الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إقناع الباحث بدفع ما ظنه دليلا على جواز الوصية للوارث
تأليف محمد بن علي الشوكاني
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب
وصف المخطوط:
1 -
عنوان الرسالة من المخطوط: إقناع الباحث بدفع ما ظنه دليلا على جواز الوصية للوارث.
2 -
موضوع الرسالة: " فقه ".
3 -
أول الرسالة: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الأمين وآله الطاهرين.
فإنه وصل السؤال من سيدي العلامة المفضال.
4 -
آخر الرسالة: ذكر في الأم حرر في الثلث الأول من ليلة الاثنين لعله تاسع عشر شهر محرم الحرام سنة 1210 هـ وكان النقل يوم الخميس 12 شهر محرم سنة 1314 هـ.
5 -
نوع الخط: خط نسخي رديء.
6 -
عدد الصفحات: 9 صفحات.
7 -
عدد الأسطر في الصفحة: 24 سطرا.
8 -
عدد الكلمات في السطر: 10 كلمات.
9 -
الرسالة من المجلد الثاني من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الأمين وآله الطاهرين.
وبعد:
فإنه وصل السؤال من سيدي العلامة المفضال، بركة الآل إبراهيم بن محمد بن إسحاق (1) - لا برح في ألطاف المهيمن الخلاق - وحاصل السؤال:
ما يترجح لدى المسئول الحقير محمد بن علي الشوكاني - غفر الله لهما - في الوصية للوارث، وأرسل - حفظه الله - برسالة للسيد العلامة المجتهد محمد بن إسماعيل الأمير رحمه الله حرر فيها جواز الوصية للوارث، وأوضح رجوعه عن اجتهاده الأول، وهو جواز عدم الوصية للوارث، وسمى هذه الرسالة " إقناع الباحث بإقامة الأدلة بصحة الوصية للوارث "(2) فأمعنت النظر في جميع ما حرره وعول عليه في الجواز، فلم أقف في تلك الرسالة على شيء يوجب المصير إلى جواز الوصية للوارث، ولا عثرت فيها على دليل يسوغ الرجوع عن اجتهاده الأول (3) ولكنه قد فعل ما يجب عليه من العمل بما
(1) ابن المهدي أحمد بن الحسين بن الإمام القاسم بن محمد ولد سنة 1140 هـ ونشأ بصنعاء أخذ العلم عن والده وعن الشيخ العلامة علي بن إبراهيم بن علي بن إبراهيم بن أحمد بن عامر، له مكارم وفضائل وحسن أخلاق.
قال الشوكاني في " البدر الطالع " في ترجمته رقم (14): " وكم تصل إلى عندي منه رسائل ونصائح فيما يتعلق بشأن الدولة، ويأخذ علي أنه لا يحل السكوت، وكثيرا ما تفد علي منه سؤالات أجيب عنها برسائل كما يحكي ذلك مجموع رسائلي مع أنه نفع الله به إذ ذاك عالي السن قد قارب السبعين وأنا في نحو الثلاثين وهذا أعظم دليل على تواضعه، مات سنة 1241 هـ.
" نيل الوطر "(1/ 253). " البدر الطالع " رقم (14).
(2)
انظرها في المجموع " عون القدير من فتاوى ورسائل ابن الأمير " بتحقيقي رقم (130).
(3)
اجتهاده الأول وهو تحريم الوصية للوارث.
انظر: " منحة الغفار على حاشية ضوء النهار "(4/ 2464)، " سبل السلام "(5/ 284) بتحقيقي.
يترجح لديه، والرجوع إلى ما رجع إليه.
وهاأنا سأوضح ذلك معقبا لكل ما أورده، مما ظنه دليلا على محل النزاع، وسميت هذا البحث " إقناع الباحث بدفع ما ظنه دليلا على جواز الوصية للوارث ".
فأقول: أما ما عول عليه ابتداء من أن حديث: " لا وصية لوارث "(1) لما كان في
(1) حديث: " لا وصية لوارث " حديث صحيح وقد جاء عن جمع من الصحابة منهم: أبو أمامة عمرو بن خارجة، أنس بن مالك، عبد الله بن عباس، جابر بن عبد الله، علي بن أبي طالب، عبد الله بن عمرو بن العاص، عبد الله بن عمر، معقل بن يسار، زيد بن أرقم مع البراء بن عازب، ومجاهد مرسلا.
* أما حديث أبي أمامة:
فقد أخرجه أحمد في " المسند "(5/ 267) وأبو داود رقم (2870) والترمذي رقم (2120) وابن ماجه رقم (2713) والطيالسي (2/ 117 رقم 2407 - منحة المعبود) والدولابي في " الكنى "(1/ 64) والبيهقي في " السنن الكبرى "(6/ 264) كلهم من رواية إسماعيل بن عياش، عن شرحبيل بن مسلم عن أبي أمامة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته عام حجة الوداع: " إن الله تبارك وتعالى قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث
…
" الحديث.
قال الترمذي: هذا حديث حسن.
قلت: إسماعيل بن عياش صدوق في أهل بلده، وشيخه شرحبيل بن مسلم شامي.
وأورد الألباني في " الإرواء "(6/ 88) لهذا الحديث طريق أخرى عن سليم بن عامر وغيره عن أبي أمامة وقال صحيح على شرط مسلم.
وهذه الطريق أخرجها ابن الجارود في " المنتقى " رقم (949) ورجال إسناده ثقات.
* وأما حديث عمرو بن خارجة:
فقد أخرجه أحمد (4/ 186، 187) والترمذي رقم (1121) والنسائي (6/ 247) وابن ماجه رقم (2712) والطيالسي في " المسند " رقم (1217) والدارمي في " السنن "(2/ 419) والبيهقي في " السنن الكبرى "(6/ 264) كلهم من رواية شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن غنم، عن عمرو بن خارجة: أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب على ناقته وأنا تحت جرانها وإن لعابها يسيل بين كتفي فسمعته يقول: " إن الله عز وجل أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث
…
" الحديث.
وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
قال الألباني في " الإرواء "(6/ 89): قلت: لعل تصحيحه من أجل شواهده الكثيرة، وإلا فإن شهر بن حوشب ضعيف لسوء حفظه ".
