الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(148)
8/ 3
بحث في القرائن وهي رد على تظلم رفع إليه من قبل رجل يتظلم من عريف من عرفاء بلاد الروس
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب
وصف المخطوط:
1 -
عنوان الرسالة من المخطوط: بحث في " القرائن " وهي رد على تظلم رفع إليه من قبل رجل يتظلم من عريف من عرفاء بلاد الروس.
2 -
موضوع الرسالة: " فقه ".
3 -
أول الرسالة: " بسم الله الرحمن الرحيم يا من حرمت الظلم على عبادك كما حرمته على نفسك أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك
…
"
4 -
آخر الرسالة: " فنقول لو فرضنا أن ما نقله من الإجماع له مدخل في محل النزاع لم يكن استعمال ذلك مع المكتوب إليه مناسبًا لأنكم تعلمون مذهبه
5 -
نوع الخط: خط نسخي جيد.
6 -
عدد الصفحات: 15 صفحة.
7 -
عدد الأسطر في الصفحة: 26 سطرًا.
8 -
عدد الكلمات في السطر: 12 كلمة.
9 -
الرسالة من المجلد الثالث من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.
بسم الله الرحمن الرحيم
يا من حرمت الظلم على عبادك (1) كما حرمته على نفسك، أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأستكثر من حمدك وشكرك، فقد أوضحت السبيل وشفيت الغليل بما أنزلته علينا في محكم التنزيل من النعي على الظلمة بتلك الآيات المحكمة، والقوارع المؤلمة، فأقمت الحجة، وأوضحت الحجة بكلام يفهمه الصم، ونظام لا يخفى على العمي البكم، ولم تدع دقيقًا ولا جليلاً، ونقيرًا ولا فتيلاً إلا أوضحته أتم إيضاح، وأبنته أكمل بيان، فإنك - تعالى جدك، وتضاعف شكرك وحمدك - لم تكتف ببيان المؤآخذة على مثاقيل الذر إذ قلت:{ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره} (2) حتى أبنت المؤآخذة بمثقال حبة الخردل كما قلت: {وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين} (3) بل تجاوزت هذه الغاية وأوضحت لنا ما هو دون هذه النهاية، فأخذت على العباد ألا يظلموا الناس شيئًا، وقلت:{فلا تظلم نفس شيئا} (4)؛ فإن الشيء يصدق على عشر معشار الخردلة فما دونه، فسبحانك ما أوضح برهانك! وأتم بيانك! وأقوم حجتك! وأحكم حكمتك! ولما كانت رحمتك سابقة لغضبك (5). وشفقتك على عبادك أكمل من شفقة الأم على
(1) يشير إلى الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه رقم (2577) والترمذي رقم (2495) وقال: حديث حسن. وابن ماجه رقم (4257) من حديث أبي ذر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه عز وجل أنه قال: " يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا، يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم
…
". وانظر الرسالة رقم (180).
(2)
[الزلزلة: 8].
(3)
[الأنبياء: 47].
(4)
[الأنبياء: 47].
(5)
يشير إلى الحديث الذي أخرجه البخاري رقم (7404) ومسلم رقم (2751) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله لما قضى الخلق كتب عنده فوق عرشه إن رحمتي سبقت غضبي ".
ولدها (1)، كملت الحجة بإرسال رسول إليهم من أنفسهم يفهمون عنه، ويأنسون إليه، فقام فيهم مقامات، وفتق مسامعهم بكلمات بعد كلمات، يحذرهم من الظلم، ويحجزهم عن الغضب، ويقرن لهم بين الدماء والأموال والأعراض، ويبين لهم حرمتها، ويؤكد ذلك عليهم تأكيدًا أوضح من الشمس، ويكرر ذلك عليهم في المواقف والمجامع، ويستكثر منه في خطبه ومواعظه، حتى كان من جملة ما قاله عند توديعهم:" إنما أموالكم ودماؤكم وأعراضكم عليكم حرام "(2)، ثم أشهد الله - سبحانه - على البلاغ، وأمر الناس به، وحضهم عليه، فسارت بذلك الركبان، وعرفه كل متشرع، ولم يشك مسلم من المسلمين أن هذا من ضروريات الدين، فصلى الله عليه، وعلى آله وسلم، وجزاه عن أمته أفضل ما جزى نبيًا عن أمته.
وبعد: فإن موجب تحرير هذه الكلمات أنه وصل إلي رجل من بيت النبوة هو وبعض أهله يصرخون ويبكون، ويتظلمون من عريف من عرفاء النار، كما ورد بذلك النص عن المختار (3) - من عرفاء [1] بلاد ......................................
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (5999) ومسلم رقم (22/ 2754) من حديث عمر بن الخطاب أنه قدم على رسول الله سبي. فإذا امرأة من السبي تبتغي، إذا وجدت صبيًا في السبي أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته. فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم:" أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار؟ " قلنا: لا والله وهي تقدر على أن لا تطرحه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لله أرحم بعباده من هذه بولدها ".
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه رقم (67) و (4406) ومسلم رقم (1679) وأبو داود رقم (1948) من حديث أبي بكرة.
(3)
يشير إلى الحديث الذي أخرجه أحمد (2/ 353) بإسناد حسن وأخرجه الطيالسي رقم (2523) وأبو يعلى في مسنده رقم (6217) والحاكم (4/ 91) والبيهقي (10/ 97) والبغوي رقم (2468) وابن حبان رقم (4483) من طرق.
عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ويل للأمراء، ويل للعرفاء، ويل للأمناء، ليتمنين أقوام يوم القيامة أن ذوائبهم كانت معلقة بالثريا، يتذبذبون بين السماء والأرض، ولم يكونوا عملوا على شيء ".
وأخرج أبو داود في " السنن " رقم (2934) من حديث غالب القعطان عن رجل عن أبيه عن جده وفيه: "
…
إن أبي شيخ كبير، وهو عريف الماء، وإنه يسألك أن تجعل لي العرافة بعده فقال:" إن العرافة حق، ولا بد للناس من العرفاء ولكن العرفاء في النار ". وهو حديث ضعيف.
* العرفاء: جمع عريف. وهو القيم بأمور القبيلة أو الجماعة من الناس يلي أمورهم ويتعرف الأمير منه أحوالهم.
الروس (1)، فذكروا أنه استحل حرمتهم، وهجم عليهم، ولم يراع حق الله فيهم، ولا حق جدهم، وأرسل عليهم رسله، وأعمل فيهم فكره وحيله.
وكانت هذه البلاد التي وصل هؤلاء المتظلمون منها قد جعل أمرها منوطًا بعالم كبير، ومحقق نحرير، هو سيدي العلامة شرف الدين بن إسماعيل بن محمد بن إسحاق (2)، - لا برح ملحوظًا بألطاف المهيمن الخلاق -، فأرسلت هؤلاء المظلومين إليه، لكونه مرجع أمر ذلك العريف الظالم إليه، وقلت: قد برئت الذمة بإعطاء القوس (3) باريها، وتنبيهه لهذه الملمة، فوصل إليه الرسول بأولئك المظلومين من أولاد الرسول، فكتب إلي كتابًا لا يناسب علمه الجم، ولا عرفانه العم، فأجبت تنبيهه على بعض ما في كتابه إلي من المخالفة لقانون الشريعة، المعلوم بالضرورة عند جميع المتشرعين.
