المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌تشنيف السمع بجواب المسائل السبع - الفتح الرباني من فتاوى الإمام الشوكاني - جـ ٩

[الشوكاني]

فهرس الكتاب

- ‌القول الجلي في حل لبس النساء للحلي

- ‌سؤال عن شأن لبس المعصفر وغيره من سائر أنواع الأحمر

- ‌الأبحاث البديعة في وجوب الإجابة إلى حكام الشريعة

- ‌الجوابات المنيعة على الأبحاث البديعة

- ‌الذريعة إلى دفع الأجوبة المنيعة على الأبحاث البديعة

- ‌منحة المنان في أجرة القاضي والسجان والأعوان

- ‌إرشاد السائل إلى دلائل المسائل

- ‌تشنيف السمع بجواب المسائل السبع

- ‌سؤال عن يمين التعنت التي يطلبها المتخاصمون

- ‌بحث في قبول العدلة في عورات النساء

- ‌إشراق النيرين في بيان الحكم إذا تخلف عن الوعد أحد الخصمين

- ‌بحث في القرائن وهي رد على تظلم رفع إليه من قبل رجل يتظلم من عريف من عرفاء بلاد الروس

- ‌بحث في العمل بالخط ومعاني الحروف العلمية النقطية

- ‌رفع الأساطين في حكم الاتصال بالسلاطين

- ‌بحث في حديث العين المسروقة إذا وجدها المالك

- ‌مناقشة من القاضي العلامة محمد بن أحمد مشحم رحمه الله للبحث السابق (العين المسروقة) وهو السائل

- ‌جواب المناقشة السابقة

- ‌بحث في قاذف الرجل

الفصل: ‌تشنيف السمع بجواب المسائل السبع

(144)

15/ 4

‌تشنيف السمع بجواب المسائل السبع

تأليف محمد بن علي الشوكاني

حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

ص: 4523

وصف المخطوط:

1 -

عنوان الرسالة من المخطوط: " تشنيف السمع بجواب المسائل السبع ".

2 -

موضوع الرسالة: " فقه ".

3 -

أول الرسالة: " بسم الله الرحمن الرحيم وصلى اللهم على سيدنا محمد وآله وصحبه يا كريم ماذا يقول شيخنا حاكم القطر وعالم المصر

4 -

آخر الرسالة: إنما قلت: ما قلت على الفرض والتقدير وعدم وجودك له لا يستلزم عدم قبولك لكلامي هذا.

وإلى هنا انتهى الجوانب بقلم المجيب محمد بن علي الشوكاني غفر الله لهما.

5 -

نوع الخط: خط نسخي معتاد.

6 -

عدد الصفحات: 17 صفحة ما عدا صفحة العنوان.

7 -

عدد الأسطر في الصفحة: 31 سطرًا.

8 -

عدد الكلمات في السطر: 14 كلمة.

9 -

الرسالة من المجلد الرابع من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

ص: 4525

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلِّ اللهم على سيدنا محمد وآله وصحبه يا كريم.

ماذا يقول شيخنا حاكم القطر، وعالم المصر، واسطة عقد نظام الأعلام، وشيخ مشايخ الإسلام، صاحب الفضل الواضح الجلي أبو علي مولانا محمد بن علي لا زالت شموس علومه على الخلق مشرقة، ولا برحت رياض معارفه وعوارفه للطالبين مونقة في أسئلة لا تزال تخطر ببالي، وتمر على خيالي منذ أعوام عويمة، وأيام قديمة، وإنما يسأل بها عالم مثله، قد رسخت قدمه في علم السنة النبوية، وطالت يده في العلوم الشرعية حتى صار قافيًا في أقواله وأفعاله الطريقة المحمدية، سائرًا في جميع أموره السيرة الرضية المرضية، مائلاً عن القيل والقال، معرضًا عن آراء الرجال، لا يخاف في الله لومة لائم، ولا يبالي عند قول الحق بمقالة ظالم، فليمعن النظر مولانا - كثر الله فوائده - في جوابها، وليبن بنير علمه طريق صوابها - جزاه الله خيرًا، ووقاه ضيرًا -.

السؤال الأول: إنا نرى حكام الأقطار في هذه الأعصار يحلفون اليمين المسماة يمين العنت، ويلزمون الخصم أن يحلفها لخصمه، فهل لهم دليل فيما يفعلونه أم لا؟ فإني فتشت جل الكتب العلمية، وبحثت أكثر المجاميع الحديثية، فلم أجد فيها عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حرفًا واحدًا إلا أن الفقيه حسن (1) ذكرها في تذكرته (2)، وتتابع بعده المفرعون في ذكرها حتى تهور الإمام شرف الدين فجعلها نظرية، ولم يعلم أن الحاكم إنما نصب ليحكم بين الناس بما جاء عن الله تعالى، أو عن رسوله صلى الله عليه وآله وسلم لا ليحكم بشرع جديد من عند نفسه، أو يزيد في دين الله ما لم يكن منه، كيف وقد قال الله تعالى:{ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب} (3)

(1) الفقيه الحسن بن محمد المذحجي الصنعاني.

(2)

التذكرة الفاخرة في فقه العترة الطاهرة.

" مؤلفات الزيدية "(1/ 279 - 280).

(3)

[النحل: 116].

ص: 4529

وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم " كل ما لم يكن عليه أمرنا فهو رد "(1).

السؤال الثاني: أنه قد صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: " البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه "(2) وقال: " شاهداك أو يمينه "(3) إلى غير ذلك مما يؤدي هذا المعنى. وهذا الكلام يدل بمنطوقه أن الواجب على المدعي إقامة البينة على ما ادعاه أولاً، فإن لم تكن له بينة حلف له المدعى عليه، وكف عنه، وهذا الصنيع هو الواجب على الحاكم عند أن يحضر إليه الخصمان، وإنا لنراهم الآن يعكسون فيبدءون بتحليف المدعى عليه، ثم يستبقي المدعي يمينه ولمتحصل الشهادة، وما هذا إلا قلب لما كان عليه هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والسلف الصالح من بعده، والمطلوب المستند.

السؤال الثالث: أنه قد تقرر من قواعد الشريعة المطهرة أن النصاب (4) المعتبر في الشهادة هو رجلان، أو رجل وامرأتان لا غير، وإنا لنراهم الآن يلزمون الخصم بعد أن يأتي بالنصاب لما يسمونه تكميل الشهادة، وذلك مما لا دليل عليه، بل هو من الزيادة -

(1) أخرجه البخاري رقم (2697) ومسلم رقم (1718) وأبو داود رقم (4606) وابن ماجه رقم (14) من حديث عائشة رضي الله عنها " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو رد ".

(2)

أخرجه البيهقي في " السنن الكبرى "(10/ 252) وهو حديث صحيح.

وأخرج البخاري في صحيحه رقم (4552) ومسلم رقم (1/ 1711) من حديث ابن عباس قال: " أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى باليمين على المدعى عليه ".

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2669، 2670) ومسلم رقم (220/ 138) من حديث الأشعث بن قيس.

(4)

قال تعالى: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى} [البقرة: 282].

ص: 4530

في الدين - المردودة، لأنه إن قد صح للحاكم ما قد أقامه الخصم فذاك، ولا وجه للتكميل، وإن لم يصح ألزمه أن يأتي بالنصاب من الشهادة على الحد المشروع، فما وجه ما يفعلونه.

السؤال الرابع: أنه قد علم من قواعد الشريعة المطهرة أن العدالة معتبرة في الشهادة بقوله تعالى: قال تعالى: {ممن ترضون من الشهداء} (1) أو بقوله تعالى: {اثنان ذوا عدل منكم} (2)، وهي في اللغة (3) التوسط في الأمر من غير إفراط ولا تفريط في الزيادة والنقصان. وقد حدها الأصوليون (4) بما لا يوجد له معنى إلا في رجل معصوم كما لا يخفى.

وقد استحسن العلماء ما قاله الشافعي (5) في حقيقة العدل حيث قال: لو كان العدل من لم يذنب لم نجد عدلاً، ولو كان كل ذنب لا يمنع من العدالة لم نجد مجروحًا، ولكن من ترك الكبائر، وكانت محاسنه أكثر من مساويه فهو عدل انتهى. [1ب] وعلى كل تقدير فلا بد من معرفة حال الشاهد ليعلم الحاكم عدالته المعتبرة، ولذا قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لشاهدين شهدا عنده: إني لا أعرفكما ولا يضركما أني لا أعرفكما ائتيا بمن يعرفكما، فأتاه رجل فقال: كيف تعرفهما؟ قال: بالصلاح والأمانة، قال:

(1)[البقرة: 282].

(2)

[المائدة: 106].

(3)

انظر " لسان العرب "(9/ 85 - 86).

(4)

انظر: " البحر المحيط "(4/ 274)، " الكوكب المنير "(2/ 389).

