الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأبحاث البديعة في وجوب الإجابة إلى حكام الشريعة
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب
وصف المخطوط:
1 -
عنوان الرسالة من المخطوط: " الأبحاث البديعة في وجوب الإجابة إلى حكام الشريعة ".
2 -
موضوع الرسالة: " فقه ".
3 -
أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم، إياك نعبد، وإياك نستعين، أحمدك لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأصلي وأسلم على رسولك وآل رسولك. . . .
4 -
آخر الرسالة: وهي موجودة في الصحيحين بالغة فيهما إلى حد التواتر المعتبر، فراجعوا ذلك ففيه ما يغني.
والحمد لله أولاً وآخرًا، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله، ورضي الله عن الصحابة الأخيار.
5 -
نوع الخط: خط نسخي عادي.
6 -
عدد الصفحات: 45 صفحة ما عدا صفحة العنوان.
7 -
عدد الأسطر في الصفحة: 27 سطرًا.
8 -
عدد الكلمات في السطر: 11 كلمة.
9 -
الرسالة من المجلد الثاني من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.
بسم الله الرحمن الرحيم
إياك نعبد، وإياك نستعين، أحمدك لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأصلي وأسلم على رسولك وآل رسولك.
وبعد:
فإنه وصل إلى الفقير محمد بن علي الشوكاني - غفر الله لهما - سؤال من سيدي السيد العلامة الرئيس الفهامة شرف الدين بن أحمد بن محمد بن الحسين (1) - كثر الله فوائده - حاصله: هل ثم دليل يدل على وجوب إجابة أحد الخصمين إلى حاكم خارج عن المحل الذي يسكنه الخصم الآخر المطلوب؟ فأجبت بجواب لم يكن أصله محفوظًا لدي، وحاصله أن الإجابة إلى الشريعة المطهرة واجبة على كل مسلم، فمن دعا خصمه إلى قاض من القضاة الذين يعرفون حكم الله في تلك الخصومة، ويتمكنون من الحكم بما أمر الله بالحكم به في محكم كتابه، فإنه أمر رسله وسائر عباده بالحكم بما أنزل، وبالعدل وبالقسط، وبما أراهم الله، وجب عليه إجابته. ومعلوم أنه لا يعرف ذلك إلا من يعرف ما أنزل الله في كتابه وعلى لسان رسوله؛ فإن ذلك هو الشريعة المحمدية، وجميع ما يحصل من المسائل الشرعية بالمقايسة الصحيحة هو من جملة ما تناوله الكتاب أو السنة بتلك الواسطة، وكذلك ما كان من المسائل بدليل فحوى الخطاب (2) أو لحنه (3)،
(1) ابن عبد القادر بن الناصر بن عبد الرب بن علي بن شمس الدين بن الإمام شرف الدين أمير كوكبان وبلادها.
ولد في ربيع الآخر سنة 1159هـ.
قال الشوكاني في " البدر الطالع " رقم (193): وقد كاتبني غير مرة، وذاكرني في مسائل ونصحته فأظهر القبول ولم يفعل. كانت وفاته سنة 1241هـ.
" نيل الوطر "(1/ 158).
(2)
المفهوم ينقسم إلى مفهوم موافقة ومفهوم مخالفة. فمفهوم الموافقة حيث يكون المسكوت عنه موافقًا للملفوظ به، فإن كان أولى بالحكم من المنطوق به فيسمى فحوى الخطاب.
وإن كان مساويًا له فيسمى لحن الخطاب.
وقال الماوردي والروياني في الفرق بين فحوى الخطاب ولحن الخطاب وجهين:
أحدهما: أن الفحوى ما نبه عليه اللفظ، واللحن ما لاح في ثنايا اللفظ.
وثانيهما: أن الفحوى ما دل على ما هو أقوى منه، واللحن ما دل على مثله.
" إرشاد الفحول "(ص589)، " البحر المحيط "(4/ 8).
مثال: فحوى الخطاب: كدلالة تحريم التأفف على تحريم الضرب؛ لأنه أشد، فتحريم الضرب من قوله تعالى:{فلا تقل لهما أف} [الإسراء: 23]. من باب التنبيه بالأدنى - وهو التأفيف - على الأعلى وهو الضرب.
مثال: لحن الخطاب: تحريم إحراق مال اليتيم الدال عليه قوله تعالى: {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما} [النساء: 10]. فالإحراق مساوٍ للأكل بواسطة الإتلاف في الصورتين.
انظر " الكوكب المنير "(3/ 482)، " المستصفى "(3/ 411 - 412).
(3)
المفهوم ينقسم إلى مفهوم موافقة ومفهوم مخالفة. فمفهوم الموافقة حيث يكون المسكوت عنه موافقًا للملفوظ به، فإن كان أولى بالحكم من المنطوق به فيسمى فحوى الخطاب.
وإن كان مساويًا له فيسمى لحن الخطاب.
وقال الماوردي والروياني في الفرق بين فحوى الخطاب ولحن الخطاب وجهين:
أحدهما: أن الفحوى ما نبه عليه اللفظ، واللحن ما لاح في ثنايا اللفظ.
وثانيهما: أن الفحوى ما دل على ما هو أقوى منه، واللحن ما دل على مثله.
" إرشاد الفحول "(ص589)، " البحر المحيط "(4/ 8).
مثال: فحوى الخطاب: كدلالة تحريم التأفف على تحريم الضرب؛ لأنه أشد، فتحريم الضرب من قوله تعالى:{فلا تقل لهما أف} [الإسراء: 23]. من باب التنبيه بالأدنى - وهو التأفيف - على الأعلى وهو الضرب.
مثال: لحن الخطاب: تحريم إحراق مال اليتيم الدال عليه قوله تعالى: {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما} [النساء: 10]. فالإحراق مساوٍ للأكل بواسطة الإتلاف في الصورتين.
انظر " الكوكب المنير "(3/ 482)، " المستصفى "(3/ 411 - 412).
ثم ذكرت ذلك في الجواب دليلين من كتاب الله تعالى على وجوب الإجابة إلى الشريعة المطهرة، وهما قول الله عز وجل:{إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا} (1)[1أ] وقول الله - سبحانه -: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما} (2). وأوضحت ما في هاتين الآيتين الشريفتين من الأسرار الربانية التي يمكن الاطلاع على بعضها للبشر بممارسة العلوم الموضوعة لبيان دقائق العربية وأسرارها، جازمًا بأن الدعاء إلى الله وإلى رسوله هو الدعاء إلى ما شرعه الله ورسوله، مبرهنًا على ذلك بإجماع المتشرعين عليه، وبيانه أنه لا يعرف خلاف لفرد من أفراد المسلمين سابقهم ولاحقهم في وجوب إجابة من دعا خصمه إلى التحاكم إلى الشريعة المطهرة، فمن ادعى أن ذلك لا يجب إلا في زمن النبوة إلى رسول
(1)[النور: 51].
(2)
[النساء: 65].
الله وحده فقد طوى بساط الشريعة بعد عصر الرسالة، وخالف جميع أهل الملة الإسلامية من لدن الصحابة إلى الآن، فإنهم متفقون على وجوب الإجابة إلى الشريعة، متقيدون بأحكامها قولاً وفعلاً واعتقادًا، فإن قال من قصر وجوب الإجابة على أيام النبوة إلى رسول الله وحده إنه قائم مقام المنع وطالب للدليل، فهذا الإجماع الذي نقلناه يكفي في الجواب عليه، على أن في الكتاب العزيز، وفي السنة المطهرة من الأدلة المصرحة بوجوب الإجابة لما شرعه الله في محكم كتابه وعلى لسان رسوله ما لا يأتي عليه الحصر. ولا فائدة في إيراد شيء من ذلك؛ لأن هذا الأمر هو المقصد الأهم، والغرض الأقدم من الدعوة المحمدية، بل من دعوة جميع الرسل، ولا يظن بمسلم أن يخالف في ذلك، ولو فرضنا وجوده فرضًا اختراعيًا لكان هو المطالب بالدليل؛ لأنه يزعم أن بساط الشريعة قد طوي بعد أيام النبوة [1ب]، وارتفع تعبد الأمة بها.
فيقال له: ما الدليل على ذلك مع كونه [. . . . .](1) الضرورة الدينية؟ فإن خص ذلك بمسائل الخصومة دون غيرها وقال: لا تجب إجابة دعوة الخصم لخصمه إلى الشريعة بعد عصر النبوة مع تسليمه أن الأمة متعبدة بهذه الشريعة المطهرة قبل مضي عصر النبوة، فيقال له: ما الفرق بين مسائل الصلاة والصيام مثلاً، وبين مسائل البيع والهبة والنذر حتى بقي التعبد بالمسائل الأولى دون المسائل الثانية؟ فإن قال: لا فرق كما هو الظن بكل مسلم، فيقال له: إذا اختلف المسلمان في شيء من المعاملات الشرعية، فقال أحدهما: الحق بيده، وقابله الآخر بمثل دعواه، فما الحيلة في رفع ما بينهما من الاختلاف؟ هذا على فرض عدم الدعوة من أحدهما لخصمه إلى الشريعة المطهرة، فكيف إذا دعاه إليها، وهذا التقدير إنما هو مقدمة لما يأتي في غضون هذه الأبحاث؛ إذ النزاع لم يتعلق به في الظاهر، وإن استلزمه كلام المعترض - عافاه الله - كما سيأتي بيانه.
وإذا تقرر وجوب إجابة الطالب لخصمه إلى الشريعة المطهرة بالضرورة الدينية. فلا
(1) كلمة غير واضحة في المخطوط.
بد أن يكون القاضي المدعو إليه على الصفة التي [2أ] قدمنا من العلم بالشريعة التي هي الكتاب والسنة وما يلتحق بهما، وهو لا يعلم بكتاب الله حتى يعرف محكمه ومتشابهه، وناسخه ومنسوخه، وعامه وخاصه، ومجمله ومبينه، ومطلقه ومقيده، وتنزيله وتأويله (1)، ولا يعرف ذلك إلا نحارير العلماء، على أن فهم مدلول تركيباته المشتملة على المسائل الشرعية لا يتم إلا بعد معرفة لغة العرب على الصفة التي كانت عليها، وذلك يتوقف على معرفة علم اللغة، والنحو والصرف، والمعاني والبيان، كما أن بعض الأوصاف السابقة لا يعرف إلا بمعرفة علم الأصول، ومعرفة ما قاله علماء الصحابة فمن بعدهم في تفسير آيات الكتاب العزيز، وبيان أسباب النزول، وتاريخ الوقائع، وهكذا معرفة السنة المطهرة تتوقف على ما يتوقف عليه معرفة الكتاب العزيز من العلوم، مع زيادة البحث عن أحوال الرواة، ومعرفة من يجوز العمل على روايته ومن لا يجوز، وما يكون به الحديث صحيحًا، أو حسنًا، أو ضعيفًا، أو موضوعًا. ولا يعرف ذلك إلا من يعرف علوم الحديث معرفةً يفهم بها هذا الشأن، وهذا عندي هو العقبة الكؤود، فإن أقدام العلماء فيه متفاوتة غاية التفاوت، فمنهم من لا يفهمه ولا يهتدي إليه، ومنهم من يأخذ منه بقدر فهمه.
وأما بلوغ [2ب] درجة التحقيق فيه والإتقان له فقليل جدًا، خصوصًا في ديارنا هذه، فإن وجود من يعرف الأمهات الست فضلاً عن غيرها قليل جدًا، مع أن التوسع في معرفة السنة المطهرة لا بد منه لمن يدعي أنه يقتدر على الحكم بين المتخاصمين بما في الكتاب والسنة؛ لأن دليل المسألة قد يوجد في كتاب ولا يوجد في كتاب آخر، فإن كثيرًا من المسائل التي تقع فيها الخصومة لا يوجد دليلها في الأمهات الست، وهو موجود في غيرها من المسانيد والمستدركات والمستخرجات ونحوها. هذا يعلمه كل باحث عن الأدلة، وناظر في مواطنها، فإذا اختصم الرجلان إلى قاض يعلم بما في الأمهات الست،
(1) انظر " أدب القاضي "(ص19 - 25)، " تبصرة الحكام "(1/ 11).
ولا يعلم بما في غيرها، وكان دليل ما اختصما فيه غير موجود فيها، وهو موجود في غيرها، وقد علمه قاض آخر، فمعلوم أن القاضي الآخر هو الذي يعلم بالحكم الشرعي في تلك المسألة، وهكذا إذا كان أحد القاضيين أوسع رواية ودراية من الآخر، فإن كل خصومة تعرض للقاضي المفضول ولا يجد دليلها لا بد أن يختلج في خاطره، بل وفي خاطر الخصمين إن كان لهما بعض تمييز، بل وفي خاطر غيرهما من الناس أن القاضي الفاضل قد يجد دليل تلك المسألة، وهذا إنما ذكرته ليعلم الواقف عليه أن من كان أكثر علمًا كان أعلم بحكم الله في المسألة، ولا أقول: إنه يجب أن يكون التخاصم إلى الأفضل غير مقيد بقيد القرب الذي لا يكون فيه كثير مشقة على المتخاصمين؛ لأن كل عالم يوجد لا بد أن يجوز العقل أن غيره أعلم منه، بل أقول: إن التخاصم إلى من هو أعلم بالمسائل الشرعية المأخوذة عن الأدلة متعين إذا كان في مكان معلوم لا يحصل به الإتعاب للخصمين، الخارج عن مسلك الشريعة السمحة السهلة، وهذا على تقدير أن يكون في المكان الذي يسكنه الخصمان قاض مفضول، لكنه عالم بالكتاب والسنة ومقدماتها علمًا دون علم الفاضل.
أما إذا لم يكن في ذلك [3أ] قاض كذلك، بل كان من فيه من القضاة ممن له بعض فهم، ولكن لا يتمكن من استخراج الحجة الشرعية؛ لعدم اشتغاله بذلك، أو كان قاصر الفهم على وجه لا يتعقل الحجة الشرعية إذا جاءته، فهذا وجوده كعدمه، وترافعُ الخصمين إليه ليحكم بينهما بالشريعة المطهرة جهل على جهل؛ فإنهما جهلا كونه لا يعلم بالشريعة فترافعا إليه، وهو أيضًا جهل أنه غير عالم بها فقبلهما، وصدر نفسه للحكم بينهما. ولو كشف للخصمين أن القاضي لا يعلم بالشريعة لم يتخاصما إليه؛ لأنهما إنما طلبا الحكم الشرعي؛ فلهذا سلما وقنعا وأذعنا لما حكم به، ولو علم المحكوم عليه منهما أن الحكم عليه في تلك الحادثة مخالف للشريعة المطهرة لم يقنع إلا إذا أكره إكراهًا لا يتمكن معه من طلب حكم الله، وهكذا لو علم القاضي الجاهل بأنه غير عالم بالشريعة المطهرة لم يصدر نفسه للحكم إذا كان فيه أدنى نصيب من الدين وأحقر حصة
من التقوى. ولكنه شبه عليه الأمر، فظن لجهله أن الشريعة المطهرة هي ما يحفظه بعض الممارسين للخصومات من تلك القوانين التي قد وقع الاصطلاح عليها، قأقدم على الحكم إقدام من جهل الحكم الشرعي وجهل أنه جاهل به، وهذا القاضي لا فرق بينه وبين من يتكسب بالوكالة للخصوم في ديارنا هذه، فإن من كان من المتخاصمين غير قادر على الخصومة يقصد رجلاً من الممارسين للخصومة فيجعله وكيلاً له، ويسلم له أجرًا؛ لأنه ظن أن ذلك الوكيل يعرف الشريعة، وأنه سيكفيه مؤونة الخصام؛ فلهذا بذل له ماله وألقى إليه مقاليد أمره، وذلك الوكيل قد ظن أن الشريعة هي تلك المسالك الاصطلاحية التي قد مارسها وتمرن فيها، فصدر نفسه للوكالة، وتكلم في مواقف الخصام بملء فيه، كما ظن ذلك القاضي الجاهل بأنه قد علم بالشريعة المطهرة بمجرد حضوره في مواقف الخصام قبل أن يصير قاضيًا، أو بمجرد اطلاعه على مختصر من المختصرات المدونة في هذا الشأن، ولو رجع إلى عقله واستعان بفهمه، لعَلِمَ [3ب] أن الشريعة المطهرة هي ما شرعه الله في محكم كتابه وعلى لسان رسوله، وأنه لا يعرف ذلك، فإنه لو قال له قائل: هل قرأت العلوم التي يتوقف معرفة كلام الله وكلام رسوله على معرفتها؟ لقال: لا، ولو قال له قائل: هل تروي سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن شيوخها العارفين بها، وهل قعدت بين أيديهم، وسمعت منهم متونها وأسانيدها، واستوضحت معانيها؟ لقال: لا، ولو قال له قائل: هل أخذت علم تفسير كتاب الله عن شيوخه العارفين به؟ لقال: لا، فلم يبق حينئذ إلا أن يقول: حضرت مواقف الخصومة لدى القاضي الفلاني، فرأيته يصنع كذا، وسمعته يقول كذا، أو حضرت في قراءة المختصر الفلاني ففهمت منه كذا، وعرفت منه كذا.
فإذا قيل له: هل تعلم أن هذا الذي كان يفعله القاضي الفلاني أو رأيته في المختصر الفلاني هو حكم الله الذي شرعه لعباده، وعلى لسان رسوله فلا بد أن يقول: لا أدري؛ لأن المفروض أنه جاهل به، بل لو كان من المقلدين الممارسين لكتب التقليد ممارسة طويلة لم يقدم على هذه المقالة؛ لأن المفروض أنه مقلد، والمقلد هو من يقبل قول
الغير من دون أن يطالبه بحجة.
ولهذا قال أهل الأصول (1) في حد التقليد أنه قبول قول الغير دون حجته، فكل مقلد يعترف على نفسه بأنه لا يطالب بالحجة ولا يتعقلها، فضلاً عن أن يعلم بحكم الله سبحانه.
