الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(147)
39/ 2
إشراق النيرين في بيان الحكم إذا تخلف عن الوعد أحد الخصمين
تأليف محمد بن علي الشوكاني
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب
وصف المخطوط:
1 -
عنوان الرسالة من المخطوط: إشراق النيرين في بيان الحكم إذا تخلف عن الوعد أحد الخصمين.
2 -
موضوع الرسالة: " فقه ".
3 -
أول الرسالة: الحمد لله على كل حال، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله أهل الفضائل والإفضال. فإنه ورد إلي سؤال
4 -
آخر الرسالة: " فلا بد فيه من مستند الحكم على المتمرد عندهم.
وإلى هنا انتهى الجواب في شعبان سنة 1217 بقلم المجيب غفر الله له.
5 -
نوع الخط: خط نسخي رديء.
6 -
عدد الصفحات: 15 صفحة ما عدا صفحة العنوان.
7 -
عدد الأسطر في الصفحة: 22 سطرًا.
8 -
عدد الكلمات في السطر: 8 كلمات.
9 -
الناسخ: محمد بن علي الشوكاني.
10 -
الرسالة من المجلد الثاني من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.
الحمد لله على كل حال، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله أهل الفضائل والإفضال.
وبعد:
فإنه ورد إلي سؤال من مولاي العلامة المفضال علي بن عبد الله الجلال (1) - لا برح في حفظ الكبير المتعال - عن حديث أخرجه أبو سعيد النقاش في القضاء، ولفظه: كان الخصمان إذا اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاتعدا للموعد، فوافا أحدهما ولم يواف الآخر قضى للذي يفي منهما، انتهى. ومحل السؤال كونه صلى الله عليه وآله وسلم يقضي للذي يفي منهما بالموافاة للموعد؛ فإن ظاهره أن الموافاة بمجردها مع اختلاف الخصم الآخر سبب من أسباب الحكم؟.
وأقول: الجواب عن ذلك ينحصر في وجوه جملتها ستون وجهًا.
الأول: الكلام على إسناد الحديث، قد نسبه السائل - كثر الله فوائده - في سؤاله إلى جامع السيوطي (2)، ولعله يعني الجامع الكبير لأنه لم يوجد في الصغير. وقال: وفي إسناده خالد بن نافع ضعيف.
وأقول: ذكره أيضًا صاحب مجمع الزوائد (3) فقال لفظه: باب في الخصمين يتعدان ولم يأت أحدهما: عن أبي موسى الأشعري أن معاوية بن أبي سفيان قال له: أما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا اختصم إليه الرجلان فاتعدا الموعد فجاء أحدهما ولم يأت الآخر قضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للذي جاء على الذي لم يجئ. فقال أبو موسى: إنما كان ذلك في الدابة، والشاة، والبعير، والذي نحن فيه أمر الناس.
(1) تقدمت ترجمته.
(2)
لم أجده في الجامع الصغير.
(3)
(4/ 197 - 198).
رواه الطبراني في الأوسط (1)، وفيه خالد بن نافع الأشعري: قال أبو حاتم (2) ليس بقوي يكتب حديثه، وضعفه الأئمة انتهى. وله شواهد سيأتي ذكرها إن شاء الله.
واعلم أني لم أجد لأحد من الحفاظ كلامًا على إسناد هذا الحديث بعد البحث عنه إلا ما ذكرته هنا. وأما الكلام على متنه ودلالته فلم أجد شيئًا من ذلك، وقد أوردت هاهنا هذه الوجوه الآتية وهي غاية ما دخل تحت الإمكان.
الثاني: اعلم أن لفظ كان في قوله: " كان الخصمان " يفيد التكرار كما صرح بذلك أئمة الأصول، ومنهم ابن الحاجب في مختصر المنتهى (3)، وشارحه العضد وغيرهما ومثلوا ذلك بقولهم: كان حاتم يكرم الضيف؛ فهذه الصيغة تقتضي أن القضاء على من لم يحضر مجلس المواعدة كان يتكرر وقوعه من النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
الوجه الثالث: [1أ] أن قوله: " إذا اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاتعدا " يدل على أنه تقدم لهما حضور مع خصومة عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإنه رتب المواعدة على الاختصام، فلا يقال: إن الحكم منه صلى الله عليه وآله وسلم على من لم يحضر كان بمجرد الاختلاف عن الحضور على الوعد المضروب. وسيأتي الكلام على ذلك إن شاء الله.
الوجه الرابع: قوله: " فاتعدا للموعد " فيه أن التواعد كان بين الخصمين، ولم يكن الذي واعد بينهما هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فمن الجائز أن يكون ذلك في حضرته صلى الله عليه وآله وسلم بمرأى منه ومسمع، ومن الجائز أن يكون
(1) عزاه إليه الهيثمي في " المجمع "(4/ 198).
(2)
انظر " الجرح والتعديل "(3/ 355 رقم 1604).
وهو خالد بن نافع الأشعري كوفي.
