الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(143)
14/ 3
إرشاد السائل إلى دلائل المسائل
تأليف محمد بن علي الشوكاني
حققته وعلقت عليه وخرجت أحاديثه
محفوظة بنت علي شرف الدين أم الحسن
وصف المخطوط: الأسئلة:
1 -
عنوان الرسالة: " هذا السؤال ورد إلي من بلاد أبي عريش وأجيب بما سيأتي ".
2 -
موضوع الرسالة: " أسئلة فقهية ".
3 -
أول المخطوط: " بسم الله الرحمن الرحيم، وبه نستعين وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
وبعد: فهذه أسئلة موجهة إلى من يؤمل عنده بيانها للمسترشدين
4 -
آخر المخطوط: تمت السؤالات بحمد الله الموفق لمن أراد من عبادة من الكمالات والتفضل على عبده بما شاء من الطاعات مع الاستعمالات بمنه وكرمه آمين آمين آمين.
5 -
نوع الخط: خط نسخي جيد.
6 -
عدد الصفحات: 8 صفحات.
7 -
عدد الأسطر: 23 سطرًا.
8 -
عدد الكلمات في السطر: 10 - 11 كلمة.
9 -
الرسالة من المجلد الثالث من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
وبعد:
فهذه أسئلة موجهة إلى من يؤمل عنده بيانها للمسترشدين، معولاً معتمدًا في فتواه على الكتاب والسنة، غير مقلد لمن يقدمه من الأئمة.
السؤال الأول: هل يجوز للحاكم متولي القضاء فصل الأقضية بين المسلمين أن يحكم بين الغريمين بما يعرفه من كتب أهل مذهبه، وسماعه على أستاذه، مع عدم تمكنه من الدليل عند ورود الحادثة عند من يقول بعدم صحة قضاء المقلد، لأنه إن ترك الغريمين حتى يبحث عن الدليل أدى إلى المخالفة والمشاققة، وإثارة الفتنة، فهل الراجح الترك؟ وإن وقعت الفتنة هلا يظهر من هذا الحديث جواز التقليد «عليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي» (1) فقد تدينا إلى الأخذ بأقوال الصحابة، وهو عين التقليد. الفائدة مطلوبة.
السؤال الثاني: عن حال الأعراب سكان البادية الذي ليس معهم من أمور الشريعة إلا التكلم بالشهادتين، وإن وجدنا منهم الفرد يصلي، فهي صلاة ناقصة لا وضوء لها مستكمل، ولا أركان، ومنهم من يصوم وإن حج الشاذ فهو مقلد لأهل الحضر لا
(1) أخرجه أحمد (4/ 26 - 27) وأبو داود رقم (4607) والترمذي رقم (2667) وقال: حديث حسن صحيح، وابن ماجه رقم (43، 44) والدارمي (1/ 44 - 45) وابن حبان في صحيحه رقم (5) وهو حديث صحيح.
عن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: " صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، ثم أقبل علينا، فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله كأن هذه موعظة مودع، فما تعهد إلينا؟ قال: " أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن عبدًا حبشيًا، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة ".
حقيقة عنده بأن الحج من فرائض الله المكتوبة عليه بشرطه الاستطاعة، والتخلص من كل حق، وهم أهل منعة في بلدهم. هل يجوز للمسلمين غزوهم إلى دورهم، وقتلهم ونهب أموالهم؟ وقد ورد في الحديث (1)«أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، ومتى قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله» فإن يقال يجب على أهل الحضر تعليمهم أركان الإسلام بعد معرفتهم الشهادتين، والتكلم بهما، ومتى تمردوا عن قبول التعليم جاز غزوهم. نقول: علمنا يقينًا من هؤلاء عدم قبول التعليم مع المخالطة لهم، وهم لا يجحدون الواجبات إذا عرفناهم بما جهلوه، إنما يغلب عليهم إبليس [1] بل لا يصبرون نفوسهم على مخالفته، فهل يجوز مع هذا قتلهم ونهب أموالهم؟ وهل دارهم دار حرب؟ مباح كل ما فيها، وإن لم يحاربونا الفائدة مطلوبة. فلأهل المذاهب أقوال مختلفة، والرجوع إلى الكتاب والسنة هو الأكمل الأتم.
السؤال الثالث: عن الأحاديث المصرحة بنجاة أهل البيت عن طرف على طرف على الإطلاق، وأن عصاتهم لا يعاقبون بالنار مع عصاة الأمة تكريمًا للمصطفى - صلوات الله عليه وعلى آله وأصحابه الخلفاء الراشدين -، وقد ورد في القرآن العظيم بالوعيد على التعميم من ذلك قوله تعالى:{ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها} (2)، وقوله تعالى:{يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم} (3) إلى قوله: {ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما فسوف نصليه نارا} (4)، وفي آية أخرى:{ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا} (5)
(1) وهو حديث متواتر له طرق عن أبي هريرة رضي الله عنه.
انظر هذه الطرق في الرسالة رقم (4)(ص347 - 349).
(2)
[النساء: 93].
(3)
[النساء: 29].
(4)
[النساء: 30].
(5)
[الفرقان: 68 - 69].
، وفي الحديث:«إذا مشى الرجل إلى الرجل فقتله فالقاتل في النار، والمقتول في الجنة» (1)، وكم نعد من الآيات والأحاديث! ومما ورد في نجاتهم ما أخرجه الحاكم (2) عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «وعدني ربي في أهل بيتي من أقر منهم بالتوحيد ولي بالبلاغ ألا يعذبهم» ، وما أخرجه ابن سعد عن عمران بن الحصين قال:«سألت ربي أن لا يدخل النار أحدًا من أهل بيتي فأعطاني ذلك» (3)، وأخرج الطبراني (4) ..................................................
(1) أخرجه الطبراني في " الأوسط " رقم (1994) من حديث عبد الله بن عمر.
وأورده الهيثمي في " المجمع "(7/ 297) وقال: " رواه الطبراني في الأوسط ورجاله رجال الصحيح ".
(2)
في " المستدرك "(3/ 150).
وقال: صحيح الإسناد، ورده الذهبي بقوله " بل منكر لم يصح ".
قلت: وأخرجه ابن عدي في " الكامل "(5/ 1704) وقال ابن عدي: " وقوله: في أهل بيتي " في هذا المتن منكر بهذا الإسناد ".
وأورده السيوطي في " الجامع الصغير " رقم (9623) ورمز لصحته.
وضعفه المناوي والمحدث الألباني.
وعلته: " عمر بن سعيد البصري الأبح " فهو منكر الحديث قاله البخاري.
وخلاصة القول أن الحديث منكر، والله أعلم.
(3)
عزاه إليه المناوي في " فيض القدير "(4/ 77).
وعزاه أيضًا لأبي القاسم بن بشران في " أماليه " ولأبي سعيد في " شرف النبوة " والملا في " سيرته " من حديث عمران بن حصين. وهو عند الديلمي وولده بلا سند.
ورمز السيوطي في " الجامع الصغير " رقم (4605) لضعفه.
وحكم الألباني عليه بالوضع في ضعيف الجامع وفي " الضعيفة " رقم (322).
(4)
في " الكبير "(3/ 41 - 42 رقم 2625) و (22/ 406 - 407 رقم 1018).
قلت: وأخرجه البزار (3/ 235 رقم2651 - كشف) والحاكم (3/ 152) والعقيلي في " الضعفاء "(3/ 184 رقم 1179) وابن عدي في " الكامل "(5/ 1714) وأبو نعيم في " الحلية "(4/ 188) وابن الجوزي في " الموضوعات "(1/ 422) من طريق معاوية بن هشام ثنا عمر بن غياث، عن عاصم، عن زر، عن ابن مسعود مرفوعًا.
قال الهيثمي في " المجمع "(9/ 203): رواه الطبراني في " الكبير " وفيه عمرو بن عتاب، وقيل: ابن غياث، وهو ضعيف.
قال ابن عدي: " وهذا لا يرويه عن عاصم غير عمر بن غياث، ولا عن عمر غير معاوية، ولم يسنده عن معاوية غير أبي كريب وعلي بن المثنى ".
وقال أبو نعيم: " هذا حديث غريب، تفرد به معاوية ".
وقال الحاكم: " صحيح الإسناد " ورده الذهبي بقوله: " قلت: بل ضعيف تفرد به معاوية وضعف، عن ابن غياث وهو واه بمرة ".
* وأخرجه بن شاهين في " فضائل فاطمة " رقم (11): من طريق حفص بن عمر الأيلي، ثنا عبد الملك بن الوليد بن معدان، وسلام بن سليمان القاري عن عاصم بن بهدلة، عن زر بن حبيش، عن حذيفة بن اليمان، مرفوعًا.
قلت: فيه حفص بن عمر كذاب، انظر " المجروحين "(1/ 257) والميزان (1/ 560) وعبد الملك بن الوليد ضعيف لا يحتج به. " الميزان "(2/ 666).
وقال ابن تيمية في " منهاج السنة "(4/ 62): " هذا الحديث كذب باتفاق أهل المعرفة بالحديث ".
* وأخرجه ابن شاهين في " فضائل فاطمة " رقم (12) من طريق تليد، عن عاصم، عن زر عن عبد الله مرفوعًا.
قلت: فيه: تليد بن سليمان كذبه أحمد بن حنبل وابن معين، وقال: دجال لا يكتب عنه، وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ".
انظر " الميزان "(1/ 358). وخلاصة القول أن الحديث موضوع والله أعلم.
والدارقطني (1) عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إن فاطمة أحصنت فرجها فحرم الله ذريتها على النار» ، وغير ذلك تركناها اختصارًا، فإذا صح الحديث هذا كيف العمل بآيات الوعيد العامة للمرسل إليهم؟ هل هذه الآيات تخصصهم من بين الأمة؟ [2] وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم «لما نزلت الآية
(1) لم أجده في سننه.
الكريمة: {وأنذر عشيرتك الأقربين} (1) دعا بأعلى صوته: " يا بني عبد المطلب، يا بني هاشم، يا فاطمة بنت محمد، لا أغني عنك من الله شيئًا» (2) فإذا صح حديث النجاة على الإطلاق، وأن الذرية لهم أخصية عن الأمة بكون ذنوبهم مغفورة، سواء كانت الذنوب عن حق الله أو لعباده أوضحوا ما تطمئن به النفس بصرف آيات الوعيد عن الظواهر، وإذا قال قائل: إن الأحاديث واردة فيمن دخل تحت الكساء من أولاد فاطمة (3) فلفظ الحديث مشعر بعموم الذرية، وإن يقال: إنهم يختم لهم في آخر أعمارهم، يقال له فشاهد الكثير منهم يموت إما بالقتل أو فجأة أو قبل أن يتخلص من حقوق الآدمي، فأشكل علينا الأمر على فرض صحة الحديث، فاستمدينا ما يزيح الإشكال ويريح البال.
السؤال الرابع عن حال أهل مدينة جمعهم وجماعتهم واحدة إلا أن اعتقاداتهم متباينة في أمور أهمها وأولاها بالبحث والاسترشاد اختلافهم في شأن الخلافة بعد المصطفى - صلوات الله عليه وعلى آله الحنفاء - فطائفة تقول: إن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب هو الأحق بمقام الخلافة بعد نبينا المبعوث رحمة للعالمين، وأن من تقدمه من الثلاثة الخلفاء مخالف للصواب، إلا [أن](4) لهم شيئًا من التفائض ملاحظة لسوابقهم بين يدي معلم الشريعة من بذل أنفسهم وأموالهم، ولهم أدلة ناهضة في معتقدهم، والطائفة الثانية تقدم
(1)[الشعراء: 214].
(2)
وهو جزء من حديث أخرجه البخاري رقم (4771) ومسلم رقم (351/ 206) والترمذي رقم (3185) والنسائي رقم (3644) من حديث أبي هريرة.
(3)
عن عائشة رضي الله عنها قالت: خرج علينا النبي صلى الله عليه وسلم غداة وعليه مرط مرحل، من شعر أسود، فجاء الحسن بن علي فأدخله، ثم جاء الحسين فدخل معه، ثم جاءت فاطمة فأدخلها، ثم جاء علي فأدخله، ثم قال:{إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا} [الأحزاب: 33].
(4)
في " المخطوط " أنهم والصواب ما أثبتناه.
الثلاثة مطابقة للواقع لا عن نص قاطع، وحملوا الصحابة على السلامة حتى أداهم حملهم على سلامتهم من الخطأ، وهم لا يثبتون لهم عصمة إن أدخلوا معاوية ومن شايعه في مسمى الصحابة المترضى عنهم. ومع ما قد ورد في صحيح الخبر أن رئيس الفئة الباغية قتلة عمار بن ياسر (1)، وقد حارب عليًا وعاداه القائل في حقه الصادق [3] المصدوق بمشهد من الصحابة، وخشي الجفاء بعد ترحم: اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله " (2) وهذه الأخواض وإن كنا غير متعبدين بها إلا أنه يتحصل منها موالات من يجب موالاته، ومعاداة من يجب علينا معاداته، والموالاة والمعاداة لها أصل في الشريعة، فإن الترضية عن الباغي موالاة، وشتمه معاداة. قال تعالى:{لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله} (3) إلى آخر الآية، فإذا كان هذا حال أهل البلد في المخالفة وتخطئة كل للآخر، هل أحدهما يصيب والآخر يخطئ؟ أم يصيبان؟ أم يخطئان؟ وكيف حال صلاة أحد هؤلاء بعد الآخر على ما يعتقده من خطئه في هذه العقيدة؟ وإن أتى بصلاته كاملة الشروط على مذهبه، وهل يصوغ أن يترك من أراد الحضور معهم لجمعة أو جماعة، أم كيف يكون الحال معهم؟ بينوا الطريقة المنجية لجايئها بحسب ما عرفتم.
السؤال الخامس عن الاجتماعات في المساجد للدرس على الميت والتعزية ثلاثة أيام، ويقع من الإنشاد ما صار حكم اللازم، ثم البيوت لقراءة المواليد ليلة سابع
(1) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (73/ 2916) وأحمد (6/ 289، 300، 315) والبيهقي في " السنن الكبرى "(8/ 189) والطيالسي (1598) والنسائي في " فضائل الصحابة "(170) والطبراني في " الكبير "(23/ 852 و854 و855، 856) والبغوي في " شرح السنة " رقم (3952) من طرق، من حديث أم سلمة. قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تقتل عمارًا الفئة الباغية ".
(2)
أخرجه الطبراني في " الكبير "(4/ 16 - 17 رقم 3514).
وأورده الهيثمي في " المجمع "(9/ 106) وقال: ورجاله وثقوا.
(3)
[المجادلة: 22].
المولود وختانه، وغير ذلك. وفي شهر رجب ونحوه أمور ما ورد عن الشارع فعلها إلا أنه إذا دعاك جارك أو قريبك إلى الحضور ولم تحضر تكدر خاطره، وإذا لم تحضر معه في المسجد للعزاء تعبت نفسه أعظم، وربما ينسبك إلى التكبر، وإن حضرت معه طابت نفسه، فهل يسوغ الحضور طلبًا لحسن المخالقة التي لها أصل في الشريعة، وجبر خواطر مكسورة من فراق الأحبة؟ أم تقول هذه مبتدعات لا يلاحظ بها مخالفة ولا معاشرة؟ وهل هذه البدعة تخرجهم عن وصيفة تسميتهم بالمؤمنين، أم تقول صاروا أهل بدع لا تصوغ مخالطتهم ولا حضور جماعتهم، ويجب الإنكار لمن أمكنه ذلك؟.
السؤال السادس عن الحلف برأس أبيه، أو بولي من الأولياء أو بالسلطان، وهو غير قاصد بالمحلوف به المشاركة في عظمة الله - تعالى جلاله - بل صارت عادة [4] لأهل البلد في محاوراتهم، وربما يقصد المميز منهم تنزيه الله - تعالى - أن يحلف به، ويحنث، وإذا حنث عند الحلف بأبيه أو بولي خف عليه الأمر.
