الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(150)
5/ 5
رفع الأساطين في حكم الاتصال بالسلاطين
تأليف محمد بن علي الشوكاني
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب
وصف المخطوط:
1 -
عنوان الرسالة من المخطوط: رفع الأساطين في حكم الاتصال بالسلاطين.
2 -
موضوع الرسالة: " فقه ".
3 -
أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله الطاهرين وصحبه الأكرمين. أعلم أن كثيرًا من القاصرين.
4 -
آخر الرسالة: فلما سمع ذلك الملك خلى سبيله، ولم يكن له عليه سبيل، وفي هذا المقدار كفاية.
والحمد لله أولاً وآخرًا، وصلى الله على سيدنا محمد وآله.
5 -
نوع الخط: خط نسخي جيد.
6 -
عدد الصفحات: 17 صفحات.
7 -
عدد الأسطر في الصفحة: 29 سطرًا.
8 -
عدد الكلمات في السطر: 13 كلمة.
9 -
الرسالة من المجلد الخامس من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله الطاهرين، وصحبه الأكرمين.
[السعي في طلب الرزق]
أعلم أن كثيرًا من القاصرين يعتقد أن من طلب ما يقوم بما يغنيه ومن يعول، ودخل في الأسباب التي يتحصل منها ذلك، خارج عن طريقة الصالحين مخالف لهدي المرسلين، مباين لمسلم الزاهدين، وهذا وهم عظيم، وجهل كبير، فإنه قد طلب ذلك سيد الأنبياء- صلى الله عليه وآله وسلم، وسأل ربه الغنى كما في الصحيحين (1) وغيرهما (2) أنه كان يقول:" اللهم إني أسألك الهدى، والتقى، والعفاف والغنى ".
والأحاديث في هذا كثيرة جدًا. وامتن الله سبحانه عليه بالغنى فقال: {ووجدك عائلا فأغنى} (3).
(1) بل أخرجه مسلم رقم (72/ 2721) ولم يخرجه البخاري في صحيحه بل أخرجه في " الأدب المفرد " رقم (674).
(2)
كأحمد (1/ 411، 416، 437) وابن حبان في صحيحه رقم (900) والترمذي رقم (3489) وابن ماجه رقم (3832) من طرق. من حديث ابن مسعود.
وهو حديث صحيح.
قال النووي في شرحه لصحيح مسلم (17/ 41): أما العفاف فهو التنزه عما لا يباح والكف عنه، والغنى هنا غنى النفس والاستغناء عن الناس وعما في أيديهم.
(3)
[الضحى: 8].
قال ابن كثير في تفسيره (8/ 427): أي كنت فقيرًا ذا عيال، فأغناك الله عمن سواه، فجمع له بين مقامي، الفقير الصابر والغني الشاكر، صلوات الله وسلامه عليه.
وأخرج البخاري في صحيحه رقم (6446) ومسلم رقم (1051) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس ".
وأخرج مسلم في صحيحه رقم (1054) من حديث عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قد أفلح من أسلم ورزق كفافًا، وقنعه الله بما آتاه ".
وثبت في الصحيحين (1) وغيرهما (2) أنه دعا لخادمه أنس بالغنى، وثبت في الصحيحين (3) أنه قال:" اللهم إني أعوذ بك من الجوع، فإنه بئس الضجيع ". وقال: " حبب إلي الطيب والنساء، وجعلت قرة عيني في الصلاة " وهو حديث صحيح (4).
وثبت في الصحيح (5) أنه صلى الله عليه وآله وسلم -قال لعمر رضي الله عنه: " ما جاءك من هذا المال وأنت غير مسرف ولا سائل فخذه، وما لا فلا تتبعه نفسك ". وثبت في أحاديث صحيحة النهي عن المسألة (6) إلا للسلطان، ومن ذلك ما حكاه الله سبحانه عن
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (6378، 6379) ومسلم رقم (141/ 2480).
(2)
كأحمد (3/ 194) والترمذي رقم (3829).
من حديث أنس عن أم سليم أنها قالت: يا رسول الله خادمك أنس. ادع الله له، فقال:" اللهم أكثر ماله وولده، وبارك له فيما أعطيته ".
(3)
لم أجده في الصحيحين.
أخرجه أبو داود رقم (1547) والنسائي (8/ 263) وابن ماجه رقم (3354) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " اللهم إني أعوذ بك من الجوع، فإنه بئس الضجيع، وأعوذ بك من الخيانة فإنها بئست البطانة ".
وهو حديث حسن.
(4)
أخرجه النسائي في " السنن "(7/ 61 - 62 رقم 3949) بإسناد حسن من حديث أنس مرفوعًا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " حبب إلي النساء والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة ".
وأخرجه النسائي رقم (3950) من حديث أنس أيضًا.
وهو حديث صحيح.
(5)
أخرجه البخاري رقم (7164) ومسلم رقم (1045) من حديث عبد الله بن عمر.
(6)
منها ما أخرجه أبو داود رقم (1639) والنسائي رقم (5/ 100) والترمذي رقم (681) وابن حبان في صحيحه رقم (3388) من حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" إنما المسائل كدوح يكدح بها الرجل وجهه، فمن شاء أبقى على وجهه، ومن شاء ترك إلا أن يسأل ذا سلطان أو في أمر لا يجد منه بدًا ". وهو حديث صحيح.
موسى عليه السلام أنه قال: {رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير} (1)، وما حكاه الله سبحانه أن يوسف عليه السلام قال لعزيز مصر:{اجعلني على خزائن الأرض} (2)، وقال أيوب عليه السلام لما رأى جرادًا من ذهب تسقط عنده، فجعل يلتقطها، فقال الله عز وجل له:" ألم أغنك عن هذا؟ فقال: بلى، ولكن لا غنى لي عن بركتك " كما في الحديث الثابت في الصحيح (3)، وقال عيسى عليه السلام فيما حكاه الله عنه: {وارزقنا وأنت خير .......................................
(1)[القصص: 24].
قال ابن كثير في تفسيره (6/ 227): قال ابن عباس: سار موسى من مصر إلى مدين، ليس له طعام إلا البقل وورق الشجر، وكان حافيًا فما وصل مدين حتى سقطت نعل قدمه. وجلس في الظل وهو صفوة الله من خلقه، وإن بطنه لاصق بظهره من الجوع، وإن خضرة البقل لترى من داخل جوفه وإنه لمحتاج إلى شق تمرة.
(2)
[يوسف: 55].
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه رقم (3391) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
قال ابن حجر في " الفتح (6/ 421) في شرحه للحديث: اعلم لم يثبت عند البخاري في قصة أيوب شيء، فاكتفى بهذا الحديث الذي على شرطه.
وأصح ما ورد في قصته ما أخرجه ابن أبي حاتم - في تفسيره رقم 13697 - وابن جريج وصححه ابن حبان في صحيحه رقم (2899) - والحاكم في " المستدرك "(5/ 581 - 582).
من طريق نافع بن يزيد عن عقيل عن الزهري عن أنس: " أن أيوب عليه السلام ابتلي فلبث في بلائه ثلاث عشرة سنة، فرفضه القريب والبعيد إلا رجلين من إخوانه فكانا يغدوان إليه ويروحان، فقال أحدهما للآخر: لقد أذنب أيوب ذنبًا عظيمًا وإلا لكشف عنه هذا البلاء، فذكره الآخر لأيوب، يعني فحزن ودعا الله حينئذ فخرج لحاجته وأمسكت امرأته بيده، فلما فرغ أبطأت عليه، فأوحى الله إليه أن اركض برجلك، فضرب برجله الأرض فنبعت عين فاغتسل منها فرجع صحيحًا، فجاءت امرأته فلم تعرفه، فسألته عن أيوب فقال: إني أنا هو؛ وكان له اندران: أحدهما للقمح، والآخر للشعير، فبعث الله له سحابة فأفرغت في أندر القمح الذهب حتى فاض وفي أندر الشعير الفضة حتى فاض ".
وانظر: " فتح الباري "(6/ 421).