(5)

قال الشافعي في " الأم "(13/ 380): وليس من الناس أحد نعلمه إلا أن يكون قليلا بمحض الطاعة والمروءة حتى لا يخلطهما بشيء من معصية ولا ترك مروءة، ولا بمحض المعصية ويترك المروءة حتى لا يخلطه شيء من الطاعة والمروءة، فإذا كان الأغلب على الرجل الأظهر من أمره الطاعة والمروءة، قبلت شهادته، وإذا كان الأغلب الأظهر من أمره المعصية وخلاف المروءة ردت شهادته.

وانظر الرسالة (ص493).

ص: 4531

كنت جارًا لهما؟ قال: لا، قال: صحبتهما في السفر الذي يسفر عن أخلاق الرجال؟ قال: لا، قال: فأنت لا تعرفهما. هكذا رواه العقيلي (1)، والخطيب في الكفاية (2)، والبيهقي (3) وصححه أبو علي ابن السكن.

والحاصل أن البحث عن حال الشاهد لتعلم عدالته معلوم، وإلا لم يكن للعدالة معنى متحقق، وإنا لنراهم الآن قضهم بقضيضهم لا يبحثون عن ذلك، ولا يفحصون عن حال أحد، بل قد يشهد عندهم من يعلم أنه لا يصلي ولا يصوم من القبائل، وجفاة الأعراب، فيقبلون شهادتهم، ويحكمون بها. وقد يكون الحكم في اقتطاع مال امرئ مسلم محرم بالدليل القطعي، وهذا هو العجب العاجب. فبينوا ما هو الواجب؟

السؤال الخامس: أنه قد أطبق الجماهير على أن الشهادة لا تصح على نفي، وصارت هذه القضية مسلمة عند الجميع، ولكنا لم نجدهم استدلوا عليها بشيء من الكتاب والسنة، بل اكتفوا بمناسبات عقلية، وتعليلات فقهية فروعية غير مقبولة عند من وقف عند النصوص المحمدية، وتمسك بأذيالها، وألزم نفسه العمل بها.

السؤال السادس: إنا لنرى مجتهدي حكامنا ترد عليهم الحادثة فيحكمون فيها بما قاله زعانف المفرعين، أسراء تقليد الرجال (4)، وهم يعلمون أن الحق خلاف ذلك، وأن

(1) في " الضعفاء "(3/ 454، 455).

(2)

(ص84).

(3)

في السنن الكبرى (10/ 125، 126).

(4)

ذكره ابن حجر في " التلخيص "(4/ 360).

قال ابن قدامة في " المغني "(14/ 44): فإن الشاهد يعتبر فيه أربعة شروط. الإسلام، والبلوغ والعقل والعدالة، وليس فيها ما يخفى ويحتاج إلى البحث إلا العدالة، فيحتاج إلى البحث عنها لقوله تعالى:{ممن ترضون من الشهداء} [البقرة: 282]. ولا نعلم أنه مرضي حتى نعرفه أو نخبر عنه، فيأمر الحاكم بكتب أسمائهم وكناهم، ونسبهم، ويرفع فيها بما يتميزون به عن غيرهم، ويكتب صنائعهم، ومعائشهم، وموضع مساكنهم، وصلاتهم ليسأل عنهم جيرانهم وأهل سوقهم، ومسجدهم، ومحلتهم، ونحلتهم ..... ".

انظر الرسالة رقم (60).

ص: 4532

الدليل قائم بعكسه، وأن الواجب على الحاكم الحكم بما جاء عن الله وعن رسوله، فليت شعري ما الحامل لهم على ذلك؟ وما الذي سوغه لهم؟ وما فائدة الاجتهاد وما منفعة الذهاب والإياب لكسب العلم واستفراغ الوسع في تحصيله؟ ليس إلا العمل به لا تخليده في بطون الدفاتر. وكيف وقد علموا الوعيد الشديد، والمقت الأكيد من الله ورسوله لمن لم يحكم بما أنزل الله!.

السؤال السابع: أنه قد علم من ضرورة أن الحاكم إنما نصب ليحكم بين الناس بما أنزل الله، أو بما جاء عن رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، أو بما استنبطه بفهمه منهما، وأن الواجب عليه التثبت في الحكم، والاجتهاد البالغ الكامل لئلا يقضي للناس على جهل فيضل ويضل ويكون في النار، وإنا لنراهم يحكمون بما ليس عليه آثارة من علم، بل يخبط بعضهم خبط عشواء، ولا ينظر في دليل ولا غيره، بل قد يكون حكمه مجانبًا للكتاب والسنة. وقد يعتذرون بالعمل بالمصالح، وأي مصلحة أعظم من الحكم بما جاء من الله ورسوله، أو الإمساك عن الحكم عند عدمهما! وقد يعتلون بأن المقصود فصل الخصومة والشجار، ويقال لهم: نعم ولكن على الحد المشروع الذي أذن به الله ورسوله لا مطلقًا، وإلا كان الحكم أهل الطاغوت صحيحًا جائزًا، لأنه قد حصل منه المقصود، ولا يقول هذا مسلم. وقد [2أ] يستدل العالم منهم بما أخرجه أحمد (1)، وأبو داود (2)، والترمذي (3)، وابن عدي (4)، والطبراني (5)، ...................................

(1) في " المسند "(5/ 230، 242).

(2)

في " السنن " رقم (3592).

(3)

في " السنن " رقم (1327).

(4)

في " الكامل "(2/ 194).

(5)

في " الكبير "(20/ 170 رقم 362).

ص: 4533

والبيهقي (1) من حديث الحارث بن عمرو عن ناس من أصحاب معاذ عن معاذ أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما أراد أن يبعثه إلى اليمن قال له: " كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟ " قال: أقضي بكتاب الله، قال:" فإن لم تجد في كتاب الله؟ " قال: بسنة رسول الله، قال:" فإن لم تجد؟ " قال: أجتهد رأيي فلا آلو، فضرب صدره وقال:" الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضاه رسول الله ".

والاستدلال بالحديث ممنوع، لأن فيه كلامًا كثيرًا استوفاه ابن النحوي في البدر المنير (2)، وادعى إجماع أهل النقل على ضعفه، وبرهن على مدعاه بما يطول ذكره، ونقل عن ابن دحية أن أحسن ما روي في هذا الباب ما رواه الشعبي عن شريح القاضي أنه كتب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه يسأله، فكتب له عمر رضي الله عنه: أن اقض بما في كتاب الله، فإن لم يكن في كتاب الله ففي سنة رسول الله، فإن لم يكن في سنة رسول الله فاقض بما قضى به الصالحون، فإن لم يكن في كتاب الله، ولا في سنة رسوله، ولا فيما قضى به الصالحون فإن شئت فتقدم، وإن شئت فتأخر، وما أرى التأخر إلا خيرًا لك، والسلام عليك. انتهى.

وقد نقل الحافظ ابن حجر (3) بعض الكلام على الحديث. ومثل غير خاف عليكم فلا حاجة إلى التطويل بذكره في هذا السؤال، وذكر الأصوليين، والفقهاء، وبعض المحدثين لهذا الحديث في كتبهم، واعتمادهم عليه، وتصحيح إمام الحرمين له لا يغني شيئًا بعد أن ضعفه أهل العلم بصناعة الحديث؛ فلا تقوم به حجة. وإذا لم تقم به حجة فهل يحل للحاكم أن يعمل به فيحكم برأيه أم الواجب عليه أن لا يحكم إلا بما

(1) في " السنن الكبرى "(10/ 114).

وهو حديث ضعيف. وقد تقدم مرارًا.

(2)

انظر: " خلاصة البدر "(2/ 424).

(3)

في " التلخيص "(4/ 337). وقد تقدم ذكره.

ص: 4534

أنزل الله، أو بما جاء عن رسول الله كما ذكرنا؟ والإمساك عما عدى ذلك لأن الحكم بما ليس في كتاب الله، ولا في سنة رسوله من القضاء للناس على جهل، وفاعله في النار كما ورد عن المختار، وما العذر للحاكم إن حكم بذلك بين يدي الملك الجبار الذي لا تخفى عليه صغيرة ولا كبيرة.

وهذا آخر الأسئلة، فإن كان عندكم في جوابها ما يشفي الغليل، ويزيل علة الهائم العليل أفدتم، فبكم استفدنا، وبأنوار علومكم استبصرنا وأبصرنا، ولا برحتم في حماية الله تعالى ورعايته، والسلام. [2ب]

ص: 4535

بسم الله الرحمن الرحيم

إياك نعبد وإياك نستعين، بعد حمدك يا رب العالمين، ونصلي ونسلم على رسولك الأمين، وآله الطاهرين، وصحبه الأفضلين وبعد:

فإنها وردت هذه الأسئلة البديعة الأسلوب، الغزيرة الشؤبوب، المطردة الأنبوب من سيدي العلامة المفضال، الفهامة المتوج بالجلال عبد الله بن علي بن عبد الله الجلال (1) - كثر الله فوائده -، ومد على طلاب العلوم من علمه موائده - ولما كانت موجهة منه إلي، ونازلة بعد تحريرها علي أجبت بحسب ما ظهر عند أول نظر. وبالله أستعين، وعليه أتوكل.

