الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
48/ 2
بحث في قاذف الرجل
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب
وصف المخطوط:
1 -
عنوان الرسالة من المخطوط: بحث في قاذف الرجل.
2 -
موضوع الرسالة: " فقه ".
3 -
أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله.
وبعد: فإنه سألني بعض العلماء المبرزين عن البحث.
4 -
آخر الرسالة: ليس إلا هجيري أهل التقليد والقحة. انتهى.
فلدفع مثل هذا الخيال الواقع لصاحب السؤال لا برح في ألطاف ذي الجلال استعملنا في الجواب ما استعملنا، وفي هذا المقدار كفاية، والله ولي الهداية.
5 -
نوع الخط: خط نسخي معتاد.
6 -
عدد الصفحات: 11 صفحة ما عدا صفحة العنوان.
7 -
عدد الأسطر في الصفحة: 25 سطرًا.
8 -
عدد الكلمات في السطر: 9 كلمات.
9 -
الرسالة من المجلد الثاني من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله، وبعد: فإنه سألني بعض العلماء المبرزين عن البحث الذي أورده العلامة الحسن بن أحمد الجلال رحمه الله في ضوء النهار (1) أنه لا يحد قاذف الرجل، وإنما يختص وجوب الحد بقاذف المرأة، واستحسن السائل ذلك البحث ورجحه، وقال: لا عذر من المصير إليه، وهاأنا الآن أورد كلام الجلال، وأتكلم على ما فيه، ثم أورد ما يدل على ثبوت الحد على قاذف الرجل.
قال رحمه الله ما لفظه: وأما قاذف الرجل فلا تنتهض عليه الآية؛ لأن جمع المؤنث لا يطلق على جمع المذكر تغليبًا ولا غيره كما علم، وربما يدعى فيه الإجماع وفي نفسي منه شيء؛ لأن نقل الإجماع لا يصح.
أقول: ذكر أنه ربما يدعى فيه الإجماع ثم تخلص من صحة هذه الدعوى بكون في نفسه من ذلك شيء، ثم علل لما وجده في نفسه بأن نقل الإجماع لا يصح. ولا يخفاك أنه إذا لم يصح النقل للإجماع كما زعمه لم يبق حجة للناقل، سواء وقع في نفس المعترض على النقل ما ذكره من الشيء أم لم يقع، فإن كان المستند لدفع النقل هو مجرد وقوع شيء في نفسه فليس على الناقل من هذا الشيء شيء، ولا ينفق في سوق المناظرة وقوع الشك في نفس أحد المتناظرين، ولا يندفع به حجة الناقل للحجة، ولو كان مجرد الشكوك قادحًا في النقول التي تورد في مقام المناظرة لم يبق لمناظر حجة على خصمه، ولا يصفو له دليل؛ لأنه لا يعجز الآخر أن يقول: في نفسي من هذا شيء.
وإن كان المستند لدفع النقل هو عدم صحة النقل قائمًا فائدة لتوسيط قوله: وفي نفسي منه شيء. فإن دفع صحة النقل كاف سواء وقع في نفسه ذلك الشيء أم لا [1أ]،
(1)(4/ 2270).
ثم إذا كان الخصم قد نقل الإجماع فالمقام مقام أن تطلب منه صحة النقل لا مقام أن يقال له: هذا النقل لا يصح. فإن هذه مقابلة لدعوى بدعوى، ولا بد أن يقال: من أين لك أن هذا النقل غير صحيح؟ فإنه ليس على الناقل إلا مجرد تصحيح النقل، وعليك إبطال ما نقله بإيراد من قال بما يخالف ما نقله الناقل، فتقول مثلاً: قد قال فلان من العلماء بأنه لا يحد قاذف الرجل.
قال: ولا دليل بعده إلا العقل وهو القياس والنقل، ولا دليل فيهما. أما القياس فلأن شرع جلد القذف إنما كان لدفع النقيصة التي كانت تلحق العرب من جهة زنا النساء ولهذا كانوا يئدون البنات (1).
أقول: ما جزم به من أنه لا دليل بعده إلا العقل وهو القياس يتوقف على أن الاستحسان (2)، ........................................