الرازقين} (1)
ومن ذلك سؤال حسنة الدنيا، كما في قوله عز وجل:{ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار أولئك لهم نصيب مما كسبوا والله سريع الحساب} (2)، وقوله عز وجل:{وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب} (3)، وقوله:{وارزقنا وأنت خير الرازقين} (4).
والحاصل أن طلب الرزق كان من غالب العباد والأنبياء والعلماء والزاهدين، بل لو قال قائل: إنهم كلهم طالبون رزق الله عز وجل، لم يكن بعيدًا، فإنهم سائلون من الله عز وجل نزول الأمطار، وصلاح الثمار، والبركة في الأرزاق، وهذا هو من طلب الرزق، وهو كائن من جميع بني آدم، والمتورع منهم يقيد سؤاله بأن يكون ذلك من وجه حلال [1ب].
والدعاء هو من جملة السعي في تحصيل الرزق، وكذلك جميع الأسباب المحصلة له، على اختلاف أنواعها، وتباين طرقها، ومن أنكر هذا فقد أنكر ما هو معلوم لكل فرد من أفراد بني آدم. انظر ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم، في أيام النبوة، فإن لكل واحد منهم متعلق بسبب من أسباب الرزق، كائنًا من كان، ومن عجز عن ذلك قبل ما يصل إليه كأهل الصفة (5)، فإن وقوفهم فيها من طلب الرزق. وهكذا، بعد أيام النبوة،
(1)[المائدة: 114].
(2)
[البقرة: 201 - 202].
(3)
[الصف: 13].
(4)
[المائدة: 114].
(5)
الصفة: هم فقراء المهاجرين، ومن لم يكن له منهم منزل يسكنه فكانوا يأوون إلى موضع مظلل في مسجد المدينة يسكنونه.
" النهاية "(3/ 37).
فإن الخلفاء الراشدين يجعلون لأنفسهم نصيبًا من بيت المال (1) يقوم بما يحتاجون إليه لأنفسهم، ولمن يعولون، على وجه العدل، وعلى طريقة الزهد، وهم أزهد العباد في الدنيا وفي الاشتغال بها. كذلك من كان منهم بعد انقضاء خلافة النبوة، التي يقول فيها الصادق المصدوق:" الخلافة بعدي ثلاثون عامًا، ثم تكون ملكًا عضوضًا "(2)، فإن هذه المدة انقضت بخلافة الحسن السبط رضي الله عنه، ثم كانت من بعده ملكًا عضوضًا، وفيها، أعني المدة التي بعد انقضاء مدة الخلافة القيام بحفظ بيضة الإسلام، وجهاد الكفار، وفتح ما لم يكن قد فتح من الأقطار، وكان الصحابة رضي الله عنهم، يقصدون من بيده أمر المسلمين، ويطلبون منه ما لهم فيه حق من بيوت الأموال التي بيده، وذلك هو من طلب الرزق، ويقبلون منه ما يعطيهم، من غير كشف عن حقيقة الحال، وهكذا من بعدهم من التابعين، وكان هذا حال خير القرون، ثم الذين يلونهم، كما ثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة (3).
[الحاكم له أعوان]
وكان من أهل هذين القرنين من يلي للقائمين بالأمر الأعمال من قضاء وإمارة على بعض البلاد، وإمارة على جيش، ولا ينكر هذا منكر، ولا يخالف فيه، وهذا هو نوع من أنواع طلب الرزق. وإن كان العمل قربة كالقاضي، وأمير جيش الجهاد، فإنه لا
(1) انظر الرسالة رقم (142).
(2)
أخرجه الترمذي رقم (2226) وأبو داود رقم (4646) و (4647) وأحمد (5/ 221) وابن حبان رقم (6657) والبيهقي في " الدلائل "(6/ 341) والطيالسي رقم (1107) والحاكم (3/ 145) من طرق. من حديث سفينة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الخلافة ثلاثون سنة وسائرهم ملوك، والخلفاء والملوك اثنا عشر ". وهو حديث صحيح.
قال ابن تيمية في " مجموع الفتاوى "(35/ 18): وهو حديث مشهور من رواية حماد بن سلمة وعبد الوارث بن سعيد. والعوام بن حوشب وغيره، عن سعيد بن جهمان، عن سفينة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
(3)
تقدم تخريجه مرارًا وهو حديث صحيح.
ينافي ما هو فيه من القربة، أخذ ما يحتاج إليه من بيت مال المسلمين، وما زال عمل المسلمين على هذا منذ قامت الملة الإسلامية إلى الآن، مع كل ملك من الملوك، فجماعة يلون لهم القضاء، وجماعة يلون لهم الإفتاء، وجماعة يلون لهم على البلاد التي إليهم، وجماعة يلون لهم إمارة الجيش، وجماعة يدرسون في المدارس [2أ] الموضوعة لذلك، وغالب جراياتهم من بيت المال (1).
فإن قلت: قد يكون من الملوك من هو ظالم جائر، قلت نعم، ولكن هذا المتصل بهم لم يتصل بهم ليعينهم على ظلمهم وجورهم، بل ليقضي بين الناس بحكم الله، أو يفتي بحكم الله، أو يقبض من الدعاوي ما أوجبه الله، أو يجاهد من يحق جهاده، ويعادي من تحق عداوته، فإن كان الأمر هكذا، فلو كان الملك قد بلغ من الظلم إلى أعلى درجاته، لم يكن على هؤلاء من ظلمه شيء، بل إذا كان لأحدهم مدخل في تخفيف الظلم، ولو أقل قليل، أو أحقر حقير، كان مع ما هو فيه من المنصب مأجورًا أبلغ أجر؛ لأنه قد صار - مع منصبه - في حكم من يطلب الحق، ويكره الباطل، ويسعى بما تبلغ إليه طاقته في دفعه، ولم يعنه على ظلمه، ولا سعى في تقرير ما هو عليه، أو تحسينه، أو إيراد الشبه في تجويزه، فإن أدخل نفسه في شيء من هذه الأمور، فهو في عداد الظلمة، وفريق الجورة، ومن جملة الخونة.
وليس كلامنا فيمن كان هكذا، إنما كلامنا فيمن قام بما وكل إليه من الأمر الديني، غير مشتغل بما هم فيه، إلا ما كان من أمر بمعروف، أو نهي عن منكر، أو تخفيف ظلم أو تخويف من عاقبته أو وعظ فاعله بما يندفع فيه بعض شره، وكيف يظن بحامل علم، أو بذي دين، أن يداخل الظلمة فيما هو ظلم، وقد تبرأ الله سبحانه إلى عباده من الظلم، فقال:{وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون} (2)، وقال: {وما ربك
(1) انظر الرسالة رقم (142).
(2)
[النحل: 118].
بظلام للعبيد} (1)، وقال:{ولا يظلم ربك أحدا} (2)، وقال:{إن الله لا يظلم الناس شيئا} (3)، وقال:{إن الله لا يظلم مثقال ذرة} (4)، وقال:{وما الله يريد ظلما للعباد} (5)، وقال:{وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين} (6)، وغير ذلك من الآيات القرآنية، وقال في الحديث القدسي:" يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا "(7).
(1)[فصلت: 46].
(2)
[الكهف: 49].
(3)
[يونس: 44].
(4)
[النساء: 40].
(5)
[غافر: 31].
(6)
[الزخرف: 76].
(7)
أخرجه مسلم في صحيحه رقم (2577) والبخاري في " الأدب المفرد " رقم (490) وأحمد (5/ 160) والترمذي رقم (2495) وابن ماجه رقم (4257) وابن حبان في صحيحه رقم (618) والحاكم (4/ 241) من حديث أبي ذر. وهو حديث صحيح.
قال ابن تيمية في شرحه لهذا الحديث (ص38): ينبغي أن يعرف أن هذا الحديث شريف القدر عظيم المنزلة، ولهذا كان الإمام أحمد يقول: هو أشرف حديث لأهل الشام. وكان أبو إدريس الخولاني إذا حدث به جثا على ركبتيه. ورواية أبي ذر ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء أصدق لهجة منه وهو من الأحاديث الإلهية التي رواها الرسول صلى الله عليه وسلم عن ربه، وأخبر أنها من كلام الله تعالى، وإن لم تكن قرآنًا.