* وأما حديث أنس بن مالك:
فقد أخرجه ابن ماجه رقم (2714) والدارقطني (4/ 70) والبيهقي (6/ 264 - 265) من طرق عن عبد الرحمن بن يزيد عن جابر بن سعيد بن أبي سعيد أنه حدثه عن أنس بن مالك قال: إني لتحت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم يسيل علي لعابها فسمعته يقول: " إن الله أعطى لكل ذي حق حقه ألا لا وصية لوارث ".
قال البوصيري في " مصباح الزجاجة "(8/ 368): هذا إسناد صحيح رجاله ثقات، رواه الدارقطني في سننه من طريق عبد الرحمن بن يزيد به ورواه البيهقي في " السنن الكبرى " من طريق الدارقطني فذكره .... "
وقال ابن التركماني في " الجوهر النقي "(6/ 265) هذا إسناد جيد. وفي التعليق الغني على الدارقطني قال صاحب " التنقيح ": " حديث أنس هذا ذكره ابن عساكر، وكذا الشيخ المزي في الأطراف في ترجمة سعيد المقبري وهو خطأ وإنما هو الساحلي، ولا يحتج به، هكذا رواه الوليد بن مزيد عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، عن سعيد بن أبي سعيد شيخ بالساحل، قال رجل من أهل المدينة فذكر الحديث " ا هـ.
والنظر: " إرواء الغليل "(6/ 90).
* وأما حديث عبد الله بن عباس:
فقد أخرجه الدارقطني في سننه (4/ 97) وأبو داود في " المراسيل " رقم (349) والبيهقي في " السنن الكبرى "(6/ 263) من طريق عن حجاج الأعور عن ابن جريج عن عطاء الخراساني عن ابن عباس مرفوعا: " لا وصية لوارث إلا أن يشاء الورثة ".
قال أبو داود في " المراسيل " عقب الحديث: عطاء الخراساني لم يدرك ابن عباس ولم يره.
وقال الحافظ في " التلخيص ": (3/ 92) ووصله يونس بن راشد فقال عن عكرمة، عن ابن عباس، أخرجه الدارقطني (4/ 98) والمعروف المرسل.
* وأما حديث جابر بن عبد الله:
فقد أخرجه الدارقطني في " السنن "(4/ 97) من طريق فضل بن سهل عن إسحاق بن إبراهيم الهروي عن سفيان عن عمرو بن دينار، عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" لا وصية لوارث ".
وأخرجه ابن عدي في " الكامل "(1/ 202) عن أحمد بن محمد بن صاعد عن أبي موسى الهروي عن ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن جابر به.
وقال الزيلعي في " نصب الراية "(4/ 404) وأعله بأحمد - بن محمد بن صاعد - هذا، وقال: هو أخو يحيى بن محمد بن صاعد، وأكبر منه وأقدم موتا وهو ضعيف.
قال الألباني في " الإرواء "(6/ 92): " قلت: قد تابعه فضل بن سهل عند الدارقطني، وهو ثقة محتج به، في الصحيحين فبرأه من ذمة أحمد بن صاعد. وبقية الرجال ثقات. ورجال الشيخين غير إسحاق بن إبراهيم أبي موسى الهروي وهو ثقة. قال الذهبي في " الميزان " (1/ 178) وثقه ابن معين وغيره
…
وأثنى عليه الإمام أحمد كما في " لسان الميزان "(1/ 345).
وانظر بقية الكلام على الحديث في " الإرواء "(6/ 92 - 93).
* وأما حديث علي بن أبي طالب:
فقد أخرجه الدارقطني في " السنن "(4/ 97) والبيهقي في " السنن الكبرى "(6/ 267) والخطيب في " الموضح "(2/ 167) وابن عدي (7/ 2648) عن يحيى بن أبي أنيسة الجزري عن أبي إسحاق الهمداني عن عاصم بن ضمرة عن علي بن أبي طالب مرفوعا: " الدين قبل الوصية، وليس لوارث وصية " بسند ضعيف جدا.
يحيى هذا قال عنه الإمام أحمد: متروك الحديث.
انظر: " بحر الدم "(456 رقم 1132) و" التقريب "(2/ 343) و" المغني في الضعفاء "(2/ 731) و" ميزان الاعتدال "(4/ 364).
وأخرج ابن عدي في " الكامل "(7/ 2511) من طريق ناصح بن عبد الله الكوفي عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي به.
وقال الزيلعي في " نصب الراية "(4/ 405): وأسند - ابن عدي - تضعيف ناصح هذا عن النسائي ومشاه هو وقال: إنه كان مما يكتب حديثه ".
قلت: لكن الحارث الأعور ضعيف. انظر: " الإرواء "(6/ 94).
* وأما حديث عبد الله بن عمرو بن العاص:
فقد أخرجه ابن عدي في " الكامل "(2/ 817) من طريق حبيب المعلم مرفوعًا بلفظ: " لا تجوز وصية لوارث والولد للفراش وللعاهر الحجر ".
وأخرجه الدارقطني في السنن (4/ 98 رقم 93) من طريق حبيب بن الشهيد مرفوعًا بلفظ: " لا وصية لوارث إلا أن يجيز الورثة ". كلاهما عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.
أما طريق ابن عدي فهو حسن الإسناد، كما حققه الذهبي في " الميزان "(3/ 263 - 268).
أما طريق الدارقطني ففيه سهل بن عمار، كذبه الحاكم كما في " الميزان "(2/ 240).
وقال الحافظ في " التلخيص "(3/ 92) إسناده واه.
* وأما حديث عبد الله بن عمر:
فقد أخرجه ابن أبي شيبة في " المصنف "(7/ 281) من طريق ملازم بن عمرو عن عبد الله بن بدر عن ابن عمر موقوفا: " لا تجوز الوصية للوارث ". وسنده حسن.
* وأما حديث معقل بن يسار:
فقد أخرجه ابن عدي في " الكامل "(5/ 1853) في ترجمة علي بن الحسن بن يعمر السامي بلفظ: " لا وصية لوارث ".
وقال ابن عدي عقب الحديث: " وهذا الحديث باطل بهذا الإسناد ".