السؤال السابع عن تبقية شعر الرأس، هل هو مسنون إذا علم عن نفسه التقصي على تخليله بالماء عند وجوب الغسل، أم يجب عليه إزالته حذرًا من عدم الإتيان بالواجب، وهو تخليله بالماء؟ على أنه كان في عصر معلم الشريعة - صلوات الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين - وفي خير القرون بعده جل أهله لهم لمم من الشعر، ولم يرد الإنكار عليهم، أو تقول: تركه في هذا الزمن من باب: دع ما لا بأس به حذرًا مما به البأس.
السؤال الثامن عن أمر يتعلق بأمور متعلقة بالمال، وذلك عن أرض فيها أثار ملك متقادمة، وقد صارت بعيدة عن الحي مغمورة بالأشجار، بل قد صارت مأوى للقطاع، ولم يعرف لها مالك محقق، إنما بعض أفراد من الناس بأيديهم مرقومات قديمات قاضية بأن لأوائلهم أملاكًا في هذه المحلات ملتبسة بغيرها، لا يمكن تمييزها، فهل يصوغ لآحاد المسلمين إن استطاع البسوط على بعضها أو كلها، ويبقي أشجارها ويجعلها مزرعة، وتكون من أملاكه، أم تقول ليس له ذلك، إنما تبقى على نظر ذي الولاية يقسطها في طرق المصالح، أو كيف يكون الحال فيها، فإنها إذا بقت على حالها لا نفع فيها لأحد
من المسلمين، بل تكون مأوى للمتخربين، وقد لا يستطيع على الإقامة بها، وبتخريج أشجارها إلا ذو شوكة كسلطان البلد، فإنه ربما يعمرها للسكنى، ويتحول مكان المخافة أمنًا؟ ومع العناية بالحرث والزرع يعيش بها الناس والمواشي مما هذا حاله من الأرض، فهل يكون فيه حقًا لغير الباسط المغالي كذلك من جهل مالكه أو علم وجهل محل ملكه على السواء، أم بينهما فارق بينوا وأفيدوا؟.
السؤال التاسع عن المال الذي تأخذه الولاة من الرعايا مثل الزكوات، [5] والتأديب بالمال عند حصول قتل أو نحوه، هل يصوغ له ذلك؟ وهؤلاء الرعايا لا يتخلصون من الواجبات من نفوسهم إلا غلبت عليهم العامية، وأكثرهم لا يقوم بحقوق الله تعالى من صلاة وصيام، فضلاً عن تأدية زكاة شرعية في مصارفها، فما يكون حال هذا الذي يقبضه منهم السلطان، هل هو صائغ في حقه، أم نقول لا حق عليهم في أموالهم، وإن كانوا عصاة؟ وهل يجوز للسلطان إذا قلتم له أخذ هذا المال منهم أن يدفعه إلى من يخشى ضرره على البلد يألفهم بذلك، أم ليس له إلا صرفه في مستحق الزكاة في مصارفها ومال التأديب في المصارف؟ نعم وما هو الذي يجب في المال بعد الزكاة؟ والذي يجوز تناوله منه؟ وما هو الذي يستباح عنده الدم والمال إذا ارتكبه من يستحق ذلك؟ فإن القتل لا يكون إلا لكافر حربي، أو مرتد، أو عن قصاص، أو زان محصن؛ فالمال ليس فيه حق غير الزكاة، فالعالم بنيان الله، والله يغضب إذا هدم بنيانه من غير حق، وليس المراد إلا بيان ما جهلناه، والله يعلم أن المراد الاستفادة وتنقيح المراد من كتاب أو سنة، ومن هداه الله إلى العمل بهما فهو السعيد في الأزل.
كذلك وقع من أفعال المسلمين ما لم يقع في عصر الرسول - صلوات الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين - ولا في وقت الخلفاء من بعده من عمارة المنائر والصوامع في المساجد في حرم الله، وحرم رسوله، وفي غيرهما من المدن، واختصاص كل أهل مذهب من المذاهب بمحل يصلون فيه، ثم التعلية في البيوت فوق الحاجة إلا أنه لا ضرر في ذلك
على مسلم، فهل المبتدع لا يجب إنكاره إلا مع حصول المصادرة فيه أم يقولون كل مبتدع تجب إزالته لمخالفته أفعال الرسول؟ ولا تقع بدعة مستحسنة في الدين، فإن أكثر الموجودات المشاهدات ما فعلها الرسول، ولا أمر بها إنما استحسنها المسلمون.
وقد ورد: ما " رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن "(1)، والله أعلم بصحة هذا.
وقد [6] جرى على هذا العلماء في كل عصر من مدة حدوث المقامات بالحرم الشريف إلى وقتنا هذا ما أنكرها عالم، ولا أقام عليها دليلاً، بل قصارى ما نقوله بدعة مستحسنة لا يجب الإنكار على فاعلها، فالفائدة مطلوبة عن جميع ما حررناه، وسألنا لإزاحة ما في النفس من اللبس عند كثرة الواردات التي ما تلقيناها من محقق منصف لا غرض له فيما يرويه.
والمقصود - والله - الاطلاع على ما يكون هو الحق - إن شاء الله تعالى - ثم البحث أيضًا عن أفعال العباد الصادرة من الفعل القبيح، وارتكاب المحرمات التي يغضب الله لها، ويعاقب عليها، هل هي بمقدورات الله التي لا يستطيع العبد مدافعة نفسه عند
(1) أخرجه أحمد (22/ 170 - الفتح الرباني). وأورده الهيثمي في " المجمع "(1/ 177 - 178) وقال: رواه أحمد والبزار، والطبراني في " الكبير "(9/ 118 رقم 8582) ورجاله موثقون ".
وأخرجه الطيالسي في " المسند "(ص33 رقم 69) وأبو نعيم في " الحلية "(1/ 375) وأورده السخاوي في " المقاصد الحسنة "(ص581). وقال عقبه " وهو موقوف حسن " وابن الديبع في " التمييز "(ص146) والزرقاني في " مختصر المقاصد "(ص168) والعجلوني في " كشف الخفاء "(2/ 245). وأخرجه الحاكم (3/ 78 - 79) من قوله " فما رأى المسلمون ..... " وزاد " وقد رأى الصحابة جميعًا أن يستخلفوا أبا بكر رضي الله عنه وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
قلت: والخلاصة أنه موقوف حسن ولا أصل له في المرفوع.
وهو أثر عن ابن مسعود رضي الله عنه: " إن الله نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد صلى الله عليه وسلم خير قلوب العباد فاصطفاه لنفسه، فابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد، فجعلهم وزراء نبيه يقاتلون على دينه، فما رأى المسلمون حسنًا فهو عند الله حسنًا، وما رأوا سيئًا فهو عند الله سيء ".
إتيانها، أم هي باختيار ورغبة منه؟ وإنما العلم لله سابق بأن العبد يفعلها. وفي الحديث:«اعملوا فكل ميسر لما خلق له» (1).
فمن الميسر له على فعل الطاعة والمعصية، فهذه المسائل هي - والله - لمراد الفائدة، والأعمال بالنيات. ثم ما هو المعتمد لديكم بالدليل الصحيح في استعمال شجرة التنباك التي عمت به البلوى في جميع البلدان؟ فالأشجار أصلها الإباحة إلا ما ورد الشرع بتحريمه، ولم يرد عن الشارع تحريم استعمال شجر بعينه إلا أنكر قياسًا على الخمر، أو قوله:«كل مسكر حرام» (2) إذا ورد لفظ الحديث هكذا أو بالمعين.
والتتن هذا لم يكن من المسكرات، ولا بأس بأنه مستقذر عند العلماء والمتعلمين، وقد يشغل عن المحافظة على توقيت الصلوات المفروضة، وإذا قيل إنه يغير رائحة الفم فيشغل المصلين في الجماعة. نقول: إذا كانت على التحريم هذا على فرض القول بحرمة استعماله قد يستعمل شاربه ما يذهب خبث رائحته من الفم فتزول العلة، وإنما المطلوب الدليل على حرمته لعينه، أو بقائه على أصل الإباحة، فإن يوجد الدليل الواضح على التحريم فبها ونعمت، وإن هو مستنبط من [7] أدلة فذاك، إنما حيث كان حدوثه في بعد من البعثة، وأوقات الصحابة والتابعين، وما بقي إلا فجعل دليله من طريق القياس الذي لا يحتج إليه من عمله على صرائح الآيات والسنة، وإذا جعلنا العلة في تحريمه إشغال شاربه عن التوقيت فغيره مثله من الأمور الملهية التي أصلها الإجابة، والفائدة مطلوبة - لا
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (4947)(4949) ورقم (6217) ومسلم رقم (2647) من طرق عن علي بن أبي طالب.
(2)
أخرجه مسلم رقم (2003) وأبو داود رقم (3679) والترمذي رقم (1861) وقال: حديث حسن صحيح. والنسائي (8/ 297 رقم 5586) وأحمد (2/ 16) والطبراني في " المعجم الكبير "(12/ 312 رقم 13213)(12/ 332 رقم 13268) وابن ماجه رقم (3390) عن ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " كل مسكر خمر وكل مسكر حرام ".
برحتم في مقام الإفادة -، كذلك التوسل بالأنبياء والأولياء وكل من له درجة رفيعة، هل هو جائز ولا ينكره أحد من العلماء، أم مكروه، أم هو خلاف الأولى؟ بينوا لنا ذلك بالأدلة الصحيحة - جزيتم خيرًا -، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
تمت السؤالات بحمد الله الموفق لمن أراد من عباده من الكمالات، والمتفضل على عبده بما شاء من الطاعات مع الاستعمالات بمنه وكرمه آمين آمين آمين.
وصف المخطوط: الأجوبة:
1 -
عنوان الرسالة من المخطوط: " إرشاد السائل إلى دلائل المسائل ".
2 -
موضوع الرسالة: " فقه ".
3 -
أول الرسالة: " بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله وحده نحمده ونستعينه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا. وسيئات أعمالنا. من يهد الله فلا مضل
4 -
آخر الرسالة: جواب هذه الأسئلة على انفراده على كراريس، فما الظن بجميعها، والحمد لله أولاً وآخرًا وظاهرًا وباطنًا.
فرغ من تحريره المجيب محمد بن علي الشوكاني غفر الله لهما في ليلة الأحد لعلها ليلة العشرين من محرم سنة 1217.
5 -
نوع الخط: خط نسخي معتاد.
6 -
عدد الصفحات: 22 ما عدا صفحة العنوان.
7 -
عدد الأسطر في الصفحة: 19 سطرًا ما عدا الصفحة الأخيرة ففيها 6 أسطر.
8 -
عدد الكلمات في السطر: 10 كلمات.
9 -
الرسالة من المجلد الثالث من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.
[نص الأجوبة]
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده نحمده ونستعينه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فما له من هاد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
(وبعد): فإنه أرسل إلي بعض الأعلام بأسئلة يذكر أنها من المخلاف السليماني (1)، وأنه حصل الاختلاف بين أهله في شأنها.
وحاصل السؤال الأول: هل الراجح جواز قضاء المقلد أم لا؟
وأقول: الأوامر القرآنية ليس فيها إلا أمر الحاكم بأن يحكم بالعدل والحق، وما أنزل الله، وما أراه الله، ومن المعلوم لكل عارف أنه لا يعرف هذه الأمور إلا من كان مجتهدًا؛ إذا المقلد (2) إنما هو قائل قول الغير دون حجته، ولا طريق إلى العلم بكون الشيء حقًا أو عدلاً إلا الحجة، والمقلد لا يعقل الحجة إذا جاءته، فكيف يهتدي للاحتجاج بها! وهكذا لا علم عنده بما أنزل الله، إنما عنده علم بقول من هو مقلد له، فلو فرض أنه يعلم بما أنزل الله، وما جاء عن رسول الله -[صلى الله عليه وآله وسلم]- علماً صحيحًا لم يكن مقلدًا، بل هو مجتهد، وهكذا لا نظر للمقلد، فإذا حكم بشيء فهو لم يحكم بما أراه [1] الله، بل بما أراه إمامه (3)، ولا يدري أذلك القول الذي قاله إمامه
(1) تقدم تعريفها.
(2)
التقليد اصطلاحًا: هو العمل بقول الغير من غير حجة، فيخرج العمل بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم والعمل بالإجماع ورجوع العامي إلى المفتي ورجوع القاضي إلى شهادة العدول، فإنها قد قامت الحجة في ذلك.
" إرشاد الفحول "(ص862)، " المسودة "(ص553).
انظر: الرسالة رقم (60).
(3)
قال الزركشي في " البحر "(6/ 281) عن المزني أنه قال: يقال لمن حكم بالتقليد، هل لك من حجة؟ فإن قال: نعم، أبطل التقليد؛ لأن الحجة أوجبت ذلك عنده لا التقليد. وإن قال بغير علم قيل له: فلم أرقت الدماء وأبحت الفروج والأموال وقد حرم ذلك إلا بحجة؟ فإن قال: أنا أعلم أني أصبت وإن لم أعرف الحجة؛ لأن معلمي من كبار العلماء، قيل له، تقليد معلم معلمك أولى من تقليد معلمك؛ لأنه لا يقول إلا بحجة خفيت عن معلمك كما لم يقل معلمك إلا بحجة خفيت عنك، فإن قال: نعم، ترك تقليد معلمه إلى تقليد معلم معلمه. وكذلك حتى ينتهي إلى العالم من الصحابة، فإن أبى ذلك نقض قوله وقيل له: كيف يجوز تقليد من هو أصغر وأقل علمًا، ولا يجوز تقليد من هو أكبر وأغزر علمًا، وقد روي عن ابن مسعود أنه قال: لا يقلد أحدكم دينه رجلاً إن آمن آمن وإن كفر كفر فإنه لا أسوة في الشر. أخرجه ابن عبد البر في " جامع بيان العلم "(2/ 114).
وقال الشوكاني في " إرشاد الفحول "(ص872) تعقيبًا على ذلك: وعند أن ينتهي إلى العالم من الصحابة، يقال له: هذا الصحابي أخذ علمه عن أعلم البشر المرسل من الله إلى عباده المعصوم عن الخطأ في أقواله وأفعاله، فتقليده أولى من تقليد الصحابي الذي لم يصل إليه إلا شعبة من شعب علومه، وليس له من العصمة شيء. ولم يجعل الله سبحانه قوله ولا فعله ولا اجتهاده حجة على أحد من الناس.
انظر: " أعلام الموقعين "(2/ 196 - 197).
موافق للحق أم مخالف له.
وبالجملة فالقاضي هو من يقضي بين المسلمين بما جاء عن الشارع كما جاء في حديث معاذ (1) عند أبي داود، والترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما أراد أن يبعث معاذًا إلى اليمن «قال: كيف تقضي إذا اعترض لك القضاء؟ قال: أقضي بكتاب الله، قال: فإن لم تجد في كتاب الله؟ قال فبسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: فإن لم تجد في سنة رسول الله؟ قال: أجتهد رأيي ولا آلو، فضرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صدره وقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]- لما يرضي رسول الله». وهذا الحديث وإن كان فيه مقال فقد جمع طرقه وشواهده الحافظ ابن كثير في جزء وقال: هو حديث حسن مشهور اعتمد عليه أئمة الإسلام. وقد أخرجه أيضًا أحمد، وابن عدي، والطبراني،
(1) وهو حديث ضعيف تقدم بطرقه.
انظره في الرسالة رقم (139).
والبيهقي، ولأئمة الحديث كلام طويل في هذا الحديث، فبعضهم يقول: باطل لا أصل له، وبعضهم يقول: حسن معمول به، وبعضهم يقول: ضعيف، والحق أنه من الحسن لغيره، وهو معمول به.
وقد دل هذا الحديث على أنه يجب على القاضي أن يقدم القضاء بكتاب الله، ثم إذا لم يجد فيه قضى بما في سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم إذا لم يجد فيهما اجتهد رأيه، والمقلد لا يتمكن من القضاء بما في كتاب الله (1)؛ لأنه لا يعرف الاستدلال ولا كيفيته، ولا يمكنه القضاء بما في سنة (2) رسول الله -[صلى الله عليه وآله وسلم]- لذلك، ولأنه [2] لا يميز بين الصحيح والموضوع والضعيف المعلول بأي علة، ولا يعرف الأسباب ولا يدري بالمتقدم والمتأخر، والعام والخاص، والمطلق والمقيد، والمجمل والمبين، والناسخ والمنسوخ، بل لا يعرف مفاهيم هذه الألفاظ، ولا يتعقل معانيها فضلاً عن أن يتمكن من أن يعرف اتصاف الدليل بشيء منها.