ثم قال ابن تيمية (ص40 - 41): وأما هذه الجملة الثانية وهي قوله: " وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا " فإنها تجمع الدين كله، فإن ما نهى الله عنه راجع إلى الظلم، وكل ما أمر به راجع إلى العدل، ولهذا قال تعالى:{لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب} [الحديد: 25]. فأخبر أنه أرسل الرسل وأنزل الكتاب والميزان لأجل قيام الناس بالقسط وذكر أنه أنزل الحديد الذي به ينصر هذا الحق، فالكتاب يهدي والسيف ينصر، وكفى بربك هاديًا ونصيرًا، ولهذا كان قوام الناس بأهل الكتاب وأهل الحديد كما قال من قال من السلف: صنفان إذا صلحا صلح الناس الأمراء والعلماء. وانظر الرسالة رقم (180).
وقال رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم، كما في الصحيحين (1)، وغيرهما (2)، من حديث أبي موسى، قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم: " إن الله يملي للظالم، فإذا أخذه لم يفلته "، ثم قرأ:{وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد} (3).
وفي الصحيحين (4) وغيرهما (5)، من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم: " الظلم ظلمات يوم القيامة "، وأخرج نحوه مسلم (6) وغيره من حديث جابر، وفي الصحيح (7) من حديث أبي هريرة:" المسلم أخو المسلم لا يظلمه [2ب] ولا يسلمه "، وفي لفظ (8)" ولا يخذله ".
والأحاديث الواردة في تحريم الظلم، وذم فاعله، وما يستحقه من العقوبة، كثيرة جدًا، وقد أجمع المسلمون على تحريمه، ولم يخالف في ذلك مخالف. وأجمع العقلاء على أنه من أعظم ما تستقبحه العقول، ثم قد بين رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم -لنا في مداخلة الظلمة، ما هو القول الفصل، والحكم العدل، فقال في حديث صحيح أخرجه الترمذي في موضعين من سننه (9)، وأوضح ذلك أتم إيضاح، وبينه أكمل بيان: " غشي
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (4686) ومسلم رقم (2583).
(2)
كالترمذي في " السنن " رقم (3110).
(3)
[هود: 102].
(4)
أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2447) ومسلم رقم (2579).
(5)
كالترمذي رقم (2030).
(6)
في صحيحه رقم (2578). وهو حديث صحيح.
(7)
أخرجه مسلم رقم (2564).
(8)
عند مسلم في صحيحه رقم (32/ 2564).
(9)
أخرجه الترمذي في " السنن " رقم (614) وقال: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه، لا نعرفه إلا من حديث عبيد الله بن موسى.
وأخرجه أحمد (3/ 321) وابن حبان رقم (1723) والحاكم (422). وهو حديث صحيح.
وأخرجه الترمذي في " السنن " رقم (2259) وقال: هذا حديث صحيح غريب لا نعرفه من حديث مسعر إلا من هذا الوجه. وهو حديث صحيح.
كلاهما عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لكعب بن عجرة: " أعاذك الله من إمارة السفهاء " قال: وما إمارة السفهاء؟ قال: " أمراء يكونون بعدي لا يهتدون بهدي، ولا يستنون بسنتي، فمن صدقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم، فأولئك ليسوا مني ولست منهم ولا يردون على حوضي، ومن لم يصدقهم بكذبهم، ولم يعنهم على ظلمهم، فأولئك مني وأنا منهم، وسيردون على حوضي، يا كعب بن عجرة، الصيام جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة، والصلاة قربان، أو قال برهان، يا كعب بن عجرة، الناس غاديان، فمبتاع نفسه فمعتقها، وبائع نفسه فموبقها ".
ولفظ المصنف للترمذي رقم (2259).
إيوانهم فصدقهم في كذبهم، وأعانهم على ظلمهم، فليس مني، ولا أنا منه، ولا هو وارد علي الحوض يوم القيامة، ومن غشيها أو لم يغشها فلم يصدقهم في كذبهم، ولم يعنهم على ظلمهم، فهو مني، وأنا منه، وهو وارد علي الحوض يوم القيامة ".
وقد ثبت في الصحيح (1) في ذكر أئمة الجور، ومداخلتهم، فقال- صلى الله عليه وآله وسلم:" ولكن من رضي وتابع ". فتقرر لك بهذا أن المداخل لهم إذا لم يصدقهم في كذبهم، ولا أعانهم على ظلمهم، ولا رضي، ولا تابع فهو من رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم، ورسول الله منه، فكانت هذه مرتبة عالية، وفضيلة جليلة، فكيف إذا جمع بين عدم وقوع ذلك منه، والسعي في التخفيف، أو في الموعظة الحسنة.
ولا يخفى على ذي عقل، أنه لو امتنع أهل العلم والفضل والدين عن مداخلة
(1) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (62/ 1854) من حديث أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ستكون أمراء، فتعرفون وتنكرون، فمن عرف برئ ومن أنكر سلم، ولكن من رضي وتابع " قالوا: أفلا نقاتلهم؟ قال: " لا. ما صلوا ".
الملوك، لتعطلت الشريعة المطهرة، لعدم وجود من يقوم بها، وتبدلت تلك المملكة الإسلامية بالمملكة الجاهلية في الأحكام الشرعية من ديانة ومعاملة، وعم الجهل وطم، وخولفت أحكام الكتاب والسنة جهارًا لا سيما من الملك وخاصته وأتباعه، وحصل لهم الغرض الموافق لهم، وخبطوا في دين الإسلام كيف شاءوا، وخالفوه مخالفة ظاهرة، واستبيحت الأموال واستحلت الفروج، وعطلت المساجد والمدارس، وانتهكت الحرم، وذهبت شعائر الإسلام، ولا سيما الملوك الذين لا يفعلون ذلك إلا مخافة على ملكهم أن يسلب، وعلى دولتهم أن تذهب، وعلى أموالهم أن تنهب، وعلى حرمتهم أن تنتهك [3أ]، وعلى عزهم أن يذل، ووجدوا أعظم السبل إلى التخلص عن أكثر أحكام الإسلام قائلين: جهلنا، لم نجد من يعلمنا، لم نلق من يبصرنا، فر عنا العارفون بالدين، وهرب منا العلماء العاملون، وفي الحقيقة أنهم يعدون ذلك فرصة انتهزوها، وشدة أطلقت عن أعناقهم، وعزيمة إسلامية ذهبت عنهم، ومع هذا فلم يختصوا بهذه الوسيلة التي فرحوا بها، والذريعة التي انقطعت عنهم، بل الشيطان الرجيم أشد فرحًا بذلك، وأعظم سرورًا منهم، فإنه قد خلى بينه وبين السواد الأعظم، يتلاعب بهم كيف شاء، ويستعبدهم كيف أراد. وهذه فرصة ما ظفر من أهل الإسلام بمثلها، ولا كان في حسابه أن يسعفه دهره بأقل منها.
وسبب هذا البلاء العظيم، والخطب الوخيم، والوزر للإسلام وأهله - الذي لا يقادر قدره، ولا يتهيأ به الدهر مثله - صنفان من الناس:
الصنف الأول: جماعة زهدوا بغير علم، وعبدوا بغير فهم، وتورعوا بغير إدارك للمصالح الشرعية والشعائر الدينية، وما يفضي إلى تعطل الأحكام، وذهاب غالب دين الإسلام، فتصدوا للمواعظ والإرشاد للعباد، وبالغوا في ذلك ومقصدهم حسن، وصورة فعلهم جميلة، ولكنهم لم يكن لهم من العلم ما يوردون به الأشياء مواردها، ويصدرونها مصادرها، جعلوا - لقصورهم - أهل المناصب الدينية - التي لا يتم أمرها، ولا ينفذ حكمها إلا سلطان الأرض وملك البلاد - من جملة أنواع الظلم، وجعلوا
صاحبها من جملة أعوان الظلمة، وسمع ذلك منهم عامة رعاع يغشون مجالس مثلهم من القصاص، مع خلو هؤلاء السامعين عن الورع، وتعطلهم عن علم الشرع، فأخذوا تلك المواعظ على ظاهرها، وقبلوها حق قبولها، لخلو أذهانهم عن وازع الشرع والعقل والورع، فصار بين هذين النوعين من الجهل ما يملأ الخافقين.