إذا تقرر هذا، فاعلم أن خلاصة ما أجبت به في الجواب المشار إليه سابقًا عن السؤال المتقدم ذكره هو: أن المحل الذي يسكنه الخصمان إن كان فيه من يتمكن من الحكم بينهما بالشريعة المطهرة على الوجه الذي لخصناه هاهنا، فلا يجوز لأحدهما أن يطالب الآخر بالخروج إلى قاض آخر في مكان غير المكان الذي يسكنانه؛ لأن ذلك مجرد إتعاب، ومحض مشقة، وإن لم يكن فيه من هو كذلك بل لم يوجد فيه قاض، أو وجد فيه، وهو غير عالم بحكم الله - سبحانه - على الوجه المتقدم ذكره، فالواجب [4أ] الترافع إلى قاض يعرف ما شرعه الله لعباده، وإن بعد مكانه؛ لأن الترافع إلى من لا يعرف الشريعة ليس بترافع إلى الشريعة، ومجرد وجود اسم القاضي لا يستلزم أن يوجد في ضمنه المسمى بلا خلاف. وسنورد الآن لفظ الاعتراض الواقع من السائل - كثر الله فوائده - على جوابي الذي هذا خلاصته، وأتعقب كل بحث منه بما يرد عليه، سالكًا في جميع ذلك مسلك الإنصاف، واقفًا على ما ينبغي الوقوف عنده من القواعد العلمية، ماشيًا على قواعد علم المناظرة (2)، غير خارج عن قوانينها المدونة، فأقول: قال - كثر الله فوائده -: وأشكلت علينا فيما ذكرتموه مسألتان، أحببنا عرضها عليكم.
المسألة الأولى: إلزامكم لأولاد القاضي تسليم نصف الأجرة.
المسألة الثانية: في الاستدلال على تكليف الغرماء للرحيل من جهة إلى جهة بالآيتين الكريمتين، فأما المسألة الثانية فالإشكال فيها من وجوه:
(1) انظر " إرشاد الفحول "(ص860). وانظر الرسالة رقم (60).
(2)
تقدم ذكرها.
الأول: أن آية النور وما قبلها من قوله تعالى: {إذا دعوا إلى الله ورسوله} (1) الآيات نزلت في المنافق واليهودي حين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وليس الدعاء إلى غير رسول الله للحكم كالدعاء إليه؛ للفرق الذي لا يخفى على أحد، ولا يقال: إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب (2)؛ لأنه يقال: عموم اللفظ مسلم في المؤمنين الذين دعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليحكم بينهم، فيكون العموم من نفس اللفظ في من دعى إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا يختص بمن كان سببًا في نزول الآية.
وأما العموم في الحاكم المدعو إليه فمشكل؛ لعدم شمول لفظ الرسول لغيره من الأمة. وقد قال الزمخشري في كشافه (3) في تفسير قوله تعالى: {إذا دعوا إلى الله ورسوله} ما لفظه: معنى: إلى الله وإلى رسوله: إلى رسول الله، كقولك: أعجبني زيد وكرمه، تريد كرم زيد. . . إلخ.
أقول: نورد عليه - كثر الله فوائده - قبل الكلام على كلامه هذا سؤال الاستفسار.
فنقول: هل إجابة من دعا إلى حاكم من حكام الشريعة المطهرة بعد عصر النبوة ليحكم بينهم بما أنزل الله، وهو في بلد المتخاصمين أو خارج عنها، ولا حاكم فيها (4)
(1)[النور: 51].
(2)
انظر " إرشاد الفحول "(ص454)، " البحر المحيط "(3/ 198).
(3)
(4/ 313).
(4)
قال ابن قدامة في " المغني "(14/ 5 - 6): والقضاء من فروض الكفايات؛ لأن أمر الناس لا يستقيم بدونه، فكان واجبًا عليهم، كالجهاد والإمامة، قال أحمد: لا بد للناس من حاكم، وإلا أتذهب حقوق الناس؟! وفيه فضل عظيم لمن قوي على القيام به وأداء الحق فيه؛ ولذلك جعل الله فيه أجرًا مع الخطأ وأسقط عنه حكم الخطأ، ولأن فيه أمرًا بالمعروف ونصرة المظلوم، وأداء الحق إلى مستحقه، ورد للظالم عن ظلمه، وإصلاحًا بين الناس، وتخليصًا لبعضهم من بعض، وذلك من أبواب القرب؛ ولذلك تولاه النبي صلى الله عليه وسلم والأنبياء من قبله، فكانوا يحكمون أممهم، وبعث عليًا إلى اليمن قاضيًا، وبعث أيضًا معاذًا قاضيًا.
يحكم بما أنزله الله واجبة لديكم أم لا؟ إن قلتم: واجبة، وليست المناقشة [4ب] منكم إلا في مجرد دلالة الآيتين المذكورتين على ذلك فالخطب يسير، والوفاق كائن، وأنتم تقولون بما أقوله، وتوجبون ما أوجبه، إما بعين دليلي، أو بدليل آخر، وحينئذ لا يضرني تسليم ما أوردتم، ولا ينفعكم؛ لأن تقرير المسألة بدليلها في الجملة اتفقنا عليه، ولم يبق الكلام إلا في مجرد تطبيق دليلي على ذلك المدلول المتفق على صحته، وأمره سهل؛ لأن المطلوب قد حصل بالموافقة، وليس من شرط حصول المطلوب أن يكون بدليل خاص، بل المعتبر وجود دليله في الجملة، وهو لازم للوجود المتفق عليه.
وإن قلتم: إن الإجابة إلى حاكم يحكم بما أنزل الله بعد عصر النبوة غير واجبة، لزمكم طي بساط الشريعة، وارتفاع التعبد بها، وعدم لزوم حكمها لجميع الأمة بعد موته صلى الله عليه وآله وسلم. واللازم باطل بالإجماع؛ فالملزوم مثله. أما الملازمة فبيانها أنه إذا لم يجب على المطلوب من الخصمين الإجابة لطالبه إلى حاكم من حكام الشريعة، عند أن يطلب ذلك منه، وهو ظالم له في شيء من الحقوق المالية أو البدنية، ولا يمكن رفع الظلامة وكشفها إلا بالتخاصم إلى الحاكم المذكور، فقد وقعت التخلية بين الظالم والمظلوم، وعدم الإنكار عليه، والأخذ على يده، وهو في نفسه استمر على مخالفة قطعي من قطعيات الشريعة، وتمرد على الله وعلى شريعته، وعلى الحاملين للحجة الشرعية والمبينين لها، الذين أخذ الله عليهم الميثاق في البيان في محكم كتابه، وأما بطلان اللازم فبإجماع المسلمين، وبالضرورة الدينية إما بيان كون ذلك إجماع المسلمين، فغير خافٍ على من له أدنى انتماء إلى الشريعة؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم بعد موته صلى الله عليه وآله وسلم قاتلوا الممتنعين من تسليم الزكاة، وأقاموا الحدود، وجاهدوا الكفار، وألزموا الناس القيام بجميع الواجبات الشرعية، وحالوا بينهم وبين المحرمات الدينية، وأنصفوا المظلوم من الظالم، ونصبوا الحكام، وأوجبوا على الناس الإجابة إليهم، وامتثال أحكامهم، والوقوف على الحدود التي يرسمونها من الشريعة لهم. ثم فعل ذلك التابعون وتابعوهم، ومن بعدهم إلى هذه الغاية، ولو قال قائل في أي عصر
من العصور [5أ] الإسلامية: إن التعبد بهذه الشريعة المحمدية قد ارتفع بموته صلى الله عليه وآله وسلم، وأنه لم يبق على هذه الأمة شيء من أحكامها - لما جاوبه المسلمون عن هذه المقالة إلا بالسيف، كائنًا من كان، وفي أي عصر كان، فضلاً عن أن يسمعوه الحجج الشرعية ويناظروه في ذلك مناظرة من خالف في مسألة من مسائل الدين، وإنما قلنا: إنه يلزم من ذلك طي بساط الشريعة؛ لأنا قد قدمنا أنه لا فرق بين مسائل العبادات وبين مسائل المعاملات، وأن من قال: لا تجب الإجابة إلى حكام الشريعة في مسائل المعاملات، فقد لزمه رفع التعبد بها من بعد عصر النبوة.
ولا وجه لتخصيص عدم التعبد للأمة بمسائل المعاملات دون مسائل العبادات؛ لأن الكل شريعة شرعها الله لعباده في محكم كتابه، وعلى لسان رسوله، فنسبة الكل إلى مطلق الشريعة نسبة واحدة، وليس البعض بالانتساب إلى الشريعة المطهرة أولى من بعض بإجماع المسلمين. وإما كون ذلك معلومًا بالضرورة الدينية فيما يجده كل متشرع من نفسه، سواء كان مقصرًا في معرفة الشريعة، أو كاملاً من العلم الضروري الحاصل عنده في جميع الأوقات أنه وسائر المسلمين متعبدون بهذه الشريعة الموجودة بين ظهراني المسلمين.
وإذا قد فرغنا من سؤال الاستفسار بعد تقريره على هذا الوجه الموجب للاتفاق على أحد شقيه، وهو وجوب إجابة الدعوة إلى الشريعة المطهرة بعد عصر النبوة، فلنتكلم الآن على ألفاظ المناقشة التي أوردها المناقش - كثر الله فوائده -.
فنقول: أما ما ذكره فيما كتبناه سابقًا من كلامه أن الآية التي وقع الاستدلال بها - أعني قوله تعالى -: {إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون} (1) نزلت في المنافق واليهودي، فهذا على تقدير تسليمه لا
(1)[النور: 51].
قال القرطبي في " الجامع لأحكام القرآن "(12/ 294): هذه الآية دليل على وجوب إجابة الداعي إلى الحاكم؛ لأن الله سبحانه ذم من دعي إلى رسوله ليحكم بينه وبين خصمه بأقبح الذم، فقال:{أفي قلوبهم مرض} .
قال ابن خويز منداد: واجب على كل من دعي إلى مجلس الحاكم أن يجيب، ما لم يعلم أن الحاكم فاسق. . . ".
وانظر " روح المعاني " للألوسي (18/ 196 - 197).
يضرنا؛ فإن الله سبحانه وتعالى قال في هذه الآية الكريمة: {إنما كان قول المؤمنين} ولم يقل: إنما كان قول اليهودي، ولا قال: إنما كان قول المنافق، وهذا القول منسوب إلى جميع المؤمنين كما يفيد ذلك الألف واللام التعريفية، أو الموصولية على اختلاف [5ب] الرأيين كما تقرر ذلك في علم النحو وعلم المعاني، وانهدام الجمعية، ومصير الصيغة جنسية شاملة محيطة كما هو معروف في علم المعاني أيضًا (1)، فيكون ذلك في قوة إنما كان قول كل مؤمن إذا دعي إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقول: سمعنا وأطعنا.
وأما دعوى أن الدعاء إلى غير رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليس كالدعاء إليه، فهذا مسلم، لكن بالنسبة إلى الحاكم لا بالنسبة إلى المحكوم به، فإنا نعلم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لو وزن بجميع أمته لوزنها ورجح عليها، ونعلم أن الحكم المذكور في الآية الكريمة ليس هو مطلق الحكم على أي وجه كان وبأي صفة وقع، بل المراد الحكم بالشريعة المطهرة. وقد بلَّغه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلينا كما أمره ربه عز وجل ولم يكتم علينا شيئًا مما أوحى إليه، بل قال الله عز وجل:{اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا} (2).
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيما صح عنه: " تركتكم على
(1) انظر " مغني اللبيب "(1/ 50 - 53).
(2)
[المائدة: 3].
الواضحة، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا جاحد " (1).
وقال سلمان الفارسي رضي الله عنه: " لقد علمنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كل شيء حتى الخراءة "(2) فتقرر بهذا أن الشريعة التي أوجب الله على عباده الإجابة إليها في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هي هذه الشريعة التي تركها بين أظهرنا المزبورة بين دفتي المصحف، والمنقولة في دواوين الإسلام، وما يلتحق بها. ولم يكن إيجاب الإجابة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لكونه رسول الله، ولا لكونه مختصًا بما لم يكن لأمته من الفضائل والفواضل التي لا يحاط بها، بل لكونه حاكمًا بين الداعي والمدعو بهذه الشريعة الموجودة.
فإن قلت: العصمة الثابتة له صلى الله عليه وآله وسلم دون غيره من أمته فارقة بينه وبينهم.
قلت: محل النزاع أن الدعوة بعد موته صلى الله عليه وآله وسلم إلى حاكم يحكم بتلك الشريعة التي جاء بها المعصوم، لا إلى حاكم يحكم بمجرد الرأي الذي يكون تارة صوابًا وتارة خطأ، على أن الحكم بالرأي عند عدم وجود الدليل في الكتاب والسنة إن صح دليله فهو من شريعته التي أرشد إليها أمته، فإنه قد أخرج أبو داود من حديث معاذ أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما أراد أن يبعث معاذًا إلى اليمن قال:" كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟ " قال: أقضي بكتاب الله، قال [6أ]:
(1) وهو جزء من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه وهو حديث صحيح.
أخرجه أحمد (4/ 126 - 127) وأبو داود رقم (4607) والترمذي رقم (2676) والدارمي (1/ 44 - 45) وابن ماجه رقم (43، 44) وابن حبان في صحيحه (1/ 104 رقم 5) والحاكم في " المستدرك "(1/ 95 - 97) وقال: هذا حديث صحيح ليس له علة ووافقه الذهبي.
(2)
أخرجه مسلم في صحيحه رقم (262) وأبو داود رقم (7) والترمذي رقم (16) وقال: حديث حسن صحيح، والنسائي (1/ 38 رقم 41) وأحمد (5/ 437، 439) والبيهقي (1/ 91، 102، 112) وأبو عوانة في مسنده (1/ 217).
" فإن لم تجد؟ " قال: فبسنة رسول الله، قال:" فإن لم تجد في سنة رسول الله، ولا في كتاب الله؟ " قال: أجتهد رأيي ولا آلو، فضرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صدره وقال:" الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله " قال المنذري (1): وأخرجه الترمذي (2) وقال: هذا حديث لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وليس إسناده عندي بمتصل. انتهى.
وقد أخرجه أيضًا أحمد (3)، والطبراني (4)، والبيهقي (5)، وابن عدي (6)، وهو من طريق الحارث بن عمرو بن أخي المغيرة بن شعبة، عن إياس من أهل حمص من أصحاب معاذ، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه بعث معاذًا. وفي رواية لأبي داود عن معاذ عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال البخاري (7): الحارث بن عمرو روى عنه أبو عون، ولا يعرف إلا بهذا المرسل.
قلت: قد جمع الحافظ ابن كثير في طرقه وشواهده جزءًا وقال: هو حديث حسن مشهور اعتمد عليه أئمة الإسلام في إثبات أصل القياس، وقواه أيضًا أبو بكر بن العربي المالكي شارح الترمذي. وقد ذكر الدارمي في مسنده (8) بعضًا من طرقه وشواهده.
وقال الدارقطني في العلل (9): رواه شعبة عن أبي عون هكذا، وأرسله ابن مهدي
(1) في " مختصر السنن "(5/ 213).
(2)
في " السنن " رقم (1327).
(3)
في " المسند "(5/ 230، 242). بسند ضعيف؛ لإبهام أصحاب معاذ وجهالة الحارث بن عمرو.
(4)
في " الكبير "(20/ 170 رقم 362).
(5)
في " السنن الكبرى "(10/ 114).
(6)
في " الكامل "(2/ 194).
(7)
في " التاريخ الكبير "(2/ 277).
والخلاصة: أن حديث معاذ ضعيف. انظر: " الضعيفة " رقم (881).
(8)
(1/ 60).
(9)
عزاه إليه ابن حجر في " التلخيص "(4/ 377).
وجماعات، والمرسل أصح. وقال ابن حزم (1): لا يصح؛ لأن الحارث مجهول، وشيوخه لا يعرفون. قال: وادعى بعضهم فيه التواتر، وهذا كذب، بل هو ضد التواتر؛ لأنه ما رواه أحد غير أبي عون عن الحارث، فكيف يكون متواترًا! وقال عبد الحق (2): لا يسند ولا يوجد من وجه صحيح.
وقال ابن الجوزي في العلل المتناهية (3): لا يصح، وإن كان الفقهاء كلهم يذكرونه ويعتمدون عليه، وإن كان معناه صحيحًا. وقال ابن طاهر في تصنيف له مفرد في الكلام على هذا الحديث: اعلم أني فحصت عن هذا الحديث في المسانيد الكبار والصغار، وسألت عنه من لقيته من أهل العلم، فلم أجد له غير طريقين: إحداهما عن شعبة، والأخرى عن محمد بن جابر، عن أشعث بن أبي الشعثاء عن رجل من ثقيف، عن معاذ وكلاهما لا يصح. قال: وأقبح ما رأيت قول إمام الحرمين في كتاب أصول الفقه أن العمدة في هذا الباب على حديث معاذ. قال: وهذه زلة منه، ولو كان عالمًا لما ارتكب هذه الجهالة. قال الحافظ ابن حجر (4): أساء الأدب على إمام الحرمين، وكان يمكنه أن يعبر بألين من هذه العبارة [6ب]، مع أن كلام إمام الحرمين أشد مما نقله عنه، فإنه قال: والحديث مدون في الصحاح، متفق على صحته، لا يتطرق إليه التأويل. قال: وقد أخرجه الخطيب في كتاب الفقيه والمتفقه (5) من رواية عبد الرحمن بن غنم، عن معاذ بن جبل، فلو كان الإسناد إلى عبد الرحمن ثابتًا لكان كافيًا في صحة الحديث. وقد استند أبو عباس القاضي في صحته إلى تلقي أئمة الاجتهاد والفقه له بالقبول. قال: وهذا القدر مغن عن مجرد الرواية، وهو نظير أخذهم بحديث:" لا وصية لوارث " مع كون رواية
(1) في " الإحكام "(6/ 35).
(2)
في " الأحكام الوسطى "(3/ 342).
(3)
(2/ 758 رقم 1264).