السؤال الأول: حاصله: هل ورد دليل يدل على لزوم اليمين التي يسمونها يمين العنت كما يفعله كثير من الحكام في هذه الأزمنة؟.

وأقول: هذه اليمين لم يرد بها دليل معنونة بهذا العنوان، مسماة بهذا الاسم، ولكنه يمكن إدراجها تحت الحديث الصحيح المتفق عليه الوارد من طرق، البالغ إلى حد التواتر المعنوي، وهو حديث:" على المدعي البينة، وعلى المنكر اليمين "(2) على اختلاف في ألفاظه (3) حاصلها ما يفيده هذا اللفظ، وبيان إدراج هذه اليمين المذكورة تحت هذا العموم أن من توجهت عليه اليمين الأصلية وهو المنكر إنشاء على من ادعى عليه دعوى

(1) ولد على رأس القرن الثاني عشر. وهو حاد الذهن، جيد الفهم، حسن الإدراك له شعر بديع. قال الشوكاني: وقد كتب إلي منه بقصائد طنانة وله قراءة علي الآن في المطول. توفي سنة 1242هـ.

[" البدر الطالع " رقم (263)، " نيل الوطر " (2/ 86)].

(2)

تقدم تخريجه.

(3)

ومن هذه الألفاظ.

حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم " قضى باليمين على المدعى عليه ". وهو حديث صحيح.

ولفظ حديث ابن عباس عند البيهقي (10/ 252): " البينة على المدعي واليمين على من أنكر ". وهو حديث صحيح.

ص: 4536

هي أنه طلب منه تلك اليمين، وهو يعلم أنها لا تجب عليه لبراءة ذمته من الحق الذي ادعاه عليه، وأنه ما يريد بطلب هذه اليمين منه إلا مجرد الإعنات له بتلك الدعوى الباطلة فقد صار ذلك المدعى عليه بإنشاء هذه الدعوى مدعيًا، وصار المدعي بعدها مدعى عليه، وحينئذٍ فتلزمه [3أ] تلك اليمين بعموم (على المدعي البينة، وعلى المنكر اليمين)؛ فإن منكر كون طلبه لليمين من خصمه لمجرد الإعنات له قد صار بهذا الإنكار مندرجًا تحت: على المنكر اليمين، فكما أنه يستدل بهذا العموم على كل خصومة من الخصومات الحادثة بين المختصمين في الدماء والأموال والأعراض والحقوق، لا مانع من أن يستدل به على هذه الدعوى الناشئة ممن توجهت عليه اليمين الأصلية من أن المدعى عليه إنما أراد التعنت له، والإتعاب بطلبه لتلك اليمين، لأنه إذا أقر بذلك لم يلزم تلك اليمين الأصلية، وارتفع عن المطلوب بها ما كان قد توجه عليه من الحلف، وإن لم يقو بذلك، بل أنكر. كان من جملة من يصدق عليه أنه منكر وعلى المنكر اليمين، ومعلوم أن هذا التركيب أعني قوله:" على المدعي البينة، وعلى المنكر اليمين " عام يشمل كل من يصدق عليه أنه مدع، وأنه منكر لما تفيده تحليته باللام الجنسية مع تقديم الخبر على المبتدأ، فهو في قوة: كل مدع كائنًا من كان عليه البينة، وكل منكر كائنًا من كان عليه اليمين. ولا فرق بين خصومة وخصومة.

وبهذا التقرير تعلم أن مجرد الاستدلال بهذا الدليل يكفي القائل بلزوم يمين العنت، ومن ادعى تخصيصها من هذا العموم كان عليه الإتيان بدليل يقتضي التخصيص. ومجرد الاصطلاح بكونها مسماة بهذا الاسم الخاص لا يخرجها عن كونها يمينًا مطلوبة من منكر، لأن الأحكام الشرعية لا تتعلق بمجرد الاسم بل بما هو الحقيقة لذلك الشيء، كما أن مثلاً: الخمر لو سميت اصطلاحًا باسم الماء، أو نحو ذلك من الأسماء لم يخرج به عن كونها خمرًا محرمة إذا وجدت فيه العلة المقتضية للتحريم، وهي الإسكار. كذلك هاهنا فإنها قد وجدت الدعوى ووجد الإسكار فصارت تلك اليمين يمينًا على منكر، فاندرج ذلك تحت قوله:" وعلى المنكر اليمين " ولا تخرج [3ب] هذه اليمين عن كونها يمينًا

ص: 4537

على منكر بتسميتها يمين عنت، لأنه يقال: هذا المنكر لكونه متعنتًا هو من جملة من يصدق عليه مفهوم الإنكار، وكل من يصدق عليه مفهوم الإنكار يلزمه اليمين، فهذا يلزمه اليمين.

أما الأولى فمعلومة بلغة العرب وعرف الشرع.

وأما الثانية فمعلومة بنص الشرع، وهذا فيما يتعلق بالخصومات لا فيما كان إنكارًا خارجًا عن ذلك، فإنه خارج عن محل النزاع.

وهكذا اليمين التي يسميها بعض أهل الفقه يمين كف، فإن الكلام فيها كالكلام في يمين العنت، والتقرير، التقرير، والدليل الدليل. وهي ملاقية ليمين العنت في بعض مواردها، لأن المدعي إذا أنشأ الدعوى على غيره فقال ذلك الغير، هو يعلم أنه قد تقدم بيني وبينه ما يدفع هذه الدعوى، ويوجب كفها عني، وإنما هو يريد الإتعاب لي وإدخالي في خصومة قد اندفعت، وفي شجار قد انقطع وارتفع، فلا شك أن هذا المدعي لهذه الدعوى قد صدق عليه مفهوم المدعي كما أن خصمه الذي أحدث تلك الدعوى عليه قد صدق عليه مفهوم المنكر (1).

(1) اتفق الفقهاء على أن اليمين وسيلة الإثبات أمام القضاء، وأنها مشروعة لتأكيد جانب الصدق على جانب الكذب في إثبات الحقوق أو نفيها وهي تلعب دورًا عظيمًا في المحاكم عند العجز عن تقديم الأدلة والبراهين.

يدل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع والمعقول.

الكتاب:

قال تعالى: {ويستنبئونك أحق هو قل إي وربي إنه لحق} [يونس: 53].

وقال تعالى: {إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم} [آل عمران: 77].

* وغيرها كثير من الآيات الكريمة في مشروعية اليمين.

السنة: تقدم من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم: " قضى باليمين على المدعى عليه ".

* وهو حديث صريح في مشروعية اليمين على المدعى عليه في القضاء.

الإجماع: كان الصحابة رضوان الله عليهم يحلفون في الدعاوى، ويطلبون اليمين في القضاء لفصل المنازعات، ولم يخالف مسلم في ذلك إجماعًا. وسارت الأمة على ذلك من سلفها إلى خلفها من عهد الرسول صلى الله عليه وسلم حتى يومنا هذا.

المعقول: إن الأمور المادية عامة ووسائل الإثبات الظاهرة خاصة كالشهادة والإقرار والكتابة كثيرًا ما تقف عند حد معين، وتعجز عن الوصول إلى كنه الحقيقة في بعض الأشياء، فلا يجد الإنسان مفرًا من اللجوء إلى الأمور المعنوية التي تعتمد على الضمير والعقيدة والأخلاق، ليستجلي غوامض الأشياء، ويستجدي عندها الطمأنينة واليقين، واليمين أحد هذه الوسائل المعنوية، فإن كثيرًا من العلاقات تجري بين أصحابها من غير حضور الشهود أو تهيئة البينات، وقد يعجز المدعي عن إثبات حقه بالأدلة والبراهين، ويحال بينه وبين ما يدعيه وتنقطع به الوسائل فيقف كليل الخاطر عن دعواه وطلب حقه، ويستسلم إلى ذمة المدعى عليه، ويركن إلى ضميره، عسى أن تختلج أحاسيسه بالواقع، وتنطق بصيحة الحق فيعترف به أو يحلف على بطلان دعوى المدعي. فكانت اليمين مما يتطلبها العقل. ويراها ضرورية في الإثبات لإنهاء الخلاف عند العجز عما سواها.

انظر: " الزواجر " لابن حجر الهيثمي (2/ 152)، " تبيين الحقائق " للزيلعي (3/ 107).

أنواع اليمين: تنقسم اليمين باعتبار الحالف إلى:

(أ): يمين المدعى عليه.

(ب): يمين المدعي.

(ج): يمين الشاهد.

(أ): يمين المدعى عليه: وتسمى اليمين الدافعة أو اليمين الأصلية أو اليمين الرافعة ويطلق عليها الحنفية " الواجبة " وهي التي يوجهها القاضي بناءً على طلب المدعي إلى المدعى عليه لتأكيد جوابه عن الدعوى وتقوية جانبه في موضوع النزاع وهذه اليمين متفق عليها في جميع المذاهب ومجمع على العمل بها.