قال أبو زرعة: ضعيف الحديث.
(3)
(2/ 83). ط1، مصر 1316هـ.
ذلك في غير حضرته، وفيه إشكال، لأنه إذا لم يكن في حضرته كان الحكم منه صلى الله عليه وآله وسلم على من لم يحضر على الوعد إنما هو بمجرد دعوى خصمه أنهما تواعدا، وأنه اختلف عن الحضور.
الوجه الخامس: قوله: " فوافى أحدهما ولم يواف الآخر " فيه أن مجرد عدم الموافاة على الوعد مسوغة للحكم، سواء كان اختلاف المختلف لعذر شرعي كالمرض أو لغير عذر، وسواء كان اختلافه تمردًا أو عنادًا أم نسيانًا وسهوًا عن الوعد المضروب.
الوجه السادس: أن الموافاة المذكورة على الوعد المضروب لا تعقل إلا إذا كانت مشتملة على أمرين:
أحدهما: أن يكون إلى مكان معين.
الثاني: أن تكون في زمان معين.
والمكان المعين قد يكون هو المكان الذي يكون به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك الزمان المعين، وإن لم يكن مكانًا معينًا لفظًا، وقد يكون [1ب] معينًا نحو أن يتواعد إلى الحضور إلى المسجد في وقت معين، أو يواعد بينهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يحضرا إليه، أو إلى المسجد، أو نحو ذلك، وإنما قلنا: أن الموافاة لا تعقل إلا إذا كانت مشتملة على الأمرين لأنه لو حضر أحدهما إلى المكان في زمان آخر غير الزمان المضروب، أو حضر في ذلك الزمن المضروب إلى غير المكان المعين أو نحوه لم يكن حاضرًا.
الوجه السابع: أن قوله: " فقضى للذي يفي منهما " وقع هكذا في لفظ السائل - كثر الله فوائده - بلفظ " يفي " والمراد بالموافاة هنا هو الوفاء بالموافاة على الوعد المضروب، وكان المناسب للسياق أن يقول:" قضى للذي يوافي منهما " ولكنه عبر بلازم الموافاة وهو الوفاء لأن من وافى فقد وقع منه الوفاء.
الوجه الثامن: أن الظاهر من قوله: قضى هو المعنى المعروف ...............................
لغة (1) وشرعًا (2)، وهو إلزام أحد الخصمين بتسليم ما يدعيه خصمه إن كان الموافي هو المدعي أو إلزام أحد الخصمين بترك المطالبة لخصمه إن كان الموافي هو المدعى عليه.
الوجه التاسع: هذا القضاء (3) إن كان لمجرد موافاة أحد الخصمين، واختلاف الآخر فليس هذا من الأسباب الشرعية المسوغة للقضاء، لأن الذي اختلف ولم يواف إن كان هو من عليه الحق، وهو المدعى عليه فأسباب الحكم عليه هو ما ذكره صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الذي تواتر تواترًا معنويًا (4)، وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلم:" على المدعي البينة "(5). أو ما تقرر في الكتاب والسنة من أن الإنسان مأخوذ بإقراره (6) ولا خلاف في ذلك [2أ]، أو علم الحاكم على ما هو الحق عندي من غير فرق بين الحدود والحقوق. وإليه ذهب جماعة من العلماء، أو نكول المدعى
(1) انظر " لسان العرب "(11/ 209). القضاء: الحكم.
(2)
القضاء: هو الحكم الإلهي في أعيان الموجدات على ما هي عليه من الأحوال الجارية في الأزل إلى الأبد.
وفي اصطلاح الفقهاء: القضاء تسليم الواجب.
القضاء على الغير إلزام أمر لم يكن لازمًا قبله.
" التعريفات " للجرجاني (ص185).
قال في تبصرة الحكام (1/ 11): قال ابن رشيد: ومعنى قولهم قضى القاضي أي ألزم الحق أهله والدليل على ذلك قوله تعالى: {فلما قضينا عليه الموت} أي ألزمناه وحتمنا به عليه.
وقوله تعالى: {فاقض ما أنت قاض} أي الزم بما شئت واصنع ما بدا لك.
(3)
انظر " الحاوي "(20/ 369).
(4)
تقدم تعريفه.
(5)
وهو حديث صحيح تقدم تخريجه.
(6)
منها ما أخرجه البخاري رقم (2696) و (6828)(7193)(7194 و7278 و7279) ومسلم رقم (25/ 1697، 1698) من حديث: " واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها ".
وانظر " أعلام الموقعين "(4/ 43، 44).
عليه (1) عن اليمين أو رده لليمين على الخلاف فيهما، فهذه أسباب الحكم لا يجوز لحاكم أن يحكم على مقتضى الشريعة المطهرة إلا مع وجود شيء منها لا لمجرد الموافاة من أحد الخصمين من دون الآخر، فإن ذلك لم يأت في شيء من الشريعة إلا في هذا الحديث المسئول عنه، وإن كان الذي لم يواف هو المدعي فلا يجوز قطع حقه إلا بيمين المدعى عليه أو بإقراره ببطلان دعواه، ولا خلاف في هذين، أو بعلم الحاكم ببطلان الدعوى، أو بنكوله عن اليمين المردودة.
