الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(169)
47 - /1
إرسال المقال على إزالة الإشكال
تأليف
عبد الله بن عيسى بن محمد
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب
وصف المخطوط:
1 -
عنوان الرسالة من المخطوط: إرسال المقال على إزالة الإشكال.
2 -
موضوع الرسالة "فقه".
3 -
أول الرسالة: "بسم الله الرحمن الرحيم" الحمد لله رب العالمين، اللهم وفقنا إلى أوضح السبيل، واجعل كتابك المنير لنا خير دليل. . . . .
4 -
آخر الرسالة: انتهى تحرير ذلك ليلة ثامن عشر من الحجة الحرام سنة 1205، وكان انتهى نقلها من السواد إلى البياض آخر يوم الأحد من خامس محرم الحرام سنة 1206 ستة واثنتا عشرة مائة.
5 -
نوع الخط: خط نسخي جيد.
6 -
عدد الصفحات: 18 صفحة.
7 -
عدد الأسطر في الصفحة: 26 سطرا ما عدا الصفحة الأولى فعدد أسطرها ثمانية.
8 -
عدد الكلمات في السطر: 13 كلمة.
9 -
الرسالة من المجلد الأول من الفتح الرباني من فتاوى الإمام الشوكاني.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، اللهم وفقنا إلى أوضح السبيل، واجعل كتابك المنير لنا خير دليل، وارزقنا فهم معانيه، والوقوف عند أوامره ونواهيه، واللزوم لحدوده، والثبات عند نصوصه، والتوقف عند متشابهه، والتحرز عن القول فيه بالرأي، وأنه وصل من القاضي القطب الرباني محمد بن علي الشوكاني رسالة (1) في معنى إجبار اليهود على التقاط الأزبال، ولقد أجاد وأحسن الانتقاد، واستخرج بذكائه بنات أفكار كواعب أبكار عز اجتلاؤها على العلماء النظار، وخفيت محجاتها عن الأبصار. ولقد دل على طول باع، وكثرة اطلاع، فلله دره والله دره.
ولا شك أن ما ذهب إليه حسن [1] إلا أنه لم ينحل شكال ذلك الإشكال، ولم تنفك تكلم الأقفال، إذ أشكل على بعض من اطلع عليها بعض ما فيها، وما أسند مقدماته إليها، فطلب القاضي بيان ذلك من القاضي - حماه الله وكثر من فوائده - لا قصد الجدال، بل هداية إلى أحسن مثال، وللاجتماع على ما به حل العقال.
قال: الدليل الأول: {حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون} (2) ضرب الله جل جلاله لجواز مصالحة الكفار غاية هي إعطاء الجزية، وقيدها بالجملة الحالية وهي قوله:{وهم صاغرون} إشعارا بأن مجرد إعطاء الجزية غير كاف في جواز الموادعة والمصالحة وحقن الدماء، وجعلها اسمية تنبيها على دوام الصغار لهم وثباته كما قرره أئمة البيان إلخ.
أقول: الجملة الاسمية لا شك أنها تدل على الدوام والثبوت إذا كان خبرها اسما، لكن إذا وقعت حالا تصير كالشيء المبتدئ به الذي تجدد وقوعه في تلك الحال، من دون نظر إلى الدوام وعدمه، ولذا قالوا: إنك تقصد في الحال أن صاحبها كان على هذا
(1) الرسالة رقم (166).
(2)
[التوبة: 29]
الوصف حال مباشرة الفعل، فهي قيد للفعل، وبيان لكيفية وقوعه، بخلاف النعت، فإن المقصود بيان حصول هذا الوصف لذات المنعوت من غير نظر إلى كونه مباشرا لفعل أو غير مباشر، ولهذا جاز أن يقع الأسود والأبيض، والطويل والقصير، وما أشبه ذلك من الصفات التي لا انتقال فيها نعتا لا حالا.
وأما الدوام فعلا يعتبر هنا، وإن اعتبر فليس مقصودا أولا وبالذات، فإن أريد الدوام هنا بالفعل فهو ممتنع، وإن أريد بالقوة، فلا نزاع كما سيأتي.
قال في دلائل الإعجاز (1): إذا قلت: جاء زيد وهو مسرع، أو وغلامه يسعى بين يديه، أو وسيفه على كتفه كان المعنى أنك بدأت وأثبت المجيء، ثم استأنفت خبرًا، وابتدأت إثباتا ثانيا لما هو مضمون الحال، ولهذا احتيج إلى ما يربط الجملة الثانية بالأولى فجيء بالواو كما جيء بها في نحو: زيد منطلق، وعمرو ذاهب انتهى.
وقال في موضع آخر (2): إنك إذا قلت: جاء زيد والسيف على كتفه، أو خرج التاج عليه فكان كلاما نافرا لا يكاد يقع في الاستعمال؛ لأنه بمنزلة قولك: جاءني زيد وهو متقلد سيفه، وخرج وهو لابس التاج في أن المعنى على استئناف كلام، وابتداء إثبات، وأنك لم ترد جاءني كذلك، ولكن جاءني وهو كذلك انتهى.
فعرفت من هذا أن المعنى في قوله تعالى: {وهم صاغرون} على استئناف [2] كلام وابتداء صغار عند إعطاء الجزية من دون نظر إلى الدوام وعدمه، وهو ما فهمه السلف الماضون رضي الله عنهم وفهمه إمام البيان والتفسير الزمخشري (3) رحمه الله تعالى إذ قال: أي تؤخذ منهم الجزية على الصغار والذل، وهو أن يأتي بنفسه ماشيا غير
(1)(ص214) لأبي بكر الجرجاني.
(2)
أي الجرجاني في "دلائل الإعجاز"(ص 202).
(3)
في "الكشاف"(3/ 32).
راكب ويسلمها وهو قائم، والمستلم جالس، وأن يثلثل تلتلة، ويؤخذ بتلبيبه ويقال له أد الجزية وإن كان يؤديها ومزح في قفاه انتهى، وقال الفقيه يوسف في الثمرات (1) في تفسير هذه الآية ما لفظه: وفي هذه الجملة حكمان: الأول: وجوب قتال من هذه صفته حتى يخرج عن هذه الصفة بالإسلام، أو يبذل الجزية فيقر على ذلك، وإن كانوا يرتكبون من المنكرات العظائم من الكفر، وشرب الخمر، وأكل الخنزير، وغير ذلك.
ومثل هذا لا يكون في حق من أسلم أن يؤخذ منه عوض، ويقر على المعاصي؛ لأن الشرع قد ورد بهذا، ولا بد أن يكون مصلحة وإن جهل وجهها، مع أن إقرارهم بالجزية قد يكون لطفا لنا بالشكر على قهرهم، ولطفا لهم يكون لهم باعثا على الدين لأجل المخالطة، انتهى.
وقال السيوطي (2): قوله تعالى: {وهم صاغرون} أخرج ابن أبي حاتم (3) عن المغيرة أنه قال لرستم: أدعوك إلى الإسلام، أو تعطي الجزية وأنت صاغر، قال: أما الجزية فقد عرفتها فما قولك: وأنت صاغر؟ قال: تعطيها وأنت قائم وأنا جالس والسوط على رأسك (4).
وأخرج أبو الشيخ (5) عن سعيد بن المسيب قال: أحب لأهل الذمة أن يتعبوا في أداء
(1) الثمرات اليانعة المصطفة من آي القرآن المجتناة من كلام الإله الرحمن" مؤلفه: يوسف بن أحمد الثلائي اليمني.
مؤلفات الزيدية (1/ 351).
(2)
في "الدر المنثور"(4/ 168).
(3)
في تفسيره (6/ 1780 - 1781، رقم (10042).
(4)
عن أبي سعد قال: بعث المغيرة إلى رستم، فقال له رستم: ما تدعو؟ فقال له: أدعوك إلى الإسلام، فإن أسلمت فلك ما لنا وعليك ما علينا، قال: فإن أبيت؟ قال: فتعطي الجزية عن يد وأنت صاغر، فقال لترجمانه، قل له: أما إعطاء الجزية فقد عرفتها، فما قولك وأنت صاغر؟ قال: تعطيها وأنت قائم وأنا جالس، وقال غير أبي سعد: والسوط على رأسك.
(5)
عزاه إليه السيوطي في "الدر المثنور"(6/ 169).
الجزية لقوله: {حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون} (1) فاستدل بها من قال: إنها تؤخذ منهم بإهانة فيجلس الآخذ، ويقوم الذمي، ويطأطئ رأسه، ويحني ظهره، ويضعها في الميزان، ويقبض الآخذ لحيته، ويضرب لهزمته، ويرد به عليهم النووي (2) حيث قال: إن هذه هيئة باطلة.
واستدل بالآية من قال: إن أهل الذمة يتركون في بلد أهل الإسلام؛ لأن مفهومها الكف عنهم عن أدائها، ومن الكف أن لا يجلوا.
ومن قال: هي عوض حقن الدم فلا أجرة الدار انتهى، والمراد من ذلك أنه يعطونها في حال هم صاغرون فيه أي صغار، إذ الجملة الحالية إنما يقيد العامل بمضمونها، فمعنى وهم صاغرون في حال صغار.
ولا يخفى أن لفظ صغار يصدق بأدنى شيء من الصغار، ولا يشترط أن يخلفه شيء آخر من الصغار.
وأما ما لحظ إليه من الدوام أي دوام كل صغار على كل فرد، فإن أراد الدوام بالفعل فلا يقول له؛ لما يلزم عنه من اللوازم، وإن أراد بالقوة فلا نزاع.
وما في القوة ليس واجب الوجود.
قوله [3]: واعتبار السكاكي، والشريف، وصاحب المجاز للمقامات غير قادح في المطلوب لقضاء المقام بذلك بلا نزاع فهو إجماع.