وقد سميت بالواجبة: لوجوبها على المدعى عليه إذا طلبها المدعي بنص الحديث الشريف " ولك يمينه ".

وسميت بالدافعة لأنها تدفع ادعاء المدعي.

وسميت بالرافعة: لأنها ترفع النزاع وتسقط الدعوى.

وسميت بالأصلية: لأنها هي المقصودة عند الإطلاق وهي التي وردت بها معظم النصوص. وينصرف إليها الذهن لأول وهلة عند عدم التقليد وهي التي يدور عليها الحديث كوسيلة في الإثبات تعريفًا وتفريعًا وأهمية.

(ب): يمين المدعي وهي ثلاثة أقسام:

1 -

/اليمين الجالية: وهي التي يؤديها المدعي في إثبات حقه لسبب يستدعي القيام بها، وهي حجة في الإثبات مختلف فيها.

وهذا السبب المستلزم لها إما أن يكون شهادة شاهد، وهي اليمين مع الشاهد، وإما نكول المدعى عليه عن اليمين الأصلية وردها إلى المدعي وهي اليمين المردودة المنقلبة، وإما أن يكون لوثًا وهي أيمان القسامة في القتل والجراح، وإما أن يكون قذفًا من الرجل لزوجته وهي أيمان لعان، وإما أن يكون أمانة فكل أمين ادعى الرد على من ائتمنه فيصدق بيمينه إلا المرتهن والمستأجر والمستعير فلا يصدقون إلا بالبينة لأن حيازتهم كانت لحظ أنفسهم.

انظر: " التاج المذهب "(4/ 31)، " جامع الفقه "(7/ 266).

2 -

/يمين التهمة: وهي التي تتوجه على المدعي بقصد رد دعوى غير محققة على المدعى عليه، وقال بها المالكية والزيدية.

3 -

/يمين الاستظهار: وتسمى يمين الاستيثاق أيضًا، ويسميها المالكية يمين القضاء ويمين الاستبراء، وهي اليمين التي يؤديها المدعي بناء على طلب القاضي لدفع الشبهة والريبة والشك والاحتمال في الدعوى بعد تقديم الأدلة فيها. فاليمين تكمل الأدلة ويتثبت بها القاضي من صحة الأدلة.

مشروعية هذه اليمين: كان شريح يستحلف الرجل مع بينته، واستحلف عون بن عبد الله رجلاً مع بينته فأبى أن يحلف فقال له: ما كنت لأقضي لك بما لا تحلف عليه، وقد ذكر ابن المنذر أن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة والشعبي كانا يستحلفان المدعي مع بينته ونقل ابن القيم فقال: قال أبو عبيد: إننا نرى شريحًا أوجب اليمين على الطالب مع بينته حين رأى الناس مدخولين في معاملتهم واحتاط لذلك.

وقيل لشريح: ما هذا الذي أحدثت في القضاء؟ قال رأيت الناس أحدثوا فأحدثت

".

انظر: " الطرق الحكمية "(ص145)، " المبسوط "(16/ 118)، " تبصرة الحكام "(1/ 276).

ص: 4538

السؤال الثاني: حاصله: طلب الدليل على ما يفعله كثير من الحكام من إجابة المدعي الطالب ليمين خصمه المنكر إلى ما طلبه حتى يبذل اليمين، فإذا بذلها أمر الحاكم المنكر بترك الشروع في تلك اليمين، وطلب من المدعي أن يأتي بالبينة.

ص: 4540

أقول: الدليل على هذا الصنع ظاهر الوجه، واضح الغرة، بين المستند. وبيان ذلك أن تلك اليمين المطلوبة هي حق ثابت للمدعي ثبوتًا منصوصًا عليه بالأدلة الصحيحة، مجمعًا عليه عند جميع أهل الإسلام.

فإذا قال المدعي (1) أنا أطلب يمين خصمي هذا المنكر لحقي كانت إجابته إلى هذا حقًا ثابتًا، لازمًا متعنتًا بالنص والإجماع، فإن أجاب إلى اليمين كان الحاكم المترافع إليه أن يقول للمدعي: هذا خصمك المنكر لما تدعي عليه قد أجابك إلى ما هو الواجب عليه، فإن لم يكن لك بينة فليس لك إلا هذا.

فإن قال: [4أ] لا بينة له فليس له إلا تلك اليمين من خصمه، وإن كانت له بينة ألزمه الحاكم بإيرادها لحديث:" شاهداك أو يمينه "(2) كما ثبت من حديث الأشعث بن قيس، وكما ثبت في صحيح مسلم وغيره من حديث وائل بن حجر قال: جاء رجل من حضرموت، ورجل من كندة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال الحضرمي: يا رسول الله، إن هذا قد غلبني على أرض كانت لأبي، فقال الكندي: هي أرضي في يدي أزرعها ليس له فيها حق، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:" ألك بينة؟ " قال: لا، قال:" فلك يمينه "، فقال يا رسول الله، الرجل فاجر لا يبالي على ما حلف عليه، وليس يتورع من شيء، قال:" ليس لك منه إلا ذلك " الحديث، فعلى الحاكم أن يقول للخصمين كهذه المقالة النبوية، فإذا قال المدعي: أريد اليمين فهو أراد الحق الذي أثبته له الشرع، فليس لنا أن نقول له: ليس لك ذلك، بل عليك أن تذهب فتأتي بالبينة، فإن هذا هو قلب للشريعة. ولكن على الحاكم أن يبين للمدعي أن خصمه إذا حلف فقد انقطع الحق بيمينه، ولا بينة بعد ذلك، فإن صمم على اليمين أجابه إلى ذلك، فإن ترك خصمه حتى يتهيأ لليمين ويبذلها فقال: لي بينة فإجابته إلى

(1) انظر التعليقة السابقة.

(2)

تقدم تخريجه وهو حديث صحيح.

ص: 4541

ذلك واجبة، لأن خصمه لم يكن قد حلف حتى ينقطع الحق بيمينه، فالحاكم إذا صنع هذا فما صنع إلا ما هو محض الشريعة الغراء. فلو قال للمدعي بعد أن طلب اليمين وتهيأ لها المنكر فقال عند ذلك: له بينة، وقال: بينة موجودة، وخصمي لم يحلف، فقال الحاكم قد قضي الأمر، وجف القلم، وانقطع الحق. وليس لك إلا ما قد طلبته من اليمين التي لم يكن قد نطق المنكر بحرف منها لكان هذا الحكم بالأحكام القراقوشية (1) أشبه منه بالأحكام الطاغوتية، فضلاً عن الأحكام الشرعية. على أن هاهنا دقيقة لطيفة هي: أن المدعي قد يعلم أن خصمه المنكر قد يتورع عن اليمين إما خوفًا من الله عز وجل، أو من العقوبة الدنيوية، فإذا ترك طلبها منه حتى يبذلها ويتهيأ لها أتبعه بتحصيل البينة [4ب]، وفتح له بعد ذلك أبواب الجرح والتعديل، وأطال ذيل الخصومة بغير حق. ومعلوم أن مثل هذا ليس من الشريعة السمحة السهلة الواضحة التي ليلها كنهارها، فإذا لم يجبه الحاكم إلى ذلك فقد ظلمه ظلمًا بينًا، وتسبب لأحد أمرين: إما

(1) قراقوش: هو قراقوش بن عبد الله الأسدي أبو سعيد بهاء الدين أمير نشأ في خدمة السلطان صلاح الدين الأيوبي، وناب عنه في الديار المصرية كان همامًا مولعًا بالعمران، بنى السور المحيط بالقاهرة وبنى قلعة الجبل، وبنى القناطر التي بالجيزة على طريق الأهرام. توفي سنة 597هـ بالقاهرة تنسب إليه أحكام عجيبة في ولايته، قال ابن خلكان: الظاهر أنها موضوعة فإن صلاح الدين كان يعتمد عليه في أحوال المملكة.

(وقره قوش) كلمة تركية معناها " العقاب " الطائر المعروف وبه سمي الإنسان لشهامته وشجاعته واللفظ مكون من كلمتين هما (قرة) بمعنى أسود (وقوش) بمعنى طائر أو نسر.

" الأعلام " للزركلي (5/ 193)، " النجوم الزاهرة "(6/ 176).

قال ابن كثير في " البداية والنهاية "(2/ 337 - 338)" كان الأمير بهاء الدين قراقوش عالمًا فقيهًا - إلا أنه كرس نفسه للخدمة الإدارية العسكرية ".

وكانت حياته حافلة بالإنجازات العظيمة والبطولات والإخلاص للإسلام والمسلمين خلال ملازمته القائد صلاح الدين الأيوبي وكذلك بعد وفاته، مما جعله محط كيد الحاسدين وأعداء الإسلام والمسلمين.

ص: 4542

إتعابه وإعناته مع ثبوت الحق بعد اللتيا (1) واللتي، وبعد التطويل بما هو محض العبث الذي لا طائل تحته، وإما إتعابه وإعناته مع ذهاب حقه فيجمع له بين غرمين ومصيبتين في المال والبدن. فهل من سبيل إلى دفعه عن طلب اليمين؟ وهل يجوز للحاكم أن يقول له عند طلب اليمين مع عدم علم الحاكم بأن له بينة، أو لا بينة له، ليس لك هذا؟ أو لا يجوز لك؟.

