا إذَا جَاوَزَ مَحِلَّ نَحْوِ الْفَصْدِ وَهُوَ الْمَنْسُوب إلَيْهِ عَادَةً بِأَنْ يَنْدُرَ عِنْد أَهْلِهَا تَلَوُّثُ ذَلِكَ الْمَحِلِّ بِهِ، وَحَمْلُ بَعْضِهِمْ لَهُ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ رَدَدْته ثَمَّ، وَإِنْ كَانَ أَثَرُ اسْتِنْجَاءٍ عُفِيَ عَنْهُ إنْ لَمْ يَلْقَ رَطْبًا آخَرَ مِنْ مَاءٍ أَوْ غَيْرِهِ كَمَا بَحَثَهُ الْجَلَالُ الْبُلْقِينِيُّ فَيُعْفَى عَنْهُ لِعُسْرِ تَجَنُّبِهِ وَمَحِلُّ ذَلِكَ إذَا لَمْ يُجَاوِز الصَّفْحَةَ أَوْ الْحَشَفَةَ أَمَّا إذَا جَاوَزَ أَحَدَهُمَا فَلَا يُعْفَى عَنْ الْمُجَاوِزِ لِنُدْرَتِهِ قَالَ الزَّرْكَشِيُّ وَغَيْرُهُ وَلَوْ تَلَوَّثَتْ نَعْلُهُ بِطِينِ الشَّارِعِ الْمُتَيَقَّنِ نَجَاسَتُهُ ثُمَّ عَرَقَتْ وَسَالَ الْعَرَقُ مِنْهَا عُفِيَ عَنْهُ أَيْضًا اهـ وَعَلَيْهِ فَيَنْبَغِي أَخْذًا مِنْ الْعِلَّةِ السَّابِقَةِ قَرِيبًا أَنَّهُ يَضُرُّ سَيَلَانه بِمَحِلٍّ يَنْدُر السَّيَلَانُ إلَيْهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ مَحِلَّ الْعَفْوِ فِي الدَّمِ قَالَ الزَّرْكَشِيُّ وَمِثْلُهُ طِينُ الشَّارِعِ بِالنِّسْبَةِ لِلصَّلَاةِ فَلَوْ وَقَعَ الثَّوْبُ الَّذِي بِهِ نَحْوُ دَمٍ فِي مَاءٍ قَلِيل تَنَجَّسَ كَمَا قَالَهُ الْمُتَوَلِّي قَالَ وَالْعَفْو جَارٍ وَلَوْ كَانَ الْبَدَنُ رَطْبًا وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ جَافًّا فَلَوْ لَبِسَ الثَّوْبَ وَبَدَنُهُ رَطْبٌ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ إلَى تَلَوُّثِ بَدَنِهِ وَبِهِ جَزَمَ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيّ تَفَقُّهًا.
وَمِنْ عِلَّتِهِ يُؤْخَذُ أَنَّهُ لَا أَثَرَ لِلرُّطُوبَةِ الْحَاصِلَةِ مِنْ نَحْوِ مَاءِ الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ وَحَلْقِ الرَّأْسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ لِمَشَقَّةِ الِاحْتِرَازِ كَمَا لَوْ كَانَتْ بِالْعَرَقِ وَلَا نَظَرَ لِقَوْلِ ابْن الْعِمَادِ يُمْكِنُ تَنْشِيفُ الْبَدَنِ قَبْلَ لُبْسِ الثَّوْبِ وَلَا يُمْكِنُ دَفْعُ الْعَرَقِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَعْسُرُ وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
(وَسُئِلَ) رضي الله عنه مَا الْحِكْمَةُ فِي كَرَاهَةِ إفْرَادِ صَوْمِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَالسَّبْتِ وَالْأَحَدِ وَفِي قِيَامِ لَيْلَةِ الْجُمُعَةِ وَفِي تَحْرِيمِ صَوْمِ أَيَّامِ الْعِيدَيْنِ وَالتَّشْرِيقِ.
(فَأَجَابَ) رضي الله عنه بِقَوْلِهِ يُكْرَه إفْرَادُ صَوْمِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ لِلْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم -
«لَا يَصُمْ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إلَّا أَنْ يَصُومَ قَبْلَهُ أَوْ يَصُومَ بَعْدَهُ» وَفِي رِوَايَةٍ «يَوْمُ الْجُمُعَةِ يَوْمُ عِيدٍ فَلَا تَجْعَلُوا يَوْمَ عِيدِكُمْ يَوْمَ صِيَامِكُمْ إلَّا أَنْ تَصُومُوا قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ» وَهَذِهِ، وَإِنْ كَانَ فِي سَنَدِهَا مَجْهُولٌ لَكِنْ لَهَا شَاهِدٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَاسْتُفِيدَ مِنْ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي كَرَاهَةُ صَوْمِهِ لِكُلِّ أَحَدٍ سَوَاء أَكَانَ صَوْمُهُ يُضْعِفُهُ عَنْ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ أَمْ لَا وَهُوَ الْأَصَحّ وَقِيلَ إنَّمَا يُكْرَه لِمَنْ أَضْعَفَهُ وَانْتَصَرَ لَهُ الْأَذْرَعِيُّ وَغَيْرُهُ وَنَقَلُوهُ عَنْ النَّصِّ وَقِيلَ لَا يُكْرَه وَقِيلَ يَحْرُمُ وَمِمَّا يَدُلُّ لِلْأَصَحِّ الْأَحَادِيثُ الْكَثِيرَةُ الصَّحِيحَةُ الْمُطْلَقَةُ كَحَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ مِنْ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَى جُوَيْرِيَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَهِيَ صَائِمَةٌ فَقَالَ صُمْتِ أَمْسِ فَقَالَتْ لَا قَالَ تُرِيدِينَ أَنْ تَصُومِي غَدًا قَالَتْ لَا قَالَ فَأَفْطِرِي» .
وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ عَلِمَ مِنْ حَالِهَا الضَّعْفَ فَنَهَاهَا عَنْ الْإِفْرَادِ. فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ هَذِهِ وَاقِعَةُ حَالٍ قَوْلِيَّة يَعُمّهَا الِاحْتِمَالُ فَيُفِيدُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ مَنْ يُضْعِفُهُ الصَّوْمُ وَغَيْرُهُ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا جُمُعَةَ عَلَيْهَا فَلَيْسَ الْإِضْعَافُ فِي حَقِّهَا مَقْصُودًا أَصْلًا فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَا نَظَرَ إلَيْهِ فِي الْكَرَاهَةِ وَاسْتُفِيدَ مِنْ الْحَدِيثِ الثَّانِي أَعْنِي قَوْلَهُ «فَلَا تَجْعَلُوا يَوْمَ عِيدِكُمْ يَوْمَ صِيَامِكُمْ» أَنَّ عِلَّةَ الْكَرَاهَةِ أَنَّهُ يَوْمُ عِيدٍ وَطَعَامٍ فَأَشْبَهَ صَوْمَ الْعِيدَيْنِ فِي مُطْلَقِ النَّهْيِ، وَإِنْ افْتَرَقَا فِي أَنَّ النَّهْيَ فِيهِمَا لِلتَّحْرِيمِ وَهُنَا لِلتَّنْزِيهِ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ عِيدًا حَقِيقَةً وَكَوْنُ الْعِلَّةِ ذَلِكَ هُوَ مَا ذَكَره الْحَلِيمِيّ وَأَشَارَ إلَيْهِ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَقِيلَ الْعِلَّةُ أَنْ لَا يُبَالَغَ فِي تَعْظِيمِهِ كَالْيَهُودِ فِي السَّبْتِ وَقِيلَ لِئَلَّا يُعْتَقَدَ وُجُوبُهُ وَقَالَ النَّوَوِيُّ الصَّحِيحُ أَنَّ عِلَّةَ الْكَرَاهَةِ أَنَّهُ يَضْعُفُ عَنْ الْقِيَامِ بِالْوَظَائِفِ الدِّينِيَّةِ الْمَشْرُوعَةِ فِيهِ أَيْ مِنْ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَسَوَابِقهَا وَلَوَاحِقهَا وَمِنْ الِاجْتِهَادِ فِي الدُّعَاءِ يَوْمَهُ لِيُصَادِفَ سَاعَةَ الْإِجَابَةِ فِيهِ.
وَمُرَادُهُ أَنَّ الصَّوْمَ مَظِنَّةٌ لِلْإِضْعَافِ عَنْ ذَلِكَ فَلَا يُنَافِي مَا مَرَّ أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي الْكَرَاهَةِ بَيْنَ مَنْ يُضْعِفَهُ وَغَيْرِهِ نَظِيرَ صَوْمِ عَرَفَة لِلْحَاجِّ وَمَحِلُّ الْكَرَاهَةِ حَيْثُ لَمْ يَصُمْ قَبْلَهُ يَوْمًا أَوْ بَعْدَهُ يَوْمًا لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ وَلِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَقْصِد إضْعَافَ نَفْسِهِ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ عَنْ مَقَاصِدِ الْجُمُعَةِ وَإِنَّمَا قَصَدَ الصَّوْمَ لَا غَيْرَ وَمَحِلُّهَا أَيْضًا فِي غَيْرِ الْفَرْضِ فَصَوْمُهُ عَنْ الْفَرْض لَا كَرَاهَةَ فِيهِ كَمَا قَالَهُ الْإِسْنَوِيُّ وَغَيْرُهُ وَمَحِلُّهَا أَيْضًا حَيْثُ لَمْ يُوَافِق عَادَةً لَهُ فَمَنْ عَادَتُهُ صَوْمُ يَوْمٍ وَفِطْرُ يَوْمٍ إذَا جَاءَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ قَبْلَهُ فِطْرٌ وَبَعْدَهُ فِطْرٌ لَا كَرَاهَةَ فِي صَوْمِهِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ حِينَئِذٍ خِلَافًا لِابْنِ عَبْدِ السَّلَام لِخَبَرِ مُسْلِمٍ «وَلَا تَخُصُّوا يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِصِيَامٍ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي صَوْمٍ يَصُومهُ أَحَدُكُمْ» وَقِيَاسًا عَلَى مَا قَالُوهُ فِي صِيَامِ يَوْمِ الشَّكِّ بَلْ؛ لِأَنَّ الْكَرَاهَةَ ثَمَّ لِلتَّحْرِيمِ وَهُنَا لِلتَّنْزِيهِ فَإِذَا مَنَعَ ذَلِكَ الِاعْتِيَادُ الْحُرْمَةَ فَلَأَنْ يَمْنَعَ الْكَرَاهَةَ أَوْلَى.
وَنَازَعَ الْأَذْرَعِيُّ وَغَيْرُهُ فِي انْعِقَادِ صَوْمِهِ حَيْثُ كُرِهَ بِأَنَّ قِيَاسَ الصَّلَاةِ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ يَقْتَضِي عَدَمَ الِانْعِقَادِ هُنَا كَمَا هُنَاكَ وَيُرَدُّ بِأَنَّ الْكَرَاهَةَ ثَمَّ ذَاتِيَّةٌ وَهِيَ يَسْتَحِيلُ مَعَهَا الِانْعِقَادُ وَإِنَّ قُلْنَا أَنَّ الْكَرَاهَةَ لِلتَّنْزِيهِ كَمَا بَيَّنْته فِي شَرْحِ الْعُبَابِ، وَأَمَّا هُنَا فَلَيْسَتْ كَذَلِكَ بَلْ لِأَمْرٍ خَارِجٍ عَنْ ذَاتِ الصَّوْمِ وَهُوَ مَا مَرَّ عَلَى الْخِلَافِ فِيهِ فَانْعَقَدَ صَوْمه بَلْ وَيَنْعَقِدُ نَذْرُ صَوْمِهِ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ فِي بَابِ النَّذْرِ فَالتَّوَقُّفِ فِيهِ غَفْلَةٌ عَنْ كَلَامِهِمْ ثَمَّ، وَفِي الْأُمِّ وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَصُومَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَوَافَقَ يَوْمَ فِطْرٍ أَفْطَرَ وَقَضَى قَالَ الْأَذْرَعِيُّ وَهُوَ مُشْكِلٌ عَلَى إطْلَاقِ الْجُمْهُورِ كَرَاهَةُ إفْرَادِهِ بِالصَّوْمِ إذْ لَوْ كَرِهَهُ لَمَا حَكَمَ بِانْعِقَادِ نَذْرِهِ فِيمَا يَظْهَر اهـ وَيُرَدُّ بِأَنَّ الْكَرَاهَةَ الْمُنَافِيَةَ لِلِانْعِقَادِ هِيَ الْكَرَاهَةُ الذَّاتِيَّةَ، وَأَمَّا الْكَرَاهَةُ الْعَرْضِيَّةُ فِيمَا هُوَ مَطْلُوبٌ لِذَاتِهِ فَلَا تُنَافِي انْعِقَادَ النَّذْرِ.
قَالَ النَّوَوِيّ فِي تَعْلِيقِهِ عَلَى التَّنْبِيهِ وَلَوْ أَرَادَ اعْتِكَافَ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَحْدَهُ وَلَمْ يَصُمْ قَبْلَهُ وَلَا عَزَمَ عَلَى الصَّوْمِ بَعْدَهُ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَال يُكْرَه لَهُ صَوْمُهُ لِلْإِفْرَادِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَال يُسْتَحَبُّ لِأَجْلِ الِاعْتِكَافِ وَلِيَصِحَّ اعْتِكَافُهُ بِالْإِجْمَاعِ فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رحمه الله شَرَطَ فِيهِ الصَّوْمَ اهـ قَالَ الْأَذْرَعِيُّ وَقَدْ يُقَالُ يُكْرَه تَخْصِيصُهُ بِالِاعْتِكَافِ كَالصَّوْمِ وَقِيَامِ لَيْلَتِهِ اهـ وَفِيهِ نَظَرٌ وَالْوَجْهُ عَدَمُ كَرَاهَةِ اعْتِكَافه؛ لِأَنَّهُ لَا إضْعَافَ فِيهِ أَلْبَتَّةَ بِخِلَافِ صَوْمِهِ وَقِيَامِ لَيْلَتِهِ وَاَلَّذِي يَتَّجِهُ تَرْجِيحُهُ مِنْ احْتِمَالَيْ النَّوَوِيِّ أَوَّلُهُمَا وَمَا عَلَّلَ بِهِ الِاحْتِمَالَ الثَّانِيَ لَا يَقْتَضِي مَنْعَ الْكَرَاهَةِ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ.
وَيُكْرَهُ أَيْضًا
إفْرَادُ يَوْمِ السَّبْتِ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «لَا تَصُومُوا يَوْمَ السَّبْتِ إلَّا فِيمَا اُفْتُرِضَ عَلَيْكُمْ» رَوَاهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ وَأَحْمَدُ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ قَالَ أَعْنِي التِّرْمِذِيَّ. وَمَعْنَى النَّهْيِ أَنْ يَخْتَصَّهُ الرَّجُلُ بِالصِّيَامِ؛ لِأَنَّ الْيَهُودَ يُعَظِّمُونَهُ، وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي دَاوُد إنَّ الْحَدِيثَ مَنْسُوخٌ وَمَالِكٍ رضي الله عنه إنَّهُ كِذْبٌ فَمَرْدُودٌ وَمِنْ ثَمَّ قَالَ النَّوَوِيُّ لَيْسَ كَمَا قَالَا وَقَدْ صَحَّحَهُ الْأَئِمَّةُ قَالَ الْحَاكِمُ هُوَ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ
وَالصَّوَابُ عَلَى الْجُمْلَةِ كَرَاهَةُ إفْرَادِهِ إذَا لَمْ يُوَافِق عَادَةً لَهُ اهـ وَاعْتَرَضَهُ الْأَذْرَعِيُّ وَغَيْرُهُ بِمَا فِيهِ نَظَرٌ بَلْ مَا صَوَّبَهُ ظَاهِرٌ، وَإِنْ جَلَّتْ مَرْتَبَةُ مَالِكٍ فَضْلًا عَنْ أَبِي دَاوُد وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ أَكْثَرُ مَا يَصُومُ مِنْ الْأَيَّامِ يَوْمَ السَّبْتِ وَالْأَحَدِ وَكَانَ يَقُولُ إنَّهُمَا يَوْمَا عِيدٍ لِلْمُشْرِكِينَ فَأُحِبُّ أَنْ أُخَالِفَهُمْ» ؛ لِأَنَّ صَوْمَهُمَا لَا إفْرَادَ فِيهِ فَلَا مُشَابَهَةَ فِيهِ لِفِعْلِ الْكُفَّارِ إذْ تَعْظِيمهمَا مَعًا لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ مِنْهُمْ فَانْدَفَعَ اسْتِدْلَالُ الْأَذْرَعِيِّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَا يُكْرَه إفْرَادُ أَحَدِهِمَا بِالصَّوْمِ قَالَ الْحَلِيمِيُّ فِي مِنْهَاجِهِ وَكَانَ الْمَعْنَى فِي كَرَاهَةِ يَوْمِ السَّبْتِ أَنَّ الصَّوْمَ إمْسَاكٌ وَتَخْصِيصَهُ بِالْإِمْسَاكِ عَنْ الْأَشْغَالِ مَنْ عَوَائِد الْيَهُودِ. وَتَبِعَهُ تِلْمِيذُهُ الْإِمَامُ الْبَيْهَقِيّ فَقَالَ كَانَ هَذَا النَّهْيُ إنْ صَحَّ أَيْ وَقَدْ صَحَّ كَمَا مَرَّ إنَّمَا هُوَ لِإِفْرَادِهِ بِالصَّوْمِ تَعْظِيمًا لَهُ فَيَكُونُ فِيهِ تَشْبِيهٌ بِالْيَهُودِ وَقَضِيَّةُ هَذَا الْمَعْنَى كَمَا قَالَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ كَرَاهَةُ إفْرَادِ الْأَحَدِ أَيْضًا لِأَنَّ النَّصَارَى تُعَظِّمُهُ فَفِي إفْرَادِهِ تَشَبُّهٌ بِهِمْ وَبِهِ صَرَّحَ ابْنُ يُونُسَ فِي شَرْحِ التَّنْبِيهِ وَصَاحِبُ الشَّامِلِ الصَّغِيرِ وَجَزَمَ بِهِ الْبُلْقِينِيُّ وَغَيْرُهُ وَمَرَّ أَنَّهُمَا لَا يُكْرَهُ صَوْمُهُمَا مَعًا لِأَنَّ الْمَجْمُوعَ لَمْ يُعَظِّمهُ أَحَدٌ مِنْ بَقِيَّةِ الْمِلَلِ وَحَمَلَ عَلَيْهِ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ خَبَرَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ أَكْثَرَ مَا يَصُومُ مِنْ الْأَيَّامِ يَوْمَ السَّبْتِ وَالْأَحَدِ وَكَانَ يَقُولُ إنَّهُمَا يَوْمَا عِيدٍ لِلْمُشْرِكِينَ وَأُحِبُّ أَنْ أُخَالِفهُمْ وَكَذَلِكَ خَبَر التِّرْمِذِيِّ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَلَّ مَا كَانَ يُفْطِرُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ مَحْمُولٌ كَمَا قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَصِلَهُ بِيَوْمِ الْخَمِيسِ.
وَذَكَر الرُّويَانِيُّ فِي الْبَحْرِ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ إفْرَادُ عِيدٍ مِنْ أَعْيَادِ أَهْلِ الْمِلَلِ بِالصَّوْمِ كَفَصْحِ النَّصَارَى وَفَطِيرِ الْيَهُودِ وَيَوْمِ النَّيْرُوزِ وَالْمِهْرَجَان اهـ وَفِيهِ نَظَرٌ بَلْ قِيَاسٌ مَا مَرَّ فِي صَوْمِ السَّبْت وَالْأَحَد الْكَرَاهَة؛ لِأَنَّ فِي صَوْمِهَا تَعْظِيمًا لَهَا وَيُؤَيِّدهُ قَوْلُ ابْنِ الْعَرَبِيِّ الْمَالِكِيِّ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ وَإِنَّمَا كُرِهَ إفْرَادُ الْجُمُعَةِ بِالصَّوْمِ؛ لِأَنَّهُ عِيدُنَا أَهْلُ الْإِسْلَامِ وَأَهْلُ الْكِتَابِ يَصُومُونَ فِي عِيدِهِمْ فَكُرِهَ التَّشَبُّهُ بِهِمْ وَقَالَ الْأَذْرَعِيُّ إنْ صَحَّ مَا ذَكَره عَنْهُمْ أَيْ مِنْ أَنَّهُمْ يَصُومُونَ يَوْمَ عِيدِهِمْ فَالْوَجْهُ كَرَاهَةُ إفْرَادِ أَيَّامِ أَعْيَادِهِمْ بِالصَّوْمِ عَكْسُ مَا قَالَهُ صَاحِبُ الْبَحْرِ لِمَا فِيهِ مَنْ مُوَافَقَتِهِمْ اهـ وَفِيهِ نَظَرٌ بَلْ الْأَوْجُه كَرَاهَةُ صَوْمِهَا، وَإِنْ كَانُوا لَا يَصُومُونَهَا أَلَا تَرَى إلَى كَرَاهَةِ إفْرَادِ السَّبْتِ مَعَ أَنَّهُمْ لَا يَصُومُونَهُ وَكَذَا الْأَحَدِ لِمَا مَرَّ عَنْ الْحَلِيمِيِّ أَنَّ الصَّوْمَ إمْسَاكٌ وَتَخْصِيصَهُ بِالْإِمْسَاكِ عَنْ الْأَشْغَالِ مِنْ عَوَائِدِ الْيَهُودِ وَكَذَا فِي بَقِيَّةِ أَعْيَادِهِمْ فَقَالَ بِالْكَرَاهَةِ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ إمْسَاكٌ وَتَخْصِيصُ هَذِهِ الْأَيَّامِ بِالْإِمْسَاكِ عَنْ الْأَشْغَالِ مَنْ عَوَائِدِ الْكَفَرَةِ فَكُرِهَ التَّشَبُّه بِهِمْ فِي ذَلِكَ سَوَاءً كَانُوا يَصُومُونَهَا أَمْ لَا.
وَيُكْرَهُ إدَامَةُ قِيَامِ كُلِّ اللَّيْلِ كَمَا صُرِّحَ بِهِ فِي الرَّوْضَةِ وَغَيْرِهَا تَبَعًا لِلْمُهَذَّبِ لِنَهْيِهِ صلى الله عليه وسلم عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما عَنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَضُرُّ بِالْعَيْنِ وَسَائِرِ الْبَدَنِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ وَفَرَّقَ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَدَمِ كَرَاهَةِ صِيَامِ الدَّهْرِ بِأَنَّ ذَاكَ مُضِرٌّ دُون هَذَا وَبِأَنَّ مَنْ صَامَ الدَّهْرَ يُمْكِنهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ بِاللَّيْلِ مَا فَاتَهُ مِنْ أَكْلِ النَّهَارِ وَمُصَلِّي اللَّيْلِ لَا يُمْكِنهُ نَوْمُ النَّهَارِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَفْوِيتِ مَصَالِحِ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ اهـ وَنَازَعَهُ الْأَذْرَعِيُّ فِي هَذَا الْفَرْقِ بِمَا فِيهِ نَظَرٌ وَدَعْوَاهُ أَنَّهُ يَنْبَغِي اسْتِوَاؤُهُمَا يَرُدّهُمَا تَصْرِيحُ الْحَدِيثِ بِأَنَّ قِيَامَ كُلِّ اللَّيْلِ مُضِرٌّ وَلَمْ يُصَرِّح بِنَظِيرِهِ فِي صَوْمِ الدَّهْرِ وَحِكْمَتُهُ مَا مَرَّ وَأَنَّ مَنْ قَامَ كُلَّ اللَّيْلِ لَا يَحْتَاجُ لِنَوْمِ غَالِبِ النَّهَارِ بَلْ يَكْفِيه سَاعَةٌ مِنْهُ يَرُدّهَا أَنَّ الْحِسَّ بِخِلَافِهَا وَأَنَّ مَنْ قَامَهُ كُلَّهُ كَمَنْ هَجَعَ مِنْهُ هَجْعَةً فَلَا يُكْرَهُ لِلْأَوَّلِ قِيَامُهُ كَالثَّانِي يَرُدّهَا الْحِسّ أَيْضًا إذْ نَوْمُ بَعْضِهِ، وَإِنْ قَلَّ يُزِيلُ ضَرَرَهُ بِخِلَافِ سَهَرِ كُلِّهِ وَالْكَلَامُ فِي الْقَوِيِّ الْقَادِرِ الْفَارِغِ عَنْ الشَّوَاغِلِ الْمُتَلَذِّذ بِمُنَاجَاةِ
الْحَبِيبِ الْمُنْعِمِ بِهَا ثُمَّ اُسْتُحْسِنَ قَوْلُ صَاحِبِ الِانْتِصَارِ يُكْرَه قِيَامُ اللَّيْلِ كُلِّهِ لِمَنْ يُضْعِفُهُ ذَلِكَ عَنْ الْفَرَائِضِ، وَقَوْلُ الْمُحِبِّ الطَّبَرِيِّ قِيَامُ كُلِّهِ فِعْلُ جَمَاعَةٍ مِنْ السَّلَفِ وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى الرِّفْقِ بِالْأُمَّةِ وَإِنَّمَا يُقَال ذَلِكَ فِيمَنْ يَجِد بِهِ مَشَقَّةً يَخْشَى مِنْهَا مَحْذُورًا وَإِلَّا فَيُسْتَحَبُّ لَهُ لَا سِيَّمَا بِمُنَاجَاةِ رَبِّهِ وَمَنْ يَشُقُّ عَلَيْهِ وَلَمْ يَخَفْ ضَرَرًا لَمْ يُكْرَه لَهُ وَرِفْقه بِنَفْسِهِ أَوْلَى اهـ.
وَالْمُعْتَمَدُ إطْلَاقُ الْكَرَاهَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ شَأْنِهِ أَنَّهُ يَضُرُّ فَلَا فَرْقَ بَيْن مَنْ يَجِد مِنْهُ ضَرَرًا أَوْ لَا؛ لِأَنَّ مَنْ لَمْ يَجِد مِنْهُ لَا بُدَّ أَنْ يَجِدَهُ وَلَوْ بَعْد مُدَّةٍ فَكَانَ الْمُعْتَمَدُ مَا أَطْلَقَهُ النَّوَوِيُّ وَصَاحِبُ الْمُهَذَّبِ وَقَالَ السَّيِّدُ السَّمْهُودِيُّ كَلَامُ شَرْحِ الْمُهَذَّبِ ظَاهِرُهُ التَّقْيِيدُ بِالْإِضْرَارِ وَجَمِيعُ مَا ذُكِرَ يَحْرُم لَهُ فَهُوَ الْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ اهـ فَإِنْ أَرَادَ الْإِضْرَارَ بِالْفِعْلِ فَلَا نُسَلِّم أَنَّ كَلَامَ شَرْحِ الْمُهَذَّبِ ظَاهِرٌ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ أَرَادَ مَظِنَّةَ الْإِضْرَارِ فَهُوَ مَا قُلْنَاهُ وَكَلَامُ شَرْحِ الْمُهَذَّبِ وَالرَّوْضَةِ وَالْمِنْهَاجِ دَالٌ عَلَيْهِ قَالَ فِي الْمُهِمَّاتِ وَهُوَ الْأَصَحُّ وَالتَّقْيِيدُ بِقِيَامِ اللَّيْلِ كُلِّهِ ظَاهِرُهُ انْتِفَاءُ الْكَرَاهَةِ لِتَرْكِ مَا بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ وَفِيهِ نَظَرٌ وَالتَّوَجُّهُ إسْقَاطُ التَّقْيِيدِ وَتَكُونُ الْكَرَاهَةُ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْمِقْدَارِ الَّذِي يَضُرُّ سَوَاءً كَانَ هُوَ الْجَمِيعُ أَمْ لَا وَكَلَامُ شَرْحِ الْمُهَذَّبِ يَقْتَضِيه وَذَكَرَ الطَّبَرِيُّ قَرِيبًا مِنْهُ وَسَاقَ مَا مَرَّ عَنْهُ وَاعْتَرَضَ بِأَنَّ مَا بَيْنَ الْعِشَاءَيْنِ لَيْسَ مِنْ وَقْتِ النَّوْمِ الْمُعْتَادِ وَأَيْضًا فَعِلَّةُ الْكَرَاهَةِ مَا يَنْشَأُ مِنْ الضَّرَرِ بِتَرْكِ النَّوْمِ فَإِنْ لَمْ يَقُمْ بَيْنهمَا وَلَمْ يَنَمْ فَالْعِلَّةُ مَوْجُودَةٌ لِخُلُوِّ كُلَّ اللَّيْلِ عَنْ النَّوْمِ الَّذِي هُوَ مَظِنَّةُ الضَّرَرِ، وَإِنْ نَامَ فَقَدْ ارْتَكَبَ كَرَاهَةَ النَّوْمِ قَبْلَ الْعِشَاءِ وَهِيَ أَشَدُّ اهـ.
وَاحْتَرَزُوا بِقَوْلِهِمْ دَائِمًا عَنْ إحْيَاءِ بَعْضِ اللَّيَالِي فَإِنَّهُ لَا يُكْرَه؛ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُحْيِي لَيَالِي الْعَشْرِ الْأَخِيرِ مِنْ رَمَضَانَ وَيُسَنُّ إحْيَاءُ لَيْلَتَيْ الْعِيدِ بِاتِّفَاقِ أَصْحَابِنَا وَيُكْرَهُ أَيْضًا تَخْصِيصُ لَيْلَةِ الْجُمُعَةِ بِالْقِيَامِ أَيْ الصَّلَاة سَوَاءٌ لَيْلَةُ الرَّغَائِبِ وَغَيْرِهَا لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «لَا تَخُصُّوا لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ بِقِيَامٍ مِنْ بَيْنِ اللَّيَالِي» رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَأَمَّا مَا فِي الْإِحْيَاءِ مِنْ اسْتِحْبَابِ إحْيَائِهَا فَمَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا قَامَ اللَّيْلَةَ الَّتِي قَبْلَهَا أَوْ اللَّيْلَةَ الَّتِي بَعْدَهَا كَمَا قَالُوا فِي صَوْمِ يَوْمِهَا كَذَلِكَ وَمِنْهُ يُؤْخَذُ أَنَّ عِلَّةَ الْكَرَاهَةَ هُنَا أَنَّ قِيَامَهَا يُؤَدِّي إلَى الْإِضْعَافِ فِي يَوْمِهَا عَنْ الْوَظَائِفِ الدِّينِيَّةِ الْمَطْلُوبَةِ فِيهِ فَكَانَ كَصِيَامِ يَوْمِهَا وَمِنْ ثَمَّ لَا يُكْرَهُ قِيَامُ لَيْلَةٍ غَيْرَهَا عَلَى مَا اقْتَضَاهُ تَقْيِيدهمْ الْكَرَاهَةِ بِلَيْلَتِهَا وَبِذَلِكَ جَزَمَ بَعْضُ شُرَّاحِ الْمِنْهَاجِ وَلِلْأَذْرَعِيِّ احْتِمَالٌ بِالْكَرَاهَةِ؛ لِأَنَّهُ بِدْعَةٌ وَمَال إلَيْهِ الْغَزِّيُّ فَقَالَ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ إذَا نَهَى عَنْ هَذِهِ اللَّيْلَةِ فَغَيْرُهَا بِالْمَنْعِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ التَّخْصِيصَ بِدْعَةٌ اهـ.
وَقَدْ عَلِمْت مِمَّا قَدَّمْته فِي سَبَبِ الْكَرَاهَةِ أَنَّ غَيْرَهَا لَيْسَ مُسَاوِيًا لَهَا فِي ذَلِكَ فَضْلًا عَنْ كَوْنِهِ أَوْلَى، وَأَمَّا كَوْنُ تَخْصِيصِ غَيْرِهَا بِالْقِيَامِ بِدْعَةٌ فَلَا شَكَّ فِيهِ لَكِنْ يَبْقَى النَّظَرُ فِي أَنَّ هَذِهِ بِدْعَةٌ مَكْرُوهَةٌ أَوْ مُبَاحَةٌ وَلَا دَلِيلَ عَلَى الْكَرَاهَةِ لِمَا عَلِمْت مِنْ مَنْعِ الْقِيَاسِ عَلَى لَيْلَةِ الْجُمُعَةِ وَيَحْرُمُ صَوْمُ الْعِيدَيْنِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ وَحِكْمَةُ ذَلِكَ مَا فِيهِ مِنْ الْإِعْرَاضِ عَنْ ضِيَافَةِ اللَّهِ تَعَالَى لِعِبَادِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ اهـ كَلَامُهُ.
