الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المقالة الفاخرة
في اتفاق الشرائع
على
إثبات الدار الآخرة
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب
وصف المخطوط
1 -
عنوان الرسالة: المقالة الفاخرة في اتفاق الشرائع على إثبات الدار الآخرة.
2 -
موضوع الرسالة: (الإيمان باليوم الآخر).
3 -
أول الرسالة بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين. إياك نعبد وإياك نستعين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الأمن، وآله الطاهرين. وبعد: يقول الحقير محمد بن علي الشوكاني غفر الله لهما أنه وقف على ما قاله ابن أبي الحديد شارح " فج البلاغة " ولفظه
…
4 -
أخر الرسالة:
. وفي هذا المقدار كفاية لمن له هداية. حرره مؤلفه محمد بن علي الشوكاني غفر الله لهما في بعض نهار يوم السبت لعله الثاني عشر من شهر ربيع الآخر سنة (1224 هـ) حامدا لله، ومسلما ومسلما على رسوله واله.
5 -
الناسخ: المؤلف رحمه الله. محمد بن علي الشوكاني.
6 -
نوع الخط: خط نسخي معتاد.
7 -
عدد الصفحات: 13 صفحة + صفحة العنوان.
8 -
عدد الأسطر في الصفحة: 25 - 27 سطرا.
9 -
عدد الكلمات في السطر: 11 - 13 كملة. .
في هامش الصفحة الأخيرة قول الإمام الشوكاني رحمه الله: ((الحمد لله قد تعقبت هذه الرسالة رسالة مطولة سميتها: " إرشاد الثقات إلى اتفاق الشرائع على التوحيد والمعاد والنبوات " وهي في المجلد الرابع من الفتاوى)) اهـ. قلت: وهذا يؤكد لنا أن المجلد الرابع من " الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني " هو المجلد المتضمن الرسالة المشار إليها وهي " إرشاد الثقات " ولله الحمد والمنة.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، إياك نعبد وإياك نستعين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الأمن، واله الطاهرين.
وبعد: فيقول الحقير محمد بن علي الشوكاني- غفر الله لهما- أنه وقف على ما قاله ابن أبي الحديد (1) شارح نهج (2) البلاغة، ولفظه: إن كل ما في التوراة من الوعد والوعيد فهو منافع الدنيا ومضارها، أما منافعها فمثل أن يقول: إن أطعتم باركت فيكم وكثرت من أولادكم، وأوسعت أرزاقكم، واستبقيت اتصال نسلكم، ونصرتكم على أعدائكم، فإن عصيتم وخالفتم اخترمتكم، ونقصت من إخائكم، وشتت كلكم، ورميتكم بالجوع والمخافة، وأقللت أولادكم، وأشمت بكم أعداءكم، ونصرت عليكم خصومكم، وشردتكم في البلاد، وابتليتكم بالمرض والذل، ونحو ذلك، ولم يأت في التوراة وعد ووعيد بأمر يتعلق. مما بعد الموت.
وأما المسيح فإنه صرح بالقيامة، وبعث الأبدان، ولكن جعل العقاب روحانيا، وكذلك الثواب
…
فأما العقاب فبالوحشة والفزع وتخيل الظلمة، وخبث الأنفس وكدرها، وخوف شديد. وأما الثواب فما زاد على أن قال أنهم يكونون كالملائكة، وربما قال يصعدون إلى ملكوت السماء، وربما قال أصحابه وعلماء ملته: الصفاء واللذة، والسرور والأمر من زوال اللذة الحاصلة لهم هذا هو قول المحققين منهم. وقد أثبت بعضهم نارا خفيفة، لأن لفظة النار وردت في الإنجيل، فقال محققوهم نارا قلبية- أي نفسية روحانية. وقال الآخرون نارا كهذه النار ومنهم من أثبت عقابا غير النار، وهو بدني فقال: الرعدة وصرير (3) الأسنان. وأما الجنة يعني .................................................
(1) لم أعثر عليه.
(2)
تقدمت ترجمته (ص 503).
(3)
قال المسيح في الإنجيل: " بحق أقول لكم إنه سيأتي قوم من المشرق والمغرب فيجلسون مع إبراهيم. =
الأكل (1) والشرب والجماع (2)، فإنه لم يقل به منهم قائل أصلا، لأن الإنجيل صرح بانتفاء (3) ذلك في القيامة تصريحا لا يبقى بعده ريب لمرتاب.
وخاتم الأنبياء- صلى الله عليه وآله وسلم أثبت المعاد على وجه محقق كامل أكمل مما ذكره الأولون، فقال:" إن البدن والأنفس معا مبعوثان، ومحل منهما حظ في الثواب والعقاب "(4). ثم نقل بعد هذا كلام ابن سيناء (5) وحاصله: إن الشريعة المحمدية أثبتت المحاد الروحاني والجسماني، والنعيم لهما والعقاب، وأنكر على النصارى حيت أثبتوا بعث الأبدان وخلوها عن المطعم والملبس والمشرب والمنكح.
واعلم أن أصل هذه المقالة الملعونة، والرواية عن التوراة والإنجيل المكذوبة مقالات
= وإسحاق ويعقوب وملكوت السماء ومخرج بنو الملكوت إلى الظلمة البرانية، هنالك يكود البكاء
وصرير الأسنان " إنجيل متي (8/ 10 - 12).
(1)
قال المسيح: " اعملوا لا للطعام الفاني، بل للطعام الباقي في الحياة المؤبدة لأن ذلك قد ختمه الله ". إنجيل يوحنا (6/ 27).
(2)
قال المسيح عليه السلام: " من ترك زوجة أو بنيئ أو حقلا من أجلى فإنه يعطى في الجنة مائة ضعف ويرث الحياة الأبدية ".
