الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
منحة المنان في أجرة القاضي والسجان والأعوان
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب
وصف المخطوط:
1 -
عنوان الرسالة من المخطوط: " منحة المنان في أجرة القاضي والسجان والأعوان ".
2 -
موضوع الرسالة: " فقه ".
3 -
أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم، وبعد حمد ذي الجلال، والصلاة والسلام على الرسول والآل، فإنه ورد السؤال من بعض أرباب الكمال
…
"
4 -
آخر الرسالة: " فيجعل الخصومة بينه وبين نفسه والحاكم، كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وفي هذا المقدار كفاية لمن له هداية، وحسبي الله ونعم الوكيل.
5 -
نوع الخط: خط نسخي معتاد.
6 -
عدد الصفحات: 15 صفحة ما عدا صفحة العنوان.
7 -
عدد الأسطر في الصفحة: 28 سطرًا.
8 -
عدد الكلمات في السطر: 9 كلمات.
9 -
الرسالة من المجلد الثاني من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.
بسم الله الرحمن الرحيم
وبعد حمد ذي الجلال، والصلاة والسلام على الرسول والآل، فإنه ورد السؤال من بعض أرباب الكمال، وهو سيدي العلامة الحسن بن زبارة (1) - كثر الله فوائده - وهذا نصه: أشكل علي ما يفعله الحكام والعمال في هذا الأوان في شأن أجرة الأعوان والسجان على الخصوم، وإلزام من عليه الحق في غالب الحالات بالتسليم للأجرة، لكون الحق عنده، ونص أهل الفروع كما عرفتم أن أجرتهم من ذي الحق هذا وما أدري ما هو المستند معهم، وكذلك أجر الحكام أنفسهم، فإني لم أجد لهم مسوغًا في قبض الأجرة من الخصمين، بل ومن بيت المال إلا ما روي أن عائشة رضي الله عنها قالت:" لما استخلف أبو بكر الصديق رضي الله عنه قال: لقد علم قومي أن حرفتي لم تكن تعجز عن مؤونة أهلي، وشغلت أمر المسلمين، وسيأكل آل أبي بكر من هذا المال، وأحترف للمسلمين فيه ". أخرجه البخاري (2).
وما رواه في الأحكام (3) والشفاء (4): " أن عليًا رضي الله عنه كان يرزق شريحًا القاضي من بيت المال خمسمائة درهم "، وغير ذلك من الآثار غايته أنها أفعال الصحابة وقد عرفتم ما فيها، هذا وأما قبض الأجرة من الخصمين فلم أعثر على دليل فيه. وقد قال في الغيث (5) أنه لم يكن في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا في عهد أحد من الصحابة؛ وروي المنع عن ابن عمر. وفي روضة النووي (6) ما لفظه: فرع:
(1) تقدمت ترجمته.
(2)
في صحيحه رقم (2070).
(3)
انظر " مؤلفات الزيدية "(1/ 83).
(4)
" شفاء الأوام "(3/ 288).
(5)
" الغيث المدرار المفتح لكمائم الأزهار ". للإمام أحمد بن يحيى المرتضى الحسني، وهو شرح على كتاب " الأزهار في فقه الأئمة الأطهار " في أربع مجلدات. " مؤلفات الزيدية "(2/ 297).
(6)
(5/ 188).
الاستئجار على القضاء باطل. انتهى.
فعلى هذا يكون ما قبضه الحكام رشوة توجب العزل أم ماذا نقول؟ وحديث: " لعن الله الراشي والمرتشي " أخرجه عبد الرزاق (1)، وابن ماجه (2) وأخرجه الطبراني (3)، وأحمد (4)، وأبو داود (5)، والترمذي (6)، وقال (7): حسن صحيح. والحاكم (8) والبيهقي (9) عن ابن عمرو، وأخرجه أبو داود (10) عن ابن عمرو، وأبو سعيد النقاش في القضاء عن عائشة، وعبد الرزاق (11) عن عبد العزيز بن مروان بلاغًا، وأخرجه أحمد (12)، والحاكم (13)، والترمذي (14)، وقال: حسن عن أبي هريرة، والطبراني (15) والنقاش عن أم سلمة بزيادة في الحكم. وعلى الجملة فهو حديث صحيح. ورواياته متعددة فأوصلوا الجواب كامل الأطراف محتويًا على ما فيه العدل والإنصاف، مع تبيين
(1) في مصنفه (8/ 148 رقم 14669).
(2)
في " السنن " رقم (2313).
(3)
في " الصغير "(1/ 28) وقال الهيثمي في " المجمع "(4/ 199): أخرجه الطبراني ورجاله ثقات.
(4)
في " المسند "(2/ 164، 190، 194، 122).
(5)
في " السنن " رقم (3580).
(6)
في " السنن " رقم (1377).
(7)
في " السنن " رقم (3/ 623).
(8)
في " المستدرك "(4/ 102 - 103) وصححه ووافقه الذهبي.
(9)
في " السنن الكبرى "(10/ 138 - 139). وهو حديث صحيح.
(10)
في " السنن " رقم (3580).
(11)
في مصنفه (8/ 148 رقم 14670).
(12)
في " المسند "(2/ 387 - 388).
(13)
في " المستدرك "(4/ 103).
(14)
في " السنن " رقم (1336) وقال: حسن صحيح. وهو حديث صحيح.
(15)
في " الكبير "(23/ 398 رقم 951) وأورده الهيثمي في " المجمع " وقال: رواه الطبراني ورجاله ثقات.
الدليل الذي يشفي الغليل - لا زلتم في حماية الله وكفايته ورعايته آمين - انتهى السؤال [1أ]؟.
الجواب بمعونة الله وفضله: أما ما سأل عنه السائل - كثر الله فوائده - من جعل أجرة السجان وأعوان الحكام على من عليه الحق مع نص أهل الفروع على أنها من مال المصالح، أو من ذوي الحق، لا ممن عليه الحق. فأقول: اعلم أن الذي ينبغي اعتماده في هذا هو أن المسجون ومن احتاج إلى أعوان الحاكم لا يخلو إما أن يكون قد تقرر عليه حق للغير يجب عليه التخلص منه كالدين ونحوه، فامتنع مع تمكنه من ذلك بوجه من الوجوه، وعدم وجود عذر شرعي له كالإعسار الشرعي، فمن كان هكذا فما لزم للسجان والأعوان فهو عليه من ماله، ولا يحل أخذه من خصمه، ولا من مال المصالح، أما كونه لا يحل أخذه من خصمه فظاهر، لأنه مظلوم، وقد رفع مظلمته إلى شرع الله، فوجب على القاضي أن يوصله إلى ما طلبه من الحق، ويدفع عنه الظلم بإلزام خصمه الظالم له بتسليم ما ظلمه فيه، فإذا ألزمه بشيء من أجرة السجان والأعوان فقد ظلمه إلا أن يقتضي الحال، وتوجب الضرورة ذلك، كمن يطالب غريمًا له في القصاص وكان المقتص منه فقيرًا، ولم يكن في الوجود مال مصالح من خراج، ومعاملة، وجزية، وفضلة سهم سبيل الله، أو كان ولكنه بأيدي قوم يتغلبون عليه، وكان هذا المطلوب بالقصاص لا يمكن استيفاء ذلك منه إلا بإرسال الأعوان عليه، وحفظه في السجن، وكان الأعوان والسجان لا يفعلون ذلك إلا بأجرة، فهذا الطالب للقصاص قد صار لا يمكن من استيفاء ما أوجبه الله له إلا بتسليم ما يعتاد لأولئك من أجرة، وعلى القاضي أن يوضح له ذلك، ويقول له: إما رضيت لنفسك بهذا الذي لا يمكن الوصول إلى حقك إلا به أو تركت.