فقال بعد أن ذكر في كتابه أن ذلك العريف كتب إليه هؤلاء المتظلمين جنوا على
(1) بلاد الروس: ناحية إدارية واسم قبيلة، اشتهرت بهذا الاسم لأن جبالها تعتبر رؤوسًا لجبال خولان ويحدها شمالاً سنحان وجنوبًا جهران من آنس وشرقًا خولان وغربًا بني مطر والبستان ومياه بلاد الروس تسيل من وادي سهام وتقضي إلى تهامة ثم البحر الأحمر.
انظر: " مجموع بلدان اليمن وقبائلها "(2/ 372)، " معجم البلدان والقبائل اليمنية "(ص276).
(2)
وهو شرف الدين بن إسماعيل بن محمد بن إسحاق بن المهدي أحمد بن الحسن بن القاسم بن محمد. ولد سنة 1140هـ. وهو أحد علماء العصر وفضلائه. توفي سنة 1223هـ.
انظر: " البدر الطالع " رقم (194)، " نيل الوطر "(2/ 11).
(3)
أعط القوس باريها: أي استعن على عملك بأهل المعرفة والحذق فيه، وينشد:
يا باري القوس بريًا لست تحسنها
…
لا تفسدنها وأعط القوس باريها
" مجمع الأمثال " للميداني (2/ 345).
رجل دخل منزلهم ما لفظه: وقد علمتم أن القرائن القوية معمول بها فيما هو أعظم من ذلك.
أقول: نذكر هاهنا وجوها:
الأول: السؤال عن هذه القرائن القوية التي أوجبت ظلم هؤلاء المظلومين، ما هي؟
الثاني: ما المراد بالعمل بهذه القرائن في هذا؟. هل الحكم على هؤلاء المتظلمين بأنهم الذين جنوا على المدعي، وألزمهم تسليم أرش جنايته، أو المراد إلزامهم بشيء آخر؟ إن كان الأول فهو حق آدمي محض يتوقف على طلبه، ولا يصح الاحتساب فيه، فكيف يظلمون هؤلاء، ويروعون، وتهتك حرمتهم، ويرسل عليهم إلى منازلهم، ولم يدع عليهم غريمهم، ولا طلبهم إلى الظالم لهم!، فهل هذا من الشريعة؟ وهل يفعل هذا متشرع! وإن كان المراد الثاني وهو إلزامهم بشيء آخر فما هو؟ إن قلتم: هو التعزيز لهم بالحبس ونحوه مما لا مدخل فيه لأخذ شيء من أموالهم.
فنقول لكم: إن كان ذلك لأجل إقدامهم على المجني عليه فهو حق له يتوقف على طلبه، ويسقط بعفوه، فكيف أقدم العريف عليهم بتلك القوافر! والمجني عليه في بيته لم يأت إليه، ولا طلب منه إنصافه! ولا سأله الأخذ له من ظالمه! وإن كان المراد بالشيء الآخر هو أخذ بعض ما يملكه هؤلاء - أعني المتظلمين - ظلمًا وعدوانًا وقهرًا وجرأة على الله وعلى شريعته، ومصير ذلك المأخوذ إلى ذلك [2] العريف الظالم، وإلى من أعانه على الظلم، ينتفعون به في شهواتهم وملاذهم، ويدعون هؤلاء المظلومين يتلهفون ويستغيثون فلا يغاثون، فهل هذا من فعل المتشرعين؟ وهل هذا من هذه الشريعة المطهرة؟
…
كلا - والله - بل من الظلم البحت، والطاغوت المحقق، فيا عباد الله {واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون} (1).
(1)[البقرة: 281].
الوجه الثالث: ذكرتم في أول كتابكم هذا: إن هذه القرينة التي قلتم عقبها أن القرائن القوية معمول بها هي أني لما أرسلت إليكم بالمظلومين أرسلتم للمجني عليه، فلما أرسلتم له عزموا بلادهم فقلتم: لو كانوا محقين لما عزموا، وجعلتم ذلك دليلاً على صحة الدعوى لكونه قرينة قوية.
فأقول: غريمهم الذي تظلموا منه، وشكوا من فعله هو العريف، لا المجني عليه، فكان عليكم أن ترسلوا له لكون الدعوى منهم عليه، أو تحولوا بينه وبينهم، فهو لم يقدم ويحجم، ولا صال ولا جال إلا لكونكم فوضتموه في تلك البلاد، وجعلتم إليه الإصدار والإيراد، فما بالكم عدلتم عن هذا! وأرسلتم لغير من يدعون عليه! وأردتم أن تفتحوا عليهم بابًا مرتجًا، وتحيوا لهم خصومة، وتستخرجوا لهم غريمًا يدعي عليهم! وأين هذا من الإنصاف! ومن فعل المتشرعين! فهذا المظلوم إن هرب من هذا لم يكن ملومًا عند الله، ولا عند الناس، لأنه قد تيقن عدم إنصافه، وعرف ما يراد منه، وأيس من أن يعدل به، ويذاق حلاوة الحق، لأنه فر إلى الشريعة المطهرة، وإلى من إليه ولاية أمره، يشكو هو وأهله بالعريف الظالم، ويذكرون أن رسل هذا الفاجر في بيتهم يهتكون حرمتهم، ويستحلون مالهم، فقيل لهم: سنبعث لكم غريمًا من العدم، ومدعيًا من لا شيء يدعي عليكم، وإن كره أنكم فعلتم وفعلتم فيكون ذلك مسوغًا لما فعله العريف بكم من التنكيل بمجرد الدعوى، ونقيم الحجة له عليكم وعلى الشريعة التي فررتم إليها، بمجرد وجود مدع يكرهه على الدعوى، فهل يلامون إن هربوا من مثل هذا؟ وهل الفرار إلا عين الصواب؟ لأن حالهم قد صار كما قال القائل (1):
(1) يقال قائدًا من قواد أحمد بن عبد العزيز بن أبي دلف هرب إلى عمرو بن الليث، وهو يومئذ بخراسان فغم ذلك أحمد وأقلقه، فدخل عليه أبو نجدة لخيم بن ربيعة بن عوف من بني عجل، وكان شاعرًا فأنشده أبياتًا منها هذا البيت، فسر أحمد، وسرى عنه، وأجزل صلة أبي نجدة.
" الأغاني "(20/ 132).
والمستجير بعمرو عند كربته
…
كالمستجير من الرمضاء بالنار (1)
أو كما قال القائل:
فقلت من ذا الذي أرجوه لي فرجًا
…
فقال أنا فرج زن لي كدى بيتي
[3]
أو كما حكى عن كليب أنه لما طعنه جساس، وصار يجود بنفسه وصل إليه بعض قرابة جساس فقال له: أغثني بشربة، فأغاثه بطعنة كان فيها موته، فقال القائل:
رمى ضرع ناب فاستغاث بطعنة
…
كحاشية البرد اليماني المسهم
فهل يقول من يعلم بل من يفهم أن فرار هذا المظلوم من الظلم قرينة قوية، تدل على جواز ظلمه! وعلى أن ذلك العريف الظالم محق في ظلمه، هو وأهله!.