وبالجملة فالمقلد إذا قال: صح عندي فلا عند له، وإن قال: صح شرعًا فهو لا يدري ما هو الشرع. وغاية ما يمكنه أن يقول: صح هذا من قول فلان، وهو لا يدري هل هو صحيح في نفس الأمر أم لا.
(1) قال ابن قدامة في " المغني "(14/ 15): أما معرفته بكتاب الله فيحتاج أن يعرف من عشرة أشياء: الخاص، والعام، والمطلق، والمقيد، والمحكم، والمتشابه، والمجمل، والمفسر، والناسخ، والمنسوخ في الآيات المتعلقة بالأحكام وذلك نحو خمسمائة، ولا يلزمه معرفة سائر القرآن.
(2)
أما السنة فيحتاج إلى معرفة ما يتعلق منها بالأحكام دون سائر الأخبار، من ذكر الجنة والنار والرقائق، ويحتاج أن يعرف منها ما يعرف من الكتاب ويزيد معرفة التواتر، والآحاد، المرسل، المتصل، والمسند، والمنقطع، والصحيح، والضعيف، ويحتاج إلى معرفة ما أجمع عليه. وما اختلف فيه. ومعرفة القياس، وشروطه، وأنواعه وكيفية استنباطه الأحكام، ومعرفة لسان العرب فيما يتعلق بما ذكر، ليتعرف به استنباط الأحكام من أصناف علوم الكتاب والسنة.
" المغني "(14/ 15)، " الأحكام السلطانية " للماوردي (ص62)، " الفقيه والمتفقه "(1/ 90).
فهو بلا ريب أحد قضاة النار (1)؛ لأنه إما أن يصادف حكمه الحق فهو حكم بالحق، ولا يعلم أنه الحق، أو يحكم بالباطل وهو لا يعلم أنه باطل، وكلا الرجلين في النار، كما ورد بذلك النص عن المختار (2)، وأما قاضي الجنة فهو الذي يحكم بالحق، ويعلم أنه الحق، ولا شك أن من يعلم بالحق مجتهد لا مقلد.
هذا يعرفه كل عارف، فإن قال المقلد: إنه يعلم أن ما حكم به من قول إمامه حق؛ لأن كل مجتهد مصيب، فنقول له: هل أنت مقلد في هذه المسألة؟ أعني أن كل مجتهد مصيب، أم مجتهد؟ فإن [قال]: كنت مقلدًا في هذه المسألة فقد جعلت ما هو محل النزاع دليلاً لك، وهو مصادرة باطلة؛ فإنك لا تعلم بأنها حق في نفسها فضلاً عن أن تعلم بزيادة على ذلك، وإن كنت مجتهدًا في هذه المسألة فكيف خفي عليك أن المراد بكون كل مجتهد مصيبًا هو من الصواب لا من الإصابة، كما أقر بذلك القائلون بتصويب المجتهدين (3)، وحرروه في مؤلفاتهم المعروفة الموجودة بأيدي الناس! وإذا كان
(1) يشير إلى الحديث الذي أخرجه أبو داود رقم (3573) والترمذي رقم (1322) وابن ماجه رقم (2315) والبيهقي في " السنن الكبرى "(10/ 116 - 117) من طرق عن ابن بريدة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " القضاة ثلاثة: قاضيان في النار وقاض في الجنة، رجل قضى بغير الحق فعلم ذلك فذاك في النار، وقاض لا يعلم فأهلك حقوق الناس فهو في النار، وقاض قضى بالحق فذلك في الجنة " وهو حديث صحيح.
(2)
انظر التعليقة السابقة.
(3)
قال الزركشي في " البحر المحيط "(6/ 244 - 245): قال ابن فورك في المسألة ثلاثة أقوال:
أحدها: أن الحق في واحد وهو المطلوب، وعليه دليل منصوب، فمن وضع النظر موضعه أصاب، ومن قصر عنه وفقد الصواب فهو مخطئ ولا إثم عليه، ولا نقول إنه معذور؛ لأن المعذور من يسقط عنه التكليف لعذر في تركه كالعاجز عن القيام في الصلاة، وهو عندنا قد كلف إصابة المعين لكنه خفف أمر خطابه وأجر على قصده الصواب وحكمه نافذ على الظاهر.
وهذا مذهب الشافعي وأكثر أصحابه وعليه نص في الرسالة (ص496 - 497).
الثاني: أن الحق واحد إلا أن المجتهدين لم يكلفوا بإصابته، وكلهم مصيبون لما كلفوا من الاجتهاد وإن كان بعضهم مخطئًا.
الثالث: أنهم كلفوا الرد إلى الأشبه على طريق الظن.
وذهب قوم إلى أن الحق واحد والمخالف له مخطئ آثم، ويختلف خطؤه على قدر ما يتعلق به الحكم، فقد يكون كبيرة، وقد يكون صغيرة، ومن القائلين بهذا القول الأصم والمريسي وابن علية.
والرأي الراجح هو الرأي الأول.
" الفقيه والمتفقه "(2/ 60)، " مجموع الفتاوى "(19/ 124).
ذلك من الصواب لا من الإصابة، فلا يستفاد من المسألة ما تزعمه من كون مذهب إمامك حقًا، فإنه لا ينافي الخطأ. ولهذا صح عنه صلى الله عليه وسلم أن قال:«إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر» (1) وهذا لا يخفى إلا على أعمى، وإذا لم تتعقل الفرق بين الصواب والإصابة فاستر نفسك بالسكوت، ودع عنك
(1) تقدم تخريجه مرارًا. وهو حديث صحيح.
قال الشوكاني في " إرشاد الفحول "(ص851): فهذا الحديث يفيدك أن الحق واحد، وأن بعض المجتهدين يوافقه فيقال له مصيب ويستحق أجرين، وبعض المجتهدين يخالفه ويقال له مخطئ. واستحقاقه الأجر لا يستلزم كونه مصيبًا، وإطلاق اسم الخطأ عليه لا يستلزم أن لا يكون له أجر.
فمن قال كل مجتهد مصيب، وجعل الحق متعددًا بتعدد المجتهدين فقد أخطأ خطأ بينًا، وخالف الصواب مخالفة ظاهرة فإن النبي صلى الله عليه وسلم جعل المجتهدين قسمين: قسمًا مصيبًا وقسمًا مخطئًا، ولو كان كل واحد منهم مصيبًا لم يكن لهذا التقسيم معنى.
ومن قال إن الحق واحد ومخالفه آثم فإن هذا الحديث يرد عليه ردًا بينًا ويدفعه دفعًا ظاهرًا.
ثم قال الشوكاني في " إرشاد الفحول "(ص851): فالحق الذي لا شك فيه ولا شبهة أن الحق واحد ومخالفه مخطئ مأجور إذا كان قد وفى الاجتهاد حقه ولم يقصر في البحث بعد إحرازه لما يكون به مجتهدًا.
انظر: " التبصرة "(ص496)، " البحر المحيط "(6/ 247).
* الفرق بين الإصابة والصواب:
أن إصابة الحق هي الموافقة له بخلاف الصواب فإنه قد يطلق على من أخطأ ولم يصبه من حيث كونه قد فعل ما كلف به واستحق الأجر عليه وإن لم يكن مصيبًا للحق وموافقًا له.
" البحر المحيط "(6/ 255).
الكلام في المباحث العلمية، وتعلم ممن يعلم حتى تذوق حلاوة العلم. فهذا حاصل ما لدي في هذه المسألة. وإن كانت طويلة الذيل، والخلاف فيها مدون في الأصول والفروع، لكن السائل لم يسأل عن أقوال الرجال، إنما سأل عن تحقيق الحق. فإن قلت: إذا كان التخاصم ببلد لا يوجد فيها مجتهد، [3] هل يجوز للخصمين الترافع إلى من بها من القضاة المقلدين؟ قلت: إذا كان يمكن وصولهما إلى قاض مجتهد لم يجز للمقلد أن يقضي بينهما بل يرشدهما إلى القاضي المجتهد، أو يرفع القضية إليه ليحكم فيها بما أراه الله، فإن كان الوصول إلى القاضي المجتهد متعذرًا ومتعسرًا، فلا بأس بأن يتولى ذلك القاضي المقلد فصل خصومتهما، لكن يجب عليه أن لا يدعي علم ما ليس من شأنه، فلا يقول: صح له، ولا صح شرعًا، بل يقول: قال إمامه كذا، ويعرف الخصمين أنه لم يحكم بينهما إلا بما قاله الإمام الفلاني. وفي الحقيقة هو محكم لا حاكم.
وقد ثبت التحكيم في هذه الشريعة المطهرة، كما جاء ذلك في القرآن في شأن الزوجين، وأنه يوكل الأمر إلى حكم من أهل الزوج، وحكم من أهل الزوجة (1)، وكما في قوله تعالى:{يحكم به ذوا عدل منكم} (2)، وكما وقع في زمن النبوة، ومع الصحابة في غير قضية، ومن لم يجد ماءً تيمم بالتراب. والعور خير من العمى، ولا يغتر العاقل بما يزخرفه المقلدون، ويموهون به على العامة من تعظيم شأن من يقلدونه، ونشر
(1) قال تعالى: {وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما} [النساء: 35].
(2)
[المائدة: 95].
قال ابن قدامة في " المغني "(14/ 14 - 15): " اشترطوا في القاضي أن يكون مجتهدًا وبهذا قال الإمام مالك والشافعي والحنابلة، وحجتهم أن القضاء آكد من الإفتاء؛ لأنه إفتاء وإلزام، والمفتي لا يجوز أن يكون عاميًا مقلدًا، فالقاضي أولى أن لا يكون مقلدًا، واحتجوا بقوله تعالى:{وأن احكم بينهم بما أنزل الله} وما أنزل الله يعرفه العالم المجتهد لا المقلد باختصار.
فضائله ومناقبه، والموازنة بينه وبين من يبلغ رتبة الاجتهاد في عصر هؤلاء المقلدين، فإن هذا [4] خروج عن محل النزاع، ومغالطة قبيحة. وما أسرع نفاقها عند العامة! لأن أفهامهم قاصرة عن إدراك الحقائق، والحق عندهم يعرف بالرجال. وللأموات في صدورهم جلالة وفخامة. وطبائع المقلدين قريبة من طبائعهم، فهو إلى قبول أقوالهم أقرب منهم إلى قبول أقوال العلماء المجتهدين؛ لأن المجتهدين قد باينوا العامة، وارتفعوا إلى رتبة تضيق أذهان العامة عن تصورها، فإذا قال المقلد مثلاً: أنا أحكم بمذهب الشافعي، وهو أعلم من هذا المجتهد المعاصر لي، وأعرف بالحق منه، كانت العامة إلى تصديق هذه المقالة والإذعان لها أسرع من السيل المنحدر، وتنفعل أذهانهم لذلك أكمل انفعال.
فإذا قال المجتهد مجيبًا على ذلك المقلد: إن محل النزاع هو الموازنة بيني وبينك، لا بيني وبين الشافعي، فإني أعرف العدل والحق، وما أنزل الله، وأجتهد رأيي إذا لم أجد في كتاب الله وسنة رسوله نصًا، وأنت لا تعرف شيئًا من ذلك، ولا تقدر على أن تجتهد رأيك، إذ لا رأي لك، ولا اجتهاد؛ لأن اجتهاد الرأي هو إرجاع الحكم إلى الكتاب والسنة بالمقايسة، أو بعلاقة يسوغها الاجتهاد، وأنت لا تعرف كتابًا ولا سنة، فضلاً عن أن تعرف كيفية الإرجاع إليهما [5] بوجه مقبول. كان هذا الجواب الذي جاء به المجتهد مع كونه حقًا بحتًا بعيدًا عن أن تفهمه العامة، أو تذعن لصاحبه.
ولهذا ترى في هذه الأزمان الغريبة الشأن ما ينقله المقلد عن إمامه أوقع في النفوس مما ينقله المجتهد من كتاب الله وسنة رسوله [صلى الله عليه وسلم]، وإن جاء من ذلك بالكثير الطيب، وقد رأينا وسمعنا ما لا نشك أنه من علامات القيامة على أن كثيرًا من المقلدين قد ينقل في حكمه أو فتواه عن مقلد مثله قد صار تحت أطباق الثرى، وإمامه عنه براء، فيجول ويصول وينسب ذلك إلى مذهب الإمام، وينسب من يأتي بما يخالفه من كتاب أو سنة إلى الابتداع، ومخالفة المذهب، ومباينة أهل العلم، وهو لو ارتفعت رتبته عن هذا الحضيض قليلاً لعلم أنه هو المخالف لإمامه لا الموافق له. ولنوضح هذا بشيء يعرفه
المقلدون في ديارنا هذه فنقول: إذا قال الحاكم المجتهد في مسألة من المسائل بخلاف ما في متن الأزهار (1) فلا يعدم جماعة من المقلدين ينكرون عليه هذه المخالفة لما في الأزهار، ويتقربون إلى العامة بأنهم يحافظون على العمل بما في هذا الكتاب، وأنهم مشيدون للمذهب، قائمون بنشره، وأن ذلك المجتهد يخالفه. ولو أنصفوا لعلموا أنهم هم المخالفون لما في الأزهار، وأن ذلك المجتهد أسعد منهم بموافقته، فإن في أول فصل من فصول [6] الأزهار أن التقليد جائز لغير المجتهد لا له، ولو وقف على نص أعلم منه. وقال بعد ذلك بقليل: وبعد الالتزام يحرم الانتقال إلا إلى ترجيح نفسه، فهذا الأزهار (2) مصرح في أوائله بأن عمل المجتهد بما في مسائله تقليدًا غير جائز له، والمقلد المسكين يريد من هذا المجتهد أن لا يعمل باجتهاده، ولا يرجع إلى ترجيح نفسه، بل يقلد مؤلف الأزهار في المسائل الفرعية التي فيه، فيوقعه فيما لا يجوز بنص الأزهار. ثم هذا المقلد الذي يريد أن يكون قاضيًا ويعتقد صحة قضائه هو أيضًا مخالف للأزهار، فإنه مصرح في باب ............................................
(1)" الأزهار في فقه الأئمة الأطهار " مؤلفه: الإمام المهدي أحمد بن يحيى المرتضى الحسني.
وهو مختصر من كتاب " التذكرة الفاخرة في فقه العترة الطاهرة " للفقيه الحسن بن محمد المذحجي. ونقل عن ابن مفتاح أن مسائل الأزهار منطوقها ومفهومها تسعة وعشرون ألف مسألة
وقيل أن المهدي ألفه في السجن لخوفه نسيان ما حفظه من الفقه، فكان يلقي مسائله السيد علي بن الهادي فيكتبه السيد بالجص على الأبواب لمنع البواب من إدخال أدوات الكتابة عليهما ثم يمحوه بعد الحفظ عن ظهر الغيب، وطال التأليف والكتابة عدة سنين
…
"
" مؤلفات الزيدية "(1/ 112 - 113 رقم 276).
(2)
(1/ 89 - مع السيل): قال في مقدمة " الأزهار "
مقدمة " لا يسع المقلد جهلها ".
فصل: التقليد في المسائل الفرعية العملية الظنية والقطعية جائز لغير المجتهد لا له، ولو وقف على نص أعلم منه ولا في عملي يترتب على علمي كالموالاة والمعاداة.
وانظر: تعقيب الشوكاني على ذلك فقد أجاد وأفاد.
القضاء (1) أن من شروط القاضي أن يكون مجتهدًا، فإنه قال: والاجتهاد في الأصح. فهذا المقلد ليس بقاض بنص الأزهار، كما أنه مخطئ في إنكاره على من يخالف الأزهار من المجتهدين بنص الأزهار، وهو أيضًا مخطئ في إنكاره على اجتهادات المجتهدين بنص الأزهار فإنه قال في كتاب السير (2): في فضل إنكار المنكر: (ولا في مختلف فيه على من هو مذهبه)(3)، وهذا المقلد قد نصب نفسه لإنكار اجتهاد ذات المجتهدين تلبيسًا على
(1)(3/ 439 - مع السيل).
