الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
توضيح وجوه الاختلال في إزالة الإشكال في إجبار اليهود على التقاط الأزبال
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب
على صفحة الغلاف: "هذا الجواب لبعض علماء صنعاء حرره لما وقف على الرسالة المتقدمة، وسيأتي الجواب عن هذا الجواب إن شاء الله.".
وصف المخطوط:
1 -
عنوان الرسالة من المخطوط: توضيح وجوه الاختلال في إزالة الإشكال في إجبار اليهود على التقاط الأزبال.
2 -
موضوع الرسالة: "فقه".
3 -
أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم حمدًا لمن تفرد بالكلام وعز جلاله فلا نقص يجوز عليه ولا اختلال
4 -
آخر الرسالة: والمسارعة إلى الخيرات وإلى مضاعفة الحسنات والله يهدي من يشاء إلى سواء السبيل وتمت ثم بهذا الجواب.
5 -
نوع الخط: خط نسخي جيد.
6 -
عدد الصفحات: 8 صفحات.
7 -
عدد الأسطر في الصفحة: 26 سطرًا ما عدا الصفحة الأولى فعدد أسطرها 18 سطرًا.
8 -
عدد الكلمات في السطر: 13 كلمة.
9 -
الرسالة من المجلد الأول من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.
بسم الله الرحمن الرحيم
حمدًا لمن تفرد بالكلام، وعز جلاله فلا نقص يجوز عليه ولا اختلال، والصلاة والسلام على صفيه من خلقه، من جميع حميد الخلال، وعلى آله وأصحابه المهتدين بهديه في الأقوال والأفعال، وبعد:
فإني وقفت على رسالة (1) لبعض علماء الحصن، جعلها جوابًا على مذاكرة دارت بينه وبين بعض علماء عصره الأخيار، سماها (حل الإشكال في إجبار اليهود على التقاط الأزبال)، وهي من النفاسة بمحل إلا أن بعض أبحاثها غير خال عن زلل أو خلل، كما هو شأن غير الخلاق العليم المفصح عنه الذكر الحكيم بقوله:{ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا} (2)، ولما كان الدين النصيحة كما ثبت عن المختار في صحيح الأخبار، كما في حديث جرير عند مسلم (3) وغيره (4) بلفظ:"الدين النصيحة لله ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم" هكذا لفظه أو معناه، بعثني على التنبيه على تلك الأبحاث، عملًا بمقتضى ذلك الحديث وغيره.
قال بعض شراح الحديث: إن الراوي إذا بايع أحدًا في سلعة، ورضي له بدون الثمن المعروف يقول له: إن ثمن سلعتك كذا، فرحم الله من أمحض أخاه المسلم النصح، ولم يسكت عما فيه زلل، جعلنا الله ممن اقتدى بصالح السلف بحوله وقوته.
ولنقدم مقدمة تتضمن آثارًا عن صالحي السلف، قاضية بتورعهم فيما لا نص عليه نبوي، ما ذاك إلا لخطر الأمر، وأن الإحجام خير من الإقدام.
(1) الرسالة رقم (167).
(2)
[النساء: 82].
(3)
في صحيحه رقم (55).
(4)
كالنسائي (7/ 156) وأبو داود رقم (4944) والترمذي رقم (1926) وقال: حديث حسن صحيح. من حديث تميم الداري. وهو حديث صحيح.
روي عن ابن مسعود وحذيفة أنهما كانا جالسين، فجاء رجل، فسألهما عن شيء فقال ابن مسعود لحذيفة: لأي شيء ترى تسألوني عن هذا؟ قال: يعلمونه ثم يتركونه، فأقبل إليه ابن مسعود وقال: ما سألتمونا عن شيء من كتاب الله نعلمه إلا أخبرناكم به، أو سنة من نبي الله [1] إلا أخبرناكم، ولا طاقة لنا بما أحدثتم.