الوجه الرابع: إنا لو فرضنا أن المجني عليه يدعي على هؤلاء المظلومين، وأنه قد أوقع الدعوى ثم خاطبهم العريف الجاهل بمجرد الدعوى، وظلمهم وهتك حرمتهم فأردتم استيضاح الحقيقة، واستفصال الأمر بالإرسال للمدعي، فرجع الشاكي بلاده بعد الشكوى عليكم، وإرسالهم من مقام الشرع إليكم، وأنه لا مقصد لكم إلا استيفاء الوجه الشرعي للمجني عليه، فهل قد قال قائل من أهل العلم أن مجرد رجوع الشاكي إلى بلاده قبل وصول المجني عليه الذي له دعوى عليه يقوم مقام المناط الشرعي، ويوجب الحكم على هؤلاء المظلومين للغريم الغائب، بمجرد أنهم رجعوا البلاد التي جاءوا منها، مع أنها بالقرب منكم بينها وبينكم دون يوم، وهل دل على مثل هذا دليل؟ وهل جاءت به شريعة من الشرائع؟ فإن هذا ليس بقرينة قوية، ولا ضعيفة، ولا يقول من يفهم أنه من هذا القبيل، لأن الذي رجع إلى بلاده لم يرجع لكونه غاية ما وقف عليه منكم الإرسال لمن يدعي عليه، على فرض أنه يدعي عليه وهو لم يصل إليكم لتطلبوا له من له
(1) يضرب مثلاً للرجل يفر من الأمر إلى ما هو شر منه.
" جمهرة الأمثال " للعسكري (2/ 160 رقم 1445).
قولهم: كالمستغيث من الرمضاء بالنار.
عليه دعوى، بل وصل إليكم لتنقذوه من العريف الظالم، وتحولوا بينه وبينه، وقدم الوصول إلى باب الشرع فأرجعه القاضي إليكم، فلما لم يجد عند القاضي إلا إرجاعه إليكم، ولا وجد عندكم إلا طلاب غريم يدعي عليه، وأهملتم شكواه، وتركتم ظالمه يصنع به ما شاء رجع ولسان حاله يقول: لم يوجد الإنصاف عند شريعة، ولا عند دولة، فالعود أحمد [4](1) ومظلمة أخف من مظلمتين.
والصبر على العريف اختيارًا أولى من الصبر عليه اضطرارًا.
ليست لمن ليست له حيلة
…
موجودة أولى من الصبر
الوجه الخامس: لو سلمنا أن هاهنا قرائن قوية، وأن المدعي ببابكم يصرخ ويتظلم ويقول: أنقذني من غريمي، أو خذ لي منه أرشي، وقد صح لديكم الحكم على المدعى عليه بمجرد هذه القرائن، فأنتم أهل للاجتهاد والترجيح والحكم، ولكن كان عليكم أن تقولوا لمن قد صح عندكم أنه الجاني سلم للمجني عليه أرش (2) الجناية (3)، وهو كذا، أو أقده من نفسك، فقد صح لنا وجوب ذلك عليك بالقرائن القوية، ولكن المفروض أنه لم يقع من ذلك العريف إلا المطالبة لهم بنهب مالهم ظلمًا وعدوانًا، ليأخذه لنفسه، ولمن
(1) قال في " اللسان "(9/ 458): والعود ثاني البدء قال:
بدأتم فأحسنتم فأثنيت جاهدًا
…
فإن عدتم أثنيت، والعود أحمد
وأنشد مالك بن نويرة:
جزينا بني شيبان قدمًا بفعلهم
…
وعدنا بمثل البدء، والعود أحمد
وانظر " جمهرة الأمثال " للعسكري (2/ 41 - 42).
(2)
أرش: المشروع في الحكومات. وهو الذي يأخذه المشتري من البائع إذا اطلع على عيب في المبيع.
وأروش الجنايات والجراحات من ذلك، لأنها جابرة لها عما حصل فيها من النقص. وسمي أرشًا لأنه من أسباب النزاع، يقال أرشت بين القوم إذا أوقعت بينهم.
" النهاية "(1/ 39).
(3)
الجناية: الذنب والجرم وما يفعله الإنسان مما يوجب عليه العذاب أو القصاص في الدنيا والآخرة.
" النهاية "(1/ 309).
على ظلمه، ولم يكن منه خطاب إلا بهذا لا بتسليم أرش جناية ولا قود، فإن كنتم تريدون أن العمل بتلك القرائن القوية على فرض وجودها مسوغ للحكم منكم للغريم على غريمه، على فرض صدور الدعوى منه، فالشكاة المظلومون لم يشكوا من هذا، ولا وصلوا إلينا ولا إليكم من أجله، بل وصلوا يتظلموا من العريف الذي أرسل رسله عليهم وأراد اجتياح أموالهم بعد استحلال أعراضهم، وهتك حرمتهم، فكان عليكم على فرض أن المدعي صار يطالبكم بالإنصاف له من الجاني عليه أن تنصفوه من الجاني عليه، وتنصفوا الجاني من غريمه الذي وصل شاكيًا من أجله، فظلامة الأعراض والأموال كظلامة الدماء، والعباد عباد الله حرم الظلم عليهم كما حرمه لهم.
الوجه السادس: ذكر بعض أهل العلم (1) أن القرائن القوية التي يجوز جعلها مناطًا مثل أن يوجد رجل مقتول بجناية تثعب دمًا طريًا، ورجل آخر قائم عليه في تلك الحال، وبيده السلاح الجارح الذي لا يمتنع أن تكون تلك الجناية منه
…
وهو ملطخ بالدم الطري، والرجل مضطرب الحال، متشوش البال، تظهر عليه الريبة التي على من فعل هذا الفعل الشنيع، فهذا قد قال قائل من أهل العلم أنه يجوز العمل به، وخالفه جمهورهم وقال: إنما تكون هذه القرينة [5] موجبة للتثبت والاستفصال وأعمال السياسة الشرعية والتوقف عن المبادرة بالجزم بأن القول قول المنكر مع يمينه، وكلا القولين قد دلت عليه أدلة، وشهدت له شواهد من الشريعة، يطول المقام بإيرادها، وهي موجودة في مواطنها ولا حاجة لنا بإيرادها، لأنا لا ننكر عليكم العمل بالاجتهاد، وترجيح المرجوح عند الجمهور، وإنما نطلب منكم تقرير القرينة التي عملتم بها فيما نحن بصدده على وجه تكون كهذه الصورة التي لم يقل من قال بالعمل بالقرائن، إلا بما كان مثلها في تحصيل الظن للحاكم فهل دخل مولانا - كثر الله فوائده - عند وقوع الجناية إلى بيت هؤلاء المظلومين فوجدهم ووجد المجني عليه على هيئة تناسب تلك الهيئة، وصورة تلاقيها، فهو المقبول
(1) انظر الرسالة رقم (145، 147).