إنجيل متى (19/ 25) ومرقس (10/ 29 ،30).
(3)
وما قدمنا من أقوال المسيح برد على أبي الحديد وقد صرح المسيح بأن المؤمن يعطى في الجنة مائيي زوجة وكما يعطى مائتي حقل.
(4)
قال ابن تيمية في مجموع فتاوى (14/ 167): والجنة والمار التي تفتح وتغلق غير ما في القلوب، ولكن ما في القلوب سبب له ودليل عليه وأثر من آثاره وقد قال تعالى:{إن الذين يأكلون أموال اليتمى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا} [النساء: 10] وقال صلى الله عليه وسلم: " الذي يضرب في آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم " يأكلون ويشربون ما سيصير نارا، وقيل: هو سبب النار.
أخرجه البخاري رقم (5634) ومسلم رقم (2065).
(5)
تقدمت ترجمته (ص 553).
قالها جماعة من متزندقة اليهود والنصارى، كابن ميمون (1) اليهودي الأندلسي وأضرابه. قال في تاريخ النصراني في ترجمة ابن ميمون المذكور [1] أنه صنف رسالة في إبطال المعاد الجسماني، وأنكر عليه مقدمو اليهود فأخفاها إلا عمن يرى رأيه. قال: ورأيت جماعة من يهود بلاد الإفرنج بأنطاكية وطرابلس يلعنونه، ويسمونه كافرا
…
انتهى.
فهذه رواية نصراني عن طائفة من اليهود أكم كفروا ابن ميمون، ولعنوه بسبب هذه المقالة. وقد وقع من هذا الملعون التحريف لما قي التوراة كما سيأتيك بيانه. وها نحن نملي عليك ما في التوراة، ثم ما ني الزبور، ثم ما في الإنجيل، حتى تعلم أن الأمر على خلاف ما قاله زنادقة الملة اليهودية، والملة النصرانية، وتلفى ذلك عنهم زنادقة الملة الإسلامية استرواجا منهم لما يتضمن من القدح في شرائع الله- سبحانه-.
أما التوراة فصرح الله (2) - سبحانه- باسم الجنة في أول التوراة عند الكلام على ابتداء خلق العالم ولفظه: فغرس الله جنانا في عيذا شرقيا وأبقا، ثم ادم الذي خلق، وأنبت الله ثم كل شجرة وحسنة، فنظرها وطيب مأكلها، وشجرة الحياة في وسط الجنان، وشجرة معرفة الخير والشر، وكان فر يخرج من عيذا ليسقي الجنان، ومن ثم يتفرق ويصير أربعة رؤس، اسم أحدها النيل، وهو المحيط بجميع بلد زويلة الذي ثم الذهب، وذهب ذلك البلد جيد، ثم اللؤلوء وحجارة البنور واسم النهر الثاني جيحون، وهو المحيط بجميع بلد الحبشة، واسم النهر الثالث الدجلة وهو السائر في شرقي الموصل، والنهر الرابع هو الفرات
…
انتهى.
فهذه هي الجنة التي ورد ذكرها في القران الكريم، وصح عن النبي - صلى الله عليه واله وسلم- أن هذه الأربعة صحيحه رقم (3207). ومسلم ي صحيحه رقم (164/ 264) وأحمد (4/ 207 - 208) وأبو عوانة (1/ 120 - 124) من طرق عن قتادة عن أنس بن مالك بن صعصعة مرفوعًا بحديث الإسراء بطوله:" وحدث نبي الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى أربعة أنهار، يخرج من أصلها نهران ظاهران ونهران باطنان فقلت: يا جبريل، ما هذه الأنهار؟ قال: أما النهران الباطنان فنهران قي الجنة، وأما الظاهران فالنيل والفرات ". (3) الأنهار خارجة منها كما في دواوين الإسلام وغيرها.
(1) تقدت ترجمته (496).
(2)
انظر: سفر التكوين والإصحاح الثاني والثالث.
(3)
يشير إلى الحديث الذي أحرجه البخاري في صحيحه رقم (5610) معلقا ووصله البخاري في
وقد اعترف هذا رأس زنادقة اليهود، وهو موسى بن ميمون القرطبي الأندلسي المتقدم ذكره في تأليفه المسمى:" المسمى في الفقه (1) "، فقال: إن هذا الموضع الذي هو جن عيذا هو موضع خصيب من كرة الأرض، كثير المياه، والأثمار، وسيكشفه الله للناس في المستقبل، فيتنعمون به. ولعل يوجد فيه نبات غريب جدا، عظيم النفع [2]، كثير اللذة، غير هذه المشهورة عندنا، وهذا كله غير ممتنع ولا بعيد، بل قريب الإمكان. بمشيئة الله تعالى. ثم اعترف بذلك اعترافا آخر فقال في كتاب اللغات (2) في حرف العن: إن معنى هذا الاسم الذي هو عيذا: هو التلذذ والتنعم، ومنه حميت لذات الآخرة، ونعيم أنفس الصالحين الكاملين جن عيذا. ثم قال في هذا الكتاب في تفسير جن عيذا: أي أن تلك هي جنات النعيم، وفردوس السعادة وقد شرحوا معنى جن عيذا وماهية التلذذ فيها، وحال من وصل إليها واستقر في ظل غروسها، وشرب عذوبة أنهارها، وأكل من لذيذ أثمارها. قالوا: والصالحون باقون فيها ليستلذوا من نور الله. وقال النبي يشيعا في حقيقة ذلك التلذذ قال: لا عين تقدر تراه إلا علم الله تعالى
…
انتهى كلام ابن ميمون في ذلك الكتاب وقد اقتصرنا على نقل كلام هذا الملعون ابن ميمون في شأن الجنة، لأنه هو الذي قال بتلك المقالة التي اقتدى به فيها مثل ابن سينا ومن بعده ولكن انظر ما الفرق بين كلامه وبن كلام ابن أبي الحديد من أهل الإسلام، وتصريحه في كلامه الذي نقلناه عنه سابقا بأنه لم يأت في التوراة وعد وعيد يتعلق. مما بعد الموت، وإن كل ما في التوراة من
(1) تقدم التعريف به في الرسالة السابقة " إرشاد الثقات "(9).