وقال عطاء: لما سئل عن شيء فقال: لا أدري، فقيل له: ألا تقول برأيك؟ قال: إني لأستحي من الله أن يدان في الأرض برأيي. وكان أبو بكر إذا ورد عليه الخصم نظر في كتاب الله، فإن وجد فيه ما يقضي بينهم قضى به، وإن لم يكن في الكتاب وعلم في ذلك سنة قضى بها، فإن أعياه خرج فسأل المسلمين، فقال: أتاني كذا وكذا، فإن لم يجد عندهم سنة، جمع رءوس الناس وخيارهم، فإن أجمع رأيهم على أمر قضى به.
وقال أمير المؤمنين عليه السلام: وأبردها على الكبد إذا سئلت عما لا أعم أن أقول: الله أعلم (1).
وجاء رجل إلى ابن عمر يسأله عن شيء فقال: لا علم لي، ثم التفت بعد أن قفى الرجل، فقال: نعم، قال ابن عمر: سئل عما لا يعلم فقال: لا علم لي؛ يعني نفسه (2).
قال ابن عباس لما رأى طاوسًا يصلي ركعتين بعد العصر، فقال ابن عباس: اتركهما، فقال طاوس: إنما نهى عنها أن تتخذ سلمًا، قال ابن عباس: فإنه قد نهى عنها فلا أدري أتعذب عليها أم تؤجر؛ لأن الله تعالى يقول: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} (3).
(1) أخرجه ابن عبد البر في "جامع بيان العلم" رقم (1569).
(2)
أخرجه ابن عبد البر في "جامع بيان العلم" رقم (1566) بسند صحيح.
(3)
[الأحزاب: 36].
أخرجه ابن كثير في تفسيره (6/ 423) وابن أبي حاتم في تفسيره (9/ 3134 - 3135 رقم 17688)، وذكره السيوطي في "الدر المنثور"(6/ 610) وعزاه لابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي وعبد الرزاق.
فهذه الآية عامة في جميع الأمور، وذلك أنه إذا حكم الله ورسوله بشيء فليس لأحد مخالفته ولا اختيار لأحد هاهنا، ولا رأي، ولا قول.
وكم لهذه الآثار من نظائر عن السلف من التحرج عن الإقدام، وإنما ذكرنا هذه النبذة ليقتدي بهم العالم العامل، ويهتدي بهديهم، ولنعد إلى ما نحن بصدده.
قال - عافاه الله-: قلتم: هل من دليل يدل على إجبار اليهود على التقاط الأزبال؟
فأقول: لم أقف قبل رقم هذه الأحرف على كلام في ذلك لأحد من العلماء، وقد خطر بالبال حال زبر هذه الأحرف خمسة عشر (1) دليلًا أقول: هذا اعتراف منه بعدم النص لأحد من العلماء، إنما هذه الأدلة من مستنبطاته، مع أنه نقل في غصون الأدلة ما يقضي الاستناد إلى أقوال العلماء، الذين استظهر بكلامهم كما ستعرفه.
قال: الدليل الأول: قال الله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} (2) وذكر كلامًا طويلًا حاصله دلالة الآية أن إعطاء الجزية غير كاف لتقييده بالصغار وثباته، واستظهر بكلام الكشاف (3) والسعد على ذلك، وأن متعلقها الكل الإفرادي، فلا بد من الجزية من كل فرد صاغرًا لا الكل المجموعي، وأن الصغار هو الذلة والإهانة.
ثم قرر أن الصغار دائم في جميع الأوقات. ونقل الكلام المعروف لأهل الأصول، وكل هذا ديدنه حول ما يريده من إجبار اليهود على التقاط الأزبال.
وأقول: لا يشك ذو مسكة ودربة أن الآية الكريمة تدل بمنطوقها على أن اليهود يقاتلون حتى يعطوا الجزية، وبعد إعطاء الجزية يكف عنهم، ثم قيد هذه الجملة بقوله [2]:{وهم صاغرون} والمعروف في العربية أن الحال قيد في عاملها، وصدق
(1) انظرها في الرسالة رقم (166).
(2)
[التوبة: 29].
(3)
(3/ 32).