الوجه العاشر: أن هذا القضاء لمجرد الموافاة المذكورة من أحد الغريمين دون الآخر كما يخالف ما ذكرناه من أسباب الحكم يخالف أيضًا قوله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الثابت في الصحيح (2)" وإنما أقضي بما أسمع " فإنه قد صرح في هذا أنه إنما يقضي بما يسمعه، والقضاء بمجرد الموافاة مع غيبة الغريم ليس مما يصدق عليه ذلك.
الوجه الحادي عشر: أن حديث الباب كما يخالف ما تقدم يخالف أيضًا حديث علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: " يا علي، إذا جلس إليك الخصمان فلا تقض بينهما حتى تسمع من الآخر كما سمعت من الأول؛ فإنك إذا فعلت ذلك تبين لك القضاء " أخرجه ..........................
(1) منها ما أخرجه الدارقطني (4/ 213 رقم 24) والحاكم (4/ 100) والبيهقي في " السنن الكبرى "(10/ 184). من حديث ابن عمر: " أن النبي صلى الله عليه وسلم رد اليمين على طالب الحق ".
وهو حديث ضعيف. وقد تقدم.
* يجوز الحكم بيمين الرد لأن من عليه الحق قد رضي بها سواء قلنا إنها تجب على المدعي عند ردها من المنكر أم لا.
* وأما النكول فلا يجوز الحكم به لأن غاية ما فيه أن من عليه اليمين بحكم الشارع عليه بقوله: " ولكن اليمين على المدعى عليه " فعلى القاضي أن يلزمه بعد النكول عن اليمين بأحد أمرين: إما اليمين التي نكل عنها أو الإقرار بما ادعاه المدعي وأيهما وقع كان صالحًا للحكم به.
(2)
أخرجه البخاري رقم (6967) ومسلم رقم (4/ 1713) من حديث أم سلمة.
أحمد (1)، وأبو داود (2)، والترمذي (3)، وحسنه، وابن حبان (4) وصححه [2ب]؛ فإن فيه النهي عن القضاء على أحد الخصمين إلى حصول غاية هي السماع من الآخر.
الوجه الثاني عشر: أن جميع الآيات القرآنية (5) التي فيها ذكر الحكم بين الخصوم أو الخصمين، وكذلك الأحاديث النبوية (6) مشعرة بأنه لا بد من حضورهما جميعًا مجلس الحاكم، لأن ذلك هو مدلول لفظ (بين) كما يقال: جلست بين زيد وعمرو، وجلس بين القوم.
الوجه الثالث عشر: أن ما في الكتاب العزيز (7) من الأمر بالحكم بالعدل والقسط والحق ونحوها يفيد أنه لا بد من البحث والفحص حتى يحصل المستند الشرعي للحكم من بينة (8) أو يمين (9)، أو نحوهما (10)؛ فإن الحكم لا يكون عدلاً وحقًا وقسطًا إلا بذلك.
(1) في " المسند "(1/ 111).
(2)
في " السنن " رقم (3582).
(3)
في " السنن "(1331) وقال: حديث حسن.
(4)
في صحيحه رقم (5042).
وهو حديث صحيح بمجموع طرقه.
(5)
منها قوله تعالى: {هذان خصمان اختصموا في ربهم
…
} [الحج: 19].
وقوله تعالى: {إذ دخلوا على داود ففزع منهم قالوا لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنا إلى سواء الصراط} [ص: 22].
(6)
تقدم ذكر ذلك.
(7)
منها قوله تعالى: {وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل} [النساء: 58].
وقوله تعالى: {وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين} [المائدة: 42].
وقوله تعالى: {فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى} [ص: 26].
(8)
اخرج مسلم في صحيحه رقم (223/ 139) من حديث وائل بن حجر: " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للكندي: ألك بينة؟ قال: لا. قال: فلك يمينه ".
(9)
أخرج البخاري في صحيحه رقم (2669) ومسلم رقم (220/ 138) من حديث الأشعث بن قيس قال صلى الله عليه وسلم: " شاهداك أو يمينه ".
(10)
أخرج البخاري في صحيحه رقم (2669) ومسلم رقم (220/ 138) من حديث الأشعث بن قيس قال صلى الله عليه وسلم: " شاهداك أو يمينه ".
الوجه الرابع عشر: أن هذا الحديث المسئول عنه كما يخالف القواعد الشرعية يخالف أيضًا ما كانت عليه الجاهلية فإن شاعرهم يقول:
فإن الحق مقطعه ثلاث
…
يمين أو شهود أو جلاء
الوجه الخامس عشر: أن الحديث الصحيح المتفق عليه (1)، وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلم:" إذا اجتهد فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر " يفيد أنه لا بد من الاجتهاد، وهو بذل الجهد في معرفة المحق والمبطل من الخصمين وإذا حكم بمجرد الاختلاف من أحد الخصمين لعذر شرعي، أو لغير عذر، فلم يجتهد في القضية ولا حكم بالسوية.