(وَسُئِلَ) فَسَّحَ اللَّهُ فِي مُدَّتِهِ عَنْ فَقِيهٍ يُحَدِّثُ أَنَّ صَوْمَ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ مُسْتَحَبٌّ وَأَنَّ صَوْمَ رَجَب مُسْتَحَبٌّ وَصَوْمَ بَاقِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ أَيْضًا مُسْتَحَبٌّ وَأَنَّهُ الْمَشْهُورُ فِي الْكُتُبِ فَحَدَّثَ فَقِيهٌ آخَرُ أَنَّ صَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ وَرَجَب غَيْرُ مُسْتَحَبٍّ وَنَهَى النَّاسَ عَنْ صَوْمِهِ فَمِنْ النَّاسِ مَنْ تَرَكَ الصَّوْمَ لِأَجْلِ نَهْيِهِ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَصُومُ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيس مِنْ رَجَب وَالنَّاهِي عَنْ الصَّوْمِ مُسْتَدِلٌّ بِمَا ذَكَره الْحَلِيمِيُّ فِي مِنْهَاجِهِ مِنْ الصَّوْمِ الْمَكْرُوهِ اعْتِيَادُ يَوْمٍ بِعَيْنِهِ كَالِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ وَذَكَر عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ صَوْمِهَا فَقَالَ أَكْرَه أَنْ نُوَقِّت عَلَيْك يَوْمًا تَصُومهُ وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ لَا تَجْعَل عَلَيْك يَوْمًا حَتْمًا وَعَنْ أَنَسٍ إيَّاكَ أَنْ تَكُونَ اثْنَيْنِيًّا أَوْ خَمِيسِيًّا أَوْ رَجَبِيًّا قَالَ وَكَانَ مُجَاهِدٌ يَصُومُهُمَا ثُمَّ تَرَكَهُ وَوَجْهُ الْكَرَاهَةِ أَنَّ تَخْصِيصَ يَوْمٍ أَوْ شَهْرٍ بِالصَّوْمِ دَائِمًا تَشْبِيهٌ بِرَمَضَانَ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُشَبَّهُ بِهِ مَا لَمْ يُشَبِّهُ اللَّهُ بِهِ اهـ قَالَ الْأَذْرَعِيُّ فِي التَّوَسُّطِ وَمَا قَالَهُ الْحَلِيمِيُّ غَرِيبٌ اهـ فَمَا الصَّحِيحُ عِنْدكُمْ بَيِّنُوهُ لَنَا وَاضِحًا وَابْسِطُوا لَنَا الْجَوَابَ عَنْ ذَلِكَ فَالْحَاجَةُ دَاعِيَةٌ إلَى ذَلِكَ.
(فَأَجَابَ) رضي الله عنه -
بِأَنَّ الصَّوَابَ مَعَ الْقَائِلِ بِاسْتِحْبَابِ صَوْم يَوْمِ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ وَرَجَب وَبَاقِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ وَمَنْ قَالَ إنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُسْتَحَبٍّ وَنَهَى النَّاسَ عَنْ صَوْمِهِ فَهُوَ مُخْطِئٌ بَلْ وَآثِمٌ؛ لِأَنَّ غَايَةَ أَمْرِهِ أَنَّهُ عَامِّيٌّ وَالْعَامِّيُّ لَا يَجُوزُ لَهُ تَقْلِيدُ الْأَقْوَالِ الضَّعِيفَةِ وَالْأَخْذُ بِقَضِيَّتِهَا وَقَدْ اتَّفَقَ أَئِمَّتُنَا عَلَى ضَعْفِ مَقَالَةِ الْحَلِيمِيِّ الْمَذْكُورَة فِي السُّؤَالِ بَلْ عَلَى غَرَابَتِهَا وَشُذُوذِهَا وَأَنَّهَا مُنَابِذَةٌ لِلسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ كَمَا يُعْلَمُ مِنْ بَسْطِ أَحْوَالِهِ صلى الله عليه وسلم فِي صِيَامِهِ وَخُلَاصَته أَنَّ صِيَامَهُ صلى الله عليه وسلم فِي السَّنَةِ وَالشَّهْرِ عَلَى أَنْوَاعٍ وَلَمْ يَكُنْ صلى الله عليه وسلم يَصُومُ الدَّهْرَ وَلَا يَقُومُ اللَّيْلَ كُلَّهُ، وَإِنْ كَانَ لَهُ قُدْرَةٌ عَلَى ذَلِكَ لِئَلَّا يُقْتَدَى بِهِ فَيَشُقُّ عَلَى أُمَّتِهِ وَإِنَّمَا كَانَ يَسْلُكُ الْوَسَطَ وَيَصُومُ حَتَّى يُظَنَّ أَنَّهُ لَا يُفْطِرُ وَيُفْطِرُ حَتَّى يُظَنَّ أَنَّهُ لَا يَصُومُ وَيَقُومُ حَتَّى يُظَنَّ أَنَّهُ لَا يَنَامُ وَيَنَامُ حَتَّى يُظَنَّ أَنَّهُ لَا يَقُومُ.
النَّوْعُ الْأَوَّلُ أَنَّهُ «صلى الله عليه وسلم كَانَ يَصُومُ عَاشُورَاءَ» وَهُوَ عَاشِرُ الْمُحَرَّمِ وَفِي قَوْلٍ ضَعِيفٍ أَنَّهُ تَاسِعُهُ وَكَانَ صِيَامُهُ لَهُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ:
أَوَّلُهَا أَنَّهُ كَانَ يَصُومهَا بِمَكَّةَ وَلَا يَأْمُرُ النَّاسَ بِصِيَامِهِ وَدَلِيلُهُ حَدِيثُ الشَّيْخَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَنْ عَائِشَةَ «كَانَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ تَصُومُهُ قُرَيْشٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَصُومُهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَيْ قَبْلَ نُزُولِ الْوَحْيِ مُوَافَقَةً لَهُمْ فَلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ صَامَهُ وَأَمَرَ النَّاسَ بِصِيَامِهِ فَلَمَّا فُرِضَ رَمَضَانُ تَرَكَ عَاشُورَاءَ» أَيْ وُجُوبَهُ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ كَانَ وَاجِبًا أَوْ تَأَكَّدَ طَلَبُهُ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ لَمْ يَزَلْ سُنَّةً وَيُؤَيِّدهُ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ لَا يَصُومهُ إلَّا أَنْ يُوَافِقَ صَوْمَهُ وَيُسْتَفَادُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْيِين وَقْت الْأَمْرِ بِصَوْمِهِ وَهُوَ أَوَّلُ قُدُومِ الْمَدِينَةِ وَكَانَ فِي رَبِيعِ الْأَوَّلِ فَيَكُونُ الْأَمْرُ بِهِ فِي أَوَّلِ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ الْهِجْرَةِ وَفِيهَا فُرِضَ رَمَضَانُ فَلَمْ يَقَع الْأَمْرُ بِهِ إلَّا فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ بَعْدَ فَرْضِ رَمَضَان فُرِضَ صَوْمُهُ لَهُ أَيْ التَّطَوُّع فَعَلَى تَقْدِيرِ أَنَّهُ كَانَ وَاجِبًا يَكُونُ نُسِخَ بِذَلِكَ.
ثَانِيهَا أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَرَأَى صَوْمَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَتَعْظِيمِهِمْ لَهُ وَكَانَ يُحِبُّ مُوَافَقَتَهُمْ فِيمَا لَمْ يَنْهَ عَنْهُ صَامَهُ وَأَمَرَ النَّاسَ بِصِيَامِهِ وَأَكَّدَ الْأَمْرَ بِصِيَامِهِ وَالْحَثَّ عَلَيْهِ حَتَّى كَانُوا يُصَوِّمُونَهُ أَطْفَالَهُمْ وَصِيَامُهُ صلى الله عليه وسلم لَهُ بِالْمَدِينَةِ فَلَمْ يَكُنْ اعْتِمَادًا عَلَى مُجَرَّدِ أَخْبَارِ آحَادِهِمْ بَلْ كَانَ بِوَحْيٍ أَوْ تَوَاتُرٍ أَوْ اجْتِهَادٍ وَقِيلَ اسْتِئْلَافًا لَهُمْ لَا اقْتِدَاءً بِهِمْ فَإِنَّهُ كَانَ يَصُومُهُ قَبْلَ ذَلِكَ ثُمَّ لَمَّا زَالَ الِاسْتِئْلَافُ بِفَتْحِ مَكَّةَ أَحَبَّ مُخَالَفَتَهُمْ فَقَالَ «لَئِنْ بَقَيْتُ إلَى قَابِلٍ لَأَصُومَنَّ التَّاسِعَ فَلَمْ يَأْتِ الْعَامُ الْقَابِلُ حَتَّى تُوُفِّيَ صلى الله عليه وسلم» .
ثَالِثُهَا أَنَّهُ لَمَّا فُرِضَ رَمَضَانُ تَرَكَ صِيَامَ عَاشُورَاء وَقَالَ «إنَّهُ يَوْمٌ مِنْ أَيَّامِ اللَّهِ فَمَنْ شَاءَ صَامَهُ وَمَنْ شَاءَ تَرَكَهُ» رَابِعُهَا أَنَّهُ عَزَمَ فِي آخِرِ عُمَرِهِ عَلَى ضَمِّ التَّاسِعِ إلَيْهِ مُخَالَفَةً لِأَهْلِ الْكِتَابِ فِي صِيَامِهِ كَمَا مَرَّ فَمَرَاتِبُ صَوْمِهِ ثَلَاثَةٌ أَدْنَاهَا صَوْمُهُ وَحْدَهُ ثُمَّ مَعَ التَّاسِعِ ثُمَّ مَعَهُ وَمَعَ الْحَادِيَ عَشَرَ فَهَذَا أَكْمَلُهَا وَصَحَّ أَنَّ صَوْمَ عَاشُورَاءَ يُكَفِّرُ سَنَةً وَصَوْمَ عَرَفَةَ يُكَفِّرُ سَنَتَيْنِ فَصَوْمُهُ أَفْضَلُ مِنْ صَوْمِ عَاشُورَاءَ؛ لِأَنَّهُ يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ عِنْد جَمَاعَةٍ وَلِأَنَّهُ أَفْضَلُ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ وَسَيَأْتِي أَنَّ الْعَمَلَ فِيهَا أَفْضَلُ مِنْهُ فِي سَائِرِ السَّنَةِ وَقِيلَ إنَّهُ مَنْسُوبٌ لِنَبِيِّنَا وَعَاشُورَاء مَنْسُوبٌ لِمُوسَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ - وَوَرَدَ مِنْ طُرُقٍ صَحَّحَ بَعْضَهَا بَعْضُ الْحُفَّاظِ خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ أَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ «مَنْ وَسَّعَ عَلَى عِيَالِهِ يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ السَّنَةَ كُلَّهَا» .
النَّوْعُ الثَّانِي أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ. رَوَى الشَّيْخَانِ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَصُمْ شَهْرًا أَكْثَرَ مِنْ شَعْبَان فَإِنَّهُ كَانَ يَصُومُهُ كُلَّهُ» وَفِي رِوَايَاتٍ «كَانَ يَصُومهُ إلَّا قَلِيلًا» وَبِهَا يُعْلَمُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْكُلِّ الْأَكْثَرُ أَوْ كَانَ مَرَّةً يَصُومهُ جَمِيعَهُ وَمَرَّةً يَصُومُ مُعْظَمَهُ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ وُجُوبُهُ وَحِكْمَةُ إكْثَارِ الصَّوْمِ فِيهِ مَعَ نَصِّهِ عَلَى أَنَّ أَفْضَلَ الصِّيَامِ مَا يَقَعُ فِي الْمُحَرَّم فَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ «أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ صَوْمُ الْمُحَرَّمِ» أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ لَمْ يَعْلَم ذَلِكَ إلَّا آخِرَ عُمْرِهِ فَلَمْ يَتَمَكَّن مِنْ كَثْرَةِ الصَّوْمِ فِي الْمُحَرَّمِ أَوْ اتَّفَقَ لَهُ مِنْ الْأَعْذَارِ كَالسَّفَرِ مَا مَنَعَهُ مِنْ كَثْرَةِ الصَّوْمِ فِيهِ أَوْ كَانَ يَشْتَغِلُ عَنْ صَوْمِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي مِنْ كُلِّ شَهْرٍ فَيَقْضِيهَا فِي شَعْبَانَ كَمَا وَرَدَ مِنْ طَرِيقٍ ضَعِيفٍ بَلْ فِيهَا ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَقَدْ رُمِيَ بِوَضْعِ الْحَدِيث أَوْ لِيُعَظِّمَ رَمَضَان كَمَا فِي
حَدِيثٍ ضَعِيفٍ أَيْضًا أَوْ لِأَنَّهُ يُغْفَلُ كَمَا فِي حَدِيثٍ صَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ عَنْ أُسَامَةَ قُلْت «يَا رَسُولَ اللَّهِ لَمْ أَرَك تَصُومُ شَهْرًا مِنْ الشُّهُورِ مَا تَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ قَالَ ذَلِكَ شَهْرٌ تَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ فَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الْأَعْمَالُ إلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ» فَأَشَارَ صلى الله عليه وسلم إلَى أَنَّهُ لَمَّا اكْتَنَفَهُ شَهْرَانِ عَظِيمَانِ الشَّهْرُ الْحَرَامُ وَرَمَضَان اشْتَغَلَ النَّاسُ بِهِمَا فَغَفَلُوا عَنْهُ وَلِذَا ذَهَبَ كَثِيرُونَ إلَى أَنَّ صَوْمَ رَجَب أَفْضَلُ مِنْهُ.
وَمِنْ فَوَائِدِ إحْيَاءِ الْوَقْتِ الْمَغْفُولِ عَنْهُ بِالطَّاعَةِ أَنَّهَا فِيهِ إخْفَاءٌ وَإِخْفَاؤُهَا سِيَّمَا بِالصَّوْمِ الَّذِي هُوَ سِرٌّ بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ أَوْلَى وَأَنَّهَا فِيهِ أَشَقُّ لِتَأَسِّي النُّفُوسِ بِمَا تُشَاهِدُ مِنْ أَحْوَالِ أَمْثَالِهَا وَلِهَذَا سَهُلَتْ الطَّاعَاتُ عِنْد مَزِيدِ يَقَظَةِ النَّاسِ وَشَقَّتْ عِنْد بُعْدِ ذَلِكَ أَوْ؛ لِأَنَّهُ تُنْسَخُ فِيهِ الْآجَالُ كَمَا فِي حَدِيثٍ ضَعِيفٍ عَنْ عَائِشَةَ قُلْت «يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ أَكْثَرَ صِيَامِك فِي شَعْبَانَ قَالَ إنَّ هَذَا الشَّهْرَ يُكْتَبُ فِيهِ لِمَلَكِ الْمَوْتِ مَنْ يُقْبَضُ فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ لَا يُنْسَخَ اسْمِي إلَّا وَأَنَا صَائِمٌ» وَلِأَنَّهُ يَتَمَرَّنُ بِصَوْمِهِ عَلَى صَوْمِ رَمَضَانَ فَلَا يَأْتِي إلَّا وَقَدْ اعْتَادَ الصَّوْمَ وَسَهُلَ عَلَيْهِ فَلَا يَأْتِي رَمَضَانُ إلَّا وَهُوَ فِي غَايَةٍ مِنْ النَّشَاطِ.
وَأَمَّا شَهْرُ رَجَب فَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَئِمَّتُنَا أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ سَائِرِ الشُّهُورِ لَكِنَّهَا مَقَالَةٌ ضَعِيفَةٌ بَلْ لَمْ يَصِحَّ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم صَامَهُ بَلْ رَوَى ابْنُ مَاجَهْ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ صِيَامِهِ لَكِنَّ الصَّحِيحَ وَقْفُهُ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَحِينَئِذٍ فَلَا شَاهِدَ فِي ذَلِكَ لِكَرَاهَةِ صَوْمِ رَجَب خِلَافًا لِمَا وَرَدَ عَلَيْهِ بَلْ رَوَى أَبُو دَاوُد أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم نَدَبَ الصَّوْمَ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ وَرَجَبُ أَحَدهَا وَرَوَى أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ عَنْ عُرْوَةَ أَنَّهُ قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ «هَلْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَصُومُ فِي رَجَبٍ قَالَ نَعَمْ وَيُشَرِّفُهُ قَالَهَا ثَلَاثًا» وَقَدْ قَالَ أَبُو قِلَابَةَ إنَّ فِي الْجَنَّةِ قَصْرًا لِصُوَّامِ رَجَبٍ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ أَبُو قِلَابَةَ مِنْ كِبَار التَّابِعِينَ لَا يَقُولُهُ إلَّا عَنْ بَلَاغٍ فَثَبَتَ نَدْبُ صَوْمِهِ وَأَنَّهُ لَيْسَ مَكْرُوهًا وَأَنَّ الْقَوْلَ بِالْكَرَاهَةِ فَاسِدٌ بَلْ غَلَطٌ بَلْ قَدْ عَلِمْت فَضْلَ صَوْمِ شَعْبَانَ وَمَعَ ذَلِكَ صَوْمُ رَجَب أَفْضَلُ مِنْهُ إذْ الْمُعْتَمَدُ أَنَّ أَفْضَلَ الشُّهُورِ بَعْدَ رَمَضَان الْمُحَرَّم ثُمَّ بَقِيَّةُ الْحُرُمِ ثُمَّ شَعْبَان.
النَّوْعُ الثَّالِثُ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَصُومُ عَشَرَ ذِي الْحِجَّةِ التِّسْعُ الْأَوَّلُ مِنْهَا» رَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ بَعْضِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ يَصُومُهَا وَعَنْ عَائِشَةَ عَنْ مُسْلِمٍ مَا رَأَيْته صلى الله عليه وسلم صَائِمًا قَطُّ نَفْيٌ وَغَيْرُهُ إثْبَاتٌ فَقُدِّمَ عَلَيْهِ لِأَنَّهَا نَفَتْ رُؤْيَةَ نَفْسِهَا وَرَوَى الْبُخَارِيُّ «مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَفْضَلُ مِنْهُ فِي هَذِهِ يَعْنِي الْعَشْرَ الْأُولَى مِنْ ذِي الْحِجَّةِ» وَفِي رِوَايَةٍ «مَا مِنْ عَمَلٍ أَزْكَى عِنْد اللَّهِ وَلَا أَعْظَمَ أَجْرًا مِنْ خَيْرٍ يَعْمَلُهُ فِي عَشْرِ الْأَضْحَى» قِيلَ وَمِنْهُ يُؤْخَذ أَنَّ هَذَا الْعَشْرُ أَفْضَلُ مِنْ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ قَالَ بَعْضهمْ وَهُوَ كَذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ لِأَيَّامِهِ لِأَنَّ فِيهَا يَوْمَ عَرَفَة الَّذِي لَمْ يُرَ الشَّيْطَانُ أَحْقَرَ وَلَا أَذَلَّ وَلَا أَغْيَظَ مِنْهُ فِيهِ يُكَفَّرُ سَنَتَيْنِ وَفِيهَا يَوْمُ النَّحْرِ وَهُوَ أَعْظَمُ الْأَيَّام حُرْمَةً عِنْد اللَّهِ سَمَّاهُ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلَّيَالِيِ فَلَيَالِي عَشْرِ رَمَضَانَ الْأَخِيرِ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّ فِيهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ وَفَضْلُهَا مَعْلُومٌ مَشْهُورٌ وَدَلِيلُ هَذَا التَّفْصِيلِ تَعْبِيرُ الْخَبَرِ بِأَيَّامٍ دُون مَا مِنْ عَشْرٍ وَنَحْوِهِ.
النَّوْعُ الرَّابِعُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَصُومُ فِي بَعْضِ أَيَّامِ الْأُسْبُوعِ وَالْأَيَّامَ الْبِيضَ وَالْحَاصِلُ أَنَّ صِيَامَهُ صلى الله عليه وسلم فِي الشَّهْرِ عَلَى أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا أَنَّهُ كَانَ يَصُومُ أَوَّلَ اثْنَيْنِ ثُمَّ الْخَمِيس ثُمَّ الْخَمِيس الَّذِي بَيْنه رَوَاهُ الْعَسَّالُ. ثَانِيهَا أَنَّهُ كَانَ يَصُومُ مِنْ الشَّهْرِ السَّبْتَ وَالْأَحَدَ وَالِاثْنَيْنِ وَمِنْ الشَّهْرِ الْآخَرِ الثُّلَاثَاءَ وَالْأَرْبِعَاءَ وَالْخَمِيسَ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَفِيهِ «أُنْزِلَ عَلَيَّ» رِوَايَةُ مُسْلِمٍ وَقَالَ «تُعْرَضُ الْأَعْمَالُ عَلَى اللَّهِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ فَأُحِبُّ أَنْ يُعْرَضَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ» وَرَوَى النَّسَائِيّ عَنْ أُسَامَةَ «قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّك تَصُومُ حَتَّى لَا تَكَادَ تُفْطِرُ وَتُفْطِرُ حَتَّى لَا تَكَادَ تَصُومُ إلَّا يَوْمَيْنِ إنْ دَخَلَا فِي صِيَامِك وَإِلَّا صُمْتَهُمَا قَالَ أَيُّ يَوْمَيْنِ قُلْت يَوْمُ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ قَالَ ذَلِكَ يَوْمَانِ تُعْرَضُ فِيهِمَا الْأَعْمَالُ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ فَأُحِبُّ أَنْ يُعْرَضَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ» .
وَهَذَا عَرْضٌ خَاصٌّ فِي هَذَيْنِ الْيَوْمَيْنِ، وَأَمَّا الْعَرْضُ الدَّائِمُ فَهُوَ كُلُّ يَوْمٍ بُكْرَةً
وَعَشِيًّا وَلَا يُعَارِضُ مَا مَرَّ مِنْ صَوْمِ يَوْمِ السَّبْتِ وَالْأَحَدِ صِحَّةَ النَّهْيِ عَنْ صَوْمِ السَّبْتِ؛ لِأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى إفْرَادِهِ.
ثَالِثُهَا أَيَّامُ الْبِيضِ ثَالِثُ عَشَرَ وَرَابِعُ عَشَرَ وَخَامِسُ عَشَرَ رَوَى النَّسَائِيّ «كَانَ صلى الله عليه وسلم لَا يُفْطِرُ أَيَّامَ الْبِيضِ فِي حَضَرٍ وَلَا سَفَرٍ» وَفِي حَدِيثِ مُسْلِم عَنْ عَائِشَةَ «أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُبَالِي مِنْ أَيِّ أَيَّامِ الشَّهْرِ كَانَ يَصُومُ الثَّلَاثَةَ» وَلَعَلَّهُ تَرَكَ تَعْيِينهَا فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ لِئَلَّا يُظَنُّ وُجُوبُهُ.
رَابِعُهَا ثَلَاثَةٌ كَمَا مَرَّ عِنْد مُسْلِم.
خَامِسُهَا ثَلَاثَةٌ أَوَّل كُلِّ شَهْرٍ رَوَى أَصْحَابُ السُّنَنِ وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ «كَانَ صلى الله عليه وسلم يَصُومُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ غُرَّةَ كُلِّ شَهْرٍ» وَيُسَنُّ أَيْضًا صَوْمُ السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ وَتَالِيَيْهِ وَتُسَمَّى الْأَيَّامَ السُّودَ وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
(وَسُئِلَ) رضي الله عنه عَنْ مَسْأَلَةٍ وَقَعَ عَنْهَا جَوَابَانِ مُخْتَلِفَانِ صُورَتهَا إذَا أَخْبَرَ الثِّقَةُ بِرُؤْيَةِ هِلَالِ رَمَضَانَ فَهَلْ يَجِبُ الصَّوْمُ عَلَى مَنْ أَخْبَرَهُ حَيْثُ اعْتَقَدَ صِدْقَهُ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرهُ عِنْد قَاضٍ أَمْ لَا يَجِب الصَّوْمُ عَلَى الْمُخْبِرِ إلَّا إذَا ذَكَره عِنْد قَاضٍ أَجَابَ الْأَوَّلُ فَقَالَ يَجِبُ الصَّوْمُ عَلَى مَنْ أَخْبَرَهُ الثِّقَةُ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرهُ عِنْد قَاضٍ حَيْثُ اعْتَقَدَ صِدْقَهُ كَمَا ذَكَره ابْنُ عَبْدَانَ وَالْغَزَالِيُّ وَالْبَغَوِيُّ وَالْخُوَارِزْمِيُّ وَابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ وَغَيْرُهُمْ وَأَجَابَ الثَّانِي فَقَالَ لَا يَجِبُ الصَّوْمُ عَلَى مَنْ أَخْبَرَهُ الثِّقَةُ إذَا لَمْ يَذْكُرهُ عِنْد قَاضٍ، وَإِنْ اعْتَقَدَ صِدْقَهُ لِأُمُورٍ أَحَدُهَا أَنَّ الشَّافِعِيَّ نَصَّ فِي الْمُخْتَصَرِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِب الصَّوْمُ إلَّا بِشَهَادَةِ عَدْلَيْنِ لِأَنَّ الصَّحِيحَ الْمَنْصُوصَ الْمُتَّفَق عَلَيْهِ الْمُعْتَمَدُ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّهُ شَهَادَةٌ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «فَإِنْ شَهِدَ ذَوَا عَدْلٍ فَصُومُوا وَأَفْطِرُوا» فَثَبَتَ أَنَّهُ شَهَادَةٌ بِنَصِّ صَاحِبِ الشَّرْعِ وَإِمَامِ الْمَذْهَبِ فَتَعَيَّنَ الْأَخْذُ بِهِ وَإِطْرَاحُ مَا عَدَاهُ وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه إذَا صَحَّ الْحَدِيثُ فَهُوَ مَذْهَبِي.
الْأَمْرُ الثَّانِي أَنَّ الشَّيْخَ الْإِمَامَ الصَّيْرَفِيّ نَائِبُ الشَّرْعِ الشَّرِيفِ بِمِصْرَ الْمَحْرُوسَةِ أَجَابَ بِأَنَّ الرَّائِينَ إذَا لَمْ يَشْهَدُوا عِنْد حَاكِمٍ شَرْعِيٍّ وَلَمْ يَثْبُتْ لَمْ يَلْزَم مَنْ لَمْ يَرَهُ الْعَمَلَ بِقَوْلِ مَنْ رَآهُ وَلَوْ كَثُرُوا وَلَهُ الْفِطْرُ إلَى اسْتِكْمَالِ شَعْبَان ثَلَاثِينَ وَكَذَا بِالنِّسْبَةِ إلَى آخِر يَوْمٍ مِنْهُ وَأَوَّلِ يَوْمٍ مِنْ شَوَّال لَهُ اسْتِكْمَالُ رَمَضَانَ ثَلَاثِينَ إنْ لَمْ يَرَهُ لَيْلَةَ الثَّلَاثِينَ مِنْ رَمَضَانَ وَقَدْ أَطْلَقَ الْإِمَامُ الرَّافِعِيُّ رحمه الله النَّقْلَ عَنْ الْإِمَامِ وَابْنِ الصَّبَّاغِ فِيمَا إذَا أَخْبَرَ بِهِ مَنْ يُوثَقُ بِهِ أَيْ وَلَمْ يَثْبُت عِنْد قَاضٍ أَنَّهُ لَا يَلْزَم الْمُخْبَر بِفَتْحِ الْبَاءِ الْعَمَلَ بِقَوْلِ الْمُخْبِرِ بِكَسْرِهَا إلَّا إذَا بَنَيْنَا عَلَى أَنَّهَا مِنْ بَابِ الرِّوَايَةِ وَهُوَ ضَعِيفٌ أَمَّا إذَا بَنَيْنَا عَلَى أَنَّهُ مِنْ بَابِ الشَّهَادَةِ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ وَالْمَذْهَبُ فَلَا يَلْزَم الْمُخْبَرُ الْعَمَلَ بِقَوْلِ الْمُخْبِرِ ثُمَّ نَقَلَ أَيْ الرَّافِعِيُّ عَنْ الْإِمَامِ ابْنِ عَبْدَانِ وَمَنْ وَافَقَهُ الْقَوْلَ بِوُجُوبِ الْعَمَلِ بِقَوْلِ الْمُخْبِرِ مُطْلَقًا وَلَمْ يُرَجِّحْ شَيْئًا مِنْهُمَا.
لَكِنَّ قَضِيَّةَ تَقْدِيمِهِ النَّقْلُ عَنْ الْإِمَامِ وَابْنِ الصَّبَّاغِ وَتَفْرِيعِهِ عَلَى ذَلِكَ وَبِنَائِهِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ فِي أَنَّهُ مِنْ بَابِ الرِّوَايَةِ أَوْ الشَّهَادَةِ كَمَا ذَكَر يَقْتَضِي تَرْجِيحُ مَا قَالَاهُ أَيْ فِي أَنَّ طَرِيقَهُ الشَّهَادَةُ دُونَ الْإِخْبَارِ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «فَإِنْ شَهِدَ ذَوَا عَدْلٍ فَصُومُوا وَأَفْطِرُوا» فَثَبَتَ أَنَّهَا شَهَادَةٌ وَلِأَنَّهُ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ فَتَعَلَّقَ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ وَيَلْزَم مِنْ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى الْمُعْتَمَدِ أَنَّهُ شَهَادَةُ عَدْلٍ لُزُومَ الْعَمَلِ بِقَوْلِ الْمُخْبِرِ حَيْثُ لَمْ يَثْبُت عِنْد حَاكِمٍ شَرْعِيٍّ كَمَا تَقَدَّمَ وَذَلِكَ مُوَافِقٌ لِمَا ذَكَره الْإِمَامُ الْأَذْرَعِيُّ فِي التَّوَسُّطِ حَيْثُ قَالَ وَلَا أَحْسَبُ أَحَدًا يُنَازِعُ فِي أَنَّهُ لَوْ أَخْبَرَ الْحَاكِمُ رَعِيَّتَهُ أَنَّهُ رَأَى الْهِلَالَ أَوْ الْإِمَامُ الْعَادِلُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمهُمْ الصَّوْمُ إلَّا أَنْ يُشْهَدَ بِهِ عِنْد قَاضٍ آخَر بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ اهـ جَوَاب الصَّيْرَفِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَيُؤَيِّدهُ قَوْلُ الشَّيْخِ الْإِمَامِ ابْنِ نَاصِرٍ فِي شَرْحِ الْبَهْجَةِ أَنَّ كَلَامَ النَّاظِمِ أَفْهَم أَنَّهُ إذَا أَخْبَرَهُ بِالرُّؤْيَةِ مَنْ يُعْتَقَدُ صِدْقُهُ وَلَمْ يَتَّصِل بِالْحَاكِمِ أَنَّهُ لَا أَثَرَ لَهُ اهـ وَقَدْ صَرَّحَ الْجَلَالُ الْمَحَلِّيُّ فِي شَرْحِ الْمِنْهَاجِ بِأَنَّهُ لَا بُدَّ فِي الْوُجُوبِ عَلَى مَنْ لَمْ يَرَهُ مِنْ ثُبُوتِ رُؤْيَتِهِ عِنْد الْقَاضِي اهـ وَعِبَارَةُ غَيْرِهِ إذَا ثَبَتَتْ الشَّهَادَةُ عِنْد الْإِمَامِ لَزِمَ النَّاسَ كُلَّهُمْ الصِّيَامُ اهـ.
وَمُقْتَضَاهُ أَنَّهُ إذَا لَمْ تَثْبُت الشَّهَادَةُ عِنْد الْإِمَامِ لَا يَلْزَمُ النَّاسَ الصِّيَامُ وَأَجَابَ بِنَحْوِ جَوَابِ الصَّيْرَفِيِّ أَيْضًا بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ عُلَمَاءِ الْيَمَنِ حَيْثُ قَالَ لَا أَثَرَ لِلشَّهَادَةِ عِنْد غَيْرِ الْقَاضِي وَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا حُكْمٌ صَحِيحٌ وَذَلِكَ مَا تَقْتَضِيه نُصُوصُ الْمَذْهَبِ وَمَفَاهِيمه فَإِنْ كَانَ فِي هَذِهِ
الشَّاغِرَةِ عَنْ الْحُكَّامِ مَنْ يُسْمَعُ كَلَامُهُ وَيُرْجَعُ إلَيْهِ فِي الْحَلِّ وَالْعَقْدِ وَنُصِّبَ فِي الْبَلَدِ عَارِفًا بِالْأَحْكَامِ فَقِيهًا نَفَذَ حُكْمُهُ وَسَمَاعُهُ أَدَاءَ الشَّهَادَاتِ بِمَا يَقْتَضِيه الشَّرْعُ الشَّرِيفُ كَمَا ذَكَره فِي الْعَزِيزِ وَالرَّوْضَةِ وَالْأَنْوَارِ وَغَيْرِهَا مِنْ كُتُبِ الْمَذْهَبِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا مَنْ هُوَ كَذَلِكَ فَلَا اهـ ثُمَّ سُئِلَ أَيْضًا عَنْ بِلَادٍ لَيْسَ فِيهَا سُلْطَانٌ وَلَا قَاضٍ وَفِيهَا رَجُلٌ يَظُنّ أَنَّهُ يَعْرِفُ شَيْئًا مِنْ الْعِلْمِ فَيَأْتِيه عَدْلٌ وَاحِدٌ يَشْهَدُ عِنْده بِرُؤْيَةِ هِلَالِ رَمَضَانَ فَيَمْتَنِعُ مِنْ قَبُولِ شَهَادَتِهِ لِكَوْنِهِ غَيْرَ قَاضٍ فَهَلْ امْتِنَاعُهُ مِنْ ذَلِكَ هُوَ الصَّوَابُ؟
فَأَجَابَ بِأَنَّ امْتِنَاعَهُ مِنْ ذَلِكَ هُوَ الصَّوَابُ؛ لِأَنَّ سَمَاعَ الشَّهَادَةِ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ وَأَمْثَالِهِ وَالْحُكْمُ بِهَا لَا يَصْلُحُ لِذَلِكَ لِكَوْنِهِ غَيْر قَاضٍ لَكِنْ يَتَعَيَّن عَلَى أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ تَوْلِيَةُ مَنْ يَصْلُحُ لِذَلِكَ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَإِعَانَته فَإِنْ فَعَلُوا وَإِلَّا أَثِمُوا لِإِخْلَالِهِمْ بِفَرْضِ الْكِفَايَةِ وَيَجِبُ تَنْبِيههمْ عَلَى ذَلِكَ وَإِعْلَامُهُمْ وَزَجْرُهُمْ بِحَسَبِ الطَّاقَةِ فَإِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ وَجَبَ عَلَى مَنْ وَلَّوْهُ سَمَاعُ الْبَيِّنَةِ وَالْحُكْمُ بِمَا يَقْتَضِيه الشَّرْعُ الشَّرِيفُ فِي ذَلِكَ وَغَيْرِهِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَم اهـ جَوَابُهُ ثُمَّ أَجَابَ بِنَحْوِ جَوَابِهِمَا أَيْضًا بَعْضُ عُلَمَاءِ مَكَّةَ الْمُشَرَّفَةِ فَقَالَ إذَا لَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ شَهْرَ رَمَضَانَ عِنْد نُقْصَانِ شَعْبَان فَلَا يَلْزَمُ الصَّوْمُ وَصَوْمُ الْغَيْرِ لَيْسَ بِحُجَّةِ عَلَى الْغَيْرِ، وَأَمَّا جَوَازُ صَوْمِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ يَوْمَ شَكٍّ فَهُوَ جَائِزٌ، وَإِنْ رَأَى هِلَالَ الْفِطْرِ لَا يَجُوزُ لَهُ الصَّوْمُ إلَّا إذَا ادَّعَى عِنْد قَاضٍ أَوْ مُحَكَّمٍ مِنْ جِهَةِ أَهْلِ الْبَلَدِ كُلِّهِمْ اهـ جَوَابُهُ.