اسم الفاعل من بعد تقضيه على من أطلق عليه حقيقة كما استظهر به لا يفيده فيما يريده من الاستدلال؛ فإن الذمي إذا أعطى الجزية وهو صاغر فقال: صدق عليه الصغار، ودام عليه بإعطاء الجزية، وما صحبها من الصغار، فلا اشتراط أن يخلفه صغار آخر من التقاط الأزبال، أو نحوه، كما أراده، ثم إن الصغار هو الذل كما قاله المفسرون، وأئمة اللغة. وقال في القاموس (1) الصغر كعنب والصغارة بالفتح خلاف العظم الأولى في الحرم، والثانية في القدر، وصغر ككرم وفرح صغارًا وصغر كعنب، وصغر محركة، وصغرانًا بالضم انتهى المراد.
وقال خير الأئمة (2) المقدم في التفسير على الأئمة في تفسير الصغار أن تقبض الجزية من اليهودي، وتوجئ عنقه، وكذا عن غيره (3) من المفسرين نحوه لم يذكر خصوص هذا الالتقاط. وقال الإمام المهدي عليه السلام في البحر الزخار (4): مسألة: ويلزمهم إصغارهم عند العطاء لقوله: {وهم صاغرون} قيل: معناه أن يطأطئ الذمي رأسه، ونصب الجزية، وكف المستوفي بلحيته إن كانت، ويضرب بيده في لهازمه.
وقيل: أن يعطي الجزية قائمًا، والمستوفي قاعدًا، وقيل: يعطيها باليمين، والمستوفي يأخذها بالشمال، وهذه الكيفيات مستحبة، إذ لا يجب من العقوبات إلا الحدود.
وقيل: معناه إجراء أحكام الإسلام عليهم، وامتثال ما قضى به حكامنا انتهى.
نعم، وكل هذا لا يدل على خصوص المدعى من الأخبار على الالتقاط لا لغة ولا شرعًا، وما كأنه أراد إلا أن التقاط شيء ما يتم معنى الآية إلا به، فإن أراد أن الآية عموم، وأن المراد كل صغار حتى يدخل الالتقاط في الجملة فأين صيغة العموم؟ وإن أراد أن الصغار المراد في الآية هو الالتقاط فلا بد من نقل عليه إما لغوي أو شرعي، وأما ما
(1)(ص 545).
(2)
انظر "تفسير القرآن العظيم"(4/ 133)، "جامع البيان"(6/ جـ10/ 110).
(3)
انظر "الجامع لأحكام القرآن"(8/ 115).
(4)
(5/ 459).
أدلى به وشنع من تخصيص المسلمين بهذه الرذيلة فغير محل النزاع.
ونقول له: هل أمر النبي- صلى الله عليه وآله وسلم بالتقاط الأزبال؟ وهل كتب به العهود؟ وهل أمر به الصحابة والخلفاء من بعده أم كان يكتفي منهم بالجزية لا سواها؟ ولم يؤمروا برفع القمامات وإزالة الأوساخ، وقد كانت الآية نزلت ولم يفهم منها خير الخلائق، ولا أهل بيته وأصحابه ما فهمه - عافاه الله منها-، وقد جاء في كلامه بملازمة عقلية ظاهرها عدم الانفكاك حيث قال: إن إعفاء اليهود من ذلك يستلزم إلصاق هذه العارة بالمسلمين، ولا يخفى بطلان الملازمة، فإن إعفاء اليهود ممكن مع إعفاء المسلمين، والعدول إلى إيقاد الحطب أو اتخاذ ما بقي فلا [3] ملازمة، فلا يخفى ما في كلامه من التهافت.
ثم قال: الدليل الثاني: قال الله تعالى: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} (1) وقال: {ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا} (2).
ونقل كلام الكشاف (3)، لكنه لا يدل على خصوص مدعاه لا بالنص ولا بغيره.
وأقول: أول ما نورده عليه الاستفسار هل الآية إخبار من الله تعالى بإنزال العقوبة بأعداء الدين، بسبب خذلهم خلص المؤمنين، وتسلية لهم عما نالهم من أذاهم، لئلا يحزنوا ولا تجرح صدورهم؟ بأن العقوبة لاصقة بهم مكافأة على ما فعلوه بضرب الذلة التي من جملتها إعطاء الجزية والفقر والمسكنة.