وأما كونه لا يحل أخذ أجرة السجان والأعوان من مال المصالح حيث كان ممن عليه الحق متمكنًا منه، ممتنعًا من تسليمه بعد الحكم عليه فلعدم الوجه المسوغ لذلك، فإن مصرف مال المصالح هو المصالح، وهذا الرجل الممتنع من تسليم ما عليه بعد حكم الشرع قد صار جانيًا على نفسه، ووجب علينا استخلاص الحق منه، والأخذ على يديه [1ب]، حتى يتخلص من الحق الذي عليه، ولما كان هذا الاستخلاص، ودفع
الظلم، والحكم بالحق لا يمكن إلا بإرسال الأعوان (1)، وحفظه في السجن كان ذلك مما يتم الواجب إلا به فوجب علينا فعله، وحل لنا إلزامه (2) بما يطلبه الأعوان والسجان من الأجرة على وجه العدل، فإنه ظالم. وقد سمى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فعله ظلمًا فقال:«لي الواجد ظلم يحل عرضه وعقوبته» كما ثبت في الصحيح (3). والعقوبة لا تختص بنوع معين، بل يجوز لنا أن ننزل به ما يصدق عليه اسم العقوبة، وأحق العقوبات ما لا يمكن استخلاص الحق منه إلا به من الحبس، وأجرة السجان
(1) في هامش الأصل: قد صرح المفرعون في هذا الموضع وهو الموضع الرابع من الأجر التي هي إلى الإمام وحده بجوازها للحاكم. قال في حواشي الأزهار: أو حاكمه أو المجيب، أو من جهة الصلاحية تمت.
قال صاحب " الأزهار "(3/ 453 مع السيل) وأجرة السجان والأعوان من مال المصالح، ثم من ذي الحق كالمقتص.
وقال الشوكاني في " السيل "(3/ 459): قوله: " وأجرة السجان والأعوان من مال المصالح. ثم من ذي الحق كالمقتص ".
أقول - الشوكاني - هذا صحيح لأنه يحصل بهم نفاذ حكم الشرع وتمام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن تعذر الأخذ لهم من مال المصالح كان لهم الأجرة ممن تمرد عن الحق فلم يمتثل لحضور مجلس الشرع إلا بإحضار الأعوان له، ومن المحبوس بحق لأنهما الجانيان على أنفسهما بسبب الإخلال بما هو واجب عليهما.
وأما قوله: " ثم من ذوي الحق " فلا وجه له، ولا وجه لقياسه على المقتص لأن المباشر للقصاص نيابة عمن هو إليه لا واجب عليه بخلاف الخصم الذي لم يمتثل للإجابة إلى الشرع، أو صار في الحبس بسبب عدم تخلصه مما يجب عليه. فإن الحق ثابت وهو مخل بما يجب عليه شرعًا، فأين هذا ممن يتولى القصاص بالنيابة، فإنه أجير كسائر الأجراء.
(2)
في هامش المخطوط: المعاقبة بأخذ المال ليست إلا للإمام فقط كما هو صريح كلام أهل الفروع فليحقق ويبحث عن الدليل.
(3)
أخرجه أحمد (4/ 222، 388، 389) والبخاري (5/ 62) تعليقًا وأبو داود رقم (3628) والنسائي (7/ 316) وابن ماجه رقم (2427).
وقد تقدم وهو حديث حسن.
والأعوان، وهذا ظاهر، بل لو لم يرد هذا الحديث الصحيح لكان تسويغ ذلك معلومًا من قواعد الشريعة لما قدمنا من وجوب رفع المظلمة علينا، وأن ما لا يتم ذلك إلا به يجب كوجوبه، وإن من تمام ذلك ما يعتاده السجان والأعوان، ولولا ذلك ما فعلوا ما نأمرهم به. وهذا الظالم هو الذي تسبب بظلمه وامتناعه عن التخلص من الحق إلى ما يحتاج إلى غرامة مالية.
هذا إذا كان من عليه الحق على الصفة التي ذكرنا، أما لو كان فقيرًا قد تبين فقره فهذا لا يحل إرسال الأعوان عليه ولا سجنه، بل يجب الحيلولة بينه وبين المطالب له بنص القرآن الكريم:{وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة} (1) فإن حبسه الحاكم، أو أرسل عليه كان ظالمًا، وكان واجبًا عليه أن يسلم أجرة من أرسله، وأجرة السجان من
(1)[البقرة: 280].
قال ابن قدامة في " المغني "(6/ 585 - 586): " أن من وجب عليه دين حال، فطولب به، ولم يؤده، نظر الحاكم، فإن كان في يده مال ظاهر أمره بالقضاء، فإن ذكر أنه لغيره - فعلى الحاكم التأكد من ذلك - وإن لم يجد مالاً ظاهرًا فادعى الإعسار، فصدقه غريمه لم يحبس. ووجب إنظاره، ولم تجز ملازمته لقول الله تعالى:{وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة} [البقرة: 280].
ولقول النبي صلى الله عليه وسلم لغرماء الذي كثر دينه: " خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك " ولأن الحبس إما أن يكون لإثبات عسرته أو لقضاء دينه، وعسرته ثابتة والقضاء متعذر، فلا فائدة في الحبس، وإن كذبه غريمه فلا يخلو، إما أن يكون عرف له مال أو لم يعرف. فإن عرف له مال لكون الدين ثبت عن معاوضة، كالقرض والبيع، أو عرف له أصل مال سوى هذا، فالقول قول غريمه مع اليمين، فإذا حلف أنه ذو مال، حبس حتى تشهد البينة بإعساره.
قال ابن المنذر: أكثر من تحفظ عنه من علماء الأمصار وقضاتهم، يرون الحبس في الدين، منهم: مالك والشافعي، وأبو عبيد والنعمان، وسوار وعبيد الله بن الحسن. وروي عن شريح والشعبي. وكان عمر بن عبد العزيز يقول: يقسم ماله بين الغرماء ولا يحبس. وبه قال عبد الله بن جعفر، والليث بن سعد.
قال ابن قدامة: ولنا أن الظاهر قول الغريم، فكان القول قوله كسائر الدعاوى.
انظر: " فتح الباري "(4/ 466).