(2)
انظر " تاح العروس "(5/ 154).
ذلك إنما هو منافع الدنيا ومضارها. ثم قال في كلامه السابق: وأما الجنة يعني (1) الأكل والشرب والجماع، فإنه لم يقل به قائل منهم أصلا، لتعلم أنه قد جازف في هذا النقل غاية المجازفة، وافترى الكذب أو قلد من افتراه.
وأما ما زعمه من تصريح الإنجيل بنفي ذلك فسيأتيك- إن شاء الله- عن الإنجيل ما تعلم به أن ما حكاه عنه كذب صراح.
وإذا تقرر لك تصريح التوراة باسم الجنة وصفتها فهي أيضًا قد صرحت باسم النار، ولفظ التوراة شول واش. قال علماء اليهود: ومعنى اللفظين جهنم. وفي موضع آخر مع التوراة: وإن الله خلق خلقا، وتفتح الأرض فاها فينزلون إلى الثرى، هؤلاء القوم الذين عصوا الله. وقال: أحجب رحمتي عنهم، واريهم ما عاقبتهم، وكما أنهم كادوني بغير إله، وأغضبوني بغروراتهم، كذلك إني أكيدهم، لأن النار تنقدح من غصبي، وتتوقد إلى أسفال الثرى فتأكل الأرض ونباتها، حتى تستطلع أساسات الجبال، كذلك أزيد عليهم شرورا وسهامي [3] أفرقها فيهم.
وقال النبي يشعيا (2): مزكي الظالم لأجل الرشا، وزكية الزكي يزيلوها عنه، لذلك
(1) قال ابن تيمية في " مجموعة الرسائل الكبرى رسالة الإكليل "(2/ 11): واليهود والصابئون من المتفلسفة وغيرهم فإنهم ينكرون أن يكون في الجنة أكل وشرب ولباس ونكاح ويمنعون وجود ما أخبر به القرآن.
والرد عليهم هو أن ما ورد في القرآن الكريم مر وصف ملذات الجمة أن حقيقتها ليست مماثلة لما في الدنيا، بل بينهما تبابن عظيم مع التشابه في الأسماء، فنحن نعلمه إذا خوطبنا بتلك الأسماء من جهة القدر المشترك بينهما ولكن تلك الحقائق خاصية لا يدركها في الدنيا، ولا سبيل إلى إدراكما لها لعدم إدراك عينها أو نطيرها من كل وجه وتلك الحقائق على ما هي عليه.
(2)
" وهو أشيعا ومعنى الاسم (خلاص يهوه) وهو من أشهر أنبياء العهد القديم إلا أنه لم يعرف عنه إلا القليل، وقد اختلف اليهود والنصارى في سفره، وفي مقدمة أسفار هوشع، وعاموص، وميخا ما يدل على أن هؤلاء معاصرين لأشعيا
…
". "الكتاب المقدس " عندهم (ص 92) لما العهد القديم.
كما يأكل القش لسان النار، والهشيم ما تجليه اللهيب عناصرهم يكون كالدف، وفروعهم تصعد كالغبار إن زهدوا في توراة رب الجيوش. وقول قدوس العالم: رفضوا به أن الهاوية موعودة من أمس، وهي أيضًا أصلحت للملوك، عمقها فأوسعها نارا وحطبا كثيرا، وأمر الله كواد من كبريت متشعل فيها. وقال: ويخرجون وينظرون إلى أجسام القوم الذين كفروا بي، إن دودهم لا تموت، ونارهم لا تطفى، فيصيرون عبرة لباقي البشرين.
وفي هذا المقدار من التوراة ما يغنيك عن غيره، وفيها غير هذا كثير، فمن ذلك كما في الفصل الثامن عشر من السفر الثالث من التوراة ولفظه: احفظوا رسومي وأحكامي، فإن جزاء من عمل جما أن يحيا الحياة الدائمة
…
انتهى. ولا حياة دائمة قي الدنيا بل في الآخرة.
وفي الفصل الخامس من وصايا سليمان- عليه السلام ما لفظه: لأن أرجل الغباوة تحذر الذي يستعملونها، وتخطفهم بعد الموت إلى الجحيم
انتهى.
وفي الفصل السادس والعشرين من نبوة أشعيا ما لفظه: تقوم الموات، ويستيقظ الذين في القبور. انتهى.
وفي الفصل الثاني عشر من نبوة دانيال ما لفظه: وكثير من الهاجعين في تراب الأرض يستيقظون هؤلاء لحياة أبدية، وهؤلاء لتعبير وخزي أبدي. انتهى.
وأما في الزبور فنصوص كثيرة. فمنها في التصريح بذكر النار في المزمور الثامن والأربعين من الزبور ما لفظه اجعلوا في الجحيم مثل الغنم والموت يرعاهم، ويسود عليهم المستقيمون بالغداة، ومعونتهم تتلى في الجحيم، ومن مجدهم أقصوا، بل إن الله ينقذ نفسي من يد الجحيم إذا أخذني. انتهى.
وفي المزمور الرابع والخمسين من الزبور ما لفظه: ليأت الموت عليهم، وينحدروا إلى الجحيم
…
انتهى.