* وأما حديث زيد بن أرقم والبراء:
فقد أخرجه ابن عدي في " الكامل "(6/ 2349) في ترجمة موسى بن عثمان الحضرمي بلفظ: " ليس لوارث وصية ". وسنده ضعيف جدا.
* وأما مرسل مجاهد:
فقد أخرجه البيهقي في " السنن الكبرى "(6/ 264) بسند صحيح.
والخلاصة أن الحديث صحيح بل متواتر.
انظر: " نظم المتناثر من الحديث المتواتر " للكتاني (ص 108 - 109).
أوله أن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، كان قوله عقب ذلك: فلا وصية لوارث، مفيدا لنفي الوجوب، لا لنفي الندب، فيكون معناه أن الله قد أعطى كل ذي حق حقه الذي يستحقه في علم الله، فلا تجب وصية لوارث.
وأقول: هذا الذي جعله دليلا على نفي الوجوب دون الندب لا دلالة فيه على ذلك،
لا بمطابقة، وتضمن، ولا التزام؛ فإنه كما تسبب عن إعطاء كل ذي حق حقه عدم وجوب الوصية لمن قد أعطي حقه بحكم الله، كذلك يتسبب عدم بذلها؛ لأن من قد استولى عليه بحكم الله تعالى هو بحق له بحكم الله تعالى، وقد تقرر في كليات هذه الشريعة المطهرة أن المجاورة لحكم الله تعالى غير جائزة إلا بدليل على الجواز، فأول الحديث وآخره [1ب] يستفاد من مجموعهما عدم الجواز، فضلا عن عدم الندب، ولا يخفاك أن تجويز الوصية للوارث، بل دعوى ندبها بمثل هذا مدفوع.
هذا مع قطع النظر عما يستفاد من عموم قوله: " لا وصية لوارث "؛ فإنه نكرة في سياق النفي (1)، وهو من صيغ العموم (2) بلا خلاف بين محققي الأصول والبيان، وهذا العموم كما ينفي وجوب الوصية للوارث ينفي ندبها، بل ينفي جوازها، لأن المقدار إن كان عاما نحو: لا تجوز وصية لوارث، أو لا تحل، أو لا تشرع، أو لا تثبت كان هذا المقدر العام، والمعلق الشامل، والمقتضي المستغرق موافقا لما دل عليه الكلام من العموم المتفق عليه، وليس هذا من باب عموم المقتضي، بل من باب تقدير المعلق العام المطابق لأصل الكلام.
وأما لو قدر خاصا نحو: لا ندب، أو لا وجوب فهذا المقتضي الخاص مفتقر إلى دليل يدل عليه، ولا تقبل دعوى من يدعيه إلا ببرهان، ولا برهان هنا إلا ما زعمه من دلالة السياق والاقتران، وهو كما عرفت يدلان على خلاف ما زعمه دلالة بينة، ولما كان ما ذكرناه في غاية الظهور، ونهاية الجلاء بادر رحمه الله إلى تسليمه بعد كلامه السابق فقال: فصل: إن قلب قوله صلى الله عليه وآله وسلم: " لا وصية لوارث " هو من ألفاظ العموم
…
إلى آخر كلامه في هذا الفصل، ثم لم يدفعه إلا بأن قال: قلب
(1) نعم النكرة في سياق النفي والنهي تفيد العموم.
" إرشاد الفحول "(ص 409 - 410)، " اللمع "(ص 15).
(2)
انظر " البحر المحيط "(3/ 110 - 111). " نهاية السول "(2/ 80).
سبب حديث: " لا وصية لوارث " هو نفي الإيجاب الذي كان ثابتا كما قررناه. فانظر كيف عاد إلى تلك الدعوى المجردة بعد أن سلم عدم دلالة هذا الحديث على ما ذهب إليه، بل سلم دلالته على دفع ما ذهب إليه وشموله لمحل النزاع، أعني: وصية صح التبرع.
وأما استدلاله على ما ذهب إليه بقوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} (1) فلا يخفاك أن الوصية تشمل الوصية، والوصية لغير الوارث، وهذا لا ينكره أحد، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم:" لا وصية لوارث " أخص مطلقا من قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} ، فيبنى العام على الخاص (2) ويكون ما في الآية الكريمة في قوة: من بعد وصية يوصي بها لغير الوارث أو دين، كما هو مقتضى بناء العام على الخاص، وهو متفق [2أ](3) عليه بين أهل الأصول في الجملة، وإن اختلفوا في تفاصيله وشروطه فذلك لا يقدح في اتفاقهم على وجوب البناء، والحديث هو متلقى بالقبول، فيخصص به عموم القرآن عند الجمهور، بل عند كل من يعتد بقوله من أئمة الأصول (4).
(1)[النساء: 11].
(2)
في حاشية المخطوط ما نصه: ولعل التعميم استفيد من توصيف الوصية بقوله: (يوصي بها) على نحو ما قبل في قوله تعالى: (ولا طائر يطير بجناحه) أن التوصيف (بـ) يطير بجناحيه إفادة التعميم. والله أعلم.
(3)
انظر " البحر المحيط "(3/ 405)، " تيسير التحرير "(1/ 361).
(4)
قال الزركشي في " البحر المحيط "(3/ 362): يجوز تخصيص الكتاب العزيز بخبر الواحد فذهب الجمهور إلى جوازه مطلقًا.
وذهب بعض الحنابلة إلى المنع مطلقًا.
* قال الشوكاني بعد ذكره أدلة المانعين
…
قال ابن السَّمعاني: إن محل الخلاف في أخبار الآحاد لم تجمع الأمة على العمل بها أما ما أجمعوا عليه كقوله: " لا ميراث لقاتل " و" لا وصية لوارث " فيجوز تخصيص العموم به قطعًا، ويصير ذلك كالتخصيص بالمتواتر لانعقاد الإجماع على حكمها، ولا يضر عدم انعقاده على روايتها.
انظر: " إرشاد الفحول "(ص 524).