(4)
في " التلخيص "(4/ 337).
(5)
(1/ 114)، (2/ 284).
إسماعيل بن عياش.
وقد اعترض صاحب البدر المنير (1) على ابن كثير في تحسينه للحديث في كلامه السابق بأنه لم يصب في ذلك، وأنه جنوح منه إلى قول الجويني. قال: والحديث ضعيف بالإجماع. وقال ابن دحية: هذا الحديث لا أصل له، ورجاله مجهولون، وهو حديث مشهور عند ضعفاء أهل الفقه. وقد استند الحافظ محمد بن إبراهيم الوزير (2) رحمه الله في تقوية هذا الحديث إلى ما قاله ابن كثير. وقد عرفت ما تعقب به، وما قاله من هو أعلم منه بهذا الشأن من الأئمة.
وبالجملة فالاستدلال بهذا الحديث الذي لم يرتق إلى درجة الحسن لغيره، فضلاً عن الحسن لذاته، فضلاً عن الصحيح مشكل غاية الإشكال، لا سيما على مثل هذا الأصل العظيم المقتضي لثبوت ما لا يحصى من المسائل، وعلى كل حال فالحديث إنما يستدل به
(1) انظر " خلاصة البدر المنير "(2/ 424).
(2)
في " العواصم والقواصم "(1/ 258).
قال الألباني في " الصحيحة "(2/ 286): هو صحيح المعنى فيما يتعلق بالاجتهاد عند فقدان النص، وهذا مما لا خلاف فيه، ولكنه ليس صحيح المعنى عندي فيما يتعلق بتصنيف السنة مع القرآن وإنزاله إياه معه منزلة الاجتهاد منهما، فكما أنه لا يجوز الاجتهاد مع وجود النص في الكتاب والسنة، فكذلك لا يأخذ بالسنة إلا إذا لم يجد في الكتاب، وهذا التفريق بينهما مما لا يقول به مسلم، بل الواجب النظر في الكتاب والسنة معًا وعدم التفريق بينهما؛ لما علم من أن السنة تبين مجمل القرآن وتقيد مطلقه، وتخصص عمومه كما هو معلوم ".
وقد ذكر حمدي بن عبد المجيد السلفي في تحقيق كتاب " المعتبر " للزركشي (ص68) العلماء الذين ضعفوا الحديث:
1 -
البخاري. 2 - الترمذي. 3 - العقيلي. 4 - الدارقطني. 5 - ابن حزم. 6 - ابن طاهر. 7 - الجوزقاني. 8 - ابن الجوزي. 9 - الذهبي. 10 - السبكي. 11 - العراقي. 12 - ابن الملقن. 13 - ابن حجر. 14 - الألباني.
على رأي من يعرف الكتاب والسنة حتى يصح قوله: إنه لم يجد ذلك الحكم في كتاب الله، ولا في سنة رسوله، فأما رأي من لم يجهد نفسه بالبحث عن الدليل في الكتاب والسنة على فرض أنه يقدر على ذلك فهو باطل لا يلزم المتخاصمين قبوله، ولا يحل لأحد من قضاة المسلمين تقريره، وأما رأي القاصر الذي لا يعرف كتابًا ولا سنة فليس هو الرأي المذكور في الحديث، بل هو طاغوت بحت وجاهلية خالصة.
وهذا القاضي هو أحد القاضيين اللذين هما في النار بنص (1) رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأنه لا يدعي أن ما حكم به هو ما شرعه الله لعباده في محكم كتابه وعلى لسان رسوله؛ إذ هو مقر بأنه لا يعرف إلا مجرد ما قاله فلان دون دليله، ولا يدعي أيضًا أن ذلك الرأي الذي حكم به هو في قضية لم توجد في الكتاب ولا في السنة؛ لأنه لا يصح الحكم منه بالعدم إلا بعد علمه بما حكم بالعدم عليه، وأنه [7أ] لا يعلمه؛ لأن الإعدام إنما تعرف بالملكات، ومن يقر على نفسه بأنه لا يدري بكتاب ولا سنة، كيف يدعي أن ما حكم به غير موجود فيهما!.
فالحاصل أنه إن كان ما حكم به حقًا مطابقًا للشريعة فهو قد حكم بالحق، وهو لا
(1) يشير الحديث الذي أخرجه أبو داود رقم (3573) والترمذي في " السنن " رقم (1322) وابن ماجه رقم (3315) والنسائي في " السنن الكبرى "(3/ 461 رقم 5922/ 1). والحاكم في " المستدرك "(4/ 90) وقال: صحيح الإسناد، ورده الذهبي بقوله:" قلت: ابن بكير الغنوي منكر الحديث ".
قال الألباني في " الإرواء "(8/ 236): " وشيخه حكيم بن جبير مثله أو شر منه، فقال فيه الدارقطني: متروك، ولم يوثقه أحد، بخلاف البغوي، فقد قال الساجي: " من أهل الصدق، وليس بقوي. وذكر له ابن عدي مناكير، وهذا كل ما جرح به. وذكره ابن حبان في الثقات ".
فقول الذهبي: " منكر الحديث لا يخلو من مبالغة، وقد قال في " الضعفاء " ضعفوه ولم يترك ".
وخلاصة القول أن الحديث صحيح، والله أعلم.
عن بريدة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " القضاة ثلاثة: اثنان في النار، وواحد في الجنة، رجل عرف الحق فقضى به فهو في الجنة، ورجل عرف الحق فلم يقض به وجار في الحكم فهو في النار، ورجل لم يعرف الحق فقضى للناس على جهل فهو في النار ".
يعلم بأنه الحق، وهو أحد قاضيي النار، وإن حكم بغير الحق عالمًا بأنه غير الحق، أو جاهلاً أنه غير الحق، فهو أيضًا القاضي الآخر من قضاة النار، فهو لا يخرج عن كونه في النار على كل تقدير، فانظر في هذا بعين الاعتبار؛ لتعلم ما في قضاء المقصرين من الخطر العظيم، فإن القضاة المقصرين إن كانوا يعلمون بالحديث المصرح بأن القضاة ثلاثة: قاضيان في النار، وقاض في الجنة، فقد تهافتوا في النار تهافت فراش عمدًا، وإن كانوا يجهلونه فذلك غير نافع لهم، فإنه يجب عليهم أن يتعلموا العلم، خصوصًا مثل هذا الحديث الذي يخصهم، أعني القضاة، فتفريطهم في العلم به مع توثبهم على التسمي بالقضاة ومباشرة ما يباشره القضاة لا يكون عذرًا لهم، وهذا الحديث قد اتفق على إخراجه أهل السنن (1)، والحاكم (2)، والبيهقي (3) من حديث بريدة، وله طرق غير هذه، جمعها الحافظ ابن حجر في جزء مفرد كما قال في التلخيص (4): فهؤلاء القضاة المقصرون ليسوا بأهل للحكم بنص الكتاب والسنة؛ لأنهم لا يتعقلون الحجج الشرعية، فكيف يكونون أهلاً للحكم بمحض الرأي الذي لا مستند له من كتاب ولا سنة! فإنه لا رأي لهم، ولا رواية، ولا فهم، ولا دراية، بل هم على عاميتهم التي نشؤوا عليها، وإن ظنوا أنهم قد خرجوا عنها بالاطلاع على بعض أقوال أهل العلم، أو على قول عالم واحد، فإن العلم وراء ذلك كله وظنونهم فاسدة، فإنه إنما يعرف العلم أهله. ومعرفة أسماء العلوم لا تستلزم معرفة المسمى، ومن أنكر هذا فليسأل واحدًا منهم عن حد علم من علوم الاجتهاد، أو فائدته، أو موضوعه، أو غايته، أو مسألة من مسائله، وينظر ما يجد عنده من ذاك. وأما القاضي العالم بالشريعة المطهرة على الوجه الذي قدمنا تحقيقه فهو وإن كان على خطر في مباشرته [7ب] باعتبار الأحاديث الواردة في الترهيب عن
(1) انظر التعليقة السابقة.
(2)
انظر التعليقة السابقة.
(3)
في " السنن الكبرى "(10/ 116 - 117).
(4)
(4/ 430).
الأمارة على العموم، وعن القضاء على الخصوص، لكن له مروحات ومسليات، وهي الأحاديث الواردة في الترغيب في ذلك.
وقد أوردت الجميع في شرحي للمنتقى (1)، ولو لم يكن من الترغيبات في ذلك إلا حديث عمرو (2) وأبي هريرة (3) المتفق عليهما بلفظ:" إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر، وإن أصاب فله أجران "، ورواه الحاكم (4) والدارقطني (5) من حديث عقبة بن عامر، وأبي هريرة، وعبد الله بن عمر بلفظ:" إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر، وإن أصاب فله عشرة أجور " ورواه أحمد (6) أيضًا من حديث عمرو، وطرقه يشهد بعضها لبعض، فيكون ثبوت العشرة الأجور بدليل هو حسن لغيره، وثبوت الأجرين بدليل صحيح، والزيادة مقبولة إذا كانت غير منافية للأصل، كما في هذا.
فالحاكم المجتهد هو في كل ما يأتي من الأحكام فائز مع الإصابة بعشرة أجور، ومع الخطأ بأجر، وهذا مرغب عظيم، ومحسن جليل، فإن الخطأ بالنسبة إلى غير القاضي غاية أمره أن لا يكون فيه عقوبة أخروية مع ثبوت غالب اللوازم الدنيوية كالدية في قتل الخطأ والكفارة ونحو ذلك، فلله در قوم يؤجرون على الخطأ! ويا ويح قوم يعذبون على الإصابة وهم القضاة الذين يحكمون بالحق، ولا يعلمون بأنه الحق، فانظر كم هذا
(1)" نيل الأوطار "(1/ 501)(5/ 536).
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه رقم (7352) ومسلم رقم (1716).
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه رقم (7352) ومسلم رقم (2716) وأبو داود رقم (3574) وابن ماجه رقم (2314) وقد تقدم في الرسالة (1)، وفي الرسالة (2).
(4)
في " المستدرك "(4/ 88).
(5)
في " السنن "(4/ 210 رقم 4) بإسناد ضعيف.
وقال الحاكم: صحيح الإسناد، ورده الذهبي بقوله:" فرج ضعفوه ". وانظر الرسالة رقم (60)
(6)
في " المسند "(4/ 198، 204، 205).
التفاوت، فإنه من أعظم الثمرات التي يستفيدها أهل العلم من علمهم. ومن أعظم البليات التي يبتلى بها أهل الجهل بجهلهم. وقد استوفيت الكلام على هذا، وأوضحت ما على المقصرين المتوثبين على هذا المنصب من الوزر والمحن الأخروية والدنيوية في الكتاب الذي سميته:" القول المفيد في حكم التقليد " وهو مختصر جمعته في العام الماضي جوابًا عن سؤال من سأل عن حكم التقليد (1).
إذا تقرر هذا فاعلم أن المناقش - كثر الله فوائده - يجل عن أن يلتزم ما قدمنا من
(1) انظر الرسالة رقم (60).
قال الشوكاني في " نيل الأوطار "(5/ 537): ولكن هذه الترغيبات إنما هي في حق القاضي العادل، الذي لم يسأل القضاء، ولا استعان عليه بالشقاء، وكان لديه من العلم بكتاب الله وسنة رسوله ما يعرف به الحق من الباطل بعد إحرازه مقدارا من آلاتهما يقدر به على الاجتهاد وفي إيراده وإصداره.
وأما من كان بعكس هذه الأوصاف أو بعضها، فقد أوقع نفسه في مضيق وباع آخرته بدنياه؛ لأن كل عاقل يعلم: أن تسلق القضاء وهو جاهل بالشريعة المطهرة جهلاً بسيطًا، أو جهلاً مركبًا، أو من كان قاصرًا عن رتبة الاجتهاد، فلا حامل له على ذلك إلا حب المال والشرف أو أحدهما؛ إذ لا يصح أن يكون الحامل من قبيل الدين؛ لأن الله لم يوجب على من لم يتمكن من الحكم بما أنزل من الحق أن يتحمل هذا العبء الثقيل قبل تحصيل شرطه الذي يحرم قبوله قبل حصوله، فعلم من هذا أن الحامل للمقصرين على التهافت على القضاء والتوثب على أحكام الله بدون ما شرطه ليس إلا الدنيا لا الدين.
وقال ابن قدامة في " المغني "(14/ 6) وفيه - أي القضاء - خطر عظيم ووزر كبير لمن لم يؤد الحق فيه؛ ولذلك كان السلف رحمهم الله يمتنعون منه أشد الامتناع، ويخشون على أنفسهم خطره. قال خاقان بن عبد الله: أريد أبو قلابة على قضاء البصرة، فهرب إلى اليمامة، فأريد على قضائها فهرب إلى الشام فأريد على قضائها وقيل: ليس ههنا غيرك، قال: فأنزلوا الأمر على ما قلتم، فإنما مثلي مثل سابح وقع في البحر، فسبح يومه، فانطلق، ثم سبح اليوم الثاني، فمضى أيضًا، فلما كان اليوم الثالث فترت يداه. وكان يقال: أعلم الناس بالقضاء أشدهم له كراهة. ولعظم خطره قال النبي صلى الله عليه وسلم: " من جعل قاضيًا فقد ذبح بغير سكين " من حديث أبي هريرة.
وهو حديث صحيح أخرجه أحمد (2/ 230، 365) وأبو داود رقم (3571، 3572) وابن ماجه رقم (2308) والترمذي رقم (1325) وقال: حديث حسن غريب.
اللوازم اللازمة لمن لم يوجب الإجابة إلى الشريعة بعد موته صلى الله عليه وآله وسلم لأن التزام ذلك طي لبساط الشريعة المطهرة كما قدمنا، وهو مع كونه خلاف الإجماع القطعي هو أيضًا خلاف [8أ] الضرورة الدينية كما سبق تقريره، ولم يبق النزاع إلا في كون الحكم المذكور في الآيتين منسوبًا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والجواب عن ذلك من وجوه:
الأول: ما قدمنا من أن الدعاء إليه صلى الله عليه وآله وسلم هو للحكم منه بالشريعة المطهرة لا لأمر يخصه.
الثاني: ما قدمنا من الإجماع القطعي على وجوب إجابة الداعي إلى الشريعة بعد موته صلى الله عليه وآله وسلم. ومن زعم أنه قد خالف في ذلك مخالف فليأتنا به، فإنا قد صححنا إجماع المسلمين في كل قطر وعصر على أن التعبد بالشريعة باق بعد عصر النبوة كما كان قبلها، وهذا الفرد المتنازع فيه الذي هو الإجابة إلى الشريعة داخل في ذلك، ومن زعم أنه خارج فعليه البيان، لا سيما وهو يفضي إلى بطلان التعبد بغيره من مسائل الشريعة؛ لعدم الفرق، ففرديته إنما هي باعتبار كونه قد تعلق به النزاع، لا من حيث ذاته، فإنه إن لم يصح وصف كل حكم من الأحكام الشرعية به، فلا شك أنه يصح وصف أكثرها به. وبيانه أن الاختلاف في مسائل العبادات قد يتسبب عنه وقوع الدعوة من أحد المختلفين للآخر إلى عالم من علماء الإسلام؛ ليبين لهما الحق مما اختلفا فيه، كما يدعو أحد الخصمين الآخر في مسألة من مسائل المعاملات إلى حاكم يحكم بينهما في ما اختصما فيه، فتندرج مسائل العبادات على اختلاف أنواعها من هذه الحيثية تحت قوله تعالى:{إنما كان قول المؤمنين. . .} (1) الآية. وتحت قوله تعالى: {فلا وربك. . .} (2).
(1)[النور: 51].
(2)
[النساء: 65].
الوجه الثالث: الضرورة الدينية الحاصلة لكل فرد من أفراد المسلمين أن التعبد بهذه الشريعة ثابت بعد عصر النبوة كما كان قبلها؛ فهذه الوجوه الثلاثة يستفاد منها أن تخصيصه في الآيتين الكريمتين بالدعوة إليه، والتحكيم له، ونسبة الحكم إليه إنما كان لكونه صاحب الشرع، وإلا فالدعوة إلى غيره ليحكم بشريعته حكمها حكم الدعوة إليه، وإذا لم يصلح الإجماع القطعي، والضرورة الدينية للتسوية بينه وبين غيره، فما ذاك الذي يصلح [8ب] بعدهما ويسد مسدهما؟!
الوجه الرابع: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد نصب القضاة في حياته (1)، وبعث الولاة، وأمَّر الأمراء، وأوجب على الناس طاعتهم وامتثال أمرهم ما لم يأمروا بمعصية الله، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. فلو كانت إجابة الدعوة والتحكيم مختصين برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يثبت ذلك للحكام المبعوثين من جهته، وهو خلاف المعلوم؛ فإنه بعثهم إلى جهات بعيدة كاليمن، ومكة، ونحوهما. ولو كانت الإجابة إليهم غير واجبة لكان بعثهم عبثًا لا فائدة فيه للباعث ولا للمبعوث، ولا للمبعوث إليه، واللازم باطل بالملزوم مثله.
الوجه الخامس: أن إفراده صلى الله عليه وآله وسلم في الآيتين بنسبة التحكم إليه والحكم منه هو كإفراده في قوله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة} (2)، {جاهد الكفار} (3)، {لم تحرم ما أحل الله لك} (4)، {أقم الصلاة لدلوك الشمس} (5)، {ادفع بالتي هي
(1) انظر " المغني "(14/ 8 - 9)، " الحاوي الكبير "(20 - 58 - 60)، " أدب القاضي "(ص11 - 15)، " تبصرة الحكام "(1/ 12 - 18).
(2)
[التوبة: 103].
(3)
[التوبة: 73]، [التحريم: 9].
(4)
[التحريم: 1].
(5)
[الإسراء: 78].
أحسن} (1)، ونحو ذلك من الآيات القرآنية التي يكثر تعدادها، ويطول إيرادها. ومنه الآيات التي فيها (قل)، والآيات التي فيها الخطابات للرسول والنبي، فإن قلتم باختصاصه صلى الله عليه وآله وسلم بجميع ذلك خالفتم الإجماع والضرورة الدينية.