ولأمر ما كان كثير من السلف يمنعون الذين يقصون على الناس، ويتصدرون لوعظهم، وتذكرهم بما هم عليه من جهل بالشريعة، وبما يرتكبونه من إيراد الأحاديث المكذوبة، والقصص الباطلة، وإن عليهم أن يقصروا عن ذلك، ويكلوا ذلك إلى علماء الكتاب والسنة، الذين يدعون الناس إلى حق هو معلوم لديهم، وشرع هو صحيح عندهم.
والصنف الثاني: جماعة لهم شغلة بالعلم، وأهلية له [3ب]، وأرادوا أن يكون لهم من المناصب الدينية، التي قد صارت بيد غيرهم ما ينتفعون به في دنياهم، فأعوزهم ذلك، وعجزوا عنه، فأظهروا الرغبة عنه، وأنهم تركوه اختيارًا ورغبة، وتنزهًا عنه، وضربت ألسنهم بسبب أهل المناصب الدينية، وثلب أعراضهم، والتنقص بهم، وأظهروا أنهم إنما تركوا ذلك لأن فيه مداخلة للملوك، وأخذ بعض من بيوت الأموال، وأن أهل المناصب قد صاروا أعوانًا للظلمة، ومن الآكلين للسحت ولا حامل لهم على ذلك إلا مجرد الحسد والبغي، والتحسر على أن يكونوا مثلهم، فوضعوا أنفسهم موضع أهل التعفف عن ذلك، والتورع عنه بنيات فاسدة، ومقاصد كاسدة، مع ما في ذلك من الدخول في خصلة من خصال النفاق، والوقوع في معرة بلية الرياء، والولع بالغيبة المحرمة، بغير سبب وبغير حق، وأدخلوا أنفسهم في هذه المصائب والمثالب والمعاصي والمخازي والجرائم والمآثم على علم منهم بتحريمها، وكما قال القائل:
يدعو وكل دعائه
…
ما للفريسة لا تقع
عجل بها يا ذا العلا
…
إن الفؤاد قد انصدع
وقد عرفنا من هذا الجنس جماعات، وانتهت أحوالهم إلى بليات، وعرفنا منهم من
ظفر بعد استكثاره من هذه البليات، بمنصب من المناصب، فكان أشر أهل ذلك المنصب، وبلغ في التكالب على الحطام، والتهافت على الجرائم، إلى أبلغ غاية.
ومنهم من جالس - بعد مزيد من التعفف، وكثرة التقاعس - ملكًا، أو قريب ملك أو صاحب ملك، فصار يطربهم بما لا يستحل بعضه فضلاً عن كله - من له أدنى وازع من دين، بلا أدنى زاجر من عقل، بل عرفنا منهم من صار نمامًا، وضعه من يتصل به لنقل أخبار الناس إليه ففعل، ولكن لم يقتصر على نقل ما سمع، بل جاوز ذلك إلى التزيد عليه بالزور والبهت، حتى يجعل ذلك الذي وضعه للنقل عدوًا عظيمًا لمن لا ذنب له، ولا قال بعض ما كذب عليه، فضلاً عن كله.
وبالجملة، ما جربنا واحدًا من هذا الصنف، إلا وكشفت الأيام عن باطن مخالف ما كان يظهره، وقول وفعل ينافي مما كان يشتغل به أيام تعطله [4أ]، فليأخذ المتحري لدينه حذره منهم، ولا يركن عليهم في شيء من الأعمال الدينية، كائنًا ما كان.
فإن قلت: إذا أظهر ظهورًا بينًا، أن بعض المداخلين يعينه على ظلمه بيده أو لسانه، أو يسوغ له ذلك، أو يظهر من الثناء عليه ما لا يجوز إطلاقه على مثله.
قلت: من كان هكذا، فهو من جنس الظلمة، وليس من الجنس الذي قدمنا ذكره من المداخلين لهم. والظلم، كما يكون باليد، يكون باللسان وبالقلم، وقد يكون ذلك أشد. وكلامنا فيمن يتصل بهم، غير معين لهم ما لا يحل، ولا مشارك لهم بيد ولا لسان بل يكون رجلاً مقصده بالاتصال بهم.
[مقاصد الاتصال بالسلاطين]
الاستعانة بقوتهم على إنفاذ حكم الله عز وجل.
وعلى الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، بحسب الحال، وبما تبلغ إليه الطاقة.
مثلاً إذا كان العالم ينكر ما يراه من المنكرات على الرعايا، ولا يقدر على ذلك، إلا إذا كان له يد من السلطان، يستعين بها على ذلك، فهذا خير كبير، وأجر عظيم.
وكذلك إذا كان لا يقدر على فصل الخصومات، وإرشاد الناس إلى الطاعات، إلا باليد من السلطان فذلك مسوغ صحيح أيضًا.
وهكذا، إذا كان لا يقدر على تخفيف بعض ما يفعله وزراء السلطان وأمراؤه وأهل خاصته من الظلم، إلا باتصاله بالسلطان، فهو أيضًا مسوغ صحيح.
وهكذا إذا كان السلطان يصغي إلى الموعظة منهم، في بعض الأحوال، ويخرج عن فعل المنكر، أو يخفف ذلك شيئًا ما، فهو مسوغ صحيح.
واعلم أن أحوال السلاطين، كما قال بعض السلف، لهم طاعات كبيرة، ومعاص كبيرة، وصدق هذا القائل فإن من طاعاتهم [من واجبات الحاكم](1)
- تأمين السبل.
- تأمين الضعفاء من الأقوياء والحيلولة بينهم، وبين ما يريدونه من ظلمهم.
- جهاد أهل الكفر والبغي، والمتجارين على نهب الضعفاء، وهتك حرمهم، وتخويفهم ومغالبتهم على ما تحت أيديهم من أملاكهم.
- إقامة الحدود الشرعية، والقصاص.
- إقامة شعائر الإسلام، والقيام من رعاياهم بواجباته.
- نصب القضاة لفصل الخصومات بالطرق الشرعية، وأهل الحسبة بالقيام بوظيفة الحسبة من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
- جمع الجيوش وتأمير الأمراء، لقهر أعداء الدين، والقيام بما يحتاجون من بيوت الأموال.
(1) انظر " درر السلوك في سياسة الملوك " للماوردي. (ص95 - وما بعدها).
" المنهج المسلوك في سياسة الملوك " عبد الرحمن الشيزري (595 - 708).
" الأحكام السلطانية والولاية الدينية " الماوردي (43 - 77).
- إحياء مدارس العلم، بنصب المدرسين والمفتين.
- إمساك أهل الجسارة عما يريدونه من الفساد في الأرض، بهيبة السلطان ومخافة الإيقاع بهم، فإن كثيرًا بل الأكثر لولا مخافة السلطان لكان له من الأفاعيل ما لم يكن في حساب، ولهذا ترى من لا سلطان عليه، في جميع البلاد، يفعل ما ترتجف منه القلوب، وتذرى منه الدموع، ورحم الله الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز فإنه قال:" إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن "(1).
وصدق فما قاله هو الحق، الذي يعلمه كل عاقل، فإن غالب الناس، لولا مخافة عقوبة السلطان له لترك الواجبات، إلا النادر، وفعل من المنكرات ما لا يأتي عليها الحصر.
وأما أهل المخافة من الله عز وجل، الذين يفعلون الواجب؛ لكونه أوجبه الله عليهم، ويتركون المنكرات؛ لكون الله عز وجل نهاهم عنها، فهم أقل قليل. ومن أنكر شيئًا من هذا، فليبحث عن حقائق الأمور، وينظر في مصادرها ومواردها، وأحوال الفاعلين لها، حتى يتضح له أن الأمر كما قاله عمر بن عبد العزيز رحمه الله.
