المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌بحث في الرد على من قال إن علوم الإنسان تسلب عنهم في الجنة - الفتح الرباني من فتاوى الإمام الشوكاني - جـ ٢

[الشوكاني]

فهرس الكتاب

الفصل: ‌بحث في الرد على من قال إن علوم الإنسان تسلب عنهم في الجنة

‌بحث في الرد على من قال إن علوم الإنسان تسلب عنهم في الجنة

تأليف

محمد بن علي الشوكاني

حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه

محمد صبحي بن حسن حلاق

أبو مصعب

ص: 669

وصف المخطوط

1 -

عنوان الرسالة: " بحث في الرد على من قال إن علوم الناس تسلب عنهم في الجنة).

2 -

موضوع الرسالة: في العقيدة.

3 -

أول الرسالة: "بسم الله الرحمن الرحيم، إياك نعبد وإياك نستعين، ولك الحمد يا رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وآله وصحبه الأكرمين، وبعد: فإنه وصل السؤال

4 -

آخر الرسالة: وفي هذا المقدار كفاية لمن له هداية والله ولي التوفيق حرره كاتبه محمد بن علي الشوكاني غفر الله لهما في يوم السبت تاسع شهر شوال سنة 1245هـ.

5 -

نوع الخط: خط نسخي معتاد.

6 -

الناسخ: المؤلف: محمد بن علي الشوكاني.

7 -

عدد الورقات: (3) ورقات.

8 -

عدد الأسطر في الصفحة: 34 سطرا.

9 -

عدد الكلمات في السطر: 12 - 14 كلمة تقريبا.

10 -

الرسالة من المجلد الخامس من مجلدات الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

ص: 671

بسم الله الرحمن الرحيم

إياك نعبد، وإياك نستعين، ولك الحمد يا رب العالمين. والصلاة والسلام على سيد المرسلين وآله وصحبه الأكرمين، وبعد:

فإنه وصل السؤال عن الكلام الذي وقعتم عليه للحافظ الذهبي (1) من أن علوم أهل الجنة تسلب عنهم في الجنة، ولا يبقى لهم شعور بشيء منها، فاقشعر جلدي عند الإطلاع على هذا الكلام من مثل هذا الحافظ الذي أفنى عمره في الكتاب والسنة والتراجم لعلماء هذا الشأن. وقد كنت قديما وقفت على شيء من هذا، لكن لفرد شاذ من أفراد الحكماء قاله لا عن دراية ولا رواية، فلم ألمه لجهله بالكتاب والسنة. فيا ليت شعري كيف يجري قلم أحقر عالم من علماء الشريعة. ممثل هذا! وعجبت ما أدخل هذا الحافظ (2) في مثل هذه المداخل المقفرة المكفهرة التي يتلون الخريت (3) في شعابها وهضابها، ويتحمل هذا الثقل الثقيل، والعبء الجليل! والحاصل أن الطوائف الإسلامية على

(1) هو محمد بن أحمد بن عثمان ابن قايماز بن عبد الله التركماني الأصل، الفارقي ثم الدمشقي، أبو عبد الله شمس الدين الذهبي الحافظ الكبير المؤرخ الكبير صاحب التصانيف السائرة في الأقطار ولد ثالث شهر ربيع الآخر سنة 673 هـ.

قال ابن حجر: حتى كان كثر أهل عصره تصنيفا، وجمع تاريخ الإسلام فأربى فيه على من تقدمه بتحرير أخبار المحدثين خصوصا.

من مصنفاته: النبلاء، العبر، تلخيص التاريخ، طبقات الحفاظ، طبقات القراء. الميزان في نقد الرجال.

قال البدر النابلسي في مشيخته: كان علامة زمانه في الرجال وأحوالهم جيد الفهم ثاقب الذهن.

انظر: الدرر الكامنة (3/ 336 رقم 894).

البدر الطالع (ص 626 رقم 411)

(2)

أي الذهبي رحمه الله تعالى.