المصدق، وذو العرفان المدقق المحقق.
الوجه السابع: إنا إذا رجعنا إلى الحقيقة، وتركنا نصب الحبائل الشيطانية لأخذ أموال العباد ظلمًا وعدوانًا وجدنا صفة الواقع أنه لا جاني ولا مجني عليه، ولا مدعي ولا مدعى عليه، ولا أثر جناية بمن يزعم العريف أنه المجني عليه، بل المراد تحصيل الحاصل، وأكل أموال الناس بالباطل، وقد وجب عليكم مكافأة الله - سبحانه - بما أنعم عليكم من نعمه التي من جملتها العلم والشرف، وعلو السن، ولا مكافأة أوجب وألزم وأحق من العدل، وترك الجور، والأخذ على يد الظالم، والحيلولة بينه وبين المظلوم، فإن مسالك أهل العلم إذا لم تتميز عن مسالك أهل الجهل كان العلم محنة لا منحة، ألستم ممن يتناوله قول الله - سبحانه -:{وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه} (1) فأقل أحوال البيان الواجب عليكم أن يكون في الأمور التي تتعلق بكم، ولأهل الأعمال التي حلها وعقدها منوط بكم، ولا تكونوا كما قال الأول:
ويضمر قلبي غدرها فيعينها
…
علي فما لي في الفؤاد نصيب
[6]
قال - عفاه الله - فقد عمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كما أخرجه الترمذي (2) وأبو داود (3) في قضية المرأة التي وقع عليها رجل في سواد الصبح، فاستغاثت برجل مر عليها وفر صاحبها، ثم مر عليها ذو عدد فاستغاثت بهم، فأدركوا الرجل الذي استغاثت به، وأخذوه فجاءوا به إليها، فقال: أنا الذي أغثتك. وذهب الآخر فأتوا به النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
(1)[آل عمران: 187].
(2)
في " السنن " رقم (1454) وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب صحيح، وعلقمة بن وائل بن حجر سمع من أبيه وهو أكبر من عبد الجبار بن وائل، وعبد الجبار لم يسمع من أبيه.
(3)
في " السنن " رقم (4379).
قلت: وأخرجه أحمد (3996) والبيهقي في " السنن الكبرى "(8/ 284 - 285) وهو حديث حسن. وقد تقدم مفصلاً.
" انطلقوا به فارجموه "، فقام رجل من الناس فقال: لا ترجموه فأنا الذي فعلت بها هذا الفعل، وأشكل الحديث، وطال خوض العلماء، وأجابوا بأن هذا الرجل لما أدرك وهو يشتد هربًا، وادعى أنه كان مغيثًا لا مريبًا، ولم ير أولئك الجماعة غيره كان هذا من أظهر الأدلة على أنه صاحبها، وكان الظن المستفاد لا يقصر عن الظن المستفاد من شهادة البينة، والأحكام الظاهرة تابعة للأدلة الظاهرة من البينة والأقارير، وشواهد الأحوال، وكونها في نفس الأمر قد تقع غير مطابقة لا تقدح في كونها طرقًا وأسبابًا للأحكام. والأطراف في هذا الباب متسعة
أقول: الجواب عن الاحتجاج بهذا ينحصر في وجوه:
الأول: الاستفسار له - عافاه الله - عن مقصوده بالاحتجاج بهذا الحديث، هل جواز الحكم على من قامت القرائن عنده أنه جنى على ذلك المجني عليه. أو جواز أخذ شيء من ماله ظلمًا، وهو المسمى بالأدب في اصطلاح الناس اليوم. إن كان مراده الأول فلا نمنعه أن يحكم على هؤلاء الأشراف المتظلمين بأنهم جنوا على ذلك المجني عليه. إن كان قد قامت له القرائن القوية بأن يكون حاضرًا للواقعة في بلاد الروس، ودخل المنزل، ووجد المجني عليه هنالك، ودمه يسيل طريًا، وأهل المنزل بيدهم السلاح الجارح، وعندهم من الريبة ما يفيد أن الفعل وقع منهم، فإذا كان قد قام عنده هذا، أو ما يقوم مقامه من القرائن فهو أهل للترجيح، وحقيق بالإيراد والإصدار للأحكام الشرعية ولكن أين هذه الأمور أو ما يقوم مقامها؟ فإن الواقعة المزعومة كانت في بلاد الروس، ومولانا - عافاه الله - في بير العزب، ولم نسمع بأنه شد الرحل إلى هنالك، بل لم يبلغه من القضية شيء إلا مجرد كتاب إليه فعله العريف الظالم [7] الذي وصل هؤلاء الأشراف يتظلمون منه، كما وصفه في كتابه الذي شرحناه بهذه الورقات، بل قدمنا أنه لا وجود للجناية، ولا للجاني ولا للمجني عليه، ولا للقضية من الأصل، ولا دعوى ولا مدعي ولا مدعى عليه، وليس في المقام إلا افتراء الكذب والزور والبهتان من ذلك العريف الجاهل، ليأكل أموال الناس بالباطل، فهذا الدليل على فرض أن الاستدلال به لقصد
الحكم للمجني عليه على الجاني لا ينطبق على محل النزاع، ولا يدل عليه بمطابقة، ولا تضمن، ولا التزام، وإن كان المراد الاستدلال بهذا الدليل على جواز أخذ مال هؤلاء المساكين ظلمًا وعدوانًا، وهو محل النزاع، والذي نحن بصدده، فأين هذا من ذاك؟ وكيف يستدل بهذا الدليل على ذلك المدلول من ينسب إلى عقل، فضلاً عن من ينسب إلى فهم، فضلاً عن من ينسب إلى علم!.
أوردها سعد وسعد مشتمل
…
ما هكذا تورد يا سعد الإبل (1)
يأبى الفتى إلا اتباع الهوى
…
ومنهج الحق له واضح
الوجه الثاني: هو - عافاه الله - قد اعتمد في هذا الاستدلال بهذا الحديث على ما تكلم به ابن القيم في الأعلام (2)، فإنه قال فيه ما نصه، فإن قيل: كيف أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم برجم المغيث من غير بينة ولا إقرار! قيل: هذا أدل الدلائل على اعتبار القرائن، والأخذ بشواهد الأحوال في التهم، وهو يشبه الحدود بالرائحة والقيء كما اتفق عليه الصحابة. وإقامة حد الزنا بالحبل كما نص عليه عمر، وذهب إليه فقهاء أهل المدينة وأحمد في ظاهر مذهبه، وكذلك أنه يقام الحد على المتهم إذا وجد المسروق عنده، فهذا الرجل لما أدرك وهو يشتد هربًا، وقالت المرأة: هو الرجل الذي فعل بي، وقد اعترف بأنه دنى منها وأتى إليها، وادعى أنه كان مغيثًا لا مريبًا، ولم ير أولئك الجماعة غيره، كان هذا من أظهر الأدلة على أنه صاحبها، وكان الظن المستفاد من ذلك لا يقصر عن الظن المستفاد من شهادة البينة، واحتمال الغلط، أو عداوة الشهود كاحتمال الغلط أو عداوة المرأة هنا، بل ظن عداوة المرأة في هذا الموضع
(1) يضرب مثلاً للرجل يقصر في الأمر إيثارًا للراحة على المشقة والمثل لمالك بن زيد مناة بن تميم وقد كان آبل أهل زمانه، ثم إنه تزوج وبنى بامرأته، فأورد الإبل أخوه سعد ولم يحسن القيام عليها والرفق بها فأنشد مالك
…
" مجمع الأمثال " للميداني (1/ 148 - 149).
