الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
(155)
48/ 2
مناقشة العلامة حسن بن يحيى الكبسي على بحث في قاذف الرجل للشوكاني
تأليف محمد بن علي الشوكاني
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب
وصف المخطوط:
1 -
عنوان الرسالة من المخطوط: مناقشة العلامة حسن بن يحيى الكبسي على بحث في قاذف الرجل للشوكاني.
2 -
موضوع الرسالة: " فقه ".
3 -
أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم، أحمده وأستعينه وأستهديه. نظرت فيما سأل عنه الأخ النقاب، علامة السنة.
4 -
آخر الرسالة: سوده الفقير إلى ربه حسن بن يحيى الكبسي، لعله عيد الأضحى سنة 1220 شهر الحجة 1220 هـ.
5 -
نوع الخط: خط نسخي مقبول.
6 -
عدد الصفحات: 6 صفحات.
7 -
عدد الأسطر في الصفحة: 21 سطرا.
8 -
عدد الكلمات في السطر: 12 كلمة.
9 -
الرسالة من المجلد الثاني من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.
بسم الله الرحمن الرحيم
وأحمده وأستعينه وأستهديه.
نظرت فيما سأل عنه الأخ النقاب، علامة السنة والكتاب محمد بن علي العمراني (1) - عمر الله قلبه بالتقوى - سيدي العلامة شيخ المحققين الرباني محمد الشوكاني - أجزل الله مثوبته - عما وقع بخيال السائل من أن كلام السيد العلامة الحسن - رحمه الله تعالى - بمحل من الانتظام والصحة. فأجاب عنه المسئول - تولى الله مكافأته - بالجواب البسيط، فأبان فيه عما اقتضاه أنظاره عن كثير من التخليط، وشاجح في كثير من ذلك بعض تلامذته - كثرهم الله تعالى - وعول السائل النقاب علي في النظر في السؤال والجواب، وجواب الجواب، وأفعل ما ترجح عندي في ذلك الباب.
فأقول - وإن كان الفضل في ذلك للأول بلا ارتياب -: الذي ترجح عندي في هذه المسألة هو الذي عليه الناس قبل الجلال (2) رحمه الله أعني القول بعدم اختصاص الحد
(1) هو محمد بن علي بن حسين العمراني ثم الصنعاني. ولد سنة 1194.
اشتغل بطلب علوم الاجتهاد على جماعة من علماء العصر كالسيد العلامة الحسن بن يحيى الكبسي، والقاضي العلامة عبد الله بن محمد مشحم.
وقد ترجم له الشوكاني في " البدر الطالع " رقم (476) فقال: وقد سمع علي غالب الأمهات الست وفي العضد وحواشيه والمطول وحواشيه. والكشاف وحواشيه
وله مصنف على سنن ابن ماجه جعله أولا كالتخريج ثم جاوز ذلك إلى شرح الكتاب.
" نيل الوطر "(2/ 292).
(2)
في ضوء النهار (4/ 2270) وقد تقدم في الرسالة (154).
وفي حاشية المخطوط: قد ذهبت الأزارقة من الخوارج إلى أنه لا حد على قاذف الرجل، وعده الشهرستاني مما تفردوا به.
(أ): وهم أصحاب أبي راشد نافع بن الأزرق الذين خرجوا مع نافع من البصرة إلى الأهواز.
وكان مع نافع من أمراء الخوارج عطية بن الأسود الحنفي. ومن بدعهم وهي ثمانية:
إسقاط الرجم عن الزاني، إذ ليس في القرآن ذكره، وإسقاط حد القذف عمن قذف المحصنين من الرجال، مع وجوب الحد على قاذف المحصنات من النساء.
أنهم كفروا عليا رضي الله عنه، وعثمان وطلحة والزبير
اجتمعت الأزارقة على أن من ارتكب كبيرة من الكبائر كفر كفر ملة خرج به عن الإسلام جملة ويكون مخلدا في النار مع سائر الكفار.
" الملل والنحل "(1/ 137 - 141).