وَيُؤَيِّدُ هَذِهِ الْأَجْوِبَةَ مَا أَجَابَ بِهِ الشَّيْخُ الْإِمَامُ ابْنُ نَاصِرٍ حَيْثُ قَالَ لَا بُدَّ مِنْ صِيغَةِ الشَّهَادَةِ وَيَخْتَصُّ بِمَجْلِسِ الْقَضَاءِ قَالَ لَكِنَّ هَذَا حَيْثُ كَانَ فِي الْبَلَدِ قَاضٍ كَمَا هُوَ الْغَالِبُ أَمًّا الْمَكَانُ الَّذِي لَا قَاضِيَ فِيهِ فَيَجِبُ أَنْ يُنَصِّبُوا مُحَكَّمًا يَسْمَعُ الشَّهَادَةَ اهـ
وَبِنَحْوِهِ أَجَابَ الشَّرِيفُ السَّمْهُودِيُّ رحمه الله وَمُقْتَضَى هَذَا وَمَا سَبَقَ مِنْ الْأَجْوِبَةِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الصَّوْمُ إلَّا بِالشَّهَادَةِ عِنْد قَاضٍ أَوْ مُحَكَّمٍ مَنْصُوب وَذَكَر الْإِمَامُ الْعِمَادُ الْأَقْفَهْسِيُّ فِي تَوْقِيفِ الْحُكَّامِ أَنَّ الْأَصْحَابَ ذَكَرُوا وَجْهَيْنِ فِيمَا لَوْ أَخْبَرَ بِرُؤْيَةِ هِلَالِ رَمَضَانَ عَدْلٌ وَاحِدٌ أَوْ عُدُولٌ هَلْ يَجِبُ الصَّوْمُ إنْ قُلْنَا أَنَّهُ رِوَايَةٌ وَجَبَ، وَإِنْ قُلْنَا أَنَّهُ شَهَادَةٌ فَوَجْهَانِ أَحَدُهُمَا لَا يَجِبُ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ تَخْتَصُّ بِمَجْلِسِ الْحُكْمِ وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ عِنْد صَاحِبِ الشَّامِلِ اهـ.
وَفِي مَوْضِعٍ آخَر مِنْ تَوْقِيفِ الْحُكَّامِ أَنَّهُ لَوْ أَخْبَرَهُ عَدْلَانِ بِرُؤْيَتِهِ يَوْمَ الثَّلَاثِينَ مِنْ شَعْبَانَ لَمْ يَلْزَم الصَّوْمُ عَلَى الصَّحِيحِ تَفْرِيعًا عَلَى أَنَّهُ يَسْلُكُ بِهِ مَسْلَكَ الشَّهَادَةِ وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَخْتَصُّ بِمَجْلِسِ الْحُكْمِ اهـ فَيُفْرَض الْكَلَامُ فِي أَنَّ طَرِيقَهُ طَرِيقُ الشَّهَادَةِ دُونَ الْإِخْبَارِ لِمَا سَبَقَ فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «فَإِنْ شَهِدَ ذَوَا عَدْلٍ فَصُومُوا» فَثَبَتَ أَنَّهَا شَهَادَةٌ وَلِأَنَّهُ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ فَتَعَلَّقَ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الْإِخْبَارِ بِهِ حُكْمَ الشَّهَادَاتِ قَالَ الشَّيْخُ ابْنُ نَاصِرٍ، وَقَوْل النَّاظِمِ:
كَمِثْلِ أَنْ يَنْوِيَ صَوْمَ الْغَدِ
…
عَنْ فَرِيضَةِ الشَّهْرِ بِجَزْمٍ أَوْ بِظَنٍّ
أَنَّ الظَّنَّ إمَّا بِرُؤْيَتِهِ أَوْ ثُبُوتِهِ لَدَى الْقَاضِي اهـ قَالَ الشَّيْخَانِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى فِي الْكَلَامِ عَلَى النِّيَّةِ إذَا حَكَمَ الْقَاضِي بِشَهَادَةٍ أَوْ وَاحِدٌ إذَا جَوَّزْنَاهُ وَجَبَ الصَّوْمُ اهـ وَمُقْتَضَاهُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الصَّوْمُ إلَّا إذَا حَكَمَ الْقَاضِي بِذَلِكَ كَمَا سَبَقَ وَيُؤَيِّدهُ قَوْلُ النَّوَوِيِّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ قَالَ أَصْحَابُنَا فَإِنْ شَرَطْنَا عَدْلَيْنِ فَلَا مَدْخَلَ لِلنِّسَاءِ وَالْعَبِيدِ فِي هَذِهِ الشَّهَادَةِ وَيُشْتَرَطُ لَفْظُ الشَّهَادَةِ وَتَخْتَصُّ بِمَجْلِسِ الْقَاضِي اهـ.
وَأَطْلَقَ ابْنُ الرِّفْعَةِ وَغَيْرُهُ فِي النَّقْلِ عَنْ الْإِمَامِ اشْتِرَاطَ الشَّهَادَةِ بِهِ عِنْد الْقَاضِي وَذَكَره أَيْضًا الْبَارِزِيُّ وَالْإِسْنَوِيُّ وَالْأَذْرَعِيُّ وَغَيْرهمْ.
الْأَمْرُ الرَّابِعُ سَبَقَ أَنَّ الْإِمَامَ وَابْنَ الصَّبَّاغِ ذَكَر أَنَّ مَا اخْتَارَهُ ابْنُ عَبْدَانَ وَمَنْ وَافَقَهُ مُفَرَّعٌ عَلَى أَنَّ قَبُولَ قَوْلِ الْوَاحِدِ بِطَرِيقِ الرِّوَايَةِ اهـ فَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ تَقْلِيدُهُمْ فِيمَنْ لَمْ يَبْلُغ رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ فَيُرَجَّحُ عِنْده ذَلِكَ فَقَدْ قَالَ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ النَّوَوِيُّ رحمه الله فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ الَّذِي هُوَ عُمْدَةُ الْمَذْهَبِ عَنْ الْإِمَامِ تَقِيِّ الدِّينِ بْنِ الصَّلَاحِ مِنْ غَيْرِ اعْتِرَاضٍ عَلَيْهِ أَنَّ حُكْمَ مَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلًا لِلتَّخْرِيجِ أَنْ لَا يَتَّبِعَ شَيْئًا مِنْ اخْتِيَارَاتهمْ؛ لِأَنَّهُ مُقَلِّدٌ لِلْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ رحمه الله دُونَ غَيْرِهِ اهـ وَظَاهِرُهُ أَنَّ مُقَلِّدَ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَّبِعَ شَيْئًا مِنْ اخْتِيَارَاتِهِمْ إذَا لَمْ
يَبْلُغ دَرَجَةَ الِاجْتِهَادِ بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَتَّبِعَ نَصَّ الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه كَمَسْأَلَتِنَا الْمَسْئُول عَنْهَا فَإِنَّ مَنْ لَمْ يَبْلُغ رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ الْمُطْلَقِ وَهُوَ مُقَلِّدٌ لِلْإِمَامِ الْمُجْتَهِدِ الْمُطْلِقِ لَا يَجُوز لِلْمُقَلِّدِ لِلْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه أَنْ يَتْرُكَ مَذْهَبَ إمَامِهِ وَيَعْمَل بِمَا قَالَهُ الْمُجْتَهِدُ الْمُقَلِّد كَذَا أَفْتَى بِهِ الْإِمَامُ الْكَازَرُونِيُّ شَيْخُ الْحَرَمِ النَّبَوِيِّ وَهُوَ أَيْضًا نَصٌّ فِي مَسْأَلَتِنَا. وَقَالَ النَّوَوِيُّ أَيْضًا لَا يَجُوزُ لِمُفْتٍ عَلَى مَذْهَبِ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه أَنْ يُفْتِيَ بِمُصَنَّفٍ أَوْ مُصَنَّفِينَ وَنَحْوِهِمَا مِنْ كُتُبِ أَصْحَابِنَا لِكَثْرَةِ الِاخْتِلَافِ فِي الْجَزْمِ وَالتَّرْجِيحِ وَقَدْ يَجْزِمُ نَحْوُ عَشَرَةٍ مِنْ الْمُصَنِّفِينَ بِشَيْءٍ وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلْمَنْصُوصِ وَمَا عَلَيْهِ الْجُمْهُور اهـ وَهَذَا أَيْضًا مِثْلُ مَا سَبَقَ مِنْ اخْتِيَارِ ابْنِ عَبْدَانَ وَمَنْ وَافَقَهُ وَقَالَ الْإِمَامُ الْأَزْرَقِيُّ لَوْ وَجَدَ مَنْ لَيْسَ أَهْلًا لِلتَّرْجِيحِ اخْتِلَافًا لِلْأَصْحَابِ فِي الْأَصَحِّ مِنْ الْقَوْلَيْنِ وَالْوَجْهَيْنِ اعْتَمَدَ تَصْحِيحَ الْأَكْثَرِ اهـ وَفِي مُقَدِّمَةِ الْمُهِمَّاتِ أَنَّ الرَّافِعِيَّ وَالنَّوَوِيَّ لَمْ يُخَالِفَا نَصَّ الشَّافِعِيِّ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ جِدًّا فَأَجَابَاهُ بِمَا وَجَدَاهُ لِبَعْضِ الْأَصْحَابِ إلَّا ذُهُولًا عَنْ النَّصِّ قَالَ وَكَثِيرًا مَا يُخَالِف الْأَصْحَابُ النَّصَّ لَا عَنْ قَصْدٍ وَلَكِنْ لِعَدَمِ اطِّلَاعِهِمْ عَلَيْهِ كَمَا قَالَهُ الْبَنْدَنِيجِيُّ فِي تَعْلِيقِهِ اهـ.
وَلِهَذَا قَالَ الْإِمَامُ الْأَصْبَحِيُّ، وَإِذَا وُجِدَ لِلشَّافِعِيِّ نَصٌّ وَالتَّصْحِيحُ بِخِلَافِهِ فَالِاعْتِمَادُ عَلَى نَصِّهِ إذْ الْفَتْوَى فِي هَذَا الزَّمَانِ إنَّمَا هِيَ عَلَى الْأَصَحِّ عَلَى طَرِيقِ التَّقْلِيدِ لَهُ رضي الله عنه وَتَقْلِيدُهُ أَوْلَى مِنْ تَقْلِيدِ غَيْرِهِ فَقَدْ كَانَ شُيُوخُ الْمَذْهَبِ لَا يُفْتُونَ إلَّا بِهِ، وَإِنْ كَانَ عِنْدهمْ بِخِلَافِهِ فَإِنَّ الشَّيْخَ أَبَا حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ كَانَ كَثِيرًا مَا يَقُولُ فِي تَعْلِيقِهِ كُنْت أَذْهَبُ إلَى كَذَا وَكَذَا حَتَّى رَأَيْت نَصَّ الشَّافِعِيِّ عَلَى كَذَا وَكَذَا ثُمَّ آخُذُ بِالنَّصِّ وَأَتْرُكُ مَا كُنْت عَلَيْهِ اهـ كَلَامُ الْأَصْبَحِيِّ وَقَالَ الْإِمَامُ الْإِسْنَوِيُّ لَا اعْتِبَار مَعَ نَصِّ صَاحِبِنَا بِمُخَالَفَةِ غَيْرِهِ بَلْ يَجِبُ الْمَصِيرُ إلَى النَّصِّ وَلَوْ كَانَ الْمُخَالِفُونَ لَهُ أَكْثَرَ فَإِنْ تَسَاوَوْا رَجَّحْنَا بِنَصِّ صَاحِبِ الْمَذْهَبِ؛ لِأَنَّ التَّرْجِيحَ تَارَةً يَكُونُ بِبَيَانِ نَصِّ الشَّافِعِيِّ فَإِنَّهُ أَعْظَمُ التَّرْجِيحَانِ مِقْدَارًا وَأَعْلَاهَا مَنَارًا وَتَارَةً بِمُوَافَقَةِ الْأَكْثَرِينَ فَإِنَّهُ يَجِبُ الْأَخْذ بِهِ كَمَا صُرِّحَ بِهِ فِي الرَّوْضَةِ ثُمَّ قَالَ فِي الْمُهِمَّاتِ كَيْف تُسَوِّغُ الْفَتْوَى بِمَا يُخَالِفُ نَصَّ الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه وَكَلَامَ الْأَكْثَرِينَ وَلَا مُعَوِّلَ عَلَى تَصْحِيحٍ يُخَالِف ذَلِكَ بَلْ هُوَ ضَعِيفٌ ثُمَّ قَالَ وَلَا شَكَّ أَنَّ صَاحِبَ الْمَذْهَبِ إذَا كَانَ لَهُ فِي الْمَسْأَلَةِ نَصٌّ وَجَبَ عَلَى أَصْحَابِهِ الرُّجُوعُ إلَيْهِ فِيهَا فَإِنَّهُمْ مَعَ الشَّافِعِيِّ كَالشَّافِعِيِّ وَنَحْوِهِ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ مَعَ نُصُوصِ الشَّارِعِ وَلَا يُسَوَّغُ الِاجْتِهَادُ عِنْد الْقُدْرَةِ عَلَى النَّصِّ ثُمَّ قَالَ هُوَ وَالْأَذْرَعِيُّ لَا عُذْرَ لِأَحَدٍ فِي مُخَالَفَةِ نَصِّ الشَّافِعِيِّ. زَادَ الْأَذْرَعِيُّ وَمَتَى وُجِدَ لِلشَّافِعِيِّ نَصٌّ فِي الْمَسْأَلَةِ طَاحَ مَا خَالَفَهُ.
الْأَمْرُ الْخَامِسُ أَنَّ الْأَئِمَّةَ رضي الله عنهم إذَا امْتَنَعُوا مِنْ مُخَالَفَةِ نَصِّ الشَّافِعِيِّ وَهُمْ بَلَغُوا دَرَجَةَ الِاجْتِهَادِ فَالِامْتِنَاعُ لِمَنْ لَمْ يَبْلُغهَا أَوْلَى فَحِينَئِذٍ الْحَاصِل مِنْ هَذِهِ النُّقُولِ الصَّحِيحَةِ وَالنُّصُوص الصَّرِيحَةِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الصَّوْمُ لِمَا سَبَقَ عَنْ ابْنِ عَبْدَانَ وَمَنْ وَافَقَهُ إذَا لَمْ يَذْكُرهُ عِنْد الْقَاضِي لِمُخَالَفَتِهِمْ مَا سَبَقَ مِنْ النُّقُولِ وَالنُّصُوصِ وَلِعَدَمِ جَوَازِ تَقْلِيدِهِمْ فِيهِ لِمَنْ لَمْ يَبْلُغ دَرَجَةَ الِاجْتِهَادِ كَمَا سَبَقَ عَنْ النَّوَوِيِّ نَقْلُهُ عَنْ ابْنِ الصَّلَاحِ.
الْأَمْر السَّادِسُ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَثْبُت عِنْد قَاضٍ حَرُمَ صَوْمُهُ عَنْ رَمَضَانَ لِمَنْ لَمْ يَرَ الْهِلَالَ بِنَفْسِهِ، وَأَمَّا مَنْ رَآهُ فَنَقَلَ الْأَذْرَعِيُّ عَنْ سُلَيْمٍ الرَّازِيِّ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَثْبُت لَمْ يُجْزِئْهُ صَوْمُهُ وَمُقْتَضَى كَلَامِ غَيْرِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ صَوْمُهُ وَيُجْزِئْهُ اهـ، وَفِي الْحَدِيثِ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَشْتَرِط فِي تَكْلِيفِ كُلِّ وَاحِدٍ بِالصَّوْمِ رُؤْيَةُ نَفْسِهِ بَلْ يَكْتَفِي بِرُؤْيَةِ مَنْ تَثْبُت بِهِ الرُّؤْيَةُ كَذَا قَالَ الْكَبْكَادِيُّ فِي قَوَاعِدِهِ وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَا يُكْتَفَى بِرُؤْيَةِ مَنْ لَا تَثْبُتُ بِهِ الرُّؤْيَةُ بَلْ قَالَ الْغَزَالِيُّ وَغَيْره إذَا لَمْ يَتَحَدَّث النَّاسُ بِرُؤْيَتِهِ وَلَمْ يَثْبُت عِنْد قَاضٍ فَهُوَ يَوْمُ شَكٍّ قَالَ الشَّيْخَانِ فِي الْعَزِيزِ وَالرَّوْضَةِ وَشَرْحِ الْمُهَذَّبِ إذَا وَقَعَ فِي الْأَلْسُنِ أَنَّهُ رُئِيَ وَلَمْ يَقُلْ عَدْلٌ أَنَا رَأَيْته أَوْ قَالَ وَلَمْ يَقْبَل الْوَاحِدُ أَوْ قَالَهُ عَدَدٌ مِنْ النِّسَاءِ وَالْعَبِيدِ وَالْفُسَّاقِ وَظُنَّ صِدْقُهُمْ فَهُوَ يَوْمُ شَكٍّ وَعِبَارَةُ الْوَلِيِّ الْعِرَاقِيِّ إذَا شَهِدَ عَدَدٌ مِنْ الْفُسَّاقِ وَظُنَّ صِدْقُهُمْ فَهُوَ يَوْمُ شَكٍّ وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ اهـ.
جَوَاب الثَّانِي فَمَا الرَّاجِحُ عِنْدكُمْ مِنْ الْجَوَابَيْنِ أَبْقَاكُمْ اللَّهُ تَعَالَى
لِلْمُسْلِمِينَ؟
(فَأَجَابَ) نَفَعَ اللَّهُ بِهِ بِقَوْلِهِ قَدْ رَفَعْتُمْ إلَيَّ مِنْ قَدِيمٍ هَذَا السُّؤَالَ بِعَيْنِهِ وَأَجَبْتُكُمْ عَنْهُ بِجَوَابٍ مَبْسُوطٍ مُسْتَوْفٍ لِرَدِّ جَمِيعِ مَا قَالَهُ الْمُجِيبُ الثَّانِي لَفْظَةً بِلَفْظَةٍ وَعَلَى فَرْضِ أَنَّ بَيْن جَوَابَيْهِ تَخَالُفًا فِي بَعْضِ الْأَلْفَاظِ فَالْحُكْمُ لَا يَخْتَلِفُ بِذَلِكَ وَلِأَجْلِ ذَلِكَ لَا حَاجَةَ بِنَا إلَى بَسْطِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ ثَانِيًا بَلْ نَكْتَفِي بِمَا قَدَّمْنَاهُ وَنُشِيرُ لَكُمْ هُنَا إلَى خُلَاصَةِ الْمُعْتَمَدِ فِي الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ أَنَّ مَنْ أَخْبَرَهُ بِرُؤْيَةِ هِلَالِ رَمَضَانَ عَدْلٌ مَوْثُوقٌ بِهِ وَوَقَعَ فِي قَلْبِهِ صِدْقُهُ لَزِمَهُ الصَّوْمُ عَلَى الْمَنْقُولِ الْمُعْتَمَدِ سَوَاء قُلْنَا إنَّ ثُبُوتَ رَمَضَانَ مِنْ بَابِ الرِّوَايَةِ أَمْ مِنْ بَابِ الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْخِلَافَ إنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ لِوُجُوبِ الصَّوْمِ عَلَى عُمُومِ النَّاسِ، وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِوُجُوبِهِ عَلَى الرَّائِي وَمَنْ أَخْبَرَهُ مَوْثُوقٌ بِهِ وَوَقَعَ فِي قَلْبِهِ صِدْقُهُ فَلَا يَتَفَرَّعُ عَلَى ذَلِكَ بَلْ يَكْتَفِي بِهِ وَيَجِبُ بِهِ الصَّوْمُ.
وَعَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ الَّذِي ذَكَرْته يُحْمَلُ اخْتِلَافُ الْأَصْحَابِ فَمَنْ قَالَ لَا يَجِبُ الصَّوْمُ إلَّا أَنْ تَثْبُت الرُّؤْيَةُ عِنْد الْقَاضِي أَيْ أَوْ الْمُحَكَّمِ فَمُرَادُهُ لَا يَجِبُ عَلَى عُمُومِ النَّاسِ وَمَنْ قَالَ يَجِبُ الصَّوْمُ عَلَى مَنْ أَخْبَرَهُ عَدْلٌ مَوْثُوقٌ بِهِ أَرَادَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى خُصُوصِ الْمُخْبَرِ الَّذِي أَخْبَرَهُ مَوْثُوقٌ بِهِ وَوَقَعَ فِي قَلْبِهِ صِدْقُهُ وَحِينَئِذٍ فَلَا تَخَالُفَ بَيْنَ كَلَامِ الْأَصْحَابِ وَلَا تَنَاقُضَ كَمَا ظَنَّهُ الْمُجِيب الثَّانِي وَمَنْ اغْتَرَّ بِهِ مِنْ قَائِلِي تِلْكَ الْأَجْوِبَةِ الَّتِي ذَكَرهَا وَبِهَذَا التَّفْصِيلِ إنْ تَأَمَّلْته يَظْهَرُ لَك انْدِفَاعُ جَمِيعِ مَا قَالَهُ وَمَا قَالَهُ غَيْرُهُ مِمَّنْ نَقَلَ عَنْهُ مَا يُخَالِفُ ظَاهِرُهُ مَا قُلْنَاهُ وَيَظْهَرُ لَك أَيْضًا أَنَّ مَا ذَكَرَهُ مِنْ وُجُوبِ اتِّبَاعِ الْأَكْثَرِينَ وَمَا فَرَّعَهُ عَلَى ذَلِكَ مِمَّا أَطَالَ بِهِ لَيْسَ كُلُّهُ فِي مَحِلِّهِ لِمَا تَقَرَّرَ لَك أَنَّهُ لَا مُخَالَفَةَ فِي الْحَقِيقَةِ بَيْن الْكَلَامَيْنِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي نَتَكَلَّمُ فِيهَا وَأَنَّ كُلًّا مِنْ الرَّأْيَيْنِ لَهُ مَحْمَلٌ صَحِيحٌ وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
(وَسُئِلَ) رضي الله عنه عَنْ شَخْصٍ أَدْخَلَ فِي اللَّيْلِ مِنْ رَمَضَانَ قُطْنَةً فِي إحْلِيلِهِ احْتِيَاطًا لِلْبَوْلِ ثُمَّ نَزَعَهَا بَعْد أَنْ أَصْبَحَ فَهَلْ هَذِهِ كَمَسْأَلَةِ الْخَيْطِ أَوْ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ؟
(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ أَفْتَى بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ بِأَنَّهُ لَا يُفْطِرُ بِنَزْعِهَا قَالَ وَلَيْسَتْ هَذِهِ كَمَسْأَلَةِ الْخَيْطِ لِأَنَّ إخْرَاجَهُ عَمْدًا اسْتِقَاءَةٌ وَيَتَّضِحُ بِأَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُمْ لَمْ يَجْعَلُوا الْإِمْسَاكَ عَنْ مِثْلِهِ دَاخِلًا فِي حَقِيقَةِ الصَّوْمِ كَمَا يَقْتَضِيه تَفْسِيرُهُمْ بِأَنَّهُ الْإِمْسَاكُ عَنْ نَحْوِ الْجِمَاعِ مِنْ إدْخَالِ عَيْنٍ إلَى مَا يُسَمَّى جَوْفًا الثَّانِي أَنَّ الْفِطْرَ بِالِاسْتِقَاءَةِ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ وَالْمُعْتَمَدُ عِنْد الْأَصْحَابِ فِي التَّعْلِيلِ أَنَّهَا مُفْطِرَةٌ لَعَيْنِهَا كَالْإِنْزَالِ بِالِاسْتِمْنَاءِ وُقُوفًا مَعَ ظَاهِرِ الْحَدِيثِ وَقِيلَ بِرُجُوعِ شَيْءٍ إلَى الْجَوْفِ، وَإِنْ قَلَّ لِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاس رضي الله عنهما الْفِطْرُ مِمَّا دَخَلَ وَلَيْسَ مِمَّا خَرَجَ وَالْفَرِيقَانِ مُتَّفِقُونَ عَلَى عَدَمِ اسْتِنْبَاطِ مَعْنًى يَعُودُ بِالتَّعْمِيمِ وَهُوَ الْإِلْحَاقُ قِيَاسًا إذْ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنَّ الْعِلَّةَ فِي الِاسْتِقَاءَةِ كَوْنُهَا خُرُوجُ خَارِجٍ مِنْ جَوْفٍ كَمَا زَعَمَهُ مَنْ أَلْحَقَ إخْرَاجَ الْقُطْنَةِ مِنْ الْإِحْلِيلِ بِالِاسْتِقَاءَةِ قِيَاسًا أَمَّا الْمُعَلِّلُونَ بِالْعَيْنِ فَوُقُوفًا مِنْهُمْ مَعَ ظَاهِرِ الْحَدِيثِ كَمَا هُوَ مُصَرَّحٌ بِهِ عَنْهُمْ.
وَأَمَّا الْمُعَلَّلُونَ بِالثَّانِي فَتَعْلِيلُهُمْ نَافٍ لِذَلِكَ صَرِيحًا كَمَا لَا يَخْفَى وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ أَيْضًا أَنَّهُ لَوْ قَبَّلَ امْرَأَةً أَوْ تَلَذَّذَ بِهَا فَأَمْذَى لَمْ يُفْطِر اتِّفَاقًا وَلَمْ يُلْحِقُوهُ بِالِاسْتِمْنَاءِ بِجَامِعِ خُرُوجِ خَارِجٍ مِنْ الذَّكَرِ بِمُبَاشَرَةٍ نَظَرًا إلَى أَنَّ الِاسْتِمْنَاءِ مُفْطِرٌ بِعَيْنِهِ وَفِي فَتَاوَى ابْنِ الصَّلَاحِ امْرَأَةٌ ظَنَّتْ إيقَاعَ الْحَيْضِ لَيْلًا فَتَحَمَّلَتْ قُطْنَةً وَنَوَتْ الصَّوْمَ ثُمَّ أَخْرَجَتْهَا بَعْد الْفَجْرِ وَلَمْ تَرَ أَثَرًا فَهَلْ يَضُرُّ هَذَا الْإِخْرَاجُ، وَإِذَا أَدْخَلَتْ أُصْبُعَهَا لِبَاطِنِ الْفَرْجِ لِلِاسْتِنْجَاءِ هَلْ يَضُرُّ أَيْضًا؟
أَجَابَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُخَرَّجًا عَلَى الْخِلَافِ فِي أَنَّ ابْتِلَاعَ النُّخَامَةِ مِنْ الْبَاطِن هَلْ يَلْتَحِقُ بِالْقَيْءِ فِي الْإِفْطَارِ وَالْأَوْلَى أَنَّهُ لَا يَضُرُّ وَإِدْخَالُ أُصْبُعِهَا إلَى بَاطِنِ الْفَرْجِ مُفْطِرٌ كَمَا فِي مِثْلِهِ مِنْ الْمَعِدَةِ وَوَجْهُ تَرَدُّده وَإِنْ صَحَّحَ مَا يُوَافِق مَا مَرَّ اسْتِلْزَامُ إخْرَاجِ الْقُطْنَةِ مِنْ الْمَرْأَةِ لِإِدْخَالِ أُصْبُعِهَا غَالِبًا، وَتَخْرِيجُهُ عَلَى مَا ذَكَره وَجْهُهُ أَنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إلَى كُلٍّ مِنْهُمَا فَاحْتُمِلَ أَنْ يُقَال إنَّ الْمُنَافِيَ يُغْتَفَرُ فِيهِمَا لِأَجْلِ ذَلِكَ.
(وَسُئِلَ) فَسَّحَ اللَّهُ فِي مُدَّته عَنْ الْمُمْسِك فِي رَمَضَانَ هَلْ يُكْرَه لَهُ السِّوَاكُ بَعْدَ الزَّوَالِ كَالصَّائِمِ؟
(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ ظَاهِرُ الْخَبَرِ تَخْصِيصُ ذَلِكَ بِالصَّائِمِ وَهُوَ مُتَّجَهٌ.
(وَسُئِلَ) رضي الله عنه عَنْ قَضَاءِ يَوْمِ ثَلَاثِينَ شَعْبَان إذَا ثَبَتَ كَوْنُهُ مِنْ رَمَضَانَ وَلَيْسَ يَوْمُ شَكٍّ لِكَوْنِهِ لَمْ يَتَحَدَّث
النَّاسُ بِرُؤْيَتِهِ هَلْ يَجِبُ قَضَاؤُهُ فَوْرًا كَمَا قِيلَ بِهِ فِي يَوْمِ الشَّكِّ أَمْ لَا يَجِب؟
(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ مَلْحَظُ وُجُوبِ الْفَوْرِيَّةِ فِي ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ تَقْصِيرهمْ بِعَدَمِ الِاعْتِنَاءِ بَتْرَائِي الْهِلَالِ مَعَ أَنَّهُ مَوْجُودٌ بِدَلِيلِ ثُبُوتِ وُجُودِهِ وَلَا عِبْرَةَ بِوُجُودِ نَحْوِ غَيْمٍ مَانِعٍ لِنُدْرَتِهِ فِي خُصُوصِ لَيْلَةِ رَمَضَانَ، وَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ هَذَا هُوَ مَلْحَظُ وُجُوبِ الْفَوْرِيَّةِ الَّذِي لَا مَحِيصَ عَنْ اعْتِبَارِهِ فِي إيجَابِهِمْ الْفَوْرِيَّةِ اتَّجَهَ أَنَّ الْمُرَادَ بِيَوْمِ الشَّكِّ هُنَا هُوَ يَوْمُ ثَلَاثِينَ شَعْبَان سَوَاء تَحَدَّثَ النَّاسُ بِرُؤْيَتِهِ أَمْ لَا؛ لِأَنَّ التَّحَدُّثَ بِذَلِكَ لَا مَدْخَلَ لَهُ هُنَا فِي إيجَابِ الْفَوْرِيَّةِ وَإِنَّمَا مُوجِبُهَا مَا قَرَّرْته وَإِطْلَاقُ يَوْمِ الشَّكِّ عَلَى مَا مَرَّ شَائِعٌ وَمِنْ ثَمَّ كَانَ اشْتِرَاطُ التَّحَدُّثِ فِي تَسْمِيَتِهِ شَكَّا إنَّمَا يَأْتِي عَلَى الضَّعِيفِ أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ صَوْمُ مَا بَعْدَ نِصْفِ شَعْبَانَ أَوْ لِتَكُونَ الْحُرْمَةُ بِسَبَبِ كَوْنِهِ بَعْدَ النِّصْفِ وَكَوْنِهِ بَعْدَ الشَّكِّ.
(وَسُئِلَ) فَسَّحَ اللَّهُ فِي مُدَّتِهِ عَنْ الصَّائِمِ إذَا دَخَلَ الْمَاءُ فِي أُذُنَيْهِ لِغَسْلِ مَا ظَهَرَ مِنْهُمَا عَنْ جَنَابَةٍ أَوْ لِنَحْوِ جُمُعَة فَسَبَقَهُ الْمَاءُ إلَى بَاطِنِهِمَا فَهَلْ يُفْطِرُ أَوْ لَا؟
(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ لَا يُفْطِرُ بِذَلِكَ كَمَا ذَكَره بَعْضُهُمْ، وَإِنْ بَالَغَ لِاسْتِيفَاءِ الْغُسْلِ كَمَا لَوْ سَبَقَ الْمَاءُ مَعَ الْمُبَالَغَةِ لِغَسْلِ نَجَاسَةِ الْفَمِ وَإِنَّمَا أَفْطَرَ بِالْمُبَالَغَةِ فِي الْمَضْمَضَةِ لِحُصُولِ السُّنَّةِ بِمُجَرَّدِ وَضْعِ الْمَاءِ فِي الْفَمِ فَالْمُبَالَغَةُ تَقْصِيرٌ وَهُنَا لَا يَحْصُلُ مَطْلُوبُهُ مِنْ غَسْلِ الصِّمَاخِ إلَّا بِالْمُبَالَغَةِ غَالِبًا فَلَا تَقْصِيرَ.