(2)
" أعلام الموقعين "(3/ 9 - 10).
في غاية الاستبعاد، فنهاية [8] الأمر أن هذا لوث ظاهر لا يستبعد ثبوت الحد بمثله شرعًا كما تقبل القسامة باللوث الذي لعله دون هذا في كثير من المواضع، فهذا الحكم من أحسن الأحكام وأجراها على قواعد الشرع، والأحكام الظاهرة تابعة للأدلة الظاهرة من البينة والأقارير وشواهد الأحوال، وكونها في نفس الأمر قد تقع غير مطابقة أمر لا يقدح في كونها طرقًا وأسبابًا للأحكام.
والبينة لم تكن بذاتها موجبة للحد، وإنما ارتباط المدلول بدليله، فإن كان هناك دليل يقاومها أو أقوى منها لم يبلغه الشارع، وظهور الأمر بخلافة لا يقدح في كونها دليلاً كالبينة والإقرار انتهى كلامه (1).
ولا يخفى عليك أنه إنما قال: يعمل بالقرائن في ثبوت الحد في مثل هذا الأمر الذي ورد فيه بخصوصه هذا الدليل، ولم يجعل هذه القرائن وهذا الدليل مسوغًا لأخذ مال الرجل المتهم ولا مجوزًا له.
الوجه الثالث: في بيان دفع كلام ابن القيم هذا بما يظهر خلاف لراقم الأحرف. وإذا اندفع اندفع كلام غيره بالأولى، فلم يقرر دلالة هذا الدليل على العمل بالقرائن أحد من العلماء كتقريره، ولا طول هذا البحث من متقدميهم ولا متأخريهم كتطويله، فإنه كرره في مواضع من مؤلفاته، وقرره وطوله بما حاصله ما نقلناه عنه سابقًا، فنقول: لا يخفى عليك أن جعله لهذه الواقعة مشبهة لإقامة الحدود بالرائحة والقيء، مما لا يبقى فيه لا شك ولا ريبة أنه قد شرب الخمر، فكيف ينزل ما بتلك المنزلة، أو يلحق بتلك الواقعة والحال أن الرجل يقول: إنما أغثتها وينكر ما تدعيه، وهي تقر بأنه قد أغاثها رجل غير الذي فعل بها ما فعل، وتقر بأن ذلك الرجل الذي أغاثها قد فارقها كما فارقها الرجل الذي فعل بها ما فعل، وتقر بأنه موجود في الخارج، كما أن الرجل الذي باشرها موجود في الخارج، فكيف يدعي عاقل على العقل، أو على الشرع أنه يقتضي أن هذا
(1) أي كلام ابن القيم في " أعلام الموقعين "(3/ 9 - 10).
هو الفاعل، كما يقتضي أن من تقيأ خمرًا تصاعدت من معدته [9]، واندفعت من فمه بمرأى ومسمع من الناس أنه شربها، وأين هذا من ذاك! فإن هذا يستحيل أن يحصل للعقل تجويز ذلك أن ذلك الشارب يشرب ماءً فاندفع بالقيء خمرًا، أو أنه دفعه من بين ثيابه لا من فمه، أو أن الذي دفعه غير خمر بخلاف قضية المرأة، فإن عقل كل عاقل يجوز أن الذي باشرها غير هذا، ولا ينكر هذا من يتعقل القضايا ولا سيما وهي تعترف بأنه قد أغاثها مغيث وفارقها تابعًا لمن باشرها، مريدًا للقبض عليه.
ولا شك أن اللاحق إذا كان يشتد بعد الملحوق فهو آخر الرجلين أقربهما إلى المرأة، فقضاء العقل بأن هذا الرجل الذي لحقه الجماعة ووجده أقرب إلى المرأة هو المغيث لها أقرب من قضائه بأنه الفاعل بها، وأعجب من هذا وأغرب دعوى ابن القيم أن هذه القرينة مساوية لقرينة الحبل، فيا سبحان الله إذا لم تبق لنا علوم ندرك بها المعلومات فقد بقيت لنا عقول وأفهام ليقال أن هذا الرجل الذي ادعت عليه المرأة ينزل منزلة امرأة وجدت حاملاً يتحرك الحمل في بطنها، ولا زوج لها، فهل ثمة احتمال عند العقل أن هذا الحمل وجد لا عن مني رجل دخل في فرج المرأة، وهذا يجوزه الشرع أم هذه المرأة كمريم - سلام الله عليها - بعث الله إليها ملكًا فنفخ في فرجها، كما يجوز العقل أن الذي باشر تلك المرأة هو غير الذي ادعت عليه.
فرحم الله ابن القيم، فلقد جاء في هذا البحث بما يضحك الثكلى، وليس العجب منه فالعالم قد يجري قلمه بالكلام الساقط للضعف البشري الذي هو ختم في رقاب العباد ولكن العجب من عالم يختار كلامه ويقلده في خطئه وسقطه، بل يستدل به على مدلول أجنبي بينه وبينه ما بين السماء والأرض، وأما دعواه أن الظن الحاصل بهذه القرينة [10] كالظن الحاصل بالشهادة والإقرار فهذا أغرب مما قبله، وأعجب، فإن كل عاقل بعلم الفرق بين قضية يقول فيها رجلان عدلان نشهد أن هذا فعل كذا، ونحن ننظر إليه، وبين أن يقول مدع ادعى على فلان كذا، وتنزل قرب ذلك المدعى عليه من المدعي، أو كونه مشاهدًا له أو ماشيًا في طريق تمر به ذهابًا وإيابًا، منزلة قول رجلين
عدلين أنه فعل كذا بمرأى ومسمع، أو منزلة قول المدعي عليه نفسه أنه الفاعل إقرارًا منه على نفسه، وتسجيلاً عليها بذلك، فهل يلتبس الفرق بين الصورتين على من يعلم بالمسالك العلمية، والمدارك الشرعية، بل على من يفهم، بل على من له عقل!، فلقد ادعى ابن القيم رحمه الله على العقل والشرع ما هما بريئان عنه، ثم لو فرضنا أن يحصل ظن بتلك القرينة التي جعلها دليلاً، فقد تقرر أن الله لم يتعبدنا بكل ظن يحصل من أي وجه، وبأي أسباب، ولو كان كذلك لم يكن لاعتبار المدارك التي اعتبرها الشارع أسبابًا للحكم فائدة، ولا كثير معنى.