أقول: هذا الزمخشري وغيره لم يفهم ما فهمته من دوام الصغار، وعموم أنواع
(1)[التوبة: 29].
(2)
في "روضة الطالبين"(10/ 316): حيث قال: هذه الهيئة المذكورة لا نعلم لها على هذا الوجه أصلا معتمدا، وإنما ذكرها طائفة من أصحابنا الخراسانيين، وقال جمهور الأصحاب، تؤخذ الجزية برفق، كأخذ الديون، فالصواب الجزم بأن هذه الهيئة باطلة مردودة على من اخترعها، ولم ينقل أن النبي صلى الله عليه وسلم ولا أحد من الخلفاء فعل شيئا منها مع أخذهم الجزية.
الصغار لكل فرد في كل، فحسبنا الزمخشري (1) مخالفا وقامعا في الإجماع، فكيف والمخالف غيره كثير.
قوله: وإهمال اعتباره أي اعتبار الظاهر فيما نحن فيه مستلزم لجواز تقرير بعض أهل الذمة بلا جزية ولا صغار وهو باطل.
أقول: هم لا يهملون اعتبار الظاهر، أما في جانب الإعطاء فلما يجيء أنها من كل حالم دينار (2) وأما اعتبار كل صغار بالفعل لكل فرد على جهة اللزوم في حال الإعطاء وإلا
(1) انظر: الكشاف (3/ 32).
(2)
أخرجه أبو داود رقم (1576) والترمذي رقم (623) والنسائي (5/ 26) وابن الجارود رقم (1104) والدارقطني (2/ 102رقم 29) والحاكم في "المستدرك"(1/ 398)، والبيهقي (4/ 98)، و (9/ 193) وأحمد (5/ 230)، والطيالسي (1/ 240 رقم 2077 - منحة المعبود) وابن أبي شيبة في "المصنف"(3/ 126 - 127)، وعبد الرزاق في "المصنف"(4/ 21 - 22 رقم 6841)، وابن ماجه رقم (1803)، من حديث معاذ أن النبي صلى الله عليه وسلم لما وجهه إلى اليمن أمره أن يأخذ من البقر من كل ثلاثين تبيعا أو تبيعة ومن كل أربعين مسنة، ومن كل حالم، يعني محتلما - دينارا أو عدله من المعافر، ثياب تكون باليمن".
وهو حديث صحيح.
قال ابن قدامة في "المغني"(13/ 209 - 210) وفي مقدار الجزية ثلاث روايات:
1 -
أنها مقدرة بمقدار لا يزيد عليه ولا ينقص منه، وهذا قول أبي حنيفة والشافعي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فرضها مقدرة بقوله لمعاذ - تقدم -: خذ من كل حالم دينارا أو عدله معافر. . . .
وفرضها عمر بمحضر من الصحابة فلم ينكر عليه، فكان إجماعا.
2 -
أنها غير مقدرة بل يرجع فيها إلى اجتهاد الإمام في الزيادة والنقصان، قال الأشرم: قيل لأبي عبد الله: فيزداد اليوم فيه وينقص؟ يعني من الجزية، قال: نعم، يزاد فيه وينقص على قدر طاقتهم، على ما يرى الإمام، وذكر أنه زيد عليهم فيما مضى درهمان، فجعله خمسين، قال الخلال: العمل في قول أبي عبد الله على ما رواه الجماعة، فإنه قال: لا بأس للإمام أن يزيد في ذلك وينقص على ما رواه عنه أصحابه في عشرة مواضع، فاستقر قوله على ذلك، وهذا قول الثوري، وأبي عبيد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر معاذا أن يأخذ من كل حالم دينارا، وصالح أهل نجران على ألفي حلة النصف في صفر والنصف في رجب.
وعمر جعل الجزية على ثلاث طبقات:
- على الغني ثمانية وأربعين درهمًا.
- وعلى المتوسط أربعة وعشرين درهما.
- وعلى الفقير اثني عشر درهما.
وصالح بني تغلب على مثلي ما على المسلمين من الزكاة، وهذا يدل على أنها إلى رأي الإمام.
قال البخاري في صحيحه (4/ 117)، قال ابن عيينة: عن ابن أبي نجيح، قلت لمجاهد: ما شأن أهل الشام عليهم أربعة دنانير، وأهل اليمن عليهم دينار؟ قال: جعل ذلك من أجل اليسار، ولأنها عوض فلم تتقدر كالأجرة.
3 -
أن أقلها مقدر بدينار، وأكثرها غير مقدر، وهو اختيار أبي بكر، فتجوز الزيادة ولا يجوز النقصان؛ لأن عمر زاد على ما فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم ينقص منه، وروي أنه على ثمانية وأربعين، فجعلها خمسين.
فليست بجزية فلم يقل به أحد، ولا دليل على وجوبه؛ لأن الصغار الحاصل للكل المجموعي، أو للفرد الكامل عائد إلى الإفراد من ذلك، غاية ما يلزم من ذلك جواز تقرير بعض أهل الذمة بلا صغار مخصوص بالفعل في حال إعطاء الجزية وهو مستلزم.
أو يقال: الصغار ثابت لكل واحد بالفعل في حال إعطاء الجزية، إذ الواقع أنهم يعطونها وهم في حال صغار، ولا يخفى أن نزع العمامة عنهم صغار ثابت لازم لهم، مقارن لإعطاء الجزية، كذلك لبس الغيار صغار.
الزنار (1) المعروف صغار.
كذلك الفقر والمسكنة والذلة التي ضرب الله عليهم صغار، هذا مما هو ثابت بالفعل في عامة الأحوال، وتقارن إعطاء الجزية، وأما ما هو ثابت في بعض الأحوال فكثير.
قوله: وإذا تقرر أن كل فرد من أفراد أهل الذمة لا ينفك عن الصغار بحكم الشرع، وأن الصغار هو الذلة والإهانة كما تقرر في اللغة، فدعوى اختصاصه ببعض ما فيه ذلك،
(1) من زنره ملأه، وزنره الرجل ألبسه الزنار، وهو ما على وسط النصارى والمجوس.
"القاموس"(ص 514).
أو بوقت دفع الجزية آخذا بظاهر التقييد ممنوع؛ لأن الأولى تحكم محض، والثانية يفت في عضدها أنه يصدق على الذمي أنه معط للجزية في جميع أوقات المصالحة، وإلا لزم بطلان مصالحته، وإهانته في وقت عدم الإعطاء بالفعل وهو باطل.
أقول: أما كونهم لا ينفكون عن الصغار والذلة بالقوة فمسلم، وأما عن الصغار والذلة بالفعل فهو معلوم الانفكاك.
قوله: آخذا بظاهر التقييد ممنوع.
أقول: لا ملجئ إلى مخالفة الظاهر وما أطبق عليه المفسرون وعلماء المعاني والبيان.
قوله: لأن الأولى تحكم محض يعني اختصاصها الصغار ببعض ما فيه الصغار.
أقول: هكذا فسره السلف بصغار مخصوص حال إعطاء الجزية، ولو قلنا بعدم الاختصاص لم يلزمنا إجبارهم على التقاط العذرة، إذا ما صدق عليه الصغار كان في المقصود.
قوله: والثانية يفت في عضدها أنه [4] يصدق على الذمي أنه معط للجزية في جميع أوقات المصالحة. . . إلخ.
أقول: لعله يريد أن القول بأن الصغار بالفعل يمنع اعتبار الإعطاء بالقوة، ولا يلزم ذلك؛ لأنا نقول: إن الإعطاء في الآية بالفعل، والصغار الذي هو قيد الإعطاء كذلك بالفعل، وإذا حصل الإعطاء والصغار بالفعل صدق عليهم أنهم معطون بالقوة، وصاغرون بالقوة، إذا لكانت بالفعل وكانت بالقوة ولا عكس.
قوله: إذا عرفت هذا علمت أن إعفاء اليهود عن التقاط الأزبال الذي هو أعظم أنواع الصغار وأهمها لا سيما مع استلزامه لإلصاق هذا العار الهادم لكل شعار بالمسلمين لا محالة يعود على الغرض المقصود من المصلحة الباعثة على المصالحة بالنقص.
أقول: الإجماع حاصل على جواز تأييد صلح الكتابي (1) بالجزية وأنواع الصغار
(1) قال ابن قدامة في "المغني"(13/ 207): ولا يجوز عقد الذمة المؤبدة إلا بشرطين:
الأول: أن يلتزموا إعطاء جزية في كل حول.
الثاني: التزام أحكام الإسلام، وهو قبول ما يحكم عليهم من أداء حق أو ترك محرم لقوله تعالى:(حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون)[التوبة: 29].
وقوله صلى الله عليه وسلم: "فادعهم إلى أداء الجزية، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم" ولا تعتبر حقيقة الإعطاء، ولا جريان الأحكام؛ لأن إعطاء الجزية إنما يكون في آخر الحول، والكف عنهم في ابتدائه عند البدل، والمراد بقوله:(حتى يعطوا الجزية) أي يلتزموا الإعطاء ويجيبوا إلى بذله كقوله تعالى: (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم) والمراد به التزام ذلك دون حقيقته. . . . .
مخصوصة من أنواع الصغار لا على إلزام أعظم أنواع الصغار، فإلزام أعظم أنواع الصغار محتاج إلى دليل، أو على فرض ثبوت دليل فقد جعلوا عمل الأمة بخلاف الدليل علة فيه.