وفي المزمور الحادي والثمانين من الزبور ما لفظه: قام قي مجمع الآلهة بجكم إلى متى يقضون
ظلما، ويأخذون بوجوه الخطاة احكموا لليتيم والفقير، خلصوه من يد الخاطيء، لم يعلموا ولم يفهموا، لأنهم في الظلمة يسلكون.
وفي الإنجيل ذكر الجنة والنار في مواضع كثيرة، ففي الفصل التاسع من الإصحاح الأول من الإنجيل الذي جمعه القديس متى (1) ما لفظه: ومن قال يا أحمق وجبت عليه نار جهنم، فإن قدمت قربانا على المذبح، وذكرت هناك أن أخاك واجد عليك شيئا فدع قربانك هناك أمام المذبح، وامض أولا فصاع أخاك، وحينئذ ائت وقدم قربانك. كن متفقا مع خصمك سريعا ما دمت معه في الطريق، لئلا يسلمك الخصم إلى الحاكم، والحاكم يسلمك إلى المستخرج، وتلقى في السجن. الحق أقول لك: إنك لا تخرج [4] من هناك حتى تؤدي آخر فلس عليك، قد جمعتم أنه قيل للأولين: لا تزن وأنا أقول لكم إن كل من نظر إلى امرأة ليشتهيها فقد زنى ها في علبه، وإن شككتك عينك اليمين فاقلعها وألقها عنك فهو خير لك أن تهلك أحد أعضائك، ولا يلقى جسدك كله في جهنم، وإن شككتك يدك اليمين فاقطعها وألقها عنك بم فإنه خير لك أن هلك أحد أعضائك ولا يلقى جساك كله في جهنم
…
انتهى.
وفي الفصل الثامن والعشرين منه ما لفظه: ولا تخافوا ممن يقبلون الجسد، ولا يستطيعون أن يقبلوا الروح، لكن خافوا بالحرى ممن يقدر أن يهلك النفس والجسد في جهنم .... . انتهى.
وفي الفصل التاسع والثلاثين منه (2) ما لفظه: هكذا يكون في منتهى هذا الدهر يرسل ملائكته، ويجمعون من مملكته كل الشكوك، وفاعلي الإثم، فيلقونهم في أتون النار، هناك يكون البكاء وصرير الأسنان. ومثل هذا في الفصل الأربعين منه.
فانظر كيف صرح هاهنا بحشر الأجساد فقال: ولا يلقى جسدك كله في جهنم. ثم
(1)"الإنجيل متى"(5/ 25 - 26). وانظر "إنجيل لوقا "(13/ 57 - 59).
(2)
أي " إنجيل متى"(5/ 6 - 7).
صرح بجمع الملائكة لها، وإلقائها في النار، فإن هذا لا يكون إلا للأجساد، وهكذا البكاء وصرير الأسنان لا يكون إلا من جسم.
وفي الفصل الخامس والخمسين منه صرح بذكر دخول النار المؤبدة، ويذكر دخول جهنم.
وفي الفصل الثالث والسبعين منه ما لفظه: فإن الزنادقة الذين بقولون ليست قيامة
…
انتهى.
فانظر إلى هذا النص الصريح بالقيامة، وإلى التصريح بأن الذين يقولون لا قيامة هم الزنادقة، وكفى بهذا دافعا قي وجه من زعم أن إثبات القيامة إنما جاءت به شريعة الإسلام، ولم يكن مذكورا في الشرائع المتقدمة عليها فيقال له: بل الشرائع كلها متفقة على إثبات القيامة، ولكنه أنكر ذلك زنادقة في الشريعة السابقة كما أنكره زنادقة في هذه الشريعة المحمدية.
وفي الفصل الثالث والثمانون منه ما لفظه: إن الرب يقول لأهل الميسرة يوم القيامة: اذهبوا يا ملاعين إلى النار المؤبدة المعدة لإبليس وملائكته. انتهى.
وفي هذا [5] التصريح ما لا يحتاج معه إلى زيادة. وإلى هنا انتهى النقل من الإنجيل للمسيح- عليه السلام الذي جمعه متى ..
وفي إنجيل المسيح- عليه السلام الذي جمعه القديس مرقص في الفصل الثلاثين منه ما لفظه: وإن شككتك يدك فاقطعها فخير لك أن تدخل إلى الحياة، أعسم (1) من أد تكون بيدين وتذهب إلى جهنم، إلى النار التي لا تطفئ، حيث دودهم لا تموت، ونارهم لا تطفئ. وكرر هذا اللفظ في هذا الفصل.
(1) العسم: يبس في المرفق والرسغ تعوج منه اليد والقدم.
وعمسم عسما وهو أعسم، والأنثى عسماء، والعسم: انتشار رسغ اليد من الإنسان.
" لسان العرب "(9/ 212).
وفي الفصل الحادي عشر من الإنجيل للمسيح- عليه السلام الذي كتبه يوحنا (1) ما لفظه: أقول لكم: إن من يسمع كلامي ويؤمن. ممن أرسلني فله الحياة المؤبدة، وليس يحضر إلى الدينونة، بل قد انتقل من الموت إلى الحياة. وفي هذا الفصل أيضًا ما لفظه: فلا تعجبون من هذا، فإنه ستأتي ساعة يسمع فيها جميع من في القبور صوته، فيخرج الذين عملوا الصالحات إلى قيامة الحياة، والذين عملوا السيئات إلى قيامة الدينونة
…
انتهى.
وفي الفصل الخامس عشر منه (2) ما لفظه: اعملوا لا للطعام البائد، بل للطعام الباقي للحياة المؤبدة. انتهى.