فإن قيل بأنه يجوز له ذلك كان هذا هو القلب للشريعة. فغاية ما على الحاكم أن ينبهه أن خصمه المنكر إذا حلف تلك اليمين انقطع حقه، ولم تنفعه البينة بعدها على ما هو الحق من عدم قبول البينة بعد اليمين.

السؤال الثالث: حاصله استنكار ما يفعله كثير من الحكام من طلب زيادة على شهادة شاهدين عدلين، أو رجل وامرأتين، ويسمونه التكميل للشهادة.

وأقول: إن كانت العدالة المعتبرة التي تصلح مستندًا للحكم الشرعي قد حصلت فلا وجه لطلب التكميل، ثم هذا التكميل الذي ذكره السائل - دامت إفادته - إن أراد به التكميل باليمين من المدعي، وهي التي يسميها بعض أهل الفقه اليمين المؤكدة فهذا قد يكون سببه حصول بعض ريبة للحاكم لا يوجب ترك العمل بالشهادة، فيطلب اليمين المؤكدة لتحصيل الطمأنينة، وانثلاج الصدر، ورفع الحرج. وقد يستأنس لذلك بمثل قوله سبحانه:{فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما} (2) ومع هذا فإن المدعي إذا تلكأ عن اليمين المؤكدة، ولم يجب إليها كانت الريبة في ذلك قوية، والشك والحرج بليغًا، وإن أراد به طلب زيادة في الشهادة تكمل بها شهادة الشاهدين العدلين، أو شهادة الرجل والامرأتين العدول فهذا أيضًا لا وجه له، لأن نصاب الحكم قد حصل مع كمال الأمور المعتبرة في الشهود، فإن حصل للحاكم ريبة لشيء في الشهود لم يبلغ إلى ترك

(1) تقدم توضيح معناها في الرسالة رقم (60).

(2)

[المائدة: 107].

ص: 4543

العمل [5أ] بشهادتهم فطلب من المدعي أن يأتي بزيادة على تلك الشهادة التي قد كمل نصابها تثبتًا، وتحريًا، وطلبًا للطمأنينة فليس عليه بذلك بأس، لكن إذا لم يجد المدعي غير تلك الشهادة التي قد كمل نصابها لم يجز للحاكم أن يترك الحكم له، بل يجب عليه أن يحكم له بتلك الشهادة، لأن ما حصل له من الريبة لا يسوغ له به ترك الحكم مع كمال النصاب قائلاً ما قاله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:" إنما أقضي بما أسمع، فمن قضيت له بشيء من مال أخيه فإنما أقطع له قطعة من النار "(1) ولا شك ولا ريب أن طلب الطمأنينة سنة أنبياء الله عليهم السلام: قال تعالى: {ولكن ليطمئن قلبي} (2) ويقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيما صح عنه: " نحن أحق بالشك من إبراهيم "(3) فإذا كان هذا حال الأنبياء فيما بينهم وبين ربهم عز وجل فكيف ينكر ذلك على قاض قد وقف على شفير النار فطلب لنفسه الطمأنينة، غير تارك لما يوجبه الشرع!

فإنه قد قام مقامًا يقطع فيه أموال الناس ودماءهم وأعراضهم لبعضهم البعض، ولا سيما في مثل هذه الأزمنة التي قد فشا فيها الكذب فشوًا زائدًا على الأزمنة المتقدمة. وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الصحيحين (4) وغيرها (5) أنه قال:" خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يفشو الكذب " فإذا كان ابتداء فشو الكذب عند انقراض أتباع التابعين فما بالك بزمننا هذا! وإني أرى أن هذه حجة قوية لمن توقف عن الحكم بعد كمال النصاب المعتبر فيه، وبحث وفحص حتى

(1) أخرجه البخاري (6967) ومسلم رقم (4/ 1713) من حديث أم سلمة. .

(2)

[البقرة: 260].

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه رقم (4537) وقد تقدم توضيح ذلك.

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2652) ومسلم رقم (2533) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وقد تقدم.

(5)

كالترمذي رقم (3859) وقال: حديث حسن صحيح.

ص: 4544

تطيب نفسه، ويطمئن خاطره، لكن بشرط ألا يهمل الحكم لمن قد يفصل النصاب المعتبر إذا لم يحصل له ما طلبه من الطمأنينة.

فإن قلت: المفروض أن الشهادة التي قامت قد كملت فيها الشروط المعتبرة من العدالة وغيرها فما بقي وجه لطلب الطمأنينة.

قلت: كذلك أقول لكن إذا حصلت للحاكم ريبة تقتضي مزيد الاستثبات (1)، وطلب الطمأنينة، وفعل ذلك فهو لم يفعل منكرًا، بل معروفًا، لأن فشو الكذب يكون من أعظم الأسباب الموقعة في الريبة.

والعدالة المعلومة بالظاهر، أو بإخبار المعدل لا تنافي الاحتياط والاستثبات؛ فإنها من باب [5ب] العمل بالظاهر الذي لا يستلزم مطابقته لما في الواقع، وما في نفس الأمر. والعدل قد يقع منه ما يخالف الظاهر إما غلطًا أو سهوًا أو غفلة أو جهلاً، ولا أريد بهذا أن مجرد هذه الاحتمالات يوجب بطلان العمل بالشهادة عند كمال نصابها وشروطها، فإن ذلك هو خلاف الشرع بلا شك ولا شبهة، بل أريد أنه إذا وقع من الحاكم الاستثبات (2) والبحث والفحص حتى يطمئن خاطره، وينثلج صدره، أو يتضح له ما هو

(1) يجوز للقاضي أن يناقش الشهود، وأن يسألهم عن كل شيء في الشهادة وخاصة عند التهمة والشك فيسأل عن مصدر الشهادة وعن طريق العلم بها، وكيفية التحمل وعن صفات المشهود به، وعن أوصاف المشهود له والمشهود عليه، كما يحق له أن يفرق الشهود، ويسمع كلاً منهم على حدة، ويطرح عليه بعض الأسئلة ليستوثق من صحة شهادته وكذلك الحال في الكتابة وكيفيتها والطعن فيها وتزويرها، فإذا اختلف الشهود في الشهادة أو ثبت تزوير الكتابة رد الشهادة أو الكتابة أو الإقرار ولم يحكم به.

" الطرق الحكمية "(ص24، 49، 61)، " الحاوي " للماوردي (12/ 58).

(2)

اتفق الفقهاء على أن القاضي لا يقضي بخلاف علمه، فإذا شهد عنده عدلان والقاضي يعلم خلاف ذلك. فلا يجوز له الحكم بالشهادة ويرفع الأمر إلى غيره. ويبدي رأيه وشهادته، وهذا يدل على أن القاضي لا يلتزم بالشهادة ولو توفرت شروطها إذا كانت تناقض علمه.

ولذا فاقتناع القاضي بالشهادة شرط لإعمالها، والحكم بموجبها وهذا اتفاق المذاهب.

" تبصرة الحكام "(1/ 248).

والقاضي مسؤول عن التأكد من توفر الشروط في وسائل الإثبات فيتأكد من صحتها، ويتحرى الدقة فيها والضبط، ويسأل عن عدالة الشهود عند الجمهور بدون طلب الخصم خلافًا للحنفية الذين يجعلون العدالة من حق الخصم في حقوق العباد، فلا يسأل القاضي عنها إلا إذا طلبها الخصم، فالقاضي يتأكد من توفر الشروط في الشاهد وانتفاء الموانع فيه، وأنه عدل وصادق القول ويترجح بقوله الصدق على الكذب، وكذلك الحال في شروط الكتابة، وصحة الاحتجاج بها، وشروط الإقرار باليمين والخبرة وجميع وسائل الإثبات.

والقاضي هو صاحب الرأي الأخير في قبول الإثبات أو رفضه بعد هذا التحقيق والتأكد من صحته وسلامته أو ثبوت عكسه.

وفي القرائن فقد ترك الشارع له أن يستنبطها كيف ما شاء وترك للقاضي العادل حرية التقصي، فلا حكم إلا وضميره هادئ مستريح من هذا الاستنتاج والبحث.

انظر: " المهذب " للشيرازي (2/ 297)، " حجية القرائن "(ص163).

ص: 4545

موجب خلاف ذلك لم يكن عليه في ذلك لائمة، بل هو ممن يستحق أن يمدح على ذلك شرعًا. وكم من قضايا قد انكشف لنا فيها بمزيد البحث وتكميل الفحص ما يتضح به الحق اتضاح شمس النهار! وإن كانت الأسباب الشرعية إذا حمد الحامد عليها استنكر شيئًا من ذلك، ولو كشف عن المقصد الذي نريده، والمطمح الذي نطلبه لقرت بذلك عينه. وقد تكلم جماعة من العلماء في السياسة الشرعية، وأفردها بعضهم بالتصنيف. وللمحقق ابن دقيق العيد في ذلك مجموع نفيس وقفت عليه في أيام الطلب. والحاصل أنه لا تنافي بين العمل بالأسباب الشرعية للحكم، والاستثبات فيها حتى تكون أسبابًا يتقوى بها الظن، ويظهر بها الحق ظهورًا زائدًا على ظهوره بمجرد قبولها من غير استثبات.