قال الشوكاني في " السيل الجرار "(3/ 448): والحاصل أن نصب المقلد للحكم بين عباد الله إذن له بالحكم بالطاغوت لأنه لا يعرف الحق حتى يحكم به، وما عدا الحق فهو طاغوت، ولو قدرنا أنه أصاب الحق في حكمه لكان قد حكم بالحق وهو لا يعلم به. فهو أحد قاضيي النار، وإن حكم بغير الحق فهو القاضي الآخر من قضاة النار.
ثم قال الشوكاني وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن من علامات القيامة أن يتخذ الناس رؤساء جهالاً يفتون بغير علم فيضلون ويضلون ورأس الرياسات الدينية هو القضاء بلا شبهة.
أخرج البخاري رقم (100) ومسلم رقم (13/ 2673) من حديث عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالمًا اتخذ الناس رؤساء جهالاً، فسئلوا، فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا ".
(2)
قال الشوكاني في " السيل الجرار "(3/ 791 مع السيل).
(3)
قال الشوكاني في "السيل الجرار"(3/ 794): قوله: " ولا في مختلف فيه على من هو مذهبه ".
أقول: هذه المقالة قد صارت أعظم ذريعة إلى سد باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهما بالمثابة التي عرفناها - العمل بهما واجب بإجماع الأمة، وهما العمادان العظيمان من أعمدة هذا الدين والركنان الكبيران من أركانه - وقد وجب بإيجاب الله عز وجل، وبإيجاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذه الأمة الأمر بما هو معروف من معروفات الشرع، والنهي عما هو منكر من منكراته، ومعيار ذلك الكتاب والسنة، فعلى كل مسلم أن يأمر بما وجده فيهما أو في أحدهما معروفًا. وينهى عما هو فيهما أو في أحدهما منكرًا.
وإن قال قائل من أهل العلم بما يخالف ذلك فقوله منكر يجب إنكاره عليه أولاً، ثم على العامل به ثانيًا. وهذه الشريعة الشريفة التي أمرنا بالأمر بمعروفها والنهي عن منكرها هي هذه الموجودة في الكتاب والسنة.
وأما ما حدث من المذاهب فليست بشرائع مستجدة، ولا هي شرائع ناسخة لما جاء به خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم، وإنما هي بدع ابتدعت وحوادث في الإسلام حدثت، فما كان منها موافقًا للشرع الثابت في الكتاب والسنة فقد سبق إليه الكتاب والسنة، وما كان مخالفًا للكتاب والسنة فهو رد على قائله مضروب به في وجهه كما جاءت بذلك الأدلة الصحيحة التي منها " كل أمر ليس عليه أمرنا فهو رد " - تقدم تخريجه.
فالواجب على من علم بهذه الشريعة، ولديه حقيقة من معروفها ومنكرها أن يأمر بما علمه معروفًا، وينهى عما علمه منكرًا، فالحق لا يتغير حكمه، ولا يسقط وجوب العمل به، والأمر بفعله، والإنكار على من خالفه بمجرد قول قائل أو اجتهاد مجتهد أو ابتداع مبتدع.
فإن قال تارك الواجب، أو فاعل المنكر: قد قال بهذا فلان، أو ذهب إليه فلان أجاب عليه بأن الله لم يأمرنا باتباع فلان، بل قال لنا في كتابه العزيز {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} [الحشر: 7] فإن لم يقنع بهذا حاكمه إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم كما أمرنا الله سبحانه في كتابه بالرد إليهما عند التنازع.
قال تعالى: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} [النساء: 59].
العوام، وترويجًا لقصوره على غير ذوي الأفهام.
وبيان ذلك أنه إن كان عالمًا بهذه النصوص التي ذكرناها في الأزهار فهو في إنكاره وترشيحه لنفسه بما ليس من أهله مخالف لما يعتقد أنه الحق، بل لما يقصر الحق عليه، وإن كان جاهلاً [7] لهذه النصوص فهو بهيمة (1)، لأنه يدعو الناس إلى ما لا يعرفه، ويرشدهم إلى ما ليس عنده، وينصب نفسه للإنكار على أكابر العلماء، وهو لا يعرف التقليد فضلاً عن أن يعرف ما فوقه. ومن كان بهذه المنزلة فهو صاحب الجهل المركب الذي لا يستحق أن يخاطب، بل على كل صاحب علم أن يرفع نفسه عن مجادلته، ويصون لسانه عن مقاولته، إلا أن يطلب منه أن يعلمه مما علمه الله.
و (السؤال الثاني) حاصله: ما حكم الأعراب، سكان البادية الذين لا يفعلون شيئًا من الشرعيات إلا مجرد التكلم بالشهادة، هل هم: كفار أم لا؟ وهل يجب على
(1) رحم الله الشوكاني ما تلفظ بهذا إلا لشدة إنكاره على المقلدة.
المسلمين غزوهم أم لا؟
وأقول: من كان تاركًا لأركان الإسلام، وجميع فرائضه، ورافضًا لما يجب عليه من ذلك من الأقوال والأفعال، ولم يكن لديه إلا مجرد التكلم بالشهادتين فلا شك ولا ريب أن هذا كافر شديد الكفر، حلال الدم والمال، فإنه قد ثبت بالأحاديث المتواترة (1) أن عصمة الدماء والأموال إنما تكون بالقيام بأركان الإسلام، فالذي يجب على من يجاور هذا الكافر من المسلمين في المواطن والمساكن أن يدعوه إلى العمل بأحكام الإسلام، والقيام بما يجب عليه القيام به على التمام، ويبذل تعليمه ويلين له القول، ويسهل عليه الأمر، ويرغبه في الثواب، ويخوفه من العقاب، فإن قبل منه ورجع إليه وعول عليه وجب عليه أن يبذل نفسه لتعليمه، فإن ذلك من أهم الواجبات (2) وآكدها، أو يوصله
(1) انظر الرسالة رقم (4).
قال ابن تيمية في " مجموع الفتاوى "(28/ 502): كل طائفة ممتنعة عن التزام شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة من هؤلاء القوم وغيرهم فإنه يجب قتالهم حتى يلتزموا شرائعه وإن كانوا مع ذلك ناطقين بالشهادتين، وملتزمين بعض شرائعه.
ثم قال رحمه الله (28/ 503) .. فأيما طائفة امتنعت من بعض الصلوات المفروضة، أو الصيام، أو الحج، أو عن التزام تحريم الدماء، والأموال، والخمر والزنا والميسر، أو عن نكاح ذوات المحارم، أو عن التزام جهاد الكفار أو ضرب الجزية على أهل الكتاب، وغير ذلك من واجبات الدين ومحرماته.
- التي لا عذر لأحد في جمودها وتركها - التي كفر الجاحد لوجوبها، فإن الطائفة الممتنعة تقاتل عليها وإن كانت مقرة بها وهذا مما لا أعلم فيه خلافًا بين العلماء.
وانظر: " المغني "(13/ 29 - 31).
(2)
وتجب الدعوة قبل القتال إلى إحدى ثلاث إما الإسلام أو الجزية أو السيف لحديث سليمان بن بريدة عن أبيه قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميرًا على جيش أو سرية أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرًا ثم قال: " اغزوا بسم الله في سبيل الله قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدًا، وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال أو خلال، فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم الذي يجري على المسلمين، ولا يكون لهم في الفيء والغنيمة شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن هم أبوا فاسألهم الجزية، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، وإن أبوا فاستعن بالله عليهم وقاتلهم ".
أخرجه مسلم رقم (3/ 1731) وأبو داود رقم (2612) والترمذي رقم (1617، 1408) وهو حديث صحيح.
قال أحمد: إن الدعوة قد بلغت وانتشرت، فمن بلغتهم لا يدعون.
قال ابن قدامة في " المغني "(13/ 29): وهذا يحتمل أنه كان في بدء الأمر قبل انتشار الدعوة وظهور الإسلام فأما اليوم. فق انتشرت الدعوة، فاستغنى بذلك عن الدعاء عند القتال.
قال أحمد: كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الإسلام قبل أن يحارب. حتى أظهر الله الدين، وعلا الإسلام ولا أعرف اليوم أحدًا يدعى، فقد بلغت الدعوة في أول الإسلام والروم قد بلغتهم الدعوة وعلموا ما يراد منهم، وإنما كانت الدعوة في أول الإسلام وإن دعا فلا بأس.
إلى من هو أعلم منه بأحكام الإسلام [8]، وإن أصر ذلك الكافر على كفره وجب على من يبلغه أمره من المسلمين أن يقاتلوه حتى يعمل بأحكام الإسلام على التمام، فإن لم يعمل فهو حلال الدم والمال، حكمه حكم أهل الجاهلية.
وما أشبه الليلة بالبارحة! وقد أبان لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قولاً وفعلاً ما نعتمده في قتال الكافرين (1)، والآيات القرآنية، والأحاديث النبوية في هذا الشأن كثيرة جدًا معلومة لكل فرد من أهل العلم، بل هذا الأمر هو الذي بعث الله - سبحانه -[فيه] رسله، وأنزل لأجله كتبه، والتطويل في شأنه والاشتغال بنقل برهانه من باب الإيضاح الواضح، وتبيين البين.
وبالجملة فإذا صح الإصرار على الكفر فالدار دار حرب بلا شك، ولا شبهة، والأحكام الأحكام، وقد اختلف المسلمون في غزو ....................
(1) انظر التعليقة السابقة.
الكفار إلى ديارهم (1)، هل يشترط فيه الإمام الأعظم أم لا؟ والحق الحقيق بالقبول أن ذلك واجب على كل فرد من أفراد المسلمين، والآيات القرآنية (2) والأحاديث النبوية (3) مطلقة غير مقيدة.
(1) انظر " المغني "(13/ 16 - 17).
(2)
منها قوله تعالى: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون} [التوبة: 29].
ومنها قوله تعالى: {وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة واعلموا أن الله مع المتقين} [التوبة: 36].
(3)
منها ما أخرجه أبو داود رقم (2504) وأحمد (3/ 124، 153، 251) والنسائي (6/ 7 رقم 3096) وابن حبان في صحيحه رقم (1618 - موارد) والحاكم (2/ 81) والبيهقي (9/ 20).
من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم ". وهو حديث صحيح.
قال ابن قدامة في " المغني "(13/ 6): فالخطاب في ابتدائه يتناول الجميع كفرض الأعيان، ثم يختلفان في أن فرض الكفاية يسقط بفعل بعض الناس له، وفرض الأعيان لا يسقط عن أحد بفعل غيره.
والجهاد من فروض الكفايات في قول أهل العلم. وحكي عن سعيد بن المسيب أنه من فروض الأعيان لقوله تعالى: {انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله} [التوبة: 41].
وقوله تعالى: {كتب عليكم القتال} [البقرة: 216].
وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من مات ولم يغز، ولم يحدث نفسه بالغزو، مات على شعبة من النفاق ".
قال ابن قدامة في " المغني "(13/ 6 - 7): ولنا قوله تعالى: {لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى} [النساء: 95]. وهذا يدل على أن القاعدين غير آثمين مع جهاد غيرهم، وقال تعالى:{وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين} [التوبة: 122]. ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبعث السرايا، ويقيم هو وسائر أصحابه.
(السؤال الثالث): حاصله ما قيل من أن العصاة من أهل بيت النبوة (1) لا يعاقبون على ما يرتكبون من الذنوب، بل هم من أهل الجنة على كل حال، تكريمًا وتشريفًا هل ذلك صحيح أم لا؟.
وأقول: لا شك ولا ريب أن أهل البيت المطهر لهم من المزايا والخصائص والمناقب ما ليس لغيرهم، وقد جاءت الآيات القرآنية (2)، والأحاديث النبوية (3) شاهدة
(1) اعلم أن للعلماء في حقيقة أهل البيت خمسة أقوال:
1 -
إنهم الذين حرمت عليهم الصدقة، وبذلك فسرهم زيد بن أرقم الصحابي في صحيح مسلم رقم (2408).
2 -
إن آله صلى الله عليه وسلم أزواجه وذريته خاصة. حكاه ابن عبد البر عن قوم، واستدلوا بالحديث الذي أخرجه البخاري (6/ 407 رقم 2369) ومسلم (4/ 127 شرح النووي) عن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه.
3 -
إن آله صلى الله عليه وسلم أتباعه إلى يوم القيامة، حكاه ابن عبد البر عن بعض أهل العلم.
4 -
إن آله هم الأتقياء من أمته، حكاه القاضي حسين، والراغب، وغيرهما ويستدل له بحديث:" آل محمد كل تقي ". وهو حديث موضوع.
انظر: " العلل المتناهية "(1/ 266 - 267 رقم 429) و" الضعفاء " للعقيلي (4/ 286 - 287).
5 -
إن آله صلى الله عليه وسلم هم الذين جللهم بالكساء، ومن تناسل منهم من أولادهم إلى يوم القيامة.
واستدلوا بحديث عائشة. تقدم ذكره.
وأقوى هذه الأقوال وأقربها بالاستدلال القول الأول والخامس والله أعلم.
(2)
منها قوله تعالى: {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا} [الأحزاب: 33].
(3)
تقدم ذكر حديث عائشة.
وانظر الرسالة رقم (20، 222).
ومنها ما أخرجه مسلم في صحيحه رقم (36/ 2408) من حديث يزيد بن حبان وفيه: "
…
أما بعد ألا أيها الناس فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب. وأنا تارك فيكم ثقلين: أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله، واستمسكوا به " فحث على كتاب الله ورغب فيه ثم قال:" وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، وأذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي ".
لهم بما خصهم الله به من التشريف والتكريم، والتجليل والتعظيم. وأما القول برفع العقوبات عن عصاتهم، وأنهم لا يخاطبون بما اقترفوه من المآثم، ولا يطالبون بما جنوه [9] من العظائم، فهذه مقالة باطلة ليس عليها أثارة من علم، ولم يصح في ذلك عن الله ولا عن رسوله حرف واحد، وجميع ما أورده علماء السوء المتقربون إلى المتعلقين بالرياسات من أهل هذا البيت الشريف فهو إما باطل موضوع (1)، أو خارج عن محل
(1)(منها): " أهل بيتي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم ": قال الألباني في " الضعيفة " رقم (62): " موضوع وهو في نسخة أحمد بن نبيط الكذاب ".
قال الذهبي في " الميزان "(1/ 82) عن هذه النسخة: فيها بلايا!! وأحمد بن إسحاق بن إبراهيم بن نبيط بن شريط لا يحل الاحتجاج به فإنه كذاب.
(ومنها): الحديث الذي أخرجه العقيلي في " الضعفاء "(2/ 180) عن جابر بن عبد الله قال: " خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمعته وهو يقول: من أبغضنا أهل البيت حشره الله يوم القيامة يهوديًا. قال: قلت يا رسول الله: فإن صام وصلى وزعم أنه مسلم، قال: نعم، وإن صام، وصلى وزعم أنه مسلم، إنما احتجز بذلك من سفك دمه وأن يؤدي الجزية عن يد وهو صاغر
…
".
قال: منان بن سدير فدخلت مع أبي على جعفر بن محمد، فحدثه أبي بهذا الحديث، فقال جعفر ابن محمد: ما كنت أرى أبي حدث بهذا الحديث أحدًا. وهو ليس له أصل.
وانظر: " الموضوعات " لابن الجوزي (2/ 6)، " الفوائد المجموعة "(ص396 رقم 128).
(ومنها): حديث عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أنا وفاطمة وعلي والحسن والحسين في حظيرة القدس في قبة بيضاء سقفها عرش الرحمن ".
* هذا حديث لا يصح.
أخرجه ابن الجوزي في " الموضوعات "(2/ 3).
النزاع، بل القرآن أعدل شاهد، وأصدق دليل على رد قول كل مكابر جاحد، فإنه قال عز وجل في نساء النبي صلى الله عليه وسلم:{يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين} (1) وليس ذلك إلا لما لهن من رفعة القدر، وشرافة المحل بالقرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأشرف قدرًا وأعلى محلاً وأكرم عنصرًا، وأفخم ذكرًا. ولو كان الأمر كما زعم هذا الزاعم لم يكن لقوله تعالى:{وأنذر عشيرتك الأقربين} (2) معنى، ولا كبير فائدة.