ثم يقول بعد ذلك: إنه لا فرق عند من له فهم بين إخراج الحشوش ووضع ما فيها من الأموال، وبين التقاط الأزبال ووضعها في الحمام، وقد أباح الشرع الأول، ولم يمنع من الثاني، ولم يأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم اليهود بإخراج الحشوش، ولا بالتقاط الأزبال إلى الحمامات، ولا أجد من الصحابة ولا الخلفاء الأربعة مع اتساع بسطتهم على البلاد، ولا فهموا من هذه الآية ما فهمه القاضي - حماه الله - ولا يقول أحد أن الحمامات لم تكن توجد ذلك اليوم، ولا يقول أحد أن الأموال كانت لا توضع فيها الأزبال.
قال ابن حجر: قوله: وأما تسميد الأرض بالزبل فجائز، قال الإمام: لم يمنع منه أحد للحاجة القريبة من الضرورة، وقد نقله الأثبات عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم انتهى، قد رواه البيهقي (1) من حديث سعد بن أبي وقاص.
وروي عن ابن عمر خلاف ذلك عند ............................
(1) في "السنن الكبرى"(6/ 136) كان سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه يحمل مكتل عرة إلى أرض له.
قال الأصمعي: العرة، هي عذرة الناس.
الشافعي (1)، وأسنده عن ابن عباس مرفوعًا بسند ضعيف، ولفظه: "كنا نكري الأرض على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نشرط عليهم ألا يزبلوه بعذرة الناس (2) انتهى كلام ابن حجر، وقد سمعت أن إسناد هذا الحديث ضعيف، وأن المروي عن ابن عمر بصيغة التمريض، وأن المروي عن الإثبات جواز تسميد الأرض بالزبل.
وقد استثنى أهل الفقه من عدم جواز الانتفاع بالنجس أمورًا.
منها: تسجير التنور بالعذرة، ومن المعلوم أن المتسجر للتنور ليس يهوديا ولا نصرانيا وكذلك الاستصباح بالنجس فما أباحه الشرع فليس فيه عار، وما أذن فيه فلا يحسن معه إلا الانقياد والتسليم، وقد علم القاضي [5] أن الأمة لا تجتمع على ضلالة بنص الحديث الذي هذا لفظه.
وأن اختلاف هذه الأمة رحمة.
والقضاء بإجبار أهل الذمة على ذلك، وأنه واجب متحتم يقضي بأن الأمة أجمعت على خطأ، وسكتت عن عار، لا شرف للإسلام معه، وقد قال الله سبحانه وتعالى:{اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا} (3).
{وما آتاكم الرسول فخذوه ما نهاكم عنه فانتهوا} (4).
قال: الدليل الثاني: قال الله تعالى: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} (5) ثم نقل تفسير جار الله (6) للآية الأولى، ولم يكمله، وتمامه: فاليهود
(1) أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(6/ 139) عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر كان يشترط على الذي يكريه الأرض أن لا يعرها وذلك قبل أن يدع عبد الله الكراء.
(2)
أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(6/ 139).
(3)
[المائدة: 3].
(4)
[الحشر: 7].
(5)
[البقرة: 61].
(6)
أي الزمخشري في "الكشاف"(1/ 276).
صاغرون، إذا لا أهل مسكنة ومدقعة، إما على الحقيقة، وإما لتصاغرهم وتفاقرهم خيفة أن تضاعف عليهم الجزية انتهى، فتمام كلام الكشاف مخالف لما يريده القاضي من إنزال كل صغار بهم، وكان الواجب عليه نقله.
قوله (1) وقال (2) في تفسير الآية الثانية (3): والمعنى ضربت عليم الذلة في عامة الأحوال إلا في حال اعتصامهم بحبل من الله وحبل من الناس، يعني ذمة الله وذمة المسلمين، أي لا عز لهم قط إلا هذه المواحدة، وهي التجاؤهم إلى الذمة لما قبلوا من الجزية انتهى، وأول كلام جار الله لم ينقله القاضي وهو:{ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ} (4).
{بحبل من الله} في محل النصب على الحال، بتقدير: إلا معتصمين، أو متمسكين، أو متلبسين بحبل من الله، وهو استثناء من أعم عام الأحوال انتهى. وبعده ما نقله القاضي.
وأقول: على تسليم أن الذلة ليست الأمر الخلقي التي أنزلها الله عليهم، فهذا الآية التي في آل عمران (5) مقيد للآية الأولى في البقرة (6) وإذا كانت مقيدة لتلك كما هو القاعدة أن المطلق يحمل على المقيد، فقد صاروا في كنف الإسلام وحماه وعزته، وقد اكتسبوا حرمة باعتزائهم إلى جانب الإسلام، ودخوله تحت الذمة والعهد والواقع بين المسلمين وبينهم، فيكف يجوز لنا تغيير ما مشى عليه الأولون، وأقروهم عليه من لدن معاذ بن جبل إلى الآن، ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا معاذ بن جبل أنه أمر اليهود وألزمهم بالتقاط الأزبال، إنما عوهدوا على أداء الجزية.
(1) أي الشوكاني في الرسالة رقم (166).
(2)
الزمخشري في "الكشاف"(1/ 610).
(3)
من سورة آل عمران (112).
(4)
[البقرة: 61].
(5)
من سورة آل عمران (112).
(6)
[البقرة: 61].
قال الخزرجي في تاريخه: وعن محمد بن إسحاق، وساق كتاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأهل اليمن، وفيه: وأنه من أسلم يهوديا أو نصرانيا فإنه من المؤمنين، له ما لهم، وعليه ما عليهم، ومن كان على يهوديته أو نصرانيته، فإنه لا يرد عنها وعليه الجزية على كل حالم ذكر وأنثى، حر أو عبد دينار واف من قيمة المعافر، أو عرضه ثيابا، فمن أدى ذلك إلى [6] رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإن له ذمة الله وذمة رسوله، وإن منعها فإنه عدو لله لرسوله انتهى محل الحاجة، وذكر أن كتاب ملوك حمير مقدمة من تبوك، وكان جوابه هذا عليهم مقدمة منها أيضًا وهو آخر غزوة غزاها النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لمعاذ لما بعثه إلى اليمن: إنك سترد على قوم أكثرهم أهل كتاب، فاعرض عليهم الإسلام، فإن امتنعوا فاعرض عليهم لجزية، وخذ من كل دينارا، فإن امتنعوا فقاتلهم، وسبق إلى إيراده هكذا الغزالي في الوسيط (1) وتعقبها ابن الصلاح (2).
قلت: والظاهر أنه ملفق من حديثين: الأول في الصحيحين (3) من حديث ابن عباس فأوله إلى قوله: فادعهم إلى الإسلام، وفيه بعد ذلك زيادة ليست هنا.
(1)(7/ 55).
(2)
في مشكل الوسيط (2/ 128) وهو بذل الوسيط.
الحديث الذي ذكره الغزالي - يجمع بين حديثين كلاهما عن معاذ رضي الله عنه أخرج البخاري في صحيحه رقم (1458)، ومسلم رقم (19) عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذا رضي الله عنه إلى اليمن قال:"إنك تقدم على قوم أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه، عبادة الله، فإذا عرفوا، فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم، فإذا فعلوا الصلاة، فأخبرهم أن الله فرض عليهم زكاة في أموالهم وترد على فقرائهم، فإذا أطاعوا بها فخذ منهم، وتوق كرائم أموال الناس. ". ما أخرجه أبو داود في السنن رقم (1576) عن معاذ أن النبي صلى الله عليه وسلم لما وجهه إلى اليمن، أمره أن يأخذ من كل حالم دينارا أو عدله من المعافر (ثياب تكون باليمن) - تقدم تخريجه.
(3)
انظر: " التعليقة السابقة
وأما الجزية فرواه أحمد (1) أبو داود (2) والنسائي (3) والترمذي (4) والدارقطني (5) وابن ماجه (6) ابن حبان (7) والحاكم (8) والبيهقي (9) من حديث مسروق عن معاذ أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما وجهه إلى اليمن أمره أن يأخذ من كل حالم دينارًا أو عدله من المعافر - ثياب تكون باليمن -.
قال أبو داود (10) هو حديث منكر، قال: وبلغني عن أحمد أنه كان ينكره، وذكر البيهقي (11) الاختلاف فيه، فبعضهم رواه عن الأعمش، عن أبي وائل، عن مسروق، أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذا.
وأعله ابن حزم (12) بالانقطاع، وأن مسروقا لم يلق معاذا، وفيه نظر.
(1) في "المسند"(5/ 230).
(2)
في "السنن"(1577).
(3)
في "السنن"(5/ 26).
(4)
في "السنن"(623).
(5)
في "السنن"(2/ 102رقم 29).
(6)
في "السنن"(رقم 1803).
(7)
في صحيحه رقم (4886).
(8)
في "المستدرك"(1/ 398).
(9)
في "السنن الكبرى"(4/ 98) و (9/ 193) وهو حديث صحيح.
(10)
ذكره الحافظ في "التخليص"(2/ 152).
(11)
في "السنن الكبرى"(4/ 98).
(12)
في "المحلى"(6/ 16) حيث قال وجدنا حديث مسروق إنما ذكر فيه فعل معاذ باليمن في زكاة البقر، وهو بلا شك قد أدرك معاذا، وشهد حكمه وعمله المشهور المنتشر، فصار نقله لذلك، ولأنه عن عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم نقلا عن الكافة عن معاذ بلا شك.
وقال الترمذي: (1) حديث حسن، وذكر أن بعضهم رواه مرسلا، وأنه أصح انتهى ما في التخليص. وقال الحاكم (2) صحيح على شرطهما انتهى من الخلاصة.