الوجه السادس عشر [3أ]: أنك إذا عرفت ما قدمنا فالحديث المسئول عنه إن كان غير بالغ إلى درجة الاعتبار فهو غير محتاج إلى الكلام عليه، لأنه لا يجوز العمل به على فرض عدم معارضته لما هو أرجح منه، وعدم مخالفته للقواعد الشرعية، فكيف إذا كان معارضًا بما هو أرجح منه، ومخالفًا للقواعد الشرعية!.
الوجه السابع عشر: أنا لو فرضنا أنه بالغ إلى درجة الاعتبار، وفرضنا عدم إمكان تأويله على وجه مقبول فهو مطرح لما قدمنا من مخالفته لقواعد الشريعة المطهرة.
الوجه الثامن عشر: أنه يمكن تأويله بأن يقال: قد قدمنا أن في متنه ما يفيد أنها قد تقدمت الخصومة عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبل المواعدة فيمكن أنه صلى الله عليه وآله وسلم قد كان سمع من الخصمين ما يفيد جواز الحكم إما من المدعي كالبينة، أو من المدعى عليه كاليمين، أو نحو ذلك.
الوجه التاسع عشر: يمكن أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد مفارقة الخصمين له على ذلك الوعد علم بالوحي أن الذي سيوافيه هو المحق فحكم له، وظن
(1) البخاري في صحيحه رقم (7352) ومسلم رقم (1716).
الراوي أن الحكم لأجل الموافاة وعدمها، ولم يعلم بما علمه النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الوحي.
الوجه الموفي عشرين: أنه يمكن أن يعلم النبي صلى الله عليه وآله وسلم المحق من الخصمين بإخبار من يثق به فكان حكمه مستندًا إلى ذلك، وظن الراوي مثل الظن المتقدم في الوجه الذي قبل هذا.
الوجه الحادي والعشرون: أنه يمكن أن يكون القضاء المذكور في الحديث مجازًا عن تأخير المطالبة، فكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال للمدعي: إذا كان المختلف هو المدعى عليه أنك لا تطالبه الآن، بل في وقت آخر، أو كأنه قال [3ب] للمدعى عليه: إذا كان المختلف هو المدعي أنك لا تنظر للخصومة الآن، ويكون مجرد الإخبار للحاضر بذلك قضاء مجازًا (1).
الوجه الثاني والعشرون: أن تكون العين المتنازع فيها في يد الذي حضر، أمره صلى الله عليه وآله وسلم أن يستمر على قبضها لعدم حضور خصمه بشيء يوجب نقلها عن صاحب اليد.
الوجه الثالث والعشرون: أن يكون الذي وافى هو المدعى عليه، وقد عرف النبي صلى الله عليه وآله وسلم ضعف الدعوى، فأمره بأن يذهب ولا يحضر لخصومة ثانية، لأنه قد انضم إلى ما علمه من ضعف الدعوى قرينة أخرى، وهي عدم حضور المدعي على الأجل، فكان مجموع ذلك قرينة مسوغة للحكم عند من لم يحضر الحكم على الطرق المشهورة من البينة واليمين ونحوهما، وهو مذهب مشهور معروف.
الوجه الرابع والعشرون: أن يكون المدعى قد شرط على نفسه أنه إذا لم يواف على الوعد المضروب فقد أبطل دعواه.
الوجه الخامس والعشرون: أن يكون المدعى عليه قد شرط على نفسه أنه إذا لم
(1) انظر " فتح الباري "(13/ 171).
يحضر على الأجل فقد أوجب الحق على نفسه.
الوجه السادس والعشرون: أن يكون المدعى عليه قد تواعد هو والمدعي لقبض اليمين من المدعى عليه، فحضر المدعى عليه ولم يحضر المدعي قرينة رد اليمين فقبضها منه صلى الله عليه وآله وسلم وحكم له، فنسب الراوي القضاء إلى مجرد الاختلاف عن الوعد، وليس كذلك [4أ].
الوجه السابع والعشرون: أن يكون المدعى عليه هو الذي حضر، وقد كان تواعد هو والمدعي لقبض اليمين من المدعى عليه، فحكم النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمدعى عليه بأنه لا حق عليه، ولم يقبض اليمين، بل أخرها حتى يطلب المدعي قبضها لكونه حقًا له.
الوجه الثامن والعشرون: أن يكون المدعي قد استوعد بحضور بينته فأحضرها، ولم يحضر المدعى عليه فسمعها النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحكم له.
الوجه التاسع والعشرون: أن يكون الأمر كما في الوجه الذي قبل هذا، ولكنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يسمعها، بل حكم للمدعي لحضور بينته، وأحال المدعى عليه على سماع البينة متى شاء.