وأما كون للسلاطين معاص كبيرة، فإنه قد تأخذه الغضبية فيسفك الدماء ويستحل الأموال المحرمة، وقد يهلك أهل القرية بسبب شذوذ فرد منهم عن طاعته، وقد تشده نفسه إلى ما في يد الرعايا فيأخذ منها لإعلاء قانون الشريعة المطهرة، وينصب لذلك شباك الحيل، وذرائع الظلم. وقد يطاوع نفسه الشهوانية، فيفعل ما تشتهيه، ويرتكب في محرمات الله عز وجل، ويفعل ما يريده، لعدم نفوذ قول قائل عليه، إذ لا سلطان عليه، إلا من عصم الله وقليل ما هم.
حكي عن بعض سلاطين الإسلام، أنه كان يجتمع مع من يجالسه على كثير من اللهو والفسوق، وكان في المدينة، التي هو فيها، رجل صالح ينكر ما يبلغه من المنكرات، وإذا رأى إناء فيه خمر كسره، فمر يومًا من تحت دار السلطان، فقال السلطان لبعض
(1) انظر التعليقة السابقة.
جلسائه: هذا فلان إذا رأى إناء من الخمر، بيد أحد من الناس كسره، وإذا رأى منكرًا غيره، فأمر من يدخله إلى مجلسه، ثم قال له: أنت تنكر على الضعفاء من الناس ما تراه من المنكرات، وتكسر ما تجده عندهم من أواني الخمر، وهذه عندنا من الأواني ما تراه، فهل تستطيع أن تغير ذلك علينا؟ فقال له: أنا ضعيف أنكر على مثلي من الضعفاء لقدرتي على ذلك، وأما أنت يا سلطان فكما قال الله عز وجل:{ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا فيذرها قاعا صفصفا لا ترى فيها عوجا ولا أمتا} (1) فبكى السلطان [5أ] وقال: وأنا أيضًا، فأنكر علي، وقم وارم بهذه الأواني من هذه الطاقات. فقام، ورمى بها، وتاب السلطان، فلم يعد إلى شيء مما كان عليه.
فإذا عرفت أن للسلاطين تلك المحاسن، وتلك المساوئ، ونظرت إلى ذلك بعين الصواب، علمت أن فيه من خصال الخير ما نفعه لك ولغيرك، أكثر من الضر، وقد عرفت ما يقوله أهل الفقه وغيرهم أن محبته لخصال خير فيه مما لا بأس به، فإذا كانت هذه المحبة جائزة، فكيف لا يجوز ما هو دونها من الاتصال بها لأحد الأسباب المتقدم ذكرها؟ مع كون المتصل به على الرجاء بأن يقبل منه موعظة، أو يترك بعض ما يفارقه حياء منه، فإن منزلة العلم والفضل لها من المهابة في صدر كل أحد، والتعظيم لها، والحشمة منها ما لا يخفى إلا على بهيمي الطبع، ولا ينكر ذلك إلا مسلوب الفهم.
وعلى كل حال فمواصلته لتلك الأسباب لا يتردد أحد في جوازها، بل قد تكون في بعضها حسنًا، بل قد تكون واجبًا إذا لم يتم الواجب إلا به، أو لم يندفع المحرم إلا به، وهذا لا يخفى على أدنى الناس علمًا وفهمًا. والممنوع هو مواصلته لا لمصلحة دينية تعود على فرد من أفراد المسلمين، أو أفراد، إذا ترتب على ذلك مفسدة، فكيف وقد ثبت في الكتاب العزيز الأمر بطاعة أولي الأمر، وجعل الله أولي الأمر وطاعتهم بعد طاعة الله
(1)[طه: 105 - 107].
سبحانه، وطاعة رسوله- صلى الله عليه وآله وسلم (1). وتواتر في السنة المطهرة في الأمهات وغيرها، أنها تجب الطاعة لهم (2)، والصبر على جورهم.
وفي بعض الأحاديث الصحيحة المشتملة على الأمر بالطاعة لهم أنه قال- صلى الله عليه وآله وسلم: " وإن ضرب ظهرك، وأخذ مالك "(3).
وصح عنه- صلى الله عليه وآله وسلم -أنه قال: " أعطوهم الذي لهم، واسألوا الله الذي لكم "(4)، وصح في السنة المطهرة أنها:" تجب الطاعة لهم ما أقاموا الصلاة "(5).
(1) يشير على قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} [النساء: 59].
(2)
منها ما أخرجه البخاري في صحيحه (7142) من حديث أنس مرفوعًا: " اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة ما أقام فيكم كتاب الله ".
ومنها: ما أخرجه البخاري رقم (7144) ومسلم رقم (38/ 1839) من حديث ابن عمر قال: قال صلى الله عليه وسلم: " على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب أو كره إلا أن يؤمر بمعصية فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة ".
(3)
أخرجه مسلم رقم (52/ 1847) من حديث حذيفة بن اليمان: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهديي ولا يستنون بسنتي، وسيقوم فيكم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنسان " قال قلت: كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك؟ قال: " تسمع وتطيع وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع ".
(4)
أخرجه البخاري في صحيحه رقم (3603) ومسلم رقم (45/ 1843).
من حديث عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنها ستكون بعدي أثرة وأمور تنكرونها " قالوا: يا رسول الله كيف تأمر من أدرك منا ذلك؟ قال: " تؤدون الحق الذي عليكم وتسألون الله الذي لكم ".
(5)
أخرج مسلم في صحيحه رقم (66/ 1855): من حديث عوف بن مالك الأشجعي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم، ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنوهم ويلعنونكم " قالوا لنا: يا رسول الله أفلا ننابذهم عند ذلك قال: " لا. ما أقاموا فيكم الصلاة. لا. ما أقاموا فيكم الصلاة. لا من ولي عليه وال فرآه يأتي شيئًا من معصية الله، فليكره ما يأتي معصية الله. ولا تنزعن يدًا من طاعة ".
وفي بعضها: " ما لم يظهر منهم الكفر البواح "(1) فإذا أمروا أحدًا من الناس أن يتصل بهم لم يجل له أن يمتنع، على فرض أنه لم يكن في اتصاله شيء من تلك الأسباب المتقدمة، وعليه أن لا يدع ما يجب عليه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو الممكن من ذلك، وإلا فهو معذور ولا إثم عليه، إلا إذا حصل منه الرضاء والمتابعة، كما تقدم في الحديث (2) الصحيح.
وأخرج ابن ماجه (3) والحاكم (4) وصححه، والبزار (5) واللفظ له من حديث ابن عمر عن النبي- صلى الله عليه وآله وسلم -قال:" السلطان ظل الله في الأرض، يأوي إليه كل مظلوم من عباده، فإن عدل كان له الأجر [5ب] وعلى الرعية الشكر وإن جار أو حاف أو ظلم كان عليه الوزر، وعلى الرعية الصبر ".
وصح عن رسول الله حديث: " الدين النصيحة "، قيل: لمن يا رسول الله؟ قال: " لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم "(6).
فإن قلت: ما حكم ما بأيديهم في بيوت الأموال، مع وقوع ما فيه ظلم على الرعية،
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (7055، 7056) ومسلم رقم (42/ 1709) من حديث عبادة بن الصامت قال: " بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا وأن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم فيه من الله برهان
…
".
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
في " السنن "(4019).
(4)
في " المستدرك "(4/ 540).
(5)
في مسنده رقم (1590 - كشف) وهو حديث ضعيف.
(6)
أخرجه مسلم في صحيحه رقم (95/ 55) وأبو داود رقم (4944) والترمذي رقم (1926) وقال: حديث حسن صحيح. والنسائي (7/ 156) من حديث تميم الداري وهو حديث صحيح.
ولو في بعض الأحوال، هل يجوز قبول ما يجعلونه منه لأهل المناصب؟.