وخلاصة القول: أن الله - سبحانه - نهانا في محكم كتابه عن اتباع الظن في آيات كريمة (1) كثيرة، وجاء سبحانه بصيغ عامة تشمل كل ما يصدق عليه مسمى الظن، فلا يجوز لنا أن نعمل بشيء من الظنون إلا ما خصه دليل. وقد خص الدليل جواز الحكم بشهادة العدلين، وإقرار المقر ويمين المنكر، كما خص جواز العمل بأخبار الآحاد، وما عدا ما لم يقم عليه دليل يخصه فهو مندرج تحت ذلك العموم لا يحل لنا أن نعمل به بدون مخصص، كائنًا ما كان، ولا سيما في مثل الأمور المستلزمة لإراقة الدماء، وهتك الحرم.
الوجه الرابع: إن قلت لي: أبن لي الوجه فيما صدر عنه صلى الله عليه وآله وسلم من الأمر برجم الرجل الذي ادعت عليه المرأة! قلت: قد تكلم أهل العلم في ذلك بكلام طويل، وجاءوا بتأويلات أكثرها متعسفة [11] والذي أرتضيه أنا وأجعله تأويلاً لما وقع في هذا الحديث هو أنه تقرر في الأصول (2) أنه يجوز عليه صلى الله عليه وآله وسلم الخطأ في الاجتهاد، لا فيما طريقة التبليغ. ولكنه لا يقر عليه، وهذا
(1) منها قوله تعالى: {وما يتبع أكثرهم إلا ظنا إن الظن لا يغني من الحق شيئا} [يونس: 36].
وقوله تعالى: {إن بعض الظن إثم} [الحجرات: 12].
وقوله تعالى: {إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون} [يونس: 66].
(2)
انظر " إرشاد الفحول "(ص857)، " تيسير التحرير "(4/ 236).
منه، وهو مثل ما ثبت عنه في الرجل الذي كان يدخل على بعض نسائه صلى الله عليه وآله وسلم فأمر عليًا بأن يذهب إليه فيضرب عنقه، فذهب إليه فوجده يغتسل في ماء، فأخرجه من الماء فوجده مجبوبًا لا عضو له، فرجع فأخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بذلك فتركه على ما كان عليه (1)، فهذا من الخطأ في الاجتهاد، وهو جائز غير ممتنع.
ويمكن التأويل بوجه آخر هو دون هذا الظهور، وهو أنه كان ما أمر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم جائزًا ثم نسخ بأنه لا يجوز الحد إلا بالمناطات التي وردت وعمل بها الصحابة فمن بعدهم.
ويمكن التأويل بوجه ثالث هو دون الذي قبله، وهو أمره صلى الله عليه وآله وسلم برجم الرجل المذكور إنما صدر منه لنوع من السياسة الشرعية التي جاءت بها الأدلة، والوجه في ذلك أن المباشر لتلك المرأة ربما يظهر نفسه، ويقر بذنبه مخافة أن يتحمل ذنب معصية الزنا، وذنب سفك دم الرجل البريء، ومثل هذا موجود في الطباع البشرية، مدرك عند المتدينين الواقعين في بعض المعاصي التي تلجأ إليها الطبيعة البشرية.
الوجه الخامس: نستفسره - عافاه الله - هل عمل بما ذكره ابن القيم من دلالة هذا الدليل على ذلك المدلول اجتهادًا أو تقليدًا؟ إن قال وافقه اجتهادًا كما هو الظن به والموافق لعلي مكانه فنقول له - عافاه الله -: انظر إلى ما حررناه هاهنا بعين الإنصاف، فإنك إذا أمعنت النظر الذي يوجبه الاجتهاد رجعت عن موافقته إلى مخالفته، وإن قال - عافاه الله -: إنما عمل بكلامه تقليدًا فلا حيلة لنا في هدايته إلى ما هو أولى بالاتباع [12]
…
فإنه أقر على نفسه بأنه لا يتعقل الحجج الشرعية.
ونقول له - عافاه الله -: ما الذي ألجأك إلى هذا وقد أعطيت من علوم الاجتهاد ما
(1) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (59/ 2771) والحاكم في " المستدرك "(4/ 39 - 40) وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه.
تتمكن به من الإصدار والإيراد! وكيف تنزل عن المنزلة التي أنزلك الله فيها، وأحلك بها إلى منزلة لا تجمل بمثلك، ولا تليق بكمالك! ثم مالك - عافاك الله - أبعدت النجعة وسافرت إلى تقليد ابن القيم، وقد كان لك في الأئمة من آبائك غنى يغنيك، ومأوى يؤويك، وكن يكنك، وعريش يظلك:
فدع عنك نهبًا صيح في حجراته
…
وهات حديثًا ما حديث الرواجل
الوجه السادس: بالله عليك يا مولانا لا نشغل الورق، ونتكلف لتزييف كلام أهل العلم، ونتقحم على الاستدلال بما هو أجنبي، مما نحن بصدده ..
فأنت تعلم - كثر الله فوائدك - أن محل النزاع بيننا هو كون العريف الذي فوضته في بلاد الروس أرسل على هؤلاء الأشراف رسلاً، وطلب منهم أدبًا، أي حرامًا وسحتًا، فواصلوا يتظلمون إلى الشريعة المطهرة، فأرسلتهم إليكم لتنصفوهم من العريف الظالم، فهذا هو بيت القصيد، وهو محل النشيد، فلا نشغل أنفسنا بغيره، ولا ندخل في مداخل خارجة عن المراد، فالعلم أمانة، وأهله أمناء عليه، وحججه على خلقه، وورثة أنبيائه، والمترجمون له لعباده، والمبينون لهم ما نزل إليهم.
فما أحقهم بأن لا يخونوا هذه الأمانة، ويخيسوا في هذا الميثاق، ويخفروا ذمة الله، وذمة رسوله! فيوهمون الناس بأنهم استحلوا ما استحلوا، وانتهكوا لحجج لديهم، وبراهين يعرفونها. والشريعة بريئة عن ذلك، مصونة منه، بل لا فائدة ولا عائدة في هذه الأمور إلا تشفيع الذنب بذنب أشد منه، وتعقيب المعصية بمعصية أفظع منها، فإن دعوى أن الله حلل الحرام أشد [13] من الإقدام على ذلك الحرام.
وكل عارف يعلم أن ذنب من قال من أهل العلم أن الخمر حلال، أو الزنا، أو الربا حلال أشد من ذنب من شرب الخمر، أو عامل بالربا، أو زنى بامرأة. هذا لا يشك فيه أحد من المتشرعين، وقد دلت عليه الأدلة الكلية والجزئية دلالة كالشمس، فلا نطول بذكر ذلك، فهو من معلوماتكم.
قال - عافاه الله -: وذكرتم - أبقاكم الله - في جوابكم النفيس على الولد
العلامة علي بن عبد الله الجلال وجوهًا عديدة من جملتها عمله صلى الله عليه وآله وسلم بالقرائن (1).
(1) القرائن جمع قرينة: وهي الأمر الدال على الشيء من غير الاستعمال فيه بل الاستعمال فيه بمجرد المقارنة والمصاحبة أو هي أمر يشير إلى المقصود.