ماله. وأما إذا لم يكن قد تبين فقره وإعساره عن تسليم ما عليه، ولكنه يدعي ذلك وخصمه يخالفه وينكر، فإن كان حضوره إلى القاضي، ووقوفه مع خصمه لديه ممكنًا بدون إرسال الأعوان عليه فلا يحل الإرسال عليه، بل على الحاكم أن يطلب منه البرهان على دعواه، فإن جاء به أنظره إلى ميسرة، وإن عجز عنه أو جاء غريمه بما يفيد إيساره ألزمه بالتسليم، فإن امتنع مع ذلك كان الكلام فيه كالكلام في الموسر الذي امتنع من التخلص مما عليه، وقد تقدم.
وأما حبس الملتبس حاله فقد اختلف [2أ] أهل العلم في ذلك، فسوغ بعضهم حبسه حتى يتضح الأمر. وقال آخرون: إنه لا يحل حبسه، بل يجب العمل على ما ينتهي إليه الحال. وعندي أن هذا محل نظر للحاكم، فإن ذلك يختلف باختلاف الناس، فمنهم من يكون في حبسه مصلحة تظهر عندها أنه ممكن من التخلص، وأن دعواه التي ادعاها لا حقيقة لها، ولا صحة، وأنه إنما فعل ذلك فرارًا من الحق، ومراوغة وبعدًا عن الإنصاف، ومنهم من يكون عرضه أعز عليه من ماله، وهم أهل التستر والحياء والمروءة، وكذلك أرباب الديانة الذين يغلب على الظن أنهم لا يدعون الإعسار إلا عند الضرورة، فمن كان من هؤلاء فلا يحل حبسه، ولا إنزال نوع من أنواع الهوان به، بل ينتظر ما يصح من أمره، وينتهي من حاله، ولا مسوغ لحبس ولا غيره؛ فإنه لم يتبين أنه واجد حتى يكون مطله ظلمًا يحل عرضه وعقوبته، ولا تهمة تحصل في بطلان دعواه كما يحصل في بطلان دعوى الأول، حتى يكون ذلك مسوغًا لحبسه. وقد حبس النبي صلى الله عليه وآله وسلم في التهمة (1). ولا فرق بين تهمة وتهمة، فإن قلت: إذا كان الحبس
(1) في حاشية المخطوط: رواه في الغيث (أ) والبحر (ب). وهو حديث لا يصح (ج) كما نبه عليه شيخ الإسلام ابن حجر (د) وغيره من شراح الحديث، فعلى المجيب - كثر الله فوائده - التصحيح.
الحديث رواه أبو داود (هـ) والترمذي (و) والنسائي (ز) من حديث بهز بن حكيم أن النبي صلى الله عليه وسلم " حبس رجلاً في تهمة " زاد النسائي (ز) ثم خلى عنه. وكذا الترمذي (ح) وقال: حسن ورواه أيضًا الحاكم (ط). وقال صحيح الإسناد.
وله شاهد من حديث أبي هريرة (ي) انتهى.
فهذان إمامان من أئمة الحديث حسنه أحدهما وصححه الآخر، ولعل ما ذكره الكاتب عن الحافظ ابن حجر في الحديث، وهو من جهة بهز بن حكيم (ك) وهو لا يصح بحديثه عند الكثير، وقد (ل) جماعة كما ذكره الحافظ وأما (ل) (أ): تقدم التعريف به.
(ب): انظر " البحر الزخار "(5/ 89، 113).
(ج): بل هو حديث حسن.
(د): انظر " تهذيب التهذيب "(1/ 251).
(هـ): في " السنن " رقم (3630).
(و): في " السنن " رقم (1417).
(ز): في " السنن " رقم (8/ 66 - 67).
(ح): في " السنن " رقم (4/ 28).
(ط): في " المستدرك "(4/ 102) وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
(ي): أخرجه الحاكم في " المستدرك "(4/ 102).
(ك): بهز بن حكيم بن معاوية بن حيدة أبو عبد الملك القشيري.
قال أبو حاتم: هو شيخ يكتب حديثه، ولا يحتج به.
قال النسائي: ثقة.
قال ابن حبان: كان يخطئ كثيرًا.
قال ابن عدي: قد روى عنه ثقات الناس، وقد روى عنه الزهري وأرجو أنه لا بأس وبه ولم أر له حديثًا منكرًا.
وقال ابن معين ثقة.
انظر " تهذيب التهذيب "(1/ 251 - 252).
وخلاصة القول أن الحديث حسن والله أعلم.
(ل): غير واضحة في حاشية المخطوط.
ولفظ الحديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم حبس رجلاً في تهمة ساعة من نهار ثم خلى سبيله ".
لمجرد تهمة، أو كان الأمر ملتبسًا على الحاكم وهو يرجو اتضاح الحق بعد طول الخصومة، وكان يخشى نفور أحد الخصمين فاستوثق منه بحبسه على من تكون أجرة السجان والأعوان.
قلت: يكون هاهنا من مال المصالح، فإن لم يكن مال مصالح، أو كان ولا يمكن الوصول إليه للحاكم أن يجعلها بعد اتضاح الحال على من كان متعديًا مخاصمًا في باطل، لأنه بسبب تفعله إلى لزوم ما لزم من الأجرة، وهكذا ينبغي أن يكون أجرة هؤلاء من مال المصالح إذا كان المسجون ممن يخشى على الناس من ضرره إذا أطلق كمن تكرر منه السرق، أو قطع الطريق، أو الأذية للمسلمين بنوع من الأنواع، وكان لا يندفع ضرره عنهم إلا بحفظه في السجن كمن كان ينزجر بإقامة الحد عليه، فإنه لا يحل حبسه بعد ذلك [2ب] ، وهكذا تكون أجرة السجان والأعوان من مال المصالح إذا كان الحبس لمسوغ شرعي نحو من يجب عليه القصاص، وفي الورثة قاصر أو غائب، وهو مسلم لنفسه غير ممتنع من استيفاء حكم الله منه، فإن لم يكن ثم مال مصالح، أو كان ولا يمكن الوصول إليه كان ذلك من المقتص.
وبالجملة فمن كان محبوسًا بحق عليه يجب عليه التخلص منه وهو متمكن من ذلك. وقد تقرر الحق عليه بحكم الشرع، فما لزم بسبب سجنه فعليه لا على غريمه، ولا على خصمه، ومن كان أمره ملتبسًا وكان حبسه سائغًا لوجه من الوجوه فما لزم فمن مال المصالح، فإذا لم يكن مال مصالح فللحاكم أن يجعله على من صح أن يخاصم في باطل، ومطالب بما لا يقتضيه الشرع عمدًا منه مع علمه، ومن كان محبوسًا لمصلحة راجعة إلى المسلمين، أو كان باذلاً لما عليه من الحق لكنه عرض ما يقتضي الانتظار كان ذلك من مال المصالح، فإن لم يكن فللحاكم أن يجعله من المسلمين إذا كان الحبس لمصلحتهم، أو ممن له الحق إذا كان الحبس لمصلحته.