وإن قلتم بعدم الاختصاص فما وجه التعميم في هذه الأمور دون المتنازع فيه؟ وإن قلتم: الدليل يدل على التعميم فهكذا محل النزاع، فإن كل دليل يفرض في هذه الأمور سواء كان من الكتاب أو السنة أو الإجماع فهو كذلك في وجوب الإجابة، فإن الأدلة الدالة على وجوب الإجابة إلى الحكم بالشريعة المطهرة موجودة كثيرة.
الوجه السادس: أنه قد تقرر في الأصول (2) أن خطابات الله ورسوله لواحد من الأمة تعم إذا لم يوجد ما يفيد اختصاص ذلك الواحد بذلك الحكم، ووجوب الإجابة [9أ] لمن دعا إلى الشريعة كذلك، ولا يقدح في ذلك تخصيصه صلى الله عليه وآله وسلم بالخطاب بقوله تعالى:{فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك} (3) ولا إفراده بالحكم في قوله تعالى: {ليحكم بينهم} .
الوجه السابع: أن الله - سبحانه - قد شرع لنا التحكيم في أمر الزوجين (4)، وفي صيد الحرم (5)، وأوجب علينا الامتثال لما يحكمان به، بل وقع منه صلى الله عليه وآله وسلم التحكيم في الحديبية (6) ما بين طائفة المسلمين والكافرين لسهيل بن ...................
(1)[المؤمنون: 96]، [فصلت: 34].
(2)
انظر " إرشاد الفحول "(ص444)، " البحر المحيط "(3/ 190). وقد تقدم ذكره مرارًا.
(3)
[النساء: 65].
(4)
لقوله تعالى: {وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما} .
(5)
لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم} .
(6)
انظر " فتح الباري "(7/ 453 - 455).
عمرو (1): وهو إذ ذاك كافر، ووقع ذلك من أمته بعده، فتارة يدعو إلى كتاب الله من كان محقًا كما وقع في صفين (2)، ولم يقل أمير المؤمنين - كرم الله وجهه - يوم صفين إنها لا تجب إجابة الداعين إلى كتاب الله، بل قال: إنهم فعلوا ذلك خدعًا ومكرًا، وأنهم لو كانوا صادقين في الدعوة إلى كتاب الله لكان أولى لذلك منهم، وأحق به، فلم ينكر أصل الدعوة، ووجوب الإجابة إليها، بل أبان أن الداعي لم يرد الدعوة الحقة، بل أراد المكر والخدع، وأنه لو أراد الدعوة الحقة لكان المدعو أحق منه بها، ولو كانت الإجابة للدعوة الحقة عند أمير المؤمنين غير واجبة لم يدع إلى كتاب الله يوم الجمل (3)، ولا يوم النهروان (4)، وكيف ينسب ذلك إليه وهو كاتب كتاب المقاضاة في يوم الحديبية (5)! فإذا كانت الإجابة لدعوة من دعا إلى التحكيم واجبة فكيف لا تجب إجابة من دعا إلى حاكم من حكام الشريعة ليحكم بحكم الله! وكيف يقال: إن الإجابة في الآيتين المذكورتين مختصة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم!.
الوجه الثامن: أنه قد تقرر في الأصول (6) أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا فعل فعلا أو شرع الله له شرعًا كان التأسي به في ذلك ثابتًا على جميع أمته إلا أن يقوم دليل يدل على اختصاصه به [9ب]، وهذا لا خلاف فيه بين المسلمين، وقد دل عليه كتاب الله - سبحانه - قال تعالى:{قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله} (7) وقال تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} (8)،
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (4180، 4181).
(2)
انظر " البداية والنهاية " لابن كثير (7/ 264 - 270).
(3)
انظر " البداية والنهاية "(7/ 241).
(4)
تقدم ذكرها.
(5)
انظر " فتح الباري "(7/ 454).
(6)
" إرشاد الفحول "(ص429)، " البحر المحيط "(3/ 167).
(7)
[آل عمران: 31].
(8)
[الأحزاب: 21].
وقال تعالى: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} (1). والآيات والأحاديث الدالة على التأسي به صلى الله عليه وآله وسلم كثيرة جدًا، وهي مفيدة أن أمته أسوته في كل حكم لم يقم دليل يدل على اختصاصه به، فسيكون الدعاء إلى غيره من الأئمة والحكام والعلماء للحكم بما أنزل الله كالدعاء إليه صلى الله عليه وآله وسلم لعدم وجدان دليل يدل على اختصاصه بهذا الحكم، فلو فرضنا أنه لا دليل يدل على أن الدعوة إلى غيره من المتأهلين للحكم من أمته لها حكم الدعوة إليه لكان دليل التأسي به المجمع عليه كافيًا في ذلك، ولو قال قائل: إن خطابات الله لرسوله بالأحكام الشرعية خاصة به لأن غيره مفضول، وهو فاضل لوقع في مضايق في كثير من الأحكام الشرعية، وخالف ما أجمع عليه المسلمون، وسلك في مسالك قد أراح الله الأمة من سلوكها، وولج في مهاوٍ ولم يلجها غيره، ولا أذن الله له بولوجها وهو - لا محالة - راجع إلى الطريق الواضح، وسالك في المسالك التي يسلكها سلف الأمة وخلفها. ولنقتصر على هذا المقدار؛ ففيه كفاية يندفع بها بل بالبعض منها ما أوردتم على الاستدلال بالآيتين الكريمتين.
وأما ما ذكرتم من قول الزمخشري في كشافه (2) فهو تأويل الدعوة إلى الله، فجعل الدعوة إلى الله تعالى هي الدعوة إلى رسوله كقول العرب: أعجبني زيد وكرمه أي أعجبني كرم زيد، وليس فيه إن إجابة الدعوة إلى الشريعة مختصة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا تجب إلى غيره، فإن ذلك لا يخفى عليه، ومن رام أن يعرف ما يقول به في مثل هذه الآية فلينظر إلى تفسيره لغيرها من الآيات التي فيها الخطاب [10أ] لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وذلك كثير في القرآن؛ ففي كل سورة من
(1)[الحشر: 7].
(2)
(4/ 313).
سور القرآن خطابات كثيرة لا تخلو عن ذلك إلا النادر كبعض قصار المفصل، على أن ذلك موجود في غالبها. انظر إلى قوله:{قل أعوذ برب الناس} ، {قل أعوذ برب الفلق} ، {قل هو الله أحد} ، {فصل لربك وانحر} ، {فسبح بحمد ربك واستغفره} ، {قل يا أيها الكافرون} فإن المأمور بهذه الأوامر كلها هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
فإن قلت: ما ذكره الزمخشري (1) هاهنا أن الدعوة إلى الله هي الدعوة إلى رسوله، هل هو متعين أم لا؟ بل يمكن التأويل بما هو مساوٍ له أو راجح عليه.
قلت: ليس بمتعين بل هاهنا تأويل آخر هو أرجح منه، وهو أن تفسر الدعوة إلى الله بالدعوة إلى كتابه الذي أنزله، وهو وإن كان مجازًا لكنه أقرب المجازين فإن ملابسة الكلام للمتكلم أتم من الملابسة الكائنة بين الرسول والمرسل، هذا باعتبار ما نجده في الشاهد، لا باعتبار الجناب الإلهي، فإنه يتنزه ويتعالى ويتقدس عن نسبة الملابسة إليه، ولكنا نسلك في مثل هذه المجازات المسالك التي نجدها في الشاهد كما يفعله أهل العلم في مثل ذلك، وأيضًا في تفسير الدعوة إلى الله - سبحانه - بالدعوة إلى كتابه تأسيس، وهو أولى من التأكيد الذي يستفاد من تفسير الدعوة إلى الله بالدعوة إلى رسول الله، وإني أظن أن هذا الذي قلته قد قال به غيري من أهل التفسير، ولكني لم أنظر عند تحرير هذا في شيء من التفاسير، لا في الكشاف ولا في غيره.
قال - كثر الله فوائده -: ويؤيد هذا إفراد ضمير الفاعل في {لتحكم} الراجع إلى ما قبله فلا يثبت هذا الحكم لغير رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا بالقياس، وللمانع أبدًا الفارق، وهكذا يقال في آية سورة النساء وهي قوله:{فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك} (2) الآية. والخصوص فيها أوضح.
(1)(4/ 313).
(2)
[النساء: 65].
أقول: إن كانت الإشارة في قوله: ويؤيد هذا [10ب] إلى ما أسلفه من كون الآية واردة في سبب خاص، وهو اختصام المنافق واليهودي فلا تأييد في ذلك أصلا، لأن ذلك السبب هو باعتبار المحكوم عليه وإفراد الضمير في {لتحكم} هو باعتبار الحاكم، فقد اختلف المؤيد اسم مفعول، والمؤيد اسم فاعل على أنه - عافاه الله - قد بادر في كلامه السابق إلى تسليم كون الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فقال: ولا يختص بمن كان سببًا فتأييد ما قد سلمه وجزمه بخلافه لا وجه له، بل هو شبه تناقض. وقد قدمنا أن الله - سبحانه - يقول:{إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا} ولم يقل: إنما كان قول المنافق، ولا قول اليهودي، وإن كان التأييد لما قرره سابقًا من أنه لا عموم في الحاكم لعدم شمول لفظ الرسول
…
إلى آخر كلامه فلا يصح لتأييد إفراد الضمير في قوله {ليحكم} (1) لأن مرجع الضمير هو الرسول، فهو تأييد لنفس الدعوى بنفس الدعوى، ولمحل النزاع بمحل النزاع، وهو يندرج تحت المصادرة باعتبار المآل.
وقد صرح أهل علم آداب المناظرة (2) بمنعه ثم قوله: فلا يثبت هذا الحكم لغير رسول الله إلا بالقياس، وللمانع أبدًا الفارق يستلزم ما قدمنا ذكره من طي بساط الشريعة بعد عصر النبوة، والوقوع في مخالفة جميع الأمة، ومخالفة الضرورة الدينية، واللازم باطل فالملزوم مثله. وقد قدمنا بيان الملازمة وبيان بطلان اللازم، وهو - حفظه الله - أجل قدرًا من أن يقع في مثل هذا فإن حكم المخالف لقطعي من قطعيات الشريعة معروف، فكيف بالمخالف لضروري من ضرورياتها! بل كيف بالمخالف لها بأسرها، والجازم بارتفاع حكمها وانقراض التعبد بها! ومعلوم أنه لم يتصور عند تحرير كلامه هذا لزوم ما يستلزمه، بل جرد النظر إلى مناقشة دلالة الدليل على المدلول غير ملتفت إلى ما يستفاد من كلامه، ولو تأمله أدنى تأمل لم يكتبه ولا أورده، ولا اعترض به، فإنه قد صرح بأن
(1) انظر: " إعراب القرآن الكريم وبيانه "(6/ 638).
(2)
انظر " الفقيه والمتفقه "(2/ 25)، " الكافية في الجدل "(ص529).
إجابة دعوة الداعي إلى الشريعة لا تجب على المدعو إلا إذا كان المدعو إليه هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأن إلحاق غيره بالقياس عليه ممنوع بإبداء الفارق، فكان حاصل هذا أن من دعا غيره إلى الشريعة المطهرة بعد عصر النبوة غير مجاب الدعوة. وقد قدمنا أن الدعوة كما تكون في المعاملات تكون في العبادات [11أ]، وأنه إذا ارتفع التعبد بهذا الأصل العظيم ارتفع بغيره بفحوى الخطاب. أقل حال أن يكون ارتفاعه بلحن الخطاب لتساوي أقدام جزئيات الشريعة في الانتساب إليها. وأما قوله: إن الخصوص في آية سورة النساء أوضح، فإن كان ذلك لقوله تعالى:{حتى يحكموك} فمعلوم أن إيقاع التحكيم من الأمة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليس بأوضح من إسناد الحكم إليه من قوله في سورة النور: {ليحكم} بل لو قال قائل: إن الأمر بالعكس لم يبعد عن الصواب لما لا يخفى على من يعرف علم النحو وعلم المعاني، وإن كانت الأوضحية لكون ما في سورة النساء خطابًا له صلى الله عليه وآله وسلم وما في سورة النور ليس بخطاب له، بل إثبات حكم يتعلق به. فغير خاف على ذي فهم أن إثبات الشيء لمن كان غائبًا غير مخاطب يتضمن التسجيل والجزم تضمنًا لا يفيده إثبات ذلك في الخطاب باعتبار ما يستفاد من دقائق العربية وأسرارها بالنسبة إلى المحاورات البشرية، فإن تفويض فرد من أفراد النوع الإنساني لآخر في أمر وهو غير حاضر أقوى من تفويضه وهو حاضر مخاطب لما نجده في الطباع البشرية من أن للحضور مدخلية في التحاشي، وهذا إنما هو باعتبار المحاورات البشرية كما قدمنا، والخالق عز وجل يتنزه عنه ولكنه لا يتم البيان في مثل هذا المقام إلا بالتمثيل بما يقع بين أهل اللغة حتى يتضح للسائل - حفظه الله - أن ما ادعاه من الأوضحية غير واضح وإن كان المستند لما ادعاه من الأوضحية هو غير ما ذكرناه فهو لا يصلح لذلك كالقسم وتكرير الضمير، فإن ذلك لا مدخل له فيما يتعلق بالدعوى كما لا يخفى.
قال - كثر الله فوائده -: الوجه الثاني: أن هاتين الآيتين لو دلتا على وجوب
الإجابة إلى غير رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فالدلالة إذًا إنما يكون على وجوب الإجابة إلى الحاكم بحكم الله تعالى في تلك الحادثة التي تشاجر فيها الغرماء، وحكم الله تعالى في تلك الحادثة مظنون كل مجتهد والتعيين بحكم، والاجتهاد في استنباط حكم الله تعالى في تلك الحادثة ليس مما يختص به بعض العلماء دون بعض [11ب]؛ إذ العمدة في ذلك على حصول شروط الاجتهاد في المتأهل لذلك وشروطه هينة على من استعد للتحصيل، ووفقه الله لسلوك ذلك السبيل، وفضل الله غير مقصور ولا محجوز. ولدينا من هو متأهل للنظر، وجامع لكل شرط معتبر. والمراد وجود ما لا بد منه الشروط.
وأما زيادة التفنن والتضلع من العلوم العقلية والنقلية، وبلوغ غايات الكمال في تحقيق المعارف الأصلية والفرعية فنحن لا ننكر أن لكم فيها النصيب الأعلى والقدح المعلا، ولكن المفضول في الاجتهاد حكمه صحيح كالفاضل فيه، إذ المراد استفراغ الوسع لطلب ظن بالحكم. وأما اليقين فهو عند الله تعالى، والأحكام التي يجوزها حكامنا لا نمنع من المراجعة فيها لمن اطلع على خلل، وتنبيه الحاكم على ما وهم فيه فذلك أمر مطلوب من كل متأهل للنظر، وإنما نمنع تكليف الغرماء للرحيل من جهة إلى جهة أخرى مع وجود الحكام بتلك الجهة، والمتصدين لإقامة الشرع الشريف، وإنصاف المظلوم من الظالم.
أقول: هذا الكلام إنما يرد على من قال بوجوب الإجابة إلى حاكم يحكم بحكم الله - سبحانه - في غير جهة الخصمين، مع وجود من يحكم بحكم الله في جهة الخصمين، مع كون كل واحد من الحاكمين عالمًا بكتاب الله وبسنة رسوله، وبما يتوصل به إلى معرفتهما، قادرًا على استخراج الحكم منهما عند حدوث الحادثة، متمكنًا من الجمع بين المتعارضات عند الإمكان، والترجيح عند عدمه. ولم يتقدم مني ما يدل على هذا لا بمطابقة، ولا تضمن، ولا التزام، بل حاصل ما أجبت به عن سؤالكم - دامت إفادتكم - أن الواجب الإجابة إلى حاكم يحكم بحكم الله من الحكام المجتهدين، فإن كان في جهة المتخاصمين من هو كذلك فلا يجاب الداعي إلى غيره، لأن ذلك مجرد إتعاب،
وإن لم يكن في بلد المتخاصمين من هو كذلك وجبت إجابة الداعي إلى حاكم متصف بتلك الصفة، ولا اعتبار بمن في البلد من القضاة الذين لا يتمكنون من الحكم بما أمر الله بالحكم به، ومن كان هذا جوابه لم يرد عليه شيء مما أوردتم، فراجعوا ما أجبت به عليكم، فهو لديكم حتى تعلموا أن ما أوردتم هاهنا غير وارد عليَّ، ولا لازم لي، فهذا دفع إجمالي، ونقض لما أوردتم في هذا الكلام، فلنعد الآن إلى الكلام [12أ] على تفاصيل هذا الكلام.
فنقول: قلتم: وحكم الله في تلك الحادثة مظنون كل مجتهد، والتعيين تحكم، وأقول: هو ممنوع؛ فإن حكم الله سبحانه وتعالى في تلك الحادثة وفي غيرها من الحوادث ليس إلا واحدًا يصيبه من أصابه من أهل الاجتهاد، ويخطئه من أخطأه. ولو كان حكم الله هو مظنون كل مجتهد لكان تابعًا لاجتهادات المجتهدين، ومرادات المريدين، وهو يستلزم أنه لا حكم لله في تلك الحادثة أصلا، بل حكمه فيها متجدد بوجود كل مجتهد على حسب ما يقتضيه اجتهاده، وهذا باطل وإن قال به بعض متأخري المعتزلة (1)، وقلده من قلده ممن جاء بعده، فمن جاء بالقول الفاسد فهو رد عليه
(1) قال الماوردي: وهو قول أبي الحسن الأشعري والمعتزلة.