وإذا كان المصطفى صلى الله عليه وسلم يقول لفاطمة البتول التي هي بضعة منه يغضبه ما يغضبها ويرضيه ما يرضيها: " يا فاطمة بنت محمد، لا أغني عنك من الله شيئًا "(3) فليت شعري من هذا من أولادها الذي خصه الله بما لم يخصها، ورفعه إلى درجة قصرت عنها! فأبعد الله علماء السوء، وقلل عددهم! فإن العاصي من أهل هذا البيت الشريف المطهر
(1)[الأحزاب: 30].
(2)
[الشعراء: 214].
(3)
أخرجه البخاري رقم (4771) ومسلم رقم (31/ 206) من حديث أبي هريرة.
قال الحافظ في " الفتح "(8/ 502) واستدل بعض المالكية بقوله في هذا الحديث: " يا فاطمة بنت محمد سليني من مالي ما شئت، لا أغني عنك من الله شيئًا ".
أن النيابة لا تدخل في أعمال البر، إذ لو جاز ذلك لكان يتحمل عنها صلى الله عليه وسلم بما يخلصها، فإذا كان عمله لا يقع نيابة عن ابنته فغيره أولى بالمنع.
وتعقب بأن هذا كان قبل أن يعلمه الله تعالى بأنه يشفع فيمن أراد وتقبل شفاعته حتى يدخل قومًا الجنة بغير حساب، ويرفع درجات قوم آخرين، ويخرج من النار من دخلها بذنوبه، أو كان المقام مقام التخويف والتحذير أو أنه أراد المبالغة في الحض على العمل، ويكون قوله:" لا أغني شيئًا " إضمار إلا إن أذن الله لي في الشفاعة.
قال الحافظ في " الفتح "(8/ 305): والسر في الأمر بإنذار الأقربين أولاً أن الحجة إذا قامت عليهم تعدت إلى غيرهم، وإلا فكانوا علة للأبعدين في الامتناع وأن لا يأخذه ما يأخذ القريب للقريب من العطف والرأفة فيحابيهم في الدعوة والتخويف. فلذلك نص له على إنذارهم.
إذا لم يكن مستحقًا على معصيته مضاعفة العقوبة فأقل الأحوال أن يكون كسائر الناس (1). فيا من شرفه الله بهذا النسب الشريف، إياك أن تغتر بما ينمقه لك أهل التبديل والتحريف [10].
(السؤال الرابع): حاصله الاستفهام عن مذهب الحق في شأن ما شجر بين
(1) قال ابن تيمية في " منهاج السنة "(7/ 79): هب أن القرآن دل على طهارتهم وإذهاب الرجس عنهم كما أن الدعاء المستجاب لا بد أن يتحقق معه طهارة المدعو لهم وإذهاب الرجس عنهم، لكن ليس في ذلك ما يدل على العصمة من الخطأ.
والدليل عليه أن الله لم يرد بما أمر به أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يصدر من واحد منهن خطأ، فإن الخطأ مغفور لهن ولغيرهن، وسياق الآية يقتضي أنه يريد ليذهب عنهم الرجس - الذي هو الخبث كالفواحش ويطهرهم تطهيرًا من الفواحش وغيرها من الذنوب.
والتطهير من الذنب على وجهين كما في قوله تعالى: {وثيابك فطهر} [المدثر: 4].
وقوله تعالى: {إنهم أناس يتطهرون} [الأعراف: 82].
فإنه قال فيها: {من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين} [الأحزاب: 30].
والتطهير عن الذنب إما بأن لا يفعله العبد، وإما بأن يتوب منه كما في قوله:{خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها} [التوبة: 103]. لكن ما أمر الله به من الطهارة ابتداء وإرادة فإنه يتضمن نهيه عن الفاحشة، لا يتضمن الإذن فيها بحال، لكن هو سبحانه ينهى عنها ويأمر من فعلها بأن يتوب منها.
ثم قال (7/ 82 - 83): وليس من شرط المتقين ونحوهم أن لا يقع منهم ذنب، ولا أن يكونوا معصومين من الخطأ والذنوب، فإن هذا لو كان كذلك لم يكن في الأمة متق، بل من تاب من ذنوبه دخل في المتقين، ومن فعل ما يكفر به سيئاته دخل في المتقين قال تعالى:{إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما} [النساء: 31].
ثم قال: وبالجملة فالتطهير الذي أراده الله، والذي دعا به النبي صلى الله عليه وسلم ليس هو العصمة بالاتفاق، فإن أهل السنة عندهم لا معصوم إلا النبي صلى الله عليه وسلم.
الصحابة في الخلافة، وما يترتب عليها.
وأقول: إن كان هذا السائل طالبًا للنجاة، مستفهمًا عن أقرب الأقوال إلى مطابقة مراده مولاه، كما يشعر بذلك تصرفه في سؤاله، فليدع الاشتغال بهذا الأمر، ويترك المرور في هذا المضيق الذي تاهت فيه الأفكار، وتحيرت عنده أفكار أهل الأنظار، فإن هؤلاء الذين يبحث عن حوادثهم، ويتطلع لمعرفة ما شجر بينهم قد صاروا تحت أطباق الثرى، ولقوا ربهم في المائة الأولى من البعثة.
وهانحن الآن في المائة الثالثة عشرة فما لنا والاشتغال بهذا الشأن الذي لا يعنينا! " ومن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه "(1). وأي فائدة لنا في الدخول في الأمور التي فيها ريبة! وقد أرشدنا إلى أن ندع ما يريبنا إلى ما لا يريبنا (2)، ويكفينا من تلك القلاقل والزلازل أن نعتقد أنهم خير القرون وأفضل الناس، وأن الخارجين على أمير المؤمنين - رضوان الله عليهم - المحاربين له، المصرين على ذلك، الذين لم تصح توبتهم بغاة، وأنه المحق وهم المبطلون. وما زاد على هذا المقدار فمن الفضول الذي يشتغل به من لا يبالي بدينه. وقد تلاعب الشيطان بكثير من الناس فأوقعهم في الاختلاف في خير القرون (3) الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأنهم لبعض من هو من جملتهم لكنه تأخر
(1) أخرجه الترمذي رقم (2317) وابن ماجه رقم (3976) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه ".
قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه من حديث أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا من هذا الوجه. وهو حديث حسن.
(2)
يشير إلى الحديث الذي أخرجه الترمذي رقم (2518) والنسائي رقم (5711) عن أبي الحوراء السعدي قال: قلت للحسن بن علي رضي الله عنه ما حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حفظت منه: " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ". وهو حديث حسن.
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2652) ومسلم رقم (2533) من حديث عبد الله بن مسعود. وقد تقدم مرارًا.
إسلامه عنهم: " لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبًا ما بلغ مد أحدهم [11] ولا نصيفه "(1) فإذا كان مثل أحد ذهبًا من المتأخرين من الصحابة المخاطبين بهذا الخطاب لا يبلغ مد أحد متقدميهم ولا نصيفه فما أظنه يبلغ مثل أحد ذهبًا منا مقدار حبة من أحدهم ولا نصيفها، فرحم الله امرءًا اشتغل بالقيام بما أوجبه الله عليه، وطلبه منه، وترك ما لا يعود عليه بنفع لا في دنيا ولا في آخرة، بل يعود عليه بالضر، ولو لم يكن من الضر إلا مجرد مخالفة ما أرشدنا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله:" من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه "(2)[لكفى] فهذا - والله - مما لا يعنينا، ومن ظن خلاف هذا فهو مغرور مخدوع، قاصر الباع عن إدراك الحقائق، ومعرفة الحق على وجهه كائنًا من كان.
والله لو جاء أحدهم يوم القيامة بما يملأ الدنيا من الحسنات ما كان لنا من ذلك شيء، ولو جاء أحدهم (وصانهم الله) بما يملأ الدنيا من السيئات ما كان علينا من ذلك شيء، ففيم التعب، وعلام تضيع الأوقات في هذه الترهات (3)!؟.
(1) أخرجه البخاري رقم (3637) ومسلم رقم (2541) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(2)
تقدم تخريجه. وهو حديث حسن.
(3)
قال القاضي عياض في " الشفا "(2/ 611 - 615):
من توقيره وبره صلى الله عليه وسلم:
1 -
توقير أصحابه وبرهم ومعرفة حقهم.
2 -
الاقتداء بهم.
3 -
وحسن الثناء عليهم.
4 -
الاستغفار لهم.
5 -
الإمساك عما شجر بينهم.
6 -
معاداة من عاداهم.
7 -
الإضراب عن أخبار المؤرخين، وجهلة الرواة وضلال الشيعة والمبتدعين القادحة في أحد منهم.
8 -
أن يلتمس لهم فيما نقل عنهم من مثل ذلك فيما كان بينهم من الفتن أحسن التأويلات، ويخرج لهم أصول المخارج إذ هم أهل لذلك.
9 -
لا يذكر أحد منهم بسوء، ولا يغمض عليه أمر، بل تذكر حسناتهم وفضائلهم وحميد سيرتهم، ويسكت عما وراء ذلك.
كما قال صلى الله عليه وسلم: " إذا ذكر أصحابي فأمسكوا " من حديث عبد الله بن مسعود. وهو حديث حسن بشواهده.
تقدم تخريجه. انظر الرسالة رقم (20، 19، 21). وانظر: " العقيدة الواسطية " لابن تيمية (ص25): حيث قال " ويمسكون - أي أهل السنة - عما شجر بين الصحابة رضي الله عنهم ويقولون إن هذه الآثار المروية في مساوئهم، منها ما هو كذب، ومنها: ما قيد زيد فيه ونقص وغير عن وجهه ".
والصحيح منه هم معذورون: إما مجتهدون مصيبون، وإما مجتهدون مخطئون ".
السؤال الخامس: حاصله الاستفهام عن الأعراف الجارية في بعض البلدان من الاجتماع في المساجد لتلاوة القرآن على الأموات، وكذلك في البيوت، وسائر الاجتماعات التي لم ترد في الشريعة، هل يجوز ذلك أم لا؟.
أقول: لا شك أن هذه الاجتماعات المبتدعة إن كانت خالية عن معصية سليمة من المنكرات فهي جائزة، لأن الاجتماع ليس بمحرم في نفسه [12]، لا سيما إذا كان لتحصيل طاعة كالتلاوة ونحوها. ولا يقدح في ذلك كون تلك التلاوة مجعولة للميت، فقد ورد جنس التلاوة من الجماعة المجتمعين كما في حديث:" اقرأوا على موتاكم يس "(1) وهو حديث حسن (2)، فلا فرق بين تلاوة يس من الجماعة الحاضرين عند الميت أو على قبره، وبين تلاوة جميع القرآن أو بعضه لميت في مسجده أو بيته (3).
(1) أخرجه أبو داود رقم (3121) وابن ماجه رقم (1448). والنسائي في " عمل اليوم والليلة "(ص581 رقم 1074) والحاكم (1/ 565) والبيهقي (3/ 383) وأحمد (5/ 26، 27) وابن حبان رقم (720 - موارد) والطيالسي (ص126 رقم 931) من حديث معقل بن يسار. وهو حديث ضعيف.
انظر: " الإرواء "(3/ 151 - 153)، " تلخيص الحبير "(2/ 104).
(2)
بل هو حديث ضعيف كما تقدم.
(3)
القراءة على الأموات ليس لها أصل يعتمد عليه ولا تشريع، وإنما المشروع القراءة بين الأحياء ليستفيدوا ويتدبروا كتاب الله ويتعقلوه، أما القراءة على الميت عند قبره أو بعد وفاته قبل أن يقبر أو القراءة له في أي مكان حتى تهدى له فهذا لا نعلم له أصلاً ..
* وقراءة يس عند الميت لم يصح فيها حديث.
" أحكام الجنائز وبدعها " للألباني (ص11).
بل أنكر الإمام مالك رحمه الله القراءة عند الميت سورة يس والأنعام وعلل ذلك بأنه لم يكن من عمل الناس - الصحابة والتابعين -.
" المدخل " لابن الحاج (3/ 240).
* ولم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ يس أو غيرها من القرآن على القبر، والخير كل الخير في اتباع سنة محمد صلى الله عليه وسلم. والشر كل الشر في الابتداع، فلا تفعل للأموات بخلاف الصدقة عنهم والدعاء لهم والحج والعمرة وقضاء الدين، وقد جاءت بها النصوص وثبت عنه صلى الله عليه وسلم قال:" إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث، صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له " تقدم تخريجه.
وقال سبحانه وتعالى: {والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم} [الحشر: 10].
وانظر: " البدع والمحدثات " وما لا أصل له. (ص564 - 566).
وبالجملة فالاجتماعات العرفية التي لم يرد جنسها في الشريعة إن كانت لا تخلو عن منكر فلا يجوز حضورها، ولا يحل تطييب نفس الجار بحضور مواقف المنكرات والمعاصي وإن كانت خالية عن ذلك، وليس فيها إلا مجرد التحدث بما هو مباح، فهذا لا نسلم أنه لم يرد جنسه في الشريعة المطهرة، فقد كان الصحابة الراشدون يجتمعون في بيوتهم ومساجدهم، وعند نبيهم صلى الله عليه وسلم ويتناشدون الأشعار، ويتذاكرون الأخبار، ويأكلون ويشربون، فمن زعم أن الاجتماع الخالي عن الحرام بدعة فقد أخطأ، فإن البدعة هي التي تبتدع في الدين، وليس هذا من ذاك.
* (السؤال السادس): حاصله الاستفهام عن الحلف بغير الله كالحلف بالسلطان والأولياء والقرآن (1) من دون قصد لتعظيم المخلوق به، بل لأجل الاعتياد لذلك في
(1) يلاحظ أن الشوكاني جعل الحلف بالقرآن كالحلف بمخلوق من مخلوقات الله، كما يتضح من صيغة السؤال، وهذا رأي باطل قال به المعتزلة، وأتباعهم، والصحيح أن القرآن كلام الله تكلم الله به حقيقة بلفظه ومعناه، وهو سبحانه موصوف بالكلام، فعلى هذا يكون الحلف بالقرآن حلفًا بصفة من صفات الله سبحانه وتعالى، وصفات الله سبحانه غير مخلوقة فالقرآن غير مخلوق، والحلف به جائز لأنه حلف بكلام الله.
ويعقد به اليمين، وهذا ما أجمع عليه السلف أهل السنة، وقد احتجوا فيما احتجوا به بقول النبي صلى الله عليه وسلم:" أعوذ بكلمات الله التامات ". قالوا قد استعاذ بها، ولا يستعاذ بمخلوق.
انظر: " مجموع فتاوى "(1/ 336)، " شرح العقيدة الطحاوية " لابن أبي العز الحنفي (ص191).
المجاورة.
* وأقول: هذا لا يحل لمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر. وقد ورد النهي عنه في الأحاديث الصحيحة (1)، وورد أيضًا في الأحاديث (2) ما يفيد أن فاعل ذلك يكفر إذا كان حلفه باللات والعزى ونحو ذلك من الطواغيت. وورد أن من فعل ذلك لم يرجع إلى الإسلام سالمًا [13].
وهذه أحاديث صحيحة ثابتة في دواوين الإسلام، فإن سبق لسان الحالف إلى شيء من ذلك لأجل تمرنه عليه فعليه أن يتدارك نفسه بالاستغفار، ويعود نفسه ولسانه الخير
(1)(منها): ما أخرجه البخاري رقم (6108) ومسلم رقم (1646) وأحمد (2/ 11\ 17، 142) وأبو داود رقم (3249) والترمذي رقم (1534) وابن ماجه رقم (2094) وغيرهم.
عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه أدرك عمر بن الخطاب في ركب وهو يحلف بأبيه فناداهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، فمن كان حالفًا فليحلفن بالله وإلا فليصمت ".
(ومنها): ما أخرجه أبو داود رقم (3268) والنسائي رقم (3769) وابن حبان (ص286 رقم 1176 - موارد) والبيهقي (10/ 29) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تحلفوا بآبائكم ولا بأمهاتكم ولا بالأنداد، ولا تحلفوا إلا بالله، ولا تحلفوا إلا وأنتم صادقون ". وهو حديث صحيح.