(1) قال الأمير الصنعاني في " منحة الغفار حاشية ضوء النهار "(4/ 2270 - 2271):
قوله: إنما لدفع النقيصة، لا بد من الدليل على أن هذه علة شرعية على حد القذف، ولا دليل، بل قد يقال: النقيصة قد وقعت بنفس الرمي والجلد لا يدفعها، فلو قيل: أن العلة في شرعية حد القذف هي صيانة الأعراض؛ لأنه إذا علم من يريد الرمي أنه يجلد ترك ذلك كما في حكمة مشروعية القصاص فإنها حقن للدماء؛ لأنه إذا علم أنه إذا قتل ترك القتل كما أشار إليه قوله تعالى: {ولكم في القصاص حياة} لكان أولى والنساء والرجال في هذا سواء.
قوله: ولهذا كانوا يئدون البنات، قال الأمير الصنعاني تعليقًا على ذلك ما نصه:" أي كان العرب يقتلون البنات صغارًا لدفع نقيصة الرمي بالزنى سدًا للذريعة بقتلهن صغارًا؛ وفي كتب التفسير أن قتل العرب للبنات إما مخافة الإملاق أو لخوف العار الذي يلحق من أجلهن، ولا يخفى أن هذا الوأد للبنات إنما كان من بعض العرب خاصة وشرعية الجلد لكل من قذف محصنة من العرب كان أو العجم، وكأن الشارح يريد أن ذلك سبب النزول فلا يمنع عموم الحكم ".
انظر: " تفسير القرآن العظيم " لابن كثير (3/ 361 - 362).
(2)
الاستحسان: هو العدول بحكم المسألة عن نظائرها لدليل شرعي خاص، وهو مذهب أحمد. وقد تقدم.
" المسودة "(ص451).
حجية الاستحسان:
1 -
ذهب جمهور الحنفية والمالكية والحنابلة أنه دليل شرعي تثبت به الأحكام في مقابلة ما يوجبه القياس، أو عموم النص، وقد تعدت عباراتهم في تعريفه وفي بيان أنواعه.
2 -
ذهب الشافعي إلى أنه ليس بدليل شرعي، فقد قال الشافعي في الرسالة (ص503):" الاستحسان تلذذ، ولو جاز لأحد الاستحسان في الدين لجاز ذلك لأهل العقول من غير أهل العلم، ولجاز أن يشرع في الدين في كل باب وأن يخرج كل أحد لنفسه شرعًا ".
3 -
ذهب فريق من العلماء أنه دليل شرعي ولكنه ليس دليلاً مستقلاً بل هو راجع إلى الأدلة الشرعية الأخرى؛ لأن مآله عند التحقيق هو العمل بقياس ترجيح على قياس أو العمل بالعرف، أو المصلحة.
فقد قال الشوكاني في " إرشاد الفحول "(ص789) آخر البحث الرابع الاستحسان ما نصه: فعرفت بمجموع ما ذكرنا أن ذكر الاستحسان في بحث مستقل لا فائدة فيه أصلاً؛ لأنه إن كان راجعًا إلى الأدلة المتقدمة فهو تكرار، وإن كان خارجًا عنها فليس من الشرع في شيء بل هو من التقول على هذه الشريعة بما لم يكن فيها تارة وبما يضادها أخرى.
وانظر " تيسير التحرير "(4/ 78)، " اللمع "(ص68).
والتلازم (1)، وشرع من قبلنا (2) ليست أدلة، ثم قوله بعد ذلك: والنقل فيه شيء؛ لأن
(1) التلازم أربعة أقسام: لأن التلازم إنما يكون بين حكمين وكل واحد منهما إما مثبت أو منفي، وحاصله إذا كان تلازم تساو فثبوت كل يستلزم ثبوت الآخر ونفيه نفيه.
وإن كان مطلق اللزوم فثبوت الملزوم يستلزم ثبوت اللازم من غير عكس، ونفي اللازم يستلزم نفي الملزوم من غير عكس، وإذا كان بين الشيئين انفصال حقيقي فثبوت كل يستلزم نفي الآخر ونفيه ثبوته، وإن كان منع جمع فثبوت كل يستلزم نفي الآخر من غير عكس.
وخلاصة هذا البحث ترجع إلى الاستدلال بالأقيسة الاستثنائية والاقترانية.
قال الشوكاني في آخر البحث - التلازم -: والصواب أنه استدلال لا دليل ولا مجرد دعوى.
" الكوكب المنير "(4/ 397)، " الإحكام " للآمدي (4/ 125).