قال الشوكاني في " إرشاد الفحول "(ص851): فهذا الحديث يفيدك أن الحق واحد وأن بعض المجتهدين يوافقه فيقال له مصيب ويستحق أجرين، وبعض المجتهدين يخالفه ويقال له مخطئ. واستحقاقه الأجر لا يستلزم كونه مصيبًا، وإطلاق اسم الخطأ عليه لا يستلزم أن لا يكون له أجر، فمن قال: إن كل مجتهد مصيب، وجعل الحق متعددًا بتعدد المجتهدين فقد أخطأ خطأ بينًا وخالف الصواب مخالفة ظاهرة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم جعل المجتهدين قسمين قسمًا مصيبًا وقسمًا مخطئًا، ولو كان كل واحد منهم مصيبًا لم يكن لهذا التقسيم معنى.
وهكذا من قال إن الحق واحد ومخالفه آثم فإن هذا الحديث يرد عليه ردًا بينًا ويدفعه دفعًا ظاهرًا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سمى من لم يوافق الحق في اجتهاده مخطئًا ورتب على ذلك استحقاقه للأجر.
فالحق الذي لا شك فيه ولا شبهة أن الحق واحد ومخالفه مخطئ مأجور إذا كان قد وفى الاجتهاد حقه ولم يقصر في البحث بعد إحرازه لما يكون به مجتهدًا.
انظر " الفقيه والمتفقه "(2/ 60)، " مجموع الفتاوى "(19/ 124).
كائنًا من كان، وما استلزم الباطل باطل، وأيضًا ذلك يستلزم باطلا آخر هو أن يكون حكم الله في الحادثة متناقضًا؛ فإنه إذا ذهب بعض أهل العلم إلى أن عينًا من الأعيان الموجودة في الخارج حلال، وذهب آخر إلى أنها حرام كان حكم الله في تلك العين بأنها حلال، وبأنها حرام وهذا باطل، وما استلزم الباطل باطل.
مثلا قد قال بعض أهل العلم بأن الخيل والضبع (1) يحل أكلهما، وقال آخر، إنه يحرم، فيكون حكم الله في الخيل أنها حلال حرام، وحكم الله في الضبع أنها حلال حرام، وهذا بمكان من الفساد لا يخفى على عارف، ولو لم يثبت في دفعه إلا الحديث الصحيح الوارد من طرق كما بيناه سالفًا:" إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر، وإن اجتهد فأصاب فله أجران "(2) أو " عشرة أجور "(3)؛ فهذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصف المجتهد بأنه يكون تارة مخطئًا، وتارة مصيبًا، فكيف يتقول على الله وعلى رسوله متقول فيقول: إنه مصيب دائمًا، وأن حكم الله تابع لاجتهاده! مع أن القائلين بتصويب المجتهدين لم يقولوا: إنه مصيب من الإصابة المنافية للخطأ، بل قالوا: إنه مصيب من الصواب الذي لا ينافي الخطأ، وإنما كان صوابًا لكونه يؤجر عليه، وإن كان خطأ كما في الحديث المذكور، ولهذا قال [12ب] بعض المتكلمين على هذه المسألة: إن القائل بأنه مصيب من الإصابة قد تشبه في مقالته هذه بالفرقة الموسومة بالعندية (4)، فإنهم يعتبرون ما عند كل واحد منهم بمجرد الدعوى مثلا إذا قال الرجل لواحد منهم: أنت موجود قال: لست بموجود، فإذا قال: فما هذا الشبح الذي أراه شاغلا للحيز، وأجده عند اللمس، وأسمع حسه؟ قال له: أنا موجود عندك غير موجود عندي، فلا يلزمني ما عندك كما لا يلزمك ما عندي، فهذه أحد الفرق الثلاث المشهورة
(1) انظر الرسالة رقم (71).
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
تقدم تخريجه.
(4)
انظر " مقدمات في الأهواء والافتراق والبدع "(1/ 43 - 46). الدكتور. ناصر بن عبد الكريم العقل \ دار الوطن الرياض ط2.
بالمشاغبة، والدعاوي الباطلة، الخارجة عن الضرورة، المخالفة للعقل والحس، وما أشبه الفرقة القائلة بأن المجتهد مصيب من الإصابة بها، والفرقة الثانية: العنادية (1)، والفرقة الثالثة: الأدرية (2)، ومقالات هذه الطوائف الثلاث مبنية في كتب الفن الموضوع لبيان هذا، وما يشابهه. وقد قال كثير من الأئمة أن هؤلاء لا يجاوبون إلا بالضرب، فإنه أقرب إلى اعترافهم بفساد ما هم عليه.
والحاصل أن الكلام على هذه المسألة طويل الذيول، وليس المراد هاهنا إلا الإشارة إلى فساد ما ذكره السائل - عافاه الله - من أن حكم الله هو مظنون كل مجتهد. وقد زعم صاحب ضوء النهار (3) أن الحق في هذه المسألة التفصيل، وهو أن ما فوض إلى العدلين كجزاء الصيد، والتفريق بين الزوجين، أو الجمع، وتقدير النفقات، وتقويم المتلفات. ولا نزاع في أن كل اجتهاد فيه صواب، وإصابة. وأما غير ذلك من ما فيه على خصوص الحكم دليل ظني. فإن أريد أن كل مجتهد فيه مصيب من الصواب فلا نزاع فيه، وإن أريد أنه مصيب من الإصابة وأن خصمه مصيب من الإصابة فسرف في الغفلة، هكذا قال. وغير خاف عليك أن كلام الأزهار (4) المشروح بهذا الكلام لا يشمل ما ذكره في القسم الأول، بل هو خاص بالمجتهد في الدليل الظني وهكذا كلام سائر القائلين بأن كل مجتهد مصيب، ومن قال بخلاف قولهم. وأما تقدير النفقات وتقويم المتلفات ونحوهما فليس هو من الاجتهاد الذي هو المراد هنا في شيء، ولم يشترط اجتهاد من يتولى ذلك أحد من أهل العلم، بل يصح أن يكون متوليه مقلدًا بلا خلاف، فخلط البحث بغيره، وإدخال ما هو أجنبي عنه فيه سرف في الغفلة أيضًا.
وقلتم: والاجتهاد في استنباط حكم الله تعالى [13أ] ليس مما يختص به بعض العلماء
(1) انظر " مقدمات في الأهواء والافتراق والبدع "(1/ 43 - 46). الدكتور. ناصر بن عبد الكريم العقل \ دار الوطن الرياض ط2.
(2)
انظر " مقدمات في الأهواء والافتراق والبدع "(1/ 43 - 46). الدكتور. ناصر بن عبد الكريم العقل \ دار الوطن الرياض ط2.
(3)
(4/ 2202 - 2203).
(4)
(3/ 448 - مع السيل).
دون بعض
…
إلخ.
وأقول: هذه الكلية ممنوعة الصحة، فإن لمريد التوسع في المعارف الزائدة على العلوم المعتبرة في الاجتهاد مدخلا في ذلك، فقد يختص من هو أكثر علمًا باستنباط ما لا يقتدر على استنباطه والوصول إليه من هو دونه في ذلك، وهذا معلوم لكل عارف، فإن من كان مثلا أرسخ في علم البلاغة يمكنه أن يستخرج بفاضل عرفانه من الكتاب العزيز، والسنة المطهرة ما لا يمكن من هو دونه، وهكذا من كان متبحرًا في أصول الفقه، مطلعًا على دقيقها وجليلها، متدربًا في مباحثها، فإنه يمكنه أن يسلك في مسالك الجمع والترجيح والاستنباط ما لا يسلكه الذي هو دونه في ذلك، مع كونه قد حصل القدر المعتبر في الاجتهاد عنده، وهكذا من توسع في علم السنة، ولم يقف على كتاب، ولا على كتب معينة، بل طول باعه في ذلك تطويلا لم يصل إليه غيره من المجتهدين المعاصرين له، أو بعضهم، فإنه قد يقف على دليل الحكم من مخرج صحيح أو حسن من هو دونه في ذلك لا يدري بأن الدليل موجود فضلا عن أن يستدل به، ومع ذلك فالقرائح مختلفة والأفهام متفاوتة، والإدراكات متباينة، فقد يكون بعض المجتهدين المستويين في المقروءات والمحفوظات أقدر على الاستنباط من الآخر بفاضل ذهنه، وصافي قريحته، وصحيح إدراكه، فكيف يقال: إن الاستنباط لا يختص به بعض العلماء دون بعض، فإن كل عالم قد شاهد الاختلاف في أهل عصره، وطالع مؤلفات المجتهدين فوجدها متفاوتة تفاوتًا يزيد على التفاوت الكائن بين السماء والأرض، والمشرق والمغرب، ومن أنكر هذا فهو مكابر بلا شك ولا شبهة.
وقلتم: وشروطه (1) هينة على من استعد للتحصيل
…
إلخ.
(1) ومن أحسن ما يعرفه القضاة كتاب عمر بن الخطاب الذي كتبه إلى أبي موسى. قال الشيخ أبو إسحاق: هو أجل كتاب فإنه بين آداب القضاة، وصفة الحكم، وكيفية الاجتهاد واستنباط القياس. ولفظه: " أما بعد فإن القضاء فريضة محكمة وسنة متبعة، فعليك بالعقل والفهم وكثرة الذكر، فافهم إذا أدلى إليك الرجل الحجة فاقض إذا فهمت وامض إذا قضيت، فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له، آس بين الناس في وجهك ومجلسك وقضائك حتى لا يطمع شريف في حيفك ولا ييأس ضعيف في عدلك.
البينة على المدعي واليمين على من أنكر، والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحًا أحل حرامًا، أو حرم حلالا. ومن ادعى حقًا غائبًا أو بينة فاضرب له أمدًا ينتهي إليه، فإن جاء ببينة أعطيته حقه، وإلا استحللت عليه القضية، فإن ذلك أبلغ في العذر، وأجلى للعمى. ولا يمنعك قضاء قضيت فيه اليوم فراجعت فيه عقلك وهديت فيه لرشدك أن ترجع إلى الحق، فإن الحق قديم ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل.
الفهم الفهم فيما يختلج في صدرك مما ليس في كتاب الله ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم اعرف الأشباه والأمثال وقس الأمور عند ذلك، واعمد إلى أقربها إلى الله تعالى وأشبهها بالحق، المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلودًا في حد، أو مجربًا عليه شهادة زور، أو ظنينًا في ولاء أو نسب أو قرابة، فإن الله تعالى تولى منكم السرائر، وادرأ بالبينات والأيمان وإياك والغضب والضجر، والتأذي بالناس عند الخصومة، والتفكر عند الخصومات، فإن القضاء عند مواطن الحق، يوجب الله تعالى به الأجر ويحسن به الذكر، فمن خلصت نيته في الحق، ولو على نفسه كفاه الله تعالى ما بينه وبين الناس، ومن تخلق للناس بما ليس في قلبه شانه الله تعالى، فإن الله تعالى لا يقبل من العباد إلا ما كان خالصًا فما ظنك بثواب من الله تعالى في عاجل رزقه، وخزائن رحمته والسلام ".
وأقول: هذا صحيح، فإن كامل الاستعداد يظفر من علوم الاجتهاد في المدة اليسيرة بما لا يظفر به من لم يكمل استعداده في المدة الطويلة، وذلك موجود بالمشاهدة لكل ممارس لأهل العلم [13ب]، أو تصدر للقضاء بين المسلمين بما شرعه الله، أو للفتيا بما أنزل الله في كتابه، وعلى لسان رسوله، فهؤلاء لا يتم اجتهادهم إلا بالتبحر في كل علم من تلك العلوم مع إشرافه على ما يرجع إليها ويقويها من سائر العلوم على وجه يحصل له الظن بأنه لم يقصر في واحد منها تقصيرًا يكون بسببه حمل الناس على العمل بخلاف ما شرعه الله لعباده، فإنا قد قدمنا أن استنباط المسائل يتفاوت بتفاوت المجتهدين في العلوم الشرعية، وأنه قد يقف الواحد منهم على الدليل من كتاب الله، أو مما صح عن رسول الله، مع عدم وقوف الآخر عليه، وقد يستخرج المتبحر في العلوم الاجتهادية ما لا يقتدر
من دونه على استخراجه، وأحق هذه العلوم بالتوسع، وأولاها بالتبحر علم السنة (1)، وإمعان النظر فيما لا يتمهر فيها إلا به من الاطلاع على أحوال رواتها، ومعرفة أسباب الجرح والتعديل، وعدم القنوع بالجرح المجمل، حتى يقف على السبب والترجيح عند تعارض التعديل والتجريح، ومعرفة رجال إسناد كل حديث ذاتًا وصفةً، والتدرب في علوم اصطلاح المحدثين، فلهم اصطلاحات موضوعة بينهم لا يمكن تخريجها على المدلول اللغوي، والبحث عن المؤلفات في متون الأحاديث وأسانيدها على ما تبلغ إليه القدرة، ويقبله الفهم، ويحصل عنده الظن بأنه لم يكن في المسألة غير ما قد علمه وحصل له من حفظه وبحثه، ثم أحق العلوم بعد علم السنة بالاستكثار منه، والتوسع فيه علم الأصول، فإنه العلم الذي تدور عليه دوائر الاجتهاد، ويترتب على تحقيقه الإصدار والإيراد، ثم علم البلاغة، ثم سائر العلوم المتعلقة باللغة؛ فإن التوسع فيها يوجب لصاحبها ملكةً في الاستدلال لا توجد عند من هو دونه، فإنه يصير بذلك مفسرًا لكتاب الله من دون مراجعة كتب التفسير، وشارحًا لسنة رسول الله من غير مراجعة للشروح، ثم على هذا المجتهد الذي يتصدر لإرشاد هذه الأمة أن يمعن النظر في أقوال [14أ] المجتهدين، ويحفظ مذاهبهم، أو يراجع المؤلفات الموضوعة لذلك عند الحاجة، فإنه إذا عرف ذلك وجد له في كل مسألة سلفًا، فيقوى جنابه، وينثلج قلبه، ويطمئن خاطره، ويديم النظر في كتب التفسير وشروح الحديث، وإن كان له من الملكة ما يقتدر به على ما يحتاج إليه من ذلك لكنه يجد ثمرات اجتهادات المجتهدين، وأبكار أفكار المحققين محررة هنالك، فيستفيد منها ما لا تفيده ملكته خصوصًا تأليفات الأئمة الكبار، ومجاميع العلماء المشهورين بقوة الأنظار.
ومن أنفع ما يستفيد به من أراد نشر العلم أن يكرر النظر في المؤلفات الموضوعة لتحقيق الحق في مسائل الفقه، فإنه يجد فيها ما يستعين به على مطلوبه، ولا يبادر
(1) تقدم ذلك مرارًا.
وانظر الرسالة رقم (60).
بتحرير مسألة يبرزها للناس في تأليف، أو حكم، أو فتيا حتى يروض فكره في الأدلة القرآنية، ويبحث في مجاميع السنة، فينظر مثلا في جامع الأصول، فإن لم يجد فيه مطلوبه فليبحث الجامع الكبير للسيوطي، أو كنز العمال؛ فإن هذين الكتابين لا يشذ عنهما شيء من السنة إلا النادر الذي لا يقدح تجويز وجوده في الظن الحاصل للمجتهد، فهذه هي علوم الاجتهاد للمجتهد الناصب نفسه للإرشاد، فإن قصر في شيء منها وهو يظن وجوده عند غيره من المجتهدين الموجودين في عصره وقطره فهو لا يحصل له ذلك الظن الذي هو المعيار للاجتهاد إن كان ممن يتقي الله، ويخشى عقابه.
وأما إذا لم يوجد إلا من هو مثله أو دونه في عصره وقطره فعليه أن يبلغ غاية ما يقدر عليه، ويتعلم ما يجده من هذه العلوم على من يجده من أهلها ويبحث كلية البحث، ولا يضره بعد ذلك أن يكون في المجتهدين الأموات من هو أعلم منه، ولا في من سيحدث بعده من أهل الاجتهاد من هو أرسخ منه، ولا يقدح في ظنه الإصابة تجويز أن في أقطار الدنيا البعيدة عنه من هو أعلم منه، لأن الله لم يكلف أهل كل عصر بعلم الأموات، ولا بعلم من سيوجد، ولا بعلم من لا يعرف من الأحياء، بل أقام الله الحجة [14ب] على أهل كل عصر بمن يوجد لهم من الراسخين في العلم، وأخذ على العلماء البيان.
فإن قلت: الأحكام الشرعية متساوية الأقدام بالانتساب إلى الشرع، ومتساوية الأقدام من حيث التعلق بالمتشرعين عند وجود المقتضي، وفقد المانع، فكيف جعلت علوم الاجتهاد المعتبرة في عمل الرجل لنفسه دون العلوم المعتبرة في اجتهاد الرجل لإرشاد غيره!؟.
قلت: لأن الله - سبحانه - لم يتعبد عباده بالبيان للناس، إلا إذا كانوا أهلا للبيان والإرشاد، والمتأهلون لذلك هم الذين يثقون من أنفسهم بأنهم إنما أرشدوا العباد إلى ما هو حق، ولا تحصل هذه الثقة الحاصلة عن ظن الإصابة إلا لمن كان له من العلوم ما ذكرناه، بخلاف عمل الرجل لنفسه في أمر دينه الذي كلفه الله به، فإنه لا يجب عليه أن يقلد من هو أعلم منه، بل عليه أن يأتي بما أوجب الله عليه على الوجه الذي يطيقه ويقدر
عليه، فإن كان عاطلا عن المعارف العلمية وسعه ما وسع المقصرين من الصحابة والتابعين وتابعيهم من سؤال أهل العلم عن الحكم في الحادثة التي هي من مسائل العبادة، أو المعاملة على وجه استروى النص لا على وجه التقليد، وإن كان قادرًا على الاطلاع على النص، محصلا لما يفهمه به، وهو من جمع تلك العلوم فليس عليه إلا ما تبلغ إليه قدرته، وإذا عجز في بعض الحوادث سأل عنها سؤال من يطلب الرواية لا من يطلب الرأي، ونظر في ذلك المروي بما لديه من تلك العلوم، وهذا اجتهاد لا تقليد. ولا يحل له أن يقوم في مقام الإرشاد للعباد في شيء لم يبلغ إليه دليله مع وجود من هو أعلم منه بالشريعة في عصره وقطره، لأنه يظن في كل من هو أعلم منه أنه يعلم بدليل لا يعلمه، ويقدر على استنباط لا يقدر عليه، وهذا يجده كل رجل من نفسه [15أ].