وفي هذا التصريح بالطعام في الحياة المؤبدة ما يتبين لك به بطلان ما قاله ابن أبي الحديد في كلامه الذي حكيناه سابقا أن الإنجيل صرح بانتفاء ذلك، يعني الأكل والشرب تصريحا لا يبقى بعده ريب لمرتاب.
وليت شعري أين وجد هذا التصريح؟ ومن رواه له؟ فقد كررنا مطالعة الأناجيل الأربعة فلم نجد من ذلك شيئا قط، بل وجدنا ما يخالفه كما جمعت فهو كذب على الإنجيل ليس في ريب لمرتاب.
وفي الفصل السادس عشر منه ما لفظه: يكون له الحياة المؤبدة، وأنا أقيمه في اليوم الآخر. انتهى.
وفي الفصل السابع عشر منه ما لفظه: الحق والحق أقول لكم أن من يؤمن له حياة دائمة
.. انتهى.
وفي الإنجيل الذي جمعه لوقا (3) في الفصل العشرين منه ما لفظه: فأما أن الموتى
(1)"إنجيل يوحنا "(6/ 27).
(2)
أي " إنجيل يوحنا "(4/ 35 - 36).
(3)
" إنجيل لوقا "(23/ 43).
يقومون فقد أنبأ بذلك موسى.
وفي الفصل الثالث والعشرين منه ما لفظه: إن المسيح قال للمصلوب الذي امن به: إنك تكون معي في الفردوس.
ولنقتصر على هذا [6] المقدار من النقل عن كتب الله السابقة ونذكر لك هاهنا طرفا مما وعدناك به من تحريفات (1) زنديق الملة اليهودية ابن ميمون المتقدم ذكره فنقول: قال اللين في كتابه المسمى بالمشنى بعد اعترافه فيه كما حكيناه عنه سابقا ما لفظه: اعلم أنه كما لا يدرك الأعمى الألوان، ولا يدرك كذلك الأصم الأصوات، ولا العنين شهوة الجماع، كذلك لا تدرك الأجسام اللذات النفسية، وكما لا يعلم الحوت استقص النار لكونه قي ضده كذلك لا يعلم في هذا العالم الجسماني بلذات العالم الروحاني، بل ليس عندنا بوجه لذة غير لذات الأجسام، وإدراك الحواس من الطعام والشراب والنكاح، وما سمي غير ذلك فهو عندنا غير موجود، ولا نميزه، ولا ندركه على بادي الرأي إلا بعد تحذق كثير، وإنما وجما ذلك لكوننا في العالم الجسماني في لذات، فلا ندرك إلا لذته. فأما اللذات النفسانية فهي دائمة غير منقطعة، وليس بينها وبن هذه اللذة نسبة بوجه من الوجوه.
ولا يصح لنا قي الشرع ولا عند الإلهيين من الفلاسفة أن نقول: إن الملائكة والكواكب والأفلاك ليس لها لذة، بل لهم لذة عظيمة جدا لما عقلوه من الباري- عز
(1) يستدل النصارى على ذلك بما ورد في " إنحيل متى "(22/ 22 - 35) و"مرقس "(12/ 18 - 25) و"لوقا"(20/ 27 - 35): (حين جاء إلى المسيح صدوقون- وهم فرقة مر اليهود- يسألونه عن امرأة تزوجت بسبعة أزواج واحدا تلو الآخر فلمن من السبعة تكون زوجة له في يوم القيامة؟
فقال المسيح: تضلون إذ لا تعرفون الكتب ولا قوة الله لأنهم في القيامة لا يزوجون ولا يتزوجون بل يكونون كملائكة الله في السماء). .
وهذا النص من تحريف وأباطيل النصارى: فكما نعرف أن الأنبياء عليهم السلام قد بشروا المؤمنين بالجنة وما فيها من الملذات والنعيم. وكما ورد في نصوص التوراة والإنجيل عندهم قبل التحريف.
وجل-، وهم بذلك في لذة غير منقطعة، ولا لذة جسمانية عندهم، ولا يدركونها، لأنه ليس لهم حواسي مثلنا يدركون به ما ندرك نحن، وكذلك نحن إذا تزكى منا من تزكى، وصار بتلك الدرجة بعد الموت لا يدرك اللذات الجسمانية، فلا يريدها كما لا يريد الملك عظيم الملك أن ينخلع من ملكه ليرجع يلعب بالكرة في الأسواق.
وقد كان في زمان ما بلا محالة يفضل اللعب بتلك الكرة على الملك، وذلك في حين صغر سنه عند جهله بالأمرين جميعا، كما نفضل نحيط اليوم اللذة الجسمانية على النفسانية.
وإذا تأملت أمرها بين اللذتين نجد خساسة اللذة الواحدة، ورفقه الثانية، ولو في هذا العالم. وذلك أنا [7] نجد أكثر الناس يحملون أنفسهم وأجسامهم من الشقاء والتعب ما لا مزيد عليه، كي ينال رفعة، أو يعظمه الناس، وهذه اللذة ليست بلذة طعام أو شراب، وكذلك كثير من الناس يؤثر الانتقام من عدوه على كثير من لذات الجسم، وكثير من الناس يجتنب أعظم ما يكون من اللذات الجمسمانية خشية أن يناله في ذلك جزاء، أو خشية من الناس.
فإذا كانت حالتنا في هذا العالم الجسماني هكذا فناهيك بالعالم النفساني، وهو العالم المستقبل الذي تعقل أنفسنا من الباري فيه مثلما تعقل الأجرام العلوية أو أكثر، فإن تلك اللذة لا تتجزأ، ولا تتصف، ولا يوجد مثل تمثل تلك اللذة، بل كما قال النبي داود متعجبا من عظمتها: ما أكثر وما أجزل خيرك الذي خبأته للصالحين الطائعين لأمرك!.