وقيل: القرينة مأخوذة من المقارنة فهي فعيلة بمعنى المفاعلة، والقرينة مؤنث القرين، ويقال قرنت الشيء بالشيء وصلته به، واقترن الشيء بغير صاحبه. وقارنته قرانًا صاحبته، والقرين الصاحب وهي قسمان حالية ومقالية.
فالحالية: مثل أن تقول للمسافر " في كنف الله " فإن في العبارة حذفًا ويدل على تجهزه المصاحب للسفر وهو القرينة الحالية.
والمقالية: أن تقول " رأيت أسدًا يخطب " فإن المراد بالأسد رجل شجاع، ويدل على ذلك لفظ " يخطب " فهو قرينة مقاليه، وقد يقال لفظية ومعنوية.
انظر " الصحاح "(6/ 2182)، " أساس البلاغة "(2/ 248).
القرائن اصطلاحًا: عرفها الفقهاء بمعنى الأمارة، وهي ما يلزم من العلم به الظن بوجود المدلول كالغيم بالنسبة إلى المطر فإنه يلزم من العلم به الظن بوجود المطر.
" التعريفات " للجرجاني (ص117).
وقال مصطفى الزرقا في " المدخل الفقهي العام "(2/ 914): القرينة: كل أمارة ظاهرة تقارن شيئًا خفيًا فتدل عليه وهي مأخوذة من المقارنة بمعنى المرافقة والمصاحبة.
من شروط القرينة:
1 -
أن يوجد أمر ظاهر ومعروف وثابت ليكون أساسًا لاعتماد الاستدلال منه لوجود صفات وعلامات فيه، ولتوفر الأمارات عليه، فالوقائع المادية والتصرفات البشرية تتألف من أمور ظاهرة ثابتة، وتنطوي على أمور باطنة يستدل عليها بالأمارات المصاحبة لها.
2 -
أن توجد الصلة بين الأمر الظاهر الثابت والقرينة التي أخذت منه في عملية الاستنباط والاستنتاج، وذلك باستخراج المعاني من النصوص والوقائع بالتأمل والتفكير الناشئ عن فرط الذهن وقوة القريحة وهذه الصلة بين القرينة وبين الأمر المصاحب لها تختلف من حالة إلى أخرى، ولكن يشترط أن تكون العلاقة قوية بينهما. وتقوم على أساس سليم ومنطق قويم، ولا تعتمد على مجرد الوهم والخيال أو الصلة الوهمية الضعيفة، لأن المهم أن يكون عند الإنسان علمًا في الدعوى يكاد يماثل العلم الحاصل من الشهود وغيرهم، وهذا يحصل بالتأكيد من قوة المصاحبة والمقارنة.
وبناء على قوة هذه الرابطة وضعفها تنقسم القرائن إلى قسمين: قرائن قوية وقرائن ضعيفة.
انظر: " المدخل الفقهي العام "(2/ 912)، " الأصول القضائية "، قراعة (ص275).
فالقرائن حسب قوتها وضعفها تنقسم إلى ثلاثة أنواع:
1 -
أن تكون دليلاً قويًا مستقلاً لا يحتاج إلى دليل آخر، فهي بينة نهائية. ويطلق عليها القرينة القاطعة.
2 -
أن تكون دليلاً مرجحًا لما معها، ومؤكدة ومقوية له، كالوصف الصحيح في تنازع المؤجر والمستأجر في كنز وسط الدار، فكلاهما صاحب يد.
3 -
أن تكون دليلاً مرجوحًا فلا تقوى على الاستدلال بها، وهي مجرد احتمال وشك فلا يعول عليها في الإثبات، وتستبعد في مجال القضاء.
وتنقسم القرائن بحسب مصدر القرينة إلى ثلاثة أنواع:
أ - قرائن نصية ورد عليها نص من الكتاب أو السنة وجعلها الشارع أمارة على شيء معين مثل الدم قرينة على القتل في قصة يوسف: {وجاءوا على قميصه بدم كذب} [يوسف: 18].
ب - قرائن فقهية: فقد استخرج الفقهاء بعض القرائن، وجعلوها أدلة على أمور أخرى، وكذلك استنبط القضاة كثيرًا من هذه القرائن واستدلوا بها في الدعاوى وسجلوها في كتب الفقه والمؤلفات الخاصة. ويمكن ضمها إلى القرائن الشرعية السابقة.
ج - قرائن قضائية: وهي التي يستنبطها القضاة بحكم ممارسة القضاء ومعرفة الأحكام الشرعية التي تكون لديهم ملكة يستطيعون لها الاستدلال وإقامة القرائن في القضايا ومواضع الخلاف، ويلاحظون العلامات ويستخرجون الأمارات من ظروف كل دعوى عن طريق الفراسة والفطنة والذكاء ويصلون إلى معرفة الحق، وتمييز الطيب من الخبيث. ولكن يجب إحاطتها بالحيطة والحذر وعدم التعويل عليها إلا ضمن القواعد والضوابط المقبولة.
انظر: " تبصرة الحكام "(1/ 202)، " الطرق الحكمية "(ص97، 212): " أعلام الموقعين "(1/ 85).
وقد دل على اعتبار القرائن الكتاب والسنة أقوال السلف الصالح من فقهاء وقضاة.
1 -
أدلة القرآن الكريم على اعتبار القرائن:
قال تعالى: {وجاءوا على قميصه بدم كذب قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون} [يوسف: 18].
قال القرطبي في " الجامع لأحكام القرآن "(9/ 149) استدل الفقهاء بهذه الآية في إعمال الأمارات والأخذ في مسائل الفقه كالقسامة وغيرها.
وأجمعوا على أن يعقوب عليه السلام استدل على كذبهم بما رآه من سلامة القميص وعدم تمزقه حتى روي أنه قال لهم: متى كان هذا الذئب حكيمًا يأكل يوسف ولا يخرق القميص.
وانظر: " الطرق الحكمية " لابن القيم (ص6).
2 -
ومن السنة النبوية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حكم بقول القافة، وجعل القيافة دليلاً من أدلة ثبوت النسب وليس هنا إلا مجرد الأمارات والعلامات، وقد أخذ الخلفاء الراشدون بهذا النهج، أي اعتبار القيافة من أدلة ثبوت النسب، وأخذ بها مالك وأحمد والشافعي وغيرهم والأخذ بالقيافة دليل على اعتبار القرائن.
انظر: " الطرق الحكمية "(ص10)، " أقضية الرسول صلى الله عليه وسلم " للشيخ محمد فرج المالكي (ص112)" تبصرة الحكام "(2/ 104).
3 -
من أقضية الصحابة رضي الله عنهم:
حكم عمر بن الخطاب رضي الله عنه دون نكير من أحد بإقامة حد الزنا على امرأة ظهر حملها ولا زوج لها اعتمادًا على القرينة الظاهرة. وهذا ما ذهب إليه مالك وأحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه.
كما حكم عمرو بن عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما بوجوب الحد برائحة الخمر من فم الرجل أو قيئه خمرًا اعتمادًا على القرينة الظاهرة، وهذا مذهب مالك وأصحابه.
" الطرق الحكمية " لابن القيم (ص6)، " تبصرة الحكام "(2/ 88 - 91).