(3)

الخريت: الماهر الذي يهتدي لأخرات المفاوز، وهي طرقها الخفية ومضايقها.

لسان العرب (4/ 52).

ص: 675

اختلاف مذاهبهم، وتباين طرقهم متفقون على أن عقول أهل الجنة تزداد صفاء وإدراكا لذهاب ما كان يعتريهم من الكدورات الدنيوية، وكيف يسلبون ما هو عندهم من أعظم النعم، وأوفر القسم! وهم في دار فيها ما تشتهيه الأنفس، وتلذ به الأعين، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر (1). فكأن هذا القائل لم يقرأ القرآن الكريم، وما أسهل عليه من تحاور أهل الجنة (2) وأهل النار وتخاصمهم بتلك الحجج التي لا تصدر إلا عن أكمل الناس عقلا، وأوفر الخلائق فهما! وما يذكرونه من حالهم الذي كانوا عليه في أهليهم، بل ما يودونه من إبلاغ الأحياء عنهم ما صاروا فيه من النعم قال {يَالَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} (3) وورد مثل هذا المعنى في القرآن التي رفع لفظه من المصحف، كما ثبت في الصحاح (4) تركيب

(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (8498) ومسلم رقم (2/ 2824) من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قال الله تعالى: أعددت لعبادي الصالحين ملا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، فاقرؤوا إن شئتم: فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون".

(2)

(منها) قوله تعالى: {إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَقَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِين} [المدثر: 39 - 47].

ومنها قوله تعالى: {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} [الأعراف: 50 - 51].

(3)

[يس: 26 - 27].

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه رقم (4093) ورقم (4095).

ص: 676

الحديث عن أولئك الشهداء بلفظ: "بلغوا قومنا أن قد لقب ربنا فرضي عنا وأرضان! " وكذلك ما ثبت من اجتماع أهل الجنة (1) ومذاكرتهم. مما كانوا فيه في الدنيا، وما صاروا إليه في الجنة كما في الآيات المشتملة على ما في الجنة مما أعده الله لهم حيث يقول: وفيها (2) وفيها في آيات كثيرة، وذكر أن أهلها على ...............

= من حديث عائشة رضي الله عنها " ..... لما قتل الذين ببئر معونة وأسر عمرو بن أمية الضمري

قال له عامر بن الطفيل: من هذا؟ فأشار إلى قتيل، فقال له عمرو بن أمية: هذا عامر بن فهرة. فقال: لقد رأيته بعدما قتل رفع إلى السماء حتى إني لأنظر إلى السماء بينه وبين الأرض. ثم وضع، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم خبرهم فنعاهم فقال: إن أصحابكم قد أصيبوا، وإنهم قد سألوا ربهم فقالوا: ربنا أخبر عنا إخواننا بما رضينا عنك ورضيت عنا ".

(1)

نعم أهل الجنة يزور بعضهم بعضا، ويجتمعون في مجالس طيبة يتحدثون ويذكرون ما كان منهم في الدنيا، وما من الله به عليهم من دخول الجنان.

قال تعالى في وصف اجتماع أهل الجنة: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر: 47].

وأخبرنا بلون من ألوان الأحاديث التي يتحدثون ما في مجتمعاتهم: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} [الطور:

25 -

28]. ومن ذلك تذكرهم أهل الشر الذين كانوا يشككون أهل الإيمان ويدعوهم إلى الكفران: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} [الصافات: 50 - 61] وقال سبحانه وتعالى: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ} [الزخرف: 71].

