الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الإبطال لدعوى الاختلال في رسالة إجبار اليهود على التقاط الأزبال
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب
وصف المخطوط:
1 -
عنوان الرسالة من المخطوط: الإبطال لدعوى الاختلال في رسالة إجبار اليهود على التقاط الأزبال.
2 -
موضوع الرسالة: "فقه".
3 -
أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم، يقول الحقير، أسير التقصير، محمد بن علي الشوكاني غفر الله لهما، أسألك اللهم العصمة عن مجبة القيل والقال.
4 -
آخر الرسالة: أقول: أما من له فهم وإنصاف فما أظنه يلتبس عليه الصواب.
كمل تحرير مؤلفه حفظه الله في يوم الجمعة شهر محرم الحرام 1206 هـ.
5 -
نوع الخط: خط نسخي جيد.
6 -
عدد الصفحات: 10 صفحات.
7 -
عدد الأسطر في الصفحة: 27 سطرًا ما عدا الصفحة الأخيرة فعدد أسطرها 8 أسطر.
8 -
عدد الكلمات في السطر: 14 كلمة.
9 -
الرسالة من المجلد الأول من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.
بسم الله الرحمن الرحيم
يقول الحقير، أسير التقصير، محمد بن علي الشوكاني - غفر الله لهما -، أسألك اللهم العصمة عن مجبة القيل والقال، وأعوذ بك من تحمل فوق الطاقة من أعباء المراء والجدال؛ فإنك إن هديتنا إلى معرفة عيوب أنفسنا صرفنا العناية إلى ما هو أولى بنا وأحرى، وإن بصرتنا بما نجهله من قدورنا لم يرَ غيرنا منا ما لا نرى، وبعد حمد الله على كل حال، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه خير صحب وآل، فإنها جرت مذاكرة بيني وبين بعض الأعلام النحار أوجبت تأليف رسالة سميتها بحل الإشكال في إجبار اليهود على التقاط الأزبال، ثم مضت برهة من الأيام، فرأيت رسالة (1) لبعض إخواني من علماء العصر، مستدركًا بها على تلك الرسالة، وقد علم الله أني في شغل شاغل عن المباراة والمماراة ولكن لما رسخ في بالي، وصح عندي أن إجبار اليهود على ذلك، وإعفاء المسلمين منه من أعظم القرب، وأنفس المحاسن، التي ينبغي أن تعد من مناقب العصر وأهله، فإني - كما علم الله - لم أزل مستنكرًا لتقرير المسلمين على ذلك من أيام الوقوف مع الصبيان في المكتب، ورأيت الصغير والكبير، والعالم والجاهل موافقين على ذلك، فحداني محبة نجاز هذا المقتصد، ونجاح هذا المطلب إلى تبيين ما في رسالة المعترض من الأوهام التي لا يحتمل مخافة أن يعتريها، فتكون من الأعذار عن تنجيز هذا العمل، مستعينًا بالله، ومتكلًا عليه، مقتصرًا على الإشارة بأخصر عبارة، فإن التطويل ربما أفضى إلى تحرير كراريس. قال: ولما كان الدين النصيحة (2). . إلى قوله: ولنقدم مقدمة.
أقول: الغرض الباعث على هذه النصيحة، والغاية الجاملة عليها إما أن تكون مخافة أن يعمل من وجهت إليه تلك الرسالة بمقتضاها فيربح المسلمين من التلوث بالنجاسات،
(1) الرسالة رقم (167).
(2)
تقدم تخريجه.
ويفرح عليهم من ملابسة [1] حشوش اليهود، والتقاط أزبالهم، ويأمر الملاعين بالنيابة عن المسلمين قلتم در هذا الناصح، وما أمحض نصيحة للمسلمين، وما أغيره على حرمات هذا الدين المتين.
وإما أن يكون الغرض والغاية تنبيه صاحب الرسالة المعترض عليها بأنه غلط في تطبيق هذه الأدلة على ذلك المدلول، وارتكب في رسالته ما يخالف المعقول والمنقول. فنقول مستفسرين لهذا الناصح، ومستور بين لزناد هذا القادح: هل هذا الغلط الذي تزعمه، والمخالفة التي تدعيها قطعيان أم ظنيان؟ لا سبيل إلى الأول لتوقف الجزم به على ما لا وجود له فيما نحن بصدده بإجماع كل ناقل.