وهكذا قال العلماء: العالم المستقبل ليس فيه لا أكل ولا شرب ولا غسل ولا دهن ولا نكاح، بل الصالحون باقون فيه، ويستلذون من نور الله تعالى، يريدون بذلك أن تلك الأنفس تستلذ مما تعقل من الباري كما تستلذ سائر طبقات الملائكة مما عقلوا من وجوده- سبحانه- فالسعادة والغاية القصوى هي الوصول إلى هذا الملأ الأعلى (1)،
(1) والمسلمون أثبتوا جميع أنواع اللذات: سطعا، وبصرا، وشما وذوقا ولمسا، للروح والبدن جميعا وكان هذا هو الكمال: لا ما يثبته أهل الكتاب ومن هو شر منهم من الفلاسفة الباطنية، وأعظم لذات الآخرة لذة النظر إلى الله سبحانه وتعالى. كما قي الحديث الصحيح:" فما أعطاهم شيئا أحب إليهم من النظر إليه أخرجه مسلم رقم (297) والترمذي رقم (2552) وابن ماجه رقم (187) وهو حديث صحيح. وهو نمرة معرفته وعبادته في الدنيا، فأطيب ما في الدنيا معرفته، وأطيب ما في الآخرة النظر إليه سبحانه ولهذا كان التجلى يوم الجمعة في الآخرة على مقدار صلاة الجمعة في الدنيا. "
مجموع فتاوى " لابن تيمية (14/ 163).".
والحصول في هذا الحد هو بقاء للنفس كما وصفنا إلى مالا نهاية له ببقاء الباري- جل اسمه- وهذا هو الخير العظيم الذي لا خير يقاس به، ولا لذة يمثل بها، وكيف يمثل الدائم. مما لا نهاية له بالشيء المنقطع! وهو قوله تعالى في نص التوراة: لكي يطيب لك في العالم الذي كله طيب، وتطيل أيامك في العالم الذي كله طائل، والشقاوة الكاملة هو انقطاع النفس وتلافها، وأن لا يحصل باقية، وهو القطع المذكور في التوراة كما يبن. وقال انقطاعا ينقطع من هذا العالم، وينقطع من العالم المستقبل، فكل من خلد إلى اللذات [8] الجسمانية، ونبذ الحق، وآثر الباطل انقطع من ذلك البقاء والعلو، ويبقى مادة منقطعة فقط.
وقد قال النبي يشعيا: إن العالم المستقبل ليس يدرك بالحواس وهو قوله: لا عين تقدر أن تراه. وأما الوعد والوعيد المذكور في التوراة في لذات هذا العالم فتأويله ما أصف لك، وذلك أنه يقول لك: إن امتثلت هذه الشرائع نعينك على امتثالها والكمال فيها، ونقطع عنك العلائق كفها، لأن الإنسان لا يمكنه العبادة لا مريض، ولا جائع، ولا عاطش، ولا في فتنة، فوعد بزوال هذه كلها، وأنهم يصحون ويتذهنون حتى تكمل لهم المعرفة، ويلتحقون بالعالم المستقبل، فليس غاية التوراة أن تخصب الأرض، وتطول الأعمار، وتصح الأجسام، وإنما يعان على امتثالها هذه الأشياء كلها.
وكذلك إن تعدوا كان عقابهم أن تحدت عليهم تلك العوائق كلها حتى لا يمكن أن يعملوا صالحة، فإذا تأملت هذا التأمل العجيب تجده كأنه يقول: إن فعلت بعض هذه
الشرائع. بمحبة وحرص نعينك عليها كلها، بأن نزيل عنك العوائق والموانع، وإن ضيعت منها بعضها استخفافا نجلب عليك موانع تمنعك من جميعها، حتى لا يحصل لك كلام ولا بقاء
…
انتهى.
فهذا خلاصه كلام الملعون ابن ميمون زنديق اليهود، وغاية ما جاء به قد أوردناه لك هاهنا لتعرف أنه لم يربطه بشيء من كلام الله- سبحانه- يصفح دليلا عليه، بل هو مجرد زندقة، والتوراة والزبور والإنجيل منادية بخلافه. وهانحن نوضح لك فسماد كلامه فنقول: أولاً: إن حصول هذه اللذة النفسانية (1) التي ذكرها لا تنافي حصول اللذة الجسسمانية
(1) قال ابن تيمية في مجموع فتاوى (4/ 312 - 314): الأكل والشرب في الجنة: ثابت بكتاب الله وسنة رسوله، وإجماع المسلمين وهو معلوم بالاضطرار من دين الإسلام، وكذلك الطيور والقصور في الجنة بلا ريب كما وصف ذلك في الأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك أن أهل الجنة لا يبولون ولا يتغوطون ولا يبصقون، لم يخالف من المؤمنين بالله ورسوله أحد، وإنما المخالف في ذلك أحد رجلين إما كافر، وإما منافق.
أما الكافر فإن اليهود والنصارى ينكرون الأكل والشرب والنكاح في الجنة يزعمون أن أهل الجنة إنما يتمتعون بالأصوات المطربة والأرواح الطيبة مع نعيم الأرواح، وهم يقرون مع ذلك بحشر الأجساد مع الأرواح ونعيمها وعذابها. .
وأما طوائف من الكفار وغيرهم من الصابئة والفلاسفة ومن وافقهم فيقرون بحشر الأرواح فقط، وأن النعيم والعذاب للأرواح فقط. .
وطوائف من الكفار والمشركين وغيرهم ينكرون المعاد بالكلية، فلا يقرون: لا معاد الأرواح، ولا الأجساد، وقد بين الله تعالى في كتابه على لسان رسوله أمر معاد الأرواح والأجساد، ورد على الكافرين والمنكرين لشيء من ذلك بيانا في غاية التمام والكمال.