وقال سبحانه وتعالى: {وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:25]

(2)

قال سبحانه وتعالى: {وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} [الواقعة: 20 - 21]

ص: 677

سرر (1) متقابلين، وأنه يطوف عليهم ولدان مخلدون (2) وثبت أنهم يدخلون (3) الجنة على تلك الصفات من الجمال والشباب، وكمال الخلق، وحسن الهيئة [1ب] مردا جردا، أبناء ثلاث وثلاثين سنة، وأنهم يخيرون في الجنة ما يشتهون. وكم يعد العاد من الآيات القرآنية، والأحاديث (4) الصحيحة! ولا يتم هذا النعيم ولا بعضه إلا وهم ذو عقول

(1) قال تعالى: {في جنت النعيم عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ} (الصافات:

43 -

46). وقال تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ} [الدخان:

51 -

54]. وقال تعالى: {عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ} [الواقعة: 15 - 18]

(2)

قال تعالى: {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا} [الإنسان: 19].

وانظر الواقعة [17 - 18]

(3)

أخرج الترمذي في السنن رقم (3539) من حديث أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أهل الجنة جرد مرد كحل، لا يفنى شبابهم ولا تبلى ثيابهم" وهو حديث حسن.

وأخرج الترمذي في السنن رقم (3545) من حديث معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يدخل أهلي الجنة، جردا مردا مكحلين، أبناء ثلاثين أو ثلاث وثلاثين سنة ". وهو حديث حسن.

(4)

أخرج البخاري في صحيحه رقم (3254).

من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم " أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر والذين على آثارهم كأحسن كوكب دري في السماء إضاءة قلوبهم على قلب رجل واحد، لا! تباغض بينهم ولا تحاسد لكل امرئ زوجتان من الحور العين، يرى مح سوقهن من وراء العظم واللحم "

ص: 678

صحيحة بالضرورة العقلية، كما ثبت بالضرورة الدينية. ومعلوم أنهم إذا كانوا ذوى عقول فمهما وجدت معهم فهي بالإمكان العام والخاص قادرة على كسب ما تحدد لها من العلوم، ذاكرة لما حصل لها منها من قبل هذا ما لا يحتاج إلى بيان، ولا يفتقر إلى برهان. ولو فقدوها لفقدوا الإنسانية الكاملة، وصاروا مشاهن للدواب، وأي نعمة لمن عقل له كما هو مشاهد من المصابين بالجنون في الدنيا! وأي فائدة للمبالغة في نعيم من كان ذاهب العقل. مما ثبت في الكتاب والسنة من أنهم على صفات فوق صفاتهم في الدنيا. بمسافات! لا يقادر قدرها، ولا يحاط بكنهها. وكذلك لا يتم نعيمهم إلا بوجود الحواس (1) الظاهرة والباطنة، ولو فقدوا أحدها لما تنعموا كما ينبغي وكذا لو فقدوا

(1) أخرج مسلم في صحيحه. رقم (18/ 2835) من حديث جابر قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إن أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون، ولا يتفلون ولا يبولون ولا يتغوطون ولا يتمخطون" قالوا: فما بال الطعام؟ قال: " جشاء ورشح كرشح المسك، يلهمون التسبيح والتحميد، كما يلهمون النفس".

قال القاضي عياض في " إكمال المعلم بفوائد مسلم (8/ 368) تعليقا على الحديث: "أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون ": هذا مذهب أهل السنة وعامة المسلمين أن نعيم أهل الجنة وملاذها بالمحسوسات وغيرها من الملاذ العقليات كأجناس نعيم أهل الدنيا، إلا ما بينهما من الفرق الذي لا يكاد يتناسب، وأن ذلك على الدوام لا أخر له .... "

وقال القرطبي في "المفهم"(7/ 180): بأن نعيم أهل الجنة وكسوتهم ليس عن دفع ألم اعتراهم، فليس أكلهم عن جوع، ولا شرابهم عن ظمأ ولا تثيبهم عن نتن، وإنما هي لذات متوالية ونعم متناهية. وحكمة ذلك أن الله تعالى نعمهم في الجنة بنوع ما كانوا يتنعمون به في الدنيا وزادهم على ذلك مالا يعلمه إلا الله

".