والثاني ليس من مواطن المناصحة، لما ثبت في الحديث الصحيح (1) أن المصيب فيه والمخطئ مأجوران، فالظفر بالأجر متحقق بعد بذل الوسع؛ لأن الاجتهاد لا ثمرة له غير الظنون. فإذا كان تسليم الخطأ لا يقدح في ثبوت الأجر فكيف يلام طالب تحصيله ويناصح! ولو كان الاختلاف في الظنيات مستدعيا للمناصحة لكان كل مجتهد متعبدًا بمناصحة كل مخالف له، واللازم باطل بالإجماع، فكذا الملزوم. وإما أن يكون مراده تنبيه الواقف من سائر الناس غير السائل والمجيب، فيعود الكلام على السالف.
وإما أن يكون مراده تنبيه الجميع فيرد عليه الجميع، وإما أن يكون مراده كما قيل:
ويهتر (2) للمعروف في طلب العلا
…
لتذكر يومًا عند ليلى شمائله
فهذا شيء لا نرضاه له - عافاه الله - ولا يرضاه لنفسه.
قال: ولنقدم مقدمة تتضمن آثارًا عن صالحي السلف، قاضية بتورعهم فيما لا نص عليه نبوي إلى آخر البحث.
(1) تقدم تخريجه مرارًا.
(2)
يهتر هترًا والانهتار الولوع بالشيء والإفراط فيه كأنه أهتر أي خرف.
"لسان العرب"(15/ 24).
أقول: ظاهر هذه العبارة أنهم يتوقفون مع فقد النص النبوي عن القضاء بالكتاب العزيز، وهو فاسد بالإجماع، ففي العبارة قصور. ثم إن هذه المقدمة إنما تصلح عنوانًا لرد الآراء المحضة، ورسالتنا مشحونة بأدلة الكتاب والسنة، مربوطة بقواعد وفوائد لا يعرف قدرها إلا المتأهلون، فكان المجيب - عافاه الله - لا يفرق بين الرواية والرأي، فإن قال: قد بين عدم انطباق هذه الأدلة على المطلوب فمع كون ذلك البيان مبنيًّا على شفا جرف هار كما ستعرفه، لا يستلزم أن يكون الخطأ في الاستدلال من قبيل الأخذ بالرأي، فإن تهافت بدعوى الملازمة، فقد عرفت من الكلام السالف سببية هذا الأمر للأجر والتورع عن طلب الأجور زهد مذموم بإجماع الجمهور، فما هذه المقدمة المبنية على أركان مهدمة! فإن قال مسالك المناظرة أربعة [2]: الدعاء إلى الحق بالحكمة البرهانية، ثم الجدلية، ثم الخطابية، ثم الوعظية؛ وهذا نوع من المسلك الرابع قلنا: فأين المقتضى؟.
أوردها سعد وسعد مشتمل
…
ما هكذا يا سعد تورد الإبل (1)
لا جرم:
فتشبهوا إن لم تكونوا منهم
…
إن التشبه بالكرام فلاح
قال: هذا اعتراف بعدم النص إلخ.
أقول: الذي صرحت به في أول تلك الرسالة تصريحًا لا يلتبس على من له أدنى فهم، أني لم أقف على كلام لأحد من العلماء في إجبار اليهود على التقاط الأزبال.
وما نقلته عن العلماء في تلك الرسالة ليس عين ما نفيته، بل قواعد كلية، وجزئية نقلية، وعقلية لتصحيح الاستناد وربط الدليل بالمدلول، وما كنت أظن أن مثل هذا يلتبس على أحد فانظر - أيها الناظر - إلى هذا الاعتراض الذي افتتح به المعترض رسالته التي حمله عليها محبة النصح وأنشد في عذره:
(1) تقدم توضيح المثل مرارًا.
وإنما يبلغ الإنسان طاقته
…
ما كل ماشية بالرحل شملال (1)
قال: وأقول: لا يشك ذو مسكة ودربة إلى قوله، ثم الصغار.