وأما المنافقون من هذه الأمة الذين لا يقرون بألفاظ القرآن والسنة المشهورة فإنهم يحرفون الكلم عن مواضعه، ويقولون هذه أمثال ضربت لنفهم المعاد الروحاني، وهؤلاء مثل القرامطة الباطنية الدين قولهم مؤلف من قول المجوس والصابئة، ومثل المتفلسفة الصابئة المنتسبين إلى الإسلام وطائفة ممن ضاهوهم من كاتب أو متطبب أو متكلم أو متصوف. .
فإن النبي صلى الله عليه وسلم بين ذلك بيانا شافيا قاطعا للعذر وتواتر دلك عند أمته خاصها وعامها، وقد ناظره بعض اليهود في جنس هذه المسألة وقال: يا محمد! أنت تقول: أن أهل الجنة يأكلون ويشربون ومن يأكل ويشرب لابد له من خلاء. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " رشح كرشح المسك ".
أخرجه أحمد (4/ 467، 371) والحديث له اصل في الصحيحين من حديث أبي هريرة من نحير ذكر القصة. البخاري رقم (3245) ومسلم رقم
(17)
. من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أول زمرة تلج الجنة صورتهم على صورة القمر ليلة البدر، لا يبصقون فيها ولا يمتخطون ولا يتغوطون آنيتهم فيها الذهب، أمشاطهم من الذهب والفضة ومجامرهم الألوة ورشحهم المسك ولكل واحد منهم زوجتان يرى مخ سوقهما من وراء اللحم من الحسن لا اختلاف بينهم ولا تباغض، قلوبهم قلب واحد يسبحون الله بكرة وعشيا".
وانظر: كتاب " حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح أو صفة الجنة " لابن قيم الجوزية.
التي وردت في كتب الله- سبحانه-
…
وقوله: وليست بلذة طعام أو شراب مسلم أن اللذات النفسانية ليست بلذة طعام، ولا بلذة شراب، ولكن من أين يلزم أنه لا لذة طعام ولا شراب في تلك الدار؟.
فإن كان بالشرع فكتب الله جميعها تدفع [9] ذلك، كما أوضحناه في النصوص السابقة، وإن كان بالعقل فليس في العقل ما يقتضي إثبات اللذة النفسانية، ونفي اللذة الجسمانية، ولا مدخل للعقل هاهنا، ولا معول عليه وإن كان بغير عقل ولا شرع بل. بمجرد الزندقة والمروق من الأديان كلها، والمخالفة لما ورد في كتب الله- سبحانه- فبطلان ذلك مستغنٍ عن النبيان.
وأما قوله بل كما قال النبي داود متعجبا من عظمتها: ما أكثر وما أجزل خيرك الذي خبأته للصالحين الطائعين لأمرك!. فهذا تعجب منه- عليه السلام من كثرة خير الله، وجزالة ما خبأه للصالحين من عباده الطائعين لأمره في الدار الآخرة. وهو دليل على الملعون ابن ميمون لا له، فإن كلامه هذا هو ككلام سائر أنبياء الله في استعظام ما أعده الله للصالحين من عباده كما قال نبينا محمد- صلى الله عليه واله وسلم-: " في الجنة
مالا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر " (1). ومثله ما في القرآن الكريم من قوله تعالى:{فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين} (2).
وأما قوله: وهكذا قال العلماء: العالم المستقبل ليس فيه لا أكل ولا شرب .... إلخ. فيقال: إن أردت علماء الملة اليهودية فهم الذين لعنوك وكفروك بسبب هذه المقالة كما قدمنا، وهم يخالفونك ويثبتون المعاد الجسماني، واللذات الجسمانيه، ويكفرون من لم يثبتها كما كفروك، ويلعنونه كما لعنوك. وإن أراد علماء الملة النصرانية، أو علماء الملة الإسلامية فكذب بحت، وزور محض، تدفعه نصوص القرآن والإنجيل.
أما نصوص القرآن فهو من فاتحته إلى خاتمته مصرح بالجنة والنار، وبعثة الأجسام وتنعمها بالمطعم والمشرب والمنكح وغير ذلك، أو تعذيبها. مما اشتمل عليه القران من تلك الأنواع. وأما الإنجيل فقد قدمنا سياق نصوصه. وأما احتجاجه بنص التوراة [10] بقوله: لكي يطيب لك في العالم الذي كله طيب، وتطيل أيامك في العالم الذي كله طائل. فهذا دليل على الملعون ابن ميمون لاله؛ فإن الخطاب في الدنيا. مجموع الشخص الذي هو الجسم والروح، وظاهره أنه يكون له هذا على الصفة التي خوطب، وهو عليها. ومن زعم أن يكون ذلك لبعضه فهو يدعي خلاف الظاهر، ولكن المحرف المتزندق لا مقصد له إلا التلبيس على أهل الأديان.
وكذلك قوله: وقد قال النبي يشيعا أن العالم المستقبل ليسر يدرك بالحواس. وهو قوله: لا عين تقدر تراه، فإن هذا هو مثل ما قدمنا من كلام الأنبياء في استعظام ما أعد الله لعباده الصالحين في الدار الآخرة.
وهذا تعرف أنه لم يكن في كلام هذا الملعون الزنديق ما يتمسك به متمسك، أو يغتر به مغتر، بل هو خلاف ما في كتب الله جميعا كما قدمنا، وخلاف ما عند علماء
(1) أخرجه البخاري رقم (3244) ومسلم رقم (2824).