* وقد أخذ الفقهاء بالقرائن واعتبروها وسيلة من وسائل الإثبات وطريقًا من طرق الحكم، فمنهم من صرح بالأخذ بها والتعويل عليها كما نجد ذلك في مذهب مالك، فمن ذلك قول الفقيه المالكي ابن فرحون في " تبصرته "(2/ 88 - 91) أن من طرق القضاء في المذهب المالكي الأخذ بالقرائن، وهذا من مذهب المالكية في التصريح بالأخذ بالقرائن مذهب الحنابلة. وكذلك ما نقله الفقيه ابن القيم الحنبلي وبينه في كتابه " الطرق الحكمية "(ص21).
إلا أن فريقًا من الفقهاء من المذاهب الأخرى لا يصرحون بالأخذ بالقرائن ولكن نجدهم في الواقع يرتبون أحكامًا على أساس اعتبارهم للقرائن. من ذلك قولهم بانعقاد البيع بالمعاطاة من غير لفظ اكتفاء بالقرائن والأمارات الدالة على الرضا.
وانظر: " تبصرة الحكام "(2/ 118).
وقد اعترض الحافظ في " الفتح "(3/ 160) على اعتبار القرينة بالحديث الشريف البينة على المدعي واليمين على من أنكر، فليس في الحديث غير البينة فهي التي يعول عليها ويؤخذ بها في القضاء. والجواب على ذلك أن القرينة الظاهرة تدخل في مفهوم البينة التي يبنى عليها الحكم، لأن البينة اسم لكل ما يبين الحق ويظهره. ولا تنحصر في الشهادة، بل كل ما كشف الحق فهو بينة.
وعلى هذا فالبينة قد تكون شهادة مقبولة أو نكولاً عن يمين وقد تكون قرينة أو شاهد الحال الذي هو من أنواع القرينة، فقول النبي صلى الله عليه وسلم:" البينة على من ادعى واليمين على من أنكر " أي على المدعي أن يقدم ما يبين ويكشف صحة دعواه ويظهرها، فإذا ظهر صدقه بقرينة من الطرق حكم له.
وعلى هذا فإن من قصر مفهوم البينة على الشهود لم يعرف ما ينطوي عليه اسم البينة من معنى، ومما يؤيد ذلك أن البينة لم تأت قط في القرآن الكريم مرادًا بها الشهود، وإنما أتت مرادًا بها الحجة والدليل والبرهان، وعلى هذا فإن الشهود من البينة والقرينة من البينة، وقد تكون في بعض المواضع أقوى دلالة على صدق المدعي في دعواه من دلالة الشاهدين عن ذلك.
" الطرق الحكمية "(ص21)، " تبصرة الحكام "(2/ 118).
أقول: لعله - أدام الله فوائده - يشير إلى ما ذكرته في ذلك الجواب في الوجه السابع والخمسين والثامن والخمسين بما حاصله أن الأحاديث الواردة في الشاهد واليمين المبينة أنها مناطان للحكم لا تنفي أن يكون غيرهما مناطًا، إذ لا حصر فيها، وعلى فرض وجود صيغة تفيد الحصر فيكون الدليل الذي سأل عنه السائل في ذلك السؤال مخصصًا للعموم، فهذا الكلام ليس فيه إلا التعرض لعدم انحصار المناطات الشرعية في الشهادة واليمين، وليس فيه التصريح بالعمل بالقرائن، فأين هذا من ذاك؟ ثم لو سلمنا أنه يشمل القرائن القوية وإن كنت لا أقول بذلك. ولا أريده، فأين هو مما نحن بصدده؟ فإن الذي نحن بصدده أمر آخر هو أن أولئك الضعفاء لجئوا إلينا وإليكم متظلمين من العريف الظالم الذي أراد اجتياح مالهم بعد هتك حرمتهم.
قال - عافاه الله -: وللعلامة ابن القيم الجوزية في ذلك كلام فقال فيمن اتهم بسرقة، أو قطع طريقًا، أو زنا، أو قتل: ما علمت أحدا من أئمة المسلمين [14]
يقول: إن هذا المدعى عليه بهذه الدعاوى وما أشبهه، يحلف ويرسل بلا حبس ولا غيره، وليس في تحليفه وإرساله مذهب لأحد من الأئمة ولا غيرهم، ولو حلفنا كل واحد وأطلقناه، وخلينا سبيله، وقلنا: إنا لا نأخذه إلا بشاهدي عدل، كان مخالفًا للسياسة الشرعية، ومن ظن أن الشرع تحليفه وإرساله فقد غلط غلطًا فاحشًا.
أقول: هذا خارج عن محل النزاع بكل حال: فإن ابن القيم إنما أرشد في كلامه هذا إلى التثبيت والتأني، وعدم الجزم بظاهر الشرع في مثل الأمور العظيمة من دون إعمال للسياسة الشرعية، وهكذا نقول وبه نعمل، ولكن ليس في هذا أنه يحكم على ذلك الذي سرق أو قطع [الطريق](1) أو قتل بغير الوجه الذي شرعه الله لعباده، ولا فيه أن يحكم على هؤلاء الأشراف الذين تظلموا إلينا وإليكم بهتك حرمتهم، وبقاء أعوان ذلك العريف الظالم في بيوتهم، وأخذ شطر من مالهم بلا مدع يدعي عليهم، ولا شاهد يقول إنه شاهدهم ولا، ولا، ولا.
وأيضًا فقد قال ابن القيم (2) رحمه الله بعد كلامه هذا الذي نقلتم عنه ما لفظه: ولأجل هذا الغلط تجرأ الولاة على مخالفة الشرع، وتوهموا أن السياسة الشرعية قاصرة عن سياسة الخلق ومصلحة الأمة، فتعدوا حدود الله، وخرجوا عن الشرع إلى أنواع الظلم. انتهى بحروفه.
فهذا كلامه، وهو حجة عليكم لا لكم، إذا أنصفتم، ومع هذا كله فاحتجاجكم - كثر الله فوائدكم - بكلام ابن القيم لو فرضنا أنه قد قال في كلامه - وصانه الله - أن ما فعله عريف بلاد الروس بالأشراف سائغ جائز.
لم يكن بصواب، فليس الحجة تقوم بكلام عالم، بل الحجة كلام الله، وكلام رسوله وإجماع الأمة عند القائل به، ولا سيما خطابكم هذا مع رجل قد خلع ربقة التقليد من
(1) في المخطوط الظن والصواب ما أثبتناه.
(2)
في " أعلام الموقعين "(3/ 9 - 10).
عنقه قبل اليوم بأكثر من عشرين سنة، فكيف أجريتم الكلام معه هذا المجرى! وسلكتم معه هذا المسلك! إن قلتم: إنما ذكرتم كلامه لكونه قد حكى الإجماع على ذلك، فنقول: لو فرضنا أن ما نقله من الإجماع له مدخل في محل النزاع، لم يكن استعمال ذلك مع المكتوب إليه مناسبًا، لأنكم تعلمون مذهبه ........................................... (1)
(1) في المخطوط ما يقارب السطر غير واضح والله أعلم.