وأما استدلاله بحديث أبي هريرة عند ابن ماجه بلفظ: " إن الله قد تصدق عليكم بثلث أموالكم عند وفاتكم زيادة في حسناتكم "(1) فهذا لا نزاع فيه في الجملة، لكن محل النزاع الوصية للوارث، فهذا الحديث إذا تناولها بنوع من أنواع الدلالة فقد تناول
(1) أخرجه الدارقطني (4/ 150 رقم 3). والطبراني في " الكبير "(20/ 54 رقم 94) وأورده الهيثمي في " المجمع "(4/ 212) وقال: " وفيه عتبة بن حميد الضبي وثقه ابن حبان وغيره وضعفه أحمد ".
وقال الحافظ في " التقريب "(2/ 4 رقم 13) صدوق له أوهام.
وهو حديث حسن بشواهده التي منها:
* ما أخرجه أحمد في " المسند "(6/ 440 - 441) والبزار في مسنده (2/ 139 رقم 1382 - كشف) والطبراني في " الكبير " كما في " مجمع الزوائد "(4/ 212) وأبو نعيم في " الحلية "(6/ 104) وقال الهيثمي: " وفيه أبو بكر بن أبي مريم وقد اختلط ".
وقال البزار: " وقد روي هذا الحديث من غير وجه، وأعلى من رواه أبو الدرداء ولا نعلم عن أبي الدرداء طريقًا غيره، وأبو بكر بن أبي مريم وضمرة معروفان وقد احتمل حديثهما ".
* ما أخرجه ابن ماجه رقم (2709) والبيهقي (6/ 269) والخطيب في " تاريخ بغداد " والبزار في " مسنده " كما في " نصب الراية "(4/ 400) و" تلخيص الحبير "(3/ 91 رقم 1363) وفي " سنده " طلحة بن عمرو " متروك كما في " التقريب " (1/ 379 رقم 37) وقال البوصيري في " مصباح الزجاجة " (2/ 98 رقم 962): " هذا إسناد ضعيف .. " وضعفه الألباني في " الإرواء " (6/ 77).
من شواهده:
1 -
حديث أبي بكر الصديق أخرجه العقيلي في " الضعفاء "(1/ 275) وابن عدي في " الكامل "(2/ 794) وفيه حفص بن عمر بن ميمون: متروك.
قال العقيلي: " وحفص بن عمر هذا يحدث عن شعبة ومسعر ومالك بن مغول والأئمة بالبواطيل ".
وقال ابن عدي: " وحفص هذا عامة حديثه غير محفوظ وأخاف أن يكون ضعيفًا كما ذكره النسائي ".
2 -
حديث خالد بن عبيد السلمي. أخرجه الطبراني في " الكبير " رقم (4129) قال الهيثمي في " المجمع "(4/ 212) إسناده حسن وليس كما قال.
والخلاصة أن الحديث حسن بشواهده.
الوصية لغير الوارث، كما تناول الوصية للوارث، فخرجت عنه الوصية للوارث بالحديث الآخر، وهو أرجح منه سندا ومتنا، على أنه يبعد أن يقال: أن الوصية للوارث ليست مما يوجب الزيادة في الحسنات، لأنها ممنوعة بنص الشارع، لما فيها من المجاوزة لحدود الله، والتعدي لفرائضه، والمخالفة لما شرعه الله، فتعليله صلى الله عليه وآله وسلم لقوله:" إن الله قد تصدق عليكم بثلث أموالكم " فقوله: " زيادة في حسناتكم " تفيد اختصاص هذه الصدقة لما فيه زيادة في الحسنات، ولا زيادة قد نفاها الشارع، وقال:" لا وصية لوارث " بهذه الصيغة الشاملة المحيطة، فهذا الحديث يرد دعوى من يدعي أن فيها زيادة في الحسنات، ولو فرضنا عدم دليل يدل على أنه لا زيادة فيها في الحسنات لكان دعوى أن فيها زيادة في الحسنات مصادرة على المطلوب، وهي باطلة.
ولا شك أن البدر رحمه الله لو تنبه لهذا لقابله بالقبول، فكيف يصح التعويل على هذا الحديث! وقد عارضه ما هو أحق منه مطلقا! على فرض دلالته على مخل النزاع، وتناوله له؛ فكيف إذا كان قد علل بعلة تفيد أنه لا يتناوله، ومن جملة ما استدل به رحمه الله تقرير النبي صلى الله عليه وآله وسلم لسعد بن أبي وقاص لما قال أتصدق بكذا من مالي (1).
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (1295) ومسلم رقم (5/ 1628) وأبو داود رقم (2864) والترمذي رقم (2116) والنسائي (6/ 241 - 242) وابن ماجه رقم (2708) وأحمد (1/ 179) والطيالسي (1/ 282 رقم 1433 - منحة المعبود) ومالك (2/ 763 رقم 4) والدارمي (2/ 407).
قال القرطبي في "المفهم"(4/ 540 - 541)"اعلم أن الوصية في أول الإسلام كانت واجبة للوالدين والأقربين قبل نزول المواريث، كما قال تعالى: {كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين} [البقرة: 180] ".
وهي بمجموع قرائنها نص في وجوب الوصية لمن ذكر فيها، ثم إنها بعد ذلك نسخت، واختلف في ناسخها.
فقيل: آية المواريث. وفيه إشكال، إذ لا تعارض بين أن يجمع بينهما، فيكون للقرابة أخذ المال بالوصية عن المورث وبالميراث إن لم يوص. أو ما بقي بعد الوصية. لكن هذا قد منع الإجماع منه. وهو خلاف نص قوله صلى الله عليه وسلم:" إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، ألا لا وصية لوارث " فإذًا: آية المواريث لم تستقل بنسخ آية الوصية، بل بضميمة أخرى، وهي السنة المذكورة، ولذلك قال بعض علمائنا: إن نسخ الوصية للقرابة إنما كان بالسنة المذكورة، غير أنه يرد عليه: أن هذا نسخ القرآن بخبر الواحد.