وقال ابن تيمية في "مجموع فتاوى"(4/ 330): فإن أهل الجنة يتنعمون بالنظر إلى الله- سبحانه وتعالى ويتنعمون بذكره وتسبيحه ويتنعمون بقراءة القرآن ويقال لقارئ القرآن اقرأ وارق، ورتل- كما كنت ترتل في الدنيا فان منزلك عند آخر آية تقرؤها. ويتنعمون. بمخاطبتهم لربهم ومناجاته

ص: 679

بعضها لم يكن له شعور بالتنعم الذي وصفه الله- سبحانه-، وبالغ فيه. وأي فائدة لفاقد العقل! وأي شعور له بكونه على صفة كمالية في جماله، ولباسه الحرير والديباج وتحليه بالذهب والجواهر، وأكله من أطيب المأكل، وشربه من أنفس المشروب، وكذا لا نعمه تامة فضلا عن أن يكون فاضلا لمن كان أعمى أو أصم، أو لا يفهم شيئا، أو لا يذكر ما مضى له، ولا يفكر في ما هو فيه.

وإذا تقرر لك هذا علمت أن أهل الجنة لهم العقول الفائقة، والحواس الكاملة إلى حد يتقاصر عنه ما كان لهم من العقول والمشاعر في دار الدنيا، كما كان لهم الهيئة الفائقة هيئة الدنيا شبابا وجمالا، وقوة وفهما، وفكرا وذكرا، وحفظا وسلامة من كل نقص. ولو لم يكن الأمر هكذا لم يكن لهم فائدة. مما بولغ في شأنهم من الصفات، بل يعود ذلك بالنقص لما أثبت لهم منها في الجنة. هذا معلوم بالعقل والشرع، لا يتمارى فيه قط. وأقل حال أن يكون النعيم المحكوم لهم به في الجنة كتابا وسنة ناقصا. والمفروض أنه بالغ في الكمال إلى غاية فوق كل غاية هذا خلف يدافع نصوص الكتاب والسنة مدافعة يفهمها كل من له عقل وإدراك. فيا عجبا كل العجب من التجري على أهل هذه الدار التي هي دار النعيم المقيم على الحقيقة. مما ينغص نعيمهم، ويشوش حالهم، ويكدر [2أ] صفوهم، ويمحق ما أعده الله لهم! ومن التجري على الله- سبحانه-، وعلى رسوله. مما يستلزم عدم ثبوت ما أثبته الكتاب والسنة لهم، وتكديره وذهاب أثره، ومحق بركته! وأنت تعلم أن مثل هذا يستلزم الكفر الصراح. فأين هذا القادح الفادح من نعيم دار يعدل موضع سوط أحدهم فيها الدنيا بأسرها، وجميع ما فيها، ومن دار نصيف إحدى زوجاتهم يعدل الدنيا وما فيها، ومن دار لو أشرفت إحدى الجواري (1) المعدة لهم

(1) أخرج البخاري في صحيحه رقم (2796) من حديث أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " .... ولو أن امرأة من أهل الجنة اطلعت إلى أهل الأرض لأضاءت ما بينهما ولملأته ريحا، ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها".

وأخرج البخاري في صحيحه رقم (3245) وقد تقدم ذكره.

من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "

ولكل واحد منهم زوجتان يرى مخ سوقهما من وراء اللحم من الحسن"

ص: 680

على أهل الدنيا لفتنتهم أجمعين، كما ثبت في الأحاديث الصحيحة. ومع هذا قد ثبت قرآنا أنهم على سرر (1) متقابلين، وأنه يطوف عليهم ولدان مخلدون، وثبت سنة أنهم يجتمعون (2) ويزاورون (3). فليت شعري ما فائدة هذا الاجتماع والتزاور لمن لا عقل له، ولا فهم، ولا فكر، ولا ذكر!

والحامل أن التقول. بمثل هذا القول هو أن التقول على الله- سبحانه-. مما لم يقل، وعلى رسله، وعلى شرائعه. مما لم يكن منها. وقد ثبت في القرآن الكريم الحكم على المتقولين (4). مما هو معلوم لكل من يعرف القرآن، وإذا ثبت أن مثل هذا باطل في الدار

(1) تقدم ذكر ذلك (ص 678)

(2)

تقدم ذكر الآيات في ذلك.