وأما ما سأل عنه - كثر الله فوائده - من أجرة الحكام المأخوذة من الخصمين، وذكر أنه لم يجد لذلك دليلاً.
فأقول: إن كان ما يأخذه الحكام من الخصوم إلى مقابل عمل يعملونه كرقم السجلات والسير إلى الأمكنة المتنازع فيها مما يحتاج إلى مشاهدة، كأسباب الشفعة، ونحو ذلك، وكان الحاكم لا جراية له من بيت المال يضيفها إلى مقابل أجرته، وكان ما يأخذه بمقدار عمله الذي عمله مع طيبة من نفس الخصوم، فهذا لا شك أنه حلال يسوغ قبضه. ولا فرق بينه وبين من يعمل مع الناس، ويحترف بنوع من أنواع الحرف من نجارة، أو خياطة، أو عمارة، أو نحو ذلك؛ فإن ما يأخذه هؤلاء حلال طلق، لأنه في مقابل عملهم. وقد أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بإيفاء الأجير أجره، والحاكم على تلك الصفحة داخل في هذا العموم، لأنه أجير أخذ أجره بطيبة من نفس المؤجر [3أ]، وطيبة النفس بمجردها محللة لمال الغير كما في حديث:«لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه» (1)، وأما ما يعتبره كثير من أهل الفقه من اعتباره أمر زائد على طيبة النفس، كالإيجاب والقبول بألفاظ مخصوصة أو نحو ذلك فلا دليل عليه، وأما إذا كان ما يأخذه القاضي المذكور زائدًا على مقدار عمله، ولم تطب به النفس، أو كان له جراية من بيت المال فما يأخذه بسحت حرام (2)، وأكل لمال الغير بالباطل، وقد قال الله عز وجل:{ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} (3) لا يقال إن ما يأخذه القاضي هو إلى مقابل الحكم، وهو واجب عليه، والأجرة على الواجب حرام، لأنا نقول: ليس ما يأخذه هاهنا أجرة عن الحكم، بل عن ما ذكرناه من رقم السجلات، والنظر في الأمكنة التي تتعلق بها الخصومات، وذلك غير ...................................
(1) وهو حديث صحيح تقدم تخريجه.
(2)
قال تعالى: {أكالون للسحت} [المائدة: 42].
(3)
[النساء: 29].
واجب (1) عليه.
وأما ما سأل عنه من الجراية (2) التي يأخذها القاضي من بيت المال، وأنه لم يجد لذلك مستندًا إلا ما ذكره، فاعلم أن أموال المصالح (3) كالخراج، والجزية، والمعاملة، وسائر ما يصدق عليه اسم بيت المال لا شك ولا ريب أن مصرفه الذي ينبغي وضعه فيه هو
(1) في هامش المخطوط: قال هلا كان مما لا يتم الواجب إلا به وهو يجب كوجوبه ما تحقق له من تقدم الواجب، فإن تقدمها قد وجب حتى يتنبه الخصم ففعله هو من عهدة الخصم فهو عليه.
(2)
قال الحافظ في " الفتح "(3/ 150): قال الطبري: ذهب الجمهور إلى جواز أخذ القاضي الأجرة على الحكم لكونه يشغله الحكم عن القيام بمصالحه. غير أن طائفة من السلف كرهت ذلك ولم يحرموه مع ذلك.
وقال أبو علي الكرابيسي: لا بأس للقاضي، أن يأخذ الرزق على القضاء عند أهل العلم قاطبة من الصحابة ومن بعدهم، وهو قول فقهاء الأمصار لا أعلم بينهما خلافًا. وقد كره ذلك قوم منهم مسروق، ولا أعلم أحدًا منهم حرمه.
وقال المهلب: وجه الكراهة أنه في الأصل محمول على الاحتساب لقوله تعالى لنبيه: {قل لا أسألكم عليه أجرا} فأرادوا أن يجري الأمر فيه على الأصل الذي وضعه الله لنبيه، ولئلا يدخل فيه من لا يستحقه فيتحيل على أموال الناس.
وأما من غير بيت المال ففي جواز الأخذ من المتحاكمين خلاف، ومن أجازه شرط فيه شروطًا لا بد منها، وقد جرى القول بالجواز إلى إلغاء الشروط، وفشا ذلك في هذه الأعصار بحيث تعذر إزالة ذلك والله المستعان.
وانظر: " المغني "(14/ 9 - 10).
(3)
قال الحافظ في " الفتح "(13/ 150 الباب رقم 17): قوله " باب رزق الحاكم والعاملين عليها. والرزق ما يرتبه الإمام من بيت المال لمن يقوم بمصالح المسلمين، وقال المطرزي: الرزق ما يخرجه الإمام كل شهر للمرتزقة من بيت المال. والعطاء ما يخرجه كل عام، ويحتمل أن يكون قوله " والعاملين عليها " عطفًا على الحاكم، أي ورزق العاملين عليها أي على الحكومات. ويحتمل أن يكون أورد الجملة على الحكاية يريد الاستدلال على جواز أخذ الرزق بآية الصدقات، وهم من جملة المستحقين لها لعطفهم على الفقراء والمساكين
…
".
ما كان فيه للمسلمين مصلحة، وأعظم مصالح المسلمين تشييد معالم الدين، والعمل فيهم بما شرعه الله لهم، فإن المصالح الدنيوية ليست بمنظور إليها لجنب المصالح الدينية، والمصالح الدينية بعضها أهم من بعض، وفيها ما هو مقدم على غيره، ولا تزال متفاضلة في ذات بينها حتى ينتهي الفضل إلى رأسها، بل وأساسها وأعلاها وأولاها، وهو نشر هذه الشريعة التي طلبها الله من عباده، وأرسل إليهم بها رسله، وخلق الجنة لمن عمل بها، والنار لمن تركها، وخلق عباده ليعبدوه ويبلوهم أيهم أحسن عملاً (1) كما نطق به كتابه العزيز. وإذا كانت هذه [3ب] الخصلة هي المصلحة التي لا تدانيها مصلحة، ولا توازيها منفعة، فلا شك ولا ريب أن أعظم الناس قيامًا بها وتحملاً لها هو القاضي العادل؛ فإنه الذي يقطع الخصومات العارضة لعباد الله بما شرعه لهم في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وآله وسلم. وهكذا من يعلم الناس معالم دينهم من العلماء العاملين، وهذا من يفتيهم في أمر دينهم. فهؤلاء إذا لم يكونوا مصارف لأموال المصالح فلا مصارف لها، وإذا لم تحل لهم لم تحل لغيرهم. وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يجمعون مال الله، ثم يفرقونه بين المسلمين، ويسمون ذلك العطاء، ويفاضلون بينهم بتفاضل درجاتهم في العلم والدين والسبق. هذا معلوم من فعلهم لا يشك فيه أحد. وكان للمشتغلين بالعلم منهم والمتصدرين لرواية سنة رسول الله، وتفسير كتاب الله، ومن يؤخذ عنه العلم منهم بنوع من أنواع الأخذ كالقاضي والمفتي وغيرهم النصيب الأوفر، والحظ الأكبر، بل قد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقسم بين المسلمين ما يوافيه من أموال الله كمال البحرين (2) ونحو ذلك كما ثبت ذلك ثبوتًا لا شك
(1) يشير إلى قوله تعالى: {الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور} [الملك: 2].