الوجه الموفي الثلاثين: أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم حكم للحاضر منهما حكمًا مشروطًا متى حضر الآخر، فله خصومته.
الوجه الحادي والثلاثون: أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد شرط على الخصمين عند التواعد أن من لم يحضر منهما كان الحكم عليه، ومن حضر كان الحكم له.
الوجه الثاني والثلاثون: أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد قال لهما: إن المبطل منكما لا يحضر في الوعد المضروب لضرب من السياسة الشرعية، فلم يحضر المبطل امتثالاً لأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فحكم عليه.
الوجه الثالث والثلاثون: أن يكون الذي تخلف عن [4ب] الحضور قد حضر إلى رسول الله بعد ضرب الوعد قبل حضور الوقت المضروب، فاعترف عنده بأنه لا حق له وأن الحق لخصمه، فلما حضر خصمه في الأجل المضروب قضى له النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فظن الراوي أن القضاء هو لمجرد الاختلاف عن الحضور.
الوجه الرابع والثلاثون: أن يكون التواعد بين الخصمين وقع عن أمره صلى الله عليه وآله وسلم لا لقصد إحضار مستند من أحدهما، بل لقصد التثبت منه صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن كان قد حصل له مستند، فلما حضر أحد الخصمين حكم له، وهذا يخالف الوجه الثامن عشر من التواعد عن أمره صلى الله عليه وآله وسلم لقصد التثبيت في الحكم.
الوجه الخامس والثلاثون: أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد علم المستند ولكنه شغله عن تنجيز الحكم شاغل، فواعد بين الخصمين، فحضر أحدهما وهو المحكوم له، ولم يحضر الآخر وهو المحكوم عليه، لأنه قد علم أنه لا حق له، وأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سيحكم له.
الوجه السادس والثلاثون: كالذي قبله إلا أنه صلى الله عليه وآله وسلم دخل في شغل وهو عازم على تنجيز الحكم بعد قضائه، فتطاول الشغل، فتواعد الغريمان من دون أن يأمرهما صلى الله عليه وآله وسلم بذلك.
الوجه السابع والثلاثون: أن يكون الذي اختلف عن الحضور قد علم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تمرده، وعدم امتثاله للحضور، فعاقبه صلى الله عليه وآله وسلم بالحكم عليه، وأخذ ماله، ويكون [5أ] ذلك من باب التأديب بالمال (1).
الوجه الثامن والثلاثون: أن يكون أحد الغريمين لحق بدار الحرب فصار ماله على أصل الإباحة، فكان الحكم عليه بهذا المستند لا بمجرد الاختلاف (2).
(1) تقدم ذكر ذلك.
(2)
انظر " المغني "(14/ 94).
الوجه التاسع والثلاثون: أن يكون الذي لم يحضر قد قتل في مدة الأجل أو مات، ولا وارث له. وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وارث من لا وارث له، فصرف ذلك في غريمه، لأنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وليس ذلك ببعيد، فمثل هذا لو فعله الإمام لم ينكر عليه (1).
الوجه الموفي الأربعين: أن يكون المختلف من المنافقين الذين قد علم رسول الله بنفاقهم وأنهم يفترون على المؤمنين، ويدعون عليهم الدعاوى الباطلة، فحكم عليه صلى الله عليه وآله وسلم استنادًا إلى هذا الظاهر.
الوجه الحادي والأربعون: أن تكون الخصومة بين الأب وولده فحضر الأب في الأجل، ولم يحضر الابن، فحكم له صلى الله عليه وآله وسلم استنادًا إلى أن الولد وما ملك لوالده (2).
الوجه الثاني والأربعون: أن يكون المخاصم الذي اختلف خادمًا لمن حضر، أو أجيرًا، أو نحوهما ممن يتصرف في ملك غيره بإذنه فيحكم عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم استنادًا إلى ذلك.
الوجه الثالث والأربعون: أن يكون أحد الخصمين قد تمسك بأصل يجب [5ب] الرجوع إليه، ويصلح للتمسك به، فحضر من معه ذلك الأصل، ولم يحضر الآخر. فحكم له النبي صلى الله عليه وآله وسلم لذلك، وهذا أعم مما قبله.
الوجه الرابع والأربعون: أن يكون الظاهر مع من حضر دون من غاب، فيحكم له
(1) انظر " المغني "(14/ 94).
(2)
يشير إلى الحديث الذي أخرجه أحمد (2/ 214) وأبو داود رقم (3530) وابن ماجه رقم (2292) وابن الجارود في " المنتقى " رقم (995). من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. وهو حديث صحيح.
" أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن لي مالاً وولدًا، وإن والدي يحتاج مالي قال: " أنت ومالك لوالدك، إن أولادكم من أطيب كسبكم، فكلوا من كسب أولادكم ".
- صلى الله عليه وآله وسلم استنادًا إلى ذلك، وهذا أيضًا أعم.