قال القاضي في تفسيره: فإنك تجد أكثر اليهود فقراء ومساكين، وإذا كان إخبارًا كما هو ظاهره فلا تكليف به على أحد، بل لو وقعت تلك العقوبة من غير المسلمين لما كانوا مخلين بواجب تركوه، فكيف يقال إنه يجب إجبار اليهود على ذلك الالتقاط
(1)[البقرة: 61].
(2)
[آل عمران: 114].
(3)
(1/ 276 و610).
لتحصيل ما دلت عليه الآية! وهل كانت زمن رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم خالية على المدلول حتى اخترع في الزمن الأخير أن توقد المستحمات بالأزبال؟ إن هذا لشيء عجاب.
وإن قال: إن الآية خبر في معنى الأمر (1) فباطل بمثل ما بطل به الأول؛ لأنه لم يأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا أصحابُه، اليهودَ بالالتقاط تحصيلًا لما دلت عليه الآية، وإلا كانوا غير ممتثلين، فإن قال: هو عام لكل ذلة وهذا من الجملة فقد حصل الإخلال، وإن قال هو خاص فأين دليله من لغة أو شرع.
وقد ركب قياسًا منطقيًّا من الشكل الأول البدهي الإنتاج، لكنه مختل وقد أخذه مما استنبطه من الآية فقال: إجبارهم على الالتقاط محصل للذلة وكل محصل للذلة جائز.
فإجبارهم على الالتقاط جائز.
فيقال له أولًا: إن أردت أنا مكلفون بما دلت عليه الآية فإنه خبر في معنى الأمر، فالكبرى ممنوعة، بل يجب إبدالها بقوله: وكل محصل للذلة واجب، فينسخ أن إجبارهم على الالتقاط واجب؛ لأن الأمر للوجوب لا للجواز كما عرف في الأصول عند الجمهور، ولا يخفى أنها إن سلمت الكبرى، وهو الحتم على كل مكلف، بل ما يحصل به الذلة لليهود من مأكل، ومشرب، وملبس، ومسكن على كل حال، وفي أي زمان من كل فرد مع اختلاف الأحوال، والأشخاص، والأزمان والأمكنة، والأعراف.
ولهذه الكلية لا تنعقد لهم ذمة، ولا يتم لهم صلح، كيف وقد ثبتت مصالحتهم من سالف الأعصار في كل الأقطار، وثبتت معاملتهم لخير القرون في البيوعات وغيرها بما يطول شرحه، حتى تأجير المسلمين منهم، وقد مات خير خلق الله صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وسلم [4] ودرعه مرهونة في آصع من شعير كما ثبت في الصحيح (2).
(1) انظر الرسالة رقم (168).
(2)
البخاري في صحيحه رقم (2066) من حديث أنس.
ولم يناف عزة الإسلام، وإهانة الكفر وأهله. وقد لزم مما قرره المجيب في دليله هذا الباطل وما لزم عنه الباطل فباطل.
ويقال له أيضًا: كبرى القياس ممنوعة، وسند المنع مصادمتها للنصوص الصريحة إذ يلزم من تلك الكلية نهب أموالهم، وسفك دمائهم، وسبي ذراريهم، ومنعهم طيبات أموالهم من مأكل ومشرب وغير ذلك؛ إذ هو محصل للذلة، واللازم باطل فالملزوم مثله.
ولنا أن نعارض ذلك القياس بقياس من الشكل الأول بأن نقول: إجبارهم على الالتقاط غير ما دون فيه من الشارع، وكل ما لم يأذن به الشارع حرام، فإجبارهم على الالتقاط حرام، ثم ذكر قياسين آخرين ظاهري الاختلال بمثل ما ظهر به الأول، وذكر في سند كلية الكبرى دليلًا من الكتاب، وهو قوله تعالى:{وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم} (1) الآية. ويريد أن سوء العذاب عام، وأنه يدخل تحته ما استنبطه من الإجبار على الالتقاط، وهو مبني على أنا مكلفون بما أخبر الله به من إنزال العقوبة بهم، وفيه ما في الأول فلا نكرره (2).