بقاذف المرأة، وتناوله لقاذف الرجل لوجوه:
الأول: إما للإجماع (1) الظني فيه عملا، وذلك أنا قد عشنا وتتبعنا مظان الخلاف فيه، ومواضع مواقع ذلك ووقائعه فلم نجد من أنكر ذلك، ولا عثرنا على مخالف مصرح بخلافه غير الجلال رحمه الله ومثل هذا، وإن لم يكن إجماعا (2) قطعيا فهو عندي مما تقوم به الحجة، ولا تقصر على سائر الأدلة الظنية، وذلك لما صح من التوعد شرعا على مخالف السواد الأعظم، وعلى مفارق الجماعة قيد شبر (3)، ومن وعيد:" من شذ شذ إلى النار "(4) ونحو ذلك.
(1) انظر تيسير التحرير (3/ 227).
(2)
قال صاحب " الكوكب المنير ": إن الإجماع (حجة قاطعة بالشرع) أي بدليل الشرع كونه حجة قاطعة. قال ابن بدران، حاشية - ومعنى كونه قاطعا أنه يقدم على باقي الأدلة، وليس القاطع هنا بمعنى الجازم الذي لا يحتمل النقيض
…
وإلا لما اختلف في تكفير منكر حكمه.
وهذا مذهب الأئمة الأعلام منهم الأربعة وأتباعهم وغيرهم من المتكلمين.
" الكوكب المنير "(2/ 218)، " تيسير التحرير "(3/ 227) و" المستصفى "(2/ 293).
(3)
يشير إلى الحديث الذي أخرجه البخاري في صحيحه رقم (7143) ومسلم رقم (55/ 1849) من حديث ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر فإنه من فارق الجماعة شبرا فمات فميتة جاهلية ".
وأخرج مسلم في صحيحه رقم (53/ 1848) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من خرج عن الطاعة وفارق الجماعة فميتة جاهلية ".
(4)
أخرجه الترمذي في السنن رقم (2167) من حديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله لا يجمع أمتي أو قال أمة محمد صلى الله عليه وسلم على ضلالة، ويد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ إلى النار ". قال الترمذي: هذا حديث غريب من هذا الوجه.
وهو حديث صحيح دون قوله " شذ ".
وله شاهد عند الترمذي رقم (2166) والحاكم (1/ 116) بسند صحيح من حديث ابن عباس: " لا يجمع الله أمتي على الضلالة أبدا ويد الله مع الجماعة ". وهو حديث صحيح.
ولما صح عن جلة من السلف من كراهتهم للخلاف للجم الغفير، وذمهم له، وحرصهم ملاحظة اتباع الجماعة على كل حال ونحو هذا من المآخذ السمعية الدالة على كون ذلك حجة ظنية، ومن النظر أيضًا غلبة الظن، فإن الغالب عدم خلو الحق عن مطلق الجماعة، وأن تواطؤهم على أمر، وتوافقهم عليه لا يكون إلى لمستند صحيح، فمثل هذا الإجماع لا يقصر عن ظواهر الأدلة التي لا يعتمد فيها على كثير من الظن للحق، وبمثل هذا الإجماع يحصل به ظن أن ما قالوه حق، وتجويز المخالف فيه لا يخدش في هذا الظن بعد ما سنذكره من شدة البحث عنه في مظانه (1) نعم وأما اشتراط قطعية الإجماع في صحة الاستدلال به فلم ينتهض عندي وجهه، وانقسام الإجماع إلى قسمين (2) معروف.
(1) انظر " حجية الإجماع وموقف العلماء منها ". الدكتور: محمد محمود فرغلي (ص 130 - 162)، " إرشاد الفحول "(ص 311).
(2)
الأول: إجماع قولي وهو سماع كل مجتهد من أهل الإجماع. أو فعلي وهو أن يشاهد أهل الإجماع يفعلون فعلا، أو يتركونه ويعرف بقرائن المقام مرادهم.
الثاني: الإجماع السكوتي: وهو أن ينقل عن أهل الإجماع قول أو فعل، مع نقل رضاء الساكتين حتى أنهم لو أفتوا لما أفتوا إلا به، ولو حكموا لم يحكموا إلا به.
ويعرف رضاؤهم: بعدم الإنكار مع الاشتهار، وعدم ظهور حامل لهم على السكوت وكونه من المسائل الاجتهادية.
ولا سيما وأن الظن بالمجتهدين أنهم لا يحجمون عن إبداء رأيهم إظهارا للحق، وإن لقوا من جراء ذلك العنت والضيق.
انظر: " حجية الإجماع "(ص 173)، " المسودة "(ص334 - 335)، " البحر المحيط "(4/ 494).