الوجه الخامس والأربعون: أن هذه الوجوه وإن كان بعضها لا يخلو عن تكلف فقد أوجب المصير إليها ما ذكره أئمة الأصول أن يتعين تأويل ما كان معارضًا لما هو أرجح منه بما أمكن من طرف التأويل، ولو كان بعيدًا؛ لأن التأويل جمع وهو مقدم على الترجيح.
الوجه السادس والأربعون: لا يقال إن لفظة (كان) لما كانت تفيد التكرار كما قدمنا حكايته عن أهل الأصول بطل كثير من هذه التأويلات؛ لأن لفظ الصحابي الحاكي لفعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد أشعر بوقوع ذلك المحكي منه مرة بعد مرة، لأنا نقول: لا مانع من تأويل ما وقع متكررًا، غاية الأمر أنه لم يتفق الوجه الذي وقع التأويل به؛ بل وقع مختلفًا تارة على وجه من هذه الوجوه، وتارة على وجه آخر.
الوجه السابع والأربعون: أن قول أبي موسى في الحديث الذي ذكرناه بلفظ آخر للحديث الذي أورده السائل - عافاه الله - إنما كان ذلك في الدابة والشاة والبعير يدل على أن القضاء على من لم يحضر على الوعد إنما يكون في مثل هذه الأمور، لا فيما هو أعظم منها. وسيأتي تكرير هذا الوجه مع زيادة.
الوجه الثامن والأربعون: أن قول أبي موسى أيضًا: والذي نحن فيه أمر الناس يدل على أن هذه المحاورة وقعت بينه [6أ] وبين معاوية في شأن الاختلاف في الخلافة، ولعل ذلك كان عند مسير أبي موسى إلى الشام قبل أيام صفين، ولا يصح أن يكون ذلك عند الحكومة بدومة الجندل؛ لأن معاوية لم يحضرها (1). وفي ذلك ما يفيد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يحكم في الأمور العظيمة بمجرد اختلاف أحد الخصمين.
الوجه التاسع والأربعون: إن قلت: إذا كان ذلك الحديث قد وجدنا في إسناده من لا تقوم به الحجة لتضعيف أكثر الأئمة له فأي فائدة في هذا التكثير.
(1) انظر " البداية والنهاية " لابن كثير (7/ 290 - 294).
قلت: لا يخفاك أن هذا جرح مجمل، وهذا غير معمول به حتى يبين، ولم يتبين حينئذ فتكلمنا على الحديث بهذه الوجوه، على فرض أنه صالح للاحتجاج به، وبالغ إلى درجة الاعتبار.
الوجه الموفي خمسين: اعلم أنه يشهد للحديث المسئول عنه ما أخرجه البزار (1) عن سمرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول: " إذا طالب الرجل الآخر فدعى أحدهما صاحبه إلى الذي يقضي بينهما، فأبى أن يجيء فلا حق له ".
وفي إسناده يوسف بن خالد السمتي (2) وهو ضعيف، ووجه شهادته لحديث الباب أن الامتناع من الحضور على الوعد كالامتناع من المجيء إلى الحاكم، بل ذلك أشد لا سيما إذا كان المواعد بينهما هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو كان التواعد باطلاعه. ويشهد له أيضًا ما أخرجه الطبراني في الكبير (3) عن سمرة أيضًا [6ب] قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " من دعي إلى سلطان فلم يجب فهو ظالم لا حق له ". وفي إسناده روح بن عطاء وثقه ابن عدي (4)، وضعفه الأئمة (5)، ووجه الشهادة هو ما قدمنا. وقد رتب على ذلك أنه لا حق له في هذا الحديث، والذي قبله، وهذا هو الوجه
(1) في مسنده (2/ 129 رقم 1363 - كشف).
قال الهيثمي في " المجمع "(4/ 198) رواه البزار وفيه يوسف بن خالد السمتي.
(2)
ضعفه ابن سعد وكذبه يحيى بن معين. وقال النسائي: ليس ثقة.
وقال أبو حاتم: رأيت له كتابًا وضعه في التجهم ينكر فيه الميزان والقيامة.
انظر: " ميزان الاعتدال "(4/ 463 - 464 رقم 9863).
(3)
(7/ 225 رقم 6939).
وأورده الهيثمي في " المجمع "(4/ 198) وقال: فيه روح بن عطاء وثقه ابن عدي وضعفه الأئمة.
(4)
في " الكامل "(3/ 1002) حيث قال: ما أرى برواياته بأسًا.
(5)
كابن معين. وقال أحمد: منكر الحديث.
" الميزان "(2/ 60 رقم 2806).
الحادي والخمسون.
ويشهد للحديث المسئول عنه أيضًا ما أخرجه الطبراني في الكبير (1) أيضًا عن سمرة أيضًا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول لنا: " إذا خاصم الرجل الآخر فدعا أحدهما صاحبه إلى الرسول ليقضي بينهما، من أبى أن يجيء فلا حق له ". قال الهيثمي (2) وفي إسناده مساتير، وهذا هو الوجه الثاني والخمسون.