السؤال الرابع: حاصله أنه إذا تقرر اعتبار العدالة فما وجه قبول شهادة من لم يتصف بها كما يفعله بعض حكام عصرنا؟.

وأقول: لا وجه لقبول من ليس ....................................................

ص: 4546

يعدل (1)، فإن اعتبار العدالة أمر نطق به الكتاب العزيز، والسنة المطهرة. ومع ذلك فهو مجمع على اعتبارها كما حكى ذلك غير واحد، منهم الزركشي في البحر (2).

والاختلاف في تحقيق مفهومها، وبيان ماهيتها لا يخرجها عن كونها معتبرة بالنص والإجماع. وقد اختلف أئمة الأصول في تحقيقها على أقوال، وكذلك علماء الجرح والتعديل، وعلماء المصطلح أهل الحديث، وطال الكلام في ذلك.

وقد استوفيت الكلام عليه في إرشاد الفحول (3) إلى تحقيق الحق من علم الأصول [6أ]. ولا خلاف بين المتكلمين في اعتبار العدالة أنها غير معتبرة في الأخبار المفيدة للتواتر (4).

(1) قال الشيرازي في " المهذب "(2/ 297): ولو رضي المشهود عليه بشهادة الفاسق لم يجز الحاكم أن يحكم بشهادته ".

وقال: الماوردي في " الحاوي "(12/ 57) وإذا علم القاضي بفسق الشاهد فيرد شهادته ويحكم بعلمه فيه قولاً واحدًا عند الشافعي.

وقال ابن فرحون في " تبصرة الحكام "(1/ 249، 421).

" لو شهد عنده من ليس بعدل والقاضي يعلم أنه شهد بحق فلا يحل له أن يجيز الشهادة ولا أن يحكم بها ".

وقال المرتضى في " البحر الزخار "(4/ 393): ولو شهد غير عدلين ورضي الخصم بشهادتهما لم يجز الحكم بهما بل إقراره إن أقر إقرارًا صحيحًا.

(2)

(4/ 273 - 275).

(3)

(ص204 - 210).

(4)

قال جمهور الفقهاء إن عدالة الشهود من حق الله سبحانه، فلا يجوز التنازل عنها أو التساهل فيها، ولا تقبل شهادة الفاسق، ولو رضي به الخصم الآخر، أو اتفق الخصمان على قبول شهادته، وتشترط التزكية لمعرفة عدالة الشهود بدون طلب الخصم. لقوله تعالى:{وأشهدوا ذوي عدل منكم} [الطلاق: 2]. وقوله تعالى: {ممن ترضون من الشهداء} [البقرة: 282]. ورضا الحاكم فرع معرفتهم، وقوله تعالى:{إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا} [الحجرات: 6].

والتبيين هو بالتثبت بالسؤال والتزكية ولما روى عن عمر رضي الله عنه أنه قال: عندما شهد عنده اثنان: " لا أعرفكما، ولا يضركما أن لا أعرفكما ائتياني بمن يعرفكما " تقدم تخريجه.

والشهادة حق مشترك بين حقوق الله تعالى وحقوق الآدميين لقوله تعالى: {وأقيموا الشهادة لله} [الطلاق: 2] فلا يجوز للآدمي أن يتنازل أو يتفق مع خصمه بما يخالف حق الله تعالى، فيجب تعديل الشاهد بطلب من الله سبحانه وتعالى.

انظر: " مغني المحتاج "(4/ 403)، " المهذب "(2/ 269)، " كشاف القناع "(4/ 205، 207).

ص: 4547

وهاهنا بحث ينبغي التنبه له، وإمعان النظر فيه، وهو أن كثيرًا من القرى التي يسكنها جماعة من [ ..... ](1) المعروفين الآن بالقبائل قد لا يوجد في القرية الواحدة وإن كثر الساكنون بها من يستحق أن يطلق عليه اسم العدل قط، بل قد يكون أكثر أهلها إن لم يكونوا كلهم متساهلاً في الإتيان بأركان الإسلام كالصلاة والصيام ونحوهما، وإن صلى مثلاً فعل صلاة لا يحسن لها ذكرًا، ولا يقيم لها ركنًا، بل كثير منهم قد لا يحسن النطق بكلمة الشهادة، وكان حالهم في ذلك ظلمات بعضها فوق بعض، ثم يقع بينهم التظالم في الدماء والأموال، وليس فيهم عدل معتبر في الشهادة، ولا يحضرهم عدل من غيرهم، فيترافعون إلى حكام الشريعة، ونحن نعلم أنهم لا يتورعون عن منكر من المنكرات، ولا يتوقفون عند حد من حدود الشرع، ويقدمون على الأيمان الفاجرة، وعلى شهادات الزور، فماذا يصنع الحاكم عند ترافعهم إليه إن وقف على اعتبار العدالة في الشهود، وعلموا ذلك منه. سفكوا الدماء، وهتكوا الحرم، وأكلوا أموال بعضهم البعض، وهم في أمن من أن يقبل عليهم شاهد أو يلتفت إلى إخبار مخبر، بل غاية ما هناك أن الحاكم يسد باب البينة والإخبار، إذ لا عدل معتبر. ولم يبق إلا تحليف الخصم الذي قد علم كل عالم بحاله أن اليمين الفاجرة أهون شيء عليه، وأيسر أمر عنده.

ولو يسمعون على كثرتهم وتطبيقهم لغالب هذه الديار اليمنية بأنه ليس على من قتل نفسًا، أو أخذ مالاً، أو هتك حرمة إلا اليمين لكان ذلك من أعظم البواعث لهم على الإفراط في ذلك، والتهافت عليه، والتتابع فيه. وحينئذٍ يفتح لهم باب شر لا يغلق،

(1) كلمة غير واضحة في المخطوط.

ص: 4548

ويضرم فيهم [6ب] نار فتنة لا تنطفي أبدًا، وهذه الشريعة المطهرة من عرفها حق معرفتها وجدها مبنية على جلب المصالح (1)، ودفع المفاسد، واعتبار هذا الأصل العظيم شواهده من الكتاب والسنة كثيرة جدًا، تحتمل مؤلفًا مستقلاً فإن قال الحاكم المترافع لديه للمدعي: هات البينة معك، ثم سمعها واستكثر من عددها حتى يلوح له منها أمارات الصدق، أو يبلغ إلى حد التواتر كان ذلك أقرب إلى اعتبار جلب المصلحة الشرعية، ودفع المفاسد المخالفة للشرع، وانزجر لهؤلاء العوام الأغتام (2) عن انتهاك الحرم، وسفك الدماء، ونهب الأموال، فإن جاء المدعي بما يفيد ذلك، ويتضح به الصواب فيها ونعمت، وإن لم يأت بذلك رجع إلى اليمين الشرعية التي لا يعتبر في قطعها للحق كون صاحبها غير فاجر لا يتورع من اليمين الفاجرة، وكان في ذلك زجرًا للعصاة وأهل الجسارة والجرأة عن أن يسفكوا الدماء، وينهبوا الأموال، ويهتكوا الحرم. وليس في الإمكان أبدع مما كان.

وقد يستدل لقبول شهادة غير العدول مع عدم وجود العدول، لكن على الصفة التي ذكرناها من الاستكثار منهم حتى يحصل من ذلك ما يكون سببًا لظهور الحق وإيضاح الصواب لما في الصحيح (3) من ذكر قصة السهمي الذي مات بأرض ليس بها أحد من

(1) انظر: " الأشباه والنظائر "(ص90 - 91).

(2)

الغتمة العجمة، الأغتم من لا يفصح شيئًا.

" القاموس "(ص1474).

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2780) من حديث ابن عباس قال: " خرج رجل من بني سهم مع تميم الداري وعدي بن بداء، فمات السهمي بأرض ليس بها مسلم، فلما قدم بتركته فقدوا جامًا من فضة مخوصًا من ذهب، فأحلفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم وجد الجام بمكة فقالوا ابتعناه من تميم وعدي، فقام رجلان من أولياء السهمي فحلفا: لشهادتنا أحق من شهادتهما وإن الجام لصاحبهم، قال وفيهم نزلت هذه الآية {يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت .... } .

قلت: وأخرجه أبو داود رقم (3606) والترمذي رقم (3061) وهو حديث صحيح.

ص: 4549

المسلمين، فأشهد على وصيته من أهل الذمة، ونزل في ذلك:{يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم} (1) والكلام على الآية وعلى سبب نزولها يطول، وهي مستوفاة في كتب الحديث (2) والتفسير (3)، فمن أحب الوقوف على حقيقة ذلك رجع إليها.