(2)
وهي الأحكام التي شرعها الله تعالى لمن سبقنا من الأمم، وأنزلها على أنبيائه ورسله لتبليغها لتلك الأمم.
" تيسير التحرير "(3/ 229)، " إرشاد الفحول "(ص779).
وهي على أربعة أنواع:
الأول: أحكام جاءت في القرآن أو في السنة، وقام الدليل في شريعتنا على أنها مفروضة علينا كما كانت مفروضة على من سبقنا من الأمم والأقوام، وهذا النوع من الأحكام لا خلاف في أنه شرع لنا، ومصدر شرعيته وحجيته بالنسبة إلينا هو نفس نصوص شريعتنا مثل فريضة الصيام، قال تعالى:{يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون} [البقرة: 183].
الثاني: أحكام قصها الله في قرآنه أو بينها الرسول صلى الله عليه وسلم في سننه، وقام الدليل من شريعتنا على نسخها في حقنا، أي أنها خاصة بالأمم السابقة، فهذا النوع لا خلاف في أنه غير مشروع في حقنا مثل ما جاء في قوله تعالى:{قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون} [الأنعام: 145 - 146].
دلالة الآية: ما حرم على بني إسرائيل لم يحرم علينا بل أحله لنا.
الثالث: أحكام نقلت إلينا من كتب أصحاب تلك الشرائع أو على ألسنة أتباعها، وهذا النوع لا يكون شرعًا لنا بلا خلاف بين العلماء، لما وقع في كتبهم من تغيير وتحريف، ولأن غير المسلم لا يوثق به في نقل شريعة المسلم إليه، بل لا يوثق به حتى في نقل ما هو شرع على ادعائه. قال تعالى:{وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون} .
الرابع: أحكام قصها الله في قرآنه أو بينها الرسول صلى الله عليه وسلم في سنته، ولم يقم دليل من سياق هذه النصوص على بقاء الحكم أو عدم بقائه بالنسبة لنا مثل قوله تعالى:{وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص} [المائدة: 45] فهذا النوع هو الذي وقع فيه الخلاف، واختلف في حجيته بالنسبة إلينا، والحق أن هذا الخلاف غير مهم في العمل.
لأننا نجد القائلين بأن شرع من قبلنا حجة يلزمنا العمل بها قلما يحتجون به في مسألة إلا ويقصدون احتجاجهم هذا بدليل آخر ثابت من شرعنا ومقبول لدى الجميع على وجه الإجمال.
كما أننا نجد القائلين بنفيه كثيرًا ما يستأنسون بنصوص تذكر أحكامًا وردت في شرع من قبلنا وإن كانوا لا يعتمدونها أصلاً في هذه المسألة.
" المسودة "(ص193 - 194) و" أصول مذهب الإمام أحمد "(ص541).
الإجماع هو من النقل، فكأنه قال لم يبق بعد الإجماع الذي هو من النقل إلا النقل، ثم قال: أما القياس فلأن شرع جلد القذف
…
إلخ.
أقول: تعليل مشروعية القذف بكونه لدفع النقيصة كما زعمه إن كان لنقل عن الشارع فما هو؟ وإن كان لنقل عن المتشرعين فباطل، فإنهم ما زالوا يجلدون قاذف الرجل كما يجلدون قاذف المرأة في أيام الصحابة فما بعدهم، وإن كان لمسلك من مسالك العلة المدونة في الأصول، فكيف تقريره حتى يتكلم عليه! وإن كان لنقل عن أهل الجاهلية فلا ينفعه ولا يضرنا؛ لأن كلامنا في الحد الثابت في الشرع لا فيما كان عليه أهل الجاهلية، فإنه لا شرع عندهم ولا حد، فليس مثل هذا الكلام يشبه كلام أهل العلم المتكلمين في الأحكام الشرعية فما لنا ولما كان يلحق العرب من جهة النساء، ثم لو قال قائل: إن حد القذف سبب مشروعيته حفظ الأعراض عن الشتم بهذه [1ب] المعصية كان ذلك أقرب مما جعله الغاية، سواء كان المسلك الذي سلكه هو تخريج المناط (1)، أو السبر (2) والتقسيم (3)، ومن زعم أنه إذا قيل للرجل المسلم: يا زاني لم يكن ذلك شتمًا، ولا يتأثر له المشتوم فقد أعظم الفرية على أهل الشرع.