(2)
ما أخرجه أبو داود رقم (3251) والترمذي رقم (1535) والحاكم (1/ 52) من حديث سعد بن عبيدة عن ابن عمر أنه سمع رجلاً يقول: لا والكعبة. فقال ابن عمر: لا يحلف بغير الله، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك ". وهو حديث صحيح.
ما استطاع، ولا يقع فيما نهى عنه الشارع وتوعد عليه، فالنفس قابلة للتعليم، واللسان إذا عودت غير ما قد اعتادت عادت إلى الموافقة ولو بعد حين (1).
* (السؤال السابع): عن تبقية شعر الرأس، هل هو مسنون إذا علم من نفسه النقص عن تخليله بالماء عند وجوب الغسل أن يجب عليه إزالته؟.
* أقول: خير الأمور السالفات على الهدي، وشر الأمور المحدثات. وقد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم جمة إلى شحمة أذنه، وكذلك للمشاهير من أصحابه الذين نقلت إلينا حليتهم. وقد جاءت الأحاديث (2) الصحيحة الصريحة بذلك، فمن أراد الاقتداء بالهيئة التي كان عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فليترك له جمة كالجمة التي كانت لسيد الأمة [صلى الله عليه وسلم] من دون أن يحلق بعض شعر الرأس، ويبقى بعضه، كما يعتاده البدو (3) في
(1) وخلاصة القول: إذا كان الحالف بغير الله لا يعتقد أن عظمة المحلوف به كعظمة الله لم يكن الشرك شركًا أكبر يخرج صاحبه عن الملة، بل كان شركًا أصغر، أما إذا اعتقد أن عظمة المحلوف به كعظمة الله أو أعظم منها فهذا شرك أكبر بلا ريب.
انظر: " فتح الباري "(11/ 540).
(2)
عن عائشة رضي الله عنها قالت: كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد وكان له شعر فوق الجمة ودون الوفرة ".
أخرجه الترمذي في " الشمائل "(ص19 رقم24).
وأخرجه أيضًا الترمذي في " السنن " رقم (1755) وابن ماجه رقم (604) الجزء المتعلق بالغسل.
وأخرج ابن ماجه رقم (3635) الجزء المتعلق بالشعر.
وأخرج أبو داود رقم (77) ورقم (4187) مفرقًا. وكذا ابن سعد في " الطبقات "(1/ 429) وأحمد في مسنده (6/ 108 و118).
* الجمة: الجمة من شعر الرأس ما سقط على المنكبين.
" النهاية "(1/ 300).
* الوفرة: شعر الرأس إذا وصل إلى شحمة الأذن.
" النهاية "(5/ 210).
(3)
في المخطوط البدوان وما أثبتناه من " المعجم الوسيط "(1/ 45).
الجهات المتصلة بصنعاء، فإن ذلك منهي عنه، لأن التحليق إن كان لموضع الحلاقة فقد ورد عنه النهي الصحيح، وإن كان لمواضع من الرأس فهو القزع المنهي عنه بالحديث الصحيح (1)، وهكذا حلق البعض، وتقصير البعض. وأما حلق الرأس كله فلم يرد ما يدل على النهي عنه (2)، وإن كانت خلاف السنة، وإن كان لغير النسك. وقد ثبت أن التحليق سيما الخوارج ولعلهم يفعلون ذلك معتقدين لمشروعيته.
نعم ورد الأمر النبوي لمن أسلم أن يلقي [14] عنه شعر الكفر (3)، فمن دخل في
(1) أخرج البخاري في صحيحه رقم (5920) ومسلم رقم (113/ 2120) وأبو داود رقم (4193) والنسائي (8/ 182) وابن ماجه رقم (3637) عن نافع مولى عبد الله أنه سمع ابن عمر رضي الله عنهما يقول: " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن القزع؟ قال عبيد الله: وما القزع؟ فأشار لنا عبيد الله قال: إذا حلق الصبي وترك هاهنا شعرة وهاهنا فأشار لنا عبيد الله إلى ناصيته وجانبي رأسه، قيل لعبيد الله: فالجارية والغلام؟ قال: لا أدري، هكذا قال " الصبي. قال عبيد الله: وعاودته فقال: أما القصة والقفا للغلام فلا بأس بهما، ولكن القزع أن يترك بناصيته شعر وليس في رأسه غيره، وكذلك شق رأسه هذا وهذا ".
(2)
بل ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه أمر بحلق الرأس مرة واستحسنه أخرى.
* أخرج أبو داود رقم (4192) والنسائي (8/ 135) عن عبد الله بن جعفر رضي الله عنه إن النبي صلى الله عليه وسلم أمهل آل جعفر ثلاثًا أن يأتيهم ثم أتاهم فقال: " لا تبكوا على أخي بعد اليوم " ثم قال: " ادعوا لي بني أخي " فجيء بنا كأنا أفرخ، فقال:" ادعوا لي الحلاق " فأمره فحلق رءوسنا.
وهو حديث صحيح.
* وأخرج أبو داود رقم (4190) وابن ماجه رقم (3636) والنسائي (8/ 135) عن وائل بن حجر، قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم ولي شعر طويل. فلما رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ذباب ذباب " قال: فرجعت فجزرته، ثم أتيته من الغد فقال:" إني لم أعنك، وهذا أحسن ". وهو حديث صحيح.
(3)
يشير إلى الحديث الذي أخرجه أبو داود رقم (356) عن عثيم بن كليب عن أبيه عن جده أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال قد أسلمت، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:" ألق عنك شعر الكفر" يقول: احلق، قال: وأخبرني آخر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لآخر معه: " ألق عنك شعر الكفر واختتن ".
وهو حديث صحيح.
الإسلام بعد الكفر فعليه أن يحلق شعره الذي كان على بدنه في الكفر، وهو شعر الرأس لا شعر اللحية ونحوه مما لا يرد الشرع بحلقه. هذا على تسليم أن أمره صلى الله عليه وسلم لهذا الفرد من أفراد الكفار يكون أمرًا لكل فرد منهم، والخلاف في المسألة معروف في الأصول (1). ولم ينقل إلينا أنه صلى الله عليه وسلم أمر أحدًا ممن أسلم من أكابر الصحابة أن يحلق شعره، ولا من غيرهم من متأخري الإسلام غير هذا الرجل. ومع هذا فالحديث المذكور في حلق الرأس ضعيف كما أوضح ذلك علماء هذا الشأن (2).
(1) انظر " إرشاد الفحول "(ص444) تقدم ذكره.
وانظر: " البحر المحيط "(3/ 190)، " تيسير التحرير "(1/ 252).
(2)
أما حكم حلق شعر الرأس فإنه يختلف باختلاف الداعي إليه:
(أ): فإن حلق للحج أو العمرة فهذا نسك قد أمر الله به في كتابه وأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعله هو والمسلمون.
(ب): وإن حلقه لحاجة كمرض أو نحوه فهذا قد أذن الله فيه وقت الإحرام، قال تعالى:{ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك} [البقرة: 196].
ورخص فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لكعب بن عجرة حين جيء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو محرم والقمل يتناثر من رأسه، فقال له صلى الله عليه وسلم:" يؤذيك هوام رأسك؟ قال: نعم، قال: احلق رأسك وانسك شاة: أو صم ثلاثة أيام، أو أطعم فرقًا بين ستة مساكين "
أخرجه البخاري رقم (4159) ومسلم رقم (120).
فإذا جاز ذلك للمحرم الذي يمنع من حلق شعره جاز لغيره بطريق الأولى.
(ج): أن يحلقه لغير حاجة ولا نسك:
روي عن الإمام أحمد أنه يكره، وروي عنه أنه لا يكره، لكن تركه أفضل وهذا هو الصحيح من المذهب.
" الإنصاف "(1/ 123)، والمغني (1/ 122).
* ويرى الحنفية أن الحلق سنة. " الفتاوى الهندية (5/ 357).
* ويرى الشافعية أن الحلق جائز، فقد ذكر النووي في " المجموع " (1/ 347) " أن الغزالي قال: لا بأس لمن أراد التنظيف، ولا بأس بتركه لمن أراد دهنه وترجيله ".
* ويرى المالكية في حلق الرأس لغير ضرورة شرعية قولان: الجواز والكراهة.
انظر: " كفاية الطالب الرباني "(2/ 366 - 367).
قلت: الراجح جواز حلق الرأس وتركه لحديث ابن عمر الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى صبيًا قد حلق بعض رأسه وترك بعضه فنهاهم عن ذلك. وقال: " احلقوا كله أو ذروا كله ".
أخرجه أحمد (2/ 88) وأبو داود رقم (4195) والنسائي (8/ 130 رقم 5048) وهو حديث صحيح.
ولحديث جعفر عبد الله بن جعفر الصحيح قد تقدم.
* (السؤال الثامن): حاصله عن أرض فيها آثار ملك متقادمة، ولا يد عليها في الحال، ولا يعرف مالكها، ولبعض الناس أوضاع شرعية تفيد أن له ملكًا فيها، ولكنه غير معين في جهة من جهاتها، فهل يجوز إحياؤها أم لا؟.
* أقول: إن الأرض التي فيها آثار ملك (1) لمالك غير معروف إن كانت في البلاد
(1) قال ابن قدامة في " المغني "(8/ 146) وجملته أن الموات قسمان:
أحدهما: ما لم يجر عليه ملك لأحد، ولم يوجد فيه أثر عمارة، فهذا يملك بالإحياء بغير خلاف بين القائلين بالإحياء.
الثاني: ما جرى عليه ملك مالك وهو ثلاثة أنواع:
أ/- ماله مالك معين وهو ضربان: صلى الله عليه وسلم
أحدهما: ما ملك بشراء أو عطية فهذا لا يملك بالإحياء بغير خلاف.
قال ابن عبد البر: أجمع العلماء على أن ما عرف يملك مالك غير منقطع أنه لا يجوز إحياؤه لأحد غير أربابه.
الثاني: ما ملك بالإحياء ثم ترك حتى دثر وعاد مواتًا فهو كالذي قبله سواء.
وقال مالك: يملك هذا لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: " من أحيا أرضًا ميتة فهي له " ولأن أصل هذه الأرض مباح فإذا تركت حتى تصير مواتًا عادت إلى الإباحة.
وقال ابن قدامة ولنا أن هذه أرض يعرف مالكها، فلم تملك بالإحياء، كالتي ملكت بشراء أو عطية، والخبر مقيد بغير المملوك، بقوله في الرواية الأخرى:" من أحيا أرضًا ميتة ليست لأحد " وقوله " في غير حق مسلم ". وهذا يوجب تقييد مطلق حديثه.
ب\- ما يوجد فيه آثار ملك قديم جاهلي. كآثار الروم ومساكن ثمود ونحوها، فهذا يملك بالإحياء لأن ذلك لا حرمة له.
وقد روي عن طاوس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " عادي الأرض لله ولرسوله، ثم هو بعد لكم " رواه سعيد بن منصور في سننه، وقال أبو عبيدة في الأموال - (ص 272). عادي الأرض: التي كان بها ساكن في آباد الدهر فانقرضوا، فلم يبق منهم أنيس وإنما نسبها إلى عاد، لأنهم كانوا مع تقدمهم ذوي قوة وبطش وآثار كثيرة فنسب كل أثر قديم إليهم، ويحتمل أن كل ما فيه أثر الملك، ولم يعلم زواله قبل الإسلام، أنه لا يملك، لأنه يحتمل أن المسلمين أخذوه عامرًا فاستحقوه، فصار موقوفًا بوقف عمر له، فلم يملك، كما لو علم مالكه.
ج\- ما جرى عليه الملك في الإسلام لمسلم، أو ذمي غير معين، فظاهر كلام الخرقي أنها لا تملك بالإحياء. وهي إحدى الروايتين عن أحمد. ولأن هذه الأرض لها مالك، فلم يجز إحياؤها: كما لو كان معينًا، فإن مالكها إن كان له ورثة فهي لهم، وإن لم يكن له ورثة، ورثها المسلمون والرواية الثانية أنها تملك بالإحياء. وهو مذهب أبي حنيفة ومالك لعموم الأخبار؛ ولأنها أرض موات، لا حق فيها لقوم بأعيانهم، أشبهت ما لم يجر عليه ملك مالك، ولأنها إن كانت في دار الإسلام فهي كلقطة دار الإسلام، وإن كانت في دار الكفر فهي كالركاز.
الإمامية فهي بيت مال يكون أمرها إلى الإمام، يجعلها لمصلحة من مصالح المسلمين، أو يبيعها، أو يؤجرها. وإن كانت في أرض غير إمامية كان أمرها إلى أصلح أهل تلك البلد، يجعلها في مصالح المسلمين على أي صفة من الصفات التي يعود نفعها على المسلمين، وإذا كان لآحاد الناس أوضاع صحيحة تفيد أنه يملك فيها مقدارًا معلومًا غير معين في جهة من جهاتها كان له ذلك المقدار في أوسط بقاعها الذي يكون متوسطًا بين أعلاها وأدناها إذا كانت مختلفة، فإن كانت متحدة كان للإمام أو الحاكم من جهته، أو حاكم الصلاحية أن يعين لصاحب الوضع ما اشتمل عليه وضعه في أي جهة من جهاتها، والمفروض أنه لا ثبوت يد عليها حتى يعارض الوضع الذي بيد المتمسك به، وإذا كانت تلك الأرض لقوم معروفين وهي منسوبة إليهم نسبة تفيد الملك فإن كان [15] نصيب كل واحد منهم معلومًا غير معين في جهة قسمت بينهم على قدر الأنصباء، وإن كان
النصيب مجهولاً قسمت بينهم على الرءوس مع عدم البرهان الشرعي بوجه من الوجوه.
* (السؤال التاسع): حاصله هل يجوز التأديب بالمال (1) إذا حصل من أحد الرعايا قتل أو نحوه أم لا يجوز؟ وإن كانوا لا يقومون في الغالب بما أوجبه الله عليهم من صلاة وصيام ونحوهما، وهي في أموالهم حق غير الزكاة؟.
* أقول: قد شرع الله لعباده الشرائع، وحد لهم الحدود، وجعل لكل ذنب عقوبة، فالقاتل يقتل أو يسلم الدية إن لم يكمل شروط القصاص، أو كملت ورضي الورثة بالدية، والجاني يقتص منه فيما يجب فيه القصاص، ويسلم الأرش في الجناية التي لا قصاص فيها، والزاني والسارق والقاذف والسكران قد جاءت الشريعة بعقوبات مقدرة في كل واحد منهم. وتارك أركان الإسلام أو بعضها إذا أصر على الترك، ولم يتب وجب قتاله (2) بحسب الطاقة، وهكذا جاءت الشريعة المطهرة بما يلزم كل من فعل محرمًا، أو ترك واجبًا. ولم يأت في شيء من هذه الأمور الشرعية التأديب بالمال، وإن ورد شيء من ذلك في الشريعة كتضعيف الغرامة في بعض المسائل، وأخذ شطر من لم يسلم الزكاة (3)، وأخذ ثياب من يقطع أشجار حرم المدينة (4)،
(1) جواز التأديب بالمال تقدم ذكره في الرسالة (130).
(2)
تقدم ذكره.
(3)
يشير إلى الحديث الذي أخرجه أحمد (5/ 4) وأبو داود رقم (1575) والنسائي (5/ 15، 16). عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " في كل إبل سائمة في كل أربعين ابنة لبون لا تفرق إبل عن حسابها، من أعطاها مؤتجرًا فله أجرها، ومن منعها فإنا آخذوها، وشطر إبله عزمة من عزمات ربنا تبارك وتعالى، لا يحل لآل محمد منها شيء ".
وهو حديث حسن.
(4)
يشير إلى الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه رقم (1364) وأحمد (1/ 168) من حديث سعد بن أبي وقاص: " أنه ركب إلى قصره بالعقيق فوجد عبدًا يقطع شجرًا أو يخبطه فسلبه، فلما رجع سعد جاءه أهل العبد فكلموه أن يرد على غلامهم أو عليهم ما أخذ من غلامهم فقال: معاذ الله أن أرد شيئًا نفلنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبى أن يرد عليهم ".