أقول: قد ذكرت في تلك الرسالة أن دعوى اختصاص الصغار ببعض ما فيه ذلك، أو بوقت دفع الجزية أحدًا لظاهر التقييد، كما فهمه المعترض ممنوع، ثم أوردت سند المنع، وسقت كلام الأئمة، فأغمض المعترض عن جميع ذلك، ومنع السند منعًا مجردًا لعدم صحة دليله، وهو خلاف ما تقرر في علم الجدل.
ثم جاء بمقدمة النزاع فجعلها دليلًا، فوقع في مضيق المصادرة، وهو أيضًا مخالف لما تقرر في علم العقول، فكثر الله في المناظرين من أمثاله، وما حمله على ذلك إلا عدم التدبر لكلام خصمه.
غزلت لهم غزلًا فم أجد
…
لغزلي نساجًا فكسرت مغزلي
ثم ذكر بعد ذلك معنى الصغار، واستظهر على تخصيصه ببعض أنواعه بما نقله عن المفسرين (2) والبحر (3) وهو كلام قد عرفناه وأشرنا في تلك الرسالة إلى أنه تحكم.
ثم إن المعترض نقل كلام البحر (4) في صفة الصغار عند إعطاء الجزية، ولم ينقل ما في البحر في السير من إلزامهم أنواعًا من الصغار، بل لم ينقل ما في الأزهار هنالك، ولعله لم يحضر ليحال الاعتراض إلا ذلك.
فمالك والتلدد حول نجد
…
وقد غصت تهامة بالرجال
قال: نعم وكل وهذا لا يدل على خصوص المدعي إلى قول: غير محل النزاع.
أقول: كلا شقي الترديد غير ما أوردناه، بل المراد أن هذا نوع من الصغار المأذون لنا [3] بإلصاقه بهم، إلا أن يمنع عنه مانع شرعي، ولا مانع فيما نحن بصدده، وعدم أمر
(1) قال في "لسان العرب"(7/ 205): جمل شمل وشملال وشمليل: سريع.
(2)
انظر "الجامع لأحكام القرآن"(8/ 115).
(3)
(5/ 459).
(4)
(5/ 459).
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخلفائه بذلك فمخصوصية لا يستلزم عدم الأمر به، أو الإذن مطلقًا، لا سيما مع عدم الحامل على ذلك، لما تقرر من أن الناس كانوا في زمن النبوة على عادة العرب الأولى، يخرجون للتبرز حتى النساء إلى البرية، كما ثبت في الصحيح (1) من حديث عائشة، وهذا ظاهر لا سترة به، ولكن الأمر كما قيل:
وإذا كان في الأنابيب خلف
…
وقع الطيش في صدور الصعاد
قال: وقد جاء في كلامه بملازمة عقلية إلخ.
أقول: قد تقرر عند علماء البيان أن اللزوم عقلي وعرفي، وهذا في مختصر التلخيص وتهذيب المنطق، اللذين هما مدرس صغار الطلبة، فما بال المعترض قيد اللزوم، الذي أطلقته في كلامي بالعقلي بغير قرينة، ورتب عليه الاعتراض الذي ليس له انتهاض، وكل ناظر يعلم أن من له أدنى تمسك لا يريد في هذا الموطن اللزوم العقلي، فترك التقييد اتكالًا على هذا الظهور، وبيان الملازمة العادية أنه لما كان بقاء الأزبال مضرًّا بأهل المدن غاية الإضرار جرت العادة بالتقاط جماعة له، فإذا لم يكونوا من الكفار لزم إعادة أن يكونوا من المسلمين؛ لعدم وقوع الالتقاط في العادة من غير نوع الإنسان، ودفع الضرر عن أهل المدن هو المقصود الأهم من ذلك، وإيقاد الحمامات به، إنما هو لإذهاب عينه، وتحصيل الأجرة للمباشرين، ثم إن المعترض جعل الواسطة القادحة في الملازمة إيقاد الحمامات بالحطب، ولا يشك عاقل أن الواسطة بين التقاط الكفار والمسلمين إما ترك الالتقاط من الجميع أو التقاط غيرهم إن فرض، لا إيقاد الحمامات فإنه قال: لازم لترك الجميع الذي هو الواسطة، فلا أزيد الناظر على إيقافه على هذه الملازمة، وما أدري على ما أغبط المعترض.