ويشهد له أيضًا ما أخرجه البزار (3) عن عمران بن حصين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " من دعي إلى حاكم من حكام المسلمين، فامتنع فهو ظالم - أو قال -: لا حق له " وفي إسناده روح بن عطاء بن أبي ميمونة، قال الهيثمي (4) وهو ضعيف، وقد وثقه ابن عدي (5)، ووجه الشهادة هو ما قدمنا، وهذا الوجه الثالث والخمسون.
الوجه الرابع والخمسون: أن جميع ما ورد في هذا الباب الحديث المسئول عنه، وهو من رواية الرجلين المتجاورين جميعًا كما تقدم؛ لأن أبا موسى قد أقر به ولم ينكره، وإنما حمله على الشاة والبعير ونحوهما؛ فهذان حديثان من طريق صحابيين، وثلاثة أحاديث من طريق سمرة، وهي المذكورة قريبًا، وحديث من طريق عمران بن حصين، فالأحاديث ستة عن أربعة من الصحابة، وفي كل واحد منها مقال [7أ].
الوجه الخامس والخمسون: هل يقال هذه الأحاديث قد قوي بعضها ببعض فصارت من قسم الحسن لغيره أم لا؟.
(1)(7/ 264 رقم 7078).
(2)
في " المجمع "(4/ 198).
(3)
في مسنده (7/ 128 - 129 رقم 11362 - كشف).
(4)
في " المجمع "(4/ 198).
(5)
في " الكامل "(3/ 1002) حيث قال: ما أرى برواياته بأسًا.
قلت: لا يبعد أن يكون كذلك؛ لأن الضعف إذا كان يسيرًا صارت أحاديث الضعفاء إذا انضم بعضها إلى بعض من قسم الحسن لغيره، بخلاف ما إذا كان كل واحد ممن في تلك الأحاديث فيه ضعف شديد، فإنه لا يصير حديثه مع غيره حسنًا، وأحاديث الباب هي من القسم الأول؛ لأن الضعفاء الذين في أسانيدها ضعفهم منجبر، ولا سيما وقد وثق بعضهم بعض الحفاظ كما عرفت.
الوجه السادس والخمسون: إذا كان الحديث المسئول عنه يصير بما ذكرناه له من الشواهد حسنًا لغيره فهو من قسم المعمول به، فيجب المصير إلى تأويله بوجه من الوجوه التي قدمنا ذكرها، فالجمع مقدم على الترجيح، فإن تعذر فلا شك أن الأحاديث التي هي مخالفة لهذه الأحاديث أرجح منها، وكيف لا يكون أرجح منها وهي من القواعد المعلومة من دين الإسلام.
الوجه السابع والخمسون: إن قلت: وأي معارضة بين هذا الحديث وما شهد له، وبين تلك القواعد والأحاديث! فإن الأحاديث الواردة في اعتبار الشهادة واليمين لا تنفي اعتبار طريق [7ب] أخرى؛ إذ لا حصر، وحينئذ فلا معارضة.
الوجه الثامن والخمسون: أنا لو فرضنا أن ثم لفظًا يفيد الحصر في أحاديث اعتبار الشاهدين واليمين ونحو ذلك لكان الحديث المسئول عنه وما شهد له صالحًا لتخصيص ذلك بمن لم يحضر على الوعد تمردًا وعصيانًا، وكذلك من أبى أن يجيب إلى حاكم من حكام المسلمين، فإنه يجوز للحاكم أن يحكم عليه بحق الغير يلزمه تسليمه أو بإسقاط حق له على الغير، وهذا الوجه يتعين المصير إليه.
الوجه التاسع والخمسون: أن هذا الترجيح الذي ذكرناه في الوجه الذي قبل هذا لا يجوز لكل حاكم، بل إنما يجوز لمن كان بمحل من الورع، وبمكان من العلم، بحيث يميز بين مصالح الشريعة ومفاسدها على وجه صحيح، ولا يكون كذلك إلا المجتهد. وأما من كان مقصرًا فهو لا يميز المصلحة من المفسدة على وجه صحيح، فقد يظن لجهله ما هو
من المفاسد مصالح، وما هو من المصالح مفاسد، وهكذا من لم يكن بمحل من الورع، فإنه قد يجعل ذلك ذريعة إلى مقاصده الفاسدة.
الوجه الموفي ستين: إن قلت: هل يقيد ما رجحته من جعل الحديث مخصصًا بالقيد الذي ذكره أبو موسى في الرواية التي ذكرناها عنه في حديث الباب، وهو الدابة والشاة والبعير، وما شابهها؟.
قلت: نعم فإن لم يقل ذلك برأيه، بل قاله حاكيًا لما كان يفعله النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولكن إذا وقع التمرد والعناد والتصميم عليه فذلك مبيح للدم، فضلاً عن كثير من المال.