وأما في مقام المنع من اشتراط ذلك بل في غيره من الأدلة سواء في حجية ما كان فيه ظنيا، وكذلك الطريق إليه لا اشتراط قطعيتها. وكذلك دليل حجيته عندي دليل اشتراط قطعيتها، فلذا اكتفيت بتلك االوعيدات الذي ذكرتها، كما لم ينتهض عندي اشتراط قطيعة دليل كثير من مسائل الأصول، كالقياس وغيره. ومن ادعى اشتراط ذلك [1أ] أفادنا دليلا نرتضيه، والأصح فالإجماع وغيره سواء في الاكتفاء بالظن، وكذلك في عدم القطع بمدلوله، ثم إن الاستبعاد والتشكيك فيه يعودان إلى هذا أعني اشتراط حصول القطع به؛ إذ لا يخفى أنه تعبد أو متعذر في الكثير منه، وإن حصل القطع في أفراد منه، فإنما غالب ذلك لكون مستنده ضروريا - أو تواتريا، فالقطع به لقطعية مستنده (1) وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل. (2)
نعم. وطريقه هذا الإجماع الظني البحث عن القائلين بالمسألة، فإذا تظافرت أقوالهم على المسألة، ولم يوجد من يخالفهم بعد البحث حصل الظن بعدمه. ولهذا نظائر في مسائل عديدة، منها في البحث عن المعارض، والمرجح، والناسخ، والمخصص، وغير ذلك فمثل ذلك يحصل الظن بحقية ما اجتمع عليه هؤلاء كما يحصله خبرا الآحاد والقياس وغيرهما، وما نحن فيه من هذا القبيل؛ فإنه إذا لم يوجد في السلف مخالف فيه يؤنس السيد الحسن رحمه الله فيوشك أن يقع بأغرابه في وعيد الشذوذ، واتباع السبل المتفرقة عن الجادة العظمى التي عليها السواد الأعظم، وما ذكره من أن في نفسه من دعوى الإجماع شيئا الظاهر أن مراده ذلك نفسه من أصل دعوى الإجماع، وثبوت
(1) أي مستند الإجماع إذ لا بد للإجماع من مستند شرعي؛ لأن القول في الدين بغير علم، وبغير دليل قول بالهوى.
وسند الإجماع قد يكون من الكتاب أو من السنة، وقد يكون انعقاد الإجماع عن اجتهاد أو قياس كما ذهب إليه الأكثرون.
" البحر المحيط "(4/ 496)، " حجية الإجماع "(ص 173).
(2)
تقدم توضيحه مرارا.
نقله لاستبعاده النقل عن جميع الأفراد، فلذا علله بأن نقله لا يصح تعليلا لا غبار عليه على عود الضمير في قوله منه إلى ادعائه، لعدم ذكر يدعى، لأنه يتضمن معنى الادعاء إليه، أعني الإجماع، والشيء الذي في نفسه هو ما أشرت إليه من استبعاد نقله عن جميع الأفراد، وحينئذ فلا يرد ما ناقشه المجيب - عفا الله عنه - في تفسيره إياه بالشك، وعلى تعليله بما ذكر، ولا ما دفعه به تلميذه - عفا الله عنه - من أن الظاهر أنه أراد ما في نفسه من حجيته؛ إذ لا يلائمه التعليل المذكور كما ذكره المجيب.
ثم قد عرفت أنه إذا كان الاكتفاء في حجيته بالظن، وأنه لا يشترط قطعيته فلا يضر ما ذكره من التشكيك فيه، فليس المطلوب به القطع، بل يكفينا الظن كسائر الظواهر.
ويعلم بهذا اندفاع ما ناقش [1 ب] الجلال رحمه الله على السكوتي أيضًا في واقعة المغيرة (1)، مع عدم ظهور المخالف، وما تكلفه رحمه الله فيه من قصة مخالفة علي رضي الله عنه وإنكاره على عمر رضي الله عنه في جعله إنكارا على أصل إثبات الحد على قاذف الرجل، فلا يخفى ما في ذلك من عدم الاستقامة كما حقق ذلك المجيب - عفا الله عنه - فإنه ظاهر أنه إنما أنكر عليه تكرير الحد على الشهود حين استتابهم فلم يتوبوا، وجعل إصرارهم بمنزلة القذف الجديد المبتدأ أولا، وإنما هو تماد [ .... ](2) واستمرار على الأول، والله تعالى لم يشرع في التمادي عليه، وعدم التوبة حدا، بل جعل حكمه عدم قبول شهادتهم أبدا، فألزم علي عليه السلام عمر رضي الله عنه إنك جعلت تماديهم وعدم التوبة قذفا صريحا فاجعل ذلك منهم شهادة مستقلة يكمل بها نصاب الشهادة.