(2)
أخرج البخاري في " صحيحه " رقم (421 و3165) معلقًا.
عن أنس رضي الله عنه قال " أتي النبي صلى الله عليه وسلم بمال من البحرين فقال: انثروه في المسجد، فكان أكثر مال أتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الصلاة ولم يلتفت إليه، فلما قضى الصلاة جاء فجلس إليه، فما كان يرى أحدًا إلا أعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه العباس فقال: يا رسول الله أعطني، فإني فاديت نفسي وفاديت عقيلاً. فقال: خذ. فحثا في ثوبه، ثم ذهب يقله فلم يستطع فقال: يا رسول الله أؤمر بعضهم يرفعه إلي، قال: لا. قال: فارفعه أنت علي قال: لا، فنثر منه ثم ذهب يقله فلم يرفعه فقال: يا رسول الله: أؤمر بعضهم برفعه علي قال: لا، قال: فارفعه أنت علي قال: لا، فنثر منه ثم احتمله فألقاه على كاهله ثم انطلق، فما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبعه بصره حتى خفي علينا. عجبًا من حرصه، فما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وثم منها درهمًا ".
قال ابن حجر في " الفتح "(1/ 517) وفي هذا الحديث بيان كرم النبي صلى الله عليه وسلم وعدم التفاته إلى المال قل أو كثر، وأن الإمام ينبغي له أن يفرق مال المصالح في مستحقيها ولا يؤخره.
فيه ولا ريب.
فإذا لم يكن لمن يقضي بين المسلمين بشرع الله في أموال الله حظ لم يكن لمن يغزو أو يرابط في ثغورهم، أو يدفع عن حوزتهم أو نحو ذلك حظ، وعند هذا تصير أموال الله التي أمر أئمة المسلمين وسلاطينهم بقبضها من أهلها ووضعها في مواضعها ضائعة متروكة هملاً، فتذهب ثغور المسلمين ويبطل الغزو، وينهدم ربوع الشرع، ويذهب رونقه، وتتغير بهجته، ويصير الناس في فتنة عمياء صماء، وينخرم النظام، وتنقطع السبل، ويأكل القوي الضعيف، وتنتهك الحرم وتراق الدماء، وتنهب الأموال؛ فإنها إنما انتظمت المعائش، وقامت الأديان، وحفظت الحرم بصرف هذه الأموال في هذه المصارف العائدة على المسلمين بمصالح الدين والدنيا؛ فإن الناس أنواع، فمنهم من يشتغل بالزرائع [4أ]، ومنهم من يقوم بالتجارة ونحوها من الحرف، ومنهم من يسعى في تحصيل الأمور التي تحتاج إليها في المعاش، ومنهم من يحفظ للناس دينهم ويعلمهم معالم الإسلام، ومنهم من يجاهد الأعداء ويكف يد القوي عن الضعيف، وينتصف المظلوم من الظالم، وتؤمن السبل، تقيم الحدود وهم الأئمة ومن معهم من الجنود، فإذا لم تؤخذ أموال الله من مواضعها وتصرف في مصارفها لم يبق من يحفظ على الناس دينهم، ولا من ينتظم به أمر معاشهم، لأن الجنود المتطوعة الذين لا يرتزقون لا يوجدون إلا في أندر الأزمنة، وأقل الأحوال، وكذلك القائمون بالوظائف الدينية من القضاء والإفتاء
والتعليم، فليس في ذلك من النفع والدفع ما يكون عند إدرار أموال الله على مصارفها، فلا يزال في ضعف وسقوط وانطماس حتى ينتهي الحال إلى خراب أحوال الدنيا مع أحوال الدين، فلا يأمن الزارع على نفسه، ولا على ماله، ولا التاجر على تجارته، ولا المحترف على حرفته، فيذهب الدين والدنيا، والعاجل والآجل، ويعم الضرر جميع العباد، ويكثر في الأرض الفساد.
ومن رام أن يحيط بهذا علمًا، ويقتله خبرًا، ويعلمه علمًا لا يداخله شك ولا شبهة، فلينظر ما يقع فيه عباد الله عند اضطراب الدول من الهرج والمرج، وهتك الحرم، وذهاب معالم الدين، وضياع الشرع، وتقاصر ظله، وتقلص أطرافه.
ومن نظر في التواريخ المتضمنة لشرح أحوال الدول علم علمًا يقينًا أنه لا انتظام للدين ولا للدنيا إلا بوضع حقوق الله في مواضعها، مع أخذها على الوجه الذي جاء به الشرع.
وبالجملة فلا نطيل المقال في هذا فهو من الوضوح بمكان، وليس المراد إلا بيان أن القاضي والمفتي والمعلم هم أحق الناس بوضع أموال الله فيهم [4ب]، وإدرارها عليهم. وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يفرض الأرزاق لمن يستعمله كما في حديث بريدة مرفوعًا بلفظ:«أيما عامل استعملناه، وفرضنا له رزقًا فما أصاب بعد رزقه فهو غلول» (1)، ونحو هذا مما ورد في فرض أرزاق أهل الأعمال. وقد كان يستعمل على القضاء كما يستعمل على غيره من الأعمال، وكان عماله يأكلون من أموال الله، وكذلك الخلفاء الراشدون كانوا يفرضون لأنفسهم (2)، ولمن يلي لهم
(1) أخرجه أبو داود رقم (2943) بإسناد صحيح.
(2)
ذكر البخاري في صحيحه باب (17) رزق الحاكم والعاملين عليها، وكان شريح القاضي يأخذ على القضاء أجرًا وقالت عائشة: يأكل الوصي بقدر عمالته. وأكل أبو بكر وعمر.
قد تقدم عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما استخلف أبو بكر قال: قد علم قومي أن حرفتي لم تكن تعجز عن مؤنة أهلي، وقد شغلت بأمر المسلمين، فسيأكل آل أبي بكر من هذا المال وأحترف للمسلمين فيه ".
أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2070).
قال ابن حجر في " الفتح "(4/ 305): قال ابن التين وفيه دليل على أن للعامل أن يأخذ من عرض المال الذي يعمل فيه قدر حاجته إذا لم يكن فوقه إمام يقطع له أجرة معلومة.
قال ابن حجر في " الفتح "(13/ 151): لكن في قصة أبي بكر أن القدر الذي كان يتناوله فرض باتفاق الصحابة فروى ابن سعد بإسناد مرسل رجاله ثقات قال: " لما استخلف أبو بكر أصبح غاديًا إلى السوق على رأسه أثواب يتجر بها، فلقيه عمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح فقال: كيف تصنع هذا وقد وليت أمر المسلمين؟ قال: فمن أين أطعم عيالي؟ قالوا نفرض لك، ففرضوا له كل يوم شطر شاة.