قلت: نعم، للحديث السابق أنه- صلى الله عليه وآله وسلم -قال لعمر:" ما أتاك من هذا المال، وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه، وما لا فلا تتبعه نفسك "(1). وثبت أنه- صلى الله عليه وآله وسلم -فرض الجزية على أهل الكاتب، وكانت من أطيب المال داخله، مع أن في أموالهم ما هو أثمان من الخمر والخنزير، ومن الربا فإنهم يتعاملون به، وصح عنه- صلى الله عليه وآله وسلم -أنه استقرض من يهودي طعامًا، ورهن درعه. فيأخذ من له جراية من بيت مال المسلمين ما يصل إليه منه من غير كشف عن حقيقته، إلا أن يعلم أن ذلك هو الحرام بعينه، على أن هذا الحرام الذي أخذه السلطان من الرعية على غير وجهه، قد صار إرجاعه إلى مالكه مأيوسًا، وصرفه في أهل العلم والفضل واقع في موقعه، ومطابق لمحلة، لأنهم مصرف للمظالم، بل أحسن مصارفها.
ثم هذا المزري على من يتصل بسلاطين الإسلام، من أهل العلم والفضل، قد لزمه لزومًا بينًا، أن يتناول هذا الطعن كل من اتصل بسلاطين الإسلام، منذ انقراض خلافة النبوة إلى الآن، فإنه لا بد في كل زمان من طعن طاعن، ولا بد أيضًا من صدور ما ينكر من أهل الولايات، وإن كثر منهم ما يعرف، ولهذا يقول الصادق المصدوق:" الخلافة بعدي ثلاثون عامًا ثم تكون ملكا عضوضًا "(2) كما تقدم. ولا بد للملك العضوض من أن يصدر عنه ما ينكر، ولو نادرًا، ولهذا لم تتفق الكلمة من جميع الناس، على براءة ملك من ملوك الأرض، من تلبسه بنوع من أنواع الجور، واتصافه بالعدل المطلق، الذي لم تشبه شائبة، ولا قدحت فيه قادحة: إلا عمر بن عبد العزيز رحمه الله.
(1) تقدم آنفًا.
(2)
تقدم تخريجه.
وانظر " فتح الباري "(8/ 77).
ولا يمكن حصر عدد من يتصل - من أهل العلم والفضل -، بسلاطين قرن من القرون، بل بسلاطين بعض القرن في جميع الأرض، ونحن نعلم علمًا يقينًا، أنه لا بد لكل ملك وإن كانت ولايته خاصة بمدينة من مدائن الإسلام، فضلاً عن قطر من الأقطار فضلاً عن كثير من الأقطار، أن يكون معه جماعة ممن يلي المناصب الدينية، وإلا لم يستقم له أمر، ولا تمت له ولاية، ولا حصلت له طاعة، ولا انعقدت له بيعة يعلم هذا كل عاقل من المسلمين [6أ] فضلاً عن أهل العلم منهم.
وإذا كان الأمر هكذا، فكم لهذا الطاعن المشئوم من خصوم، قد لا يعد لأحقرهم قدرًا، وأقلهم علمًا وفضلاً وهو لا يخرج عن قسمين:
إما أن يكون من قسم المغتابين، أو قسم الباهتين، ولهذا يقول الصادق المصدوق- صلى الله عليه وآله وسلم:" إن كان فيه ما تقوله فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقوله فقد بهته "(1)، فهو واقع في المأثم العظيم، والذنب الوخيم، على كل تقدير وفي كل حالة.
ثم هذا المزري على من يتصل بسلاطين الإسلام، من أهل العلم والفضل القائمين بالمناصب الدينية، قد وقع في إساءة الظن بجميع من اتصل بهم على الصفة التي بيناها، من دخول جميع هذا الجنس تحت سوء ظنه، وباطل اعتقاده، وزائف خواطره، وفاسد تخيلاته، وكاسد تصوراته، وفي هذا ما لا يخفى من مخالفة هذه الشريعة المحمدية، والطريقة الإيمانية. ومع هذا فالمتصل بهم من أهل المناصب الدينية، قد يغضي في بعض الأحوال عن شيء من المنكرات، لا لرضًا به، بل لكونه قد اندفع بسعيه ما هو أعظم
(1) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (2589) وأبو داود رقم (4874) والترمذي رقم (1934) وقال: حسن صحيح. وأحمد (2/ 230، 384) والدارمي (2/ 299) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
* بهته: أي كذبت وافتريت عليه.
" النهاية "(1/ 165).
منه، ولا يتم له ذلك إلا بعدم التشدد فيما هو دونه، وهو يعلم أنه لو تشدد في ذلك الدون، لوقع هو وذلك الذي هو أشد منه وأشنع وأفظع، كما يحكى عن بعض أهل المناصب الدينية أن سلطان وقته أراد ضرب عنق رجل لم يكن قد استحق ذلك شرعًا، فما زال ذلك العالم يدافعه ويصاوله ويحاوره، حتى كان آخر الأمر الذي انعقد بينهما، على أن ذلك الرجل يضرب بالعصا على شريطة اشترطها السلطان، وهو أن يكون الذي يضربه ذلك العالم، فأخرج الرجل إلى مجمع الناس الذين يحضرون في مثل ذلك للفرجة، فضربه ضربات فتفرق ذلك الجمع، وهم يشتمون أقبح شتم، وهم غير ملومين؛ لأن هذا في الظاهر منكر، فكيف يتولاه من هو المرجو لإنكار مثل ذلك؟ ولو انكشفت لهم الحقيقة، واطلعوا على أنه بذلك أنقذه من القتل، وتفاداه بضرب العصا، عن ضرب السيف، لرفعوا أيديهم بالدعاء له، والترضي عنه.
ويظن الجهول قد فسد الأمر
…
وذاك الفساد عين الصلاح
ومن هذا القبيل، ما حكاه صاحب الشقائق أن سلطان الروم أمر بقتل جماعة كثيرة من أهل الأسواق؛ لكونهم لم يمتثلوا ما أمر به [6ب] من تسعير بعض البضائع، فخرج السلطان، وقد صفوا للقتل، فقام بعض العلماء، وقرب من السلطان وهو راكب، فقال: هؤلاء لا يسوغ قتلهم في الشريعة، فذكر له السلطان أنهم خالفوا أمره، وأنه لا عذر من قتلهم، فقال العالم: هم يذكرون أنه لم يبلغهم ما عزم عليه السلطان، فوقف السلطان مركوبه، وقد ظهر عليه من الغضب، ما ظهر أثره ظهورًا بينًا، وقال: ليس هذا من عهدتك، فقال: لا: هو من عهدتي، لأن فيه حفظ دينك، وهو من عهدتي، فأطلقهم السلطان وسلموا.
فانظر؛ هذا العالم وبصره في إنكار المنكر، فإنه لو قال له ابتداء، إن مخالفة أمرك لا توجب عليهم القتل، لكان ذلك القول مما يوبقهم، لا مما يطلقهم، ولو سكت عند قول السلطان ليس هذا من عهدتك، لقتلوا، لكنه جاء بوسيلة مقبولة، تؤثر في النفس أعظم تأثير.
ولا شك أن مساعدته في مخالفة أمر السلطان، وعدوله إلى أنه لم يبلغهم الأمر، إذا سمعها من لا يعرف الحقائق، أنكر عليه وقال وكيف يكون أمر السلطان في تسعير بضاعة أو نحو ذلك موجبًا لقتل من لم يمتثل، وعد ذلك من المداهنة، وعدم التصميم على الحق، ولو عقل ما عقله ذلك العالم الصالح، لعلم أنه قد جارى السلطان مجاراة كانت سببًا لسلامة جماعة كثيرة من المسلمين، ولو لم يفعل ذلك لقتلوا جميعًا.
إذا عرفت هذا، وتبين لك أن الأفعال المخالفة للشريعة، في بعض الحالات، وكذلك الأحوال التي تكون ظاهرة المخالفة قد تكون على خلاف ما يقتضيه الظاهر، ومتبين أنها من أعظم الطاعات، وأحسن الحسنات، فكيف ما كان منها محتملاً؟ هل ينبغي لمسلم أن يسارع بالإنكار، ويقتحم عقبة المحرم من الغيبة أو البهت وهو على غير ثقة من كون ما أنكره منكرًا، وكون ما أمر به معروفًا؟ وهل هذا إلا الجهل الصراح، أو التجاهل البواح؟.