قال: وأما الرجال فلم يكونوا يرون بأسًا، بل ربما كانوا يشببون أشعارهم به فجرًا كما قال رئيسهم امرؤ القيس:
فمثلك حبلى قد طرقت ومرضع
…
فألهيتها عن ذي تمائم محول (4)
(1) تقدم تعريفه.
(2)
تقدم تعريفه.
(3)
تقدم تعريفه.
(4)
وهو من قصيدة " قفا نبك " وهي معلقته المشهورة.
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
…
بسقط اللوى بين الدخول فحومل
" ديوان امرئ القيس "(ص113).
ومعناه: ذو تمائم محول: طفل لها رضيع له حول. ويروى أنه يقول لها منفقًا نفسه عندها: إن الحامل والمرضع لا تكادان ترغبان في الرجال، وهما يرغبان في لجمالي ومزاياي.
" حاشية الديوان "(ص113).
أقول: إن كان هؤلاء الذين كانوا لا يرون باسًا هم أهل الجاهلية فما لنا ولهم! فقد كانوا يرون أن القتل، ونهب الأموال، وشرب الخمر من أعظم المناقب، والتمادح بمثل هذه الأمور، والتفاخر بها في كلامهم نظمًا ونثرًا أكثر من الزنا، يعرف هذا كل من له علم بأحوالهم. ثم جاء الإسلام وجعل هذه الأمور التي كانوا يعدونها مناقب مثالب ومعاصي كبيرة، ومخازي عظيمة. وإن كان هؤلاء الذين كانوا لا يرون بالزنا بأسًا هم أهل الإسلام فهذا كذب بحت، وزور صراح، فأي فائدة تتعلق بمثل هذا الكلام الساقط! وأي مسلم من المسلمين لا يرى بقول من قال له: يا زاني بأسًا!.
قال: حتى إن معاوية بن أبي سفيان استلحق زيادًا (1) في الإسلام، ولم ير بنسبته الزنا
(1) قال الذهبي في " سير أعلام النبلاء "(3/ 494): زياد بن أبيه وهو زياد بن عبيد الثقفي وهو زياد ابن سمية وهي أمه، وهو زياد بن أبي سفيان الذي استلحقه معاوية بأنه أخوه. يكنى أبا المغيرة له إدراك، ولد عام الهجرة وأسلم زمن الصديق وهو مراهق وهو أخو أبي بكرة الثقفي الصحابي لأمه. ثم كان كاتبا لأبي موسى الأشعري زمن إمرته على البصرة.
* يقال: إن أبا سفيان أتى الطائف، فسكر، فطلب بغيًا، فواقع سمية وكانت مزوجة بعبيد، فولدت من جماعه زيادًا، فلما رآه معاوية من أفراد الدهر، استعطفه وادعاه، وقال: نزل من ظهر أبي.
قال الحافظ في " الفتح "(12/ 46): وكان كثير من الصحابة والتابعين ينكرون ذلك على معاوية محتجين بحديث: " الولد للفراش ".
وأخرج البخاري في صحيحه (12/ 46) في " الفرائض ": باب من ادعى إلى غير أبيه، من طريق مسدد، عن خالد بن عبيد الله الواسطي، عن خالد بن مهران الحذاء عن أبي عثمان النهدي، عن سعيد رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من ادعى إلى غير أبيه، وهو يعلم أنه غير أبيه، فالجنة عليه حرام " فذكرته (القائل أبو عثمان النهدي) لأبي بكرة، فقال: وأنا سمعته أذناي، ووعاه قلبي من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأخرجه مسلم رقم (63) من طريق عمرو الناقد، حدثنا هشيم بن بشير، أخبرنا خالد عن أبي عثمان، قال: لما ادعي زياد لقيت أبا بكرة، فقلت له: ما هذا الذي صنعتم؟ إني سمعت سعد بن أبي وقاص يقول: سمعت أذناي من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: " من ادعى أبًا في الإسلام غير أبيه، يعلم أنه غير أبيه، فالجنة عليه حرام " فقال أبو بكرة: وأنا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال الحافظ ابن حجر: " وإنما خص أبو عثمان النهدي أبا بكرة بالإنكار؛ لأن زيادًا كان أخاه من أمه ".