وقد أخرج مسلم في صحيحه رقم (2833) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن في الجنة لسوقا يأتونها كل جمعة- فتهب ريح الشمال فتحثو في وجوههم وثيابهم ليزدادون حسنا وجمالا، فيرجعون إلى أهلهم وقد ازدادوا حسنا وجمالا، فتقول لهم أهلوهم، والله لقد ازددتم بعدنا حسنا وجمالا فيقولون: وأنتم والله لقد ازددتم بعدنا حسنا وجمالا "

(3)

وهى أحاديث ضعيفة انظر الترغيب (4/ 453 - 455). وحادي الأرواح ص 373 أما اجتماعهم ومذاكرتهم. مما كانوا في الدنيا وما صاروا إليه في الجنة فقد ورد في القرآن ذلك وقد تقدم ذكره

(4)

قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33].

وقال سبحانه وتعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ} [الأعراف: 37]

ص: 681

الآخرة، فانظر إلى هذه الدار دار الدنيا التي ليست بشيء بالنسبة إلى الدار الآخرة، لو قيل لأحدهم أنه سيكون لك ما تريد من جمال الهيئة وكمالها، ومن النعيم البالغ، ومن الرياسة التامة، ولكن ستصاب بالجنون، أو تفقد جميع المشاعر لقال لا ولا كرامة، دعوني أعش صعلوكا فقيرا شحاذا فهو أطيب لي مما عرضتموه علي، وأحب إلي مما جئتموني به.

خذوا رفدكم لا قدس الله رفدكم

سأذهب عنه لا علي ولا ليا

وإنما أوردنا لك هذه الأمور ليعلم أن الروح للإنسان إذا كان ساذجا كان كله ساذجا، إذ الروح هو الإنسانية التي يتميز بها صاحبها عن الدواب، وجميع ما ذكرنا من العقل والحواس الباطنة والظاهرة هو له، لا للحم ولا للدم ولا للعظم، فإذا كان الروح ساذجا فلم يبق إلا صورة اللحم والدم، وهو المقصود بقولهم في بيان ماهية الإنسان أنه حيوان ناطق، أي مدرك للمعقولات، وليس ذلك للقالب الذي هو فيه. وكما أن ما ذكرناه وقررناه هو إجماع الطوائف الإسلامية على إخلاف أنواعهم فهو أيضًا إجماع أهل الشرائع كلها كما تحكي ذلك كتب الله- عز وجل المرسلة على رسله، وتحكيه أيضًا كتبهم المؤلفة من أحبارهم ورهبانهم، فإنه لا خلاف بينهم في المعاد وفي النعيم المعد لأهل الجنة، كما حكاه الكتاب العزيز. وقد أوردنا من ذلك في الحرة الفاخرة (1) في إثبات الدار الآخرة، وفي إرشاد الثقات (2) إلى اتفاق الشرائع على إثبات التوحيد والمعاد والنبوات كثيرا من نصوص (3) التوراة والإنجيل والزبور وسائر كتب نبوات أنبياء الله

(1) يشير إلى الرسالة رقم (10) من هذا القسم " المقالة الفاخرة ".

(2)

وهى الرسالة رقم (9) من هذا القسم.

(3)

تقدم في تحقيق الرسالة رقم (10)، (9) من هذا القسم.

ص: 682

- تعالى-[2ب]، ولم يشذ منهم إلا اليهودي الزنديق موسى بن (1) ميمون، وقد تبرأ منه قدما اليهود، وحرموه أي: أخرجوه من دينهم، بل وكذلك النصارى، وإن لم يكن من أهل ملتهم، فقد صرحوا بخذلانه وزندقته.

قال البصراني في تاريخه (2): ورأيت كثيرا من يهود بلاد الإفرنج بأنطاكية وطرابلس يلعنونه ويسمونه كافرا انتهى.