إذا تقرر هذا عرفت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صالحهم على الجزية، وعقد لهم بذلك ذمة الله، وذمة رسوله، فيكف يجوز نقض ما عوهدوا عليه، والزيادة على ما سن من السنة، في أهل الكتاب! فنحن نقتصر على ما عاهدهم عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الجزية، ومن عدم ابتدائهم بالسلام، ومن إلجائهم إلى أضيق الطريق، وما أذن فيه الشرع على الوجه المعتبر، وقد علمتم أنه يسعى بذمة المسلمين أدناهم (3) وأنها لا تخفر (4) هذه الذمة، فيكف بما عقده النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومشى عليه الخلفاء من بعده وأقرهم الأئمة عليه! وأن هؤلاء اليهود باليمن كما قال الشاعر:
فصرت أذل من وتد بقاع
…
يشجج رأسه بالفهر واجي
فلا مزيد على ما هم فيه من الذمة والصغار، ولا نقول: إنها قد سقطت حرمتهم بالمرة فلهم حرمة بسبب دخولهم تحت الذمة.
والعهد مقبرة المسلم والذمي [7] من الثرى إلى الثريا، فلا تزدرع (5) ولا تقوآها حتى يذهب قرارها، وكذلك أباح الشرع نكاح الكتابيات ولو كانوا بحيث لا يؤبه لهم، وأنه
(1) في "السنن"(3/ 20).
(2)
في "المستدرك"(1/ 398).
(3)
يشير إلى الحديث الذي أخرجه ابن ماجه رقم (2684) من حديث معقل بن يسار مختصرا بلفظ: "المسلمون يد على من سواهم تتكافأ دماؤهم" وهو حديث صحيح.
(4)
أخرج مسلم في صحيحه رقم (470/ 1371) من حديث أبي هريرة بلفظ: "إن ذمة المسلمين واحدة فمن أخفر مسلما فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين".
(5)
المزدرع: الذي يزدرع زرعا يتخصص به لنفسه، وازدرع القوم اتخذوا ذرعا لأنفسهم خصوصا أو احترثوا وهو افتعل إلا أن التاء لما لان مخرجها ولم توافق الزاي أبدلوا منها دالا، لأن الدال والزاي مجهورتان والتاء مهموسة. لسان العرب (8/ 141).
ينبغي أن يكسوا جميع ملابس الصغار والذلة لم يأذن (1) الشارع الحكيم بنكاح الكتابيات.
وهذه المسألة التي الخوض فيها مبنية على التأجير، والتأجير مبني على الرضا، والرضا ينافي الإجبار الذي لحظتم إليه.
قوله: وليس المراد بالذلة، الذلة الحاصلة بسبب خاص أو ببعض معين ليس ذلك إلا تحكم لم يدل عليه دليل.
أقول: لفظ ذلة مصدر نوعي يدل على النوعية، والتاء تدل على الواحدة، واللام في الذلة للعهد الخارجي (2) الذي هو أم الباب، ولذا فسرها أبو السعود (3) لهدر النفس والمال والأهل.
أو ذل التمسك بالباطل، ولا يخفى أنه لم يفسره أحد بما يعم أنواع الذلة، ووجوب إنزال أسبابها بهم، بل إما بالمصدر، وهو صادق على نوعين من الذلة، أو على الذلة الطبيعية، وإما بشيء مخصوص، فالقصد إلى تفسير السلف هو الأولى مع مناسبته للمقام فكيف يقال أن التفسير بسبب خاص، أو ببعض معين تحكم، والحال أن جوهر اللفظ يدل على نوع من الذلة مخصوص.
قوله: ويدل لعدم صحة هذه الإرادة قوله تعالى: {وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب} (4). . . إلخ.
(1) قال تعالى: (ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن)[البقرة: 221].
(2)
في حاشية المخطوط ما نصه: والمعهود إما أن يتقدم ذكره لفظا أو معنى، والإشارة باللام إما إلى الحصة من الجنس أو اثنين منها أو ثلاثة ولا يجتمع العهد والاستغراق حتى يقال: إن الإشارة إلى جميع أنواع الذلة، ولم يتفق ذلك إلا في قوله تعالى:(فجمع السحرة) بعد قوله: (بكل سحار عليم) وفيه بعد ذلك كلام. تمت.
(3)
في إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (1/ 207)، (3/ 374)، بتحقيقي.
(4)
[الأعراف: 167].
أقول: قال في الكشاف (1) في تفسير سوء العذاب ما لفظه: "فكانوا يؤدون الجزية إلى المجوس، إلى أن بعث الله محمدا صلى الله عليه وآله وسلم؛ فضربها عليهم، فلا تزال مضروبة عليهم إلى آخر الدهر".
قوله: ولا يخفى ما في الإضافة إلى العذاب المحلى باللام من إباء (2) إرادة المعين وما في جعل يوم القيامة غاية لذلك من الدلالة على عدم إرادة مخصوص.
أقول: اللام (3) هي تستعمل لمعان كثيرة، فلا نص هنا على العموم، بل المقام محتمل أن المراد عذابا معينا، إذ قد أمر الله سبحانه وتعالى أن يقاتلهم حتى يعطوا الجزية وهم صاغرون، فدل على أن سوء العذاب الجزية، وهذا هو اللائم المقيد سقوطه يقوم القيمة أو بعض آياتها مثل نزول عيسى، وفسرها الإمام جار الله بذلك.
قال: الدليل الثالث: قول الله تعالى: {لهم في الدنيا خزي} (4) قال جار الله الزمخشري (5) قتل وسبي، أو ذلة بضرب الجزية إلى أن قال: وأقول تعيين ما به الخزي لا يكون إلا توفيقا، والأحسن أن يراد خزي كثير، أو خزي عظيم إلخ.
أقول: نتكلم هنا مع القاضي في طرفين الأول: أن الآية [8] اختلف في سبب نزولها فعن ابن عباس (6) ومجاهد (7) وقتادة (8) نزلت في النصارى، والقول الثاني عن ابن زيد (9) قال: هؤلاء المشركون حين حالوا بين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم الحديبية
(1)(2/ 526.).
(2)
في المخطوط غير واضحة ولعلها إباء.
(3)
انظر: "مغني اللبيب"(1/ 207 وما بعدها).
(4)
[البقرة: 114].
(5)
في "الكشاف"(1/ 313).
(6)
أخرجه ابن جرير في "جامع البيان"(1\ج1/ 499) وابن كثير في تفسيره (1/ 386).
(7)
أخرجه ابن جرير في "جامع البيان"(1\ج1/ 499).
(8)
أخرجه ابن جرير في "جامع البيان"(1\ج1/ 499).
(9)
أخرجه ابن كثير في تفسيره (1/ 386) وابن جرير في "جامع البيان"(1\ج1/ 450).
وبين أن يدخل مكة.
قال ابن كثير (1) وهو الأظهر؛ لأنه لما وجه الذم في حق اليهود والنصارى شرع في ذم المشركين، فهذه الأقوال كما ترى، ولم يذكر أنها نزلت في اليهود، وإنما استدل القاضي بها؛ لأن العام لا يقصر على سببه، وفيه الخلاف المشهور في الأصول، فإن تقرر عنده ذلك فله الاستدلال بها.
الطرف الثاني: أنه قال: إن تعيين ما به الخزي لا يكون إلا توفيقا، وقد سبقه إلى كون الخزي في الدنيا أعم من ذلك ابن كثير (2) لكن نقول: من جعل الآية عامة للنصارى واليهود فسر الخزي لكل ما يليق به ويناسبه، ففسر السدي وعكرمة ووائل بن داود الخزي في الدنيا المهدي (3) وفسره (4) قتادة بأداء الجزية وهم صاغرون، فهذه الأقوال المحكية عن السلف محتملة للتوقيف، ومحتملة للوقف، لكن الحمل على الطرف الأول أولى، حملا لهم على السلامة من أن يقولوا في كتاب الله برأيهم.
والثاني: فهو الوقف إن كان نظرهم أدى إلى ذلك فذلك مراد الله منهم أنه قال جل وعلا: {لهم في الدنيا خزي} ففهموا أنه إذا حصل أي خزي عظيم فقد كفى، إذ بحصول خزي واحد يصدق أن لهم خزي أي واقع بهم، أو وقع فتصدق الآية عليه.
ولو كان المطلوب منا كل خزي، أو خزي معين عنده تعالى لا نعرفه نحن، وطلب الشارع منا إصابته لكان في ذلك من الحرج والمشقة ما لا يخفى، إذ لا يمكن إنزال كل خزي بهم، ولا نعرفه أنه لم يبق خزي في الدنيا إلا أنزلناه بهم، إذ تحوز العقل أن الخزي المراد لله سبحانه وتعالى لم يصادفه ولم يصبه، فلا يزال يتطلب ذلك، ويلزم من ذلك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم ينزل بهم الخزي الذي أراده، ولا أحد من صحابته
(1) في تفسير (1/ 388).
(2)
في تفسيره (1/ 390).
(3)
ذكره ابن كثير في تفسيره (1/ 390).
(4)
ذكره ابن كثير في تفسيره (1/ 390).
ولا من بعدهم، وأنهم جميعا لم ينزلوا باليهود شيئا من الخزي المراد لله، ونحو هذا من اللوازم، فلنقف عند قوله تعالى:{حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون} (1).
على أنه لا يستفاد من هذه الآية وهي قوله: {لهم في الدنيا خزي} (2) الأمر لنا بإيقاع الخزي، إنما أمرنا بأوامر أخرى أن نقاتلهم، ونسبي ذاراريهم، ونصطفي أموالهم حتى يسلموا أو يعطوا الجزية وهم صاغرون، فهذه الآية إنما هي وصف لهم بالخزي، والخزي بالفعل مفارقهم في كثير من الأحوال، ولذا قال القاضي: إن المراد [9] أنهم أهل لكل فرد من الأفراد الموجبة للخزي، ولم نقض بأنه واجب علينا إنزال كل فرد من أفراد الخزي لهذه الآية.