وهذا الجواب إلزامي ومجاراة للخصم بما استبعده، أو بما لا يقول به أحد، فلا يتبادر من ذلك غير هذا، فأين أخذ الإنكار منه على أصل المسألة؟ وهو لا يحتمل ما ذكره السيد رحمه الله أصلا، وإن احتمل احتمالا آخر وهو: أن الذي كان عند علي رضي الله عنه هو العمل بتلك الشهادة، وكمال نصابها؛ لأن الذي ذكره زياد في شهادته من الكنايات
(1) تقدم في الرسالة رقم (154).
(2)
في المخطوط كلمة غير مقروءة.
والعبارات لا تقتصر في المعنى عن شهادة الآخرين المصرحين.
ولذا يروى (1) عنه عليه السلام أنه كان يقول: لئن أمكنني الله من المغيرة لألحقنه أحجاره، أو كما قال مما الله أعلم به، سيما وما كان إصرارهم إلا لتحققهم الأمر في شهادتهم، وفي تلعثم زياد للكتم لا جرأة منهم على عدم التوبة. وإذا كان كذلك فالنصاب كامل، فلا حد على الثلاثة المذكورين، لا لأنه لا يحد قاذف الرجل على هذا الاحتمال، والاحتمال الأول هو الأظهر من كلامه، ولا يحتمل غيرها كما فسر به العلماء كلامه.
وأما الثاني لانتهاض الآية الكريمة (2) للاستدلال بها، وصلاحيتها للتغليب للإناث، فيتناول قاذف الرجل في هذا الموضع نظرا إلى أن معنى الباعث على شرعية الحكم في النساء، سواء لكون عرضهن أهم في الحفظ من عرض الرجال والصيانة فيهن أشد قصدا إذ نقيصتهن بالزنا نقيصة لهن وللرجال وقصور عرض الرجال عن ذلك لقصرها عليهم واسع اشتراكا في أصل قصد الصيانة للعرض عن نقيصة نسبة الزنا إليهن، ومجازية التغليب إنما تكون بالنظر إلى من هو أقوى في المعنى المقصود الملاحظ لأجله التغليب [2أ].
فجهة التغليب في النساء هاهنا أقوى خصوصا، وإن كان الغالب في هذا الباب أن تكون قوته في الرجال، وأما فيما نحن فيه فالنساء فيهن أقوى كما عرفت، وقد يشبه هذا قوله تعالى:{وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ} - إلى قوله - {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ} (3)
(1) فلينظر من أخرجه، وأظنه باطلا.
(2)
قال الألوسي في " روح المعاني "(18/ 88 - 89): والظاهر أن المراد النساء المحصنات وعليه يكون ثبوت وجوب جلد رامي المحصن بدلالة النص للقطع بالفاء الفارق وهو صفة الأنوثة واستقلال دفع عارما نسب إليه بالتأثير بحيث لا يتوقف فهمه على ثبوت أهلية الاجتهاد، وكذا ثبوت وجوب جلد رامية المحصن أو المحصنة بتلك الدلالة وإلا فالذين يرمون للجمع المذكر، وتخصيص الذكور في جانب الرامي والإناث في جانب المرمي لخصوص الواقعة.
(3)
[النساء: 15].