يقولون أقوالًا ولا يعرفونها
…
ولو قيل هاتوا حققوا لم يحققوا
قال: أول ما نورده عليه الاستفسار إلى قوله: إن هذا لشيءٌ عجيبٌ.
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (4750) من حديث عائشة.
أقول: سلمنا أن الآية واردة على ذلك السبب، فالذلة لا تختص بفرد معين دون غيره إلا بدليل، وقد تقرر في الأصول عدم القصر على السبب، وتقرر أن قصر الذلة على مجرد إعطاء الجزية، والفقر، والمسكنة تحكم محض، فما هذا الكلام الذي لا نفاق له في سوق الجدال والخصام، ثم رتب على هذا الكلام أنه إخبار به ولا تكليف به، وكأنه ظن أن التكليف مقصور على الواجب [4] وهو فاسد يدفعه إطباق أئمة الأصول على شموله لغيره من الأحكام.
ثم قال: فكيف يقال أنه يجب إجبار اليهود، وأنت تعلم أن السؤال الذي أجبنا عليه بالرسالة إنما هو في مطلق ما يدل على الإجبار، فما دل على الوجوب، أو الندب، أو أعم منهما - أعني الجواز - فهو صالح لجعله جوابًا؛ لأن السائل لم يسأل عن خصوص ما يدل على الوجوب، ولا اقتصرت في الجواب على هذا الصنف، بل جمعت بين جميع أنواع الجواز، ولم أقصر في بيان هذا الأمر بعد جعلي له عنوانًا لتلك الرسالة، وتصريحي به قبل الشروع فيها، وقد وهم علي المعترض وهمًا فاحشًا، فواخذني في كل دليل لا يدل على الوجوب، وما أدري ما الحامل له على هذه التعسفات، فإن كان مجرد المعارضة من غير مبالاة بما وقع من الخبط والخلط، فما هذا دأب أهل العلم والإنصاف.
إنك إن حملتني ما لا أطيق
…
ساءك ما سرك مني من خلق
وغاية الأمر أن الرجل يريد أن يدل دليل على هذه الخصلة بخصوصها، ولو كان ذلك شرطًا في التكليف لاستراح الناس عن أكثر التكاليف، ومن بلغ به الأمر إلى هذا الحد لم يستحق المراجعة.
قال: وإن قال: الآية خبر في معنى الأمر إلى قوله: من لغة أو شرع.
أقول: إبطاله لدلالة هذه الآية على المطلوب بقوله: لأنه لم يأمر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الغرائب، فإنه لا شك بعد تسليم دلالة الآية على الإذن بضرب الذلة العامة عليهم، أو الإذن بجنسها، أو الأمر بأحد الأمرين أنها متناولة للفرد الكامل من أفراد الذلة تناولًا أوليًّا، إلا أن ينهي الشارع عنه، وتوقف ذلك على أن النبي - صلى الله
عليه وآله وسلم - أمر به بخصوصه، أو أن الدليل دل عليه بخصوصه أمر يعرف اختلاله صغار الطلبة.
إذا رام التخلق جاذبته
…
خلائقه إلى الطبع القديم
قال: وقد ركب قياسًا منطبقًا إلى قوله: ولنا أن نعارض ذلك القياس.
أقول: لا يخفى عليك أن الجواز أعم من الوجوب، وأن الواجب جائز، فاختيار لفظ الجواز في تلك المقدمة لشموله للوجوب والندب، ومجرد الجواز بلا تقييد. فإن كانت الآية أمرًا في معنى الخبر فكيف يقال الكبرى ممنوعة! بل يجب إبدالها بقوله: وكل محصل للذلة واجب، وإطلاق لفظ الجائز على الواجب جائز بالإجماع.
ولو سلم عدم صحة التعبير بالأعم عن الأخص لعدم استلزام وجوده فلا يكون إلا مجازًا، لما كان في الاقتصار على أخف مما يدل عليه الدليل ضير.