واعلم أن هذا القضاء على من لم يحضر ليس هو القضاء الذي ذكره أهل الفقه على الغائب (1) والمتمرد، فإن الذي نحن بصدده هو القضاء على المتمرد بمجرد تمرده بخلاف ما
(1) والمدعى عليه الغائب قد يكون مقيمًا في غير بلد القاضي، أو يكون مقيمًا في بلد القاضي.
قال ابن قدامة في " المغني "(14/ 93 - 94): وجملته أن من ادعى حقًا على غائب في بلد آخر، وطلب من الحاكم سماع البينة، والحكم بها عليه، فعلى الحاكم إجابته، إذا كملت الشرائط. وبهذا قال شبرمة ومالك، والأوزاعي، والليث، وسوار، وأبو عبيد، وإسحاق، وابن المنذر.
وكان شريح لا يرى القضاء على الغائب. وعن أحمد مثله. وبه قال ابن أبي ليلى والثوري وأبو حنيفة وأصحابه، وروي ذلك عن القاسم، والشعبي، إلا أن أبا حنيفة قال: إذا كان له خصم حاضر، من وكيل أو شفيع، جاز الحكم عليه.
واحتجوا بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعلي: " إذا تقاضى إليك رجلان، فلا تقض للأول حتى تسمع كلام الآخر، فإنك تدري بما تقضي " تقدم تخريجه.
ولأنه قضاء لأحد الخصمين وحده، فلم يجز، كما لو كان الآخر في البلد، ولأنه يجوز أن يكون للغائب ما يبطل البينة، ويقدح فيها، فلم يجز الحكم عليه.
قال الماوردي: وأما سماع الدعوى على الغائب، فإن لم تقترن بها بينة لم تسمع؛ لأن سماعها غير مفيد، وإن اقترن بها بينة سمعت وسمعت البينة عليها وهذا متفق عليه في جواز الدعوة والبينة على الغائب.
واختلف في معنى سماع البينة على الغائب.
فهو عند الشافعي ومن يرى القضاء على الغائب: سماع الحكم.
وعند أبي حنيفة ومن لا يرى القضاء على الغائب: سماع تحمل، كالشهادة على الشهادة، فأما القضاء على الغائب بعد سماع البينة عليه فلا تخلو غيبته من ثلاثة أحوال:
أحدها: أن يكون غائبًا عن الحكم حاضرًا في مجلسه. فلا يجوز الحكم عليه إلا بعد حضوره وإمضاء الحكم عليه بعد إعلامه. وهذا متفق عليه وإن اختلف في معناه:
فهو عند الشافعي ومن يرى القضاء على الغائب: ارتفاع الضرورة.
وعند أبي حنيفة ومن لا يرى القضاء على الغائب: ما عساه يدفع به الحجة.
الحالة الثانية: أن يكون غائبًا في بلد الحكم، فقد اختلف الفقهاء في جواز القضاء عليه مع غيبته على ثلاثة مذاهب:
1 -
مذهب الشافعي: يجوز القضاء عليه مع غيبته في عموم الأحكام، فيما ينقل وما لا ينقل، سواء تعلقت بحاضر أو لم تتعلق بحاضر، كما يجوز أن يحكم على الميت، وعلى من لا يجيب عن نفسه من الصبي والمجنون. ومن شرط التنفيذ عليه بعد الحكم أن يستحلف المحكوم له على بقاء حقه بعد ثبوته.
2 -
مذهب أبي حنيفة: أن القضاء على الغائب لا يجوز فيما ينقل وما لا ينقل إلا أن يتعلق بحاضر، فيجوز أن يحكم عليه تبعًا للحاضر لقوله: غصبني هذا وفلان الغائب عبدًا، أو ابتاع مني دارًا.
3 -
مذهب مالك: يجوز القضاء على الغائب فيما ينقل، ولا يجوز القضاء عليه فيما لا ينقل من العقار، فهذه مذاهب الفقهاء في القضاء على الغائب.
الحالة الثالثة: أن يكون غائبًا عن مجلس الحكم وحاضرًا في بلده فقد اختلف أصحابنا: هل يجري مجرى الغائب عن البلد في جواز القضاء عليه، أو يكون كالحاضر في مجلس الحكم في المنع من القضاء عليه؟ وعلى وجهين:
أ - وهو الظاهر من مذهب الشافعي: لا يجوز القضاء إلا بعد حضوره، للقدرة عليه في الحال، كالحاضر في المجلس.
ب - وهو مذهب ابن شبرمة، وأحمد، وإسحاق: يجوز القضاء عليه كالغائب عن البلد.
قال ابن شبرمة: احكم عليه ولو كان وراء جدر.
فهذه أحوال الغائب واختلاف الفقهاء في القضاء عليه.
انظر مزيد تفصيل في " أدب القاضي للماوردي (2/ 293 - 294)، " الحاوي " (20/ 369 - 385) " روضة القضاة " (1/ 194).
ذكره أهل الفقه، فلا بد فيه من مستند الحكم على المتمرد عندهم.
وإلى هنا انتهى الجواب في شعبان سنة 1217 بقلم المجيب - غفر الله له -.