وفي سنن أبي داود (4)، وسنن الدارقطني (5) عن الشعبي أن رجلاً من المسلمين حضرته الوفاة [بدقوقاء (6)](7)، ولم يجد أحدًا من المسلمين يشهده على وصيته فأشهد رجلين من أهل الكتاب، فقدما الكوفة، فأتيا أبا موسى الأشعري فأخبراه، وقدما بتركة الميت ووصيته، فقال [7أ] أبو موسى: هذا أمر لم يكن بعد الذي كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأحلفهما بعد العصر ما خانا، ولا كذبا، ولا بدلا، ولا كتما، ولا غيرا، وأنهما لوصية الرجل وتركته فأمضى شهادتهما (8).

(1)[المائدة: 106].

(2)

انظر: " فتح الباري "(5/ 410 - 412).

(3)

انظر: " جامع البيان "(5\ج7/ 105 - 109)، و" تفسير القرآن العظيم " لابن كثير (3/ 217 - 220).

(4)

في " السنن "(3605) بإسناد صحيح.

(5)

في " السنن "(4/ 169).

(6)

زيادة من سنن أبي داود.

(7)

دقوقا: مدينة بين إربل وبغداد.

" معجم البلدان "(2/ 581).

(8)

قال ابن قدامة في " المغني "(14/ 170 - 172): مسألة: قال: وتجوز شهادة الكفار من أهل الكتاب، في الوصية في السفر، إذا لم يكن غيرهم.

قال ابن قدامة: وجملته أنه إذا شهد بوصية المسافر الذي مات في سفره شاهدان من أهل الذمة قبلت شهادتهما، إذا لم يوجد غيرهما. ويستحلفان بعد العصر ما خانا ولا كتما، ولا اشتريا به ثمنًا قليلاً {ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الآثمين} [المائدة: 106].

قال ابن المنذر: وبهذا قال أكابر الماضين. يعني الآية التي في سورة المائدة، وممن قاله: شريح، والنخعي، والأوزاعي، ويحيى بن حمزة وقضى بذلك ابن مسعود، وأبو موسى رضي الله عنهما.

وقال أبو حنيفة، ومالك، والشافعي: لا تقبل، لأن من لا تقبل شهادته على غير الوصية، لا تقبل في الوصية، كالفاسق لا تقبل شهادته فالكافر أولى.

وروى أبو عبيدة في " الناسخ والمنسوخ " أن ابن مسعود قضى بذلك في زمن عثمان، قال أحمد: أهل المدينة ليس عندهم حديث أبي موسى. من أين يعرفونه؟ فقد ثبت هذا الحكم بكتاب الله، وقضاء رسول الله وقضاء الصحابة، وعملهم بما ثبت في الكتاب والسنة فتعين المصير إليه والعمل به، سواء وافق القياس أو خالفه.

ص: 4550

السؤال الخامس: حاصله: ما وجه منع بعض أهل الفروع لقبول الشهادة (1) على النفي؟.

وأقول: وجه ذلك أن الشاهد على نفي ما ادعاه المدعي إنما أخبر عن عدم علمه بذلك الشيء على نفي ما ادعاه المدعي، إنما أخبر عن عدم علمه بذلك الشيء، وعدم علمه به لا يستلزم العدم، فإذا قال مثلاً: إن زيدًا لم يقتل عمرًا، إن زيدا لم يأخذ مال عمر، فكأنه قال: لم أعلم بذلك. وعدم علم الشاهد أو الشاهدين أو الشهادة ليس حجة على أحد، ولا يجوز الاحتجاج به في شيء قط. ومع هذا فهذه الشهادة النافية ليس بها حاجة البتة، لأن هذا النفي هو موافق لإنكار المنكر، وليس على المنكر بينة لا مثبتة ولا نافية، بل عليه اليمين كما أوجبه الشارع عليه، ولا يحتاج إلى إقامة بينة، ولا هو مطلوب بذلك، فالمدعي إنما هو من ادعى على غيره صدور فعل منه أو قول.

أما لو ادعى عليه ابتداءً أنه لم يقل أو لم يفعل لم يكن مدعيًا، وإن كان هو المبتدئ فتقرر بهذا أن البينة على النفي ليست بمناسبة للمسالك الشرعية، كما أنها ليست بمناسبة

(1) من شروط الشهادة:

أن تكون الشهادة عن علم ويقين، ولا تقبل إذا كان سببها الظن والتخمين ولذلك جاء في تعريف الشهادة عند بعض الحنفية أنها أخبار عن مشاهدة وعيان لا عن تخمين وحسبان، وذلك بأن يعتمد في شهادته على معاينة الأفعال وسماع الأقوال قال تعالى:{ولا تقف ما ليس لك به علم} [الإسراء: 36].

انظر: " أصول الإثبات "(ص69)، " المبسوط "(16/ 116).

ص: 4551

للمسالك العقلية.

نعم. إذا كانت آيلة إلى الإثبات بوجه من الوجوه كانت مثبتة مطلوبة. وليس الاعتبار بمجرد الألفاظ، بل بما يستفاد منها من المعاني، فالحاكم العارف بمدلولات الكلام وخواصه ينبغي له أن ينظر في شهادة الشاهد ويسمعها وإن كانت نافية لأنها قد تشتمل على ما يفيد المراد من حيث المعنى، وإن كانت من حيث اللفظ نافية.

وأما الرد لها بمجرد كونها نافية فهو جمود قبيح، وظاهرية سمجة.

السؤال السادس: حاصله: ما وجه عمل من كان من حكام العصر متأهلاً للاجتهاد، جامعًا لعلومه بما وقع في كتب الفقه المألوفة عند أهل العصر وإن خالف الدليل؟.

أقول: إذا عمل المجتهد المطلق بغير ما قد ثبت لديه دليله فهو أحد القاضيين اللذين هما (1) من أهل النار، بل هو شرهما [7ب] وأقبحهما، لأنه قضى بخلاف الحق وهو يعلم بالحق، ويعلم أن قضاءه خلاف الحق. وقد صرح القرآن الكريم بعظم ذنب من عصى عالمًا، ووقع في خلاف ما ثبت على علم منه. والنصوص بذلك في مواضع من الكتاب (2)

ص: 4552

العزيز بعضها يعم أهل الإسلام ومن قبلهم من أهل الكتاب، وبعضها يخص أهل الكتاب من حيث السبب أو السياق، ويعم من حيث اللفظ. والاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

فإن قلت: إذا ابتلي المجتهد بتولي القضاء في أرض لا يعرف أهلها إلا التقليد، ولا يدينون إلا بما صرح به من هم مقلدون له، ويعدون ما خالف ذلك خارجًا عن الشريعة المطهرة كما هو في هذه الأزمنة كائن في غالب الديار الإسلامية شامها ويمنها، ومصرها وهندها ورومها وشرقها وغربها، بل لو قلت: إنه قد عمها كلها ولم يخرج من ذلك إلا الشاذ النادر كالواحد الفرد من الألوف، بل من مئين الألوف، بل من ألوف الألوف لم يكن ذلك بعيدًا من الصواب، ومما يؤيد ذلك ما رأيته في بعض مؤلفات الشيخ العلامة صالح الفلاتي رحمه الله النازل بالمدينة المنورة في هذا العصر المتوفى إلى رحمة الله في الأيام القريبة فإنه قال: إنه دار الغرب والشرق، ومصر والشام، والحرمين فلم يجد في هذه الديار مع طول البحث ومزيد الكشف من يعمل بالأدلة ويؤثرها على التقليد (1) إلا ثلاثة رجال فقط.

قلت: هذا المجتهد المسكين المبتلى من جهتين:

الجهة الأولى توليه للقضاء.

الجهة الثانية كونه في ديار المقلدة الذين هم بتلك الصفة يجب عليه أن يقدم حق الله عليه، ويؤثر مراده منه فيقضي بما يقتضيه كتاب الله عز وجل، وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم غير ملتفت إلى غيرهما، ولا مؤثر لما سواهما، ويضرب بذلك وجه المحكوم عليه، فإن وجد للحق ناصرًا فبها ونعمت، وإن لم يجد للحق ناصرًا فليس عليه إلا ذلك، ولا يجب عليه سواه، لأنه قد أبلغ الحجة، ووفى بما أخذه الله عليه من البيان، وقام بالميثاق الذي ألزمه الله - سبحانه - به في كتابه العزيز، فإن عجز عن ذلك ورجفت

(1) انظر الرسالة رقم (60).