قال عمر بن الخطاب " إني أنزلت نفسي من مال الله بمنزلة قيم اليتيم إن استغنيت عنه تركت، وإن افتقرت إليه أكلت بالمعروف ".
أخرجه ابن أبي شيبة في " مصنفه "(12/ 324 رقم 12960) وابن سعد في " الطبقات "(3/ 197) والبيهقي في " السنن الكبرى "(6/ 354).
وقال الحافظ ابن حجر في " الفتح "(13/ 151): سنده صحيح.
وأخرج الكرابيسي بسند صحيح عن الأحنف قال: كنا بباب عمر - فذكر قصة وفيها فقال عمر: " أنا أخبركم بما استحل: ما أحج عليه وأعتمر، وحلتي الشتاء والقيظ وقوتي وقوت عيالي كرجل من قريش ليس بأعلاهم ولا أسفلهم ".
" الفتح "(13/ 151).
الأعمال أرزاقًا من أموال الله، وهذا معلوم عنهم لا يختلف أهل العلم فيه، وهم الذين يقول فيهم الصادق المصدوق:" عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين الهادين " كما في الحديث الصحيح (1).
فإن قلت: ما هو القدر (2) الذي يحل للقاضي من أموال الله؟
قلت: هو رزقه الذي يكفيه ويكفي من يعول - والكفاية هي الكفاية بالمعروف،
(1) وهو حديث صحيح تقدم تخريجه مرارًا.
(2)
انظر التعليقة السابقة.
فلا ينفق على نفسه إنفاق أهل الإسراف، ولا إنفاق أهل التقتير، بل يقتدي بعادة أمثاله من أهل بلده الذين يسلكون مسالك التوسط، ويمشون مشي من لا يبسط يده كل البسط، ولا يقبضها كل القبض. وفي قصة الصديق رضي الله عنه قدوة وأسوة، فإنه قال لما استخلف: لقد علم قومي أن حرفتي لم تكن تعجز عن مؤنة أهلي، وشغلت بأمر المسلمين، وسيأكل آل أبي بكر من هذا المال وأحترف للمسلمين فيه) (1) هكذا في البخاري (2) فانظر ما في هذا الكلام الصادر عن الصديق رحمه الله من الفوائد التي ينبغي لمن يعمل عملاً للمسلمين أن يقتدي بها، ويمشي على سننها فإنه قال: لقد علم قومي أن حرفتي لم تكن تعجز عن مؤنة أهلي، فقدم هذه المقدمة أمام المقصد الذي يريده ليعلم الصحابة أنه لا يأخذ من بيت مالهم لنفسه شيئًا يستأثر به دونهم، لكونه قد صار إمامًا لهم، مالكًا لأمرهم، بل الذي يأخذه هو أجرة [5أ] عوضًا عن عمله الذي كان يعمله ليعود به على أهله وهي الحرفة التي كان يرتزق بها هو وأهله. وقد كانت تقوم بكفايته ولا يعجز عنه حتى يحتاج إلى غيرها، وهو الآن قد صار مشتغلاً بالاحتراف للمسلمين في أمورهم العامة أو الخاصة، وغير ممكن من العمل في حرفته الأصلية، فهو لا يطلب منهم إلا ما كان يحصله من حرفته الخاصة به، وهو الكفاية والكفاف على وجه يكون الحاصل له من بيت مال المسلمين في كل يوم ما كان يحصل له من حرفته في كل يوم، ولم يجعل لنفسه فرقًا بين حاله وهو سوقة، وحاله وهو ملك، ولا بين كونه كان يدور في الأسواق كأحد المسلمين، وبين كونه صار أمير المؤمنين فلله در هذا الورع
(1) تقدم آنفًا.
(2)
في صحيحه رقم (2070).
قال: أحترف أني كنت أكتسب لهم ما يأكلونه، والآن اكتسب للمسلمين.
قال الطيبي: فائدة الالتفات أنه جرد من نفسه شخصًا كسوبًا لمؤنة الأهل بالتجارة، فامتنع لشغله بأمر المسلمين عن الاكتساب، وفيه إشعار بالعلة، وأن من اتصف بالشغل المذكور حقيق أن يأكل هو وعياله من بيت المال. وخص الأكل من بين الاحتياجات لكونه أهمها ومعظمها.
الشحيح، والصلابة الشديدة، والدين القوي! فهكذا ينبغي أن يكون ولاة أمور المسلمين من القضاة، وأهل الأعمال، فإن كل ولاية وإن جلت وعظم شأنها وهي دون الولاية العامة والزعامة التي لا تكون فوق يد صاحبها يد. وينبغي للإمام العادل أن ينظر إلى من يوليه الأعمال في نفسه ومؤنة أهله، فيجعل لهم ما يقوم به على وجه لا يحتاج معه إلى أن يرفع رأسه إلى رزق من جهة أخرى يقضون رزقه الذي يجعله له إمامه عن مؤنة نفسه وأهله، ولا يجعل له من أموال الله ما يجاوز كفايته التي يحتاجها، فإن غيره من المسلمين أحوج بها، ومصارف أموال الله على ظهر البسيطة فإن موت الأموال (1) وإن بلغت في الكثرة كل مبلغ لا تفضل عن أرزاق من يستحقها بل يفضلون عنها، ولولا ذلك ما كان في كل عصر من العصور فقراء عالة الناس يسألونهم [5ب] ويحتاجون إلى ما في أيديهم.
فإن قلت: قد كان لجماعة من الصحابة والتابعين الأموال التي يطول ذيلها، ويتعاظم قدرها حتى اتسعوا في عمارة الدور الأنيقة، والدواب الفارهة، والمماليك الدوقة (2)، والملابس الفاخرة، والضياع المشتبكة، والأنهار المطردة، والذخائر الكثيرة حتى مات الواحد منهم عن مئين الألوف وألوف الألوف مما تركه لمن يرثه بعد أن عاش مرفهًا موسعًا على نفسه وأهله، يعطي العطايا الواسعة، ويبذل البذولات الرابعة لمن يقصده من الفقراء والشعراء وأهل الكمالات، وأرباب الغرامات.
قلت: صحيح ما ذكرته وغير مستنكر ولا مستعظم ذلك عليهم، فقد كان لهم من الغنائم التي عادت بها عليهم سيوفهم ما لا يقادر قدره، ولا يمكن التعبير عنه، وتضيق الأذهان عن تصوره، فإن الله - سبحانه - مكنهم من الممالك العظيمة كمملكة كسرى
(1) غير واضحة في المخطوط.
(2)
" الدوقة والدوقانية ": الفساد والحمق، وقيل أداقوا به أحاطوا به.
" تاج العروس "(13/ 151).
وقيصر، فما تركوه وهو قليل بالنسبة إلى ما أعطاهم الله عز وجل ذلك شيء خارج عما نحن بصدده من كفاية الإمام لمن يقوم بأمر من أمور المسلمين.