ثم قال: الدليل الثالث: قال الله تعالى: {لهم في الدنيا خزي} (3) وفسر الآية بما هو يدندن حوله، وإلا فالتفاسير مروية عن السلف من الجزية، والسبي، والقتل إن لم يكن توقيفًا، فما صدق عليه الخزي كافٍ، وأي خزي أعظم من أداء الجزية، والذلة، وفتح المدائن، والقتل والسبي! فما الدليل على دخول الالتقاط إن أراد العموم، فلا صيغة، وما الدليل على أن التنكير هنا فيه معنى العموم؟
وجعله التنكير للتعظيم والتنكير (4)، وأن لا شيء أبلغ في الخزي مما نحن فيه غير مسلم؛
(1)[الأعراف: 167].
(2)
انظر رد الشوكاني في الرسالة رقم (168).
(3)
[البقرة: 114].
(4)
لعلها التكثير.
فإن القتل، والسبي، والتمثيل، والتعذيب أفظع وأفظع، ثم إنه وإن يسلم أن المراد من الخزي ما قاله فمن أين لنا التكليف لما دلت عليه الآية؟ إذ لا صيغة أمر حتى يدخل الإجبار على الالتقاط، ويجعله دليلًا لما سأل عنه المستفهم بقوله: هل من دليل على الإجبار؟ فينظر في ذلك.
ثم قال: الدليل الرابع: قول الله تعالى مخاطبًا لرسوله: {واغلظ عليهم} (1) يعني الكفار؛ أي جنس الكفار، وكل كافر، وخطابه خطاب لأمته. واستنبط من الآية أن كل فرد من المسلمين مأمور بالإغلاظ، وإذا كان كذلك فكيف يتردد في جواز الإجبار؟ إلخ
…
كلامه وفي كلامه نظر لأنه إن أراد أن هذا هو الإغلاظ لغة فلا نعرفه في اللغة.
قال في القاموس (2): الغلظة مثلثة، والغلاظة بالكسر، وكعنب: ضد الرقة، والفعل ككرم وضرب فهو غليظ وغلاظ، كغراب. والغلظ بالفتح الأرض الخشنة، وأغلظ نزل بها، والثواب وجده غليظًا واشتراه غليظًا كذلك، والقول خشن وغلظ عليه تغليظًا جعله غليظًا، وأغلظ له في القول لا غير انتهى.
ولا يخفى [5] اختصاص أغلظ بالقول، وإن أراد أنه عموم فلا صيغة عموم؛ إذ الأفعال مطلقات لا عمومات، وإن أراد قياسًا صحيحًا فليبينه بشروطه المعتبرة.
ثم قال: الدليل الخامس: ما وصف الله به أهل الإسلام من قوله: {أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين} (3).
وأتى بكلام منمق مسجع يروق السامع، ويأخذ من القلوب بالمجامع، حاصله أن الإيمان شأنه العزة والكفر بضده، فكيف يقر المسلمون على ما فيهم من العزة على حمل
(1)[التوبة: 73]، [التحريم: 9].
(2)
"القاموس المحيط"(ص 900).
(3)
[المائدة: 54].
الأزبال، وهذا وجه غير وجيه باعتبار ما سأل عنه المستفهم؛ لأنه إنما سأل عن جواز الإجبار إذا لم يحصل امتثال، ولم يقل إني أنزه اليهود عن هذه الرذيلة، وأخص لها أهل الإسلام إهانة مني لهم، وإعزازًا لأعداء الله، وتعظيمًا لهم، فتنزه أهل الإيمان عن الرذائل، لما يشك في حسنها. قل: فالجواب ليس بمطابق للسؤال.
ثم قال: الدليل السادس: أورد فيه حديث: "الإسلام يعلو ولا يعلى عليه"(1). وديدن حول ما أراد من إجبار اليهود على ذلك المراد، ولعمري أن الحديث لا يدل على ذلك، مع تسليم أنه خبر في معنى الأمر كما قرره في كلامه، غايته أنه أمر المسلمين بالعلو، والتنزه عن الرذائل، فمن أين لنا الدليل من الحديث على إجبار اليهود؟ وكيف المأخذ؟ هل مطابقة أو تضمن، أو التزام مع أنه إنما قال لعله خبر في معنى الأمر ترجيًّا:{وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} (2).