وقلتم: ولدينا من هو متأهل للنظر
…
إلخ.
أقول: هذا مسلم فإن في أهل ذلك البيت الشريف، والمحتد العالي المنيف من هو كذلك وفوق ذلك، بل وفي الواردين إليه المستقرين فيه، ولسنا ممن ينكر وجود المجتهدين في ذلك المحل الذي هو محط رجال العلوم والآداب، ولكنا نقول: يجب عليكم تفويض ما عرض من الشجار بين أهل المحل، وما يرجع إليه إلى من تعرفون أهليته للحكم بما أنزل الله في محكم كتابه، وعلى لسان رسوله، مع الثقة بدينه وأمانته وورعه، وإذا أشكل الأمر، أو تعارضت الأنظار فرفع ما أشكل، ودفع ما تعارض ممكن، ولا تفوضون في القضايا التي لا يرفع الخصام فيها إلا الحكم الشرعي من ليس له أهلية، وملكة يقتدر بها على الحكم بما شرعه الله لعباده، ثم يجب عليكم إذا كان المتخاصمان في مكان بين جهتكم وجهة أخرى، وطلب أحدهما الآخر إلى حاكم جامع للأمور المعتبرة أن تأمروا الآخر بالإجابة له؛ فإن الطالب هو الداعي إلى شرع الله، ولا حجر عليه أن يدعو خصمه إلى حاكم ليس في الجهة التي فيها المتولي عليهما، أو على أحدهما، أو ليس في الجهة التي يسوق أحدهما أو كلاهما زكاته إليها، لأن المفروض أن الخصمين في مكان بين الجهتين وصاحب الدعوة إلى الشريعة مخير في الدعاء إلى قضاة الشرع، ولا أتعاب هنا،
ولا بعد مسافة. وقد وجبت إجابة الداعي إلى الشريعة بمجرد كونه الطالب لها، الداعي إليها. ووجب على المسلمين خصوصًا، وعلى أولي الأمر عمومًا أن يأمروا المدعو بالإجابة إلى الشريعة المطهرة إذا كان الأمر على الصفة التي ذكرناها، ثم إذا تظلم متظلم، وصرخ صارخ بأنه قد وقع الحكم بخلاف الشريعة المطهرة، إما من حاكم متأهل غلطًا، أو جرأة، أو من مقصر خبطًا وجزافًا، وطلب منكم أن ينظر في قضيته [15ب] حاكم آخر ممن تثقون بعلمه ودينه فإجابته واجبة، لأن الحكم المذكور إن كان صوابًا فالحق لا يرد ولا يدفع، وإن كان غلطًا أو جزافًا كما زعمه المتظلم فإنصافه بإيصاله إلى الحق واجب، وليس في ذلك ما يخدش في العزيمة، ولا ما يفت في عضد الرياسة، بل هو من كمال العدل، وتمام البر، لأن نصر الشريعة، وإيصال طالبها إليها، وافتقاد تظلم المتظلم لا يزيد أهل الرياسة إلا فخامة، ولا يكسب أرباب الحل والعقد إلا ضخامة، بهذا جرت عادة الله في المتحملين للأعباء، المتقلدين للأمر والنهي، فأنفدهم أمرًا وأقواهم إيرادًا وإصدارًا، وأشدهم عضدًا، وأكثرهم مددًا، أنصرهم لهذه الشريعة، وأعظمهم اهتمامًا بشأنها، وأكثرهم إشادة لأركانها، ومن كان مطلعًا على أحوال الدول في قديم الزمان وحديثه لم ينكر هذا.
وقلتم: والمراد وجود ما لا بد منه من الشروط
…
إلخ.
وأقول: هذا الذي لا بد منه هو الذي وقع فيه الاضطراب والاختلاف؛ فقد تفاوتت مذاهب أهل العلم في بيان ذلك القدر الذي لا بد منه (1)، فقد يكون القاضي مجتهدًا عند بعض أهل العلم غير مجتهد عند البعض الآخر، فالوقوف على مقدار معين لا سبيل إلى التقليد فيه، وأهل الاجتهاد يختلفون في ذلك لاختلاف قرائحهم وفهومهم وعلومهم، فحينئذٍ المقدار الذي لا بد منه لم يقع على تعيينه إجماع حتى يقال هو كذا، ولا هو أمر
(1) انظر تفصيل ذلك " البحر المحيط "(6/ 199)، " المغني "(14/ 10 - 24)، " الفقه والمتفقه "(2/ 152).
مبرهن عليه حتى يكون تقديره مستندًا إلى ذلك البرهان، بل كل عالم يقدره بحسب استعداده، وقابليته، ونفوذ ذهنه، وثقوب فهمه كما نجده في كتب المجتهدين، ويستفيده [16أ] من أنظار الناظرين. وعلى هذا فلا تثبت حجية حكم الحاكم على الخصمين إلا إذا كان مجمعًا على أهليته؛ إذ المختلف في أهليته ليس بمجمع على حجية قوله، وهذا بحث نفيس ينبغي إمعان النظر في تدبره وعدم المسارعة إلى رده بمجرد الاستبعاد له.
وقلتم: ولكن المفضول في الاجتهاد حكمه صحيح كالفاضل فيه.
وأقول: التسوية بين أحكام الحكام، ولزومها للمحكوم عليه على أي صفة كانت إذا كان الحاكم جامعًا للشروط المعتبرة إنما هو باعتبار ما قد رسخ في الأذهان من القواعد المقررة، كقول أهل الفقه: إنه لا ينقض (1) حكم حاكم إلا بدليل علمي ونحو ذلك.
(1) قال ابن قدامة في " المغني "(14/ 34): وجملة ذلك أن الحاكم إذا رفعت إليه قضية قد قضى بها حاكم سواه، فبان له خطؤه أو بان له خطأ نفسه، نظرت. فإن كان الخطأ لمخالفة نص كتاب أو سنة أو إجماع، نقض حكمه، وبهذا قال الشافعي وزاد: إذا خالف قياسًا جليًا نقضه.
وعن مالك وأبي حنيفة، أنهما قالا: لا ينقض الحكم إلا إذا خالف الإجماع. ثم ناقضا ذلك، فقال مالك: إذا حكم بالشفعة للجار نقض حكمه.
وقال أبو حنيفة: إذا حكم ببيع متروك التسمية، أو حكم بين العبيد بالقرعة نقض حكمه. وهذه مسائل خلاف موافقة للسنة.
واحتجوا على أنه لا ينقض ما لم يخالف الإجماع بأنه يسوغ فيه الخلاف، فلم ينقض حكمه فيه. كما لا نص فيه. وحكي عن أبي ثور، وداود، أنه ينقض جميع ما بان له خطؤه، لأن عمر رضي الله عنه كتب إلى أبي موسى: لا يمنعك قضاء قضيته بالأمس، ثم راجعت نفسك فيه اليوم، فهديت رشدك أن تراجع فيه الحق، فإن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل، ولأنه خطأ فوجب الرجوع عنه كما لو خالف الإجماع.
وحكي عن مالك أنه وافقهما في قضاء نفسه. قال ابن قدامة: ولنا، على نقضه إذا خالف نصًا أو إجماعًا، أنه قضاء لم يصادف شرطه، فوجب نقضه، كما لو لم يخالف الإجماع، وبيان مخالفته للشرط، أن شرط الحكم بالاجتهاد عدم النص.
انظر " الحاوي الكبير "(20/ 70 - 76).
والذي عندي أن حكام الشريعة إنما هم مترجمون لها، مبينون لما فيها، فمن أصاب الحق فقد أصاب، ومن أخطأه فقد أخطأ، وكون المخطي مأجورًا لا يستلزم لزوم حكمه، وقيام الحجة به. فإذا حكم حاكم بمحض الرأي، ظنًا منه أن دليل ذلك الحكم لا يوجد في الكتاب، ولا في السنة، ثم وجد غيره النص الدال على ذلك الحكم على وجه لا يتطرق إليه الرد، ولا يتعاوره النقض كان حكم الحاكم الأول منقوضًا باطلا، وإن كان له في ذلك الرأي الذي حكم به سلف من أهل العلم قد قالوا بقوله، وإن لم يكن ذلك الدليل الذي وجده غيره قطعيًا. ويقال لذلك الحاكم الذي لم يجد النص: قد اجتهدت فأخطأت، فلك أجر، وأما أن حكمك لازم لغيرك فلا، ولا كرامة بل هو رد عليك، ولم تكن شارعًا للعباد شريعة من عندك حتى تلزمهم ما جئت به من الرأي الذي قد وجد النص من الشارع بخلافه، بل أنت وسائر عباد الله متعبدون بهذه الشريعة التي بين أظهرنا، ليس لكم أن تزيغوا عنها، أو تخالفوها، أو تعارضوها بمحض الرأي، وجهل من جهل النص رد عليه، لأنه أمر مخالف لما كان عليه أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكل أمر مخالف لما كان عليه أمر رسول الله رد، فهذا رد، أما الصغرى فلأنه قد وجد النص من الشارع، ونصه هو الذي كان عليه أمره بلا شك ولا شبهة، وأما الكبرى فللحديث الصحيح المتلقى بالقبول عند جميع الطوائف الإسلامية، وهو كل ما لم يكن عليه أمرنا فهو رد. لا يقال: إن ترافع الغريمين إلى الحاكم بمنزلة تحكيمهما له في تلك القضية التي اختصما فيها، لأنا نقول: إنه لو كان ذلك كذلك فهما إنما ترافعا إليه ليحكم بينهما بالشريعة المطهرة، لا بمحض رأيه، فإنهما لم يقصداه لذاك، ولا نصبه في منصب القضاء من نصبه إلا ليريح الخصوم بالشريعة المطهرة، ولا يعدل عنها إلى الرأي
إلا عند عدمها. والمفروض أنها هنا موجودة لم تعدم. وجهل من جهل الشريعة [16ب] لم يتعبد الله به أحدًا من عباده، ولا أمر فردًا من أفرادهم باتباعه.
أما إذا لم يكن في المسألة نص، أو ظاهر، أو قياس صحيح، ولم يكن بيد ذلك الحاكم، ولا بيد غيره إلا مجرد الرأي فليس لغيره أن يخالف حكمه بمحض الرأي، فليس رأي أحد الحاكمين بأرجح من رأي الآخر، وهكذا إذا كان كل واحد منهما قد تمسك بنص، أو ظاهر، ولم يترجح أحدهما على الآخر بحجة ظاهرة قاهرة، فليس لأحدهما المخالفة للآخر، ولا نقض حكمه لعدم المرجح، ولأنه لو ساغ النقض والأمر كذلك لم يستقر حكم من أحكام المسلمين.
وقلتم: والأحكام التي يحررها حكامنا لا تمنع المراجعة فيها لمن اطلع على خلل
…
إلخ.
وأقول: هذا دأب المنصفين، ومسلك المتورعين، ولكنه ربما قال الحاكم الذي لم يكن متأهلا للحكم: إن حكمه بعد تمسك الغرماء به لا ينقض إلا بدليل علمي باعتبار ما قد عرفه من الأزهار (1)، ذاهلا عن كون الاجتهاد شرطًا من شروط الحاكم في نص الأزهار (2) كما نجده عند كثير من الحكام الذين لم تكن لهم أهلية، وحينئذٍ يطول النزاع، ويكثر الخصام، وربما يقول: إنه حكم بقول عالم من العلماء الذين تضيق أذهان العوام عن تصورهم لما هم عليه من جلالة القدر، ونبالة الذكر، وسعة العلم، فيظنون هم ومن يلتحق بهم أن الحاكم المجتهد إذا نقض حكم ذلك المقلد الذي حكم بقول ذلك العالم قد جاء بإحدى الكبر، وتلبس بأعظم الفواقر، ولا يتعلقون بأن الحاكم الذي حكم بذلك المقول غير متأهل للحكم، وأن نقض حكمه ليس إلا لعدم أهليته، لا لكونه حكم بقول
(1)(3/ 439 - مع السيل): حيث قال: " يجب على من لا يغني عنه غيره ويحرم على مختل شرط، ويندب ويكره، ويباح ما بين ذلك حسب الحال، وشروطه الذكورة، والتكليف والسلامة من العمى والخرس، والاجتهاد في الأصح، والعدالة المحققة وولاية من إمام حق .... ".
(2)
(3/ 439 - مع السيل): حيث قال: " يجب على من لا يغني عنه غيره ويحرم على مختل شرط، ويندب ويكره، ويباح ما بين ذلك حسب الحال، وشروطه الذكورة، والتكليف والسلامة من العمى والخرس، والاجتهاد في الأصح، والعدالة المحققة وولاية من إمام حق .... ".
فلان. وإذا لم يتعلقوا لهذا مع كونه مصرحًا باشتراط اجتهاد الحاكم في المختصرات الفقهية، فكيف يتعقلون ما هو أدق من ذلك! مثلا لو قال لهم القائل: إنه قد وقع الإجماع على عدم جواز تقليد الأموات كما نقل ذلك العلامة محمد بن إبراهيم الوزير في القواعد (1)، وتابعه على تقرير ذلك من جاء بعده من العلماء المنصفين، أو قال لهم القائل مثلا: إن هذا الإمام الذي حكم الحاكم القاصر بقوله قد صح عنه أنه لا يجوز التقليد للأموات أو مطلقًا؛ فإنهم لا يتعقلون هذا، ولا ما يماثله من الحجج، بل ربما يعدونه هم والحاكم الذي لم يكن متأهلا من مسائل أهل النصب [17أ]، ومن أكاذيب المبتدعة ومن دسائس المنحرفين عن المذهب الشريف. وهذه اللطائف قد تلقنها غالب المقصرين، وجعلوها منفقة لما يأتون به من الجهالات، وتستروا بها عن كشف عوارهم وبوارهم، وفضائح جهلهم، فكانت لهم مجنًا يدفعون به ما يرد عليهم من العلماء المتأهلين، وحصنًا حصينًا يمنعهم عن انتقاد المنتقدين المبرزين، وذلك لأنهم عرفوا من أنفسهم العجز عن ربط ما يأتون به بدليله، والقصور عن دفع ما يرد عليه، لكونهم لا يعرفون الحجج الشرعية، بل لا يعقلونها، فعدلوا إلى هذه اللطيفة، ونفقها لهم من هو مثلهم، فكانت من أعظم الوسائل الشيطانية، والذرائع الطاغوتية، وداراهم من داراهم من المتأهلين، إما لمحبة السلامة والعافية، أو لفتوره عن البيان الذي أمر الله به، أو لمخافة فوات غرض من أغراض الدنيا، أو لحفظ قلوب السواد الأعظم عن النفور عنه، ورغوب النفس إلى عدم ذهاب الجاه الذي يعيش في ظله، ويشرب من وبله وطله، فطم الأمر، وعم، ووجد الشيطان اللعين السبيل إلى طمس معالم الشريعة، وإطفاء نورها، واهتظام حملتها القائمين ببيانها للناس، والله المستعان.
قال - كثر الله فوائده -: وغير خاف عليكم أن اختيار من هو متأهل للحكم بأحوال
(1) القواعد: مخطوط بالجامع الكبير " مجاميع "(96 ق 62/ 100) وأخرى في مكتبة عبد الله الحبشي. انظر: " مصادر الفكر "(176).
الغرماء والشهود مرجح له على غيره، لكثرة ملابسته لهم، ومعرفة مبطلهم من محقهم، ومعرفة المواضع المتشاجر فيها، إلى غير ذلك من تسهيل الأمر عليهم، وعدم تكليفهم للغرامات التي تشق عليهم، وتضييعهم لمن يعولون.
أقول: هذا المرجح لا شك فيه باعتبار إذا كان الشهود في محل الخصمين، أو كان الشجار في شيء من الدور أو العقار يحتاج إلى المشاهدة، وكذلك للاختبار بحال الخصمين مزيد خصوصية في ظهور المحق من المبطل، وفي تخفيف الأمر عليهما. ولهذا ذكرنا في الجواب السابق أن طلب أحد الخصمين لخصمه الذي في جهته الخروج إلى حاكم في غير تلك الجهة ليس فيه إلا مجرد إتعاب ومشقة إذا كان الحاكم في الجهة من المتأهلين للحكم بما أنزل الله في كتابه، وعلى لسان رسوله، ولكن هذا المرجح إنما هو باعتبار الأمور التي ذكرها - كثر الله فوائده - وذكرنا.
وأما باعتبار [17ب] حكم الله في تلك الحادثة فالمرجح هو التوسع في علم الشريعة.