فإن قلت: إذا كان للرجل القائم بعمل من أعمال المسلمين أعوان ينفذون له ما يريده من الأمر والنهي، غير أهله ومن يعول ولا يتم له ما يؤيده من القيام بالحق إلا بهم نحو من يحتاج إليه للأخذ على يد الظالم والنصفة للمظلوم، واستخلاص الحق ممن هو عليه لمن حوله، ومن يحتاجه لتحرير السجلات، وتقرير الخصومات، وحفظ ما يكون لديه من الأحكام، ومن يحجبه عن الناس في الأوقات التي يخلو فيها بنفسه وأهله لحوائجه الخاصة [6أ] التي يسوغ له الشرع الاحتجاب لها، ولا سيما إذا كان انفراده بنفسه، لتدبير الأمور المتعلقة به، والبحث عن أدلة المسائل التي تعرض له، والنظر في دفاتر العلم المدونة، وفي مجاميع السنة، وكتب التفسير؛ فإن ذلك من أهم الأمور، بل من أوجب ما يجب عليه، فقد يعرض له في اليوم الواحد من المسائل العويصة الدقيقة ما يحتاج إلى أوقات كثيرة يستغرقها في البحث والنظر حتى يظفر فيها بالصواب، ويجتهد رأيه فيما لا تتضح قرينة دلالته، أو معارض مآخذه.
قلت: يجب على الإمام أن يعرض لهؤلاء جميعًا من الأرزاق ما يغنيهم عن التكالب على أموال الناس، والتهافت على الحطام، والتلاعب بأهل الخصومات، فإن كفاية هؤلاء الوزعة والحجبة والكتبة من أهم الأمور التي تلزم أئمة المسلمين، فيجعل لهم أرزاقًا تقوم بهم، أو يوفر على القاضي ونحوه رزقه توفيرًا تقوم به وبأهله ووزعته وحجبته وكتبته، فإن تقاصرت أموال الله عن القيام بما يحتاج إليه هؤلاء كان على القاضي أن يفرض لهم من الأجرة على من يستحق الفرض عليه من أهل الخصومات بقدر أعمالهم على التفصيل الذي قدمنا تحريره.
فإن قلت: فما تقول فيما نقله السائل - كثر الله فوائده - عن روضة النووي (1) أن
(1)(5/ 188).
الاستئجار على القضاء باطل (1).
قلت: إن أراد بذلك استئجار القاضي على الحكم من الخصم الذي يستحق الحكم له، فلا شك في بطلان هذا، لأنه نوع من الرشوة المحرمة بالإجماع، وإن أراد أنه لا يجوز للقاضي أن يأخذ أجرة على القضاء من أموال الله، فهو باطل بإجماع المسلمين، وبما قدمناه من الأدلة، وإن أراد أنه لا يأخذ ما يأخذه [6ب] من أموال الله على نفس الحكم، بل يأخذه على ما يزاوله من مقدمات الحكم كالنظر في الشهادة، والإقرار، وقرائن الأحوال، فذلك مبني على تحريم أخذ الأجرة على الأمور الواجبة، وفيه عندي إشكال لا يتسع له المقام لطول ذيله، وتشعب أطرافه. وليس في ذلك دليل يدل على تحريمه إلا ما روي من حديث (2) أبي في القوس الذي أهداه إليه بعض أهل الصفة، وكان يتعلم عليه القرآن، وفي الحديث ضعف، وفي وجه دلالته إشكال، وهو معارض بما هو أرجح منه (3)، مع كونه أخص من الدعوى على أن تلك المقدمات التي سوغ القائل بالمنع
(1) في هامش الأصل: الظاهر أن البطلان لشيء آخر وهو جهالة العمل، وفي البحر ما نصه: فرع (ي) - أي الإمام يحيى - لا يصح عقد الإجارة على القضاء إذ العمل غير معلوم. انتهى.
(2)
أخرجه ابن ماجه رقم (2158) والبيهقي في " السنن الكبرى "(6/ 125 - 126) وهو حديث صحيح بشواهده.
انظر هذه الشواهد في " الصحيحة "(رقم 256، 257، 258، 259، 260).
(3)
منها ما أخرجه البخاري رقم (5737) من حديث ابن عباس " أن نفرًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مروا بماء فيهم لديغ أو سليم فعرض لهم رجل من أهل الماء فقال: هل فيكم من راق فإن في الماء رجلاً لديغًا أو سليمًا، فانطلق رجل منهم فقرأ بفاتحة الكتاب على شاء فجاء بالشاء إلى أصحابه، فكرهوا ذلك وقالوا: أخذت على كتاب الله أجرًا حتى قدموا المدينة فقالوا يا رسول الله: أخذ على كتاب الله أجرًا! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أحق ما أخذتم عليه أجرًا كتاب الله ".
وأخرجه البخاري في " صحيحه " رقم (2276، 5007، 5736، 5749) ومسلم رقم (2201) وأحمد (3/ 10، 44) وأبو داود رقم (3900) والترمذي رقم (2064) وابن ماجه رقم (2156) من حديث أبي سعيد.
من الأجرة على الحكم أخذ الأجرة عليها هي مما لا يتم الواجب إلا به فهي من مقدمة الواجب، وحكمها حكمه كما تقرر في الأصول (1)، فيعود الإشكال على من سوغ أخذ الأجرة عليها، ويقال له مقدمة الواجب (2) كالواجب، لا فرق بينهما.
وبالجملة فنحن لا نقول إن القاضي يأخذ من أموال الله على نفس الحكم، ولا على مقدماته، بل نقول يأخذ من بيت المال ما يقوم بكفايته وكفاية من يمون، لأنه قد شغل بهذه الأعمال التي هي في مصالح المسلمين ومنافعهم عن التكسب لنفسه ولأهله، والسعي فيما يقوم بمعاشه، ويغنيه عن تكفف الناس كما كان من الصديق رضي الله عنه مما سمعته قريبًا، فاشدد يديك على هذا، واحرص عليه، ودع عنك ما يقوله المشتغلون بعلم الرأي من كون هذه أجرة على واجب، هذه أجرة على حرام، ونحو ذلك من العبارات، فإن الحلال بين، والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهة (3)، والمؤمنون وقافون عند الشبهات، [7أ] فما يأخذه أهل الأعمال كالقاضي من ثبوت الأموال قد ثبت
(1) يشير إلى القاعدة الأصولية وهي " ما لا يتم الواجب المطلق إلا به وكان مقدورًا للمكلف فهو واجب.
قال الزركشي في " البحر "(1/ 223 - 224) " ما لا يتم الواجب إلا به، هو إما أجزاء الواجب، أو شروطه الشرعية، أو ضروراته العقلية والحسية، لا تنفك عن هذه الثلاثة. فالأول، واجب بخطاب الاقتضاء. والثاني: بخطاب الوضع، والثالث: لا خطاب فيه فلا وجوب فيه لأن الوجوب من أحكام الشرع.
انظر: " الأشباه والنظائر " لابن الوكيل (1/ 400)، " الإحكام " للآمدي (1/ 157)، " الإبهاج في شرح المنهاج " للسبكي (1/ 103).