ثم قال: الدليل السابع: وذكر حديثًا أخرجه مسلم بلفظ: "لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام، وإذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه"(3).
ومراده أن أهل الإسلام مأمورون بذلك لما فيه من ظهور العزة، يقال عليه: نعم مأمورون بذلك، فأين الدليل فيه على الإجبار على الالتقاط الذي هو المسئول عنه، وهو محل النزاع؟ فالله المستعان كيف جعل الأمر باضطرار اليهود إلى أضيق الطريق دليلًا على إجبارهم على التقاط الأزبال! فهذا الاستدلال لم يخطر لأحد على بال.
إن كان من النص فالمنصوص إنما هو الاضطرار، وإن كان قياسًا فهو محتاج إلى التصحيح والبيان، وأما التوجع على المسلمين من تلك الخصيلة الشنعاء فأمر وراء الجواب وغير داخل في محل النزاع.
(1) تقدم تخريجه.
(2)
[الأحزاب: 4].
(3)
تقدم تخريجه.
ثم قال: الدليل الثامن: إجبار بني النضير على الخروج ومراعاة المصلحة هذه حكاية صحيحة منصوصة، لكن أثبتوا لنا وجه الدليل منها، هل بالنص أم بالقياس؟ وهل لعلة مستنبطة أم منصوصة؟ قولكم: فإذا كانت مراعاة المصلحة مجوزة للإجبار لم يمثل هذا الأمر العظيم أي الخروج من ديارهم فكيف لا يجوز إجبارهم بما هو دونه بمراحل في إصرار المجبرين، وفوقه بدرجات في الصلاح؟ يقال عليه [6] يلزم على كلامكم جواز إجبارهم على كل ما هو دون الخروج من الديار المساوي للقتل، ولعل هذا لا يقوله أحد للزومه الباطل كما أشير إليه.
ثم قال: الدليل التاسع: حديث: "نزلوا الناس منازلهم"(1) وطول في ذلك، وأراد أن فيه دليلًا على مقصوده من توزيع الحرف الدنية على الكفار، والحرف الرفيعة على المؤمنين.
ولا دليل فيه على ذلك؛ فقد كانت التجارة أشرف المكاسب، وكم من كافر كان متعلقًا بها وغيرها من المهن، وإن كانت دنية كم من مسلم تلبس بها، وهذا مستمر من عصر النبوة إلى زمننا؛ حتى صار مما يدعى فيه الإجماع، ولم يقع التوزيع من أحد من السلف، ولا من غيرهم، ولم يعلمهم أخلوا بواجب تركوه حيث لم يوزعوا الحرف، فكيف يجعل من مقدمة الواجب! وكل مقدمة الواجب واجب، فإجبارهم من لم يمتثل واجب.
فنقول: الصغرى ممنوعة وسند المنع عدم دلالة حديث: "نزلوا الناس منازلهم"(2) عليه، ولا على وجوبه، مع أنه على تسليم دلالته وجوب تنزيل الناس منازلهم في الحرف هو ممكن بدون إجبار اليهود بالعدول إلى الحطب أو غيره كما قدمناه.
ثم قال: الدليل العاشر: حديث أنس مرفوعًا أخرجه الشيخان (3) والترمذي والنسائي: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" ومراده أنا لا نرضى
(1) تقدم تخريجه.
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
تقدم تخريجه.
لإخواننا بهذه المهنة الخبيثة، وأنه لا يتم الإيمان لنا إلا بإجبار اليهود، هذا معنى كلامه.
وأقول: هذا لا يصلح جوابًا عما استفهم السائل عنه من الإجبار، ولا يشك عاقل أن هذه قصة سعى المسارعة إليها، وأما الإجبار فهو محل النزاع.
ثم قال: الدليل الحادي عشر: ونقل فيه كلام الشفاء (1) أو معناه، وما في الغيث وقال آخر: إنه الدليل الذي بنيت عليه القناطر، وأشار إلى ما اعترض به في ضوء النهار (2) من أنه اجتهاد في مقابلة النصوص في شرح قول الإمام عليه السلام: ولا يسكنون في غير خططهم إلا بإذن المسلمين لمصلحة، وذكر الأحاديث التي ذكرها صاحب ضوء النهار (3)، وترجيحه إخراج اليهود من جزيرة العرب بمقتضى الأدلة، وهو غير البحث.