ويجاب عنه: إن ذلك قد كان معمولاً به في الصحابة، كما قد حكاه الأصوليون في كتبهم. ولو سلمنا: أن ذلك لا يجوز، فلم يكن ذلك الخبر آحادًا بل كان متواترًا، فإن النبي صلى الله عليه وسلم ألقاه على أهل عرفة يوم عرفة وأخبرهم بنسخ ذلك بسنته وأهل عرفة عدد كثير، وجم غفير، لا يحيط بهم بلد، ولا يحصرهم عدد، فقد كان متواتر فنسخ المقطوع بالمقطوع. ونحن وإن كان هذا الخبر قد بلغنا آحادًا لكن قد انضم إليه إجماع المسلمين: أنه لا تجوز الوصية لوارث، فقد ظهر: أن وجوب الوصية للأقربين منسوخ بالسنة، وأنها مستند المجمعين غير أنه قد ذهب طائفة وهم: الحسن، وقتادة، والضحاك وطاووس: إلى أن وجوب الوصية ليس منسوخًا في حق جميع القرابة، بل في حق الوارثين خاصة، واختاره الطبري.
قلت: أي- القرطبي- وعلى هذا: فلا يكون هذا نسخًا عند هؤلاء، بل: تخصيصًا لعموم قوله تعالى: {والأقربين} بقوله صلى الله عليه وسلم: " لا وصية لوارث "، وهذا لا يحتاج فيه أن يكون قوله:" لا وصية لوارث " متواترًا، لأنه يجوز تخصيص القرآن بالسنة غير المتواترة اتفاقًا من الأكثر وهو الصحيح على ما ذكرناه في الأصول.
قال [2ب]: والصدقة مندوبة قطعا
…
إلى آخر كلامه.
ودلالة هذا الدليل على محل النزاع مدفوعة من وجهين:
الأول: أنه في الصدقة لا في الوصية التي هي محل النزاع.
الثاني: أن الصدقة تتناول الصدقة على الوارث، وعلى غير الوارث، وحديث:" لا وصية لوارث " قد أخرج الصدقة على الوارث، على فرض أنه يصدق على الوصية أنها صدقة.
ومن جملة ما استدل به رحمه الله ما ورد في حديث: " لا وصية لوارث " من زيادة: " إلا أن يشاء ..................................
الورثة " (1) معللا دلالة ذلك على محل النزاع بأن الاستثناء منقطع.
ولا يخفاك أن هذا الاستثناء يؤكد دلالة هذا الحديث على عدم جواز الوصية لوارث ويؤيدها، لأنه قد أفاد عدم نفوذ الوصية للوارث إلا بمشيئة الورثة، فأفاد ذلك عدم نفوذها بعد المشيئة.
وأما دعواه رحمه الله بأنه إخراج من الإيجاب أي: لا تجب الوصية للوارث إلا أن يشاء الورثة، فهذا لا دلالة للاستثناء عليه، سواء كان الاستثناء متصلا (2)، أو منقطعا كما لا يخفى.
هذا خلاصة ما عول عليه رحمه الله في تلك الرسالة، ولا يخفاك أنه لا يدل على مقصوده لا بمطابقة، ولا تضمن، ولا التزام، بل كان كل ما أورده فهو دليل عليه لا له كما عرفت مما أسلفنا، واعلم أنه رحمه الله قد أورد في رسالته هذه قوله صلى الله عليه وآله وسلم لأبي طلحة لما قاله له: إن أنفس أموالي إلي بريحاء، فضعها يا رسول الله حيث شئت، فقال:" تصدق بها على ذوي قرابتك "(3) وهذا أجنبي عن محل النزاع، لأنه في الصدقة في حال الحياة والصحة، ومحل النزاع في الوصية المضافة إلى بعد الموت، فإن الله قد أعطى كل ذي حق حقه بالموت فلا وصية لوارث.
وأما حال الصحة والحياة بالصدقة على [3أ] الأقارب فهذا من باب الصلة للأرحام التي ورد الترغيب فيها كتابا (4) ...................
(1) أخرجه الدارقطني (4/ 52 رقم 9، 11) بلفظ: "لا تجوز الوصية لوارث إلا أن يشاء الورثة" وبلفظ: "لا يجوز لوارث الوصية إلا أن يشاء الورثة". وهو حديث حسن.
(2)
انظر شروط صحة الاستثناء في "إرشاد الفحول"(ص 493 - 496)، "المحصول"(3/ 27 - 28)، "المسودة"(ص 153).
(3)
أخرجه البخاري في "صحيحه" رقم (1461، 2752، 2758، 2769، 4554، 4555، 5318، 5611)، ومسلم رقم (998).
(4)
منها قوله تعالى: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} [آل عمران: 92].
وسنة (1)، وهي خارجة عن محل النزاع خروجا لا يخفى.
ومن جملة ما تعرض لذكره رحمه الله في هذه الرسالة حديث التسوية بين الأولاد وهو حديث متواتر، وفيه التصريح بأن المخالفة للتسوية جور، والجور حرام، وهو أعم من أن يكون المخالفة بالعطية في حال الصحة كالنحلة، والصدقة، أو بالوصية المضافة إلى بعد الموت، والسبب وإن كان خاصا، وهو نحلة يشير والد النعمان لولده (2)، فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب (3)، والأمر لكل أحد بالتسوية بين الأولاد
(1) منها ما أخرجه البخاري رقم (1410) ومسلم رقم (1014) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب- ولا يقبل الله إلا الطيب- فإن الله يتقبلها بيمينه، ثم يربيها لصاحبها كما يربي حدكم فلوه حتى يكون مثل الجبل".
ومنها: ما أخرجه البخاري رقم (55) ومسلم رقم (1002) وأحمد (4/ 120) والنسائي (5/ 69) من حديث أبي مسعود البدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إن المسلم إذا أنفق على أهله نفقة وهو يحتسبها كانت له صدقة".
ومنها: ما أخرجه البخاري رقم (1466) ومسلم رقم (1000) وأحمد (3/ 502) من حديث زينب امرأة عبد الله وفيه "
…
لهما أجران أجر القرابة وأجر الصدقة" وقد تقدم.
ومنها: ما أخرجه البخاري رقم (2592) ومسلم رقم (44/ 999) وأحمد (6/ 332). من حديث ميمونة بنت الحارث أنها أعتقت وليدة في زمان رسول صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك".
(2)
أخرجه البخاري في "صحيحه" رقم (2586) ومسلم رقم (1623) ومالك رقم (39) وأحمد (4/ 268) وأبو داود رقم (3542) والترمذي رقم (1367) والنسائي رقم (258، 259) وابن ماجه رقم (2375) والطحاوي (4/ 5 - 86) وابن حبان رقم (5098، 5099) والبيهقي (6/ 176 - 177).