وأعلم أنه قد بنى - حماه الله - على أن التنكير إما للتكثير، أو للتعظيم أو مجموعهما وأنه لا يصح القصد إلى فرد من أفراد الخزي، أو إلى نوع منه لعدم مناسبته لمقام الوعيد الشديد.
أقول: لا يجوز أن يكون التنكير للنوعية مع إرادة التعظيم، ولا منافاة بين إرادة النوعية والتعظيم، كما صرح به علماء البيان، فيكون معنى الآية على هذا نوع عظيم من الخزي كما قيل في قوله تعالى:{وعلى أبصراهم غشاوة} (3) ولا مانع من ذلك، وذلك مناسب للمقام، ومعارض لما أيده القاضي - حماه الله - من أن التنكير للتكثير والتعظيم، ومع الاحتمال يبطل الاستدلال لا سبيل إلى القطع بما قاله القاضي، وأن مراد الله ذلك.
قال: الدليل الرابع: قول الله عز وجل مخاطبا لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم:
(1)[التوبة: 29].
(2)
[البقرة: 114].
(3)
[البقرة: 7].
{وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} (1) يعني الكفار أي اغلظ على جنس الكفار، أو على كل كافر، وخاطبه صلى الله عليه وآله وسلم خطاب لأمته. . . إلخ.
أقول: صدر الآية: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} (2) قال جار الله (3): جاهد الكفار بالسيف، والمنافقين بالحجة، واغلظ عليهم في الجهادين جميعا ولا تحابهم.
وكل من وقف منه على فساد في العقيدة هذا الحكم ثابت فيه يجاهد بالحجة ويستعمل معه الغلظة ما أمكن منها.
عن ابن مسعود أن من لم يستطع بيده فبلسانه، وإن لم يستطع فليكفهر في وجهه، فإن لم يستطع فبقلبه (4) يريد الكراهة والبغضاء التبرؤ منه، وقد حمل الحسن (5) جهاد المنافقين على إقامة الحدود عليهم إذا تعاطوا أسبابها انتهى، فعرفت من هذا أن الإغلاظ على الكافرين بالسيف، وعلى المنافقين بالحجة، إذ لا جهاد للمنافقين بالسيف، وأن الأمر بالجهاد للكفار مع بقائهم على الكفر، وعدم تسليم الجزية، فإذا سلموا الجزية فلا جهاد لهم ولا إغلاظ.
وقد قال تعالى {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} (6) وقال في الثمرات (7) في تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} (8).
(1)[التوبة: 73][التحريم: 59].
(2)
[التوبة: 73]، [التحريم: 59]
(3)
أي الزمخشري في "الكشاف"(3/ 68).
(4)
أخرجه ابن جرير الطبري في "جامع البيان"(6\جـ 10/ 183).
(5)
أخرجه ابن جرير الطبري في "جامع البيان"(6\جـ10/ 184).
(6)
[العنكبوت: 46].
(7)
تقدم ذكره.
(8)
[التوبة: 73]، [التحريم: 59].
الآية ما لفظه: دلت على وجوب الجهاد، قيل بالسيف للكفار، وجهاد المنافقين بالحجة، وقيل جهاد المنافقين بإقامة الحدود عليهم عن الحسن وقتادة.
وقال الضحاك (1) وابن جريح: جهاد المنافقين بأن يغلظ عليهم الكلام، وهذا حيث لا يقابل ذلك مصلحة [10] فإن ترتب على الرفق بهم مصلحة من رجاء توبة به جازت الملاطفة، وقد جوزوا التعزية لأهل الذمة والوصية، وقال تعالى:{لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (2) انتهى.
قال: الدليل الخامس: ما وصف الله به أهل الإسلام من قوله: {أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين} (3) فالعزة على الكفار على وجه الاستعلاء المشعور به من على وصف المادح الانخراط في سلكه أمر ترغب إليه كل نفس أبية، وتطلبه كل همة قسورية وأن ما نحن فيه - لعمر أبيك - حقيق بأن يكون مقدم قافلة ركب العزة، وعنوان ذلك الشرف الذي ما صادف غيرة مجزه.
(1) انظر تفسير القرآن العظيم (4/ 178) لابن كثير.
(2)
[الممتحنة: 8] قال ابن جرير في "جامع البيان"(14\جـ28/ 66) وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: لا ينهاكم الله عن الذين لا يقاتلوكم في الدين من جميع أصناف الملل والأديان أن تبروهم وتصلوهم، وتقسطوا إليهم إن الله عز وجل عم بقوله:(الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم) جميع من كان ذلك صفته، فلم يخصص به بعضا دون بعض، ولا معنى لقول من قال: ذلك منسوخ، لأن بر المؤمن من أهل الحرب ممن بينه وبينه قرابة نسب، أو ممن لا قرابة بينه وبينه ولا نسب غير محرم ولا منهي عنه إذا لم يكن في ذلك دلالة له، أو لأهل الحرب على عورة لأهل الإسلام، أو تقوية لهم بكراع أو سلاح.
(3)
[المائدة: 54].
أقول: لا ننكر أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، وأما كون هذه مقدمة ركب العزة فلا، إذ يلزم من ذلك أنه لا عزة للإسلام في البلاد الخالية عن اليهود، إذ بالضرورة أنهم يلتقطون أزبالهم هم بنفوسهم، أو يقوم بهذه الوظيفة أحدهم، فلا عزة لهم حينئذ، وقد قال ربك سبحانه وتعالى:{وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا} (1) قال جار الله (2): هذه الهمزة للإنكار المستقبل بالتجهيل والتعجب من اعتراضهم وتحكمهم، وأن يكونوا هم المدبرين من النبوة والتخير لها من يصلح لها ويقوم بها، والمتولين لقسمة رحمة الله التي لا يتولاها إلا هو بباهر قدرته وبالغ حكمته، ثم ضرب لهم مثلا فاعلم أنهم عاجزون عن تدبير خويصة أمرهم، وما يصلح في دنياهم، وأن الله - عز وعلا - هو الذي قسم لهم معيشتهم، وقدرها ودبر أحوالهم تدبير العالم بها، فلم يسو بينهم، ولكن فاوت في أسباب العيش، وغاير بين منازلهم، فجعل منم أقوياء وضعفاء، أغنياء ومحاويج، وموالي وخدما ليصرف بعضهم بعضا في حوائجهم ويستخدموهم في مهنهم، ويسخروهم في أشغالهم، حتى يتعايشوا، ويترافدوا، ويصلوا إلى منافعهم، ويحصلوا على مرافقهم، ولو وكلهم إلى أنفسهم، وولاهم تدبير أمرهم لضاعوا وهلكوا، فإذا كانوا في تدبير المعيشة الدنية في الحياة الدنيا على هذه الصفة، فما ظنك بهم في تدبير أمر الدين الذي هو رحمة الله الكبرى ورأفته العظمى؟ وهو الطريق إلى حيازة حظوظ الآخرة، والسلم إلى حلول دار السلام انتهى.
فبعد قوله الله تعالى: {ليتخذ بعضهم بعضًا سخريًا} (3) لا مجال للكلام [11] في
(1)[الزخرف: 31 - 32].
(2)
أي الزمخشري: في "الكشاف"(5/ 438).
(3)
[الزخرف: 32].
أن ذلك عار وشنار وحطة تلحق الإسلام، على أن المسلمين قد دخلوا في حرف كثيرة فيها دناءة وصغار وإن لم يبلغ في الجد هذه، فهلا قيل: إنه لا عز للإسلام مع ذلك.
وقد تقدم أنه لا فرق بين نقل الأزبال إلى الأموال ونقلها إلى الحمامات، وجرى بالأول العرف الذي لا ينكر، كما جرى بالثاني في جميع أقطار اليمن، ومضى عليه الأولون.
وهاهنا أيضًا مانع من الاستدلال بالآية: على العموم، وأن سياق الآية يفهم خلاف ذلك وهي:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ} (1) قال أبو السعود في تفسير قوله: (2): {يجاهدون في سبيل الله} صفة أخرى لقوم، مترتبة على ما قبلها \ مبنية مع ما بعدها لكيفية، عزتهم، أو حال من الضمير في أعزة.
قوله: فأي عز لمسلم يعمد إلى حشوش اليهود، ويحمل أزبالهم، وأي فضيلة لإخوانه المسلمين المقرين له على ذلك العمل إلخ.
أقول: هذا مما لم نعلم بوقوعه عندنا، فإن كان واقعا بصنعاء فأنتم أعرف، وعلى ما فيه فلعل له عذرا وأنت تلوم.
وهو أنه قد تقرر أن الضرورات تبيح المحظورات، قال تعالى:{إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله} (3) إلى قوله: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} (4) فقد تكون الضرورة ألجأته إلى العمل بالأجرة فيما يسد خلته، ويقوم بأود عياله، ويسد رمقه، ويبلغ به البلغة من العيش، وأنه لا يجب عليه أكل الميتة وثمة شيء يتناوله وينتفع بإيقاده، فيحصل من أجرة الإيقاد ما يقتات به،
(1)[المائدة: 54].
(2)
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم" (2/ 499).
(3)
[البقرة: 173].
(4)
[البقرة: 173]
ولعمر أبيك أنه ما طلب الدنيا أحد بما تستحق مثل هذا الرجل.
فقد روي عن بعض السلف حكاية ظريفة، وهو أنه رأى رجلا مضحكا عليه آثار النعمة، فقال: ما هذا؟ فقيل: هذا رجل يضحك الملوك بأن يضرط لهم فقال: ما طلب الدنيا أحد بما يليق بها مثل هذا، أو في حديث أعزل الأذى عن طريق المسلمين أخرجه أحمد (1).