انظر: " شذرات الذهب "(1/ 59)، " التاريخ الكبير "(3/ 357)، " طبقات ابن سعد "(7/ 99).
إلى أبيه بأسًا وغير ذلك.
أقول: لا ينكر أحد من أهل العلم أن زنا أبي سفيان كان في أيام جاهليته (1) قبل أن يسلم، فإذا لم ير ابنه بأسًا بذلك الزنا فلكونه في الجاهلية، ومع هذا فقد نعى الناس على معاوية ما وقع منه، أما من جهة كونه مخالفًا للشرع فالأمر أشهر من ذاك.
وأما من جهة كونه لم يستنكف عن نسبة ذلك إلى أبيه فقد قيلت فيه الأشعار، ونعاه عليه قرابته فضلاً عن غيرهم، ومما قيل في ذلك من الأشعار قول يزيد [2أ] بن مفرغ (2)
(1) انظر التعليقة السابقة.
(2)
هو يزيد بن ربيعة بن مفرغ ولقب جده مفرغًا؛ لأنه راهن على سقاء لبن أن يشربه كله فشربه كله حتى فرغه فلقب مفرغًا. ويكنى أبا عثمان، وهو من حمير.
قالوا: إن ابن مفرغ هجا زيادًا وبني زياد بما هتكه في قبره، وفضح بنيه طول الدهر، وتعدى ذلك إلى أبي سفيان، فقذفه بالزنا وسب ولده.
وقال عمر بن شبة في خبره، جمع عباد بن زياد كل شيء هجاه به ابن مفرغ وكتب به إلى أخيه عبيد الله وهو يومئذ وافد على معاوية فكانت هذه الأبيات ضمن ما كتب.
فدخل عبيد الله بن زياد على معاوية فأنشده هذه الأشعار، واستأذنه في قتله فلم يأذن له وقال: أدبه أدبًا وجيعًا منكلاً، ولا تتجاوز ذلك إلى القتل.
" الأغاني "(18/ 265 - 266)، " الشعر والشعراء " لابن قتيبة (1/ 319).
حيث قال ناعيًا ذلك عليه:
ألا أبلغ معاوية بن حرب
…
مغلغلة من الرجل اليماني
أتغضب أن يقال أبوك عف
…
وترضى أن يقال أبوك زاني
فأشهد إن رحمك من زياد
…
كرحم الفيل من ولد الأتاني
وكانت هذه القضية من فواقر الإسلام، ولم يفعل غير معاوية من المسلمين كفعله، لا من قبله ولا من بعده، فلا أدري ما معنى قوله: وغير ذلك، فإن أراد ما يصف به أهل الفجور أنفسهم من الإقدام على معصية الزنا فليس مجرد نسبة العاصي إلى نفسه شيئًا من المعاصي يفيد أنه لا يرى غيره من أهل الإسلام بأسًا بنسبة ذلك إليه، هذا يعلمه كل عاقل فضلاً عن عالم. وقد نسب الفساق إلى أنفسهم ما هو أشد من ذلك كاللواط منهم وبهم وغير ذلك مما لا يرضى بنسبته إليه أقل أهل الإسلام دينًا، وأوضعهم نسبًا، وأضعفهم حسبًا.
قال: وذلك فارق يمنع قياس الرجل على المرأة.
أقول: قد عرفت أنه لم يأت بشيء يصلح للفرق بين الأصل والفرع، وهذا قياس لا مطعن فيه، ولا يرد عليه شيء من الاعتراضات المعتبرة عند أهل الأصول. وقد عمل عليه في إثبات الحد على قاذف الرجل المسلمون أجمعون كما عملوا على القياس في تنصيف الجلد الوارد في قوله تعالى:{فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب} (1).
قال: وأما النقل فليس فيه إلا ما يتوهم أن الذين آمنوا في قوله تعالى: {إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا} (2) يشمل الرجال، ولا ينتهض دليلاً [2ب]؛ لأن شيوعها فيهم عبارة عن لحوق عارها لهم، وعار زنا المرأة لاحق لرجالها ضرورة عرفية.
(1)[النساء: 25].
(2)
[النور: 19].