(2)
[السجدة: 17]
الملل، بل خلاف ما أقر به هو في كلامه السابق إقرارا مكررا، فيا عجبا لمن يتمسك. ممثل هذا الكلام الذي لم يجر على نمط شرع ملة من الملل، ولا وافق نصا من نصوص كتب الله- سبحانه-! ويجعله نفس ما وردت به التوراة والإنجيل، ويجزم به، ويحرر في كتبه ذلك مظهرا أن الشريعة المحمدية جاءت. مما لم يكن في الشرائع السابقة، زاعما أن ذلك دليل على كمالها، ومبطنا ما أبطنه هذا الزنديق ابن ميمون اليهودي.
وبالجملة فكلام ابن ميمون هذا كما هو مخالف للملة اليهودية، ولما جاءت به التوراة، وما قاله علماء اليهود، وهو أيضًا مخالف للملة النصرانية، ولما جاء به الإنجيل، وقاله علماء النصارى، ومخالف أيضًا لما جاءت به الشريعة الداودية، وما صرح به الزبور، ونحالف لما جاءت به الملة الإسلامية، وما صرح به القرآن الكريم، وأجمع عليه علماء الإسلام، بل مخالف لشرائع الأنبياء جميعا كما حكى [11] ذلك عنهم القران الكريم. فنحن وإن لم نقف على غير التوراة والزبور ونبوات أنبياء بني إسرائيل، والإنجيل من شرائع الأنبياء السابقة فقد حكاها لنا القرآن [الكريم](1) في غير موضع، وكما أن كتب الله- سبحانه- التي نقلنا نصوصها فيما سبق ترد ما نقله ابن أبي الحديد، ومن تقدمه كابن سيناء (2) زاعمين أنه الذي في شريعة موسى وعيسى- عليهما السلام، وأنه الثابت في التوراة (3) والإنجيل (4). وكذلك يرده القرآن كقوله سبحانه حاكيًا عن
(1) زيادة يقتفيها السياق.
(2)
وقوله: " في أن المعاد لا يكون إلا روحانيا فلا تتصور اللذات الحسية إذ شرط إدراكها تعلق النفس بالبدن ". وما تقدم في الرسالة يبطله.
وانظر: كتابه " الإشارات والتنبيهات "(ص 749 - 751).
وقد رد ابن تيمية في كتابه " درء تعارض العقل والنقل " على الإشارات والتنبيهات لابن سينا في مواضع مختلفة منه.
(3)
تقدم ذكر نماذج على ذلك.
(4)
تقدم ذكر نماذج على ذلك.
اليهود: {وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة} (1). وقوله: {وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى} (2). وقوله: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} (3). وقوله حاكيا عن مؤمن آل فرعون: {وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ} إلى قوله تعالى وإن الآخرة هي دار القرار. . . إلى قوله: {فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب} (4) وقوله: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} (5){فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ} وقال: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} (6) ومن تتبع ما في كتاب الله- سبحانه- من حكاية نعيم أهل الجنة، وعذاب أهل النار عن الملل السالفة، وعن كتب الله المنزلة عليها وجده كثيرا جدا لا يتسع المقام لبسطه. وقد بعث النبي- صلى الله عليه واله وسلم- وأهل الملة اليهودية والملة النصرانية
(1)[البقرة: 80]
(2)
[البقرة: 111]
(3)
المائدة: 72
(4)
[غافر: 32 - 40]
(5)
[آل عمران: 55 - 57]
(6)
[الأعلى: 16 - 19]
في أكثر بقاع الأرض، ولم نسمع عن أحد منهم أنه أنكر ذلك، أو قال 1121 هو خلاف ما في التوراة والإنجيل. وقد سكن النبي- صلى الله عليه واله وسلم- بالمدينة الشريفة، ونزل عليه أكثر القرآن ها، وكان اليهود متوافرين فيها، وفيما حولها من القرى المتصلة ها، وكانوا يسمعون ما يزله الله على رسوله من القرآن، وينكرون ما ورد مخالفا لما في التوراة، ويجادلون أبلغ مجادلة كما حكى ذلك القران الكريم، وتضمنته كتب السير والتاريخ، ولم يسمع أن قائلا قال له أنك تحكى عن التوراة ما لم يكن فيها من البعثة، ونعيم الجنة وعذاب النار. وقد كانوا يتهالكون على ذلك، ويبالغون في تتبعه، بل كانوا في بعض الحالات ينكرون وجود ما هو موجود في التوراة كالرجم (1)، فكيف يسكتون عن هذا الأمر العظيم مع سماعهم لحكاية القرآن له عنهم وعن التوراة! وهل كانوا يعجزون عند أن يسمعوا ما حكاه الله عنهم من قولهم:{وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة} (2). أن يقولوا: ما قلنا هذا، ولا نعتقده، ولا جاءت به شريعة موسى. وهكذا عند سماعهم قوله تعالى:{وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى} (3). وعند سماعهم قوله تعالى: {إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى} (4).
وبهذا يتبين لك أن هذه المقالة لم تسمع ها اليهود ولا النصارى إلا في عصر الزنديق ابن ميمون- عليه لعائن الله-. وفي هذا المقدار كفاية لمن له هداية.
حرره مؤلفه محمد بن علي الشوكاني غفر الله لهما في بعض فار يوم السبت، لعله الثاني عشر من شهر ربيع الآخر، سنة 1224 هـ، حامدا لله، ومصليا ومسلما على
(1) تقدم ذكر ذلك (505).
(2)
[البقرة: 80]
(3)
[البقرة: 111]
(4)
[الأعلى: 18 - 19]
رسوله وآله (1).
(1) في هامش المخطوط ما نصه: ((الحمد لله قد تعقبت هذه الرسالة رسالة مطولة سميتها: " إرشاد الثقات إلى اتفاق الشرائع على التوحيد والمعاد والنبوات "وهي في المجلد الرابع من الفتاوى".