وفي الحديث: "استعفف عن السؤال ما استطعت" أخرجه الديلمي (2).
وفي الحديث: "إن الله يحب العبد المؤمن المحترف" أخرجه أحمد (3).
وفيه إن الله يحب العبد ينتحل المهنة، يستغني بها عن الناس، ويبغض العبد يتعلم العلم يتخذه مهنة.
وقد أجر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، كرم الله وجهه في الجنة، نفسه من يهودي، قال ابن حجر (4) حديث علي أنه أجر نفسه من يهودي [12] يسقى له كل دلو بتمرة [أخرجه](5) ابن. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(1) في "المسند"(4/ 420) بإسناد حسن.
قلت: وأخرجه مسلم في صحيحه رقم (131/ 2618) البيهقي في "الشعب" رقم (11165) وابن أبي شيبة (9/ 28) وابن ماجه رقم (3681) وأبو يعلى في مسنده رقم (7472) وابن حبان رقم (541) من طرق عن أبي برزة قال: قلت يا رسول الله علمني شيئا أنتفع به قال: "اعزل الأذى من طريق المسلمين".
(2)
لم أجده.
(3)
أخرجه الطبراني في "الكبير"(12/ 308 رقم 13200) وفي "الأوسط"(8/ 380) رقم (8934). وأورده الهيثمي في "المجمع"(4/ 62) وقال رواه الطبراني في "الكبير" و"الأوسط" وفيه عاصم بن عبيد الله وهو ضعيف.
أخرجه البيهقي في "الشعب" رقم (1237)، كلهم من حديث عبد الله بن عمر.
(4)
في "التخليص"(3/ 134).
(5)
زيادة يقتضيها السياق.
ماجه (1) والبيهقي (2) من حديث ابن عباس، وفيه حنش راويه (3) عن عكرمة عنه، وهو ضعيف، وسياق البيهقي أتم، وعندهما أن عدد التمر سبع عشرة، ورواه أحمد (4) من طريق علي بسند جيد، ورواه ابن ماجه (5) بسند صححه (6) ابن السكن مختصرا قال: كنت أدلو الدلو بتمر، واشترط أيضًا جلدة انتهى، كذا أي يابسة جيدة لم يأنف أمير المؤمنين أن يعمل ليهودي، ولم يقل أنه سقط شيء من عزة الإسلام، وقد يكون تعاطي الأعمال الدنية لهضم النفس من الكبر والخيلاء والعجب.
وذلك لا يفي بمن عرف من نفسه عدم الوقوف عند الحد، وهو المناسب لما حكى أن مطرف بن عبد الله بن الشخير (7) نظر إلى المهلب بن أبي صفرة (8) وعليه حلة يسجها، ويمشي الخيلاء، فقال له: يا أبا عبد الله ما هذه المشية التي يبغضها الله ورسوله؟ فقال
(1) في "السنن"(2446)
(2)
في "السنن الكبرى"(6/ 119) وهو حديث ضعيف جدًا.
(3)
اسمه حسين بن قيس، وحنش لقب، قال أحمد: متروك وقال أبو زرعة وابن معين: ضعيف، وقال البخاري: لا يكتب حديثه، وقال النسائي: ليس بثقة، وقال: متروك، وقال السعدي: أحاديثه منكرة جدًا، وقال الدارقطني: متروك.
الميزان (1/ 546).
(4)
في المسند (1/ 90، 135).
وأورده الهيثمي في "المجمع"(4/ 97) وقال: رجاله رجال الصحيح إلا أن مجاهد لم يسمع من علي، وقال ابن الملقن: وهو من رواية مجاهد عنه، يعني علي - وهو منقطع.
(5)
في السنن رقم (2447). وهو حديث حسن
(6)
ذكره ابن حجر في التلخيص (3/ 134).
(7)
هو مطرف بن عبد الله بن الشخير الحرشي العامري أبو عبد الله البصري قال العجلي ثقة.
وذكره ابن سعد في "الطبقات"(7/ 141) في الطبقة الثالثة من أهل البصرة وقال روى عن أبي بن كعب وكان ثقة ذا فضل وورع وأدب.
انظر: "تهذيب التهذيب"(10/ 157 رقم 326)، "التقريب"(2/ 235).
(8)
انظر "تهذيب التهذيب"(10/ 293).
المهلب: أوما تعرفني؟ فقال: بل أعرفك أولك نطفة مذرة، وآخرك جيفة قذرة، وحشوك فيما بين ذلك بول وعذرة، قلت: ففي ذلك مناسبة ليكون حمله لذلك ظاهرًا وباطنا، وقد أخذ ابن عون هذا الكلام فنظمه شعرًا:
عجبت من معجب بصورته
…
وكان بالأمس نطفة مذره
وفي غد بعد حسن صورته
…
يكون في اللحد جيفة قذرة
وهو على تيهه ونخوته
…
ما بين هذين يحمل العذرة
قال: الدليل السادس: أخرج الطبراني في الصغير من حديث عمر والدارقطني، من حديث عائذ المزني مرفوعًا:"الإسلام يعلو ولا يعلى عليه"(1) إلخ.
أقول: "الكلام عليه من وجهين:
الوجه الأول: من حيث المعنى أنه إذا كان في معنى الأمر، وقد تقرر أن المشرع لم يمنع من بعض المهن التي فيها سقوط، فالإسلام باقي على علوه، إذ لا نقص فيما أباحه المشرع، وجرى عليه العرف، سيما على قول من يقول أن المباح مأمور به (2).
الوجه الثاني في الكلام: على إسناده، قال ابن حجر (3) حديث: الإسلام يعلو ولا يعلى عليه الدارقطني (4) من حديث عائذ المزني، وعلقه البخاري (5) ورواه الطبراني في الصغير (6) من حديث عمر مطولا قصة الأعرابي والضب، وإسناده ضعيف جدا انتهى.
وفي خلاصة. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(1) تقدم تخريجه.
(2)
انظر "روضة الناظر"(1/ 194) الإحكام للآمدي (1/ 168).
(3)
في "تلخيص الحبير"(4/ 231).
(4)
في "السنن"(3/ 252).
(5)
في صحيحه (3/ 258) كتاب الجنائز، باب: إذا أسلم الصبي فمات هل يصلى عليه؟.
(6)
(2/ 153) رقم (948) الروض الداني).
البدر (1) من رواية ابن عمرو المزني بإسناد واه أبو نعيم (2) والبيهقي (3) في كتابيهما دلائل النبوة من رواية عمر، ولفظه: الحمد الذي هداك لهذا الدين الذي يعلو ولا يعلى عليه.
قاله للأعرابي في حديث طويل، وفي سنده محمد بن علي بن الوليد [13] السلمي البصري، قال البيهقي: الحمل فيه على السلمي، قاله الذهبي (4) قال: صدق والله الذهبي والبيهقي، فإنه خبر باطل انتهى.
قال: الدليل السابع: أخرج مسلم (5) من حديث أبي هريرة، "لا تبدؤوا اليهود والنصارى بالسلام، وإذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه" إلخ.
أقول: نعمل فيهم بما أمر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
قوله: وفحوى الخطاب ولحنه قاضيان بمنعهم عن مساواة المسلمين في مثل هذه الخصلة، وفيما هو أشد ضررا منها على المسلمين.
أقول: الشروع غير قاض بالمنع عن المساواة مطلقا، ألا تراه قد أجاز الشارع تساويهم في الحرف الدنية غير هذه، ولم يلزمنا منع المسلم عن الاحتراف بحرفة الكافر ولا العكس، فقياس أمور لم يمنعها الشرع، وجرى بها العرف على هذا الحديث بعيد، فلا نأمن أن نقع في الغلط، وقياس الأولى في هذه ممنوع لإطباق الأمة على جواز تسميد الأرض بالزبل، ولم ينقل عن أحد أنه أجبر اليهود على نقل ذلك.
وحشوش الشام وغيره يجتمع فيه المخرجان، فيصير كأنه طينة الخبال أشد مما رأيتم في اليمن، ولم يسمع أن أحدا من العلماء إلى الآن مع تطاول الزمان، وظهور العلم، وانتشار الأقوال، سير الكتب في الأقطار أن أحدا أجبر اليهود على إخراج طينة الخبال،
(1)(2/ 362) رقم (2607).
(2)
في "الدلائل" رقم (320).
(3)
في "الدلائل"(6/ 36 - 38).
(4)
في الميزان (3/ 651 رقم 7964).
(5)
في صحيحه رقم (2167) وقد تقدم
وعلى فرض أنه يقول بذلك قائل فليس بحجة علينا، وبعد انعقاد الإجماع لا ظهور لمخالف.
قال: الدليل الثامن: ثبت تواترا أن رسول صلى الله عليه وآله وسلم أخرج بني النضير (1) من ديارهم لما في ذلك لمصلحة للمسلمين، وقد قرن الله الخروج من الديار بقتل الأنفس، فإذا كانت مراعاة المصلحة مجوزة للإجبار لهم بمثل هذا الأمر العظيم، فكيف لا يجوز إجبارهم بما هو دونه بمراحل في إضرار المجبرين وفوقه بدرجات في الصلاح!
أقول: لا قياس: فإن قصة بني النضير في صدر الإسلام بعد قصة بدر التي عاتب الله فيها نبيه في الفدى: {ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض} (2) الآية فقتل بني قريظ، وإجلاء بني النضير عوضا عن القتل، وقد كتب الله عليهم ذلك فقال:{وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (3) يعني أن الله قد عزم على تطهير أرض المدينة منهم، وإراحة المسلمين من جوارهم وتوريثهم أموالهم، فلولا أنه قد كتب الجلاء، واقتضته حكمته، ودعاه إلى اختياره أنه أشق عليهم من الموت لعذبهم في الدنيا بالقتل كما فعل بإخوانهم بني قريظة، هذا كلام [14] جار الله (4) فهل كتب الله على هؤلاء اليهود إخراج المزابل، والتقاط الأزبال على لسان نبيه بصريح سنته أو كتابه؟ فالقياس على قضية بني النضير خطر عظيم إذ هم في تلك الحال محاربون، قد كتب الله عليهم الجلاء، ولا يقبل منهم إلا الإسلام، فإن فعلوا؛ نجوا.