وقد تقدم تخريجه ومناقشة معناه ودلالته.
انظر الرسالة رقم (134)(ص 4174).
(3)
أي ورود العام على سبب خاص، وقد أطلق جماعة من أهل الأصول أن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب وحكوا ذلك إجماعًا.
"البحر المحيط"(3/ 195). وفيه تفصيل انظر: "إرشاد الفحول"(ص 454 - 455).
يتناول الوصية المضافة إلى بعد الموت، كما يتناوله العطية في حال الدنيا، وهو من أعظم الأدلة الدالة على عدم جواز تخصيص بعض الأولاد بعطية، أو وصية دون بعض (1).
وقد صرح فيه صلى الله عليه وآله وسلم بأن ذلك جور، وامتنع من أي يشهد على نحلة بشير والد النعمان، فكانت الوصية المشتملة على تخصيص بعض الورثة دون بعض حراما بهذا الحديث، فأفاد ذلك بطلان ما زعمه البدر رحمه الله من أن معنى قوله صلى الله عليه وآله وسلم:" لا وصية لوارث "(2) لا تجب وصية لوارث، فإن من جعله لبعض أولاده قسطا من ماله بالوصية دون بعض لم يسوِّ بينهم، ومن لم يسو بينهم فقد جار، ففعله جور، وكل جور حرام، ففعله حرام.
فتقرر بهذا الدليل المتواتر تفضيل بعض الورثة على بعض، بوصية أو عطية لا يجوز، ولا يحل، فهو يرد على البدر رحمه الله ردا واضحا إن أراد أن الوصية للوارث جائزة، سواء كانت متضمنة المخالفة للتسوية أم لا، وإن خص الجواز بما لا مخالفة للتسوية فيه فقد قرب المسافة، وقلل الخلاف، وعاد آخرا إلى ما رجحه أولا من عدم جواز الوصية [3ب] للوارث عودا لطيفا، وبيانه أن الوصية للأولاد مثلا على وجه التسوية الموافقة لفرائض الله سبحانه؛ إذ هي المعتبرة في التسوية، ولا اعتبار بغيرها؛ لأنها ليست من باب الوصية للوارث، بل من باب قسمة التركة بينهم على فرائض الله، أو قسمة بعضها كذلك باسم الوصية، وذلك لا يوجب خلافا، ولا يقتضي نزاعا، لأنه يصدق على وصية التسوية التي هي في الحقيقة قسمة أنها موافقة لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم:" إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، ولا وصية لوارث "(3).
فإذا قال الرجل في وصيته: أنه أوصى بالدار، أو بالأرض، أو بنوع من أنواع تركته أن يقسم بين أولاده على فرائض الله سبحانه، ولا وارث له غير أولئك الأولاد، فما فعل
(1) تقدم في الرسالة رقم (134).
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
تقدم تخريجه.
إلا ما هو حكم الله تعالى من إعطاء كل ذي حق حقه، ووصيته هذه مؤكدة لوصية الله تعالى المذكورة في محكم كتابه بقوله تعالى:{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} (1)، فهو كمن أوصى ورثته بأن يقتسموا ما خلفه لهم على ما فرضه الله تعالى.
فإن قلت: قد يحصل له الثواب بهذه الوصية، أعني: التسوية على فرائض الله، فيصدق عليها اسم الوصية للوارث، ويحصل بها فائدة للموصي.
قلت: الثواب الذي حصل له هو بالإرشاد إلى ما أرشد الله إليه، وامتثال ما أمر الله بامتثاله من أعطى كل ذي حق حقه، ولا يشك أن الأمر بامتثال أوامر الله وفرائضه قربة وليست القربة والثواب بتصيير ذلك المال بين ورثته على فرائض الله؛ فإن ذلك هو أمر الله وحكمه وشرعه، وهو كائن كذلك سواء أوصى أو لم يوص ...... (2) من أمر أولاده بإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وسائر الطاعات، فإنه يثاب على ذلك الأمر، ولا يثاب على نفس صلاتهم وزكاتهم ونحوهما، لأن تلك الفرائض افترضها الله عليهم، وأمرهم بتأديتها، فاستحقوا الأجر بفعلها.
فإن قلت: سلمنا دلالة الأحاديث التسوية المتواترة على التسوية بين الأولاد، فهو لا يدل على التسوية بينهم وبين غيرهم من الورثة إذا كان معهم من الورثة غير أولاد، ولا يدل على التسوية بين الورثة أنفسهم إذا كانوا غير أولاد.
قلت: [4أ] هذا إذا لم يفده هذا الدليل بالقياس بلحن الخطاب فقد أفاده حديث: " لا وصية لوارث "، وقد قدمنا تقريره على وجه يظهر به غاية الظهور، ويتبين به أكمل بيان، وإنما تعرضنا لأحاديث التسوية لما تعرض لها البدر رحمه الله فأوضحنا أنها عليه لا له.
واعلم أنها قد اتفقت كلمة أهل العلم على أن الذي كان في أول الإسلام هو الوصية
(1)[النساء: 11].
(2)
كلمات غير واضحة في المخطوط.
كما قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} (1)، وأن ذلك نسخ بآيات المواريث، وهي قوله:{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} إلى آخر الآيات، وإن كانت كلمة أهل العلم متفقة على النسخ، فمعنى النسخ لغة (2): الإزالة والإبطال والتغيير، قال في القاموس (3): نسخه كمنعه أزاله وغيره وأبطله، وأقام شيئا مقامه، انتهى. فمعنى نسخ الوصية للوارث إزالتها وتغييرها وإبطالها في إقامة المواريث مقامها (4)، ولو كانت جائزة بعد نسخها لم يكن كذلك، بل يكون الجمع بينها وبين آيات المواريث التي هي الناسخة جائزا، فلا إزالة، ولا تغيير، ولا إبطال، ولا إقامة للناسخ مقام المنسوخ.