وإن كانت الآية مجرد خبر فلا شك في صحة التعبير [5] بلفظ جائز ثم إيراده على الكبرى بعد تسليمه لما اشتملت عليه من الحتم في زعمه لزوم منعهم من المأكل، والمشرب، والملبس، والمعاملة، من أفحش الأوهام التي أوقع في مثلها عدم التأمل.
وقد صرحت في تلك الرسالة (1) بما يحسم هذا الإيراد فقلت: بل المراد الذلة الناشئة عن أي سبب كان من الأسباب التي لم يمنع الشارع منها انتهى بحروفه.
وكل ما أورده المعترض مستثنى من تلك الكلية لمنع الشارع منه، وليس الالتقاط من هذا القبيل، لما عرفت من عدم الاحتياج إليه في زمنه صلى الله عليه وآله وسلم، وشدة الحاجة إليه في المدن في هذه الأعصار، لا لإيقاد الحمامات كما ظنه المعترض، بل لما في تركه من الضرر العام، فما هذه التخليطات التي يكبر المعترض عنها!.
يأبى الفتى إلا اتباع الهوى
…
ومنهج الحق له واضح
قال: ولنا أن نعارض ذلك القياس بقياس من الشكل الأول، بأن نقول: إجبارهم
(1) رقم (166).
على الالتقاط غير مأذون فيه من الشارع، وكلما لم يأذن فيه الشارع حرام. إلخ. . .
أقول: قد عرفت مما سبق، ومما سيأتي بطلان الصغرى، وأن الالتقاط مأذون به، وليس للمعترض متمسك، إلا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يأمر به بخصوصه، وقد عرفت بطلان هذا الاشتراط.
وأما الكبرى فممنوعة، والسند إجماع المسلمين، إلا من شذ أن الحل لا يتوقف على الإذن، وأن البراءة الأصلية كافية، لا سيما مع اعتضادها بكليات وجزئيات من الكتاب والسنة، وليسارع المعترض - عافاه الله - إلى تصغير عمامته، وتقصر ذيله، وترك أكل المحور، وترك افتراش الثياب المحشوة بالعطب، وترك شرب القهوة، إلى ما لا نهاية له من هذا الجنس؛ لأن الشارع لم يأذن بشيء منها؛ فهي حرام، وهو قائل بذلك، والعلم العمل، والإنسان أحق الناس باتباع قوله: ونحن لا نرى صحة ذلك، فلا يلزمنا إذا عرفت هذا. فقوله: وكل ما لم يأذن فيه الشارع حرام، وجعله كبرى لصغرى ذلك القياس، مع ما فيه من عدم التكرار المعتبر من الأدلة الدالة على كمال خبرته بالفن، ولله دره، وهكذا وليكن التحقيق، والله يعلم أني أكره إطلاع الناس على هذه السقطات المضحكة، ولكن البادي أظلم، ولولا أن اعتراضاته قد وقعت إلى يد غيري قبل وقوعها في يدي لناصحته باللسان، وتركت شغله وقت فيما لا طائل تحته.
ولو منح الله الكمال ابن آدم
…
لخلده والله ما شاء يفعل [6]
قال: وفسر الآية بما هو يدندن حوله.
أقول: أما الأدلة الدالة على النكرة تأتي بالعموم، فقد ذكر الأئمة في مثل أن جاءك رجل فأكرمه، وفي مثل: إن جاءكم فاسق بنبأ، في أمثال ذلك كثير، حتى لقد احتج السيد علي بن محمد بن أبي القيم في رسالته التي أجابها العلامة الإمام محمد بن إبراهيم بمثل ذلك، فسلمه في العواصم، مع استكثار من الاعتراضات والمناقشات. ومن تتبع كتب التفسير في نظائر المدعي، وكذا كتب البيان وغيرها علم صحة ذلك.
وما أسرع ما ذهب من حفظ المعترض ما ذكره العلامة. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الزمخشري (1) في قول الله: {علمت نفس ما أحضرت} (2)، وما ذكره أهل الحواشي، ولم يمر بنا إلا أيام قلائل من قراءة ذلك البحث نحن وهو على شيخنا العلامة، فإن قال: هذا ليس من ذلك القبيل فعليه البيان، على أن ابن كثير قد صرح في تفسيره بأن الخزي عام، ونعم السلف لنا في ذلك.