ونحو ذلك فهو مقصور على محله لا تجوز مجاوزته إلى غيره. وقد استوفيت الكلام على ذلك في رسالة مستقلة (1)[16]، وسردت فيها المواضع التي وردت، وأوضحت هنالك أن الأصل الأصيل المعلوم بالضرورة الدينية هو تحريم مال المسلم (2)، وعصمته، وعدم تسويغه إلا بطيبة من نفسه (3)، وأن تلك المواضع التي فيها التأديب بالمال كالمخصصة لهذا العموم، فيقتصر عليها. ولا تجوز مجاوزتها إلى غيرها، وأنه لا يجوز ذلك في هذه المواضع التي وردت إلا لأئمة المسلمين المتبحرين في معرفة أحكام الدين، ولا تجوز لأفرادهم كائنًا من كان.
ولا يشك عالم أن تلك المواضع اليسيرة واردة على خلاف الأصل في هذه الشريعة، فإن الأصل المعلوم بالضرورة هو ما ورد في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من العقوبات المقدرة للعصاة. وقد تهافت الظلمة في هذه المسألة تهافتًا شنيعًا، حتى عطلوا الحدود الواجبة، واستحلوا أموال المسلمين بغير حقها، فأخذوا ما حرم الله عليهم أخذه، وهو مال المسلم، وأهملوا ما أخذ الله عليهم القيام به، وهي الحدود الشرعية، فجمعوا بين خطيئتين شنيعتين هما استحلال أموال المسلمين وأكلها بالباطل، وتعطيل حدود الله التي شرعها لعباده، وأعانهم على ذلك علماء السوء فأفتوهم بما وجدوه في نصوص أهل العلم من الكلام على التأديب بالمال، فضلوا وأضلوا، وكانوا شركاءهم في المظلمة، مع أن نصوص أهل العلم مقيدة بقيود مشروطة بشروط، وكذلك الأدلة [17] الواردة في ذلك، فإنها في مواطن خاصة مباينة لما يفعله أهل الظلم، مبنية على
(1) رقم (130).
(2)
قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما} [النساء: 29].
(3)
قال صلى الله عليه وسلم " لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه " وهو حديث صحيح تقدم تخريجه.
مصالح عامة وخاصة، لا يقف على وجه الحكمة فيها إلا أفراد العلماء. وأما ما سأل عنه السائل من قوله:" هل في المال حق سوى الزكاة؟ ".
فأقول قد تكلم علماء التفسير والحديث والفقه في ذلك بكلام طويل، والراجح أن حديث:" ليس في المال حق سوى الزكاة "(1) عام مخصص بمثل وجوب الضيافة، وسد رمق محترم الدم كما وردت بذلك الأدلة الخاصة، وبمثل قوله تعالى:{وآتوا حقه يوم حصاده} (2)، وقوله [تعالى]{وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم} (3) ونحو ذلك مما وردت به الشريعة المطهرة، لا ما لم ترد به مما ابتدعه أهل الظلم، وجعلوه ذريعة إلى أكل أموال الناس بالباطل (4).
(1) أخرجه ابن ماجه رقم (1789) من حديث فاطمة بنت قيس.
وهو حديث ضعيف.
(2)
[الأنعام: 141].
(3)
[التوبة: 41].
(4)
وسؤال: هل في المال حق سوى الزكاة؟ فيه مذهبان:
الأول: أن الحق الوحيد في المال هو الزكاة، فمن أخرج زكاته فقد طهر ماله. وبرئت ذمته، ولا يطالب بعدها بشيء آخر. إلا ما تطوع به، رغبة في ثواب الله.
من أدلة هذا المذهب:
ما أخرجه البخاري (46) ومسلم رقم (8/ 11) ومالك (1/ 175 رقم94) وأحمد (1/ 162) وأبو داود رقم (391) والنسائي (1/ 226 - 227) من حديث طلحة بن عبيد الله قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل نجد ثائر الرأس، نسمع دوي صوته، ولا نفقه ما يقول حتى دنا، فإذ هو يسأل عن الإسلام فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:" خمس صلوات في اليوم والليلة " قال هل علي غيرهن؟ قال: لا إلا أن تطوع. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " وصيام شهر رمضان " قال: هل علي غيره؟ قال: لا إلا أن تطوع، قال: وذكر له رسول الله صلى الله عليه وسلم الزكاة، فقال: هل علي غيرها؟ قال: لا إلا أن تطوع، قال: فأدبر الرجل وهو يقول والله لا أزيد على هذا ولا أنقص منه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" أفلح الرجل إن صدق ".
وما أخرجه البخاري رقم (1397) ومسلم رقم (15/ 14) من حديث أبي هريرة أن أعرابيًا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله دلني على عمل إذا عملته دخلت الجنة، قال:" تعبد الله لا تشرك به شيئًا وتقيم الصلاة المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان " قال: والذي بيده لا أزيد على هذا شيئًا أبدًا، ولا أنقص منه، فلما ولى، قال النبي صلى الله عليه وسلم:" من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا ".
* في الحديث الأول أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم الرجل: أن لا شيء عليه غير الزكاة إلا أن يتطوع، وهو دليل ظاهر.
* وفي الحديثين أعلن الرجلان السائلان: أنهما لا يزيدان على الزكاة المفروضة شيئًا ورضى رسول الله صلى الله عليه وسلم منهما ذلك. بل أخبر أنهما من أهل الجنة، ولو كان في المال حق سوى الزكاة ما استحقا الجنة مع تركه.
المذهب الثاني: أن في المال حق سوى الزكاة.
ومن أدلة هذا المذهب:
الأول: قول الله تعالى: {ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون} [البقرة: 177].
* الشاهد في الآية أنها جعلت من أركان البر وعناصره إيتاء المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل
…
ثم عطف على ذلك إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، والعطف يقتضي المغايرة، فدل على أن ذلك الإيتاء غير إيتاء الزكاة.
الدليل الثاني: قول الله تعالى: {كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين} [الأنعام: 141].
* والشاهد في الآية. أن الحق المأمور به في الآية هو شيء غير الزكاة، لأن الآية مكية نزلت قبل فرض العشر في المدينة.
الدليل الثالث: أحاديث صحيحة في حقوق الإبل والبقر والغنم.
منها: ما أخرجه مسلم رقم (28/ 988) والنسائي (5/ 27 رقم 2454) عن جابر بن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما من صاحب إبل ولا بقر ولا غنم لا يؤدي حقها، إلا أظهر لها يوم القيامة بقاع قرقر. تطؤه ذات الظلف بظلفها، وتنطحه ذات القرن بقرنها، ليس فيها يومئذ جماء ولا مكسورة القرن. قلنا يا رسول الله: وما حقها؟ قال: إطراق فحلها وإعارة دلوها. ومنيحتها، وحلبها على الماء. وحمل عليها في سبيل الله
…
".
* ووجه الدلالة في هذا الحديث وأمثاله، أنها رتبت الوعيد على منع الحقوق المذكورة فدلت على أنها حقوق واجبة، وهي حقوق أخرى غير الزكاة.
الدليل الرابع: أحاديث صحيحة في إيجاب حق الضيف على المضيف.
(منها): ما أخرجه البخاري رقم (6135) ومسلم رقم (14/ 48) ومالك رقم (22) وابن ماجه رقم (3675).
عن أبي شريح الكعبي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته يوم وليلة، والضيافة ثلاثة أيام فما بعد ذلك فهو صدقة، ولا يحل له أن يثوي عنده حتى يخرجه ".
* دلالته: أن للضيف الطارق حقًا أكيدًا في حال أخيه المسلم الذي أضافه حتى إن الجماعة ليجب عليها معاونته ونصره حتى يأخذ هذا الحق المؤكد وهو حق غير الزكاة.
الدليل الخامس: ما جاء من الوعيد بشأن الذين يمنعون الماعون.
قال تعالى: {فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يراءون ويمنعون الماعون} [الماعون: 4 - 7].
الدليل السادس: النصوص الجمة التي أوجبت التعاون والتكامل بين المسلمين وفرضت إطعام المسكين والحض عليه.
منها: قوله تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} [المائدة: 2].
وقوله تعالى: {وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل} [الإسراء: 26].
وقوله تعالى: {وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم} [النساء: 36].
الشاهد في هذه الآيات وغيرها أن الله أوجب على الأغنياء حق المساكين وابن السبيل مع حق ذي القربى. وافترض الإحسان إلى الأبوين وذي القربى والمساكين والجار وما ملكت اليمين، والإحسان يقتضي كل ما ذكرنا، ومنعه إساءة بلا شك. وواضح أن هذا الحق شيء غير الزكاة.
* والذي نراه أن شقة الخلاف بينهما ليست بالسعة التي نتخيلها، فإن بينهما مواضع اتفاق لا شك فيها، ولا ينازع فيها أحد الطرفين:
(أ): فحق الوالدين في النفقة إذا احتاجا، وولدهما موسر، لا نزاع فيه.
(ب): وحق القريب لا نزاع فيه كذلك من حيث المبدأ، وإنما اختلفوا في درجة القرابة الموجبة للنفقة ما بين موسع ومضيق.
(ج): وحق المضطر إلى القوت، أو الكساء، أو المأوى، في أن يقات لا نزاع فيه.
(د): وحق جماعة المسلمين في دفع ما ينوبهم من النوازل العامة التي تنزل بهم، كصد خطر العدو واستنقاذ أسرى المسلمين من أيدي الكفار. ومقاومة الأوبئة والمجاعات ونحوها، وأن وجوب المساهمة في هذه النوازل موضع إجماع من علماء المسلمين.
" الاعتصام " للإمام الشاطبي (2/ 121).
يتضح لنا أن الذين صرحوا بأن لا حق في المال سوى الزكاة، إنما قصدوا نفي المكوس الجائرة التي يفرضها بعض الحكام، توسعة على أنفسهم وأتباعهم، تضيقًا على شعوبهم، وإن لم تدفع إلى ذلك حاجة، ولم تقتضه مصلحة عامة. وكأنما خشي هؤلاء العلماء أن يتخذ الحكام الظلمة قولهم ذريعة إلى فرض المكوس والضرائب المرهقة بغير حق فسدوا عليهم الباب، وقطعوا عليهم السبيل بقولهم لا حق في المال سوى الزكاة.
* ولكن هناك جملة مواضع اختلف فيها الطرفان اختلافًا حقيقيًا:
(أ): حق الزرع والثمر عند الحصاد، والراجح أن المراد به العشر ونصف العشر.
(ب): حق الضيف والراجح وجوب هذا الحق.
(ج): حقوق المواشي في الإبل والغنم والبقر
…
والراجح أنها حقوق واجبة غير الزكاة.
انظر " فقه الزكاة " للقرضاوي (1/ 344 - 348)، " نيل الأوطار " للشوكاني (8/ 157 - 158).
(د): حق الماعون. والراجح أنه واجب للوعيد الشديد الذي ذكره الله في كتابه.
وأخيرًا فيما تأويل الأحاديث الصحيحة التي يفيد ظاهرها أن لا حق في المال سوى الزكاة، إلا بتطوع المالك، وأن من زكاته فقد قضى ما عليه؟؟ يتضح لنا من تلك الأحاديث الصحيحة، أن الزكاة هي الحق الدوري المحدد الثابت في المال، والواجب على الأعيان بصفة دائمة، شكرًا لنعمة الله وتطهيرًا وتزكية للنفس والمال. وهو حق واجب الأداء. ولو لم يوجد فقير يستحق المواساة أو حاجة تستدعي المساهمة.
فالفرد المسلم المالك للنصاب في الظروف العادية لا يطالب بشيء في ماله غير الزكاة، فإذا أداها فقد قضى ما عليه، وأذهب عن نفسه شر ماله، وليس عليه شيء آخر، وتتغير بتغير العصور والبينات والملابسات.
وهي في الغالب لا تجب على الأعيان بل على الكفاية، إذا قام بها البعض سقط الحرج عن الباقين، وقد تتعين أحيانًا كأن يرى الشخص مضطرًا وهو قادر على دفع ضرورته فيجب عليه دفعها. أو يكون له جار جائع أو عريان وهو قادر على معونته، كما أن الغالب أن توكل هذه الحقوق إلى إيمان الأفراد وضمائرهم دون تدخل السلطة. إلا أن يرى حاكم مسلم أن يفرض بقوة القانون فرضًا ما أوجبه الإيمان إيجابًا وخاصة إذا كثرت حاجات الأفراد واتسعت نفقات الدولة وأعباؤها، فحينئذ لا بد من تدخل الدولة وإلزامها.
" فقه الزكاة " د. القرضاوي (2/ 961 - 992).
* (السؤال العاشر): عن العمائر المستحدثة في الحرم الشريف كالمقامات والمنارات، وكذلك التعلية في البيوت زيادة على الحاجة.
* أقول: عمارة المقامات بدعة بإجماع المسلمين، أحدثها أشر ملوك الشراكسة فرج ابن برقوق (1) في أوائل المائة التاسعة من الهجرة، وأنكر ذلك أهل العلم في ذلك العصر، ووضعوا فيه مؤلفات. وقد بينت ذلك في غير هذا الموضع (2). ويا لله العجب من بدعة يحدثها من هو من شرار ملوك المسلمين في خير بقاع الأرض،
(1) وهو فرج بن برقوق الجركسي الملقب بالناصر. ولد سنة 791 في وسط الفتنة " فتنة يلبغا الناصري ومنطاش فسماه أبوه بلفاق ثم سماه فرجا، فكان اسمه الحقيقي هو الأول.
واستفتوا العلماء فأفتوا بوجوب قتله لما كان يرتكبه من المحرمات والمظالم والفتك العظيم، فقتل في ليلة السبت سابع عشر من صفر سنة 815 هـ.
" الأعلام " للزركلي (5/ 140)، " الضوء اللامع "(6/ 168).
(2)
" البدر الطالع " رقم (369).
كيف لم يغضب لها من جاء بعده من الملوك المائلين إلى الخير (1)[18]، لا سيما وقد صارت هذه المقامات سببًا من أسباب تفريق الجماعات! وقد كان الصادق المصدوق ينهى عن الاختلاف والفرقة، ويرشد إلى الاجتماع والألفة كما في الأحاديث الصحيحة، بل نهى عن تفريق الجماعات في الصلوات.
وبالجملة فكل عاقل متشرع يعلم أنه قد حدث بسبب هذه المذاهب التي فرقت الإسلام فرقًا مفاسد أصيب بها الدين وأهله، وأن من أعظمها خطرًا وأشدها على الإسلام ما يقع الآن في الحرم من تفريق الجماعات، ووقوف كل طائفة في مقام من هذه المقامات، كأنهم أهل أديان مختلفة، وشرائع غير مؤتلفة، فإنا لله وإنا إليه راجعون (2).
[حكم رفع المنارة](3).
وأما رفع المنارات فأصل وضعها المقصد صالح، وهو إسماع البعيد عن محل الآذان، وهذه مصلحة مسوغة إذا لم تعارضها مفسدة، فإن عارضتها مفسدة من المفاسد المخالفة للشريعة فدفع المفاسد مقدم على جلب المصالح، كما تقرر في الأصول (4).
[حكم تشييد البنيان فوق الحاجة].
(1) تم إزالتها ولله الحمد.
(2)
قلنا والحمد لله قد تم إزالتها ولم يبق لها أثر.
(3)
قال الألباني في " الأجوبة النافعة "(ص18): "
…
، فالذي نجزم به أن المنارة المعروفة اليوم ليست من السنة في شيء غير أن المعنى المقصود منها. وهو التبليغ، أمر مشروع بلا ريب - فإذا كان التبليغ لا يحصل إلا بها، فهي حينئذ مشروعة لما تقرر في علم الأصول: أن ما لا يقوم الواجب إلا به فهو واجب. غير أن من رأيي أن وجود الآلات المكبرة للصوت اليوم يغني عن اتخاذ المأذنة كأداة للتبليغ، لا سيما وهي تكلف المبالغ الطائلة، فبناؤها والحالة هذه مع كونه بدعة - ووجود ما يغني عنه غير مشروع لما فيه من إسراف وتضييع للمال، ومما يدل دلالة قاطعة على أنها صارت اليوم عديمة الفائدة، أن المؤذنين لا يصعدون إليها البتة مستغنين عنها بمكبر الصوت ".