(1) تقدم ذكره.
(2)
[الأنفال: 67].
(3)
[الحشر: 3 - 4].
(4)
أي الزمخشري في "الكشاف"(6/ 75).
وأما هؤلاء فقد عقدت لهم الذمة، وسلموا الجزية، فيكف يجوز أن نقيس المحاربين على المعاهدين في شيئين بينهما بون بعيد!.
قال: الدليل التاسع: حديث: "نزلوا الناس منازلهم"(1) وأدلة الكتاب والسنة والإجماع قاضية بأن منزلة المسلم أرفع من منزلة الكافر، فينبغي أن يعطى المسلم من المكاسب ما يليق بدرجته العلية، ويعطى الكفار ما يليق بمرتبته الدنية إلخ.
أقول: إن كان الأمر هنا للندب فالقصد منه الإرشاد، وإن كان المراد الوجوب فهو عام، وقد خصصته السنة بأحكام أهل الذمة، وتبيين منازلهم، وما سنه فيهم، ونحن نقول بموجب ذلك، ونقول: قد أقرهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومن بعده على أمور معروفة، وأخذوا منازلهم، فنحن حاذون حذوهم.
وقد يقال: إن من تعاطى الحرف الدنية من المسلمين فتلك منزلته، إذ لا يتعاطى ذلك إلا أراذل الناس وسفهاؤهم، وبالحكم الضروري والخبر النبوي أن في الناس رؤوسا وأذنابا فقد أعطي كل منزلته.
قال: الدليل العاشر: أخرج. . . (2) البخاري (3) ومسلم (4) والترمذي (5) والنسائي (6) عن أنس مرفوعا: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" إلخ الحديث.
ليس على ظاهره لأنه إما أن يراد: لا يؤمن الإيمان الكامل، وذلك لا يضر، إذ الإيمان الكامل عزيز، والإيمان يزيد وينقص ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم، وعن الحسن أن رجالا سأله أمؤمن أنت؟ قال: الإيمان إيمانان، فإن كنت تسأل عن الإيمان بالله وملائكته
(1) تقدم تخريجه.
(2)
كلمة غير مقروءة.
(3)
في صحيحه رقم (13).
(4)
في صحيحه رقم (45).
(5)
في السنن رقم (2515) وقال: هذا حديث صحيح.
(6)
في السنن رقم (8/ 114 - 115رقم5013).
وكتبه ورسله، واليوم الآخر، والجنة النار، والبعث والحساب، فأنا مؤمن، وإن كنت تسألني عن قوله تعالى:{إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا} (1) فوالله لا أدري أمنهم أنا أم لا (2) انتهى.
وإما أن يراد به لا يؤمن أي: لا يكون مسلما بل كافرا، فالقاضي لا يقول بذلك، وقد تكلموا في معنى الحديث فقال بعض: إن هذا من الصعب الممتنع، قال المناوي: ولم يفهم معنى الحديث، وفسره المناوي بأن المعنى المراد هو أن تحب له حصول مثل ذلك من جهة لا تزاحم فيها، وقال ابن حجر (3) قوله: لا يؤمن أي من يدعي الإيمان، والمراد بالنفي كمال الإيمان، ونفي اسم الشيء على معنى الكمال عنه مستفيض في كلامهم، كقولهم: فلان ليس بإنسان، فإن قيل: فيلزم أن يكون من حصلت له هذه الخصلة مؤمنا كاملا، وإن لم يأت ببقية الأركان [15] أجيب بأن هذا ورد مورد المبالغة أو استفاد من قوله لأخيه المسلم ملاحظة بقية صفات المسلم، وقد صرح ابن حبان (4) من رواية ابن عدي عن حسين المعلم بالمراد ولفظه: لا يبلغ عبد حقيقة الإيمان، ومعنى الحقيقة هنا الكمال ضرورة أن من لم يتصف بهذه الصفة لا يكون كافرًا، وبهذا يتم استدلال المصنف يعني: البخاري على أنه يتفاوت، وأن هذه الخصلة من شعب الإيمان، وهي داخلة في التواضع على ما سنقرره انتهى كلامه (5).
قال: في الدليل الحادي عشر: ولا شك أن امتناعهم من القيام بهذه العهدة التي هي رأس المصالح قادح في جواز التقرير قادح.
أقول: لا يجوز القدح فيما أمر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم، إذا عرفت أن النبي
(1)[الأنفال: 2].
(2)
ذكره الزمخشري في "الكشاف"(2/ 553).
(3)
في "الفتح"(1/ 57).
(4)
في صحيحه (رقم 235).
(5)
ابن حجر في "الفتح"(1/ 57).
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ عقد لهم الذمة على الجزية فقط حسب الكتاب الذي كتبه لحمير وما ورد في معناه حسبما نقلناه، وصححه الحاكم (1) وألحق الأئمة بالجزية كل على حسب ما أدى إليه اجتهاده، ولا يلزمنا اجتهاد مجتهد آخر، ولا يجوز لمجتهد أن يعمل بقول مجتهد آخر إلا عند تضييق لحادثة، أو يرتضيه بعد البحث، وقد عرفت ما قاله الفقيه (2) يوسف من أن إقرارهم بالجزية قد يكون لطفا لنا بالشكر على قهرهم، ولطفا لهم يكون باعثا لهم على الدين لأجل المخالطة انتهى.
قال: الدليل الثاني عشر: إن ملاحظة مصلحة المسلمين إذا لم تتم إلا بإتعاب النفوس إلى قوله فهي أولى بالجواز من حفر الخندق.
أقول: قد عرفت أن حفر الخندق (3) إنما كان للحاجة الماسة إلى ذلك من حفظ النفوس والدين معا لليوم الذي قال الله فيه: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} (4) فلا يشك عاقل أن حفظ النفس في تلك الحال مع قلة المسلمين، وكثرة الظالمين مقدم على حفظ الدين، فكيف يصح قياس ما فيه مصلحة لا تقطع برجحانها، إذ أن عزة الدين ثابتة وبدونها على ما يجب به حفظ النفس، فقد صار معنى كلامه أنه يجوز الإجبار أو يجوز على هذه المصلحة كما جاز حفر الخندق الذي وقع
(1) تقدم تخريجه، وانظر فتح الباري (6/ 258 - 260).
(2)
في الثمرات (مخطوط).
(3)
الذي حفر حول المدينة بأمر النبي صلى الله عليه وسلم وكان الذي أشار بذلك سلمان.
وكان ذلك في غزوة الأحزاب لاجتماع طوائف من المشركين على حرب المسلمين وهم قريش وغطفان واليهود ومن تبعهم، وكانت في شوال سنة خمس للهجرة.
"الفتح"(7/ 392 - 394).
(4)
[الأحزاب: 10 - 12].
لحفظ النفس والدين مع أنه لم يقع من النبي صلى الله عليه وآله وسلم إجبار على حفره، ثم إن ندب الناس لحفر الخندق لفائدة عائدة إليهم، فهم يقبلون إليه رهبة للعدو، ورغبة في الجنة، وأي فائدة لليهود من الإجبار على ذلك؟ هل الأجرة في التأجير من شأنه الرضى أم الفائدة لنا فيعملون بلا أجرة سخرية مكرهين، فهل من دليل؟
قال: الدليل الثالث عشر: [16]: قد تواترت أدلة الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وهما واجبان، فإذا لم يتم هذا الواجب إلا بإجبار اليهود فما لا يتم الواجب إلا به يجب كوجوبه.
أقول: قد قدمنا لك أن نقل الأزبال إلى الأموال لا فرق بينه وبين نقلها إلى الحمام، وأنه لم يمنع من ذلك شرع ولا عرف، وقد رددنا الاستنباطات التي سماها القاضي أدلة كما سمعت، وقال تعالى:{وأمر بالعرف} (1) قال السيوطي: قال ابن الغرس: المعنى اقض بكل ما عرفته النفوس مما لم يرده الشرع، وهذا أصل للقاعدة الفقهية في اعتبار العرف (2) وتحتها مسائل كثيرة لا تحصى انتهى.
فهذا الذي جعله القاضي - كثر الله من فوائده - منكر معروف حسب هذا التقرير.
قال: الدليل الرابع عشر: أن حفظ الدين أحد الضرورات (3) الخمس المعروفة في الأصول.
أقول: يستفسر ما أراد بالدين، فإن أراد بالدين الأركان التي بني الإسلام عليها، وأنه لا يتم حفظها إلا بمنع المسلمين عن التقاط الأزبال ممنوع، إذ هي تامة بدون ذلك. وإن أراد بالدين الدين الداخل فيه جميع شعب الإيمان، ومنها المندوب، والمسنون فقد أوجبنا عليه حفظ ما ليس بواجب.
(1)[الأعراف: 199]
(2)
انظر"الكوكب المنير"(4/ 448) ومجموع الفتاوى (9/ 16 - 17).
(3)
تقدم ذكرها.
ويعارض أيضًا بأن منع المسلم المحترف بتلك الحرفة يؤدي إلى عدم حفظه للدين، لاختلال حاله بالمنع عن تلك الحرفة، وافتقاره فيشرف، وكاد الفقير أن يكون كافرا، ولذا قرن النبي صلى الله عليه وآله وسلم الفقر بالكفر بالتعوذ منهما.