(وَسُئِلَ) فَسَّحَ اللَّهُ فِي مُدَّتِهِ. بِمَا صُورَته رَأَى هِلَالَ رَمَضَانَ أَوْ غَيْرَهُ بَعْضُ بُلْدَان مُتَّفِقَةِ الْمَطَالِعِ وَثَبَتَتْ عِنْد قَاضِيهِمْ فَأَرْسَلَ نُوَّابَهُ لِبَقِيَّةِ الْبِلَادِ أَوْ رَأَوْا نَحْوَ الْقَنَادِيلِ الْمَوْقُودَةِ عَلَى الْمَنَابِرِ مِمَّا اطَّرَدَتْ الْعَادَةُ بِكَوْنِهِ عَلَامَةً عَلَى دُخُولِ رَمَضَانَ فَهَلْ يَجِبُ الصَّوْمُ أَوْ يَجُوزُ؟
(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ أَمَّا فِي الْأُولَى فَأَفْتَى شَيْخُنَا شَيْخُ الْإِسْلَامِ زَكَرِيَّا وَغَيْره بِالْوُجُوبِ فِيهَا وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَأَمَّا فِي الثَّانِيَةِ فَأَفْتَى شَيْخُنَا الْمَذْكُورُ فِيهَا بِالْجَوَازِ وَخَالَفَهُ الْبُرْهَانُ ابْنُ أَبِي شَرِيفٍ وَغَيْرُهُ فَأَفْتَوْا فِيهَا بِالْوُجُوبِ وَقَدْ يُجْمَعُ بِحَمْلِ الْأَوَّلِ عَلَى عَلَامَةٍ قَدْ يَتَّفِقُ وُجُودهَا فِي غَيْرِ رَمَضَانَ وَالثَّانِي عَلَى عَلَامَةٍ اطَّرَدَ وُجُودُهَا فِي أَوَّلِهِ دُونَ غَيْرِهِ.
(وَسُئِلَ) فَسَّحَ اللَّهُ فِي مُدَّتِهِ بِمَا صُورَتُهُ التَّقْطِيرُ فِي بَاطِن الْإِحْلِيلِ مُفْطِرٌ وَهُوَ إمَّا مَخْرَجُ الْبَوْلِ كَمَا فِي الصِّحَاحِ أَوْ مَجْرَاهُ كَمَا فِي الْمَجْمُوعِ وَإِمَّا رَأْسُ الذَّكَرِ كَمَا فِي لُغَاتِ الرَّوْضَةِ وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّ مَا يَبْدُو مِنْهُ عِنْد تَحْرِيكِ طَرَفه يُفْطِر بِوُصُولِ الْعَيْن إلَيْهِ وَفِيهِ مَشَقَّةٌ سِيَّمَا عَلَى الْمُسْتَجْمِرِ فَإِنَّهُ لَا يَكَاد يُحْتَرَزُ مِنْهُ وَأَيْضًا الْغَالِبُ عِنْد الِاسْتِنْجَاءِ انْفِتَاحه وَوُصُولُ الْمَاءِ إلَيْهِ فَمَا الْحُكْمُ فِيهِ وَهَلْ هُوَ كَمَا قَالَهُ السُّبْكِيّ فِي حَلْقَةِ الدُّبُرِ؟
(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ أَوْلَى تَفَاسِيره الْمَذْكُورَةِ مَا فِي الْمَجْمُوعِ فَهُوَ مِنْ الْمَثَانَةِ إلَى رَأْسِهِ وَالْمُفْطِرُ إنَّمَا هُوَ وُصُولُ الْعَيْنِ لِبَاطِنِهِ وَذِكْرُ الْبَاطِنِ مَعَ قَوْلِهِمْ إنَّهُ مَجْرَى الْبَوْلِ يُومِئُ إلَى أَنَّ الْمَجْرَى الْمَذْكُورَ فِي السُّؤَالِ ظَاهِرٌ فَلَا يَضُرّ وُصُولُ شَيْءٍ إلَيْهِ فَهُوَ كَمَا يَبْدُو مِنْ فَرْجِ الْمَرْأَةِ عِنْد قُعُودِهَا وَكَمَا ذَكَره السُّبْكِيّ فِي حَلْقَةِ الدُّبُرِ عَنْ الْقَاضِي وَمُلَخَّص عِبَارَتِهِ يَنْبَغِي لِلصَّائِمِ حِفْظُ أُصْبُعِهِ حَالَ الِاسْتِنْجَاء مِنْ مُسَرِّبَتِهِ فَإِنَّهُ لَوْ دَخَلَ فِيهِ أَدْنَى شَيْءٍ مِنْ رَأْسِ أُنْمُلَتِهِ بَطُلَ صَوْمُهُ قَالَ السُّبْكِيّ وَهُوَ ظَاهِرٌ إنْ وَصَلَ لِلْمَكَانِ الْمُجَوَّفِ أَمَّا أَوَّل الْمُسَرِّبَةِ الْمُنْطَبِقِ فَإِنَّهُ لَا يُسَمَّى جَوْفًا فَلَا فِطْرَ بِالْوُصُولِ إلَيْهِ اهـ وَهُوَ بَيَانٌ لِمُرَادِ الْقَاضِي لَا تَضْعِيفٌ لَهُ وَمَا ذَكَره السَّائِلُ أَوْلَى بِأَنْ لَا يُسَمَّى جَوْفًا مِمَّا ذَكَره السُّبْكِيّ.
(وَسُئِلَ) رضي الله عنه عَنْ عَبْدٍ لَزِمَهُ قَضَاءُ رَمَضَانَ فَأَخَّرَهُ بِلَا عُذْرٍ إلَى مَا بَعْدَ رَمَضَان آخَر فَهَلْ تَلْزَمهُ فِدْيَةٌ وَمَا هِيَ؟
(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ الْأَوْجَهُ أَخْذًا مِنْ كَلَامِ الرَّافِعِيِّ فِي نَظِيرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ لَا فَدِيَةَ عَلَيْهِ لِأَنَّهَا فِدْيَةٌ مَالِيَّةٌ وَهُوَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا فَإِنْ عَتَقَ فَهَلْ تَجِبُ عَلَيْهِ كَالْهَرِمِ إذَا عَجَزَ وَقُلْنَا تَلْزَمهُ وَكَانَ مُعْسِرَا فَأَيْسَر أَوْ لَا وَفَارَقَ الْهَرِمَ الْمَذْكُورَ بِأَنَّهُ كَانَ مُخَاطَبًا بِالْفِدْيَةِ حَالَ إفْطَارِهِ بِخِلَافِ الْعَبْدِ الْأَوْجَه الثَّانِي.
(وَسُئِلَ) رضي الله عنه عَنْ امْرَأَةٍ صَائِمَةٍ تَبَخَّرَتْ فَدَخَلَ دُخَانُ الْبَخُورِ فَرْجَهَا فَهَلْ تُفْطِرُ سَوَاءً قُلْنَا الْمُنْفَصِلُ عَيْنٌ أَوْ أَثَرٌ؟
(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ صَرَّحُوا بِأَنَّهُ لَوْ فَتَحَ فَاهُ عَمْدًا حَتَّى دَخَلَ الْغُبَارُ لَمْ يُفْطِر وَدُخَانُ الْبَخُورِ أَوْلَى مِنْ ذَلِكَ إنْ لَمْ يَكُنْ مِثْلُهُ.
(وَسُئِلَ) رضي الله عنه بِمَا صُورَته احْتَوَى صَائِمٌ عَلَى مِجْمَرَةٍ وَفَتَحَ فَاهُ قَصْدًا حَتَّى دَخَلَ الدُّخَانُ إلَى جَوْفِهِ فَهَلْ يُفْطِرُ أَوْ لَا فَإِنْ قُلْتُمْ نَعَمْ فَمَا الْفَرْقُ بَيْن هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَمَسْأَلَة
مَا إذَا فَتَحَ فَاهُ لِغُبَارِ الطَّرِيقِ وَنَحْوِهِ؟
(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ الْمُفْطِرُ هُوَ وُصُولُ الْعَيْنِ بِشَرْطِهِ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ قَالُوا وَاحْتَرَزْنَا بِهِ عَنْ وُصُولِ الْأَثَرِ كَوُصُولِ الرِّيحِ أَوْ الرَّائِحَةِ بِالشَّمِّ إلَى دِمَاغِهِ وَوُصُولِ الطَّعْمِ بِالذَّوْقِ إلَى حَلْقِهِ وَقَدْ صَرَّحَ فِي الْمَجْمُوعِ وَتَبِعَهُ صَاحِبُ الْجَوَاهِرِ وَغَيْرُهُ بِأَنَّهُ لَا أَثَرَ لِتَغَيُّرٍ بِطَعْمِ الرِّيقِ أَوْ رِيحِهِ بِالْعَلْكِ وَعَلَّلَهُ بِأَنَّ ذَلِكَ لِمُجَاوَرَةِ الرِّيقِ لَهُ وَهَذَا كُلَّهُ كَمَا تَرَى كَالصَّرِيحِ فِي أَنَّهُ لَا يَضُرُّ وُصُولُ الدُّخَانِ، وَإِنْ تَعَمَّدَهُ وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا صَرَّحَ بِهِ ابْنُ الرِّفْعَةِ وَابْنُ النَّقِيبِ مِنْ أَنَّ الْأَصَحَّ أَنَّهُ لَوْ فَتَحَ فَاهُ لِنَحْوِ غُبَارِ الطَّرِيقِ قَصْدًا لَمْ يُفْطِر وَكَذَا النَّشَائِيُّ فِي الْمُنْتَقَى حَيْثُ قَالَ فَإِنْ تَعَمَّدَ فَتْحَهُ لِلْغُبَارِ فَالْأَصَحُّ فِي التَّهْذِيبِ الْعَفْوُ وَكَلَامُ الشَّيْخَيْنِ دَالٌّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا فَمَا وَقَعَ فِي الْعُبَابِ مِمَّا يُخَالِفُ ذَلِكَ أَخْذًا مِنْ كَلَامِ الْخَادِمِ ضَعِيفٌ أَوْ مُؤَوَّلٌ كَمَا بَسَطْته فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى أَنَّ الدُّخَانَ مِنْ أَفْرَادِ الْغُبَارِ فَقَدْ صَرَّحَ الْإِمَامُ بِأَنَّهُ أَجْزَاءٌ مِنْ رَمَادِ الْمُحْتَرِقِ يَتَصَاعَدُ مِنْهُ بِوَاسِطَةِ النَّارِ وَهَذَا بِنَاءٌ عَلَى نَجَاسَةٍ دُخَانِ النَّجَاسَةِ وَالْقَائِلُ بِعَدَمِ نَجَاسَتِهِ لَا يَجْعَلُهُ مُنْفَصِلًا مِنْ الْجُرْم وَإِنَّمَا يَقُولُ إنَّهُ شَيْءٌ يُخْلَقُ عِنْد الْتِقَاءِ النَّارِ وَنَحْوِ الْحَطَبِ.
فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ إمَّا غُبَارٌ أَوْ لَيْسَ بِغُبَارٍ وَكُلُّ مِنْهُمَا لَا يُفْطِرُ، وَأَمَّا أَخْذُ الرِّيمِيِّ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْمَاءَ الْمُبَخَّرُ إنْ تَغَيَّرَ رِيحُهُ بِالْبَخُورِ لَمْ يَضُرَّ أَوْ طَعْمُهُ وَلَوْنُهُ ضَرَّ فَمَبْنِيٌّ عَلَى ضَعِيفٍ وَالْمُعْتَمَدُ أَنَّهُ لَا يَضُرُّ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّا إنْ جَعَلْنَاهُ عَيْنًا كَانَ مُجَاوِرًا وَهُوَ لَا يَضُرُّ مُطْلَقًا أَوْ لَيْسَ بِعَيْنٍ كَانَ التَّغَيُّرُ بِهِ تَرَوُّحًا وَهُوَ لَا يَضُرُّ كَذَلِكَ.
(وَسُئِلَ) نَفَعَ اللَّهُ بِهِ عَمَّا فِي الْخَادِمِ فِيمَنْ ابْتَلَعَ خَيْطًا وَبَقِيَ طَرْفُهُ خَارِجًا ثُمَّ أَصْبَحَ صَائِمًا فَإِنْ نَزَعَهُ أَفْطَرَ، وَإِنْ تَرَكَهُ لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ قَالَ فَطَرِيقه أَنْ يُجْبِرهُ الْحَاكِمُ عَلَى نَزْعِهِ وَلَا يُفْطِرُ لِأَنَّهُ كَالْمُكْرَهِ قَالَ بَلْ لَوْ قِيلَ لَا يُفْطِر بِالنَّزْعِ بِاخْتِيَارِهِ لَمْ يَبْعُد تَنْزِيلًا لِإِيجَابِ الشَّرْع مَنْزِلَة الْإِكْرَاهِ كَمَا لَوْ حَلَفَ أَنْ يَطَأَ هَذِهِ اللَّيْلَةَ فَوَجَدَهَا حَائِضًا لَا يَحْنَث هَلْ مَا ذَكَره الزَّرْكَشِيُّ آخِرًا صَحِيحٌ أَمْ لَا؟
(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ مَا ذَكَره مُنَافٍ لِكَلَامِهِمْ وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِيمَا قَاسَ عَلَيْهِ لِإِمْكَانِ الْفَرْقِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَدَارَ فِي الْأَيْمَانِ وَالتَّعَالِيقِ عَلَى الْعُرْفِ الْمُطَّرِدِ حَيْثُ لَا لُغَةَ مُطَّرِدَةٌ فَالْحَالِفُ عَلَى الْوَطْءِ تَشْمَلُ يَمِينُهُ حَالَة الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ وَهَذَا مُقْتَضَى اللُّغَةِ لَكِنَّ الْعُرْفَ الْمُطَّرِدَ اقْتَضَى خُرُوجَ حَالَةِ الْحَيْضِ مِنْ الْيَمِينِ فَحَيْثُ تُرِك لِأَجْلِهِ لَا يَحْنَثُ عَمَلًا بِذَلِكَ وَلِعُذْرِهِ بِمَنْعِ الشَّارِعِ لَهُ، وَأَمَّا فِي مَسْأَلَتِنَا فَتَعَارَضَ فِيهَا وَاجِبَانِ مُرَاعَاةُ الصَّوْمِ وَهِيَ تَقْتَضِي الْبَقَاءَ وَمُرَاعَاةُ الصَّلَاةِ وَهِيَ تَقْتَضِي النَّزْعَ. فَحَيْثُ رَاعَى الصَّلَاةَ فَقَدْ اخْتَارَ إبْطَالَ صَوْمِهِ، وَإِنْ كَانَتْ تِلْكَ الْمُرَاعَاةِ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ فَبَطَل صَوْمُهُ إذْ لَا مَدْخَلَ لِلْعُرْفِ فِيهِ وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ مَا لَوْ طَرَأَ لَهُ مَرَضٌ وَخَافَ مِنْ الْهَلَاكِ لَوْ لَمْ يُفْطِر فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ تَعَاطِي الْمُفْطِرِ وَيُفْطِرُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ.
(وَسُئِلَ) فَسَّحَ اللَّهُ فِي مُدَّتِهِ عَمَّنْ نَوَى صَوْمَ يَوْمِ عَرَفَة مَعَ فَرْضٍ أَوْ كَانَ نَحْوُ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ وَنَوَى صَوْمَهُ عَنْ عَرَفَة وَكَوْنه يَوْمَ الِاثْنَيْنِ فَهَلْ تَحْصُل لَهُ سُنَّةُ صَوْمِهِ؟
(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ الَّذِي يَقْتَضِيه كَلَامُهُمْ أَنَّ الْقَصْدَ إشْغَالُ ذَلِكَ الزَّمَانِ بِصَوْمٍ كَمَا أَنَّ الْقَصْدَ بِالتَّحِيَّةِ إشْغَال الْبُقْعَةِ بِصَلَاةٍ وَحِينَئِذٍ فَإِنْ نَوَاهُمَا حَصَلَا أَوْ نَوَى أَحَدَهُمَا سَقَطَ طَلَبُ الْآخَرِ وَلَا يَحْصُلُ ثَوَابُهُ وَفَارَقَ غُسْلَ الْجُمُعَةِ وَالْجَنَابَةِ بِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مَقْصُودُ وَأَيْضًا فَلَيْسَ الْقَصْدُ مِنْ غُسْلِ الْجُمُعَة النَّظَافَةُ فَقَطْ بِدَلِيلِ التَّيَمُّمِ لَهُ فَإِنْ قُلْت مُقْتَضَى حُصُول سُنَّةِ غُسْلِ الْجُمُعَةِ بِغُسْلِ الْعِيد إذَا اتَّحَدَ يَوْمُهُمَا أَنْ يُقَال بِمِثْلِهِ هُنَا قُلْت نَعَمْ وَقَدْ مَرَّ لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُمْ بِحُصُولِ مَا لَمْ يَنْوِ مِنْهُمَا سُقُوطَ الطَّلَبِ بِفِعْلِهِ لَا حُصُولَ ثَوَابِهِ كَمَا قَرَّرْنَاهُ.
(وَسُئِلَ) نَفَعَ اللَّهُ بِهِ بِمَا لَفْظُهُ لَوْ شَهِدَ بِرُؤْيَةِ هِلَالِ رَمَضَان عَبِيدٌ أَوْ نِسَاءٌ أَوْ فَسَقَةٌ وَظَنَّ صِدْقَهُمْ كَانَ ذَلِكَ الْيَوْمُ يَوْمَ الشَّكِّ فَيَحْرُم صَوْمُهُ إلَّا لِسَبَبٍ وَهَذَا يُنَافِيه قَوْلُ الْبَغَوِيِّ وَغَيْره لَوْ اعْتَقَدَ صِدْقَ مَنْ قَالَ أَنَّهُ رَآهُ مِمَّنْ ذَكَر صَحَّ صَوْمُهُ بَلْ وَجَبَ عَلَيْهِ وَيُنَافِيه أَيْضًا مَا قَالُوهُ مِنْ صِحَّة نِيَّةِ مُعْتَقِدِ ذَلِكَ وَوُقُوعُ الصَّوْمِ عَنْ رَمَضَان إذَا تَبَيَّنَ كَوْنُهُ مِنْهُ فَمَا الْجَمْعُ بَيْن هَذِهِ الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ؟
(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ قَالَ شَيْخُنَا فِي شَرْحِ الرَّوْضِ إنَّ بَعْضَهُمْ زَعَمَ عَدَم التَّنَافِي وَأَنَّهُ أُجِيب عَمَّا زَعَمَهُ أَيْضًا بِأَجْوِبَةٍ أُخْرَى فِيهَا نَظَرٌ وَأَنَّهُ ذَكَرَ بَعْضَهَا فِي شَرْحِ الْبَهْجَةِ وَلَمْ أَرَ شَيْئًا مِنْهَا وَاَلَّذِي يَظْهَرُ فِي الْجَوَابِ
عَنْ ذَلِكَ أَنَّهُ يُكْتَفَى فِي كَوْنِ الْيَوْمِ يَوْمَ شَكٍّ أَنْ يَكُونَ الَّذِينَ شَهِدُوا مِنْ نَحْوِ النِّسَاءِ يُظَنُّ صِدْقَهُمْ أَيْ مِنْ شَأْنِهِمْ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلَى ظَانٍّ بِخُصُوصِهِ فَحَيْثُ كَانُوا كَذَلِكَ صَارَ الْيَوْمُ يَوْمَ شَكٍّ بِالنِّسْبَةِ إلَى عُمُومِ النَّاسِ ثُمَّ يُنْظَرُ إلَى كُلِّ فَرْد فَرْد بِالْخُصُوصِ فَمَنْ اعْتَقَدَ الصِّدْقَ وَجَبَ عَلَيْهِ الصَّوْمُ وَمَنْ لَا حَرُمَ عَلَيْهِ وَلِأَجْلِ هَذَا الَّذِي ذَكَرْتُهُ لَمْ يَكْتَفِ بِصَبِيٍّ وَلَا امْرَأَةٍ وَلَا فَاسِقٍ وَحْدَهُ بَلْ اشْتَرَطَ الْجَمْعَ مِنْ كُلٍّ لِيَصِيرَ ذَلِكَ آكَد فِي ظَنِّ الصِّدْقِ وَاحْتِيَاطًا لِلتَّحْرِيمِ.
، وَأَمَّا مَا مَرَّ عَنْ الْبَغَوِيِّ فَشَرْطُهُ أَنْ يَقَعَ الظَّنُّ مِنْ ظَانٍّ بِعَيْنِهِ حَتَّى يُخَاطَبَ بِالْوُجُوبِ فَإِذَا أَخْبَرَهُ مَوْثُوقٌ بِهِ مِمَّنْ ذَكَر وَاعْتَقَدَ صِدْقَهُ وَجَبَ عَلَيْهِ صَوْمُهُ فَإِمَّا أَنْ يُفَرَّقَ بِمَا ذَكَر وَإِمَّا أَنْ يُفَرَّقَ بِأَنَّ شَرْطَ الْوُجُوبِ الِاعْتِقَادُ وَهُوَ أَقْوَى مِنْ الظَّنِّ وَلِذَا اُكْتُفِيَ فِي الْوُجُوبِ بِوَاحِدٍ عَلَى مَا أَفْهَمَهُ إطْلَاقُ الْبَغَوِيِّ وَغَيْره لِوُجُودِ الِاعْتِقَادِ الْأَقْوَى وَلَمْ يَكْتَفِ فِي التَّحْرِيمِ إلَّا بِجَمْعٍ لِيَتَقَوَّى بِهِمْ الظَّنُّ الْأَضْعَفُ وَلَا بِدْعَ أَنْ يَكُونَ الْيَوْمُ يَوْمَ شَكٍّ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْعُمُومِ وَيَكُونَ بِالنِّسْبَةِ إلَى خُصُوصِ بَعْضِ النَّاسِ يَجِبُ صَوْمُهُ وَلَا يُنَافِي هَذَيْنِ صِحَّةُ نِيَّةِ مُعْتَقِدِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الصِّحَّةَ لَا تُنَافِي الْوُجُوبَ وَأَيْضًا فَإِذَا نَوَى بَعْد أَنْ أَخْبَرَهُ وَاحِدٌ مِمَّنْ ذُكِرَ وَظُنَّ صِدْقُهُ صَحَّتْ نِيَّتُهُ ثُمَّ يَنْظُرُ فَإِنْ تَبَيَّنَ كَوْنُهُ مِنْ رَمَضَانَ قَبْلَ الْفَجْرِ لَمْ يَجِب اسْتِئْنَافُ النِّيَّةِ وَإِلَّا حَرُمَ الْإِمْسَاكُ لِكَوْنِ الْيَوْمِ يَوْمَ شَكٍّ.
(وَسُئِلَ) فَسَّحَ اللَّهُ فِي مُدَّتَهُ بِمَا لَفْظُهُ يَحْرُم الصَّوْمُ بَعْد نِصْفِ شَعْبَانَ إنْ لَمْ يَعْتَدْهُ أَوْ يَصِلُهُ بِمَا قَبْلَهُ مَا ضَابِطُ الْعَادَةِ هُنَا وَيَوْم الشَّكّ؟
(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ الَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ يُكْتَفَى فِي الْعَادَةِ بِمَرَّةٍ إنْ لَمْ يَتَخَلَّل فِطْر مِثْل ذَلِكَ الْيَوْمَ الَّذِي اعْتَادَهُ فَإِذَا اعْتَادَ صَوْمَ الِاثْنَيْنِ فِي أَكْثَرِ أَسَابِيعِهِ جَازَ لَهُ صَوْمُهُ بَعْد النِّصْفِ وَيَوْم الشَّكِّ، وَإِنْ كَانَ أَفْطَرَهُ قَبْلَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ هَذَا يَصْدُق عَلَيْهِ عُرْفًا أَنَّهُ مُعْتَاده، وَإِنْ تَخَلَّلَ بَيْن عَادَتِهِ وَصَوْمِهِ بَعْد النِّصْفِ فَطَرَهُ، وَأَمَّا إذَا اعْتَادَهُ مَرَّةً قَبْلَ النِّصْفِ ثُمَّ أَفْطَرَهُ مِنْ الْأُسْبُوعِ الَّذِي بَعْدَهُ ثُمَّ دَخَلَ النِّصْفُ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ صَوْمُهُ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ حِينَئِذٍ بَطُلَتْ بِفِطْرِ الْيَوْمِ الثَّانِي بِخِلَافِ مَا إذَا صَامَ الِاثْنَيْنِ الَّذِي قَبْلَ النِّصْفِ ثُمَّ دَخَلَ النِّصْفُ مِنْ غَيْرِ تَخَلُّلِ يَوْمِ اثْنَيْنِ آخَرَ بَيْنَهُمَا فَإِنَّهُ يَجُوزُ صَوْمُ الِاثْنَيْنِ الْوَاقِعِ بَعْدَ النِّصْفِ؛ لِأَنَّهُ اعْتَادَهُ وَلَمْ يَتَخَلَّل مَا يُبْطِلُ الْعَادَةَ فَإِذَا صَامَهُ ثُمَّ أَفْطَرَهُ مِنْ أُسْبُوعٍ ثَانٍ ثُمَّ صَادَفَ الِاثْنَيْنِ الثَّالِثُ يَوْمَ الشَّكِّ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَجُوز لَهُ صَوْمُهُ وَلَا يَضُرُّ حِينَئِذٍ تَخَلُّلُ فِطْرِهِ؛ لِأَنَّهُ سَبَقَ لَهُ صَوْمُهُ بَعْد النِّصْفِ وَذَلِكَ كَافٍ. هَذَا مَا ظَهَرَ الْآن وَلَعَلَّنَا نَزْدَادُ فِيهِ عِلْمًا أَوْ نَشْهَدُ نَقْلًا.
(وَسُئِلَ) نَفَعَ اللَّهُ بِهِ بِمَا صُورَتُهُ عَبَّرَ فِي الْمَجْمُوعِ بِأَنَّ الْوِصَالَ أَنْ يَصُومَ يَوْمَيْنِ فَأَكْثَر وَلَا يَتَنَاوَلُ بِاللَّيْلِ مَطْعُومًا عَمْدًا بِلَا عُذْرٍ وَقَضِيَّتُهُ أَنَّ نَحْوَ الْجِمَاعِ لَا يَمْنَعُ الْوِصَالَ فَإِنَّ الْمَأْمُورَ بِالْإِمْسَاكِ كَتَارِكِ النِّيَّةِ لَا يَكُونُ امْتِنَاعُهُ لَيْلًا مِنْ تَعَاطِي الْمُفْطِرِ وِصَالًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ يَوْمَيْنِ فَهَلْ هُوَ كَذَلِكَ؟
(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ أَمَّا الْقَضِيَّةُ الْأُولَى فَاعْتَمَدَهَا الْإِسْنَوِيُّ قَالَ؛ لِأَنَّ تَحْرِيمَ الْوِصَالِ لِلضَّعْفِ أَيْ عَنْ الصِّيَامِ وَالصَّلَاةِ وَسَائِرِ الطَّاعَاتِ وَتَرْكِ الْجِمَاعِ وَنَحْوِهِ لَا يَضْعُف بَلْ يَقْوَى لَكِنَّ فِي الْبَحْرِ هُوَ أَنْ يَسْتَدِيمَ جَمِيعَ أَوْصَافِ الصَّائِمِينَ وَذَكَر الْجُرْجَانِيُّ وَابْنُ الصَّلَاحِ نَحْوَهُ، وَأَمَّا الْقَضِيَّةُ الثَّانِيَةُ فَلَمْ يَعْتَمِدهَا بَلْ أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ التَّعْبِيرَ بِصَوْمِ يَوْمَيْنِ جَرَى عَلَى الْغَالِبِ وَلَك أَنْ تَقُولَ الْعِلَّةُ فِي النَّهْيِ عَنْ الْوِصَالِ يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ مَا ذُكِرَ مِنْ الضَّعْفِ وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ عَنْهُ لِلزَّجْرِ عَنْ التَّشْبِيهِ بِخُصُوصِيَّاتِهِ صلى الله عليه وسلم وَاعْتِقَاد أَنَّ لَهُ مِنْ الْقُوَّةِ عَلَى الصَّبْرِ عَلَى الطَّعَامِ مَا كَانَ لَهُ صلى الله عليه وسلم وَهَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ إذْ التَّعْلِيلُ بِالضَّعْفِ الْمَذْكُورِ يُنْتَقَضُ بِأَنْ يَخْرُجَ رِيقُهُ ثُمَّ يَبْتَلِعهُ أَوْ بِأَنْ ابْتَلَعَ حَصَاةً أَوْ سِمْسِمَةً فَإِنَّ الْوِصَالَ يَنْتَفِي بِذَلِكَ مَعَ وُجُودِ الضَّعْفِ فَالْأَوْجَهُ التَّعْلِيلُ بِمَا ذَكَرْتُهُ وَعَلَيْهِ فَالْوَجْه مَا اقْتَضَاهُ كَلَامُ الْبَحْرِ مِنْ أَنَّهُ اسْتِدَامَةُ جَمِيعِ أَوْصَافِ الصَّائِمِينَ. وَتَعْبِيرُ الْمَجْمُوعِ بِالْمَطْعُومِ جَرَى عَلَى الْغَالِبِ وَالْأَوْجَهُ أَيْضًا أَنَّ نَحْوَ تَارِك النِّيَّة لَا يَكُونُ امْتِنَاعُهُ لَيْلًا مِنْ تَعَاطِي الْمُفْطِر وِصَالًا لِأَنَّهُ لَا تَشْبِيهَ فِيهِ حِينَئِذٍ، وَإِنْ وُجِدَ فِيهِ الضَّعْفُ الْمَذْكُور.
(وَسُئِلَ) فَسَّحَ اللَّهُ فِي مُدَّتِهِ عَنْ صَوْمِ كُلِّ شَعْبَانَ أَوْ أَكْثَرَهُ هَلْ هُوَ مَكْرُوهٌ أَمْ سُنَّةٌ
لِمَا وَرَدَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ صَامَ أَكْثَرَهُ وَالْأَكْثَرِيَّة تَحْصُلُ بِزِيَادَةِ يَوْمٍ عَلَى النِّصْفِ أَمْ لَا؟
(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ صَوْمُ كُلِّهِ سُنَّةٌ وَكَذَا صَوْمُ أَكْثَرِهِ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَقَعَ مِنْهُ صَوْمٌ بَعْدَ النِّصْفِ غَيْر مُتَّصِلٍ بِيَوْمِهِ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ بَعْدَ نِصْفِ شَعْبَانَ إذَا لَمْ يَتَّصِل بِيَوْمِ النِّصْفِ وَلَا وَافَقَ عَادَةً لَهُ أَوْ نَحْوِ نَذْرٍ أَوْ قَضَاءٍ حَرَامٌ كَمَا قَالَهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ وَوَرَدَ فِيهِ حَدِيثٌ صَحِيحٌ وَيَحْصُلُ أَصْلُ الْأَكْثَرِيَّةِ بِزِيَادَةِ صَوْمِ يَوْمٍ عَلَى النِّصْفِ.