أقول: إن كان الاعتبار في مثل هذه الآية بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فالفاحشة عامة، والذين آمنوا عام، ومقتضى ذلك أن من أحب أن تشيع أي فاحشة في أي مؤمن فهو كما قال الله - سبحانه - من غير فرق بين فاحشة الزنا وغيرها، فما معنى قوله: لا ينتهض ذلك دليلاً! معللاً ذلك بأن شيوعها فيهم عبارة عن لحوق عارها لهم، وعار زنا المرأة لاحق برجالها ضرورة عرفية. فهب أن عار زنا المرأة لاحق برجالها فكان ماذا؟ هل هذا اللحوق ينفي لحوق غير ما هو من جهة النساء بهم، وهل يقول بمثل هذا عالم، ويورده في مقامات الكلام على كتاب الله - سبحانه - ويتكل في تخصيصه بمثل هذا الخيال الباطل رأيًا، ورواية، وقرآنًا، وإجماعًا! فانظر كيف وقع رحمه الله بهذا الكلام في بلية أشد مما فر منه، بينما هو يدعي أن الزنا لا يرى به الرجال إذا نسب إليهم بأسًا، إذ جاوز ذلك إلى أن كل فاحشة كذلك، زاعمًا أنه يلحق الرجال العار بما يقع من النساء من الفواحش، ذاهلاً عن كون تسليم هذا الزعم لا ينفي لحوق غير ما كان من طريق النساء بهم، لا عقلاً، ولا شرعًا، ولا عادة. ولا يدل على ما أراده بوجه من وجوه الدلالات.
ولقد أوقع رحمه الله نفسه في مضيق وليس العجب منه فقد يقع للعالم مثل هذا الكلام الساقط، وكل أحد يؤخذ من قوله ويترك، إنما العجب ممن يستحسن مثل هذا الكلام ويقول: إنه لا محيص منه، وأنه يلزم الناس العمل عليه إذا أنصفوا.
قال: وأما حد عمر لنفيع أبي بكرة وأخيه نافع، وشبل بن معبد حين نكل [3أ] زياد عن الشهادة معهم على زنا المغيرة بأم جميل بنت محجن زوجة الحجاج بن عبيد حين أفهمه عمر رغبته في ستره كما ثبت ذلك عند الحاكم في المستدرك (1)، والبيهقي (2)، وأبي .............................
(1) عزاه إليه ابن حجر في " التلخيص "(4/ 117).
(2)
في " السنن الكبرى "(8/ 234) و (10/ 147).
نعيم (1)، وأبي موسى في الذيل (2)، والبلاذري (3)، وعبد الرازق (4)، فقصة مظلمة.
أقول: القصة متواترة لم يخالف في صحتها وتواترها أحد من أهل الشرع، وهي غالب كتب السير (5) والتاريخ (6)، فما يعني بقوله: مظلمة؟ فإن هذا رد مظلم، ومراوغة ظاهرة، وإيهام على المقصرين بما لا يهتدون إليه، ثم ما معنى قوله: حين أفهمه عمر رغبته في ستره، فصان الله عمر أن يوهم شاهدًا في حد من حدود الله بما يثنيه عن الشهادة، وهل يجترئ على مثل عمر بن الخطاب بمثل هذا الكلام منصف! فقد علم كل عالم أنه لما شهد الأول قال عمر: اذهب مغيرة ذهب ربعك، ولما شهد الثاني قال: اذهب مغيرة ذهب نصفك، ولما شهد الثالث قال: اذهب مغيرة ذهب ثلاثة أرباعك. فهل هذا كلام من يريد إبطال حد من حدود الله حتى يفهم بعض شهوده أنه راغب في إبطاله؟ ولعمري إن هذه العبارة تتضوع منها رائحة، وينبض عندها عرق. ولعل صاحب البحث رحمه الله ذكر عهودًا بالحمى فحن إليها.
وحبب أوطان الرجال إليهم
…
مآرب قضاها الشباب هنالك
إذا ذكرت أوطانهم ذكرتهم
…
عهود الصبا فيها فحنوا لذلكا
وأما ما روي (7) من قول عمر - لما رأى زيادًا مقبلاً -: هذا رجل لا يشهد إلا بحق وفي رواية (8) إني لأرى رجلاً لا يشهد إلا بحق، فليس هذا من إفهام الشاهد الرغوب
(1) في المعرفة كما ذكره ابن حجر في " التلخيص "(4/ 117).
(2)
عزاه إليه ابن حجر في " التلخيص "(4/ 117).
(3)
في " فتوح البلدان "(2/ 423 - 424).