قال ابن جرير الطبري في " جامع البيان "(3\جـ 4/ 295 - 296): وأولى هذه الأقوال بالصواب في تأويل قوله: (وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ) قول من قال: عنى به البكران غير المحصنين إذا زنيا، وكان أحدهما رجلا والآخر امرأة، لأنه لو كان مقصود بذلك قصد البيان عن حكم الزناة من الرجال كما كان مقصودا بقوله:(وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ) قصد البيان عن حكم الزواني، لقيل: والذين يأتونها منكم فآذوهم، أو قيل: والذي يأتيها منكم، كما قيل في التي قبلها:(وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ) فأخرج ذكرهن على الجمع، ولم يقل: واللتان يأتيان الفاحشة، وكذلك تفعل العرب إذا أرادت البيان على الوعيد على فعل أو الوعد عليه، أخرجت أسماء أهله بذكر الجمع أو الواحد، وذلك أن الواحد يدل على جنسه، ولا تخرجها بذكر اثنين، فتقول: الذين يفعلون كذا، فلهم كذا، والذي يفعل كذا، فله كذا، ولا تقول: اللذان يفعلان كذا فلهما كذا إلا أن يكون فعلا لا يكون إلا من شخصين مختلفين كالزنا لا يكون إلى من زان وزانية
…
"
وقال القرطبي في " الجامع لأحكام القرآن "(5/ 87): قال السدي وقتادة وغيرهما الأولى في النساء المحصنات، يريد ودخل معهن من أحصن من الرجال بالمعنى، والثانية في الرجل والمرأة البكرين
…
"
فإن حكم الحبس ربما كان عاما للصنفين تعينا، ثم نسخ بالجلد (1) لهما، ولعله إنما غلب النساء في قوله:{وَاللَّاتِي} لأن الزنا منهن أفحش وأشنع. والله أعلم.
ومما ينظر إلى مثل ما ذكرناه من التغليب (2) أعني إلى خصوص قوة المعنى المخصوص،
(1) انظر " الجامع لأحكام القرآن "(5/ 84):
هذه أول عقوبات الزناة، وكان هذا في ابتداء الإسلام، قاله عبادة بن الصامت والحسن ومجاهد حتى نسخ بالأذى الذي بعده، ثم نسخ ذلك بآية " النور " وبالرجم في الثيب.
وانظر: " جامع البيان "(3\جـ4/ 294).
(2)
التغليب: هو إعطاء شيء حكم غيره، وقيل: ترجيح أحد المغلوبين على الآخر، وإطلاق لفظه عليهما وإجراء للمختلفين مجرى المتفقين.
نحو: (وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ)[التحريم: 12].
(إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ)[الأعراف: 83].
والأصل من القانتات والغابرات، فعدت الأنثى من المذكر بحكم التغليب.
قال في البرهان: إنما كان التغليب من باب المجاز؛ لأن اللفظ لم يستعمل فيما وضع له، ألا ترى أن القانتين موضوع للذكور الموصوفين بهذا الوصف فإطلاقه على الذكور والإناث إطلاق على غير ما وضع له
" معترك الأقران "(1/ 197 - 198).
لا إلى مطلق القوة تغليب القمرين، ولكنه قد يكون في هذا من تغليب المذكر على المؤنث وإن لم يكن حقيقيا، والعمرين؛ فإن الشمس وأبا بكر أعظم من القمر، وعمر في مطلق المفاضلة، ولكن غلب عليهما نظرا إلى معنى مخصوص مقصود العلاقة، والدليل على إرادة التغليب في الآية الكريمة أمور منها: التذييل (1) بالآيات الكريمات إلى آخر قصة الإفك، بما فيه من التعميمات في الرجال والنساء، نحو قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا} (2){لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} (3) فأتى به على الغالب من تغليب الذكور، وتعميم الفاحشة ليدخل الأدخل فيهما دخولا أوليا، وأثبت فيه عذاب الدنيا وهو الحد، ثم ليتأمل نحو ذلك إلى آخر الآيات - إلى قوله:{وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ} (4) ولم يقل: مبرآت، وكذلك لما كان القصد إلى ذكر الصفات الموجبة للبراءة ذكرها كالمحصنات والغافلات، لما ذكرنا من العناية بمن هو أدخل في قصد الصيانة، وهو الذي عرف به التغليب، وإلا فقذف مطلق النساء موجب للحد، وكذا الرجال، وحاصله أن وصف الأنوثة والإحصان لتقبيح القذف، واستبعاد لاحق في حق من اتصف بالصفتين المذكورتين، وأن القبح حينئذ قد صح عنده.
(1) التذييل: وهو أن يؤتى بجملة عقب جملة، والثانية تشتمل على معنى الأولى، لتأكيد منطوقه أو مفهومه، ليظهر المعنى لمن لا يفهمه، ويتقرر عند من يفهمه.
" معترك الأقران "(1/ 279).