(وَسُئِلَ) فَسَّحَ اللَّهُ فِي مُدَّته عَنْ الصَّائِمِ إذَا بَقِيَ بَيْنَ أَسْنَانِهِ طَعَامٌ وَعَجَزَ عَنْ تَمْيِيزه وَمَجِّهِ وَجَرَى بِهِ رِيقُهُ إلَى بَاطِنِهِ وَقُلْتُمْ لَا يَبْطُلُ صَوْمُهُ فَهَلْ ذَلِكَ مُطْلَقًا سَوَاءٌ جَرَى بِهِ نَاسِيًا أَوْ عَالِمًا فَإِنْ قُلْتُمْ نَعَمْ فَذَاكَ، وَإِنْ قُلْتُمْ عَدَم الْبُطْلَان مُخْتَصٌّ بِحَالَةِ النِّسْيَانِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ فَرْقٌ بَيْن قُدْرَتِهِ عَلَى تَمْيِيزِهِ وَعَدَمِهَا إلَّا إذَا قُلْتُمْ إنَّهُ إذَا قَدَرَ عَلَى تَمْيِيزه وَمَجِّهِ وَلَمْ يَمُجَّهُ وَجَرَى بِهِ رِيقُهُ إلَى بَاطِنِهِ أَوْ وُضِعَ فِي فِيهِ مَاءٌ عَبَثًا أَوْ لِسُكُونِ الْعَطَشِ فَسَبَقَ مِنْهُ شَيْءٌ إلَى بَاطِنِهِ أَنَّهُ يُفْطِرُ وَلَوْ كَانَ نَاسِيًا وَهُوَ غَيْر ظَاهِرٌ وَقَدْ يُقَال إنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ دَاخِلَةٌ فِي قَوْلِهِمْ إنَّ الصَّائِمَ لَا يُفْطِرُ بِالْأَكْلِ وَنَحْوِهِ نَاسِيًا وَأَيْضًا هَلْ الْمُرَادُ تَمْيِيزه مِنْ بَيْنِ أَسْنَانِهِ أَوْ تَمْيِيز مَا جَرَى مَعَ الرِّيقِ؟
(فَأَجَابَ) بِأَنَّهُ إذَا بَقِيَ بَيْن أَسْنَانِ الصَّائِمِ طَعَامٌ جَرَى بِهِ رِيقُهُ وَعَجَزَ عَنْ تَمْيِيزه وَمَجِّهِ لَمْ يُفْطِر بِابْتِلَاعِ رِيقِهِ الْمَخْلُوطِ بِهِ، وَإِنْ تَعَمَّدَ ابْتِلَاعَهُ لِعُذْرِهِ وَلَوْ كَلَّفْنَاهُ عَدَمَ بَلْعِ رِيقِهِ لَشَقَّ فَسُومِحَ لَهُ فِي ذَلِكَ وَلَوْ سَبَقَ مَاءٌ إلَى جَوْفِهِ مِنْ غَسْلِ تَبَرُّد أَوْ لِكَوْنِهِ جَعَلَهُ فِي فَمِهِ أَوْ أَنْفِهِ لَا لِغَرَضٍ أَفْطَرَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ مُقَصِّرٌ بِذَلِكَ نَعَمْ لَوْ وَضَعَ شَيْئًا فِي فِيهِ عَامِدًا وَابْتَلَعَهُ نَاسِيًا لَمْ يُفْطِر كَمَا فِي الْأَنْوَارِ وَغَيْرِهِ وَالْمُرَادُ تَمْيِيزُ الطَّعَامِ السَّابِقِ مِنْ بَيْنَ أَسْنَانِهِ فَمَتَى أَمْكَنَهُ تَمْيِيزُهُ مِنْ بَيْنِهَا فَلَمْ يَفْعَلْ وَابْتَلَعَ رِيقَهُ الْمَخْلُوطَ بِهِ أَفْطَرَ وَكَذَا لَوْ خَرَجَ مِنْ بَيْنِ أَسْنَانِهِ إلَى فَضَاءِ فَمِهِ فَابْتَلَعَ شَيْئًا مِنْهُ مَعَ رِيقِهِ أَوْ وَحْدَهُ لِتَقْصِيرِهِ وَبِمَا تَقَرَّرَ يُعْلَمُ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِ السَّائِلِ وَهُوَ غَيْرُ ظَاهِرٍ، وَقَوْلِهِ وَأَيْضًا هَلْ الْمُرَاد إلَخْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(وَسُئِلَ) زَكَّى اللَّه أَعْمَالَهُ فِي الْكِتَابَةِ عَلَى تَصْنِيف لِبَعْضِ أَهْلِ زَبِيدٍ فِي مَسْأَلَةٍ وَقَعَ فِيهَا اخْتِلَافٌ طَوِيلٌ بَيْن مُفْتِيهمْ وَكِتَابَات مُتَعَدِّدَة مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَحَاصِلُهَا أَنَّ مَنْ أَخْبَرَهُ يَوْمَ ثَلَاثِينَ رَمَضَانَ عَدْلَانِ بِالْهِلَالِ وَاعْتَقَدَ صِدْقَهُمَا هَلْ يَجُوزُ لَهُ الْفِطْرُ فَقَالَ جَمَاعَةٌ يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ سِرًّا وَيُخْفِيه لِئَلَّا يَتَعَرَّضَ لِعُقُوبَتِهِ الْحَاكِمُ كَمَا لَوْ انْفَرَدَ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ. وَمِنْ هَؤُلَاءِ مُؤَلِّف الْكِتَابِ الْمَذْكُور وَشَيْخُهُ وَغَيْرهمَا وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِأُمُورٍ كَثِيرَةٍ وَقَالَ آخَرُونَ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ لَا ظَاهِرًا وَلَا بَاطِنًا وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بَعْضُهُمْ بِمَا زَعَمَ أَنَّهُ ظَاهِرُ نَصٍّ فِي الْأُمِّ وَلَيْسَ كَمَا زَعَمَ وَمِمَّنْ كَتَبَ لَكِنْ بِاخْتِصَارٍ عَلَى التَّأْلِيفِ الْمَذْكُورِ شَيْخُ مُؤَلِّفِهِ وَغَيْرُهُ فَلَمَّا سَأَلَ شَيْخَنَا فَسَّحَ اللَّهُ فِي مُدَّتَهُ فِي ذَلِكَ؟
(أَجَابَ) بِقَوْلِهِ حَمْدًا لَك اللَّهُمَّ مُشْرِقَ شُمُوسِ الْآرَاءِ السَّدِيدَةِ بِسَمَاءِ الْأَفْكَارِ السَّعِيدَةِ وَمُغْدِقَ أَنْهَارِ الْإِجَادَةِ بِأَنْوَاءِ الْإِفَادَةِ أَنْ نَصَّبْت عَلَى كَوَاهِلِ الْفَضَائِلِ أَعْلَامَ أَهْلِ الْحَقِّ وَرَفَعْت بِأَيْدِي الْمَحَامِدِ أَلْوِيَةَ الثَّنَاءِ عَلَى مَنْ هُوَ بِهِمْ أَلْصَقُ حَمْدًا يَسْتَمْرِئُ أَخْلَاقَ التَّحْقِيقِ بِمَزِيدِهِ وَيَسْتَغْرِقُ أَفْرَاد الْإِبَانَةِ لِعَبِيدِهِ وَصَلَاةً وَسَلَامًا عَلَى مَنْ أُرْسِلَ بِالْحُجَّةِ الْقَاطِعَةِ لِغَوَائِلَ الْعِنَادِ وَالْمَحَجَّةِ السَّاطِعَةِ لِلْعِبَادِ وَالشَّرِيعَةِ الْبَيْضَاءِ وَالشِّرْعَةِ الْغَرَّاءِ دَائِمِينَ أَمَدًا سَرْمَدًا وَعَلَى آلِهِ ذَوِي الْجِدِّ السَّعِيدِ وَالسَّعْدِ الْجَدِيدِ وَصَحْبِهِ ذَوِي الْقَدِّ الْحَمِيدِ وَالْحَمْدِ الْعَدِيدِ مَا قَامَ بِنُصْرَةِ الْحَقِّ لِلَّهِ نَاصِرٌ، وَذَبَّ عَنْهُ أَهْلُ الْعِنَاد بِكُلِّ صَارِمٍ بَاتِرٍ. أَمَّا بَعْد فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَتْ أَنْدِيَةُ التَّحْقِيقِ بِأَعْيَانِ الْأَفَاضِلِ لَمْ تَزَلْ حَافِلَةً وَمَغَانِيهَا بِغَوَانِي الْفَضَائِلِ آهِلَةً كَانَ الرُّجُوعُ إلَى الْحَقِّ خَيْرًا مِنْ التَّمَادِي فِي الْبَاطِلِ وَالتَّحَلِّي بِحِلْيَةِ أَهْلِ الصِّدْقِ خَيْرًا مِنْ التَّحَلِّي بِكُلِّ وَصْفٍ زَائِلٍ وَجِدَالٍ لَيْسَ تَحْتَهُ مِنْ طَائِلٍ وَتَفَيْهُقٍ بِمَا لَا يُجْدِي مِنْ التَّلْفِيقَاتِ وَتَمَشْدُقٍ بِمَا لَا يَصِحُّ مِنْ الْعِبَارَاتِ.
فَلِذَلِكَ أَجَبْت مَعَ أَنَّ لِي أَشْغَالًا سِيَّمَا الْآن تَحْجِزنِي عَنْ بُلُوغِ مَغْزَى هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ الَّذِينَ أَوْضَحُوا الْحَقَّ فِي هَذِهِ الْمُدْلَهِمَّة أَعْنِي مُؤَلِّفَ هَذَا الْكِتَابِ الْمُعْلَنِ فِيهِ بِالصَّوَابِ مَنْ تَحَقَّقَ بِالْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ وَنَالَ لَطَائِفَهَا وَتَحَلَّى بِتِيجَانِ الْفُنُونِ الدِّينِيَّةِ وَحَازَ شَرَائِفَهَا وَعَقَدَتْ لَهُ أَلْوِيَةُ التَّحْقِيقِ فَوْقَ الْعُلَا ذَوَائِبَهَا
وَرَفَعَتْ لَهُ مَنَازِلُ الصِّدْقِ فِي سَمَاءِ الْقُرْبِ كَوَاكِبَهَا وَشَيْخُهُ الْمَذْكُور وَاضِحُ الْحُجَّةِ وَالسُّنَنِ وَبَالِغُ الْغَايَةِ الَّتِي لَا تَرْتَقِي فِي هَذَا الزَّمَنِ كَيْفَ وَقَدْ انْكَشَفَتْ لَهُ عُلُومُ الْمُجْتَهِدِينَ حَتَّى أَوْضَحَهَا أَبْلَغَ إيضَاحٍ وَأَحْسَن تَبْيِينٍ حِين اطَّلَعَ عَلَى خَفَايَا مَكَامِنِ مَكْنُونَاتِهَا وَشَاهَدَ مَجَارِيَ الْأَفْكَارِ فِي تَصَارِيفِ إيجَادَاتِهَا وَاخْتَرَعَ الْأَحْكَامَ مِنْ مَعَادِنِهَا وَأَظْهَرَ التَّحْقِيقَات الْكَثِيرَة مِنْ مَكَامِنِهَا، قَدْ ضَرَبَ مَعَ الْأَقْدَمِينَ بِسَهْمٍ وَافِرٍ وَالْغَيْرُ يَضْرِبُ فِي حَدِيدٍ بَارِدٍ وَهُوَ مِنْ بَعْدِهِمَا بَلَّغَهُ اللَّهُ شَأْوَهُمَا وَفَهْمًا يَقْصِرُ عَنْ إدْرَاكِ مَدَاهُمْ وَبُعْدِ مَغْزَاهُمْ إنْ أَظْهَرَ الْحَقَّ الَّذِي أُمِرْنَا بِإِظْهَارِهِ، وَإِنْ أَخْذَلَ الْبَاطِلَ الَّذِي أُمِرْنَا بِخِذْلَانِهِ وَسَدِّ وَعِرِ مِضْمَارِهِ امْتِثَالًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ} [النحل: 116] الْآيَة وَتَذْكِيرًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83] .
فَمِنْ ثَمَّ نَظَرْتُ فِي هَذَا التَّأْلِيفِ الْبَدِيعِ الْكَامِلِ الْمَنِيعِ حَتَّى عَلِمْت أَنَّ مُؤَلِّفَهُ جَزَاهُ اللَّهُ خَيْرًا وَأَذْهَبَ بِهِ وَعَنْهُ ضَيْرًا أَظْهَر فِي مَخْضِهِ زُبْدَة مِنْ قُوَاهُ وَاحْتَاطَ مِنْ ضَبْطِ مَعَاقِده مُحَكِّمًا فِيهَا إيرَادَ مَا عَنْ نَشْرِهِ طَوَاهُ طَالِبًا نَشْرَ ذَلِكَ الطَّيِّ مُتَحَدِّيًا بِهِ مَنْ سِوَاهُ مُحْتَذِيًا عَوَالِي الْهِمَمِ لِاسْتِفْتَاحِ مَا اسْتَغْلَقَهُ فِي صَرِيحِهِ وَفَحْوَاهُ مَعَ إفَادَةِ لَطَائِفَ تَلُوحُ مِنْ ذُرَى ذَوِي التَّحْقِيقِ وَإِشَادَة أَبْحَاث لَا تَصْدُرُ إلَّا عَنْ خُلَفَاءِ التَّوْفِيقِ وَأَنَّ مَا ذَكَره فِيهِ أَشْهَرُ مِنْ الشَّمْسِ فِي رَابِعَةِ النَّهَارِ لَا يَخْفَى إلَّا عَلَى بَعِيدِ الْحِسِّ عَدِيمِ الْإِبْصَارِ مَعَ مَا مَنَحَهُ اللَّهُ بِهِ مِنْ إيضَاحِ الْحَقِّ بِدَلَائِلِهِ الَّتِي لَا يَقْرَعُ هَضْبَتَهَا قَارِعٌ وَلَا يَقْرَعُ بَابَهَا قَارِعٌ إلَّا مَنْ يَنْحُو نَحْوَهُ فِي الصَّوَابِ وَتَجْرِي رَخَاءُ رِيحِهِ فِيهِ حَيْثُ أَصَابَ جَاءَ بِهَا مُسْتَفْتِحًا إفَادَتهَا حَتَّى كَأَنَّهَا صَدَقَةٌ قَدَّمَهَا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاهُ خَالِيَةً عَنْ شَوْبِ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ كَمَا أَشْعَرَ بِهِ فَحْوَاهُ فَاسْتَجِلَّهَا أَوَانَ كَشْفِ الْقِنَاعِ عَنْ صَبَاحَةِ وَجْهِهَا، تَجِدْ فِي نَفْسِك إنْ أَنْصَفْتَ مِنْهَا الْخُضُوعَ لِمُلْقِيهَا وَالْفَضْلَ لِزَارِعِ التَّحْقِيقِ فِيهَا فَحَذَارِ مِنْ تَلَقِّي اللَّوَاحِظِ غُرَّةً فَالسِّحْرُ بَيْنَ جُفُونِهِ مَكْنُونٌ. هَذَا وَلَمَّا اسْتَفْتَيْت عَمَّا فِي هَذَا الْمُؤَلَّفِ بَادَرْتُ بِالْجَوَابِ بِمَا فِيهِ قَبْلَ أَنْ يُحِيطَ فِكْرِي وَنَظَرِي بِقَوَادِمِهِ وَخَوَافِيه وَظَنَنْت أَنَّهُ لَا يُخَالِفُ فِي ذَلِكَ إلَّا خَامِدُ الرَّوِيَّةِ مُقْتَصِرٌ عَلَى الظَّوَاهِرِ لَيْسَ لَهُ تَصْرِيحُ نَظَرٍ فِي الْمَنَازِلِ الْخَفِيَّةِ ثُمَّ بَلَغَنِي أَنَّ بَعْضَ الْمُفْتِينَ خَالَفَ فِي ذَلِكَ فَأَمْعَنْتُ النَّظَرَ فِيمَا هُنَالِكَ، فَلَمْ يَسْمَح إلَّا بِمَا صَمَّمَ عَلَيْهِ أَوَّلًا وَرَأَى أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ عَنْ الْقَوَاعِد مُحَوَّلًا
ثُمَّ نَظَرْت فِي هَذَا التَّأْلِيفِ فَرَأَيْتُهُ جَاءَ بِالْحَقِّ الصُّرَاحِ وَبِالْجِدِّ الْخَالِي عَنْ الْمِزَاحِ فَشَكَرْت إلَى اللَّهِ صُنْعَ مُنَمِّقِهِ وَصِدْقَ مُحَقِّقه فَلَا عَدِمَ الْمُسْلِمُونَ أَمْثَالَهُ وَلَا زَالَتْ الْفُضَلَاء يَتَفَيَّئُونَ ظِلَالَهُ وَلَوْلَا شُغْلُ الْبَالِ لَأَطَلْت فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْمَقَالَ لَكِنْ سَيَمُنُّ اللَّهُ إنْ شَاءَ بِالتَّوْفِيقِ إلَى ذَلِكَ وَإِزَالَةِ وَعْرِ هَذِهِ الْمَسَالِكِ وَدَفْعِ مَا أَوْرَدَ عَلَيْهَا مِنْ شُبَهٍ إذَا تُؤُمِّلَتْ كَانَتْ كَالْهَبَاءِ الْمَنْثُورِ وَمِنْ تَطْوِيلَاتٍ لَا تَرُوجُ إلَّا عَلَى غَمْرٍ مَغْمُورٍ ثُمَّ رَأَيْت مَا يُصَرِّح بِذَلِكَ غَيْر مَا مَرَّ فِي هَذَا التَّصْنِيفِ وَهُوَ مَا يُصَرِّحُ بِهِ كَلَامُ الرَّافِعِيِّ مِنْ أَنَّ الْخِلَافَ الَّذِي فِي الْمُنَجِّمِ يَجْرِي فِي صَوْمِهِ وَفِطْرِهِ وَقَضِيَّةِ تَنْجِيمِهِ.
وَصَحَّحَ النَّوَوِيُّ فِي الْمَجْمُوعِ أَنَّ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ بِذَلِكَ دُون غَيْرِهِ وَمِنْ ثَمَّ صَرَّحَ بَعْضُ مُخْتَصِرِي الرَّوْضَةِ بِذَلِكَ فَقَالَ مَا لَفْظُهُ: وَلَا يَجُوزُ لِغَيْرِهِ أَيْ الْمُنَجِّمِ أَوْ مَنْ عَرَفَ مَنَازِلَ الْقَمَرِ تَقْلِيدُهُ فِي صَوْمٍ أَوْ فِطْرٍ وَهَلْ يَجُوزُ لَهُمَا أَنْ يَعْمَلَا بِهِ؟ وَجْهَانِ قُلْت الْأَصَحُّ نَعَمْ وَلَكِنْ لَا يُجْزِئهُمَا أَيْ الصَّوْمُ عَنْ الْغَرَضِ قَالَهُ فِي الْمَجْمُوعِ اهـ، وَإِذَا جَازَ الْفِطْرُ بِذَلِكَ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ صَالِحًا لَأَنْ يَكُونَ حُجَّةً شَرْعًا وَلَوْ ذُكِرَ لِلْحَاكِمِ لَمْ يَلْتَفِت إلَيْهِ فَلَأَنْ يَجُوزَ بِإِخْبَارِ عَدْلَيْنِ بَلْ أَوْ عَدْلٍ بِالْأَوْلَى؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ حُجَّةً شَرْعًا فِي ذَلِكَ أَوْ نَظِيرِهِ وَمِمَّا يُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا قَالَهُ السُّبْكِيّ وَابْنُهُ الشَّيْخُ تَاجُ الدِّينِ وَالْأَذْرَعِيُّ وَالزَّرْكَشِيُّ وَغَيْرُهُمْ مِنْ فُحُولِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ جَوَازِ الْفِطْرِ آخِرَ النَّهَارِ بِإِخْبَارِ عَدْلٍ مَعَ أَنَّهُ يُمْكِنهُ الْيَقِين مِنْ غَيْرِ مَشَقَّةٍ فَلْيَجُزْ هُنَا بِالْأَوْلَى وَتَحَصَّلَ فَرْقٌ بَيْنهمَا لَا يُجْدِي:
وَمِنْ أَهَمِّهَا الْفَرْقُ بِأَنَّهُمْ سَامَحُوا فِي آخِر النَّهَارِ مَا لَمْ يُسَامِحُوا بِهِ آخِرَ رَمَضَانَ بِدَلِيلِ جَوَازِ الِاجْتِهَادِ ثَمَّ لَا هُنَا وَيُرَدُّ بِأَنَّ الِاجْتِهَادَ إنَّمَا جَازَ ثَمَّ؛ لِأَنَّ عَلَيْهِ عَلَامَةٌ بَلْ عَلَامَاتٌ، وَأَمَّا آخِرُ رَمَضَانَ فَلَا عَلَامَةَ لَهُ فَامْتِنَاعُهُ لَيْسَ
لِكَوْنِهِ آخِرَ رَمَضَانَ بَلْ لِفَقْدِ الْعَلَامَةِ الْمُشْتَرَطَةِ فِي الِاجْتِهَادِ عَلَى أَنَّهُ مَرَّ فِي الْمُنَجِّمِ مَا يَقْتَضِي أَنَّ لَهُ الْعَمَلَ بِاجْتِهَادِهِ آخِرَ رَمَضَانَ أَيْضًا ثُمَّ رَأَيْت مَا يُصَرِّحُ بِمَا ذُكِرَ وَهُوَ مَا أَفْتَى بِهِ الشَّيْخُ الْمُحَقِّقُ الشَّمْسُ الْجَوْجَرِيُّ شَارِحُ الْإِرْشَادِ وَكَاشِفُ الْقِنَاعِ عَنْ مُخَبَّآتِهِ بِمَا لَمْ يُسْبَقْ إلَيْهِ فِيمَا سُئِلَ عَنْهُ وَهُوَ أَنَّهُمْ لَوْ رَأَوْا يَوْمَ ثَلَاثِينَ رَمَضَانَ عِنْد الْفَجْرِ قَنَادِيلَ بَلَدٍ أُخْرَى أَيَجِبُ عَلَيْهِمْ الْفِطْرُ؟
فَأَجَابَ بِقَوْلِهِ إذَا كَثُرْت الْقَنَادِيلُ الَّتِي تُوقَدُ يَوْمَ الْعِيدِ وَحَصَلَ بِرُؤْيَتِهَا الْعِلْمُ وَجَبَ الْفِطْرُ ثُمَّ إنَّمَا يَحْصُلُ الْعِلْمُ بِذَلِكَ إذَا كَثُرْت كَثْرَةً لَا يُحْتَمَلُ مَعَهَا النِّسْيَانُ بِوَجْهٍ، وَالْأَحْوَطُ أَنْ لَا يُفْطِرُوا حَتَّى يُرْسِلُوا مَنْ يَأْتِيهِمْ بِخَبَرِ الْبَلَدِ الَّتِي بِهَا الْقَنَادِيلُ وَكَلَامُهُ مُصَرِّحٌ بِأَنَّ مُرَادَهُ بِالْعِلْمِ غَلَبَةُ الظَّنِّ فَتَأَمَّلَهُ.
وَوَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ الْمُحَقِّقُ ابْنُ قَاضِي عَجْلُونٍ فَقَالَ وَالْقَنَادِيلُ الْمَذْكُورَةُ عَلَامَةٌ مُغَلَّبَةٌ عَلَى الظَّنِّ فَيُعْتَمَدُ فِي الْفِطْرِ عَلَيْهَا إذَا جَرَتْ الْعَادَةُ بِإِيقَادِهَا يَوْمَ فَجْرِ شَوَّال فَيَكُونُ ذَلِكَ الْيَوْم يَوْمَ عِيدٍ فِي حَقِّ مَنْ رَآهَا اهـ، وَأَمَّا إفْتَاءُ شَيْخِنَا خَاتِمَةُ الْمُتَأَخِّرِينَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ زَكَرِيَّا الْأَنْصَارِيُّ سَقَى اللَّهُ عَهْدَهُ صَيِّبَ الرَّحْمَةِ وَالرِّضْوَانِ بِأَنَّهَا لَا تُعْتَمَدُ فَيُحْمَلُ عَلَى مَا إذَا لَمْ تُفِدْ أَوْ لَمْ تَطَّرِدْ بِهَا الْعَادَةُ لِأَنَّهُ لَا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ حِينَئِذٍ أَنَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ يَوْمُ عِيدٍ وَمِنْ ثَمَّ خَالَفَ إطْلَاقَهُ أَجَلُّ جَمَاعَتِهِ مُحَقِّقُ أَهْلِ عَصْرِهِ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ مِصْرِهِ شَيْخُنَا شِهَابُ الدِّينِ الرَّمْلِيُّ الْأَنْصَارِيُّ مَتَّعَ اللَّهُ بِحَيَاتِهِ الْمُسْلِمِينَ فَأَفْتَى بِمَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ وَأَصْرَحُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ جَمِيعِ مَا هُنَالِكَ لَمَّا سُئِلَ عَمَّا لَوْ رَأَوْا عَلَامَةً مُعْتَادَةً لِرَمَضَانَ أَوْ شَوَّال كَرُؤْيَةِ نَارٍ أَوْ سَمَاعِ طَبْلٍ وَحَصَلَ بِهِ اعْتِقَادٌ جَازِمٌ فَهَلْ يَجِبُ عَلَيْهِمْ الْعَمَلُ بِمُقْتَضَى ذَلِكَ؟ وَإِذَا أُرْسِلَ مَنْ ثَبَتَتْ عِنْده الرُّؤْيَةُ إلَى بَلَدٍ مُوَافِق مَطْلَعهَا يَجِبُ الْعَمَلُ بِذَلِكَ أَيْضًا؟
فَأَجَابَ بِمَا لَفْظُهُ مَنْ حَصَلَ لَهُ اعْتِقَادٌ جَازِمٌ بِدُخُولِ رَمَضَانَ مِنْ الْعَلَامَاتِ الْمُعْتَادَةِ وَجَبَ عَلَيْهِ الصَّوْمُ وَمَنْ حَصَلَ لَهُ ذَلِكَ الِاعْتِقَادُ بِدُخُولِ شَوَّال مِنْ الْعَلَامَاتِ الْمَذْكُورَة لَزِمَهُ الْفِطْرُ عَمَلًا بِاعْتِقَادِهِ الْجَازِمِ مِنْهَا، وَإِذَا أُرْسِلَ نُوَّابُ بَلَدِ الرُّؤْيَةِ إلَى أَهْلِ بَلَدٍ مُوَافِقٍ لَهُ فِي الْمَطْلَعِ مَا تَثْبُت بِهِ الرُّؤْيَةُ عِنْد حُكَّامِ الْمُرْسَلِ إلَيْهِمْ وَجَبَ عَلَيْهِمْ الصَّوْمُ لِرَمَضَانَ وَالْفِطْرُ لِشَوَّالِ، وَإِنْ لَمْ تَثْبُت بِهِ الرُّؤْيَةُ عِنْد أَحَدٍ مِنْهُمْ فَمَنْ اعْتَقَدَ صِدْقَ الْمُخْبِرِ بِذَلِكَ لَزِمَهُ الصَّوْمُ وَالْفِطْرُ وَمَنْ لَا فَلَا اهـ فَلْيُتَأَمَّلْ كَلَامُهُ الْأَخِيرُ فَإِنَّهُ نَصٌّ فِي مَسْأَلَتِنَا وَمَا قَبْلَهُ فَإِنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّ الْعَمَل فِي مَسْأَلَتِنَا بِخَبَرِ الْعَدْلِ فَضْلًا عَنْ الْعَدْلَيْنِ إذَا اُعْتُقِدَ صِدْقُهُ.
وَمِمَّا يَدُلّ عَلَى أَنَّ مُرَادَ شَيْخِنَا زَكَرِيَّا مَا قَدَّمْنَاهُ إفْتَاؤُهُ هُوَ وَأَئِمَّةُ عَصْرِهِ تَبَعًا لِجَمَاعَةٍ مِنْ أَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ الصَّوْمُ أَوْ الْفِطْرُ عِنْد الْحَاكِمِ لَمْ يَلْزَمهُ الصَّوْمُ وَلَمْ يَجِب الْفِطْرُ لِمَنْ شَكَّ فِي صِحَّةِ الْحُكْمِ لِتَهَوُّرِ الْقَاضِي أَوْ لِمَعْرِفَتِهِ لِمَا يَقْدَحُ فِي الشُّهُودِ فَإِذَا أَدَارُوا الْحُكْمَ هُنَا عَلَى مَا فِي ظَنِّهِ وَلَمْ يَنْظُرُوا لِحُكْمِ الْحَاكِمِ بَلْ جَعَلُوهُ لَغْوًا فَقِيَاسُهُ فِي مَسْأَلَتِنَا أَنْ لَا يُنْظَرَ لِحُكْمِ الْحَاكِمِ وَأَنَّ الْمَدَارَ إنَّمَا هُوَ عَلَى الِاعْتِقَادِ الْجَازِمِ وَذَلِكَ ظَاهِرٌ بِأَدْنَى نَظَرٍ وَتَأَمُّلٍ وَلَكِنَّ الْهِدَايَةَ بِيَدِ اللَّهِ سبحانه وتعالى وَهُوَ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
(وَسُئِلَ) نَفَعَ اللَّهُ بِهِ عَنْ صَوْمِ الْعَشْرِ الْأَوَّلِ مِنْ الْمُحَرَّمِ هَلْ هُوَ مُسْتَحَبٌّ كَالتِّسْعِ الْأَوَّلِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ أَوْ لَا؟ وَطَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْهِنْدِ لَا يَتْرُكُونَ صَوْمَهَا وَلَا يُوَاظِبُونَ عَلَى صَوْمٍ مِثْل مُوَاظَبَتِهِمْ عَلَى صَوْمِهَا.
(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ نِعْمَ مَا فَعَلَ هَؤُلَاءِ فَإِنَّ صَوْمَ الْعَشْرِ الْأَوَّلِ مِنْ الْمُحَرَّمِ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ بَلْ صَوْمُ الشَّهْرِ كُلِّهِ سُنَّةٌ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ فَمِنْ ذَلِكَ خَبَرُ مُسْلِمٍ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ «أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ شَهْرِ رَمَضَانَ شَهْرُ اللَّهِ الَّذِي تَدْعُونَهُ الْمُحَرَّمَ وَأَفْضَلُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ قِيَامُ اللَّيْلِ» وَهُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ أَفْضَلَ مَا تَتَطَوَّعُ بِهِ مِنْ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ صَوْمُ الْمُحَرَّمِ، وَحُمِلَ عَلَى أَنَّهُ أَفْضَلُ شَهْرٍ تَطَوَّعَ بِصَوْمِهِ كُلِّهِ لَا مُطْلَقًا فَإِنَّ صَوْمَ تِسْعِ ذِي الْحِجَّة أَفْضَلُ مِنْ صَوْمِ عَشْرِ الْمُحَرَّم وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ بِسَنَدٍ فِيهِ مَقَالٌ «أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي بِشَهْرٍ أَصُومُهُ بَعْد شَهْرِ رَمَضَانَ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم إنْ كُنْت صَائِمًا شَهْرًا بَعْدَ رَمَضَانَ فَصُمْ الْمُحَرَّمَ فَإِنَّهُ شَهْرُ اللَّهِ وَفِيهِ يَوْمٌ تَابَ اللَّهُ فِيهِ عَلَى قَوْمٍ وَيَتُوبُ عَلَى آخَرِينَ» وَأَخْرَجَ النَّسَائِيّ «أَنَّ أَبَا ذَرٍّ سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم -
أَيُّ الْأَشْهُرِ أَفْضَلُ؟ فَقَالَ: شَهْرُ اللَّهِ الَّذِي تَدْعُونَهُ الْمُحَرَّمَ» وَالْمُرَادُ أَنَّهُ أَفْضَلُهَا بَعْد رَمَضَانَ لِمَا مَرَّ وَقَدْ أَخَذَ بِقَضِيَّتِهِ جَمَاعَةٌ كَالْحَسَنِ وَغَيْرِهِ فَقَالُوا إنَّ الْمُحَرَّمَ أَفْضَلُ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ وَرَجَّحَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ وَجَاءَ أَنَّ السَّلَفَ رضي الله عنهم كَانُوا يُعَظِّمُونَ ثَلَاثَ عَشَرَاتٍ: عَشْرُ رَمَضَانَ الْأَخِيرِ، وَعَشْرُ ذِي الْحِجَّةِ الْأَوَّلِ، وَعَشْرُ الْمُحَرَّمِ الْأَوَّلِ وَرُوِيَ هَذَا حَدِيثًا.
(وَسُئِلَ) نَفَعَ اللَّهُ بِهِ عَنْ صَوْمِ مُنْتَصَفِ شَعْبَان هَلْ يُسْتَحَبُّ عَلَى مَا رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «إذَا كَانَتْ لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فَقُومُوا لَيْلَهَا وَصُومُوا نَهَارَهَا فَإِنَّ اللَّهَ يَنْزِلُ فِيهَا لِغُرُوبِ الشَّمْسِ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا» أَوْ لَا يُسْتَحَبُّ وَهَلْ هَذَا الْحَدِيثُ صَحِيحٌ أَوْ لَا؟ وَإِنْ قُلْتُمْ بِاسْتِحْبَابِهِ فَلِمَ لَمْ يَذْكُرهُ الْفُقَهَاءُ؟ وَمَا الْمُرَادُ بِقِيَامِ لَيْلِهَا أَهُوَ صَلَاةُ الْبَرَاءَةِ أَمْ لَا؟
(فَأَجَابَ) بِأَنَّ الَّذِي صَرَّحَ بِهِ النَّوَوِيُّ رحمه الله فِي الْمَجْمُوعِ أَنَّ صَلَاةَ الرَّغَائِب وَهِيَ ثِنْتَا عَشْرَةَ رَكْعَة بَيْن الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ لَيْلَةَ أَوَّلِ جُمُعَةٍ مِنْ شَهْرِ رَجَب وَصَلَاةُ لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ مِائَةَ رَكْعَةٍ بِدْعَتَانِ قَبِيحَتَانِ مَذْمُومَتَانِ وَلَا يُغْتَرُّ بِذِكْرِهِمَا فِي كِتَابِ قُوتِ الْقُلُوبِ وَفِي إحْيَاءِ عُلُومِ الدِّينِ وَلَا بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ فِيهِمَا فَإِنَّ كُلَّ ذَلِكَ بَاطِلٌ وَلَا بِبَعْضِ مَنْ اُشْتُبِهَ عَلَيْهِ حُكْمُهُمَا مِنْ الْأَئِمَّةِ فَصَنَّفَ وَرَقَاتٍ فِي اسْتِحْبَابِهِمَا فَإِنَّهُ غَالِطٌ فِي ذَلِكَ وَقَدْ صَنَّفَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ كِتَابًا نَفِيسًا فِي إبْطَالِهِمَا فَأَحْسَنَ فِيهِ وَأَجَادَ اهـ وَأَطَالَ النَّوَوِيُّ أَيْضًا فِي فَتَاوِيهِ فِي ذَمِّهِمَا وَتَقْبِيحِهِمَا، وَإِنْكَارِهِمَا وَاخْتَلَفَتْ فَتَاوَى ابْنُ الصَّلَاحِ فِيهِمَا، وَقَالَ فِي الْآخَرِ: هُمَا وَإِنْ كَانَا بِدْعَتَيْنِ لَا يُمْنَعُ مِنْهُمَا لِدُخُولِهِمَا تَحْتَ الْأَمْرِ الْوَارِد بِمُطْلَقِ الصَّلَاةِ وَرَدَّهُ السُّبْكِيّ بِأَنَّ مَا لَمْ يَرِدْ فِيهِ إلَّا مُطْلَقُ طَلَبِ الصَّلَاةِ وَأَنَّهَا خَيْرُ مَوْضُوعٍ فَلَا يُطْلَبُ مِنْهُ شَيْءٌ بِخُصُوصِهِ فَمَتَى خَصَّ شَيْئًا مِنْهُ بِزَمَانٍ أَوْ مَكَان أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ دَخَلَ فِي قِسْمِ الْبِدْعَةِ وَإِنَّمَا الْمَطْلُوبُ مِنْهُ عُمُومُهُ فَيَفْعَلْ لِمَا فِيهِ مِنْ الْعُمُومِ لَا لِكَوْنِهِ مَطْلُوبًا بِالْخُصُوصِ اهـ.
وَحِينَئِذٍ فَالْمَنْعُ مِنْهُمَا جَمَاعَةً أَوْ انْفِرَادًا خِلَافًا لِمَنْ وُهِمَ فِيهِ مُتَعَيِّنٌ إزَالَةً لِمَا وَقَعَ فِي أَذْهَانِ الْعَامَّةِ وَبَعْضِ الْمُتَفَقِّهَةِ وَالْمُتَعَبِّدِينَ مِنْ تَأَكُّدِ سَنِّهِمَا وَأَنَّهُمَا مَطْلُوبَتَانِ بِخُصُوصِهِمَا مَعَ مَا يُقْتَرَنُ بِذَلِكَ مِنْ الْقَبَائِحِ الْكَثِيرَةِ هَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِحُكْمِ صَلَاةِ لَيْلَةِ نِصْفِ شَعْبَانَ.