(4)
انظر " البحر المحيط "(6/ 76)، و" تيسير التحرير "(4/ 171).
وأما تشييد (1) البنيان ورفعه فوق حاجة الإنسان، فقد ورد النهي عنه (2)، والوعيد
(1)(منها) ما أخرجه البخاري في صحيحه رقم (5672) من حديث خباب مرفوعًا "
…
إن المسلم ليؤجر في كل شيء ينفقه، إلا في شيء يجعله في التراب ".
قال الحافظ في " الفتح "(11/ 62) وقد ورد في ذم تطويل البناء مطلقًا.
(منها): ما أخرجه الترمذي في " السنن " رقم (2483) عن حارثة بن مضرب قال أتينا خبابًا نعوده وقد اكتوى سبع كيات فقال: لقد تطاول مرضي ولولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لا تمنوا الموت لتمنيت " وقال: " يؤجر الرجل في نفقته كلها إلا التراب أو قال في البناء ".
قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
وهو حديث صحيح. والله أعلم.
(ومنها): ما أخرجه الطبراني في " الأوسط "(8/ 381 رقم 8939) بإسناد ضعيف من حديث أبي بشر الأنصاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا أراد الله بعبد هوانًا أنفق ماله في البنيان ".
وأورده الهيثمي في " المجمع "(4/ 69) وقال فيه من لم أعرفه.
(ومنها): ما أخرجه أبو داود رقم (5236) ورقم (5235) والترمذي رقم (2335) وابن ماجه رقم (4160) وابن حبان (2996، 2997) من طرق.
عن عبد الله بن عمرو قال: " مر بي النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أطين حائطًا فقال: الأمر أعجل من ذلك ".
وفي لفظ " مر علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نعالج خصًا لنا، فقال: ما هذا؟ فقلنا قد وهى فنحن نصلحه قال: ما أرى الأمر إلا أعجل من ذلك " وهو حديث صحيح.
* قال الحافظ في " الفتح "(11/ 93) بعد سرده هذه الأحاديث " وهذا كله محمول عن ما لا تمس الحاجة إليه مما لا بد منه للتوطن، وما يقي البرد والحر ".
وقد أخرج أبو داود في " السنن " رقم (5237): من حديث أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج، فرأى قبة مشرقة فقال:" ما هذه " قال له أصحابه: هذه لفلان رجل من الأنصار، قال: فسكت وحملها في نفسه حتى إذا جاء صاحبها رسول الله صلى الله عليه وسلم يسلم عليه في الناس أعرض عنه، صنع ذلك مرارًا، حتى عرف الرجل الغضب فيه والإعراض عنه، فشكا ذلك إلى أصحابه، فقال: والله إني لأنكر رسول الله، قالوا: خرج فرأى قبتك - قال: فرجع الرجل إلى قبته فهدمها حتى سواها بالأرض، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فلم يرها، قال:" ما فعلت القبة " قالوا: شكا إلينا صاحبها إعراضك عنه، فأخبرناه فهدمها فقال:" أما إن كل بناء وبال على صاحبه إلا مالا، إلا ما لا " يعني ما لا بد منه.
وهو حديث صحيح. انظر " الصحيحة " رقم (2830).
* قال الحافظ في " الفتح "(11/ 92 - 93): تعليقًا على ما أخرجه البخاري في صحيحه الباب رقم (53) قال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم " من أشراط الساعة إذا تطاول رعاة البهم في البنيان ".
وأشار بإيراد هذه القطعة إلى ذم التطاول في البنيان وفي الاستدلال بذلك نظر. ثم قال ابن حجر لم يتقدم للإثم في الخبر ذكر حتى يعترض به، وكلامه يوهم أن في البناء كله الإثم، وليس كذلك بل فيه تفصيل. وليس كل ما زاد منه عن الحاجة يستلزم الإثم، ولا شك أن في الغرس من الأجر من أجل ما يؤكل منه ما ليس في البناء، وإن كان في بعض البناء ما يحصل به النفع لغير الباني، فإنه يحصل للباني به التراب والله سبحانه وتعالى أعلم.
وقد أخرج البخاري حديث أبي هريرة موصولاً رقم (50): قال الحافظ في " الفتح "(1/ 123): قال القرطبي: " المقصود الإخبار عن تبدل الحال بأن يستولي أهل البادية على الأمر ويتملكوا البلاد بالقهر فتكثر أموالهم وتنصرف هممهم إلى تشييد البنيان والتفاخر به، وقد شاهدنا ذلك في هذه الأزمنة ".
(2)
(منها) ما أخرجه البخاري في صحيحه رقم (5672) من حديث خباب مرفوعًا "
…
إن المسلم ليؤجر في كل شيء ينفقه، إلا في شيء يجعله في التراب ".
قال الحافظ في " الفتح "(11/ 62) وقد ورد في ذم تطويل البناء مطلقًا.
(منها): ما أخرجه الترمذي في " السنن " رقم (2483) عن حارثة بن مضرب قال أتينا خبابًا نعوده وقد اكتوى سبع كيات فقال: لقد تطاول مرضي ولولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لا تمنوا الموت لتمنيت " وقال: " يؤجر الرجل في نفقته كلها إلا التراب أو قال في البناء ".
قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
وهو حديث صحيح. والله أعلم.
(ومنها): ما أخرجه الطبراني في " الأوسط "(8/ 381 رقم 8939) بإسناد ضعيف من حديث أبي بشر الأنصاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا أراد الله بعبد هوانًا أنفق ماله في البنيان ".
وأورده الهيثمي في " المجمع "(4/ 69) وقال فيه من لم أعرفه.
(ومنها): ما أخرجه أبو داود رقم (5236) ورقم (5235) والترمذي رقم (2335) وابن ماجه رقم (4160) وابن حبان (2996، 2997) من طرق.
عن عبد الله بن عمرو قال: " مر بي النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أطين حائطًا فقال: الأمر أعجل من ذلك ".
وفي لفظ " مر علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نعالج خصًا لنا، فقال: ما هذا؟ فقلنا قد وهى فنحن نصلحه قال: ما أرى الأمر إلا أعجل من ذلك " وهو حديث صحيح.
* قال الحافظ في " الفتح "(11/ 93) بعد سرده هذه الأحاديث " وهذا كله محمول عن ما لا تمس الحاجة إليه مما لا بد منه للتوطن، وما يقي البرد والحر ".
وقد أخرج أبو داود في " السنن " رقم (5237): من حديث أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج، فرأى قبة مشرقة فقال:" ما هذه " قال له أصحابه: هذه لفلان رجل من الأنصار، قال: فسكت وحملها في نفسه حتى إذا جاء صاحبها رسول الله صلى الله عليه وسلم يسلم عليه في الناس أعرض عنه، صنع ذلك مرارًا، حتى عرف الرجل الغضب فيه والإعراض عنه، فشكا ذلك إلى أصحابه، فقال: والله إني لأنكر رسول الله، قالوا: خرج فرأى قبتك - قال: فرجع الرجل إلى قبته فهدمها حتى سواها بالأرض، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فلم يرها، قال:" ما فعلت القبة " قالوا: شكا إلينا صاحبها إعراضك عنه، فأخبرناه فهدمها فقال:" أما إن كل بناء وبال على صاحبه إلا مالا، إلا ما لا " يعني ما لا بد منه.
وهو حديث صحيح. انظر " الصحيحة " رقم (2830).
* قال الحافظ في " الفتح "(11/ 92 - 93): تعليقًا على ما أخرجه البخاري في صحيحه الباب رقم (53) قال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم " من أشراط الساعة إذا تطاول رعاة البهم في البنيان ".
وأشار بإيراد هذه القطعة إلى ذم التطاول في البنيان وفي الاستدلال بذلك نظر. ثم قال ابن حجر لم يتقدم للإثم في الخبر ذكر حتى يعترض به، وكلامه يوهم أن في البناء كله الإثم، وليس كذلك بل فيه تفصيل. وليس كل ما زاد منه عن الحاجة يستلزم الإثم، ولا شك أن في الغرس من الأجر من أجل ما يؤكل منه ما ليس في البناء، وإن كان في بعض البناء ما يحصل به النفع لغير الباني، فإنه يحصل للباني به التراب والله سبحانه وتعالى أعلم.
وقد أخرج البخاري حديث أبي هريرة موصولاً رقم (50): قال الحافظ في " الفتح "(1/ 123): قال القرطبي: " المقصود الإخبار عن تبدل الحال بأن يستولي أهل البادية على الأمر ويتملكوا البلاد بالقهر فتكثر أموالهم وتنصرف هممهم إلى تشييد البنيان والتفاخر به، وقد شاهدنا ذلك في هذه الأزمنة ".
عليه. وثبت أنه صلى الله عليه وسلم أمر بهدم بعض الأبنية، وليس ذلك مجرد بدعة، بل خلاف ما أرشد إليه الشارع.
* (السؤال الحادي عشر): عن شجرة التنباك هل يجوز استعمالها على الصفة التي يستعملها كثير من الناس الآن أم لا؟. [19]
* أقول: الأصل الذي شهد له القرآن الكريم، والسنة المطهرة هو أن كل ما في الأرض حلال، ولا يحرم شيء من ذلك إلا بدليل خاص كالمسكر، والسم القاتل، وما فيه ضرر عاجل أو آجل كالتراب ونحوه، وما لم يرد فيه دليل خاص فهو حلال استصحابًا للبراءة الأصلية، وتمسكًا بالأدلة العامة كقوله تعالى:{هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا} (1)، {قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما} (2)، إلى آخر الآية.
(1)[البقرة: 29].
(2)
[الأنعام: 145]. وتتمتها {على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به} .
وهكذا الراجح عندي أن الأصل في جميع الحيوانات الحل، ولا يحرم شيء منها إلا بدليل يخصه، كذا الناب من السباع (1)، والمخلب من الطير، والكلب والخنزير (2)، وسائر ما ورد فيه دليل يدل على تحريمه.
إذا تقرر لك هذا علمت أن هذه الشجرة التي يسميها بعض الناس التنباك، وبعضهم (التتن) لم يأت فيها دليل يدل على تحريمها، وليست من جنس المسكرات، ولا من السموم، ولا من جنس ما يضر آجلاً أو عاجلاً، فمن زعم أنها حرام فعليه الدليل، ولا يفيد مجرد القال والقيل. وقد استدل بعض أهل العلم على حرمتها بقوله تعالى:{ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث} (3) وأدرج هذه الشجرة تحت الخبائث بمسلك من مسالك العلة المدونة في الأصول. وقد غلط في ذلك غلطًا بينًا؛ فإن كون هذه الشجرة [20] من الخبائث هو محل النزاع (4)، فالاستدلال بالآية الكريمة على ذلك فيه شوب
(1) اخرج مسلم في " صحيحه " رقم (16/ 1934) من حديث ابن عباس قال " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير ".
(2)
قال تعالى: {حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به} [المائدة: 3].
(3)
[الأعراف: 157].
(4)
وبما أن علماء الطب والتحليل تبين لهم أن الدخان مضر بالجسم الإنساني ويقضي على سعادة الإنسان وهنائه.
انظر: " التدخين بين المؤيدين والمعارضين " د. هاني عرموش (ص29 - 76).
قال ابن حزم في " المحلى "(6/ 111): " وأما أكل ما يستضر به من طين أو إكثار من الماء أو الخبز. فحرام
…
وأما أكل ما أضر فهو حرام
قال النووي في " روضة الطالبين "(3/ 281): كل ما ضر، كالزجاج، والحجر والسم يحرم
…
".
قال الشيخ محمود شلتوت في " الفتاوى "(ص354): ومن هنا نعلم أخذًا من معرفتنا الوثيقة بآثار التبغ السيئة في الصحة والمال، أنه مما يمقته الشرع ويكرهه. وحكم الإسلام على الشيء بالحرمة أو الكراهة لا يتوقف على وجود نص خاص بذلك الشيء، فعلل الأحكام، وقواعد التشريع العامة، قيمتها في معرفة الأحكام. وبهذه العلل وتلك القواعد كان الإسلام ذا أهلية قوية في إعطاء كل شيء يستحدثه الناس حكمه في حل أو حرمة، وذلك عن طريق معرفة الخصائص والآثار الغالبة للشيء، فحيث كان الضرر كان الخطر، وحيث خلص النفع أو غلب كانت الإباحة، وإذا استوى النفع والضرر كانت الوقاية خيرا من العلاج ".
انظر: " التدخين. مادته وحكمه في الإسلام " للشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين.
مصادرة على المطلوب، والاستخباث المذكور إن كان بالنسبة إلى من يستعملها ومن لا يستعملها فهو باطل، فإن من يستعملها هي عنده من الطيبات لا من المستخبثات، وإن كان بالنسبة إلى بعض هذا النوع الإنساني فقد وجد فيهم من يستخبث العسل، وهو من أطيب الطيبات.
وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأكل الضب (1)، وقال أجدني أعافه فأكله بعض الصحابة بمرأى ومسمع منه صلى الله عليه وسلم.
ومن أنصف من نفسه وجد كثيرًا من الأمور التي حللها الشارع من الحيوانات وغيرها، أو كانت حلالاً بالبراءة الأصلية، وعموم الأدلة في هذا النوع الإنساني من يستخبث بعضها، وفيهم من يستطيب ما يستخبثه غيره، فلو كان مجرد استخباث البعض مقتضيًا لتحريم ذلك الشيء عليه وعلى غيره لكان العسل ولحوم الإبل والبقر والدجاج من المحرمات، لأن في الناس من يستخبث ذلك ويعافه. واللازم باطل فالملزوم مثله، فتقرر بهذا الاستدلال على تحريم (2)(التتن) لكون البعض يستخبثه غلط، أو مغالطة.
(1) أخرجه البخاري رقم (5391) ومسلم رقم (44/ 1946) ومالك في الموطأ (2/ 968 رقم 10) وأبو داود رقم (3794) والنسائي (7/ 198 رقم 4317) وابن ماجه رقم (3241) من حديث ابن عباس.
(2)
تبعًا للآثار السيئة " للتدخين " على جهاز التنفس. وخاصة الرئة وما يسببه من سرطانات رئوية .. وقد أثبتت الدراسات أنه إصابة الجهاز التنفسي بالالتهابات القصبية والرئوية المزمنة تكثر عند المدخنين.
- وكذلك أثر التدخين على الجهاز العصبي تأثيرًا بالغًا يؤدي إلى إصابة المدخن بالصداع والدوار وضعف الذاكرة ووهن في النشاط الذهني.
وقد يصاب المدخن بمرض ضعف الأعصاب وربما يصاب بشلل الأعصاب الجزئي إذا كان من المفرطين جدًا في التدخين.
وذهب البعض إلى أن التدخين يؤدي إلى التهاب الأعصاب البصرية وتخفيف حدة الرؤيا.
- وأثر التدخين السيئ على الجهاز الهضمي. فقد ذهب الأطباء إلى أنه يسبب:
- اضطرابًا في الوظيفة الإفرازية للغدد الهاضمة.
- اضطراب الوظيفة الحركية للمعدة فتتأثر ويخف إفرازها بشكل عام كما تصاب بالوهن والضعف.
- يؤثر التدخين على الغدد اللعابية فيزيد إفرازها ويتغير تركيب اللعاب الكيميائي ..
- أثر التدخين السيئ على القلب والضغط الدموي. وقد يصاب المدخن بالاحتشاء (الجلطة) وقد يصاب المدخن بمرض تصلب الشرايين، ويؤدي إلى التهاب الشريان التاجي المغذي للقلب.
لذلك ولأثار كثيرة جدًا يكتشفها الأطباء .. لذلك حرم بعض العلماء المعاصرين التدخين. والله تعالى أعلم.
وقد انقضى الجواب على سؤالات السائل مع المبالغة [21] في الاختصار، ليسهل الانتفاع بذلك على طالب الفائدة، ولو بسطنا الجواب بعض البسط لجاء جواب بعض هذه الأسئلة على انفراده على كراريس، فما الظن بجميعها! والحمد لله أولاً وآخرًا وظاهرًا وباطنًا.
فرغ من تحريره المجيب محمد بن علي الشوكاني - غفر الله لهما - في ليلة الأحد لعلها ليلة العشرين من محرم سنة 1217 [22].