وإنا قد قدمنا أن من كان أكثر علمًا كان أبصر بالحق، وأقمنا على ذلك البراهين التي مرجعها إلى الوجدان والتجريب والاستقراء. ومن المرجحات أيضًا كثرة الورع، والتعفف عن الحطام، وتأثير الحق حيث كان، وتقديم الأدلة الشرعية على اجتهادات المجتهدين، وعدم التعصب لمذهب من المذاهب، أو عالم من العلماء، فهذه هي المرجحات بالنسبة إلى حكم الله تعالى في تلك الحادثة. وإذا عارضتها تلك المرجحات التي هي بالنسبة إلى حال الخصمين والشهود فهذه أرجح منها، لأن الحاكم ليس عليه إلا النظر في الدليل الشرعي، والموازنة بين المتعارضات من النصوص والظواهر وترجيح الراجح منها عند تعذر الجمع، وهو لا يجد عن هذه المرجحات بالنسبة إلى حكم الله بدلا ولا عوضًا، بخلاف المرجحات بالنسبة إلى حال الخصمين والشهود والمكان المتنازع فيه، فإنه يتمكن من معرفة ذلك بسؤال العارفين بأحوال الخصمين، وبطلب المعدل والخارج بالنسبة إلى الشهود، ويبعث العدول بالنسبة إلى المكان المتنازع فيه. وأما ما يلزم الغرماء من الغرامات فإن كان منها شيء للقاضي فليس هو القاضي الذي نحن بصدد الموازنة بينه
وبين غيره من القضاة، بل هو من جملة أهل المكس، وأرباب الظلم. وإن كانت الغرامة للغريمين أنفسهما ولشهودهما ومن ينفعهما بوجه من وجوه النفع، فليس على القاضي من ذلك شيء، بل عليه إمعان النظر في القضية، وعدم التراخي عن فصلها بحسب الإمكان، فإن كان فصلها محتاجًا إلى تكثير الخصام، وتطويل البقاء فذلك من أوجب الواجبات على القاضي، وأهم المهمات، فإنه إذا لم يثبت ويستوفي [18أ] المدارك الشرعية كان حكمه قبل أن يعلم بأنه الحق، فيكون من قضاة النار، ولا سيما مع ما قد صار في طبائع الخصوم من التباعد عن الحق والغمط لوجه الصواب، وإظهار التعمية والتلبيس والتمسك بالشبه، وتكثير الجدل والمغالطة؛ فإن الحاكم محتاج أتم حاجة إلى الاستقصاء، حتى يستوعب جميع ما يبطنه الغريمان ويكتمانه، وهما إذا طالت مدة خصومتهما، وتكاثرت غرامتهما فبجنايتهما على أنفسهما؛ فإنهما لو قعدا بين يدي الحاكم، وتكلما بنفس ما فيه الخصام، وكشفا وجه القضية على ما هو عليه، وأبانا محل اختلافهما لم يحتاجا إلى تطويل خصومة، ولا إلى تكثير غرامة، بل قد لا يقعدان بين يدي الحاكم غير ذلك المقعد الذي وصلا إليه فيه، فما على الحاكم إذًا ممن جنى على نفسه بنفسه، واختار المشقة على ما هو أخف عليه.
قال - كثر الله فوائده -: وهذا الوجه الثاني إنما هو فيمن دعا إلى حاكم بحكم الله في تلك الحادثة، وأما في من دعا إلى من يفصل بينهما بالرأي والاستحسان (1) والأعراف المألوفة، أو بوجه الإصلاح كما هو الواقع كثيرًا، أو إلى حاكم مجتهد، لكنه لا يتولى النظر بنفسه في شجار الغرماء، بل يصرفهم إلى منصوبين مقلدين، أو إلى أحد من أعوانه، أو نحو ذلك ففي تكليف الغريم بوجوب الإجابة إلى غير جهته أعظم الإشكال.
(1) تقدم تعريفه.
وانظر " إرشاد الفحول "(ص786).
أقول: هذا الحاكم الذي يحكم بالرأي والاستحسان، إن كان عالمًا متأهلا متمكنًا من الحكم بما أنزل الله في كتابه، وعلى لسان رسوله، فالحادثة التي حكم فيها بالرأي والاستحسان لا تخلو إما أن يكون دليلها موجودًا في كتاب الله، أو في سنة رسوله، أو في قياس صحيح، أو إجماع معلوم، فعدول الحاكم عن ذلك إلى الرأي والاستحسان يخرجه عن مسمى القاضي إلى مسمى الخائن لله وللمسلمين وللشريعة، بل يلحقه ويلحق حكمه بالطاغوت وأهله، لأنه عدل عن حكم الله إلى حكم نفسه، وقدم رأيه على رأي الشارع، وآثر هذيانه [18ب] على ما رضيه الله لعباده، ودبر الأمة بغير التدبير الذي دبرها الله به، فهو عن الحاكم الذي يحكم بالشريعة المطهرة بمعزل، ولا تلزمه الإجابة إليه، ولا امتثال حكمه، بل يجب على كل مسلم عزله، والحيلولة بينه وبين المسلمين، فإنه مع كونه ظالمًا للعباد بالحكم عليهم بغير الشرع هو أيضًا ظالم للشريعة، معاند لله ورسوله وشريعته؛ فهو أشر من الظلمة الذين يظلمون الناس في دمائهم وأموالهم وأعراضهم، لأنه شاركهم في ظلم الناس، وزاد عليهم بكذبه على الله، وعلى رسوله، وعلى الشريعة، وحكم بين العباد بالطاغوت بصورة الشرع، لكونه منتصبًا في منصب المترجمين عن الشرع، هذا على فرض أنه متأهل لا يخفى عليه ما شرعه الله في تلك الحادثة، وأما على فرض أنه جاهل لا يعقل الحجة بل يقر على نفسه بذلك، ويظهره للناس كما هو شأن غير المتأهلين، فهذا وإن كان من قضاة النار، ومن أشر الأشرار لكنه ليس كمن ذهب يكذب على الله وعلى شريعته، عالمًا بأنه كذلك، متعمدًا للعدول عما يعلمه من الشرع إلى رأيه الفاسد، لأن غير المتأهل هو لا يعلم الشرع حتى يقال عدل عنه إلى رأيه، أو رأي غيره، بل ذلك عنده هو الشرع بعينه.
ومن هذه الحيثية كررت في هذه الورقات، وفيما قبلها من التأليفات التحذير والإنذار عن تولية غير المتأهلين لمثل هذا المذهب الذي هو أساس الدين، وأما إذا كان ذلك المتأهل الذي قضى بالرأي والاستحسان إنما قضى به بعد أن لم يجد في كتاب الله، ولا في سنة رسوله، ولا في القياس الصحيح، مستندًا لتلك الحادثة فهذا لا إنكار عليه؛ فقد عمل
بحديث معاذ (1) الذي تقدم ذكره، وهو رخصة له تمنع من الإنكار عليه إلا لمن وجد النص كما تقدم تحريره وتقديره. ثم الجزم على حاكم من حكام الشريعة بأنه يعدل إلى الرأي مع وجود النص لا ينبغي أن يقوله إلا من كان يعلم بالشريعة، علمًا يفرق به بين ما هو منها وما هو من غيرها، فإن الحاكم الذي قد رسخ قدمه في الشريعة ربما يترك الاستدلال [19أ] على حكمه بأدلة الكتاب والسنة مع كونه متمكنًا من ذلك، قادرًا عليه لقصد الاختصار، أو لقصور كثير من الأذهان عن تعقل الحجة، أو لكونه مبتلى بقوم يعادون ما وجدوه مربوطًا بالأدلة لاعتقادهم أن الصواب ما أدركوا عليه الحكام المقصرين العاجزين عن إيراد الحجج من القضاء بمحض الآراء، وتغليق باب الاجتهاد مع ما قدمنا الإشارة إليه من إيهامهم العامة بأن ذلك الذي يقضون به هو الموافق لقول العالم الفلاني الذي إليه الاعتزاء، ونحو ذلك من الدسائس، فإذا وجد كثير من العامة حكمًا مربوطًا بالأدلة، مشحونًا بالكتاب والسنة اعتقدوا .... أنه مخالف لما يألفونه، فيكون ذلك سببًا لفتحهم باب الاستفتاء لمن يشاركهم في الغالب في مسمى العامية، وإن ظن وظنوا أنه متميز عنهم فهو ظن فاسد؛ فإن الارتفاع عن هذه الطبقة إنما تكون بالعلوم الاجتهادية، أو بالمدارك العقلية، لا بما عداهما.
ولقد تعاظمت المحنة على الإسلام وأهله بقوم نفروا عن الأحكام والفتاوى المستندة إلى نصوص الكتاب والسنة، ويأنسون بالأحكام والفتاوى المنسوبة إلى بعض أفراد الأمة الذين هم مكلفون بالشريعة كغيرهم، ومتعبدون بأحكامها كسائر الناس، وليسوا بشارعين بل متشرعين، ولا متبوعين بل تابعين، وناهيك خسارًا وبوارًا وجهلا بمن يؤثر كلام من هو من جملة المتعبدين بالشرع على كلام من جاء بالشرع فضلا عن أن يسوي بينهما، فضلا عن أن يقدم ما يجب تقديمه. وقد رأينا من هذا وسمعنا ما يحجم القلم عن سرده حياءً من الله - سبحانه -؛ فإنه من أعظم التجري عليه، والتنقص له، تعالى عن كل ذلك. ولا يستبعد هذا من لم
(1) وهو حديث ضعيف تقدم تخريجه.
يشاهده، بل عليه أن يحمد الله على السلامة والعافية.
وأما الاستناد في الأحكام الشرعية إلى الأعراف (1)[19ب] المألوفة فلا ينبغي أن ينسب ذلك إلى الشرع إلا في مثل حمل إقرار المقر، وحلف الحالف، ونحو ذلك من المحاولات على عرف بلده وتشابهه، فإن هذا له مدخل فيما يتعلق بالقضاء من هذه الحيثية، لا من حيث جعله دليلا للحكم؛ فإن ما وقع في كتب الأصول والفروع من الكلام على الأعراف (2) لا يراد به إلا هذا، إلا في مثل تقديمهم مثلا لعرف الشرع على
(1) تقدم تعريف العرف والكلام عنه. انظر الرسالة رقم (128).
(2)
الاستعمالات الفقهية للعرف تنحصر في أربعة استعمالات وهي:
(أ): العرف الذي يكون دليلا على مشروعية الحكم ظاهرًا: وهو أن العرف يكون دليلا على الحكم ظاهرًا، والدليل في الحقيقة: ما رجع إليه من السنة أو الإجماع أو اعتبار المصالح أو أصل إباحة، أو غير ذلك من الأدلة، ومن أمثلته المعاملات، التصرفات التي بعث النبي صلى الله عليه وسلم والناس يعتادونها، ويتعاملون بها، فأقرهم عليها، كالمضاربة، والسلم والاستصناع، وكالقسامة.
(ب): العرف الذي يرجع إليه في تطبيق الأحكام المطلقة على الحوادث، والمراد من هذا النوع: الرجوع إلى العرف في إقامة الأحكام الكلية حال تطبيقها على جزئيات الحوادث .. فالفقيه إذا عرضت له حادثة، لم يرد من الشرع إلا حكم كلي مطلق يجمعها مع أمثالها ونظائرها " رجع في تطبيق هذا الحكم على هذه الحادثة الجزئية إلى تحكيم العرف والعوائد وضابط هذا النوع. وكليته الدالة عليه هي " كل ما ورد به الشرع مطلقًا، ولا ضابط له فيه، ولا في اللغة يرجع فيه إلى العرف ".
ومن أمثلة هذا الاستعمال العرفي الكبير: مالية الأشياء، التعزير وأسبابه - إحياء الموات ما يخل بالمروءة، وما يحقق شروط العدالة، الإذن في الضيافة، انتفاع المستأجر للعين المؤجرة بما جرت به العادة
ومن أمثلة الرجوع إليه فيما يقدر: الحيض، والطهر أقله وأكثره، ومدته أكثر مدة الحمل، سن اليأس.
ومما يندرج تحت هذا الاستعمال: الرجوع إلى العرف في معرفة أسباب الأحكام من الصفات الإضافية، ومن أمثلته:
1 -
صغر ضبة الفضة وكبرها، ثمن مثل، مهر مثل، كفء نكاح مؤنة، ونفقة وكسوة وسكنى.
فالعرف في كل هذه الأمثلة وتظافرها هو ضابط مطلقات الأحكام الكلية المستفادة من النصوص.
(ج): العرف الذي ينزل منزلة النطق بالأمر المتعارف: تجري بين الناس في تصرفاتهم عادات وأعراف دالة على الإذن في الشيء أو المنع منه أو تفيد الإلزام به، أو بيان نوعه أو قدره، وقد تكون قرينة تسوغ للشاهد أن يشهد، وللقاضي أن يقضي، وللمفتي أن يفتي.
فهذه الفوائد تجري مجرى النطق بالعبارات الدالة على مضمونها .. ويكون للعرف الجاري بها قوة النطق باللفظ في اعتبار الشارع، يرتب عليه ما رتبه على الألفاظ من الأحكام، بمعنى أن قيام هذا النوع من العرف بين الناس يكون بمثابة نطق المتصرف، وإنما تركوا التلفظ به اتكالا على إفادة العرف له، وإعفاءً لأنفسهم من عمل تكلفت به طبيعة زمنهم.
ودليله من حديث عروة بن أبي الجعد البارقي رضي الله عنه " أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه دينارًا ليشتري به أضحية، أو شاة، فاشترى به شاتين، فباع إحداهما بدينار، فأتاه بشاة ودينار، فدعا له بالبركة في بيعه
…
".
فأنت ترى عروة رضي الله عنه اشترى شاتين وباع إحداهما بغير إذن لفظي وأقره صلى الله عليه وسلم وما ذاك إلا اعتمادًا من عروة على الإذن العرفي، فإن مما جرى به العرف أن الوكيل مأذون له في مخالفة موكله إلى خير مما أمره به.
(د): الاستعمال الرابع: العرف القولي:
أهم مجال يطبق فيه ويظهر فيه مداه الرحب الألفاظ المتعلقة بالتصرفات والعقود، ألفاظ الوصايا والأوقاف، الطلاق والعتاق، ذلك لما تقرر من أن كل متكلم إنما بقصد ما يتعارفه، وأن مطلق الكلام بين الناس ينصرف إلى المتعارف
انظر مزيد تفصيل: " الأشباه والنظائر "(ص98)، " فتح الباري "(4/ 406)، " إعلام الموقعين "(2/ 393).
اللغة، ونحو ذلك من المباحث، فإنه يراد به عرف الشارع، وأهل الشرع، لا ما اصطلحه قوم بينهم، وجعلوه عرفًا لهم؛ فإن ذلك لا مدخل له في الشرع إلا من تلك الحيثية، وأما ما في الكتاب العزيز (1) من الإرشاد إلى العمل بالعرف والمعروف، وكذلك
(1) اعلم أن كل ما تكرر من لفظ " المعروف " في القرآن فالمراد به ما يتعارفه الناس في ذلك الوقت من مثل ذلك الأمر، وضابطه: كل فعل رتب عليه الحكم ولا ضابط له في الشرع ولا في اللغة.
نجد أن الكلمة الكريمة الطيبة " المعروف " وردت في القرآن الكريم ثمانيًا وثلاثين مرة.
منها: قال تعالى: {الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف} [البقرة: 180].
قال تعالى: {ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف} [البقرة: 228].
وانظر الآيات: [178، 229، 231، 232، 233، 234، 235، 236، 240، 241، 263] من سورة البقرة.
ومنها: قال تعالى: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف} [آل عمران: 104] وانظر الآيات [110، 114] من آل عمران.
" القول المعروف " جاء في ستة مواضع:
منها: قوله تعالى: {ولكن لا تواعدوهن سرا إلا أن تقولوا قولا معروفا} [البقرة: 235].
ومنها قوله تعالى: {وقلن قولا معروفا} [الأحزاب: 32].
و" الأمر بالمعروف " جاء في أحد عشر موضعًا:
منها قوله تعالى: {تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله} [آل عمران: 104].
في السنة المطهرة من الأحاديث المصرحة بالأمر بالمعروف (1) فهو المقابل للمنكر، والمراد المعروف في الشرائع، وعند أهلها، والمنكر في الشرائع وعند أهلها، وكذلك ما يلائم عقول المتشرعين من تحسين العدل، وسائر الملكات النفسانية المستحسنة؛ فإنه من المعروف، وما كان منافرًا لها من الظلم وما يشابهه فهو من المنكر.
وبالجملة فتحقيق هذا المبحث يحتاج إلى تطويل يشتمل على بيان ما في كل آية من الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية من المعاني الخاصة ببعض المعاني تارة، والعامة
(1) منها: ما أخرجه البخاري في صحيحه رقم (7056) ومسلم رقم (1709) عن عبادة بن الصامت وفيه: " .. وعلى أن نقول الحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم ".
ومنها: ما أخرجه مسلم في صحيحه رقم (49) من حديث أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان ".
لجميعها أخرى.
وأما ما ينسبه أهل الأصول (1) إلى بعض الطرائق الإسلامية من العمل بالأعراف والعادات فينبغي حمله على ما ذكرناه، لأنه يبعد كل البعد أن يقول عالم من علماء الإسلام أن ما اصطلح عليه قوم فيما بينهم بعد عصر النبوة بعصور يكون شرعًا لهم.
وأما الاصطلاح الذي أشار إليه - كثر الله فوائده - فهو مما أرشد إليه القرآن الكريم، والسنة المطهرة، ومما يستحسن تقديمه قبل الحكم في كل خصومة، فذلك من الشرع إذا كان على وجه التراضي، وإلا فليس هو هذا الصلح المشروع، بل هو حكم، فإن خرج مخرج الحكم الشرعي فذاك، وإلا كان مما قدمنا [20أ] الإشارة إليه.
(1) كما قلنا أن العرف ليس بدليل مستقل ولكنه يرجع إلى أدلة الشريعة المعتبرة، كالإجماع، المصلحة المرسلة وسد الذرائع.
ومن أشهر أدلة العرف على الإطلاق:
- قوله تعالى: {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين} [الأعراف: 199].
- حديث النبي صلى الله عليه وسلم: " ما رآه المسلمون حسنا فهو حسن ".
أورده الهيثمي في المجمع (1/ 177 - 178) وقال: " رواه أحمد (22/ 170 - الفتح الرباني) والبزار (1/ 81 رقم 130 كشف) والطبراني في الكبير (9/ 118 رقم 8582) ورجاله موثقون ".
وأخرجه الطيالسي في " المسند "(ص33 رقم69) وأبو نعيم في " الحلية "(1/ 375) وأورده السخاوي في " المقاصد "(581) وقال عقبة: " وهو موقوف حسن " على عبد الله بن مسعود.
وابن بديع في " تمييز الطيب "(ص146)، والزرقاني في " مختصر المقاصد "(ص168) والعجلوني في " كشف الخفاء "(2/ 245).
وأخرجه الحاكم (3/ 78 - 79) من قوله: " فما رأى المسلمون " وزاد: وقد رأى الصحابة جميعًا أن يستخلفوا أبا بكر رضي الله عنه وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
والخلاصة أنه موقوف حسن ولا أصل له في المرفوع.
انظر تفصيل ذلك في " البحر المحيط "(3/ 41)، " الطرق الحكمية "(ص92)، " مدارج السالكين "(2/ 304).