نعم. لو ربط القائلون بهذه المقالة ما يدعونه بدليل كان ذلك مقبولا على حد قبول الدليل، وأما الدعاوى المجردة لا سيما إذا كانت مخالفة لما هو الأصل، والحقيقة الشرعية (5)، واللغوية (6)، ........................................
(1)[البقرة: 180].
(2)
"مقاييس اللغة"(5/ 424 - 425).
(3)
(ص 334)
(4)
قال ابن كثير في تفسيره (1/ 492): اشتملت هذه الآية الكريمة على الأمر بالوصية للوالدين والأقربين، وقد كان ذلك واجبًا- على أصح القولين- قبل نزول آية المواريث، فلما نزلت آية الفرائض نسخت هذه وصارت المواريث المقدرة فريضة من الله، يأخذها أهلوها حتمًا من غير وصية ولا تحمل منة الموصي. ولهذا جاء الحديث:"إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث".
وانظر: "الناسخ والمنسوخ" لأبي جعفر النحاس (1/ 482 - 486).
وقال الشافعي في "الرسالة"(ص 139): "وجدنا أهل الفتيا ومن حفظنا عنه من أهل العلم بالمغازي، من قريش وغيرهم لا يختلفون في أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عام الفتح: "لا وصية لوارث، ولا يقتل مؤمن بكافر" ويأثرونه عمن حفظوا عنه ممن لقوا من أهل العلم بالمغازي، فكان هذا نقل عامة عن عامة وكان أقوى في بعض الأمر من نقل واحد عن واحد وكذلك وجدنا أهل العلم عليه مجتمعين".
(5)
تقدم توضيحها مرارًا
(6)
تقدم توضيحها مرارًا
والعرفية فليست مما يثبت بمثله الأحكام الشرعية، فإن تقييد النسخ بكونه مجرد الوجوب قد استلزم مع كونه خلاف الأصل، والحقيقة دعوى تقييد قوله صلى الله عليه وآله وسلم:" لا وصية لوارث " تقيد لم يتكلم به صلى الله عليه وآله وسلم، ولا دل عليه كلامه بوجوبه من وجوه الدلالة، لا مطابقة، ولا تضمنا، ولا التزاما.
وإذا لم يكن على هذا دليل لزم القائل بأن النسخ لوجوب الوصية للوارث لا لغير الوجوب أن يقول هذه المقالة في كل ناسخ ومنسوخ، فيقول مثلا: إن النسخ للتوجه إلى بيت المقدس إنما هو نسخ للوجوب (1)، فيبقى جواز استقباله أو ندبيته، وهذا يستلزم صحة صلاة من توجه إليه، وهو خرق للإجماع، ومخالفة للعموم من الدين ضرورة.
فإن قال: إنه قال ذلك في الوصية للوارث لما فهمه من قوله: " إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث "(2) فما باله لا يفهم مثل هذا في استقبال بيت المقدس، فإن الله قد فرض على [4ب] كل مسلم استقبال الكعبة، فلا استقبال لبيت المقدس، دوران هذا دوران ذلك، وهكذا يلزمه أن يحمل كل نسخ على الوجوب، إلا ما وقع التصريح فيه بزيادة على ما صرح به قوله صلى الله عليه وآله وسلم:" لا وصية لوارث ".
فإن قال: أنا أخص ذلك بالوصية للوارث.
فنقول له: ما الدليل على ذلك؟ وما بال هذا الموضع كان قابلا لهذا منك دون غيره.
فإن قال: قد ورد له نظير، وهو صوم يوم عاشوراء، فإن صومه مشروع مع كونه منسوخا بوجوب صوم ..........................
(1) انظر "الناسخ والمنسوخ" لأبي جعفر النحاس (1/ 454 - 460) و"فتح الباري"(1/ 95). "زاد المسير""1/ 135".
(2)
تقدم تخريجه.
رمضان (1).
قلت: هذا خصه الدليل، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يرغب في صومه (2) بعد نسخه، فمتى سمعت أنه صلى الله عليه وآله وسلم يرغب في الوصية للوارث بعد نسخها؟ على أن بين الموضعين فرقا، فإن الجمع بين الناسخ والمنسوخ في الوصية للوارث يستلزم الإضرار بغير من وقعت له الوصية من الورثة، وتقليل نصيبه المفروض له، ودفعه عن بعض ما أوجب له، وهذا قد ورد منعه في الشريعة المطهرة بمثل قوله تعالى:{مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ} (3)، وبقوله:
(1) روي عن ابن عباس رضي الله عنهما: "أن النبي صلى الله عليه وسلم صام عاشوراء وأمر بصيامه".
أخرجه البخاري رقم (2004) ومسلم رقم (128/ 1130) وأبو داود رقم (2444) وابن ماجه رقم (1734).
وروت عائشة رضي الله عنها قالت: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة صام عاشوراء وأمر صيامه فلما نزلت فريضة رمضان ترك يوم عاشوراء فمن شاء صامه ومن شاء أفطره.
وهو حديث صحيح. أخرجه البخاري رقم (1592 وأطرافه رقم 1893، 2001، 2002، 3831، 4502، 4504) ومسلم (2/ 792 رقم 113، 114، 115، 116/ 1125).
ومالك في "الموطأ"(1/ 299 رقم 33) وأبو داود رقم (2442) والترمذي رقم (753).
انظر: "الاعتبار" للحازمي (ص 340. "المجموع" للنووي (6/ 382 - 384).
(2)
منها ما أخرجه مسلم في "صحيحه" رقم (197/ 1162) وابن ماجه رقم (1738) من حديث أبي قتادة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن صيام يوم عاشوراء فقال: "يكفر السنة الماضية".
ومنها ما أخرجه مسلم رقم (1132) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما سئل عن صيام يوم عاشوراء فقال: "ما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صام يومًا يطلب فضله على الأيام إلا هذا اليوم، ولا شهرًا إلا هذا الشهر، يعني رمضان".
وأخرجه البخاري في صحيحه رقم (2006) عن ابن عباس قال: ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتحرى صيام يوم فضله على غيره إلا هذا اليوم يوم عاشوراء وهذا الشهر يعني شهر رمضان.
(3)
[النساء: 12].
{فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} (1). قد بينها المفسرون كالزمخشري (2) وغيره (3) بما يفيد ما ذكرناه، ورد عنه صلى الله عليه وآله وسلم في وصية الضرار أنها محبطة للأعمال، وموجبة لدخول النار، وهو حديث (4) صحيح (5).
وفي الجملة فمن أوصى بوصية تخالف وصية الله - سبحانه - المذكورة في محكم كتابه بقوله: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} (6) إلى آخر الآيات.
قلنا له: هذه الوصية رد عليك، فقد وجدنا في كتاب الله تعالى أن الله عز وجل أوصى عباده جميعا، بما يخالف ما وصيت به أنت، فقال:{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} (7) إلى آخر الآيات ، ووصية الله - سبحانه - أقدم، وهو بمصالح عباده أعلم وأحكم، ووجدنا رسول الله ينادي الأمة بأن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث؛ فوصيتك يا هذا مخالفة لكتاب الله، ولسنة رسوله، فهي رد عليك.
(1)[البقرة: 182].
(2)
في "الكشاف"(1/ 334).
(3)
انظر: "جامع البيان" لابن جرير الطبري (2/ ج-2/ 126)، "تفسير القرآن العظيم" لابن كثير (1/ 496).
(4)
يشير إلى الحديث الذي أخرجه أبو داود رقم (2867) والترمذي رقم (2117) وقال: حديث حسن صحيح غريب.
قلت: وفي إسناده: شهر بن حوشب وهو ضعيف.
من حديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الرجل ليعمل أو المرأة بطاعة الله ستين سنة ثم يحضرهما الموت فيضران في الوصية فتجب لهما النار" ثم قرأ أبو هريرة: {من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار وصية من الله} إلى قوله تعالى: {وذلك الفوز العظيم} [النساء: 12، 13].
وهو حديث ضعيف والآية مغنية عن غيرها.
انظر: الرسالة رقم (160).
(5)
بل هو حديث ضعيف كما تقدم.
(6)
[النساء: 11].
(7)
[النساء: 11].
وقد صح عنه صلى الله عليه وآله وسلم وتواتر أنه قال: " كل أمر ليس عليه أمرنا فهو رد "(1) فهذه الوصية مخالفة لما شرعه الله في محكم كتابه، وعلى لسان رسوله وكل مخالف لما شرعه الله في محكم كتابه، وعلى لسان رسوله رد، فهذه الوصية رد.
وأيضا هذه الوصية ليس عليها أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأمته، وكل ما ليس عليه أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأمته فهو رد، فهذه الوصية رد، أما في الصغرى في القياسي فلما بيناه سابقا، وأما الكبرى، فهذا الحديث المتواتر (2).
وإذا تقرر لك جميع ما أوردناه، واندفع به دعوى من يدعي جواز الوصية للوارث، أو ندبها، فاعلم أن هاهنا دليلا يكفيك مؤنة التدليل والتحقيق الذي أسلفناه، وأسلفه البدر رحمه الله وهو ما أخرجه الدراقطني [5أ] (3) من حديث ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " لا تجوز وصية لوارث إلا أن يشاء الورثة ". وقد حسن هذا الحديث الحافظ في التلخيص (4)، وقال في الفتح (5): رجاله ثقات، وما قيل من أنه معلول بأن الذي رواه عن ابن عباس هو عطاء، وقد قيل إنه الخراساني (6) فهو مدفوع بأنه قد أخرج نحوه البخاري (7) من طريق عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس موقوفا، قال الحافظ (8): إلا أنه في تفسير وأخبار بما كان من الحكم قبل نزول القرآن، فيكون
(1) تقدم تخريجه مرارًا.
(2)
يشير إلى حديث: "لا وصية لوارث".
(3)
في "السنن"(4/ 97 رقم 89).
(4)
(3/ 92).
(5)
{5/ 372).
(6)
تقدم توضيحه في بداية الرسالة.
(7)
في "صحيحه"(5/ 372) الباب رقم (6) لا وصية لوارث.
(8)
في "الفتح"(5/ 372).
في حكم المرفوع، وأخرجه أبو داود في المراسيل (1) من مرسل عطاء الخراساني، ووصله (2) يونس بن راشد عن عطاء، عن عكرمة، عن ابن عباس، فهذا الحديث المرفوع مع ما عضده قد صرح فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بنهي الجواز، وهو نص في محل النزاع يدفع القول بأن المنسوخ إنما هو الوجوب فقط دفعا لا يبقى بعده شك ولا ريب.
واعلم أن البدر رحمه الله قال في آخر رسالته ما لفظه: فعليك أيها الناظر في البحث بتأمله،، وتحققه، وتكرار النظر فيه، حتى يتبين لك الحق (3) بيد من هو، والحمد لله رب العالمين.
ذكر في الأم، حرر في الثلث الأول من ليلة الاثنين لعله تاسع عشر شهر محرم سنة 1210، وكان النقل يوم الخميس 12 شهر محرم سنة 1314.
(1) رقم (349) وقد تقدم.
(2)
قاله الحافظ ابن حجر في "التلخيص"(3/ 92).
(3)
وخلاصة القول في ذلك ما قاله الشوكاني في "السيل الجرار"(3/ 693) بتحقيقنا: ولا يخفاك أن هذا حكم على الحديث بأنه متواتر، فلم يبق ما يوجب الاشتغال بالكلام على طرقه والعمل بالمتواتر واجب، وهو بنسخ الكتاب إذا تأخر، فلو قدرنا أن آية الوصية للوالدين والأقربين لم تنسخها آية المواريث لكان هذا الحديث يكفي في نسخها، وقد قدمنا لك أن الاتفاق كائن على أنها منسوخة إما بآية المواريث أو بالحديث، وأيضًا هذا الحديث يقيد ما ورد مطلقًا في القرآن لقوله تعالى:} من بعد وصية يوصى بها أو دين {[النساء: 11]، وما ورد في السنة كالحديث:"ما حق امرئ مسلم يبيت ليلتين وله شيء يريد أن يوصي فيه" تقدم تخريجه- وهكذا يقيد قوله صلى الله عليه وسلم: " إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم" تقدم تخريجه- وهكذا سائر ما ورد في مشروعية الوصية مطلقًا، فلم يبق في المقام ما يقتضي عن إبطال الوصية للوارث.