قلت: وقد وقع لهذا الملعون من تحريف كثير ما يدل على إلحاده وزندقته، وقد رددت ما حرفه في المؤلفين المذكورين سابقا، وأوضحته بأتم إيضاح وأما يهود عصرنا فصاروا يعظمونه، وذلك لجهلهم بحقيقة الحال، وقد ذكرت لجماعة من أحبارهم بعض تحريفاته فلعنوه وتبرؤوا منه، وكما أن هذا الذي ذكرناه مجمع عليه بين أهل الملل التابعين لأنبيائهم فهو أيضًا مجمع عليه بين المشتغلين بالعقل والنظر كالكلدانيين (3) والصابئين أتباع صاب بن إدريس (4) كما رويناه في حكاية مذاهبهم التي ذهبوا إليها في شأن المعاد، ومنهم اليونان فإنهم جميعهم من عند اسقلنييوس (5) إلى عند ....

....

..

(1) تقدم ترجمة في الرسالة رقم (10) من هذا القسم (ص 496).

(2)

لم أعثر عليه؟!

(3)

الكلدانيون: يطلق هذا الاسم على تلك الأمة التي يرجح أنها نزحت من جنوب الجزيرة العربية فسكنت العراق وأقاموا ملكهم هناك بعد قضائهم علي السومريين وعرفت بلادهم باسم "بابل" وقد بعث الله بليهم إبراهيم الخليل يدعوهم إلى عبادة الله وحده ونبذ الأوثان التي كانوا يعبدونها. وذلك أيام ملك النمرود بن كنعان، وقد كسر خليل الله أصنامهم وجرت بينه وبينهم مجادلات انتهت بتفوقه على ملكهم كما قص الله ذلك في قوله تعالى:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ} إلى قوله تعالى: {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} .

أنظر النهاية لابن كثير (1/ 40 وما بعدها) كشف الظنون (1/ 29 - 30).

(4)

لم أعثر على ترجمته. بما لدي من كتب التراجم.

(5)

الأول فيمن تولى رئاسة الطب ضمن الثمانية- من عهده إلى عهد جالينوس- الفهرست لابن النديم (ص 398).

ص: 683

جالينوس (1) مصرحة كتبهم. مما للأرواح عليه في دار المعاد، وهكذا المشتغلون بالحكمة الإلهية من أهل الإسلام كالكندي ومن جاء بعده، كالفارابي (2) ومن جاء بعده منهم، كابن سينا (3) فإن كتبهم مصرحة بذلك تصريحا لا شك فيه ولا ريب. وفي هذا المقدار كفاية لمن له هداية والله ولي التوفيق. حرره كاتبه محمد بن علي الشوكاني- غفر الله لهما- في صبح يوم السبت تاسع شهر شوال سنة 1245. [3أ]

(1) ظهر جالينوس بعد 665 سنة من بقراط وانتهت إليه الرياسة في عصره وهو الثامن من الرؤساء الذين أولهم استليادس مخترع الطب وكان معلم جالينوس ارمينس الرومي وأخذ عن اغلوقن وله إليه مقالات. وكان جالينوس وجيها عند الملوك، أكثر أسفاره إلى مدينة رومية. من كتبه [الفرق، الصناعة، كتب العلل والأغراض، الحمايات، التشريح الكبير، ..... ] ومعنى جالينوس الساكن.

انظر الفهرست لابن النديم (ص 402 - 405)

(2)

أبو نصر محمد بن محمد بن محمد بن طرفان. أصله من الفاريان من أرض خراعان من المتقدمين في صناعة المنطق والعلوم القديمة.

من كتبه مراتب العلوم، تفسير قطعة من كتاب الأخلاق لارسطاليس وفسر من كتب ارسطاليس: كتاب القياس قاطيفورياس. كتاب البرهان انالوطيقا الثاني.

(3)

تقدمت ترجمته في الرسالة رقم (9) من هذا القسم (ص 503).

ص: 684