وانظر أدلة المانعين والمجيزين هنا. " أصول مذهب الإمام أحمد "(ص540 - 541).
وأما ذكره الحاكم المجتهد الذي لا يتولى النظر بنفسه
…
إلخ.
فينبغي أن يفصل في ذلك فيقال: إن كان ما وقع من الحاكم المجتهد من الأمر لأعوانه أو بغيرهم من الحكام المقصرين (1) بالنظر فيه هو نفس الحكم، أو ما يترتب عليه الحكم ترتبًا قريبًا فالآمر والمأمور شريكان في المظلمة وفي المخالفة للشريعة، وإن كان الذي أمر بالنظر فيه هو غير ذلك، كتحرير ما يأمره الحاكم بتحريره إجمالا، أو النظر لمكان وقع عليه الخصام ليحكي له الصورة التي يشاهدها كما يقع في الشفعة ونحوها، أو يأمره بأن يقسم ميراثًا بين أهله بعد أن عرفه كيف يكون التقسيم، أو يرقم ما يدعيه أحد الخصمين وما يجيب عليه به الخصم الآخر، ويعرض ذلك عليه بمحضر الغرماء فهذا ونحوه لا بأس بتفويضه إلى من تعرف عدالته وأمانته، وإن لم يكن من أهل العلم في ورد ولا صدر.
وهؤلاء هم الذين كان يلقبهم السلف العدول، ويلقبهم أهل عصرنا في هذه الديار الأمناء، وما بمثل هذا بأس؛ فإن قبول أخبار العدول ليس من التقليد في شيء، وتوليهم لما يتولونه ليس من الحكم الذي هو من عمل القضاة، ولو كلف القاضي بأن يقسم التركات، وينظر مكان الخصومات، ويحرر السجلات لكان قد كلف بما لا يطيقه، ولا يدخل تحت قدرته، وأضر ذلك بأهل الخصومات، لا سيما عند أن يشد الرحل، ويتزود للسفر إلى مكان بعيد ينظر أسباب الشفعة بين البدوي الفلاني وغريمه، أو يقسم تركتهما المفرقة في جوانب الأرض؛ فإن هذا يعود على الغرض المقصود من نصيبه للأحكام
(1) انظر " تبصرة الحكام "(1/ 60 - 63). وانظر الرسالة رقم (142).
يحتاج القاضي في وظيفته إلى أعوان يعينونه على تمشية أعمال القضاء منهم:
1 -
جماعة من أهل العلم والفضل يشاورهم فيما يعرض عليه من قضايا وما ينبغي لها من أحكام شرعية مناسبة. وهذه المشاورة مطلوبة من القاضي ولو كان عالمًا.
2 -
أعوان القاضي: الكاتب، الحاجب، البواب، المترجم، الجلواز، الشهود، الأجرياء، صاحب السجن، المزكون، والمؤدبون.
انظر تفصيل ذلك " أدب القاضي " للماوردي (1/ 261 - 265).
الشرعية بالنقض. ومن قال: إن هذا من عمل القاضي فهو لا يدري ما هو القضاء، بل الذي يجب على القاضي [20ب] أن يقول للورثة المتخاصمين إليه بكيفية القسمة على الفرائض الشرعية، ويقول للمتخاصمين في الشفعة بعد أن يحكي له العدل صورة الأسباب: إن المستحق للشفعة صاحب هذا السبب دون هذا، ونحو ذلك، وينبغي له أن يقول للخصوم قبل بعث العدل أو العدول: عرفاني بصفة الأسباب التي تتنازعان فيها، فإن اتفقا على أمر كان ذلك مغنيًا له عن بعث غيرهم، وإن لم يتفقا أخذ على العدل أو العدول تصوير صورة ذلك على وجه التمام، فربما تقصر عبارة بعض الناس عن حكاية ما قد شاهده على التمام. وهكذا في سائر الأمور المشابهة لهذا. وأما إذا كان من يأمره القاضي بالنظر في القضية من المتأهلين للحكم فيها بالشريعة المطهرة، فلا حرج على القاضي في ذلك، وسواء كان المأمور قاضيًا أو غير قاض؛ فإن تفويضه من القاضي يجعله بمنزلة القاضي، وله أن يفوض الحكم إليه، لأنه يثق منه بأنه لا يزيغ عن الحق لورعه وأمانته، ولا يحكم خبطًا وجزافًا لعلمه بالشريعة المطهرة، وتأهله للحكم بها، ولكنه لما كان مأمورًا بأمره مباشرًا بتفويضه كان عليه أن ينظر في حكمه، ومستنده أخذًا بالجزم، وعملا بالعزيمة؛ فإن المتأهل غير معصوم من الخطأ، وقد يخفى عليه مع علمه بالشريعة بعض دقائقها، فإذا اعتضد نظره بنظره، واجتمع علمه مع علمه كان ذلك غاية ما يجب، ونهاية ما يلزم.
قال - كثر الله فوائده -: ولو صح لمجتهد وجوب الإجابة إلى غير الجهة مع وجود حاكم معتبر في البريد (1) لما لزم الغير اجتهاده، ولا وجب على الراعي إلزام رعيته بذلك، سواء كان مجتهدًا أو مقلدًا. ولا يخفاكم أن الحاكم لا يلزم غيره اجتهاده إلا بعد حصول شرائط التداعي بين الخصمين، هذا إذا كان المقصود هو السلوك في المنهج الشرعي [21أ]، وإبلاء العذر بين يدي الله تعالى، وإن كان القصد غير ذلك من نفوذ الكلمة
(1) تقدم التعريف به وكذلك توضيح مقداره.
- وحاشاكم عن ذلك - فالجواب عنه لا يخفى.
أقول: قد ذكرت في هذه الأبحاث غير مرة أن الذي أجبت به في الجواب السابق هو أن الإجابة ليست إلا مجرد إتعاب ومشقة مع وجود حاكم في الجهة يتمكن من الحكم بما أنزل الله في كتابه، وعلى لسان رسوله. والجواب لدى السائل - عافاه الله - فليراجعه حتى يعلم ذلك ويتيقنه.
وأما ما ذكره من أن الحاكم لا يلزم غيره اجتهاده إلى آخر الكلام.
فليعلم - أدام الله بقاءه - أن هذه الكلمة وإن كانت دائرة على الألسن، محررة في الدفاتر ففيها من الإشكال ما لا يحيط به المقال، وبيانه أن كلامنا وكلامه في حاكم يحكم بما أنزل الله، وما جاءت به السنة المطهرة، والأحكام العامة للأمة في الكتاب والسنة التعبد بها قدر مشترك بين العباد في قديم الدهر وحديثه، لا يختص بالتكليف بها هذا دون هذا، هذا معلوم لكل متشرع، فالحاكم المذكور هو لم يأت بشيء من تلقاء نفسه، ولا بشيء جاء به غير الشارع، ولا بحكم يلزم البعض دون البعض، بل بشريعة عامة، وحكم شامل قد تعبد الله به عباده.
وإذا كان هذا هو المراد من الحاكم، فما معنى قولكم: إنه لا يلزم غيره اجتهاده؟ إن كان المراد بهذا الاجتهاد جميع ما يحكم به من الأحكام الواردة على منهج الشريعة الموافقة لها فإن هذا الذي جاء به هو ما جاء به القرآن، أو ما نطقت به السنة. وقد وقع الإلزام به للأمة من عند البعثة المحمدية، فهذا القاضي إنما بين للناس ما شرع لهم، وحكم عليهم بما حكم الله به عليهم، فكيف لا يكون لازمًا لهم! وبهذا يتقرر أن المسألة على شهرتها [21ب] وتنزيلها عند المتمسكين بها منزلة القواطع مبنية على شفا جرف هار.
وإن كنتم تريدون باجتهاد القاضي الذي لا يلزم غيره هو محض رأيه الذي لا مستند له من كتاب ولا سنة فنحن معكم على هذا، فإن رأي هذا العالم لا يلزم هذا العالم، وكذلك رأي هذا الحاكم لا يلزم هذا الحاكم.
أما إذا كان في المسألة دليل يخالف ذلك الرأي فلا يلزم الخصمين ولا غيرهما، وأما إذا
لم يكن فيها دليل بل ليس إلا مجرد الرأي فليس رأي هذا بأولى من رأي هذا، ولا ينقض رأي برأي. فإن كنتم تريدون هذا فهو صحيح مسلم، ولكن لا يستقيم لكم إيراد هذه المسألة على إرادة هذا المراد في هذا الموضع؛ فإنكم أوردتم هذا الكلام في مساق الاحتجاج على عدم لزوم الإجابة إلى قاض خارج عن الجهة، مع وجود قاض فيها، وإنما يتم لكم الاحتجاج بهذه القاعدة إذا أردتم المعنى الأول من اجتهاد القاضي كما أراده المدونون لها، وقد أبطلناه.
أما إذا أردتم المعنى الثاني المستقيم فنقول لكم: من أين علمتم أن القاضي الذي وقع الطلب إليه سيحكم بالرأي في تلك الحادثة التي ستحدث حتى يقولوا: لا يلزم اجتهاده غيره! وقد علمتم أن محل النزاع بيننا هو القاضي الذي يحكم بالشريعة المطهرة بعد تأهله للقضاء بها.
قال - كثر الله فوائده -: الوجه الثالث: ما ذكرتموه في شأن القضاة المقلدين (1)، وكلامكم هو الحق الذي لا ريب فيه، ولكنه أشكل علينا أنكم خليتم بينهم وبين المتشاجرين، ولم تنكروا عليهم ذلك مع إمكانه عليكم بالفعل، بل تصرفون إليهم الغرماء، وتأمرونهم بالحكم بينهم، وفصل شجارهم، وتلزمون الغرماء بمقتضى ما رقموه في المراسيم، وتنفذون لهم جميع ما رأوه ورجحوه، ولا يصح الاعتذار بأنهم يعرضون عليكم المراسيم، وأنكم لا تنفذون وتلزمون إلا بعد النظر فيها، والتقرير [22أ] لما ترجحونه أنتم، لأنا نقول: إنهم لا يعرضون عليكم الأشياء مفصولا قد رقمن في
(1) قال ابن قدامة في " المغني "(14/ 14): أن يكون أهل الاجتهاد، وبهذا قال مالك، والشافعي، وبعض الحنفية. وقال بعضهم: يجوز أن يكون عاميًا فيحكم بالتقليد، لأن الغرض فصل الخصومات فإذا أمكنه ذلك بالتقليد جاز، كما يحكم بقول المقومين.
قال ابن قدامة: ولنا قوله تعالى: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله} [المائدة: 49] ولم يقل بالتقليد. وقال: {لتحكم بين الناس بما أراك الله} [النساء: 105].
مراسيمهم، ولم يعرضوا عليكم الدعوى والإجابة حتى تنظروا صحة ذلك من فساده، ولا عرضوا عليكم البينات، ولا جميع ما يحصل من أسباب الحكم وشرائطه، وكل ذلك لا يصح النظر فيه إلا لمجتهد، وإلا فلا وجه لترجيح الإنكار على هذا دون هذا.
أقول: الحكام المتصفون بهذه الصفة لا يخلى بينهم وبين الغرماء إلا في مثل هذه الأمور التي قدمنا ذكرها في بحث الاستعانة بالأمناء والقضاة المقصرين على التحقيق الذي سبق، وإنما يفوض الحكم إلى من كان منهم متأهلا كما تقدم تقريره، ولدينا من القضاة من هو مجتهد متبحر في كل علم، ولدينا منهم من هو في الورع والتأني والتثبت راسخ القدم، مع تحليه من المعارف العلمية بما يوجب له الأهلية، فإن كنتم تريدون أنا نصرف الغرماء إلى هؤلاء، ونركن عليهم فمسلم، مع أنا لا نترك الأشراف على ما يحكمون به تحريًا وتحوطًا لكون السرف إليهم له مدخلية في مشاركتهم في الصواب والخطأ، وإلا فهم ممن تبرأ الذمة بالتفويض إليه.
وإن كنتم تريدون من صرحتم بقصورهم فلا نسلم أنا نخلي بينهم وبين الغرماء في الأحكام الشرعية. وغاية ما يفعلونه هو ما يفعله الأمناء والعدول على حسب التفصيل السابق.
وأما أنهم يستقلون بحكم شرعي يفتقر إلى النظر والاجتهاد فلا؛ فإنه إذا نابهم شيء من ذلك أحالوه على من هو من أهله، ولا يستبدون به، ولو فرضنا استبداد واحد منهم من ذات نفسه لم يقبل الحكم منه الخصم المحكوم عليه، بل يأتي ويتظلم ويصول ويجول، فيكون فعله هذا سببًا لكشف القضية والبحث عن أولها وآخرها ومستندها وإعادتها جذعة، وإنما يستبد هؤلاء بتحرير ورق المصادقة، وتقدير النفقات، وقيم المتلفات والنكاحات، والطلاقات، وضروب المعاملات الجارية بين الغرماء على حساب تراضيهم، ولهم من العدالة ما يعتبر في العدول على وجه لا يفترون كذبًا، ولا يكتبون باطلا.
وقد قال تعالى: {وليكتب بينكم كاتب بالعدل} (1) وقال: {وأشهدوا إذا تبايعتم ولا يضار كاتب ولا شهيد} (2)، وهذا ليس من الحكم في شيء، ولا هو مما يقوم به الحكام وحدهم.
وهكذا قد يتولون قسمة التركات، والنظر في المحلات المتنازع فيها، ونحو ذلك.
وقد قدمنا أن هذا يصح من العدول الذين لا تعلق لهم بالعلم، لأنهم إنما يقسمون كما يؤمرون، أو يحكمون الصورة التي يشاهدونها، فإن كنتم تريدون أنا خلينا بينهم وبين المشتجرين، وصرفنا إليهم في مثل هذه الأمور فمسلم، ولا يضرنا ذلك، وإن كنتم تريدون تفويض الأحكام الشرعية في الأمور التي تحتاج إلى الحكم بالشريعة فممنوع. وحاصله أن هؤلاء ليسوا بقضاة على التحقيق بل هم النواب عن القضاة. وقد كان السلف يصنعون ذلك، فإن الذي كان يفعله حكام العصور السالفة في جميع أقطار الأرض هو أن ينصب (3) الخليفة أو السلطان قاضيًا، ويقتصر عليه في مملكته جميعًا وإن كانت متسعة الأطراف، ولا ينصبون قاضيًا غيره، بل يأذنون له بالاستنابة فيستنيب في كل بقعة من بقاع الأرض نائبًا، وقد يستنيب في المكان [22ب] الواحد جماعة إذا كان واسعًا كالمدائن الكبار، وكانوا لا يعرضون عليه إلا ما يحتاج إلى النظر والبحث من المسائل بعد أن يلخصوا له أطراف المسألة الحادثة تلخيصًا لا يحتاج الحاكم معه إلا بيان وجه الحكم، وكشف ما عرض فيه الإشكال.
وأما ما ذكرتم من عدم الإنكار عليهم فالذنب في هذا الاعتقاد محمول على من نقله إليكم؛ فإنه محض الزور. فقد علم الناس أنا لا نسمع متظلمًا في أمر يتعلق بالشريعة المطهرة إلا وكشفنا ظلامته، وفحصنا عن أمره، ولا نرى رقمًا يخالف المنهج الشرعي إلا وأبطلناه، وإن كان راقمه من المتأهلين فضلا من غير المتأهلين. ولا يختص بهذه
(1)[البقرة: 282].
(2)
[البقرة: 282].
(3)
انظر " مجموع الفتاوى "(18/ 763)" أدب القاضي " للماوردي (1/ 137).
الخصوصية بعض البقاع دون بعض، بل لا ندع شيئًا باطلا نقف عليه، وإن كان القاضي الذي حرره في أطراف القطر اليمني، وليس علينا إلا إنكار ما بلغنا، وإبطال ما علمنا بطلانه، ولم يكلفنا الله في علم ما لم نعلمه، ولا إنكار ما لم يبلغ إلينا، وهذا غاية ما يجب علينا. ومع هذا فإني لا أدعي لنفسي ما لا تستحقه، فإني لست بمعصوم عن الخطأ، بل أطلب من غيري إذا وجد كلامًا لي في حكم أو فتيا مخالفًا للشريعة المطهرة أن يصلحه، أو يرشدني إلى إصلاحه، ويفعل معي ما أفعله مع غيري.
وأما ما أشرتم إليه من أنه لا يصح النظر في أسباب الحكم وشرائطه إلا لمجتهد (1)، فهذه الكلية ممنوعة، فإن الذي يحتاج إلى المجتهد إنما هو نفس الحكم وما يترتب عليه ترتبًا قريبًا كما قدمنا تقريره، وأما مثل تحرير ما يتحاور به الخصمان، ومثل رقم ما يقربه كل واحد منهما على نفسه، ومثل النظر لمحل الشجار، ومثل تقويم التالف، وتقدير الباقي، ونحو ذلك من الأمور، فهذا يقوم به العدول الذين يوثق بدينهم وأمانتهم، وإن لم يكونوا من أهل العلم فضلا عن أهل العلم.
وقد كررنا هذا في هذه الورقات لتكريره في هذه الأبحاث التي تكلمنا عليها. وفيما سبق ما يغني عن تكريره.
وأما ما لمحتم إليه من أجرة الرسول، وكيفية [كان](2) تقسيطها، وما المستند في ذلك؟ فهذا البحث إذا بسطنا القول فيه، ونقلنا كلامكم عليه خرجنا إلا ما لا حاجة بنا وبكم إليه لاستلزامه للكلام على مباحث وجوب الطاعة، ومن تجب له. وقد كفانا وكفاكم عن هذا نصوص القرآن الكريم، والأحاديث الصحيحة المتواترة، وهي موجودة في الصحيحين، بالغة فيهما إلى حد التواتر المعتبر، فراجعوا ذلك ففيه ما يغني.
والحمد لله أولا وآخرًا، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله، ورضي الله عن الصحابة الأخيار [23أ].
(1) تقدم ذكره وانظر الرسالة (60).
(2)
في المخطوط [كان] أسقطت لعدم الضرورة.