وَأَمَّا صَوْمُ يَوْمِهَا فَهُوَ سُنَّةٌ مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ مِنْ جُمْلَةِ الْأَيَّامِ الْبِيضِ لَا مِنْ حَيْثُ خُصُوصُهُ وَالْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ عَنْ ابْنِ مَاجَهْ ضَعِيفٌ قَالَ بَعْضُ الْحُفَّاظِ: وَجَاءَ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ أَحَادِيثُ مُتَعَدِّدَةٌ وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهَا فَضَعَّفَهَا الْأَكْثَرُونَ وَصَحَّحَ ابْنُ مَاجَهْ بَعْضَهَا وَخَرَّجَهُ فِي صَحِيحِهِ وَمِنْ أَمْثِلَتِهَا حَدِيثُ عَائِشَةَ قَالَتْ: «فَقَدْت النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَخَرَجْت فَإِذَا هُوَ بِالْبَقِيعِ رَافِعٌ رَأْسَهُ إلَى السَّمَاءِ فَقَالَ أَكُنْتِ تَخَافِينَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْكِ وَرَسُولُهُ فَقُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ ظَنَنْت أَنَّك أَتَيْتَ بَعْضَ نِسَائِكَ فَقَالَ إنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى يَنْزِلُ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيَغْفِرُ لِأَكْثَرَ مِنْ عَدَدِ شَعْرِ غَنَمِ كَلْبٍ» خَرَّجَهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ لَكِنْ ذَكَر التِّرْمِذِيُّ عَنْ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ ضَعَّفَهُ وَفِي حَدِيثٍ لِابْنِ مَاجَهْ «إنَّ اللَّهَ لَيَطَّلِعُ إلَى خَلْقِهِ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فَيَغْفِرُ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ إلَّا لِمُشْرِكٍ أَوْ مُشَاحِنٍ» وَفِي حَدِيثٍ عِنْد أَحْمَدَ وَخَرَّجَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ «إنَّ اللَّهَ لَيَطَّلِعُ إلَى خَلْقِهِ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فَيَغْفِرُ لِعِبَادِهِ إلَّا اثْنَيْنِ مُشَاحِنٍ أَوْ قَاتِلِ نَفْسٍ» وَبَقِيَتْ أَحَادِيثُ أُخَر كُلُّهَا ضَعِيفَةٌ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ لِهَذِهِ اللَّيْلَةِ فَضْلًا وَأَنَّهُ يَقَعُ فِيهَا مَغْفِرَةٌ مَخْصُوصَةٌ وَاسْتِجَابَةٌ مَخْصُوصَةٌ وَمِنْ ثَمَّ قَالَ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه إنَّ الدُّعَاءَ يُسْتَجَابُ فِيهَا وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي الصَّلَاةِ الْمَخْصُوصَةِ لَيْلَتهَا وَقَدْ عَلِمْت أَنَّهَا بِدْعَةٌ قَبِيحَةٌ مَذْمُومَةٌ يُمْنَعُ مِنْهَا فَاعِلُهَا، وَإِنْ جَاءَ أَنَّ التَّابِعِينَ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ كَمَكْحُولٍ وَخَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ وَلُقْمَانَ وَغَيْرِهِمْ يُعَظِّمُونَهَا وَيَجْتَهِدُونَ فِيهَا بِالْعِبَادَةِ، وَعَنْهُمْ أَخَذَ النَّاسُ مَا ابْتَدَعُوهُ فِيهَا وَلَمْ يَسْتَنِدُوا فِي ذَلِكَ لِدَلِيلٍ صَحِيحٍ وَمِنْ ثَمَّ قِيلَ أَنَّهُمْ إنَّمَا اسْتَنَدُوا بِآثَارٍ إسْرَائِيلِيَّةٍ وَمِنْ ثَمَّ أَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ أَكْثَرُ عُلَمَاء الْحِجَازِ كَعَطَاءٍ وَابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ وَفُقَهَاء الْمَدِينَة وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَغَيْرِهِمْ قَالُوا وَذَلِكَ كُلُّهُ بِدْعَةٌ إذْ لَمْ يَثْبُت فِيهَا شَيْءٌ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم -
وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ.
(وَسُئِلَ) نَفَعَ اللَّهُ بِهِ بِمَا صُورَته إذَا عَمَّ هِلَالُ شَعْبَانَ فَأَكْمَلْنَا الْعِدَّةَ ثَلَاثِينَ فَجَاءَ جَمَاعَةٌ مِنْ مَحِلٍّ بَعِيدٍ مُخْتَلِفٌ مَطْلَعُهُ مَعَ مَطْلَعِ الْبَلْدَةِ الَّتِي غُمَّ فِيهَا هِلَالُ شَعْبَانَ وَشَهِدُوا بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ لَيْلَةَ الثَّلَاثِينَ فَأَثْبَت حَاكِمٌ حَنَفِيٌّ الْهِلَالَ بِشَهَادَتِهِمْ فَهَلْ يُلْزَمُ الشَّافِعِيُّ بِقَضَاءِ الْيَوْمِ الَّذِي أَفْطَرَهُ عَلَى ظَنٍّ مِنْهُ أَنَّهُ مِنْ شَعْبَانَ اعْتِمَادًا عَلَى أَنَّ الثُّبُوتَ الْوَاقِعَ لَدَى الْحَاكِمِ الْحَنَفِيِّ رَافِعٌ لِلْخِلَافِ وَيُفْطِرُ يَوْمَ ثَلَاثِينَ رَمَضَان لَوْ لَمْ يَرَ الْهِلَالَ لَيْلَةَ الثَّلَاثِينَ لِإِكْمَالِ الْعِدَّةِ بِمُقْتَضَى الثُّبُوتِ الْمَذْكُورِ أَوْ لَا يُلْزَمُ بِقَضَاءِ الْيَوْمِ الْمَذْكُورِ؛ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ فِي نَحْوِ ذَلِكَ بِعَقِيدَتِهِ وَاعْتِقَادِهِ أَنَّهُ لَا عِبْرَةَ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ بِمَحِلٍّ مُخْتَلِفٍ مَطْلَعُهُ مَعَ مَطْلَعِ الْبَلَدِ الَّتِي غُمَّ فِيهَا الْهِلَالُ فَيَجِبُ عَلَيْهِ إمْسَاكُ يَوْمِ ثَلَاثِينَ رَمَضَانَ لَوْ لَمْ يَرَ الْهِلَالَ لَيْلَةَ الثَّلَاثِينَ وَمَا الْحُكْم فِيمَا لَوْ ثَبَتَ الْهِلَالُ لَدَى حَاكِمٍ يَرَى ثُبُوتَهُ بِمَا لَمْ يَرَهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ قَبُولِ عَبِيدٍ وَامْرَأَةٍ فَهَلْ يَلْزَم الشَّافِعِيَّ الْعَمَلُ بِمَا ثَبَتَ لَدَيْهِ، وَإِنْ كَانَ خِلَافَ عَقِيدَتِهِ أَوْ لَا يَلْزَمهُ؛ لِأَنَّهُ يَعْتَقِدُ خِلَافَهُ؟ بَيِّنُوا لَنَا ذَلِكَ بِمَا فِيهِ بَسْطٌ أَثَابَكُمْ اللَّهُ الْجَنَّةَ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ.
(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ حُكْمُ الْحَنَفِيِّ فِي ذَلِكَ مُعْتَبَرٌ فَيُدَارُ الْأَمْرُ عَلَيْهِ وَيَجِبُ عَلَى النَّاسِ الْعَمَلُ بِقَضِيَّتِهِ كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ كَلَامُ أَئِمَّتنَا فِي مَوَاضِعَ مِنْهَا قَوْلُ الْمَجْمُوعِ وَمَحِلُّ الْخِلَافِ فِي قَبُولِ شَهَادَةِ الْوَاحِدِ مَا لَمْ يَحْكُم بِشَهَادَتِهِ حَاكِمٌ يَرَاهُ وَإِلَّا وَجَبَ الصَّوْمُ وَلَمْ يُنْقَض الْحُكْمُ إجْمَاعًا اهـ فَإِيجَاب الصَّوْمِ هُنَا عَلَى الْعُمُومِ، وَعَدَمُ نَقْضِ الْحُكْمِ بِالْإِجْمَاعِ صَرِيحٌ فِي أَنَّ حُكْمَ الْحَنَفِيِّ فِي صُورَةِ السُّؤَالِ كَذَلِكَ حَتَّى يَجِب عَلَى الشَّافِعِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ الْعَمَلُ بِقَضِيَّتِهِ صَوْمًا وَفِطْرًا وَقَضَاءً.
وَمِنْهَا قَوْلُ الزَّرْكَشِيّ وَغَيْرِهِ خِلَافًا لِابْنِ أَبِي الدَّمِ وَالسُّبْكِيِّ لَا يَكْفِي قَوْلُ الشَّاهِدِ: أَشْهَدُ أَنَّ غَدًا مِنْ رَمَضَانَ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ اعْتَمَدَ الْحِسَابَ أَوْ كَانَ حَنْبَلِيًّا يَرَى إيجَابَ الصَّوْمِ صَبِيحَةَ لَيْلَةِ الْغَيْمِ قَالَ فِي الْخَادِمِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَعْتَقِدُ دُخُولَهُ بِسَبَبٍ لَا يُوَافِقُهُ عَلَيْهِ الْمَشْهُودُ عِنْدَهُ بِأَنْ يَكُونَ أَخَذَهُ مِنْ حِسَابِ مَنَازِلِ الْقَمَرِ أَوْ يَكُونَ حَنْبَلِيًّا يَرَى إيجَابَ الصَّوْمِ لَيْلَةَ الْغَيْم أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ اهـ فَأَفْهَمْ قَوْلُهُمْ لَا يُوَافِقهُ عَلَيْهِ الْمَشْهُودُ عِنْده أَنَّهُ لَوْ وَافَقَهُ الْحَاكِمُ عَلَى ذَلِكَ بِأَنْ كَانَ قَضِيَّةَ مَذْهَبِهِ اعْتَدَّ بِالشَّهَادَةِ الْمُسْتَنِدَةِ إلَى الْحِسَابِ أَوْ الْغَيْمِ وَبِالْحُكْمِ الْمُرَتَّبِ عَلَيْهَا مَعَ أَنَّ ذَلِكَ خِلَافُ مَذْهَبِنَا وَحِينَئِذٍ يُسْتَفَاد مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِعَقِيدَةِ الْحَاكِمِ مُطْلَقًا فَمَتَى أَثْبَتَ الْهِلَالَ حَاكِمٌ يَرَاهُ وَلَا يُنْقَضُ حُكْمُهُ بِأَنْ لَمْ يُخَالِف نَصَّا صَرِيحًا لَا يَقْبَلُ التَّأْوِيلَ اُعْتُدَّ بِحُكْمِهِ وَوَجَبَ عَلَى كَافَّةِ مَنْ فِي حُكْمِهِ الْعَمَلُ بِقَضِيَّةِ حُكْمِهِ وَمِنْهَا مَا اقْتَضَاهُ كَلَامُ الدَّارِمِيِّ وَاعْتَمَدَهُ الزَّرْكَشِيُّ مِنْ أَنَّ رَمَضَانَ يَثْبُت أَيْضًا أَيْ عَلَى الْكَافَّةِ بِعِلْمِ الْقَاضِي.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْقَضَاءَ بِالْعِلْمِ مَنَعَهُ بَعْضُ الْمُجْتَهِدِينَ وَمَعَ ذَلِكَ يَلْزَمُ مُقَلِّدِيهِ الْعَمَل بِحُكْمِ الْقَاضِي بِهِ كَمَا اقْتَضَاهُ صَرِيحُ كَلَامهمْ هُنَا وَكَلَامُ الْمَجْمُوعِ السَّابِقِ وَمِنْهَا قَوْلُهُمْ لَا عِبْرَةَ بِرِيبَةٍ تَبْقَى بَعْد حُكْمِ الْحَاكِمِ قَالَ الزَّرْكَشِيُّ وَهُوَ ظَاهِرٌ فِيمَنْ جَهِلَ حَالَ الشَّاهِد أَمَّا الْعَالِمُ بِفِسْقِهِ وَكَذِبِهِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمهُ الصَّوْمُ إذَا لَا يُتَصَوَّرُ مِنْهُ الْجَزْمُ بِالنِّيَّةِ بَلْ لَا يَجُوزُ لَهُ. اهـ فَأَفْهَمْ أَنَّا حَيْثُ لَمْ نَعْلَم اسْتِنَادَ الْحَاكِمِ إلَى بَاطِلٍ فِي اعْتِقَادِهِ لَزِمَنَا الْجَرْي عَلَى مُقْتَضَى حُكْمِهِ، وَإِنْ بَقِيَتْ عِنْدنَا رِيبَةٌ فِيهِ لِحُصُولِ الظَّنِّ بِالِاسْتِنَادِ إلَى الْحُكْمِ بِخِلَافِ مَا إذَا عَلِمْنَاهُ اسْتَنَدَ فِيهِ إلَى بَاطِلٍ عِنْده فَإِنَّهُ لَغْوٌ مِنْهُ فَلَا ظَنَّ فَلَمْ يَجُزْ الصَّوْمُ حِينَئِذٍ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
(وَسُئِلَ) نَفَعَ اللَّهُ بِهِ عَنْ قَوْلِ أُمِّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا -: «مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَصُومُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ إلَّا شَعْبَانَ وَرَمَضَانَ» ، وَقَوْلِ عَائِشَةَ رضي الله عنها «مَا رَأَيْتُهُ فِي شَهْرٍ قَطُّ أَكْثَرَ مِنْهُ صِيَامًا فِي شَعْبَانَ كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ إلَّا قَلِيلًا» وَفِي رِوَايَةٍ «بَلْ كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ» فَقَدْ صَرَّحَتْ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ بِصِيَامِهِ كُلِّهِ أَوْ أَكْثَرِهِ وَأَنَّ ذَلِكَ مَنْدُوبٌ فَمَا مَعْنَاهَا وَكَيْف الْجَمْعُ بَيْنهَا وَبَيْنَ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «إذَا انْتَصَفَ شَعْبَانُ فَلَا تَصُومُوا» وَمِنْ ثَمَّ أَخَذَ مِنْهُ أَئِمَّتُنَا تَحْرِيمَ صَوْمِ مَا بَعْدَ نِصْفِهِ.
(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ يُعْلَمُ جَوَابُ ذَلِكَ مِمَّا ذَكَرْته فِي كِتَابِي إتْحَافُ أَهْلِ الْإِسْلَامِ
بِخُصُوصِيَّاتِ الصِّيَامِ وَحَاصِلُ عِبَارَتِهِ وَمِنْهَا صَوْمُ شَهْرِ شَعْبَانَ «عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ قَطُّ إلَّا شَهْرَ رَمَضَانَ وَمَا رَأَيْتُهُ فِي شَهْرٍ أَكْثَرَ مِنْهُ صِيَامًا فِي شَعْبَانَ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَفِي أُخْرَى لَهُمَا: «لَمْ يَكُنْ يَصُومُ شَهْرًا أَكْثَرَ مِنْ شَعْبَانَ فَإِنَّهُ كَانَ يَصُومُهُ كُلَّهُ» وَلِمُسْلِمٍ فِي رِوَايَةٍ «كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ إلَّا قَلِيلًا» وَلِلتِّرْمِذِيِّ «كَانَ يَصُومُهُ إلَّا قَلِيلًا بَلْ كَانَ يَصُومُهُ كُلَّهُ» وَلِأَبِي دَاوُد «كَانَ أَحَبُّ الشُّهُورِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَصُومَهُ شَعْبَانَ ثُمَّ يَصِلُهُ بِرَمَضَانَ» وَلِلنَّسَائِيِّ «كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ أَوْ عَامَّةَ شَعْبَانَ» وَلَهُ أَيْضًا «كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ إلَّا قَلِيلًا» وَلَهُ أَيْضًا «كَانَ أَحَبُّ الشُّهُورِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَصُومَ شَعْبَانَ كَانَ يَصِلُهُ بِرَمَضَانَ» وَلَهُ أَيْضًا «كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ» . وَالْمُرَادُ بِكُلِّهِ مُعْظَمُهُ فَقَدْ نَقَلَ التِّرْمِذِيُّ عَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ أَنَّهُ قَالَ: جَائِزٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ إذَا صَامَ أَكْثَر الشَّهْرِ أَنْ يَقُولَ صَامَهُ كُلَّهُ وَيُقَال قَامَ فُلَانٌ لَيْلَتَهُ أَجْمَع وَلَعَلَّهُ قَدْ تَعَشَّى وَاشْتَغَلَ بِبَعْضِ أَمْرِهِ قَالَ التِّرْمِذِيُّ وَكَأَنَّ ابْنَ الْمُبَارَكِ جَمَعَ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ بِذَلِكَ اهـ وَهُوَ جَمْعٌ حَسَنٌ لِضَرُورَةِ الْجَمْعِ بِهِ بَيْن الْحَدِيثَيْنِ، وَإِنْ شَنَّعَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ عَلَى أَبِي عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ: إنَّ كُلًّا تَأْتِي بِمَعْنَى الْأَكْثَر وَكَأَنَّ بَعْضَهُمْ أَخَذَ مِنْ ذَلِكَ قَوْلَهُ إتْيَانُ كُلٍّ بِمَعْنَى الْأَكْثَرِ مَجَازٌ قَلِيلُ الِاسْتِعْمَالِ اهـ وَعَلَيْهِ فَقَرِينَةُ الْمَجَازِ الْخَبَرُ الصَّحِيحُ «عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها مَا عَلِمْتُهُ أَيْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَامَ شَهْرًا كُلَّهُ إلَّا رَمَضَانَ» وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهَا صَحِيحَةٍ أَيْضًا «مَا رَأَيْتُهُ صَامَ شَهْرًا كَامِلًا مُنْذُ قَدِمَ الْمَدِينَةَ إلَّا رَمَضَانَ» وَجَمَعَ بَعْضُهُمْ بِجَمْعٍ آخَر حَسَنٍ أَيْضًا وَهُوَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ تَارَةً يَصُومُهُ كُلَّهُ وَتَارَةً يَصُومُ أَكْثَرَهُ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ وُجُوبُ كُلِّهِ.
وَقَدْ أَشَارَ إلَى هَذَيْنِ الْجَمْعَيْنِ ابْنُ الْمُنِيرِ بِقَوْلِهِ: يُحْمَلُ قَوْلُهَا " كُلَّ " عَلَى الْمُبَالَغَةِ وَالْمُرَادُ الْأَكْثَرُ أَوْ قَوْلُهَا الثَّانِي مُتَأَخِّرٌ عَنْ الْأَوَّلِ فَأَخْبَرَتْ عَنْ أَوَّل أَمْرِهِ بِأَنَّهُ كَانَ يَصُومُ أَكْثَرَهُ ثُمَّ عَنْ آخِر أَمْرِهِ بِأَنَّهُ كَانَ يَصُومُهُ كُلَّهُ اهـ نَعَمْ مَا أَشَارَ إلَيْهِ الثَّانِي بِقَوْلِهِ تَارَةً هَذَا وَتَارَةً هَذَا أَوْلَى إذْ لَا دَلِيلَ عَلَى التَّرْتِيبِ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ الْمُنِيرِ وَاخْتُلِفَ فِي حِكْمَةِ إكْثَارِهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ صَوْمِ شَعْبَانَ مَعَ أَنَّ صَوْمَ الْمُحَرَّمِ أَفْضَلُ مِنْهُ فَقِيلَ كَانَ يَشْتَغِلُ عَنْ صَوْمِ الثَّلَاثَةِ أَيَّامِ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ بِسَفَرٍ أَوْ غَيْرِهِ فَيَقْضِيهَا فِي شَعْبَانَ لِخَبَرٍ فِيهِ لَكِنَّهُ ضَعِيفٌ بَلْ قِيلَ مَوْضُوعٌ وَاسْتَشْكَلَ بِمَا فِي خَبَرِ مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا لَمْ تَعْلَمْهُ أَفْطَرَ شَهْرًا كُلَّهُ حَتَّى تُوُفِّيَ وَلَا إشْكَالَ فَإِنَّهُ يَصْدُق بِأَنْ يَصُومَ مِنْ بَعْضِ الشُّهُورِ دُون ثَلَاثَةٍ فَمَا بَقِيَ يَقْضِيه فِي شَعْبَانَ؛ لِأَنَّ عَمَلَهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ دِيمَةً وَكَانَ إذَا فَاتَهُ شَيْءٌ مِنْ نَوَافِلِهِ قَضَاهُ كَمَا فِي سُنَنِ الصَّلَاةِ وَقِيَامِ اللَّيْلِ فَكَذَا كَانَ إذَا دَخَلَ عَلَيْهِ شَعْبَانُ وَعَلَيْهِ بَقِيَّةٌ مِنْ صَوْمِ تَطَوُّعٍ قَضَاهُ فِيهِ.
وَكَانَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها تَقْضِي مَعَهُ أَيَّامَ حَيْضِهَا؛ لِأَنَّهَا فِيمَا عَدَاهُ مُشْتَغِلَةٌ بِهِ، وَالْمَرْأَةُ لَا تَصُومُ وَزَوْجُهَا حَاضِرٌ إلَّا بِإِذْنِهِ سَوَاءً فِي ذَلِكَ النَّفَلُ وَالْفَرْضُ الْمُوَسَّعُ كَقَضَاءِ رَمَضَانَ بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ أَفْطَرَهُ لِعُذْرٍ وَقِيلَ كَانَ يَصْنَعُ ذَلِكَ تَعْظِيمًا لِرَمَضَانَ لِخَبَرِ التِّرْمِذِيِّ بِهِ لَكِنَّهُ غَرِيبٌ وَيُعَارِضهُ خَبَرُ مُسْلِمٍ «أَفْضَلُ الصَّوْمِ بَعْدَ رَمَضَانَ صَوْمُ الْمُحَرَّمِ» وَلَعَلَّ عَدَمَ صَوْمِهِ لِأَكْثَرِهِ أَوْ كُلِّهِ كَشَعْبَانَ أَنَّهُ كَانَ يُعْرَضُ لَهُ فِيهِ أَعْذَارٌ تَمْنَعُهُ عَنْ ذَلِكَ بِخِلَافِ شَعْبَانَ أَوْ أَنَّ النَّاسَ يَغْفُلُونَ عَنْ شَعْبَانَ كَمَا يَأْتِي وَلِذَلِكَ قَالَ أَئِمَّتُنَا: صَوْمُ الْمُحَرَّمِ أَفْضَلُ الشُّهُورِ بَعْدَ رَمَضَانَ وَالْأَوْلَى فِي حِكْمَةِ ذَلِكَ مَا أَشَارَ إلَيْهِ الْخَبَرُ الصَّحِيحُ عَنْ أُسَامَةَ قُلْتُ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ لَمْ أَرَكَ تَصُومُ شَهْرًا مِنْ الشُّهُورِ مَا تَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ قَالَ ذَاكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الْأَعْمَالُ إلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ» وَبَقِيَ لَهُ حِكْمَةٌ أُخْرَى وَكَلَامٌ مَبْسُوطُ فِيهَا وَفِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا بَسَطْتُهُ فِي الْكِتَابِ الْمَذْكُورِ.
ثُمَّ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ لَا تُنَافِي الْحَدِيثَ الْمُحَرِّمَ لِصَوْمِ مَا بَعْدَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ؛ لِأَنَّ مَحِلَّ الْحُرْمَةِ فِيمَنْ صَامَ بَعْد النِّصْفِ وَلَمْ يَصِلْهُ، وَمَحِلُّ الْجَوَازِ بَلْ النَّدْبِ فِيمَنْ صَامَ قَبْلَ النِّصْفِ وَتَرَك بَعْدَ النِّصْفِ أَوْ اسْتَمَرَّ، لَكِنْ وَصَلَ صَوْمَهُ بِصَوْمِ يَوْمِ النِّصْفِ أَوْ لَمْ يَصِلْهُ وَصَامَ لِنَحْوِ قَضَاءٍ أَوْ نَذْرٍ أَوْ وِرْدٍ وَالْخَبَرُ الَّذِي رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ «إذَا انْتَصَفَ شَعْبَانُ فَلَا تَصُومُوا حَتَّى يَكُونَ رَمَضَانُ»
صَرِيحٌ فِي ذَلِكَ وَاسْتَشْكَلَ السُّبْكِيّ تَعْلِيلَ حُرْمَةِ صَوْمِ مَا بَعْدَ نِصْفِ شَعْبَان بِالضَّعْفِ بِأَنَّهُ يَلْزَمهُ تَحْرِيمَ صَوْمِ شَعْبَانَ كُلَّهُ لِأَنَّ الضَّعْفَ يَكُونُ بِهِ أَكْثَرُ، وَأَجَبْتُ عَنْهُ فِي الْكِتَابِ الْمَذْكُورِ وَغَيْرِهِ بِأَنَّ صِيَامَ الشَّهْرِ جَمِيعِهِ أَوْ أَكْثَرِهِ يُوَرِّثُ قُوَّةً عَلَى رَمَضَانَ لِأَنَّ الصَّوْمَ حِينَئِذٍ يَصِيرُ مَأْلُوفًا لِلنَّفْسِ وَخَلْقًا لَهَا فَلَا يَشُقُّ عَلَيْهَا تَعَاطِيهِ وَهَذَا مِنْ بَعْضِ حِكَمِ صَوْمِهِ صلى الله عليه وسلم شَعْبَانَ كُلَّهُ أَوْ أَكْثَرَهُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ.
(وَسُئِلَ) رضي الله عنه عَنْ هِلَالِ رَمَضَانَ هَلْ يَثْبُتُ بِمَسْتُورِ الْعَدَالَةِ أَمْ لَا؟
(فَأَجَابَ) بِأَنَّ الْمُعْتَمَدَ كَمَا فِي الْمَجْمُوعِ، وَإِنْ نَازَعَ فِيهِ جَمْعٌ أَنَّهُ يَكْفِي الْمَسْتُور وَهُوَ كَمَا يُعْلَمُ مِنْ كَلَامِهِمْ فِي النِّكَاحِ مَنْ لَا يُعْرَفُ لَهُ مُفَسِّقٌ مَعَ صَلَاحِ ظَاهِرِهِ.
(وَسُئِلَ) رضي الله عنه بِمَا لَفْظُهُ إذَا شَرَطْنَا التَّعْيِينَ فِي الصَّوْمِ الرَّاتِبِ كَرَوَاتِبِ الصَّلَاةِ وَوَقَعَ الْخَطَأُ فِي التَّعْيِينِ كَأَنْ صَامَ تَاسُوعَاء بِالتَّعْيِينِ فَبَانَ بِثُبُوتِ رُؤْيَةِ الْهِلَالِ حِينَئِذٍ أَنَّهُ عَاشُورَاء أَوْ صَامَ ثَامِن ذِي الْحِجَّةِ فَبَانَ أَنَّهُ التَّاسِعُ فَهَلْ يَقُومُ مَا صَامَهُ بِالتَّعْيِينِ عَنْ عَاشُورَاءَ أَوْ عَنْ تَاسِعِ الْحِجَّةِ وَهَلْ الْمُعْتَمَدُ وُجُوبُ التَّعْيِين فِي ذَلِكَ أَمْ لَا؟
(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ عِبَارَتِي فِي شَرْحِ الْعُبَابِ وَقَضِيَّة قَوْلِ الْمُصَنِّفِ وَيَكْفِي فِي نَفْلِ الصَّوْمِ مُطْلَقُ نِيَّتِهِ أَنَّ النَّفَلَ الَّذِي لَهُ سَبَبٌ كَصَوْمِ الِاسْتِسْقَاءِ بِغَيْرِ أَمْرِ الْإِمَامِ وَالْمُؤَقَّت كَصَوْمِ الِاثْنَيْنِ وَعَرَفَة لَا يَجِبُ تَعْيِينُهُ أَيْ تَعْيِين نِيَّتِهِ فِي الصَّوْمِ لَكِنْ بَحَثَ فِي الْمُهِمَّاتِ فِي الْأَوَّلِ وَفِي الْمَجْمُوعِ فِي الثَّانِي أَنَّهُ لَا بُدّ مِنْ تَعْيِينه كَمَا فِي الصَّلَاةِ وَأُجِيبَ عَنْ الثَّانِي بِأَنَّ الصَّوْمَ فِي الْأَيَّامِ الْمُتَأَكَّدِ صَوْمُهَا مُنْصَرِفٌ إلَيْهَا بَلْ لَوْ نَوَى بِهِ غَيْرَهَا حَصَلَتْ أَيْضًا كَتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ وُجُودُ صَوْمٍ فِيهَا وَمِنْ ثَمَّ أَفْتَى الْبَارِزِيُّ بِأَنَّهُ لَوْ صَامَ فِيهِ قَضَاءً أَوْ نَحْوَهُ حَصَلَا نَوَاهُ مَعَهُ أَمْ لَا، وَذَكَرَ غَيْرُهُ أَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ مَا لَوْ اتَّفَقَ فِي يَوْمٍ رَاتِبَانِ كَعَرَفَة يَوْمَ الْخَمِيسِ.
وَفِي الْمَجْمُوعِ لَوْ نَوَى قَبْلَ الزَّوَالِ قَضَاءً أَوْ نَذْرًا فَإِنْ كَانَ فِي رَمَضَانَ لَمْ يَنْعَقِدْ لَهُ صَوْمٌ أَصْلًا وَإِلَّا انْبَنَى انْعِقَادُهُ نَفْلًا عَلَى نِيَّةِ الظُّهْرِ قَبْلَ وَقْتِهِ، وَقَضِيَّتُهُ أَنَّهُ يَقَعُ نَفْلًا مِنْ الْجَاهِلِ فَقَطْ. انْتَهَتْ عِبَارَةُ الشَّرْحِ الْمَذْكُورِ وَبِهَا يُعْلَمُ أَنَّ التَّعْيِينَ فِي رَاتِبِ الصَّوْمِ لَيْسَ شَرْطًا لِصِحَّتِهِ مِنْ حَيْثُ وُقُوعُ مُطْلَقِ الصَّوْمِ لِمَا تَقَرَّرَ أَنَّ الْقَصْدَ فِي الْأَيَّامِ الْمَنْدُوبِ صَوْمُهَا وُجُودُ صَوْمٍ فِيهَا وَإِحْيَاؤُهَا بِهَذِهِ الْعِبَادَةِ الْفَاضِلَةِ فَهُوَ نَظِيرُ تَحِيَّةِ الْمَسْجِد،؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ مِنْهَا تَعْظِيمُ الْمَسْجِدِ بِإِشْغَالِهِ بِالصَّلَاةِ وَإِنَّمَا هُوَ شَرْطٌ فِي الْكَمَالِ وَوُقُوعِ الصَّوْمِ الْمَخْصُوصِ كَمَا أَنَّ التَّعْيِينَ فِي التَّحِيَّةِ إنَّمَا هُوَ شَرْطٌ لِكَمَالِهَا لَا لِصِحَّتِهَا فَحِينَئِذٍ مَنْ نَوَى فِي نَحْوِ يَوْمِ عَرَفَةَ أَوْ عَاشُورَاءَ أَوْ الِاثْنَيْنِ مَثَلًا صَوْمَ يَوْمِ عَرَفَةَ أَوْ عَاشُورَاء أَوْ الِاثْنَيْنِ حَصَلَ لَهُ كَمَالُ الصَّوْمِ وَالْفَضِيلَةِ وَكَذَا إنْ نَوَى ذَلِكَ وَالْقَضَاءُ مَثَلًا بِخِلَافِ مَا لَوْ اقْتَصَرَ عَلَى نِيَّةِ غَيْرِهَا كَالْقَضَاءِ فَإِنَّهُ يَحْصُلُ لَهُ مَا نَوَاهُ وَيَسْقُطُ عَنْهُ الطَّلَبُ بِالنِّسْبَةِ لِخُصُوصِ الصَّوْمِ الْمَطْلُوبِ فِي ذَلِكَ الزَّمَنِ نَظِيرَ مَا قَرَّرْتُهُ فِي تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ.
وَعَلَى أَحَدِ شِقَّيْ هَذَا التَّفْصِيلِ يُحْمَلُ مَا مَرَّ عَنْ الْمَجْمُوعِ مِنْ اشْتِرَاطِ التَّعْيِينِ إذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ فَحَيْثُ عَيَّنَ فِي نِيَّةِ صَوْمِ النَّفْلِ شَيْئًا وَأَخْطَأَ فِيهِ سَوَاءً شَرَطْنَا التَّعْيِينَ فَإِنْ عُذِرَ فِي خَطَئِهِ كَمَا فِي الصُّورَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ فِي السُّؤَالِ صَحَّ الصَّوْمُ وَوَقَعَ لَهُ نَفْلًا مُطْلَقًا لِتَعَذُّرِ وُقُوعِ مَا نَوَاهُ مِنْ تَاسُوعَاء يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَمِنْ ثَامِنِ الْحِجَّة فِي الْيَوْمِ التَّاسِعِ مِنْهَا وَكَانَ قَضِيَّةُ ذَلِكَ بُطْلَانَ النِّيَّةِ مِنْ أَصْلِهَا لَكِنْ لَمَّا عُذِرَ فِي غَلَطِهِ اقْتَضَى عُذْرُهُ بُطْلَانَ خُصُوصِ صَوْمِهِ الْمُعَيَّنِ، لَا عُمُومَ صَوْمِهِ نَظِيرَ مَا ذَكَرُوهُ فِيمَنْ أَحْرَمَ بِالظُّهْرِ أَوْ سُنَّتِهِ مَثَلًا قَبْلَ الْوَقْتِ ظَانًّا دُخُولِهِ وَهُوَ لَمْ يَدْخُل فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَيَبْطُلُ خُصُوصُ الْمُعَيَّنِ وَتَقَعُ الصَّلَاةُ لَهُ نَافِلَةً مُطْلَقَةً حَتَّى يُثَابَ عَلَيْهَا بِخِلَافِ مَا لَوْ نَوَى تَاسُوعَاء يَوْمَ عَاشُورَاء مَثَلًا مُتَعَمِّدًا فَإِنَّ نِيَّتَهُ بَاطِلَةٌ مِنْ أَصْلِهَا لِتَلَاعُبِهِ كَنِيَّةِ الظُّهْرِ أَوْ سُنَّتِهِ قَبْلَ الْوَقْتِ عَالِمًا بِذَلِكَ.