دع هذا، وانتقل عنه إلى شيء لا يحمل عليه الجهل، بل مجرد الحسد أو المنافسة، كما هو الغالب، على ما تقدم بيانه، فإن أهل المناصب الدينية من القضاة ونحوه، إذا اشتغل صاحبه بما وكل إليه، وتجنب ما فيه عمل الملوك وأعوانهم، من تدبير المملكة، وما يصلحها وما تحتاج إليه، ويقوم بجندها، وأهل الأعمال فيها، إلا إذا اقتضى [7أ] الحال الكلام معهم فيما يوجبه الشرع، من أمر بمعروف أو نهي عن منكر، والقيام في ذلك بما تبلغ إليه الطاقة، ويقتضيه طبع الوقت، فهل مثل هذا حقيق من عباد الله الصالحين، بالدعوات المتكررة بالتثبيت والتسديد، واستمداد الإعانة من رب العالمين، أم هو حقيق بالثلب والاغتياب، خبطًا وجزافًا وحسدًا ومنافسة، وهل هذا شأن الصالحين من المؤمنين أم شأن إخوان الشياطين؟ كما قال الشاعر:
إن سمعوا الخير يخفوه وإن سمعوا
…
شرًا أذاعوا وإن لم يسمعوا أفكوا
وكما قال:
إن يسمعوا سبة طاروا بها فرحًا
…
عني وما سمعوا من صالح دفنوا
فكيف إذا كانوا لا يسمعون إلا خيرًا، ولا يعدد المعددون إلا مناقبًا، فما أحق من كان ذا عقل ودين، أن لا يرفع إلى مخرقتهم رأسًا، ولا يفتح لخزعبلاتهم أذنًا، كما قلت من أبيات (1)
[فما](2)
الشم الشوامخ عند ريح
…
تمر على جوانبها تمود
ولا البحر الخضم يعاب يومًا
…
إذا بالت بجانبه القرود
اجتمعت، في أيام الطلب، بجماعة من أهل العلم، فسمعت من بعض أهل العلم الحاضرين، ثلبًا شديدًا لوزير من الوزراء، فقلت للمتكلم: أنشدك الله يا فلان، أن تجيبني عما أسألك عنه وتصدقني، قال: نعم، قلت له: هذا الثلب الذي جرى منك، هل هو لوازع ديني تجده من نفسك، لكون هذا الذي تثلبته ارتكب منكرًا، أو اجترى على مظلمة أو مظالم؟ أم لكونه في دنيا حسنة وعيشة رافهة؟ ففكر قليلاً، ثم قال: ليس ذلك إلا لكون الفاعل ابن الفاعل، يلبس الناعم من الثياب، ويركب الفاره من الدواب ثم عدد من ذلك أشياء، فضحك الحاضرون، وقلت له: أنت إذن ظالم له، تخاطب بهذه المظلمة بين يدي الله، وتحشر مع الظلمة في الأعراض، وذلك أشد من الظلم في الأموال، عند كل ذي نفس حرة ومريرة مرة، وبهذا يقول قائلهم:
يهون علينا أن تصاب جسومنا
…
وتسلم أعراض لنا وعقول [7ب]
وبالجملة، فإني أظن أن الظلمة في الأعراض، أجرأ من الظلمة في الأموال، لأن ظالم المال قد صار له وازع على الظلم، وهو المال، الذي به قيام المعاش، وبقاء الحياة، ثم قد حصل له من مظلمته ما ينتفع به في دنياه، وإن كان سحتًا يحتاجه حرامًا. وظالم الأعراض لم يقف إلا على الخيبة والخسران، مع كونه فعل جهدًا من لا جهد له، وذلك مما تنفر عنه النفوس الشريفة، وتستصغر فاعله الطبائع العلية، والقوى الرفيعة.
(1) الشوكاني في ديوانه (ص124، 125).
(2)
في الديوان وما.
فائدة:
اعلم أن الأمر بالمعروف (1)، والنهي عن المنكر، هما أعظم أساطين الدين، وحكم قناطر الإسلام، وأهم أحكام الشريعة المطهرة، بل هما إذا كانا قائمين كان الدين على أتم قيام، وأكمل نظام، وإن لم يكونا قائمين في العباد، ولم يوجد في البلاد من يقوم بهما: تخولفت الشرائع الإسلامية، وتعطلت الشعائر الإيمانية، وقال من شاء من أهل الجسارة ما شاء، وفعل من لم يكن زاجر ديني ما أراد، لعدم وجود من يأخذ على أيديهم من القائمين بحجة الله في عباده. ولهذا وردت الآيات القرآنية، والأحاديث الصحيحة في الحث على ذلك، والمدح العظيم لفاعلهما، والزجر الوخيم لتاركهما، فمن قدر على ذلك، فقد حمل العبء الكبير، وقام بالأمر الجليل الخطير، ولا يزال يزداد قوة وتمكنًا وثباتًا، حتى يتم له ما لم يكن له في حساب، ولا خطر له على بال، ولا مر له على خيال، وصار رأسًا للفرقة التي قال فيها الصادق المصدوق:" لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين "(2)، وكان من القائمين بحجة الله في بلاده، على عباده، وفاز بالأجر العظيم الذي وعد الله سبحانه به عباده الصالحين، القائمين بما قام به، وإن أدرك من النفس الأمارة بعض جبن في بعض الأحوال، وأنس من طبيعته خورًا وضعفًا في بعض المقامات، فليعلم أن ذلك من وسوسة الشيطان الرجيم، لأنه أشد
(1) تقدم ذكر أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
(2)
* أخرجه البخاري رقم (3640) ومسلم رقم (171/ 1921) من حديث المغيرة.
* وأخرجه مسلم في صحيحه رقم (170/ 1920) من حديث ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم، حتى يأتي أمر الله وهم كذلك ".
* وأخرجه البخاري في صحيحه رقم (3641) ومسلم رقم (174/ 1037) من حديث معاوية قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم، حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس ".
عليه من القائمين في مقامات العبادة، والقاعدين في مقاعد الزهد والورع، والمستكثرين من طاعة الله عز وجل، والعازفين نفوسهم عن معاصيه، وذلك أن كل واحد من هؤلاء صار يجاهد الشيطان عن نفسه ويدفعهم عن حوضه، ويفارقه عن عشه وبيضه، ويذوده عن أن يتعرض لشيء من طاعاته بالتشكيك عليه، أو الوسوسة له، وهذه مصلحة خاصة بنفس هذا الرجل الصالح المشتغل بمراضي الله عز وجل، المجتنب لمغاضبه.
وأما القائم بما أمره الله به من الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فهو قائم لإصلاح عباد الله، بعد إصلاحه نفسه، فلا يزال زاجرًا لهم عن المنكرات، مرغبًا لهم في أنواع الطاعات، ومحذرًا لهم من مكر الشيطان الرجيم، مبينًا لهم ما ينصبه من حبائل الخذلان لعباد الله، وما يزينه لمن لم يرسخ قدمه في الإيمان، ومن هذه الحيثية كان مقامه عام النفع [8أ] ومصلحته شاملة للجمع الجم، فهو في حكم المصاول للشيطان عن عباد الله سبحانه، المحاول له عند أن يريد الإغواء بالأهواء، والاستدراج بشهوات الأنفس، من التنعم باللذات، والتمتع بالمحرمات، والتلذذ بالموبقات، فهو العدو الأكبر لفريق الشياطين أجمعين، والقائم في كل مواطنه بالمحاربة لهم، عن أن يتم كيدهم على أحد من عباد الله الصالحين، والمصاولة لهم عن أن يتسلطوا على أحد من المؤمنين أجمعين (1).
(1) أقوال العلماء في الدخول على السلطان:
* القول الأول: ما ذهب إليه جمهور السلف من النهي عن التردد على أبواب السلاطين، واعتزالهم، قال الحافظ ابن رجب الحنبلي رحمه الله:" وقد كان كثير من السلف ينهون عن الدخول على الملوك لمن أراد أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر أيضًا، وممن نهى عن ذلك عمر بن عبد العزيز وابن المبارك والثوري وغيرهم من الأئمة ".