ص: 4553

عن الجزم به بوادره، وأصابه الجبن الذي يصاب به كثير من حملة العلم فواجب عليه وجوبًا مضيقًا أن يتخلص مما هو فيه، ويعزل نفسه، ويستريح ويريح، فإن لم يقبل منه ذلك، ولا وجد من يساعده ويقبله منه [8أ] ففي سعة الخافقين مضطرب، وفي كل بلاد من اجتهاد يدل، وما الكرخ (1) الدنيا، ولا الناس قاسم. فإن لم تساعده المقادير إلى ذلك، ولا بلغت إليه طاقته فعليه أن يرد كل خصومة ترد عليه وفيها دليل واضح، لأنه [ ...... ](2) من الحكم به إلى غيره من الحكام، ولم يوجب الله عليه أن يحكم بخلاف الشرع، ولا سوغ له ذلك بوجه من الوجوه، ولا سيما إذا كانت تلك المسألة مما اضطربت فيها الأدلة وتعارضت، فإن المجتهد وإن رجح أحد الأدلة فالمخالف له قد رجح دليلاً معارضًا لدليله بوجه من وجوه الترجيح

على اختلاف الأنظار في ذلك، وتباين مراتب العلوم، وتفاوت أقدام العلماء، وأن العقبة الكئود، والمعضلة العمياء الصماء أن يكون قد ألف الناس بسبب التقليد قولاً وهو محض رأي، وقد عارضه دليل صحيح ظاهر الدلالة، واضح المعنى كمعارضة حديث المصراة المتفق (3) عليه بتلك الخيالات المختلة، والآراء المعتلة (4). وأمثاله كثيرة ونظائره جمة. وأخطر مواطن الخلاف وأصعبها موطنان:

الموطن الأول: ما ينشأ عن الحيل المخالفة للشرع التي سوغها بعض أهل العلم تسويغًا

_________

(1)

محلة بغداد. ويقال كرخ بغداد: لما ابتنى المنصور مدينة بغداد أمر أن تجعل الأسواق في طاقات المدينة إزاء كل باب، سوق.

" معجم البلدان "(4/ 448).

(2)

كلمة غير واضحة في المخطوط.

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2150) ومسلم رقم (11/ 151) وأحمد (2/ 242، 294) ومالك في الموطأ (2/ 683 رقم 96) وأبو داود رقم (3443) والنسائي (7/ 253) من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تصروا الإبل والغنم فمن ابتاعها بعد ذلك فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها إن رضيها أمسكها وإن سخطها ردها وصاعًا من تمر ".

(4)

انظر: " أعلام الموقعين "(2/ 330)، " المسوى "(2/ 32).

ص: 4554

لم يشهد له دليل، ولا سلك من سبل الحق في سبيل.

الموطن الثاني: تسويغ الضرارات في المواريث التي تولى الله - سبحانه - في كتابه تقسيطها بين أهلها، وتوزيعها بين مستحقيها، فإذا جبن الحاكم عن الصدع بالحق في هذين الموطنين فالموت خير له من الحياة، لأنه يتسبب عن ذلك مفاسد ومخالفات لأدلة الكتاب والسنة يصعب حصرها، وتتعسر الإحاطة بها، وما عدا هذين الموطنين فهو دونهما في الصعوبة. ولا يعجز عن توجيه الحق فيه ولو بذريعة من ذرائع التوصل إلى الحق إلا من عجز وضعف، ومن كان كذلك فليس بأهل للدخول في هذا المنصب. ولهذا علل صلى الله عليه وآله وسلم النهي لأبي ذر رضي الله عنه عن تولي الإمارة بضعفه عن القيام بها كما ثبت ذلك في الصحيح (1).

السؤال السابع: حاصله الاستنكار على من يحكم بالرأي (2) مع وجود الدليل من الكتاب والسنة.

وأقول: هذا لا يكون إلا من حاكم لا يعرف كتابًا ولا سنة، والذنب على من ولاه مثل الذنب عليه، وهو [8ب] أحد قاضيي النار، سواء أصاب أو أخطأ، لأنه مع الإصابة حكم بالحق وهو لا يعلم به، ومع الخطأ حكم بغير الحق جهلاً منه بالحق، فإن كان ممن عنده علم بالكتاب والسنة فهو أيضًا القاضي الآخر من قضاة النار، لأنه علم بالحق، وحكم بالباطل.

ولست أظن بحاكم يعرف الكتاب والسنة ويفهمهما أنه يعدل عنهما إلى ما ليس منهما، بل إلى ما يخالفها، فإن هذا قد تقحم النار على بصيرة، واستحق العقاب على علم منه.

أما إذا لم يجد مستندًا للحكم في تلك الخصومة من كتاب، ولا سنة، ولا قياس

(1) أخرجه مسلم رقم (17/ 1826) وأحمد في " المسند "(5/ 180).

(2)

انظر الرسالة رقم (60).

ص: 4555

معتمد، ولا إجماع يحتج به على خلاف في ذلك، فحديث معاذ (1) وإن كان فيه مقال لبعض أهل العلم فطرقه قد كثرت جدًا، وبعضها حسن لذاته، ومجموعهما ينتهض للاحتجاج به.

وقد جمعت في ذلك بحثًا واستوفيت فيه جميع طرقه فالواجب على الحاكم أن ينظر في نصوص الكتاب والسنة، فإن وجد ذلك فيهما قدمه على غيره، فإن لم يجده أخذ بالظواهر منهما، وما يستفاد بمنطوقهما ومفهومهما، فإن لم يجد نظر في أفعال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم في تقريراته لبعض أمته ثم في الإجماع إن كان يقول بحجيته، ثم في القياس على ما يقتضيه اجتهاده.

وإذا أعوزه ذلك تمسك بالبراءة الأصلية، وعليه عند التعارض بين الأدلة أن يقدم طريق الجمع على وجه مقبول، فإن أعوزه ذلك رجع إلى المرجحات المذكورة في كتب الأصول بعد أن يصح له أن ذلك المرجح مرجح.

وقد ذكرت نحوًا من هذا في إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول، وذكرت قول من قال إن النصوص لا تفي بالحوادث، وتعقبت ذلك بما فيه [ ....

.] (2) وعندي أن من استكثر من تتبع الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، وجعل ذلك دأبه، ووجه إليه همته، واستعان بالله عز وجل واستمد منه التوفيق، وكان معظم همه، ومرمى قصده الوقوف على الحق، والعثور على الصواب من دون تعصب لمذهب من المذاهب وجد فيهما ما يطلبه فإنهما الكثير الطيب، والبحر الذي لا ينزف، والنهر الذي يشرب منه كل وارد عليه، والمعتصم الذي يأوي إليه كل واحد فاشدد يديك على هذا فإنك إن قبلته بصدر منشرح، وقلب موفق، وعقل قد حلت به الهداية، وجدت فيهما كل ما يطلبه من الأحكام التي تريد الوقوف على دلائلها كائنًا ما كان، فإن

(1) وهو حديث ضعيف وقد تقدم.

(2)

كلمة غير واضحة في المخطوط.

ص: 4556

استبعدت [9أ] هذا المقال، واستعظمت هذا الكلام، فمن نفسك أتيت، ومن قبل تقصيرك أصبت، وعلى نفسها براقش تجني (1) وإنما ينشرح لمثل هذا الكلام صدور قوم مؤمنين وقلوب رجال مستعدين لهذه المرتبة العلية.

لا تعدل المشتاق في أشواقه

حتى تكون حشاك في أحشائه

لا يعرف الشوق إلا من يكابده

ولا الصبابة إلا من يعانيها

دع عنك تعنيفي وذق طعم الهوى

إذا هويت فبعد ذلك عنف

إذا عرفت هذا فاعلم أن الحاكم الموثوق بدينه وعلمه ربما عمل في حكم من الأحكام بعموم من الكتاب أو السنة يخفى على كثير ممن يطلع على ذلك، فيظن به أنه عمل بالرأي عند عدم الدليل، أو عدل إلى نوع من أنواع المناسب المعمول بها عند البعض، والملغاة عند آخرين، وربما يظن به أنه خالف نصًا يعرفه، ولو علم ما عند ذلك القاضي من الوجه المسوغ للعدول لتبين له أنه لم يعدل إلا إلى ما هو حقيق بالعدول إليه بدلالة بينة يكون العدول إليها أجلب لمصالح الشريعة، وأدفع للمفاسد عنها.

لو رأى وجه حبيبي عاذلي

لتفارقنا على وجه جميل

ولأمر ما يقول الصادق المصدوق صلى الله عليه وآله وسلم فيما صح عنه في الصحيحين (2) وغيرهما: " إذا اجتهد الحاكم فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر " فردده من أجر وأجرين، وأن هذا الأمر يقر به من قضاة الحق كل عين، ولسان حال ذلك القاضي يقول:

سيفقدني (3) قومي إذا جد جدهم

وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر

فإن قلت: وأين هذا القاضي؟ ومتى جاد الزمان بمثله؟ وفي أي بلاد نجده؟.

(1) تقدم شرحه.

(2)

تقدم تخريجه انظر الرسالة رقم (60).

(3)

سيذكرني كذا في ديوان أبي فراس الحمداني (ص67).

ص: 4557

قلت: إنما قلت ما قلت على الفرض والتقدير، وعدم وجودك له لا يستلزم عدم قبولك لكلامي هذا.

وإلى هنا انتهى الجواب بقلم المجيب محمد بن علي الشوكاني - غفر الله لهما -.

ص: 4558