(وَسُئِلَ) رضي الله عنه عَمَّنْ نَوَى فِي اللَّيْلِ صَوْمَ الْقَضَاءِ وَبَعْد الْفَجْرِ التَّطَوُّعَ فَهَلْ يَحْصُلُ بِذَلِكَ التَّطَوُّعُ إنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ قَضَاءٌ؟
(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ إنْ ظَنَّ حَالَ نِيَّةِ الْقَضَاءِ أَنَّهُ عَلَيْهِ صَحَّتْ نِيَّتُهُ لَهُ بِفَرْضِ كَوْنِهِ عَلَيْهِ وَكَذَا
لَوْ شَكَّ وَنَوَاهُ احْتِيَاطًا نَظِيرَ مَا صَرَّحُوا بِهِ فِي وُضُوءِ الِاحْتِيَاطِ مِنْ صِحَّتِهِ بِفَرْضِ أَنَّ عَلَيْهِ حَدَثًا مَا لَمْ يَتَبَيَّن الْحَالَ فَإِنْ لَمْ يَظُنَّ أَنَّ عَلَيْهِ قَضَاءٌ وَلَا شَكَّ فِيهِ فَنِيَّةُ الْقَضَاءِ بَاطِلَةٌ فَإِذَا نَوَى بَعْدَ الْفَجْرِ التَّطَوُّعَ مَعَ عِلْمِهِ بِبُطْلَانِ نِيَّتِهِ الْأُولَى صَحَّ لَهُ التَّطَوُّعُ، وَأَمَّا نِيَّتُهُ التَّطَوُّع بَعْد نِيَّةِ الْقَضَاءِ وَظَنُّهُ صِحَّتِهَا فَهُوَ كَالتَّلَاعُبِ مِنْهُ فَلَا يَصِحَّ لَهُ التَّطَوُّعُ، وَإِنْ بَانَ أَنْ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ لِفَسَادِ نِيَّتِهِ التَّطَوُّعَ وَعَدَمِ جَزْمِهِ بِهَا وَهَذَا كُلُّهُ ظَاهِرٌ مِنْ كَلَامِهِمْ وَقَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّهُ لَوْ نَوَى آخِرَ شَعْبَانَ صَوْمَ غَدٍ عَنْ رَمَضَانَ وَلَمْ تَصِحَّ نِيَّتُهُ عَنْ رَمَضَانَ لِعَدَمِ اعْتِمَادِهَا عَلَى ظَنِّ دُخُولِهِ وَبَانَ أَنَّ الْيَوْمَ مِنْ شَعْبَانَ وَقَعَ لَهُ نَفْلًا مُطْلَقًا وَلَا يُعَارِضُ مَا مَرَّ؛ لِأَنَّهُ هُنَا عَازِمٌ عَلَى صَوْمِ الْغَدِ جَازِمٌ بِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ مُتَرَدِّدٌ فِي أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ أَوْ لَا فَلَمْ يَقَع عَنْ رَمَضَانَ لِعَدَمِ جَزْمِهِ بِخُصُوصِهِ وَوَقَعَ عَنْ النَّفْلِ؛ لِأَنَّهُ لَا مُنَافِيَ لِلنَّفْلِ حَالَ النِّيَّةِ فَتَأَمَّلْهُ.
(وَسُئِلَ) نَفَعَ اللَّهُ بِعُلُومِهِ عَنْ حَدِيثٍ أَنَّ أَيَّامَ الْبِيضِ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ آدَمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ وَعَلَى سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ وَسَلَّمَ لَمَّا هَبَطَ مِنْ الْجَنَّةِ اسْوَدَّ جِلْدُهُ فَأُمِرَ بِصِيَامِهَا فَفِي الْيَوْم الْأَوَّلِ ابْيَضَّ ثُلْثُ جِلْدِهِ وَفِي الثَّانِي ثُلْثُهُ وَفِي الثَّالِث بَقِيَّتُهُ؟
(فَأَجَابَ) بِأَنَّهُ مَوْضُوعٌ كَمَا قَالَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ، وَإِنْ خَرَّجَهُ جَمَاعَةٌ.
(وَسُئِلَ) نَفَعَ اللَّهُ بِهِ عَمَّنْ أَكَلَ نَهَارًا فِي رَمَضَانَ عَمْدًا وَلَمْ يُفْطِر كَيْف صُورَته؟
(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ النَّهَارُ اسْمٌ لِفَرْخِ الْقَطَا وَوَلَد الْحُبَارَى كَمَا أَنَّ اللَّيْلَ وَلَدُ الْكَرَوَانِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(وَسُئِلَ) نَفَعَ اللَّهُ بِهِ عَمَّنْ صَامَ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ ثُمَّ أَفْطَرَ ثُمَّ بَلَغَهُ أَنَّهُ أَفْطَرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ وَأَنَّ الشَّهْرَ ثَلَاثُونَ. فَهَلْ يَلْزَمهُ قَضَاءُ الْيَوْمِ أَوْ لَا؟
(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ إذَا ثَبَتَ أَنَّ أَهْلَ بَلَدِهِ أَوْ الْبَلَدِ الْقَرِيبَةِ مِنْهُ مَطْلَعًا رَأَوْا الْهِلَالَ لَيْلَةَ ثَلَاثِينَ شَعْبَان لَزِمَهُ قَضَاءُ يَوْمٍ عَلَى الْفَوْرِ، وَكَذَا لَوْ أَفْطَرَ يَوْمَ ثَلَاثِينَ رَمَضَانَ بِالنِّسْبَةِ لِرُؤْيَةِ أَهْلِ بَلَدِهِ وَمَنْ قَرُبَ مَطْلَعُهُمْ مِنْ مَطْلَعِهِمْ فَيَلْزَمهُ قَضَاءُ يَوْمٍ لَكِنْ لَا فَوْرًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(وَسُئِلَ) نَفَعَ اللَّهُ بِهِ بِمَا صُورَته مَا تَقُولُونَ فِيمَا رَجَّحُوهُ مِنْ اشْتِرَاطِ الْعَدَالَةِ الْبَاطِنَةِ فِي هِلَالِ رَمَضَانَ هَلْ ذَلِكَ فِي صُورَةِ الثُّبُوتِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ الْوُجُوبُ الْعَامُّ بِهِ،، وَأَمَّا الْحُكْمُ بِالْجَوَازِ وَالصِّحَّةِ فِي حَقِّ الْآحَادِ فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَدَالَةُ الْبَاطِنَةُ وَلَا الظَّاهِرَةُ كَمَا أَجَابَ بِذَلِكَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَقَدْ قَالُوا: إنَّهُ يَجِبُ الصَّوْمُ عَلَى مَنْ أَخْبَرَهُ فَاسِقٌ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ وَاعْتَقَدَ صِدْقَهُ هَلْ هَذَا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْحُكْمِ بِالْجَوَازِ وَالصِّحَّةِ فِي حَقِّ الْآحَادِ كَمَا تَقَدَّمَ، أَمْ الْمُرَادُ أَنَّهُ يَجِبُ وَلَا يُجْزِئُ إلَّا إنْ ثَبَتَ قَبْلَ الْفَجْرِ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ بِرُؤْيَةِ عَدْلِ شَهَادَةٍ أَوْ حُكْمِ حَاكِمٍ بِنَاءً عَلَى اشْتِرَاطِ الْعَدَالَةِ الْبَاطِنَةِ فِيهِ كَمَا تَقَدَّمَ؟
فَأَجَابَ بِقَوْلِهِ: الصَّوَابُ أَنَّ اشْتِرَاطَ الْعَدَالَةِ إنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ لِلثُّبُوتِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ الْوُجُوبُ الْعَامُّ، أَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْخَاصِّ فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ إلَّا اعْتِقَادُ الصِّدْقِ أَوْ ظَنُّهُ عَلَى مَا يَأْتِي فَحِينَئِذٍ يَصِحُّ مِنْهُ وَيُجْزِئُهُ سَوَاءً حُكِمَ قَبْلَ الْفَجْرِ أَنَّ غَدًا مِنْ رَمَضَانَ أَمْ لَا وَعِبَارَةُ شَرْحِ الْعُبَابِ لَكِنَّ لَهُ أَيْ كُلٍّ مِنْهُمَا أَيْ الْمُنَجِّمِ وَالْحَاسِبِ اعْتِمَادَهُ أَيْ اعْتِمَادَ مَعْرِفَةِ نَفْسِهِ كَالصَّلَاةِ، وَنَقْلُ ابْنِ الصَّلَاحِ عَنْ الْجُمْهُورِ خِلَافَ ذَلِكَ ضَعِيفٌ وَيُجْزِئُهُ كَمَا فِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا وَكَذَا فِي الْمَجْمُوعِ فِي الْكَلَامِ عَلَى مَا إذَا اُعْتُقِدَ أَنَّ غَدًا مِنْ رَمَضَانَ بِقَوْلِ مَنْ يَثِقُ بِهِ أَجْزَأَهُ فَإِنَّهُ قَالَ: ثُمَّ إنَّ اسْتِنَادَ الِاعْتِقَادِ إلَى الْحِسَابِ حَيْثُ جَوَّزْنَاهُ كَذَلِكَ وَنَقَلَهُ فِي الْكِفَايَةِ عَنْ الْأَصْحَابِ، وَصَحَّحَهُ وَصَوَّبَهُ الْإِسْنَوِيُّ وَالزَّرْكَشِيُّ وَغَيْرُهُمَا كَالسُّبْكِيِّ لَكِنْ صُحِّحَ فِي الْمَجْمُوعِ هُنَا أَنَّ لَهُ أَيْ الْحَاسِب ذَلِكَ وَأَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ عَنْ فَرْضِهِ كَذَا قِيلَ.
وَكَلَامُ الْمَجْمُوعِ لَيْسَ نَصَّا فِي تَصْحِيحِ ذَلِكَ، إنَّمَا هُوَ ظَاهِرٌ فِيهِ فَإِنَّهُ أَخَذَ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ الرَّافِعِيِّ وَسَكَتَ عَلَيْهِ وَكَأَنَّهُ إنَّمَا لَمْ يَعْتَرِضهُ لِمَا سَيُصَرِّحُ بِهِ فِي الْكَلَامِ عَلَى النِّيَّةِ مِنْ أَنَّهُ يُجْزِئُهُ كَمَا مَرَّ عَنْهُ (وَمَنْ أَخْبَرَهُ ثِقَةٌ بِرُؤْيَتِهِ)، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرهُ عِنْدَ الْقَاضِي (وَظُنَّ صِدْقُهُ) عِبَارَة غَيْرِهِ وَاعْتُقِدَ صِدْقُهُ وَبَيْنَهُمَا تَغَايُر وَسَتَأْتِي الْإِشَارَةُ إلَيْهِ فِي صَوْمِ يَوْمِ الشَّكِّ وَيُؤَيِّدُ الثَّانِيَ تَعْبِيرُ الْبَغَوِيِّ هُنَا بِقَوْلِهِ: وَلَوْ عَقَدَ بِقَلْبِهِ مِنْ غَيْرِ شَكٍّ أَنَّ غَدًا مِنْ رَمَضَانَ وَنَوَى فَإِنْ سَمِعَ مِنْ ثِقَةٍ إلَخْ فَإِنَّهُ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ لَا بُدَّ هُنَا مِنْ الِاعْتِقَادِ الْجَازِمِ وَأَنَّهُ لَا يَكْفِي الظَّنُّ وَلَا غَلَبَته (لَزِمَهُ صِيَامُهُ) كَمَا قَطَعَ
بِهِ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ ابْنُ عَبْدَانِ وَالْبَغَوِيُّ وَالْغَزَالِيُّ وَأَقَرَّهُمْ فِي الْمَجْمُوعِ وَغَيْرِهِ، وَعُلِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ تَوَاتَرَتْ عِنْده رُؤْيَةُ رَمَضَانَ أَوْ شَوَّالَ وَلَوْ مِنْ نَحْوِ فَسَقَةٍ أَوْ كُفَّارٍ لَزِمَهُ الصَّوْمَ فِي الْأُولَى قِيَاسًا عَلَى ذَلِكَ بَلْ أَوْلَى لِأَنَّ التَّوَاتُرَ يُفِيدُ الْيَقِينَ، فَهُوَ أَوْلَى مِنْ الْبَيِّنَةِ وَالْفِطْرِ فِي الثَّانِيَةِ وَخَرَجَ بِالثِّقَةِ مَا لَوْ أَخْبَرَهُ غَيْرُ الثِّقَةِ وَاعْتَقَدَ صِدْقَهُ فَلَا يَلْزَمهُ بَلْ يَجُوزُ لَهُ أَخْذًا مِمَّا مَرَّ قَرِيبًا بَلْ ظَاهِرُ قَوْلِ جَمْع لَوْ أَخْبَرَهُ مَنْ يَعْتَقِدُ صِدْقَهُ لَزِمَهُ الصَّوْمُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي اللُّزُومِ عِنْد اعْتِقَادِ الصِّدْقِ بَيْنَ الثِّقَةِ وَغَيْرِهِمْ، ثُمَّ رَأَيْتُ فِي كَلَامِ ابْنِ الصَّبَّاغِ مَا هُوَ ظَاهِرٌ فِي الْجَوَازِ دُونَ الْوُجُوبِ وَسَيَأْتِي صِحَّةُ الِاعْتِمَادِ فِي النِّيَّةِ عَلَى قَوْلِ فَاسِقٍ سَكَنَتْ نَفْسُهُ إلَيْهِ انْتَهَتْ عِبَارَةُ شَرْحِ الْعُبَابِ.
وَاسْتُفِيدَ مِنْهَا أَنَّهُ حَيْثُ لَزِمَهُ الصَّوْمُ لِاعْتِقَادِهِ الصِّدْقَ وَكَوْنِ الْمُخْبِرِ ثِقَةً وَلَا نِزَاعَ فِيهِ وَحَيْثُ جَازَ لَهُ لِاعْتِقَادِهِ الصِّدْقَ وَكَوْنِ الْمُخْبِرِ غَيْرَ ثِقَةٍ يَأْتِي فِي الْإِجْزَاء مَا تَقَرَّرَ مِنْ كَلَامِ الرَّوْضَةِ وَغَيْرِهِ، وَمَنْ يَقُولُ بِاللُّزُومِ فِي هَذِهِ أَيْضًا يَقُولُ بِالْإِجْزَاءِ، ثُمَّ مَا تَقَرَّرَ هُنَا يُنَافِيه كَلَامُهُمْ فِي مَبْحَثِ النِّيَّةِ وَمَبْحَثِ صَوْمِ يَوْمِ الشَّكِّ وَجَمَعَ الْمُتَأَخِّرُونَ بَيْنَ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ بِوُجُوهٍ سَبْعَةٍ ذَكَرْتُهَا مَعَ بَيَانِ مَا فِي كُلٍّ مِنْهَا مِنْ نَقْدٍ وَرَدَ فِي الشَّرْحِ الْمَذْكُورِ وَتَرَكْت سَوْقَهَا هُنَا لِطُولِهَا، وَحَاصِلُ مَا يَتَعَلَّقُ بِمَا فِي السُّؤَالِ مِنْهَا مَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُنَا فِي الشَّرْحِ الْمَذْكُورِ وَإِنَّمَا لَمْ يَصِحَّ صَوْمُ يَوْمِ الشَّكِّ عَنْ رَمَضَانَ أَيْ مَعَ أَنَّهُ مُعْتَمِدٌ فِيهِ عَلَى قَوْلِ مَنْ لَا تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ وَظُنَّ صِدْقُهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَبَيَّن كَوْنَهُ مِنْهُ. نَعَمْ مَنْ اعْتَقَدَ لَيْلًا صِدْقَ مَنْ قَالَ أَنَّهُ رَآهُ مِمَّنْ ذَكَر يَصِحُّ مِنْهُ صَوْمُهُ بَلْ يَلْزَمُهُ كَمَا مَرَّ أَوَّلَ الْبَابِ وَتَقَدَّمَ فِي الْكَلَامِ عَلَى النِّيَّةِ صِحَّةُ نِيَّةِ مُعْتَقِدِ ذَلِكَ، وَوُقُوعُ الصَّوْمِ عَنْ رَمَضَانَ إذَا تَبَيَّنَ كَوْنُهُ مِنْهُ قِيلَ فَلَا تَنَافِي بَيْنَ مَا ذُكِرَ فِي الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ أَيْ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ السُّبْكِيّ وَغَيْرُهُ وَحَاصِلُهُ حَمْلُ كَلَامِهِمْ فِي صِحَّةِ النِّيَّةِ عَلَى مَنْ ذَكَر عَلَى مَا إذَا تَبَيَّنَ كَوْنُهُ مِنْ رَمَضَانَ وَهُنَا عَلَى مَا إذَا لَمْ يَتَبَيَّن شَيْءٌ فَلَيْسَ الِاعْتِمَادُ عَلَى مَنْ ذَكَر أَيْ مِنْ نَحْوِ الصِّبْيَانِ فِي الصَّوْمِ بَلْ فِي النِّيَّةِ فَقَطْ فَإِذَا نَوَى اعْتِمَادًا عَلَى قَوْلِهِمْ ثُمَّ بَانَ كَوْنُ غَدٍ مِنْ رَمَضَانَ لَمْ يَحْتَجْ لَيْلًا إلَى تَجْدِيدِ نِيَّةٍ أُخْرَى وَمِنْ ثَمَّ لَمْ يَذْكُرُوا هَذَا فِيمَا يَثْبُتُ بِهِ الشَّهْرُ وَإِنَّمَا ذَكَرُوهُ فِيمَا يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ فِي النِّيَّةِ، وَحِينَئِذٍ فَيَعْتَمِدُ فِي تَصْحِيحِ النِّيَّةِ عَلَى إخْبَارِ مَنْ يَثِقُ بِهِ ثُمَّ إنْ اسْتَمَرَّ الْحَال عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ يَوْمُ شَكٍّ فَيَحْرُمُ صَوْمُهُ وَلَا يُجْزِئُهُ، وَإِنْ بَانَ مِنْ رَمَضَانَ وَإِلَّا بِأَنْ ثَبَتَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ قَبْلَ الْفَجْرِ أَوْ بَعْدَهُ لَزِمَهُ الصَّوْمُ وَصَحَّ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ جَدَّدَ نِيَّةً؛ لِأَنَّ النِّيَّةَ لَمَّا اسْتَنَدَتْ إلَى إخْبَارِ مَنْ يُوثَقُ بِهِ صَحَّتْ وَوَقَعَتْ مَوْقِعَهَا وَنَازَعَ الْأَذْرَعِيُّ وَغَيْرُهُ فِي هَذَا الْجَوَابِ بِمَا فِيهِ نَظَرٌ لِلْمُتَأَمِّلِ اهـ. الْغَرَضُ مِمَّا فِي الشَّرْحِ الْمَذْكُورِ.
(وَسُئِلَ) نَفَعَ اللَّهُ بِعُلُومِهِ عَنْ حَدِّ بَاطِنِ الْأُذُنِ الَّذِي يُفْطِرُ الصَّائِمُ بِوُصُولِ الْعَيْن إلَيْهِ أَهُوَ مَا لَا يُرَى وَمَا يُرَى فِي حُكْمِ الظَّاهِرِ؟
(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ لَمْ أَرَ أَحَدًا حَدَّدَهُ بِشَيْءٍ لَكِنَّهُمْ ذَكَرُوا فِي نَظِيرِهِ مَا يُعْلَمُ مِنْهُ حَدُّهُ، وَذَلِكَ أَنَّ ابْنَ الرِّفْعَةِ وَغَيْرَهُ نَقَلُوا عَنْ الْقَاضِي أَنَّهُ مَتَى دَخَلَ أَدْنَى شَيْءٍ مِنْ أُصْبُعِهِ فِي مَسْرَبَتِهِ أَفْطَرَ قَالَ السُّبْكِيّ وَهَذَا ظَاهِرٌ إذَا وَصَلَ إلَى الْمَكَانِ الْمُجَوَّفِ، وَأَمَّا أَوَّلُ الْمَسْرَبَةِ الْمُنْطَبِقُ فَلَا يُسَمَّى جَوْفًا فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُفْطِرَ بِالْوُصُولِ إلَيْهِ اهـ وَجُزِمَ بِهِ فِي الْخَادِمِ وَجَرَيْتُ عَلَى نَظِيرِ ذَلِكَ فِي شَرْحِ الْعُبَابِ فَقُلْت عَقِبَ قَوْلِهِ وَبَاطِنُ أُذُنِهِ وَيَنْبَغِي حَدُّهُ بِمَا يَأْتِي فِي الْمُسَرِّبَةِ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْوُصُولِ إلَى الْمُجَوَّفِ دُون أَوَّلِ الْمُنْطَبِقِ اهـ.
وَيُقَاسُ بِذَلِكَ بَاطِنُ الذَّكَرِ أَيْضًا وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ مُجَاوَزَةُ بَاطِنِ الْحَشَفَةِ وَالْحَلَمَةِ وَعِبَارَةُ الْكِفَايَةِ وَالْجَوَاهِرِ: يُفْطِرُ بِإِدْخَالِ مَيْلٍ إلَى بَاطِنِ حَشَفَتِهِ.
فَإِنْ قُلْتَ يَنْبَغِي ضَبْطُ بَاطِنِ الْأُذُنِ بِمَا ضَبَطُوا بِهِ بَاطِنَ الْفَرْجِ وَهُوَ مَا لَا يَجِبُ غَسْلُهُ فَحَيْثُ جَاوَزَ مَا يَجِبُ غَسْلُهُ، وَهُوَ أَوَّلُ الْمُنْطَبِقِ أَفْطَرَ. نَظِيرُ مَا قَالُوهُ فِي بَاطِنِ الْفَرْجِ، وَكَأَنَّ هَذَا هُوَ الَّذِي نَظَرَ إلَيْهِ السَّائِلُ فِي الضَّبْطِ بِالرُّؤْيَةِ وَعَدَمِهِ.
قُلْت فَرْقٌ وَاضِحٌ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ أَنَّ مَا يُجَاوِزُ الْمُنْطَبِقَ مِنْ الشَّفْرَيْنِ بَاطِنٌ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ يَظْهَرُ عِنْد الْجُلُوسِ عَلَى الْقَدَمَيْنِ أَلْحَقُوهُ بِالظَّاهِرِ وَلَمْ يَحْكُمُوا بِالْفِطْرِ
إلَّا عِنْد مُجَاوَزَةِ هَذَا الظَّاهِرِ فَلَا ضَابِطَ هُنَا غَيْرُهُ، وَأَمَّا الْأُذُنُ فَمَا قَبْلَ الْمُنْطَبِقِ ظَاهِرٌ حِسًّا وَقِيَاسًا كَمَا قَبْلَ الْمَسْرُبَةِ، فَنَاسَبَ أَنْ يُلْحَقَ بِهَا فِي أَنَّ مَا جَاوَزَ أَوَّلَ الْمُنْطَبِقِ إلَى الْمُجَوَّفِ جَوْفٌ وَمَا لَا فَلَا فَتَأَمَّلْهُ.
(وَسُئِلَ) نَفَعَ اللَّهُ بِهِ عَنْ حَدِيث «إنَّ فِي الْجَنَّةِ نَهْرًا يُقَالُ لَهُ رَجَبٌ مَاؤُهُ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنْ اللَّبَنِ وَأَحْلَى مِنْ الْعَسَلِ مَنْ صَامَ يَوْمًا مِنْ رَجَبٍ سَقَاهُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ النَّهْرِ» وَحَدِيثِ «مَنْ صَامَ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ الْخَمِيسَ وَالْجُمُعَةَ وَالسَّبْتَ كُتِبَ لَهُ عِبَادَةُ سَبْعِمِائَةِ سَنَةٍ» وَحَدِيثِ «مَنْ صَامَ يَوْمًا مِنْ رَجَبٍ كَانَ كَصِيَامِ شَهْرٍ، وَمَنْ صَامَ مِنْهُ سَبْعَةَ أَيَّامٍ أُغْلِقَتْ عَنْهُ أَبْوَابُ جَهَنَّمَ السَّبْعَةُ وَمَنْ صَامَ مِنْهُ ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةُ، وَمَنْ صَامَ مِنْهُ عَشَرَةَ أَيَّامٍ بُدِّلَتْ سَيِّئَاتُهُ حَسَنَاتٍ» هَلْ هِيَ مَوْضُوعَةٌ أَمْ لَا؟
(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ لَيْسَتْ مَوْضُوعَةً بَلْ ضَعِيفَةٌ فَتَجُوز رِوَايَتُهَا وَالْعَمَلُ بِهَا فِي الْفَضَائِلِ قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي الْأَوَّلِ لَيْسَ فِي إسْنَادِهِ مَنْ يُنْظَرُ فِي حَالِهِ سِوَى مَنْصُورٍ الْأَسَدِيِّ وَقَدْ رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ لَكِنْ لَمْ أَرَ فِيهِ تَعْدِيلًا وَقَدْ ذَكَرَهُ الذَّهَبِيُّ وَضَعَّفَهُ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَقَالَ فِي الثَّانِي لَهُ طُرُقٌ بِلَفْظِ عِبَادَةُ سِتِّينَ سَنَةٍ وَهُوَ أَشْبَهُ وَمَخْرَجه أَحْسَنُ وَإِسْنَادُهُ أَشَدُّ مِنْ الضَّعِيفِ قَرِيبٌ مِنْ الْحَسَنِ وَالثَّالِثُ لَهُ طُرُقٌ وَشَوَاهِدُ ضَعِيفَةٌ يُرْتَقَى بِهَا عَنْ كَوْنِهِ مَوْضُوعًا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(وَسُئِلَ) - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَمَّنْ عَيَّدَ فِي قَرْيَةٍ ثُمَّ وَصَلَ لِقَرْيَةٍ أُخْرَى قَرِيبَةٍ وَأَخْبَرَ أَهْلَهَا بِذَلِكَ فَهَلْ يُقْبَلُ خَبَرُهُ أَوْ يُوَقَّف إلَى إخْبَارِ مَنْ يَحْصُلُ بِهِ التَّوَاتُرُ أَوْ مَنْ تَحْصُلُ بِهِ الشَّهَادَةُ وَلَوْ صَامَ فِي قَرْيَةٍ فَوَصَلَ لِقَرْيَةٍ أُخْرَى فَهَلْ يَجِبُ الصَّوْمُ عَلَى أَهْلِ الْقَرْيَةِ بِخَبَرِ وَاحِدٍ أَوْ اثْنَيْنِ أَوْ لَا حَتَّى تَحْصُلَ الشَّهَادَةُ؟ وَهَلْ يُفَرَّقُ بَيْنَ مَا إذَا كَانَ الْبَلَدُ الَّذِي عَيَّدَ أَوْ صَامَ فِيهِ مِنْ الْمُدُنِ وَالْأَمْصَارِ وَالْقُرَى، وَإِذَا أَرْسَلَ قَاضِي بَلَدٍ رُقْعَةً إلَى قَاضِي بَلَدٍ بِثُبُوتِ رُؤْيَةِ الْهِلَالِ عِنْدَهُ فَهَلْ يَجُوزُ الصَّوْمُ اعْتِمَادًا عَلَى الرُّقْعَةِ أَوْ لَا بُدَّ مِنْ شَاهِدَيْنِ مَعَهَا؟
(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ قَدْ وَقَعَ مِنْ مُنْذُ سِنِينَ فِي زَبِيدٍ - حَرَسهَا اللَّهُ تَعَالَى - الْإِفْطَارُ مِنْ رَمَضَانَ بِإِخْبَارِ عَدْلٍ فَاخْتَلَفَ عُلَمَاؤُهَا هَلْ هُوَ جَائِزٌ بَلْ وَاجِبٌ أَوْ هُوَ حَرَامٌ وَطَالَ اخْتِلَافُهُمْ وَكَثُرَتْ فَتَاوِيهِمْ وَتَصَانِيفُهُمْ فِيهَا نَفْيًا وَإِثْبَاتًا حَتَّى أَرْسَلُوا يَسْتَفْتُونَ مِنَّا عَنْ ذَلِكَ بِمَكَّةَ وَكَانَ مُجَاوِرًا إذْ ذَاكَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ أَبُو الْحَسَنِ الْبَكْرِيُّ رضي الله عنه وَأَرْضَاهُ وَجَعَلَ جَنَّاتِ الْمَعَارِفِ مُتَقَلَّبَهُ وَمَثْوَاهُ فَاخْتَلَفَ جَوَابِي وَجَوَابُهُ وَلَمَّا عُرِضَ عَلَيْهِ ذَلِكَ قَالَ لَازَالَ الْمَشَايِخُ وَتَلَامِذَتُهُمْ يَخْتَلِفُونَ وَلَا عَتَبَ فِي ذَلِكَ أَلَا تَرَى إلَى مَا وَقَعَ لِلْإِسْنَوِيِّ مَعَ تَلَامِذَتِهِ وَالْبُلْقِينِيِّ مَعَ تَلَامِذَتِهِ وَغَيْرِهِمَا وَقَدْ بَسَطْتُ حَاصِلَ مَا أَجَبْتُ بِهِ فِي شَرْحِي الْكَبِيرِ عَلَى الْإِرْشَادِ وَحَاصِلُ عِبَارَتِهِ وَبَحْثِ الْأَذْرَعِيِّ أَنَّهُ يَكْتَفِي بِالْعَلَامَةِ الظَّاهِرَةِ الدَّالَّةِ كَرُؤْيَةِ أَهْلِ الْقُرَى الْقَرِيبَةِ مِنْ الْبَلَدِ الْكَبِيرِ الْقَنَادِيلَ الْمُعَلَّقَةَ لَيْلَةَ أَوَّلِ رَمَضَانَ بِالْمَنَائِرِ كَمَا هُوَ الْعَادَة وَاعْتَمَدَهُ مَنْ بَعْدَهُ وَقِيَاسُهُ الِاكْتِفَاءُ بِرُؤْيَةِ قَنَادِيلِ الْمَقْبَرَةِ فَجْرَ يَوْمِ الْعِيدِ ثُمَّ رَأَيْتُ الشَّارِحَ أَيْ الشَّمْسَ الْجَوْجَرِيَّ وَابْنَ قَاضِي عَجْلُونٍ أَفْتَيَا بِذَلِكَ وَقَيَّدَهُ الشَّارِحُ بِمَا إذَا كَثُرَتْ الْقَنَادِيلُ كَثْرَةً لَا يُحْتَمَلُ مَعَهَا النِّسْيَانُ بِوَجْهٍ وَهُوَ ظَاهِرٌ.
وَشَيْخُنَا زَكَرِيَّا سَقَى اللَّهُ عَهْدَهُ أَفْتَى بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْفِطْرُ بِذَلِكَ. قَالَ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ رَمَضَانَ وَشَغْلَ الذِّمَّةِ بِالصَّوْمِ حَتَّى يَثْبُتَ خِلَافُهُ شَرْعًا اهـ وَيَتَعَيَّن حَمْلُهُ عَلَى مَا إذَا لَمْ يَحْصُل لِلرَّائِي بِذَلِكَ اعْتِقَادٌ جَازِمٌ وَإِلَّا فَالْوَجْهُ وُجُوبُ الْفِطْرِ وَمِنْ ثَمَّ خَالَفَ الشَّيْخُ بَعْضَ أَكَابِرَ أَصْحَابِهِ فَأَفْتَى بِأَنَّ مَنْ حَصَلَ لَهُ اعْتِقَادٌ جَازِمٌ بِدُخُولِ رَمَضَانَ مِنْ الْعَلَامَاتِ الْمُعْتَادَةِ لِذَلِكَ وَجَبَ عَلَيْهِ الصَّوْمُ وَمَنْ حَصَلَ لَهُ ذَلِكَ الِاعْتِقَادُ بِدُخُولِ شَوَّال مِنْ الْعَلَامَاتِ الْمَذْكُورَةِ لَزِمَهُ الْفِطْرُ عَمَلًا بِالِاعْتِقَادِ الْجَازِمِ فِيهِمَا اهـ.