(2)
[إلى قوله] حذفناها لعدم الضرورة.
(3)
[النور: 19].
(4)
[النور: 26].
ومما يدل على هذا التغليب أنه قد ثبت أن النساء شقائق (1) الرجال في حديث صحيح (2) عن الشارع، ولذا صار غالب خطابات الشارع بصيغة المذكر على سبيل التغليب، حتى كأنه عرف للشارع إلا ما نص عليه دليل الخصوص، فالغلبة في استعمال التغليب تصيره كالعرف له إن ثبت بالاستقراء ذلك، فهذا من ذلك، وإنما عدل عن الغالب فيه لملاحظة ما ذكرناه من التغليب من المعنى المقصود إذا هو [ .... ] (3):" النساء شقائق الرجال "(4) في الأحكام فلم نر هاهنا ما يصلح لتخصيص النساء. وستعرف عدم صحة ما ذكره السيد الجلال رحمه الله من الفرق.
ويؤيد التغليب في الآية ما ثبت عن الشارع في حديث الملاعن هلال بن أمية، وقذف امرأته بشريك بن سحماء، فإنه صح أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال له:" البينة أو حد في ظهرك "(5) لاحتمال أن يكون لقذفهما المرمية (6) به لولا اللعان المسقط للحدين.
(1) قال الخطابي في " معالم السنن "(1/ 162 - هامش السنن): أي نظائرهم وأمثالهم في الخلق والطباع فكأنهن شققن من الرجال وفيه من الشقة: إثبات القياس وإلحاق حكم النظير بالنظير وإن الخطاب إذا ورد بلفظ الذكور كان خطابا للنساء إلا موضع الخصوص التي قامت أدلة التخصيص فيها ".
(2)
أخرجه أحمد (6/ 256) وأبو داود رقم (236) والترمذي رقم (13) وابن ماجه رقم (602).
وهو حديث صحيح.
انظر تخريجه مفصلا في " نيل الأوطار " رقم (294) بتحقيقنا وهو من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يجد البلل ولا يذكر احتلاما، فقال:" يغتسل " وعن الرجل يرى أن قد احتلم، ولا يجد البلل، فقال:" لا غسل عليه " فقالت أم سليم: المرأة ترى ذلك عليها الغسل؟ قال: " نعم إنما النساء شقائق الرجال ".
(3)
كلمة غير واضحة في المخطوط.
(4)
أخرجه أحمد (6/ 256) وأبو داود رقم (236) والترمذي رقم (13) وابن ماجه رقم (602).
وهو حديث صحيح.
انظر تخريجه مفصلا في " نيل الأوطار " رقم (294) بتحقيقنا وهو من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يجد البلل ولا يذكر احتلاما، فقال:" يغتسل " وعن الرجل يرى أن قد احتلم، ولا يجد البلل، فقال:" لا غسل عليه " فقالت أم سليم: المرأة ترى ذلك عليها الغسل؟ قال: " نعم إنما النساء شقائق الرجال ".
(5)
أخرجه البخاري في صحيحه رقم (4747) وأبو داود رقم (2254) والترمذي رقم (3179) من حديث ابن عباس.
(6)
كذا في المخطوط.
ويؤيد ذلك ما في أصل سؤال الملاعن من قوله: إن تكلم جلدتموه بعد أن ذكر أنه يجد رجلا عند امرأته
…
إلخ. فقوله: جلدتموه يحتمل لكلامه على المرأة أو على الرجل [2ب].
ويؤيده ما أشار إليه المسئول - عفا الله عنه - من حديث: " من قذف عبده يقام عليه .. "(1)، وحديث:" من رمى ولد الملاعنة فعليه الحد "(2) وظاهره أن المراد رميه هو بزناه ثم إذا حقق النظر في ذلك فقد تظهر صلاحية بعض هذه المؤيدات لإرادة التغليب، وللاستدلال استقلالا على المتنازع فيه أو أكثرها.
وأما الثالث: لانتهاض دلالة القياس على المتنازع فيه أعني وجوب الحد على قاذف الرجل أيضًا إن لم يصح التغليب. إما بقياس الدلالة بأن [ ....