وقد نهى عن أجرة الحجامة (1) وأعطى الحجام أجره (2) فعرف أن النهي للكراهة لما فيها من الدناءة، فإن الحرف الدنية التي يباشر فيها النجاسة على القول بنجاسة الدم تطيب منها الأجرة، وإلا لما أعطاه الأجرة.
قوله: وأما تقريرهم على ذلك يستفسره من هم؟ هل المراد، تقرير المسلمين على التقاط الأزبال؟ أم تقرير اليهود على الإعفاء عنها؟.
قوله: فمناسب (3) ملغى.
المناسب الملغى ليس بملغى عند مالك، ويحيى بن يحيى الليثي عاقل الأندلس (4) وإن
(1) أخرج أحمد في "المسند"(5/ 435، 436) وأبو داود رقم (3422) والترمذي رقم (1277) وقال: حديث حسن صحيح. وابن ماجه رقم (2166) عن ابن مسعود: أنه كان له غلام حجام فزجره النبي صلى الله عليه وسلم عن كسبه فقال له: ألا أطعمه أيتامًا لي؟ قال: "لا" قال: أفلا أتصدق به، قال:"لا" فرخص له أن يعلفه ناضخه.
وأخرج أحمد في مسنده (2/ 299، 332، 347، 415، 500) بسند صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن كسب الحجام ومهر البغي وثمن الكلب".
(2)
أخرج البخاري في صحيحه رقم (2103) ومسلم في صحيحه رقم (62/ 1577) عن أنس قال: أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم حجمه أبو طيبة وأعطاه صاعين من طعام وكلم مواليه فخففوا عنه".
وأخرج مسلم رقم (1202) من حديث ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وأعطى الحجام أجره ولو كان سحتا لم يعطه".
والأولى الجمع بين الأحاديث بأن كسب الحجام مكروه غير حارم إرشادا منه صلى الله عليه وسلم إلى معالي الأمور.
(3)
تقدم ذكره.
وانظر: مختصر ابن الحاجب (2/ 242)"الكوكب المنير"(4/ 180).
(4)
أفتى به يحيى بن كثير الليثي صاحب الإمام مالك، إمام أهل الأندلس عبد الرحمن بن الحكم نظر إلى جارية له في رمضان نهارا فلم يملك نفسه أن واقعها، ثم ندم وطلب الفقهاء وسألهم عن توبته، فقال: يحيى بن يحيى: صم شهرين متتابعين. فسكت العلماء، فلما خرجوا قالوا ليحيى: ما لك لم تفته بمذهبنا عن مالك أنه مخير بين العتق والصوم والإطعام؟ قال: لو فتحنا له هذا الباب لسهل عليه أن يطأ كل يوم ويعتق رقبة فحملته على أصعب الأمور لئلا يعود.
انظر: الكوكب المنير (4/ 180) جمع الجوامع (2/ 284).
حكا الاتفاق ابن الحاجب (1) على إلغائه.
قوله: وأمر اليهود بعد تسليم فقد الأدلة مناسب مرسل ملائم ينظر من أي أقسام الملائم المرسل هو، هل مما علم اعتبار عينه في جنس الحكم أو جنسه في غير الحكم، أو جنسه في غير جنس الحكم؟ على أن ملائم (2) المرسل فيه الخلاف، وكذلك المرسل بأقسامه أيضا، على أن المناسبة تنخرم بلزوم مفسدة راجحة، أو مساوية، فلو قيل: إن المصلحة في التقاط المسلمين الأزبال مرجوحة، وفي إجبار اليهود على ذلك راجحة.
قلت: لو لم يلزم من ذلك نقض العهد بالزيادة على ما عوهدوا عليه.
قال: الدليل الخامس عشر: هب أنه لا دليل يدل على الحتم ففي حديث: "لأن يهدي الله بك رجل [17] "(3) دليل على جواز الإجبار بل على الندب.
أقول: لا يدل هذا الحديث على أكثر من الندب على ترغيب المسلم في ترك التقاط الأزبال، إذ الهداية إنما هي للمسلم، وهي تامة من دون إجبار اليهود على أن الذمي المؤدي للجزية المعاهد بعهد من النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليها، فقط الواقف عند الحد الذي نص عليه ولا وجه لإجباره على حمل العذرة، سيما والمفعول لأجله وهو الحمام أمر مباح يتوصل به إلى محظور، وهو خول النساء الحمام، وخضب الكفين والرجلين من الكهل والغلام، وقد عرفت أنه جاء في الحديث:"لعن الله داخلات الحمام" أخرجه الديلمي (4).
(1) تقدم ذكره.
(2)
تقدم ذكره، انظر:"إرشاد الفحول"(ص222)، "البحر المحيط"(5/ 215).
(3)
تقدم تخريجه وهو حديث صحيح.
(4)
لم أجده. ولكن قد وردت في الحمامات روايات غالبها الضعف وفيها ما هو في رتبة الحسن.
(منها): ما أخرجه أبو داود رقم (4009) والترمذي رقم (2802) وقال: إسناده ليس بالقائم وابن ماجه رقم (3749) وأحمد (6/ 179).
من حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن دخل الحمامات، ثم رخص للرجال أن يدخلوها في الميازر، وهو حديث ضعيف.
قال الألباني في "غاية المرام" رقم (191): وذلك لأن أبا عذرة هذا لا يعرف.
وقال ابن المديني: مجهول. كما في "الميزان" وقال الحفاظ في "التقريب" مجهول ووهم من قال: له صحبة، وذكر المنذري في "المختصر" (1/ 89) عن أبي بكر بن حازم أنه قال: لا يعرف هذا الحديث إلا من هذا الوجه، وأبو عذرة غير مشهور.
(ومنها): ما أخرجه أبو داود رقم (4011) وابن ماجه رقم (3748) عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنها ستفتح لكم أرض العجم، وستجدون فيها بيوتا يقال لها: الحمامات، فلا يدخلنها الرجال إلا بالأزر وامنعوها النساء إلا مريضة أو نفساء". وهو حديث ضعيف.
قال الألباني في "غاية المرام"(192) وهذا إسناد ضعيف، ابن رافع هو التنوخي المصري، قاضي أفريقية، ضعيف كما في "التقريب" ومثله الراوي عنه ابن أنعم الإفريقي قاضيها، قال الحافظ: ضعيف في حفظه.
(ومنها): ما أخرجه أبو داود رقم (4010) والترمذي رقم (2803) وقال: هذا حديث حسن، وابن ماجه رقم (3750) عن أبي المليح، قال: دخل نسوة من أهل الشام على عائشة رضي الله عنها فقالت: ممن أنتن؟ قلن: من أهل الشام، قالت: لعلكن من الكورة - المدينة والصقع - التي تدخل نساؤها الحمامات؟ قلن: نعم. قالت: أما إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من امرأة تخلع ثيابها في غير بيتها إلا هتكت ما بينها وبين الله تعالى". وهو حديث حسن.
(ومنها): وما أخرجه النسائي (1/ 198) والحاكم في "المستدرك"(4/ 288) وأحمد (3/ 339) من طريق أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدخل حليلته الحمام، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدخل الحمام إلا بمئزر ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجلس على مائدة يدار عليها خمر" قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، وأبو الزبير مدلس وقد عنعنه.
لكن تابعه طاووس، أخرجه الترمذي رقم (2801) من طريق ليث بن أبي سليم عنه به، وقال: حديث حسن غريب.
وقد حسنه الألباني في "غاية المرام" رقم (190).
والأكثر والغالب دخول النساء الحمام لغير ضرورة، ولا يخفى ما ينشأ عن دخول الحمام من الفتنة، وتمكن إبليس من نصب حبائل المحنة.
أما برزن من الحمام مائلة
…
أو راكهن صقيلات العراقيب
وأما الولدان المخلدون
…
فكم بهم من مفتون
لو شاهدت عيناك والحنا على
…
أعطافه ولجسمه لآلأ
لرأيت ما يسبيك منه بقامة
…
سال النظار بها وقام الماء
وقد قرأتم في الأزهار (1): ويحرم خضب غير الشيب، وأنه يجب عليكم وعلى مثلكم النكير في دخول النساء الحمام وما شاكلهن، ولقد حمدت الله تعالى على وجود مثلكم في هذا الزمان الأخير، ولعلكم تكونون عوضا عن البدر المنير.
ومما ينبغي التبين له هنا، وهو مقابل هذه الحروف الدنية التي دندنتم حولها تلقى الإفرنج في بندر المخا إلى سيف البحر بالأفراس المحلاة، كالمجللة المكرمة، وضرب الكؤوس والطبول إعلانا بذلك، والمشي بها بين يدي الإفرانجي، فهذه في رفعة الكفر كما ذكرتم في تلك من وضعية الإسلام، وإلى هنا انتهى سوط القلام، ولو بسطنا ما يشاء به ذلك، وفتحنا باب الإنكار لاتسعت المسالك.
اللهم اجعل أعمالنا خالصة لوجهك الكريم يا أرحم الراحمين.
على أنا بعد هذا كله نرغب إلى ترغيب اليهود وإنصافهم بالأجرة، ولا ينكر حسن ذلك، وقد عرفتهم أنه ينبغي إعلام الأجير بقدر الأجرة قبل الشروع في العمل، وأنه
(1)(3/ 284 - مع السيل الجرار).
يعطى الأجرة قبل أن يجف عرقه، ولا يخفى عليكم التشديد في مطل الأجرة، وإن رضا الأجير بالأجرة أمر لازم.
انتهى تحرير ذلك ليلة ثامن عشر من الحجة الحرام سنة 1205 وكان انتهى نقلها من السواد إلى البياض آخر يوم الأحد من خامس محرم الحرام عام سنة 1206 ستة واثنا عشرة مائة [18].