قوله: فمن أين لنا التكليف بما دلت عليه الآية؛ إذ لا صيغة أمر إلخ.
قلنا: الدليل على الإجبار أعم من ذلك، وقد أسلفنا ما فيه كفاية، وغاية الأمر أن المعترض في هذا البحث وما بعده. . . إلخ الرسالة عول على المنوعات المجردة، وهي غير مقبولة على الأسانيد، وسنجاريه على مشيه.
قال: وأستنبط من الآية أن كل فرد إلخ ثم نقل من القاموس (3) معنى الغلظة، وأغلظ له وعليه، ثم نعم لفهمه السليم أن صاحب القاموس جعل أغلظ مطلقًا ومقيدًا خاصًَّا بالقول وهذا من أقبح الغلظ؛ فإن صاحب القاموس (4) إنما جعل المختص بالقول أغلظ له ولا نزاع فيه، وأما أغلظ عليه فهذا إمام اللغة والتفسير جار الله (5) يقول في كشافه (6) في تفسير هذه الآية نفسها ما لفظه: جاهد الكفار بالسيف، والمنافقين بالاحتجاج، واستعمل الغلظة والخشونة على الفريقين فيما تجاهدهم به من القتال والمحاجة، ثم ذكر روايات عن. . . . . . . . . . . . . . . . .
(1) في "الكشاف"(6/ 323).
(2)
[التكوير: 14].
قال: فإن قلت: كل نفس تعلم ما أحضرت، كقوله:(يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرًا)[آل عمران: 30]. لا نفس واحدة فما معنى قوله: (علمت نفس) قلت: هو من عكس كلامهم الذي يقصدون به الإفراط فيما يعكس عنه. . .
(3)
(ص 900).
(4)
الفيروز آبادي (ص900).
(5)
الفيروز آبادي (ص 900).
(6)
أي الزمخشري.
المفسرين (1)، وأنت تعلم أنه تصريح منه بأن الغلظة المأمور بها تكون في الأقوال والأفعال، وهو الإمام الذي جعل استعماله بمنزلة روايته، وصرح أيضًا في تفسير:{عليها ملائكة غلاظ شداد} (2) فقال ما لفظه (3): في إجرامهم غلظة وشدة؛ أي: جفاء وقوة، أو في أفعالهم جفاء وخشونة لا يأخذهم رأفة في تنفيذ أوامر الله والغضب له، والانتقام من أعدائه انتهى.
قال: وأتى بكلام مسجع منمق إلى آخر البحث.
أقول: إذا كانت العزة من أوصاف المؤمنين، والذلة من أوصاف الكفار، كما في غير هذه الآية، فإجبار اليهود على ملازمة هذه الصفة التي أخبر الله بها جائز، ومنع المسلمين عن الأمور التي تقدح في العزة جائز، فكيف قلت: ليس الجواب مطلقًا للسؤال! وما ذنب المجيب إن لم يفهم غيره ما أراده.
قال: ودندن [7] حول ما أراد إلى آخر البحث.
أقول: قوله فمن أين لنا الدليل من الحديث على إجبار اليهود بعد أن سلم أن خبر في معنى الأمر من العجائب، فإنا إذا أمرنا بجعل الإسلام عاليًا، ونهينا عن أن يكون شيء عاليًا عليه، ففي تنزيه الكفار عن هذه المهنة الخبيثة مع وقوع المسلمين فيه إعلاءً لهم على المسلمين ظاهر، وهو منهي عنه، ومأمور بخلافه، كيف لا يكون في الحديث دلالة على المطلوب!.
قال: ومراده أن أهل الإسلام إلى آخر البحث.
أقول: قد بينت في رسالتي (4) وجه الدلالة فقلت ما لفظه: وفحوى الخطاب ولحنه قاضيان إلى آخر ما هناك، فانظر إلى قول المعترض كيف جعل الأمر باضطرار اليهود
(1)(3/ 68): سورة التوبة. الآية (73).
(2)
[التحريم: 6].
(3)
أي الزمخشري في "الكشاف"(6/ 161).