وأقول: لو عول على نقل كلامهم فيه، كما فعل غيره من دون تعرض لتلك الاستنباطات الواهية لكان أحسن، أو قال: إن عقد الأئمة الصلح لهم كان بشرط قبول ما أراده المسلمون منهم من إزالة الأوساخ، والقيام بالمصالح الدنية بالآخرة أو غيرها، على حسب ما يعتادونه كان للكلام وجهًا وجهيا، وأنهم لم يعقد والصلح معهم على أداء الجزية فقط، بل مع ما ذكر، فتأمل ترشد.
ثم قال: الدليل الثاني عشر [7]: إن ملاحظة (4) المسلمين إذا لم تتم إلا بإتعاب النفوس، وتقحم المشاق، فليس الأمر بذلك بدعة، وعزة الإسلام التي هي رأس المصالح الدينية إذا لم تتم بإجبار اليهود فهي أولى بالجواز من حفر الخندق، يريد من المهاجرين والأنصار.
يقال له: نعم هذه من أعظم الملاحظة لعزة الإسلام، لكنها لا تصلح ردًّا على السائل؛ فإن العزة تتم بدون الإجبار بإعفاء الجميع، وإيقاد الحطب أو نحوه كما مر.
(1)(3/ 567 - 568).
(2)
(4/ 2573).
(3)
(4/ 2573).
(4)
كذا في المخطوط ولعلها (مصالح).
كذلك يقال في الرد على الدليل الثالث عشر.
ثم قال: الدليل الرابع عشر وهو الذي عليه التعويل: إن حفظ الدين (1) من الضرورات الخمس، ولا يتم حفظ دين هؤلاء المسلمين إلا بإجبار اليهود.
وأقول: محفوظ لغير إجبار اليهود من ترك المستخم الذي هو غير واجب أو نفاد غير الملتقط المعهود وجعله إجبار اليهود من مناسب المرسل الملائم غير الظاهر؛ لأنهم ذكروا في مثاله اعتبار عين العلة (2) في جنس الحكم، كاعتبار الصغر في الولاية الشاملة للمال والنكاح في تعليل ولاية المال بالصغر، الثابت بالإجماع فأين المنظر من المنظرية؟ فهو محتاج إلى تحقيق، فلم تظهر الكفاية، ومع ظهوره فهو مغني عن التكلفات الواهية لتلك الاستنباطات، وقد اعتبروه في مسائل عدة عند القائلين به. وأما الاستدلال بتلك الاستنباطات فغير ظاهر.
ثم قال: الدليل الخامس عشر: هب أن لا دليل على جواز الإجبار إلخ.
هذه منه تسليم تنزل، وإلا فهو جازم بالوجوب، إلا أنه ناقضه بجعله ذلك للندب والترغيب، ومع هذا فما أفاد في هذا الجواب عما سئل عنه أنه هل يجوز الإجبار مع الامتناع، وأما الترغيب فهو مسلك آخر، وفضيلة لا تنكر، ولا ينكر السائل فضلها وإن تنزه المسلمين عن ذلك، والإنكار عليهم ملابسة تلك القاذورات الثابتة نجاستها بالضرورة الدينية، والأحاديث المتواترة العلية من المهمات، والمسارعة إلى الخيرات، وإلى مضاعفة الحسنات. والله يهدي من يشاء إلى سواء السبيل. وتمت تم بهذا الجواب.
(1) انظر الرسالة رقم (166).
(2)
في حاشية المخطوط: المذكور في الأصول أن الملائم المرسل ما اعتبر عينه في جنس الحكم، أو جنسه في غير الحكم، أو جنسه في جنس الحكم، وكلام المعترض يسعى بقصره على الأول، وصدوره من مثله عجيب، ولم يذكر المعترض هذا في جوابه، وكان اكتفى لظهوره عن ذكره كاتبه.