.] (3) كما اشترك قاذف الرجل والمرأة في رد شهادتهما في الأحكام يشتركان في وجوب الحد عليهما بجامع أن النساء شقائق الرجال في سببية قذفهما للأمرين، أو بعدم الفارق. وتنقيح المناط (4) الذي هو عندي من أقوى القياسات (5) لعدم الفرق بين قذف الرجل والمرأة، لأن النساء شقائق الرجال، وما توهمه الجلال من الفرق في العلة سندفعه - إن شاء الله - وكما نوضح مثل ذلك في قياس (6) حد العبد على حد الأمة الذي قيل: إنه مجمع عليه.
(1) تقدم تخريجه.
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
كلمة غير واضحة في المخطوط.
(4)
وهو إلحاق الفرع بالأصل بإلغاء الفارق بأن يقال: لا فرق بين الأصل والفرع إلا كذا وذلك لا مدخل له في الحكم البتة فيلزم اشتراكهما في الحكم لاشتراكهما في الموجب له. كقياس الأمة على العبد في السراية فإنه لا فارق بينهما إلا الذكورة، وهو ملغى بالإجماع إذ لا مدخل له في العلية.
" البحر المحيط "(5/ 255)، " إرشاد الفحول "(ص 731).
(5)
قال الغزالي في " المستصفى "(3/ 488): تنقيح المناط يقول به أكثر منكري القياس، ولا نعرف بين الأمة خلافا في جوازه.
(6)
انظر " البحر المحيط "(5/ 256)، " الكوكب المنير "(4/ 199)، " المغني "(12/ 331)
وإما بقياس العلة بأن يقاس الرجل المقذوف على المقذوفة في وجوب الحد بجامع أن النساء شقائق الرجال، وبحكمه هو الزجر عن الأعراض لمصلحة صيانتها عن الانتهاك بافتراء ما يغض منها، فإن صيانة الأعراض مقصودة للشارع كصيانة الدماء والأموال؛ ولذا تراه يجمع بينها في النهي والحث على احترامها، فشرع في جميعها حدودا من قصاص وجلد، وقطع للزجر، ولكن لما كانت حكمة الزجر في المعاصي، ومناسب الصيانة قد تتفاوت ولا تنضبط، وتخفى معرفة القدر المعتبر منها للشارع ضبطها بمظان مخصوصة لا تتفاوت في محالها المعروفة كالجراحات الخاصة للقصاص، والسرقة للقطع، والقذف بالزنا للجلد، وحكمة الأول الزجر وصيانة المال والدماء، والثاني الزجر وصيانة المال. والثالث الزجر وصيانة العرض، وقس عليه صيانة النسب في الزنا، والزجر عنه، وغير ذلك في أن الزجر لم يكن منضبطا وكان يختلف القدر المعتبر للشارع فيه ضبط بمظنة مخصوصة، وإذ قد ضبطت الحكمة بمظان مخصوصة صحيحة فلا يضر تفاوت الحكمة في مناسبة الزجر، أعني دفع النقيصة إذا زادت نقيصة عرض المرأة على عرض الرجل كما أنه لا [ ...... ](1) بزيادة مباحث الزجر في الزنا والسرقة.
والقذف كالزنا بالمحارم، وسرق الكعبة، وقذف الفضلاء، حيث لم يربط إلا بمطلق الزنا والسرقة والقذف بالزنا، وأما ادعاء أنه لا نقيصة بالزنا في عرض الرجل فغير مقبول فإنه لا بد أن تشمئز منه العقول، وقد سماه الله فاحشة ومقتا، ولا التفات إلى ما سمع من بعض خلعاء الشعراء العرب الذين يتبعهم الغاوون (2) ويقولون ما لا يفعلون، ويعتقدون أن أحسن الشعر أكذبه؛ فيحسنون القبيح، فإن أخرجوه في مخرج الاستحسان [3أ] فهو من عظيم كذبهم والبهتان ثم قد يعارض ذلك بالكثير من قول حكمائهم في
(1) هنا كلمة غير مقروءة.
(2)
يشير إلى قوله تعالى: (وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ)[الشعراء: 224 - 226].