(4)
الرسالة رقم (166).
إلخ، فهو يدلك على عدم التدبر للأصل المعترض عليه، أو عدم الفهم، وقد سئمنا ومللنا من إبطال كلامه، حتى لقد وددت أن أجد بحثًا صحيحًا.
أقول: فيه أصبت فلم أجد.
قال: هنا حكاية صحيحة إلى آخر الكلام.
أقول: المصلحة متحققة هاهنا، ومسلك المناسبة (1) مقتضى للإلجاء والالتزام ملتزم لا يستثني منه إلا مانع منه الشارع، أو منع منه العقل.
وقوله: ولعل هذا لا يقوله أحد إلخ ممنوع، والسند ما سلف، قال: وطول في ذلك وأراد أن فيه دليلًا إلى آخر البحث.
أقول: لا شك أن حديث: "نزلوا الناس منازلهم"(2) دال على المدعي وعلى غيره إلا ما خصه دليل، وتبين أنه ما يغتفر فيه التنزيل، وهذا لا ينكره المعترض، ونحن نسلم الإفراد من المكاسب التي أقر الشارع عليها، إذ فرض تلبس المسلمين بمكسب يتنزه اليهود كما نحن بصدده، وندعي دخول محل النزاع بحث الحديث، فكيف يقال لا دلالة فيه على المطلوب! ثم أين لنا - أيها المعترض - أي خصلة تشابه هذه المكاسب التي تنزه اليهود عنها، وتلبس بها المسلمون، وأقرهم السلف والخلف عليها، وأجمعوا على ذلك! فلا أقل لمدعي الإجماع في ذلك.
قوله: تنزيل الناس منازلهم ممكن بدون إجبار اليهود بالعدول إلى الحطب أو غيره.
قلنا: قد عرفت ما على هذا الكلام فلا نعيده.
قال: وهذا لا يصلح جوابًا إلخ.
أقول: إعفاء المسلمين عن ذلك يفضي إلى الإجبار، والواسطة التي يتعلل لها المعترض غير صحيحة.
(1) تقدم توضيحه.
(2)
تقدم تخريجه.
ومن أعجب الأمور أن المعترض أورد في أول هذه الرسالة آثارًا دالة على تجنب الرأي ثم اعتذر عن الأدلة التي أوردناها من الكتاب والسنة بهذه الأعذار الباردة، ثم مال هاهنا إلى محض الرأي فقال أو قال: إن عقد الأئمة الصلح إلخ.
لا تنه عن خلق وتأتي مثله
…
عار عليك إذا فعلت عظيم
قال: يقال له: نعم إلى آخر البحث.
أقول: قد عرفت تمسك المعترض لهذا المنع المجرد في جميع هذه الأبحاث، وعرفت ما عليه، وقد طال الكلام.
قال: وأقول: محفوظ بغير إجبار اليهود إلخ.
أقول: هو من ذلك المنع الذي عرفناك، وأي حفظ لدين من تلوث بأزبال المسلمين والكفار، وترك المستخم لا يدفع مؤنة الالتقاط، لما عرفت من أعظم فوائد الالتقاط دفع مضرة المسلمين التي تحصل بعدمه، ثم استنكر جعل اليهود من المناسب المرسل، وذكر المثال المعروف في الأصول [9]، واستبعد إمكانه في محل النزاع، حتى كان اعتبار عين الكفر في جنس أنواع الصغار أمر لا يمكن ولا يتيسر.
قال: هذا منه تسليم تنزل، وإلا فهو جازم بالوجوب.
أقول: قد عرفت مما أسلفنا لك أنا لم نقتصر في هذه الرسالة على أدلة الوجوب فقط، وعلى تسليم الجزم به، فكيف يناقضه التنزيل إلى الندب، وكيف خفي هذا على المعترض بعد تصريحه بأنه تسليم تنزل أن هذا لا يقع لأدنى متأهل.
وقوله: ومع هذا فما أفاد في هذا الجواب.
أقول: أما من له فهم وإنصاف فما أظنه يلتبس عليه الصواب.
كمل تحرير مؤلفه حفظه الله في يوم الجمعة شهر محرم الحرام سنة 1206 [10].