* القول الثاني: هو كراهة الدخول على السلاطين، وهو ما ذهب إليه الحافظ ابن رجب الحنبلي فيما يبدو من كلامه فقد قال:" ومن هذا الباب أيضًا كراهة الدخول على الملوك والدنو منهم، وهو الباب الذي يدخل منه علماء الدنيا إلى نيل الشرف والرياسة فيها ".
* القول الثالث: هو جواز الدخول عليهم لكن مع تقييد ذلك الأمر وحصره بشروط وهو الرأي الذي ذهب إليه بعض السلف والخلف، وهو رأي مالك رحمه الله وانتصر له إمام المغرب ابن عبد البر النمري الأندلسي: قيل للإمام مالك إنك تدخل على السلطان وهم يظلمون ويجورون؟ فقال: يرحمك الله، فأين المكلم بالحق! " وقال مالك:" حق على كل مسلم أو رجل جعل الله في صدره شيئًا من العلم والفقه أن يدخل إلى ذي سلطان يأمره بالخير وينهاه عن الشر ويعظه حتى يتبين دخول العالم إنما يدخل على السلطان يأمره بالخير وينهاه عن الشر، فإذا كان فهو الفضل الذي ليس بعده فضل ".
انظر: " ترتيب المدارك "(1/ 207).
ونجد أن الشوكاني في رسالته هذه يذكر أقوالاً ثلاثة في مسألة الدخول على السلاطين:
1 -
أن الاتصال بالسلاطين جائز وحسن.
2 -
أن الاتصال بالسلاطين واجب.
3 -
أن الاتصال بالسلاطين ممنوع.
وأما عن كونه جائز وحسن، فلأن الاتصال مرتبة دون المحبة، كما سلف القول، ومحبة السلاطين جائزة لخصالهم الخيرة، ولا يتردد عالم في القول بجواز هذا الاتصال سيما إن كان سيترتب عليه جلب منافع للأمة.
أما عن كونه واجبًا، ففي حالة إذا لم يتم الواجب إلا به، أو لم يندفع المحرم والضرر إلا به، وذلك انطلاقًا من قاعدة أصولية جوهرها أن: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ".
أما الصورة الثالثة: وهي الاتصال الممنوع بالسلاطين، فهو مواصلتهم لا لمصلحة دينية تعود آثارها الإيجابية على الأمة، أو إذا ترتب على هذا الاتصال فساد يلحق بالمجتمع بأي صورة من صور الفساد.
* قال عبد الرحمن الشيزري في " المنهج المسلوك في سياسة الملوك "(ص690): اعلم أن استيلاء الدنيا على الملوك وإقبالهم عليها ربما شغلهم عن أمر الآخرة، وأغفلهم عن مهمات الدين، فيجنحون إلى اللذات ويهملون أمر الديانات، لأن النفوس مطبوعة على الميل إلى الترف وإيثار التنعم وكراهة التكليف، فلا ينبغي أن تخلو مجالسهم من علماء الدين، وأصالح المتنسكين لينهوهم عند طريان الغفلة، ويذكروهم عند ضراوة الشهوة، ويوضحون لهم نهج الآخرة ومعالم الشريعة، وقد كان ذلك شعار الملوك الغابرين والخلفاء الراشدين في مجالسهم الحكماء واستماع مواعظ العلماء وكانوا في ذلك ثلاث طبقات.
1 -
طبقة لما سمعوا الموعظة والتذكير نبذوا ملك الدنيا الذي يفنى ليتعاضوا عنه ملك الآخرة الذي يبقى، واخرجوا ذلك من قلوبهم وأيديهم واهتموا بأمر الآخرة، والعمل لها لينالوا الفوز الكبير، والنعيم الدائم.
2 -
طبقة عند سماع الموعظة أخرجوا ملك الدنيا من قلوبهم ولم يخرجوه من أيديهم، واهتموا بأمر الآخرة مع بقائهم في الملك وهذه الطبقة مجاهدتهم عظيمة ومثلهم في ذلك من ألزم نفسه الظمأ وبحضرته نهر بارد ينظر إليه ويقدر على تناوله وشربه. وهذا مقام الخلفاء الراشدين، وأمرائهم وعمالهم ومن سلك سبيلهم.
3 -
طبقة أصمهم حب الدنيا، ونيل لذاتها، عن استماع المواعظ وأعمى أبصارهم عن كل مذكر، وواعظ فآثروا اللذات على المهمات، وقطعتهم الشهوات عن أمور الديانات.
انظر: كتاب " السياسة " للمرادي (ص67) فقد قال: " سلطان عدل وإمامة وسلطان جور وسياسة وسلطان تخليط وإضاعة ".
وبهذا تعلم أنه قد أسفر الصبح لذي عينين، بأن بين المقامين مسافات تتقطع فيها أعناق الإبل، ومفاوز تبيت دونها سوابق المطي، بل بين المقامين ما بين الأرض والسماء، ولا بد أن ينتهي أمر هذا القائم بحجة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلى التمام على ما يطابق المرام ويوافق رضاء الملك العلام، لأنه قام هذا المقام؛ لتكون كلمة الله هي العليا، وذو الحق غلاب بنصوص السنة والكتاب. وقد صح عنه- صلى الله عليه وآله وسلم -أنه " سئل عن الرجل يقاتل حمية وشجاعة، ويرى موضعه، أيهم في سبيل الله فقال: " من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله " (1).
فهذا القائم بحجة الله عز وجل هو في أعظم الجهاد وهو في سبيل الله عز وجل، لأنه لم يفعل ذلك لغير هذا القصد، فإن لم ينجز عمله، ويحصل أمله بسرعة حصل ولو بعد حين، كما وعد الله سبحانه عباده.
ويتصور عند قيامه في هذا المقام تصفية النية من كدورات الرياء، والمقاصد التي ليست
(1) أخرجه البخاري رقم (2810) و (7458) ومسلم رقم (1904).
من الدين، وبتصور ما أمر الله عز وجل به، من الإخلاص، وحث عباده عليه، ويستحضر قول الصادق المصدوق- صلى الله عليه وآله وسلم:" إنما الأعمال بالنيات "(1) فإنها قضية كلية جامعة مانعة نافعة، لا سيما بعد ضم ما ضمه رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم -إلى هذه الجملة من قوله:" وإنما لكل امرئ ما نوى "، ثم تصوير ذلك وتمثيله منه صلى الله عليه وآله وسلم -بقوله:" فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، كانت هجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها كانت هجرته إلى ما هاجر إليه ".
فإن فارق الإخلاص، ولو بمسافة يسيرة، فقد لا يتم له ما يريد بهذا السبب لا بسبب خلل في المقام الذي قامه، فإنه مقام المرسلين، والعلماء العاملين، وعباد الله الصالحين.
ورويت في كتب التاريخ [8ب] قصة، لبعض القائمين في هذا المقام، وهو أنه وقف على آنية من الخمر، قد حمل من بعض المواضع التي يستجاد خمرها لبعض الملوك، ورأى الحاملين له قد أخرجوها من المركب إلى خارج البحر ليحملوها على الدواب بعد أن حملوها على السفن في البحر فأخذ عودًا ثم ما زال يكسرها، حتى بقيت واحدة منها، فوقف عندها قليلاً، ثم تركها ورمى بالعصى، فأخذه الواصلون بها، وقد اجتمع عليه جمع، وما شكوا أن الملك يقتله، فلما وصل إلى الملك، وقد اشتد غضبه، فقال: ما حملك على ما صنعت من الاستخفاف بنا، والإقدام على متاعنا، فقال: لم أستخف بك، بل فعلت ما أمرني الله به، وأخذه علي من النهي عن المنكر، فقال له: فما سبب تركك لواحد منها، قال: أدركت نزغة من نزغات العجب، قد أوقعها الشيطان في قلبي، فتركت كسر ذلك الواجب منها، كي لا أكسره على غير نية صحيحة مخلصة لله عز وجل. فلما سمع ذلك الملك خلى سبيله، ولم يكن له عليه سبيل. وفي هذا المقدار كفاية. والحمد لله أولاً وآخرًا، وصلى الله على سيدنا محمد وآله.
(1) تقدم تخريجه. وهو حديث صحيح.