وَبِمَا تَقَرَّرَ يُعْلَمُ أَنَّ إخْبَارَ الْعَدْلِ الْمُوجِبِ لِلِاعْتِقَادِ الْجَازِمِ بِدُخُولِ شَوَّال يُوجِبُ الْفِطْرَ وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَقَوْلُ الرُّويَانِيِّ لَا يَجُوزُ الِاعْتِمَادُ فِي الْفِطْرِ آخِرَ النَّهَارِ عَلَى إخْبَارِ الْعَدْلِ ضَعِيفٌ وَلَا يُفَرَّقُ بِأَنَّ آخِرَ النَّهَارِ يَجُوزُ الْفِطْرُ فِيهِ بِالِاجْتِهَادِ بِخِلَافِ آخِرَ رَمَضَانَ؛ لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ يُمْكِنُ فِي الْأَوَّلِ دُون الثَّانِي إذْ مِنْ شَرْطِهِ الْعَلَامَةُ وَهِيَ مَوْجُودَةٌ فِي ذَاكَ لَا هَذَا وَحَيْثُ قُلْنَا بِجَوَازِ الْفِطْرِ أَوْ وُجُوبِهِ وَلَمْ يَثْبُت عِنْد الْحَاكِمِ
وَجَبَ إخْفَاؤُهُ لِئَلَّا يَتَعَرَّضَ لِمَخَافَتِهِ وَعُقُوبَتِهِ ثُمَّ رَأَيْت النَّوَوِيَّ رحمه الله وَغَيْرَهُ ذَكَرُوا عَنْ الْقَفَّالِ وَاعْتَمَدُوهُ: أَنَّ لِزَوْجَةِ الْمَفْقُودِ إذَا أَخْبَرَهَا عَدْلٌ بِمَوْتِهِ أَنْ تَتَزَوَّجَ فِيمَا بَيْنهَا وَبَيْن اللَّهِ تَعَالَى.
وَهَذَا صَرِيحٌ فِيمَا تَقَرَّرَ مِنْ جَوَازِ الْفِطْرِ لِمَنْ أَخْبَرَهُ عَدْلٌ بِدُخُولِ شَوَّال بَلْ هَذَا أَوْلَى؛ لِأَنَّ ذَاكَ حَقٌّ آدَمِيٌّ وَيَتَعَلَّقُ بِالْأَبْضَاعِ الْمُخْتَصَّةِ بِمَزِيدِ احْتِيَاطٍ، وَقَاطِع لِلْعِصْمَةِ الَّتِي الْأَصْلُ بَقَاؤُهَا وَمَعَ ذَلِكَ أَثَر خَبَرِ الْعَدْلِ فِيهِ فَمَا نَحْنُ فِيهِ أَوْلَى وَلَا نَظَرَ لِمَا تُوُهِّمَ مِنْ أَنَّهُ إنَّمَا أَثَرٌ ثُمَّ لِئَلَّا يَطُول ضَرَرُهَا وَانْتِظَارُهَا؛ لِأَنَّ الْمَوْتَ قَدْ يَعْسُرُ إثْبَاتُهُ لِأَنَّ إطْلَاقَهُمْ تَأْثِيرِهِ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ نَظَرِهِمْ لِخُصُوصِ ذَلِكَ وَزَعَمَ أَنَّ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ مَا مِنْ شَأْنِهِ غَيْرُ صَحِيحٍ، أَمَّا فِي الْمَوْتِ فَوَاضِحٌ إذْ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ أَنَّهُ يَعْسُرُ إثْبَاتُهُ، وَأَمَّا التَّضَرُّرُ فِيمَا ذُكِرَ فَلَمْ يُعَوِّلُوا عَلَيْهِ فِي مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ كَمَا فِي انْقِطَاع الدَّمِ لِعَارِضٍ، وَالْغِيبَةِ مَعَ جَهْل يَسَارِهِ وَإِعْسَارِهِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهَا حِينَئِذٍ الْفَسْخُ مَعَ تَضَرُّرِهَا بِمَا لَا يُطَاق.
وَلَا نَظَرَ أَيْضًا لِاتِّهَامِ الرَّائِي فِي إخْبَارِهِ بِذَلِكَ لِجَرِّهِ جَوَازَهُ الْفِطْرَ لِنَفْسِهِ،؛ لِأَنَّهُ لَا عِبْرَةَ بِهَذَا الْجَرِّ إنْ سَلِمَ وَإِلَّا فَلَا جَرَّ؛ لِأَنَّهُ بِالنِّسْبَةِ لِنَفْسِهِ يَلْزَمُهُ الْفِطْرُ سَوَاءً قُلْنَا يُعْمَلُ بِخَبَرِهِ أَمْ لَا فَلَا تُهْمَةَ أَصْلًا فَإِفْتَاءُ بَعْضِ مَنْ تَقَدَّمَ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ بِإِطْلَاقِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْفِطْرُ إلَّا بِشَهَادَةِ عَدْلَيْنِ نَظَرًا لِذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحٍ لِمَا تَقَرَّرَ وَمِمَّا يُؤَيِّدُ مَا قَدَّمْتُهُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ صَرِيحُ عِبَارَةِ الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا مِنْ أَنَّ لِلْحَاسِبِ وَالْمُنَجِّمِ الْعَمَلُ بِحِسَابِهِمَا فِي الصَّوْمِ وَالْفِطْرِ فَإِذَا جَازَ لَهُمَا الْعَمَلُ بِهِ فِي الْفِطْرِ فَلَأَنْ يَجُوزَ بَلْ يَجِبُ الْعَمَلُ بِإِخْبَارِ الْعَدْلِ لِمَا مَرَّ بِالْأَوْلَى وَتَخْصِيصُ بَعْضِهِمْ جَوَازُ الْعَمَلِ لَهُمَا بِالصَّوْمِ يَرُدُّهُ عِبَارَةُ الشَّيْخَيْنِ كَمَا يُعْلَمُ بِنَظَرِهَا وَتَصْرِيحُ الْأَصْحَابِ كَالشَّافِعِيِّ رضي الله عنه بِأَنَّ شَوَّالًا لَا يَثْبُتُ إلَّا بِعَدْلَيْنِ وَأَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الشَّهَادَةِ لَا الرِّوَايَةِ، مَفْرُوضٌ كَمَا يُعْلَمُ ذَلِكَ مِنْ مَجْمُوعِ كَلَامِهِمْ فِي ثُبُوتِهِ بِالنِّسْبَةِ لِعُمُومِ النَّاسِ وَلَيْسَ الْكَلَامُ فِيهِ انْتَهَتْ عِبَارَةُ شَرْحِ الْإِرْشَادِ. وَبِهَا يُعْلَمُ أَنَّ الْمَدَارَ فِي الصَّوْمِ وَالْفِطْرِ بِالنِّسْبَةِ لِسَائِرِ النَّاسِ عَلَى الْعُمُومِ بِالثُّبُوتِ عِنْد الْحَاكِمِ وَهُوَ بِعَدْلٍ فِي الصَّوْمِ وَبِعَدْلَيْنِ فِي الْفِطْرِ أَوْ بِعَدَدِ التَّوَاتُرِ وَبِالنِّسْبَةِ لِبَعْضِ النَّاسِ عَلَى الرُّؤْيَةِ أَوْ الِاعْتِقَادِ الْجَازِمِ بِإِخْبَارِ عَدْلٍ أَوْ فَاسِقٍ وَقَعَ فِي الْقَلْبِ صِدْقُهُ أَوْ بِقَرِينَةٍ لَا تَتَخَلَّفُ عَادَةً كَالْقَنَادِيلِ السَّابِقِ ذِكْرُهَا وَكَرُقْعَةِ الْقَاضِي الْمَذْكُورَة آخِرَ السُّؤَالِ إذَا اسْتَحَالَ عَادَةً تَزْوِيرُهَا أَوْ نَحْوِهِ.
(وَسُئِلَ) نَفَعَ اللَّهُ بِهِ عَمَّنْ عَلَيْهِ عَشَرَةُ أَيَّامٍ مِنْ رَمَضَانَ وَصَامَ عَنْهَا خَمْسَةً وَأَفْطَرَ فِي كُلِّ يَوْمٍ مُتَعَدِّيًا هَلْ يَتَضَيَّقُ صَوْمُ الْخَمْسَةِ كُلِّهَا أَوْ يَوْمٍ وَاحِدٍ؟
(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: الظَّاهِرُ أَنَّ مُرَادَ السَّائِلِ مِمَّا ذَكَره أَنَّهُ شَرَعَ فِي الْقَضَاءِ فَفِي أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْ شُرُوعِهِ فِيهِ أَفْطَرَ ثُمَّ فِي ثَانِي يَوْمٍ أَفْطَرَ أَيْضًا وَهَكَذَا وَحِينَئِذٍ فَالْوَجْهُ أَنَّهُ إنْ نَوَى بِكُلِّ يَوْمٍ شَرَعَ فِيهِ ثُمَّ أَفْسَدَهُ أَنَّهُ عَنْ يَوْمٍ مُعَيَّنٍ مِمَّا عَلَيْهِ لَزِمَهُ الْفَوْرُ فِي الْخَمْسَةِ،؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهَا وَقَعَ قَضَاءً مُسْتَقِلًّا عَنْ يَوْمٍ مُغَايِرٍ لِغَيْرِهِ، وَإِنْ نَوَى أَنَّ الثَّانِيَ قَضَاءٌ عَنْ الْأَوَّلِ الَّذِي أَفْسَدَهُ وَهَكَذَا لَمْ يَلْزَمهُ الْفَوْرُ إلَّا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ أَخْذًا مِمَّا ذَكَرُوهُ فِي الْحَجِّ أَنَّهُ لَوْ تَكَرَّرَ إفْسَادُهُ لِلْقَضَاءِ الْمُتَعَدِّد لَمْ يَلْزَمهُ إلَّا قَضَاءٌ وَاحِدٌ، وَإِنْ أَطْلَقَ فَظَاهِرُ كَلَامِهِمْ فِيمَنْ عَلَيْهِ صَلَوَاتٌ وَأَطْلَقَ قَضَاءً وَاحِدً أَنَّهُ يَقَعُ عَنْ أَوَّلِ مَقْضِيَّةٍ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمهُ الْفَوْرُ إلَّا فِي قَضَاءٍ وَاحِدٍ أَيْضًا؛ لِأَنَّ كُلَّ يَوْمٍ شَرَعَ فِيهِ وَأَفْسَدَهُ مِنْ غَيْرِ نِيَّةِ كَوْنِهِ قَضَاءً عَنْ يَوْمٍ مَخْصُوصٍ لَا يَنْصَرِفُ إلَّا لِلْأَوَّلِ فَهُوَ لَمْ يَتَكَرَّر مِنْهُ فَسَادٌ لِأَقْضِيَةٍ مُتَعَدِّدَةٍ بَلْ لِقَضَاءٍ وَاحِدٍ.
(وَسُئِلَ) رضي الله عنه مَا مَعْنَى حَدِيثِ الْبَيْهَقِيّ «مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا كَانَ لَهُ أَجْرُ مَنْ عَمِلَهُ» ؟
(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ الْمَشْهُورُ فِي لَفْظِ الْحَدِيثِ أَنَّ أَجْرَ مُضَافٌ لِمَنْ الْمَوْصُولَةِ، وَأَمَّا تَنْوِينُهُ وَجَعْلُ مَنْ جَارَّةً فَقَدْ أَفْسَدَهُ الْجَلَالُ السُّيُوطِيّ بِأَنَّهَا إمَّا بَعْضِيَّة وَالضَّمِيرُ لِلصَّائِمِ وَهُوَ مُنَافٍ لِلْأَخْبَارِ الْآتِيَة أَنَّ الْمُفْطِرَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ الصَّائِمِ لَا بَعْضِهِ أَوْ الضَّمِير لِلتَّفْطِيرِ الْمَفْهُومِ مِنْ فَطَّرَ فَفَسَادُهُ ظَاهِرٌ، وَإِمَّا سَبَبِيَّة وَالضَّمِيرُ لِلصَّائِمِ وَوَجْهُ فَسَادِهِ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُؤْجَرُ بِسَبَبِ عَمَلِ غَيْرِهِ وَإِنَّمَا يُؤْجَرُ بِسَبَبِ عَمَلِ نَفْسِهِ أَوْ لِلْمُفَطِّرِ لَمْ يَصِحَّ اعْتِلَاقُ مَا بَعْده بِهِ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عِنْدَ الْبَيْهَقِيّ أَيْضًا وَهُوَ قَوْلُهُ «مِنْ غَيْرِ
أَنْ يُنْقَصَ مِنْ أَجْرِ الصَّائِمِ شَيْءٌ» اهـ وَفِيهِ نَظَرٌ وَمَا الْمَانِعُ مِنْ أَنَّهَا لِلْبَعْضِيَّةِ وَالضَّمِيرُ لِلصَّائِمِ وَالْمُمَاثَلَة مِنْ حَيْثُ أَصْلُ الثَّوَابِ دُون الْمُضَاعَفَةِ لِئَلَّا يَلْزَم تَسَاوِي الصَّائِمِ وَمُفَطِّرِهِ فِي فَوَائِدِ الصَّوْمِ وَثَوَابِهِ وَهُوَ بَعِيدٌ، أَوْ لِلسَّبَبِيَّةِ وَالضَّمِيرُ لِلتَّفْطِيرِ وَالتَّقْدِير كَانَ لَهُ أَجْرٌ مِنْ أَجْلِ تَفْطِيرِهِ لَهُ أَوْ لِلصَّائِمِ، وَالتَّقْدِيرُ كَانَ لَهُ أَجْرٌ مِنْ أَجْلِ وُجُودِ عَمَلٍ لِلصَّائِمِ وَهُوَ صَوْمُهُ الَّذِي يُثَابُ عَلَيْهِ.
وَيُسْتَفَادُ مِنْ هَذَا التَّقْدِيرِ فَائِدَةٌ جَلِيلَةٌ هِيَ أَنَّ الصَّائِمَ لَوْ لَمْ يَحْصُل لَهُ ثَوَابٌ عَلَى صَوْمِهِ لِارْتِكَابِهِ فِيهِ مَا يُبْطِلُ الثَّوَابَ كَالْغِيبَةِ وَقَوْلِ الزُّورِ كَمَا صَحَّ فِي الْخَبَرِ لَمْ يَحْصُل لَلْمُفَطِّرِ ثَوَابٌ كَمَا اقْتَضَاهُ مَا يَأْتِي فِي الْأَحَادِيثِ كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ، فَحَيْثُ لَا أَجْرَ لَهُ لَا ثَوَابَ لِمُفَطِّرِهِ وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ عَمَلِهِ لَوْ فُرِضَ لَهُ أَجْرٌ فَيُؤْجَرُ الْمُفْطِرُ وَإِنْ لَمْ يُؤْجَرْ الصَّائِمُ ثُمَّ إذَا قُلْنَا بِالْمَشْهُورِ فِي ضَبْطِ الْحَدِيثِ فَمَعْنَاهُ كَانَ لَهُ أَجْرٌ مِنْ عَمَلِ الصَّوْمِ أَيْ مِثْلُ أَجْرِهِ لِلْأَحَادِيثِ الْمُصَرِّحَةِ بِذَلِكَ وَيُسْتَفَادُ مِنْ هَذَا تَأْيِيد لِذَلِكَ الِاحْتِمَالِ الَّذِي ذَكَرْته؛ لِأَنَّ عُدُولَهُ عَنْ قَوْلِهِ كَانَ لَهُ أَجْرُ عَمَلِهِ أَيْ الصَّائِمِ الَّذِي فَطَرَ إلَى مَنْ عَمَلُهُ الْأَعَمُّ مِنْهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ فَائِدَةٍ هِيَ حُصُولُ ثَوَابٍ مِثْل أَجْرِ الصَّوْمِ لِلْمُفَطِّرِ سَوَاءٌ كَانَ لِلصَّائِمِ الَّذِي فَطَّرَهُ ثَوَابٌ أَمْ لَا وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى كَانَ لِلْمُفَطِّرِ أَجْرٌ مِنْ عَمَلِ التَّفْطِيرِ مُقْتَدِيًا بِهِ فِي ذَلِكَ لِلْخَبَرِ الصَّحِيحِ «مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» .
(وَسُئِلَ) رضي الله عنه بِمَا لَفْظُهُ قَدْ يُفْتَرَضُ رَمَضَانُ وَسَطَ جُمَادَى؟
(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ جُمَادَى عِنْد الْعَرَبِ الشِّتَاء كُلّه.
(وَسُئِلَ) نَفَعَ اللَّهُ بِعُلُومِهِ عَنْ صَوْمِ ثَالِثِ عَشَرَ الْحِجَّةِ لِمَنْ يَعْتَادُ صَوْمَ أَيَّامِ الْبِيضِ هَلْ يَسْقُطُ بِفَقْدِ يَوْمِهِ أَوْ يَصُومُ السَّادِسَ عَشَرَ عَنْهُ كَمَا قَالَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ فَهَلْ هُوَ احْتِيَاطٌ أَوْ قَضَاءٌ أَوْ نِيَابَةٌ وَكَيْف يَقُوم عَنْهُ إذَا فَاتَ مَحِلُّهُ؟
(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ مِمَّنْ صَرَّحَ بِأَنَّهُ يَصُومُ السَّادِسَ عَشَرَ عِوَضًا عَنْ الثَّالِثَ عَشَرَ فِي شَهْرِ الْحِجَّةِ الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ وَتَبِعُوهُ قَالُوا لِأَنَّ صَوْمَ ثَالِثَ عَشَرَ حَرَامٌ فَكَانَ السَّادِسَ عَشَرَ عِوَضًا عَنْهُ وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ بَعْضَ الْبِيضِ فَاتَ بِعُذْرٍ فَشُرِعَ تَدَارُكه تَوْسِعَةً فِي حُصُولِ ثَوَابِهِ لِتَأَكُّدِ صَوْمِهَا بَلْ قِيلَ إنَّهَا كَانَتْ وَاجِبَةً أَوَّلَ الْإِسْلَامِ ثُمَّ نُسِخَ وُجُوبُهَا بِصَوْمِ رَمَضَانَ وَبَقِيَ نَدْبُهَا مُتَأَكَّدًا وَهَذَا بِاعْتِبَارِ الْكَمَالِ وَإِلَّا فَقَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّهُ يَحْصُلُ أَصْلُ السُّنَّةِ بِصَوْمِ ثَلَاثَةٍ مِنْ الشَّهْرِ غَيْرهَا وَالْحَدِيثُ الصَّحِيحُ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها «مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُبَالِي مِنْ أَيِّ أَيَّامِ الشَّهْرِ يَصُومُهَا» صَرِيحٌ فِيمَا قُلْنَاهُ فَحِينَئِذٍ انْدَفَعَ اسْتِبْعَادُ السَّائِلِ لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ وَكَيْف إلَخْ.
(وَسُئِلَ) نَفَعَ اللَّهُ بِهِ عَنْ رُؤْيَةِ الْهِلَالِ إذَا قُلْنَا إنَّ الْقُرْبَ وَالْبُعْدَ بِاخْتِلَافِ الْمَطَالِعِ وَاتِّحَادِهَا هَلْ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَظْهَرَ تَفَاوُتٌ بَيْنَ أَهْلِ الْبُلْدَان الشَّرْقِيَّةِ وَالْغَرْبِيَّةِ فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ وَآخِرِهِ وَلَمْ يَشْتَهِر مِنْ أَهْلِ الْبُلْدَان الثَّانِيَةِ إلَّا الِاتِّفَاقُ مَا السَّبَبُ فِي ذَلِكَ هَلْ هُوَ كَوْنُ الِاخْتِلَافِ لَا يَظْهَرُ فِي الرُّبْعِ الْمَعْمُورِ بِكَثِيرٍ أَوْ لَا فَإِنْ قُلْتُمْ بِالْأَوَّلِ فَلِأَيِّ شَيْءٍ الِاخْتِلَافُ بَيْن الْأَئِمَّةِ فِي تَرْجِيحِ اخْتِلَافِ الْمَطَالِعِ وَاتِّحَادِهَا وَمَسَافَةِ الْقَصْرِ؟
(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ نَعَمْ يَلْزَم مِنْهُ ذَلِكَ فَقَدْ صَرَّحَ السُّبْكِيّ وَالْإِسْنَوِيُّ بِأَنَّ الْمَطَالِعَ إذَا اخْتَلَفَتْ فَقَدْ يَلْزَمُ مِنْ رُؤْيَتِهِ فِي بَلَدٍ رُؤْيَتُهُ فِي الْآخَرِ مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ إذْ اللَّيْلُ يَدْخُلُ فِي الْبِلَادِ الشَّرْقِيَّةِ قَبْلَ دُخُولِهِ فِي الْغَرْبِيَّةِ وَحِينَئِذٍ فَيَلْزَم عِنْد اخْتِلَافِهَا مِنْ رُؤْيَتِهِ فِي الشَّرْقِيِّ رُؤْيَتِهِ فِي الْغَرْبِيِّ مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ، وَأَمَّا عِنْد اتِّحَادِهَا فَيَلْزَمُ مِنْ رُؤْيَتِهِ فِي أَحَدِهِمَا رُؤْيَته فِي الْآخَرِ وَمِنْ ثَمَّ أَفْتَى جَمْعٌ بِأَنَّهُ لَوْ مَاتَ أَخَوَانِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ وَقْتَ زَوَالِهِ وَأَحَدُهُمَا بِالْمَشْرِقِ وَالْآخَر بِالْمَغْرِبِ وَرِثَ الْمَغْرِبِيُّ الْمَشْرِقِيَّ لِتَقَدُّمِ مَوْتِهِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فِي الْأَوْقَاتِ لَزِمَ مِثْلُهُ فِي الْأَهِلَّةِ وَأَيْضًا فَالْهِلَالُ قَدْ يَكُونُ فِي الشَّرْقِ قَرِيبُ الشَّمْسِ فَيَسْتُرهُ شُعَاعُهَا فَإِذَا تَأَخَّرَ غُرُوبُهَا فِي الْمَغْرِبِ بَعُدَ عَنْهَا فَيُرَى، وَالِاخْتِلَافُ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مُنْتَشِرٌ يَجْمَعهُ سِتَّةُ آرَاءٍ:
أَحَدُهَا إذَا رُئِيَ بِبَلَدٍ لَزِمَ جَمِيعَ أَهْلِ الْأَرْضِ فَمَنْ عَلِمَ بِرُؤْيَتِهِ بِمَحِلٍّ قَبْلَ رُؤْيَةِ مَحِلِّهِ لَزِمَهُ الْقَضَاءُ أَيْ وَيَنْبَغِي نَدْبُهُ لَهُ عَلَى الْأَصَحِّ خُرُوجًا مِنْ الْخِلَافِ.
ثَانِيهَا يَلْزَمُ أَهْلَ إقْلِيمِ بَلَدٍ الرُّؤْيَةُ.
ثَالِثهَا مَنْ وَافَقَهُمْ فِي الْمَطْلَعِ.
رَابِعُهَا يَلْزَمُ كُلَّ بَلَدٍ لَا يُتَصَوَّرُ خَفَاؤُهُ عَنْهُمْ بِلَا عَارِضٍ.
خَامِسُهَا يَلْزَم مَنْ عَلَى
دُون مَسَافَةِ الْقَصْرِ.
سَادِسُهَا يَلْزَمُ بَلَدِ الرُّؤْيَةِ فَقَطْ.
وَاسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِالْأَوَّلِ الْمَنْقُولِ عَنْ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ بِأَنَّ الْأَرْضَ مُسَطَّحَةٌ مَبْسُوطَةٌ فَعَدَمُ الرُّؤْيَةِ فِي الْبَعِيدِ لِعَارِضٍ لَا لِعَدَمِ الْهِلَالِ وَرُدَّ بِأَنَّ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْبِلَادَ مُخْتَلِفَةُ الطُّلُوعِ وَالْغُرُوبِ لِلشَّمْسِ وَالْقَمَرِ فَقَدْ يَحْصُلَانِ فِي مَحِلٍّ دُونَ آخَر فَنِيطَ كُلُّ مَحِلٍّ بِرُؤْيَةِ أَهِلَّةٍ كَمَا عُلِّقَ طُلُوعُ الْفَجْرِ وَالشَّمْسِ وَغُرُوبِهَا بِالْمَطَالِعِ وَلَا يَضُرّ مَا يَلْزَمُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ الرُّجُوعِ لِقَوْلِ الْحَاسِبِ وَالْمُنَجِّمِ لِأَنَّهُ فِي أَمْرٍ تَابِعٍ خَاصٍّ وَالتَّوَابِعُ وَالْأُمُورُ الْخَاصَّة يُغْتَفَرُ فِيهِمَا مَا لَا يُغْتَفَرُ فِي الْأُصُولِ وَالْأُمُورِ الْعَامَّةِ قَالَ فِي الْأَنْوَارِ وَالْمُرَادُ بِاخْتِلَافِهَا أَنْ يَتَبَاعَدَ الْبَلَدَانِ بِحَيْثُ لَوْ رُئِيَ فِي أَحَدِهِمَا لَمْ يُرَ فِي الْآخَر غَالِبًا اهـ.
وَفِيهِ شَيْءٌ بَيَّنْتُهُ فِي شَرْحِ الْعُبَابِ قَالَ التَّاجُ التَّبْرِيزِيُّ وَرُؤْيَتُهُ فِي بَلَدٍ تُوجِبُ ثُبُوتَ حُكْمِهَا إلَى أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ فَرْسَخًا لِأَنَّهَا فِي أَقَلِّ مِنْ ذَلِكَ لَا تَخْتَلِفُ قَالَ أَبُو شُكَيْل: وَعَدَنُ وَزَبِيدٌ وَمَا وَالَاهُمَا مِنْ بِرّ عَجَم مُتَّحِدَةُ الْمَطَالِعِ وَعَدَنُ وَصَنْعَاءُ وَمَا وَالَاهُمَا مِنْ الْجِبَالِ وَتَعِزُّ مُخْتَلِفَةٌ اهـ.
(وَسُئِلَ) نَفَعَ اللَّهُ بِهِ عَمَّنْ نَوَى احْتِيَاطًا فِي اللَّيْلِ الصَّوْمَ عَنْ قَضَاءِ رَمَضَان إنْ كَانَ عَلَيْهِ قَضَاءُ رَمَضَانَ وَإِلَّا فَعَنْ الْفِدْيَةِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ قَضَاءٌ فَهَلْ يَكُونُ عَنْ الْفِدْيَةِ أَوْ لَا، وَإِذَا كَانَ عَلَيْهَا قَضَاءٌ فِي الْحَقِيقَةِ فَهَلْ يَحْصُلُ الْقَضَاءَ مَعَ هَذَا التَّرَدُّدِ وَعَدَم الْجَزْمِ أَوْ لَا وَهَلْ الْأَفْضَلُ لِلْمُتَطَوِّعِ بِالصِّيَامِ أَنْ يَنْوِيَ الْقَضَاءَ احْتِيَاطًا أَوْ التَّطَوُّعَ فَإِذَا نَوَى الْقَضَاءَ فَهَلْ يَحْصُلُ التَّطَوُّعُ إنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ قَضَاءٌ أَمْ لَا، وَإِذَا نَوَى بِصَوْمِ الْقَضَاءِ فِي الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيس مَثَلًا فَهَلْ تَحْصُلُ لَهُ السُّنَّةُ أَيْضًا أَمْ لَا؟
(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ ذَكَر النَّوَوِيُّ رحمه الله فِي مَجْمُوعِهِ أَنَّهُ لَوْ عَلِمَ أَنَّ عَلَيْهِ صَوْمًا وَجَهِلَ سَبَبَهُ مِنْ كَوْنِهِ قَضَاءً عَنْ رَمَضَانَ أَوْ نَذْرًا أَوْ كَفَّارَةً كَفَاهُ أَنْ يَنْوِي الصَّوْمَ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ لِلضَّرُورَةِ كَمَنْ نَسِيَ صَلَاةً مِنْ الْخَمْسِ لَا يَعْرِفُ عَيْنَهَا فَإِنَّهُ يُصَلِّي الْخَمْسَ وَتُجْزِئهُ عَمَّا عَلَيْهِ وَيُعْذَرُ فِي عَدَمِ جَزْمِهِ بِالنِّيَّةِ لِلضَّرُورَةِ وَإِنَّمَا لَمْ يَلْزَمهُ هُنَا صَوْم ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ يَنْوِي يَوْمًا عَنْ الْقَضَاءِ وَيَوْمًا عَنْ النَّذْرِ وَيَوْمًا عَنْ الْكَفَّارَةِ؛ لِأَنَّ الذِّمَّةَ هُنَا لَمْ تَشْتَغِل بِالثَّلَاثِ وَالْأَصْلُ بَعْد الْإِتْيَانِ بِصَوْمِ يَوْمٍ بِنِيَّةِ الصَّوْمِ الْوَاجِبِ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ عَمَّا زَادَ بِخِلَافِهِ فِيمَنْ نَسِيَ صَلَاةً مِنْ الْخَمْسِ فَإِنَّ ذِمَّتَهُ اشْتَغَلَتْ بِجَمِيعِهِنَّ يَقِينًا، وَالْأَصْلُ بَقَاءُ كُلٍّ مِنْهَا أَشَارَ إلَيْهِ السُّبْكِيّ وَتَبِعَهُ الزَّرْكَشِيُّ وَغَيْرُهُ، وَقَضِيَّتُهُ أَنَّهُ لَوْ فُرِضَ هُنَا أَنَّ ذِمَّتَهُ اُشْتُغِلَتْ بِصَوْمِ الثَّلَاثِ وَأَتَى بِاثْنَيْنِ مِنْهَا وَنَسِيَ الثَّالِثَ لَزِمَهُ الثَّلَاثَةَ وَهُوَ مُتَّجَهٌ، وَإِنَّمَا لَمْ يَكْتَفُوا ثَمَّ بِنِيَّةِ الصَّلَاةِ الْوَاجِبَةِ كَمَا هُنَا؛ لِأَنَّ مَا هُنَا أَوْسَعُ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ هُنَا نِيَّةُ الْفَرْضِيَّةِ وَلَا مُقَارَنَةُ النِّيَّةِ لِلصَّوْمِ وَلَا يَخْرُجُ مِنْهُ بِنِيَّةِ تَرْكِهِ بِخِلَافِ الصَّلَاةِ نَعَمْ لَوْ عَلِمَ أَنَّ عَلَيْهِ صَلَاةً وَاجِبَةً وَلَمْ يَدْرِ هَلْ هِيَ مَكْتُوبَةٌ أَوْ مَنْذُورَةٌ كَفَاهُ نِيَّةَ صَلَاةٍ وَاجِبَةٍ كَمَا بَحَثَهُ بَعْضُهُمْ قِيَاسًا عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي الصَّوْمِ إذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ عُلِمَ مِنْهُ أَنَّ مَنْ عَلِمَ أَنَّ عَلَيْهِ صَوْمًا وَاجِبًا وَشَكَّ هَلْ هُوَ قَضَاءٌ أَوْ كَفَّارَةٌ جَازَ لَهُ أَنْ يَنْوِيَ الصَّوْمَ الْوَاجِبَ، وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنهُ لِلضَّرُورَةِ، وَإِذَا جَازَ لَهُ هَذَا الْإِبْهَامُ جَازَ لَهُ أَنْ يَنْوِيَ الْقَضَاءَ إنْ كَانَ وَإِلَّا فَالْكَفَّارَةُ وَلَا يَضُرُّ هَذَا التَّرَدُّدُ لِمَا تَقَرَّرَ مِنْ الضَّرُورَةِ وَمِمَّا يُصَرِّحُ بِذَلِكَ قَوْلُهُمْ فِي الزَّكَاةِ لَوْ نَوَى زَكَاةَ مَالِهِ الْغَائِب إنْ كَانَ بَاقِيًا وَإِلَّا فَعَنْ الْحَاضِرِ صَحَّ وَوَقَعَتْ عَنْ الْحَاضِرِ إنْ بَانَ الْغَائِبُ تَالِفًا.
قَالُوا وَلَا نَظَرَ لِلتَّرَدُّدِ فِي عَيْنِ الْمَالِ بَعْد الْجَزْمِ بِكَوْنِهِ زَكَاةَ مَالِهِ وَهَذَا بِعَيْنِهِ يَأْتِي فِي مَسْأَلَتِنَا فَيُقَال أَوَّلًا لَا نَظَرَ لِلتَّرَدُّدِ فِي عَيْنِ الصَّوْمِ وَبَعْدَ الْجَزْمِ بِكَوْنِ أَحَدِهِمَا وَاجِبًا عَلَيْهِ وَثَانِيًا لَوْ عَلِمَ أَنَّ عَلَيْهِ الْفِدْيَةَ وَإِنَّمَا الشَّكُّ فِي الْقَضَاءِ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ السُّؤَالِ إنْ بَانَ أَنَّ عَلَيْهِ الْقَضَاءَ وَقَعَ عَنْهُ وَإِلَّا وَقَعَ عَنْ الْفِدْيَةِ فَإِنْ قُلْت مَا الْفَرْقُ بَيْن هَذَا وَمَا لَوْ نَوَى الْوُضُوءَ لِلتِّلَاوَةِ إنْ صَحَّ الْوُضُوءُ لَهَا وَإِلَّا فَلِلصَّلَاةِ فَإِنَّ الْأَوْجَهَ عَدَمُ صِحَّةِ هَذِهِ النِّيَّةِ كَمَا بَيَّنْتُهُ فِي شَرْحِ الْعُبَابِ وَبَيْن هَذَا، وَقَوْلِهِمْ لَوْ نَوَى فَرْضَ الْوَقْتِ إنْ دَخَلَ وَإِلَّا فَالْفَائِتُ لَمْ يَصِحَّ قُلْتُ أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْفَرْقُ بَيْنَ مَا نَحْنُ فِيهِ وَبَيْنَهُ أَنَّهُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ تَرَدَّدَ بَيْنَ شَيْئَيْنِ يَحْتَاجُ كُلٌّ مِنْهُمَا لِنِيَّةٍ بِخِلَافِهِ فِي صُورَةِ الْوُضُوءِ فَإِنَّ التِّلَاوَةَ لَا تَحْتَاجُ لِنِيَّةٍ بَلْ لَا يَصِحُّ الْوُضُوءُ لَهَا فَاشْتَمَلَ أَحَدُ جُزْأَيْ نِيَّتِهِ عَلَى نِيَّةٍ بَاطِلَةٍ فَلَغَتْ مِنْ أَصْلِهَا عَلَى أَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ هُنَا لِلتَّرَدُّدِ بِوَجْهٍ بِخِلَافِهِ فِي مَسْأَلَتِنَا