(2)
قال الزركشي في " البحر "(1/ 223): وأما ما يتوقف عليه إيقاع الواجب ودخوله في الوجود بعد تحقق الوجوب: فإن كان جزءًا فلا خلاف في وجوبه، لأن الأمر بالماهية المركبة أمر بكل واحد من أجزائها ضمنًا، وإنما الخلاف إذا كان خارجًا كالشرط والسبب، كما تقرر أن الطهارة شرط. ثم ورد الأمر بالصلاة فهل يدل الأمر بها على اشتراط الطهارة؟ هذا موضع النزاع؛ ولهذا عبر بعضهم عنه بالمقدمة، لأن المقدمة خارجة عن الشيء متقدمة عليه. بخلاف الجزء فإنه داخل فيه.
(3)
تقدم تخريجه.
بالشرع، وصح عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وعن الخلفاء الراشدين، ولم يسمع عن أحدهم أنه قال في أعمال القاضي أو الوالي ما هو واجب عليه، فلا يحل له أن يأخذ عليه أجرًا، بل قالوا إنه قد شغل عن أعماله الخاصة بنفسه وأهله في تحصيل رزقهم، والاحتراف لهم بالأعمال العامة لمصالح المسلمين، وكان رزقه ورزق أهله، ومن يعول من بيت مال المسلمين، فنحن نقول كما قالوا، ونعمل على ما عملوا عليه، ونفتي بما أفتوا به، ولا نجاوز ذلك إلى تلك التفاصيل التي جاء بها أهل الرأي، فقد أغنتنا الرواية عن الرأي، والدليل عن الدراية. وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل (1).
فإن قلت: فما تقول فيما يأخذه القاضي (2) ونحوه من الرزق الذي يعرضه له الإمام أو السلطان من بيت المال إذا كان بيت المال قد اختلط فيه المعروف بالإنكار، والحق بالباطل، والعدل بالجور؟.
قلت: إن كان يقنعك الجواب بما قاله أهل العلم المتكلمين على هذه المسألة ونحوها من المسائل فاعلم أن في كلامهم ما يغنيك عن هذا السؤال، لأن هذا المال غاية ما فيه أن بعضه مأخوذ على وجه العدل، وبعضه مأخوذ على وجه الجور، وما أخذ على وجه الجور إن كان متميزًا معلومًا وصاحبه معروفًا لا يلتبس بغيره كان على صاحب العمل القابض رزقه من ذلك أن يرده على صاحبه إن كان ما قبضه هو عين مظلمة ذلك الرجل [7ب]؛ فالحلال بين والحرام بين، وإن كان ما يدفعه السلطان إليه قد اختلط
(1) تقدم ذكر معنى المثل.
يضرب في الاستغناء عن الأشياء الصغيرة إذا وجد ما هو أكبر منها وأعظم نفعًا.
ونهر معقل: في البصرة وقد احتفره معقل بن يسار في زمن الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه فنسب إليه.
انظر: " مجمع الأمثال " للميداني (1/ 88)، " الأمثال اليمانية "(1/ 95 رقم 237).
(2)
تقدم توضيحه.
انظر: " فتح الباري "(13/ 150).
على وجه لا يتميز، بل كان بعضه من أموال الله مأخوذ على وجه العدل، وبعضه مظلمة ملتبسة، فمصارف المظالم الملتبسة على كلامهم معروف، وهذا القاضي ونحوه منهم، وإن كان لا يقنعك الجواب بما قاله أهل العلم، فاعلم أن ما يأخذه القاضي ونحوه هو عوض ما تركه من الاحتراف على نفسه، ومن يمول بالاحتراف على ما هو مصلحة عامة من مصالح المسلمين، فما دفعه إليه السلطان أخذه.
وقد صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما ثبت في الصحيح أنه قال: «ما جاءك من هذا المال - وأنت غير مستشرف، ولا سائل - فخذه، وما لا فلا تتبعه نفسك» (1). فيأخذ ما دفع إليه إن كان لا يعلم فيه بشيء يحرم عليه، فإن علم فيه
(1) أخرجه البخاري رقم (1473) وطرفاه (7163، 7164)، ومسلم رقم (1045) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
قال ابن حجر في " الفتح "(13/ 154) قال الطبري: في حديث عمر الدليل الواضح على أن من شغل بشيء من أعمال المسلمين أخذ الرزق على عمله ذلك، كالولاة والقضاة وجباة الفيء وعمال الصدقة وشبههم لإعطاء رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر العمالة على عمله.
وذكر ابن المنذر أن زيد بن ثابت كان يأخذ الأجر على القضاء.
قال ابن بطال في تعليل الأفضلية - ما جاء من المال عن غير سؤال أفضل من تركه - أن الأخذ أعون في العمل وألزم للنصيحة من التارك، لأنه إن لم يأخذ كان عند نفسه متطوعًا بالعمل، فقد لا يجد جد من أخذ ركونًا إلى أنه غير ملتزم بخلاف الذي يأخذ، فإنه يكون مستشعرًا بأن العمل واجب عليه فيجد جده فيها.
قال القرطبي في " المفهم "(3/ 90): قوله " وأنت غير مشرف ولا سائل " إشراف النفس: تطلعها وتشوفها وشرحها لأخذ المال. ولا شك أن هذه الأمور إذا كانت هي الباعثة على الأخذ للمال، كان ذلك من أدل دليل على شدة الرغبة في الدنيا والحب لها، وعدم الزهد فيها، والركون إليها والتوسع فيها، وكل ذلك أحوال مذمومة. فنهاه عن الأخذ على هذه الحالة اجتنابًا للمذموم، وقمعًا لدواعي النفس، ومخالفة لها في هواها. فإن من لم يكن كذلك جاز له الأخذ للأمن من تلك العلل المذمومة.
وقال القرطبي في " المفهم "(3/ 91) وهذا الحديث أصل في أن كل من عمل للمسلمين عملاً من أعمالهم العامة: كالولاية، والقضاء والحسبة والإمامة فأرزاقهم في بيت مال المسلمين، وأنهم يعطون ذلك بحسب عملهم.
بشيء يحرم عليه وجب عليه أن يرده لصاحبه إن كان معينًا معلومًا، فإن كان ملتبسًا فالمفروض أن هذا المتولي للقضاء ونحوه مجتهد متمكن من النظر لنفسه فيما يعرض له من الأمور الخاصة من النظر فيما يعرض له من الأمور العامة، فعليه أن ينظر في هذا المال المتصف بتلك الصفة نظرًا يلقي به الجواب بين يدي الله عز وجل ويعمل على ذلك فيصرفه فيما يوجبه ذلك النظر ويقتضيه وجه الشرع، ومر الحق، ويعمل لنفسه كما يعمله بين الخصوم، فيجعل الخصومة بينه وبين نفسه، والحاكم كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
وفي هذا المقدار كفاية لمن له هداية، وحسبي الله ونعم الوكيل [8أ].