الشعر، وما يذمونه ويعبرون به، وخلعائهم بل ألا تراهم كيف يهجون به! وكيف يعير الشعراء (1) الفرزدق ونحوه بذلك:
تدليت تزني من ثمانين قامة
…
. (2)
ولا هجى إلا بما فيه نقيصة، بل وقد يعارض أيضًا بمثله في النساء اللاتي لا يحتشمن كمن رمت نفسها بالصالحين من المومسات وغيرهن، كامرأة العزيز (3)، وصاحبة الراهب (4)، وصاحبة قارون، وغير ذلك، فمثل حال من ذكر لا يلتفت إليه، ولا يستدل لعدم نقيصة الزنا في مطلق الرجال، ولا يتمشى إلا كما قلنا بتفاوتها في المرأة والرجل، وقد عرفت أن تفاوت المناسب لا يضر إذا ضبط بمظنة ظاهرة. وقد ضبط بمطلق قذف الزنا، وحينئذ تعرف كمال أركان القياس (5) وأن الأصل المرأة، والفرع الرجل، والجامع أن النساء شقائق الرجال، والحكم الجد، والعلة القذف بالزنا، والحكمة الزجر والصيانة للعرض، وأنه لو سلم بخلفها في الرجل لم يختل القياس، إذ في مثل هذا لا يضر كسر الحكمة، وتعرف أنه لا فرق بينه وبين قياس النبيذ على الخمر في التحريم بعلة السكر، في أن الخمر أصل والنبيذ فرع والعلة السكر والحكمة الزجر لحفظ العقل، والحكم التحريم كالخمرة، وهذا ظاهر قصدنا به إيضاح كون العبرة بالمظنة، وإن اختلفت الحكمة والمناسب فتأمله.
نعم ولا يقال: إنه قياس في الأسباب، فيحصل الغلط، لأن السبب هاهنا والعلة
(1) وهو من شعر جرير، " شرح ديوان جرير " (ص 560) حيث يقول:
لقد كان إخراج الفرزدق عنكم
…
طهورا لما بين المصلى وواقم
تدليت تزني من ثمانين قامة
…
وقصرت عن باع العلى والمكارم
(2)
انظر تمام البيت في التعليقة السابقة.
(3)
انظر سورة يوسف.
(4)
تقدم ذكرها.
(5)
انظر: " إرشاد الفحول "(ص 677).
واحد هو القذف بالزنا، وإن اختلف المحل من الذكر والأنثى الذي هو من ضرورة القياس للأصل والفرع، فالمرأة والرجل محلا الحكم الذي سببه فيهما القذف بالزنا، وهو واحد كالخمر والنبيذ اللذين سبب التحريم فيهما السكر، وليس هذا كقياس اللواط على الزنا في إيجاب الحد الذي هو قياس في الأسباب، حيث يقاس عليه اللواط وسببه في إيجاب الحد على علية الزنا وسببيته في ذلك، فإنه قياس للسبب والعلة في الأنثى على سبب هو الزنا، وعلته في ذلك.
وأما فيما نحن فيه فالسبب واحد هو القذف بالزنى، والذي يشبهه قياس من زنى ببهيمة على من زنى بامرأة في إيجاب حد الزنى بعلية الزنى.
نعم وما ذكرناه من هذين الدليلين انتهاضهما على المتنازع يمكن أن يكونا مستند ما ظننا من ذلك الإجماع الظني المذكور هاهنا فإن مستنده هو العمدة في الدلالة عندي لكون مثله مظنة للدليل الصحيح؛ لاستبعاد الاجتماع من مثلهم بلا مستند صحيح، ولأن مرجع الوعيد على المخالفة والشذوذ إنما هو لأجل مظنة الحجية، وحصول الظن بحجية مثل ذلك، والله أعلم.
سوده الفقير إلى ربه حسن بن يحيى الكبسي (1)، لعله عيد الأضحى سنة 1220 شهر الحجة سنة 1220 [3 ب].
(1) هو الحسن بن يحيى بن أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن القاسم الحمزي الكبسي ثم الصنعاني ولد سنة 1167 هـ ونشأ بصنعاء، فقرأ فيها على جماعة من العلماء، وأكثر انتفاعه على الشيخ العلامة الحسن بن إسماعيل المغربي، فقد لازمه في جميع الفنون، توفي سنة 1238.
وترجم له الشوكاني في البدر رقم (139) وقال: وله رسائل في مسائل متفرقة متقنة غاية الإتقان وقد رافقني في قراءة الكشاف على شيخنا الحسن بن إسماعيل المغربي.
انظر: " نيل الوطر "(1/ 358 - 364)، البدر الطالع رقم (139).