(4)
في مصنفه (8/ 362 رقم 15549).
(5)
" سير أعلام النبلاء "(3/ 27).
(6)
" تاريخ ابن عساكر "(17/ 38).
وانظر: " المغني "(12/ 367). " المحلى "(11/ 259).
(7)
انظر المصادر السابقة.
(8)
انظر المصادر السابقة.
في نكوله عن الشهادة، بل ولا هو من التعريض له كما زعمه بعض أهل الفقه.
ثم ما معنى ما وصفه من نكول زياد عن الشهادة، فإنه قد شهد بما رآه، ووصف وصفًا يحكي به الهيئة التي شهد عليها [3ب]، وقال كما في بعض الروايات (1) رأيت نفسًا يعلو، واستًا تنبو، ورجلين من ورائه كأنهما رجلا حمار. وفي روايات آخرة: قال بما هو أدق وصفًا من هذا، ولكنه لم يشهد على أنه رأى ذكره في فرجها كالمرود في المكحلة، والرشاء في البئر. ولقد كان المغيرة يقول للشهود الأولين عند أن ذكروا أنهم رأوه كالمرود في المكحلة: لقد ألطفتم النظر ولو كنتم بيني وبينها لما أدركتم أين ذاك مني من ذاك منها. ونعم لعمري لقد ألطفوا النظر إلى حد لا يقدر عليه من هو عند المجامع في مكان الجماع، فكيف بمن أشرف من داره إلى دار جاره فكشفت الريح عن سترة ظهر خلفها رجل قاعد بين شعب امرأة يجهدها فهل يدرك مثل هذا المرود في المكحلة، ويشهد على ذلك! فلا معنى لما ذكره من نكول زياد عن الشهادة كما لا معنى لما ذكره من رغبة عمر.
نعم مجرد الرغبة في ستر من أتى شيئًا من هذه القاذورات قد ورد في الشرع، ولكن الشأن في رغبة بعد الرفع إلى الإمام تقتضي نكول الشاهد عن شهادته، فليس هذا من الرغبة في مطلق الستر، ولا من الميل إلى درء الحدود بالشبهات.
قال: حتى روي (2) أن عليًا قال: إن حددتهم فارجم المغيرة، وفي رواية: فأعط صاحبك حجارة. ولا وجه لترتيبه رجم المغيرة على حد الثلاثة.
أقول: هذا الكلام من النمط الذي قبله. إما خبط ومجازفة، أو مغالطة ومراوغة، فإن عليًا إنما قال هذه المقالة عند أن أراد عمر أن يجلد أبا بكرة لما قال بعد جلده قولاً يدل على رمي المغيرة بالزنا فقال له علي: إن جلدته يعني جلدًا ثانيًا فارجم المغيرة، لأن
(1) تقدم ذكره. وانظر موسوعة فقه عمر بن الخطاب (ص478).
(2)
انظر " المحلى "(11/ 259 - 260).
هذا القذف الواقع بعد الجلد إن كان موجبًا لتكرير الجلد فالقاذف بمنزلة شاهد رابع، ومن شهد عليه أربعة على الصفة المعتبرة يحد، هذا هو الوارد في القصة، ولم يثبت غيره فلم يخالف علي عمر في استحقاق الثلاثة للجلد، وأنهم قذفة، إنما خالفه فيما أراده [4أ] من تكرير جلد أبي بكرة. والأمر واضح لا يخفى، والقصة موجودة في كتب (1) السير والتاريخ والحديث، فمن شك في هذا رجع إليها.
قال (2) ثم في ذلك دلالة على أن حدهم ليس بمجمع عليه كما قيل إنه بمحضر من الصحابة، ولم ينكر فكان إجماعًا، كيف يكون إجماعًا مع خلاف علي!.
أقول: هذا مبني على صحة ما زعمه من مخالفة علي لعمر. وقد عرفت أنه وافقه ولم يخالفه إلا في شيء آخر غير أصل حد القاذف (3) إذا كان المقذوف رجلاً وهو تكرير جلد القاذف إذا تكلم بشيء من القذف بعد جلده، وكان المقذوف واحدًا. وقد وافقه على هذا عمر فاتفقا على أصل جلد القاذف للرجل، كما اتفقا على عدم تكرير جلد القاذف لرجل واحد، فلا خلاف يقدح فيما ذكره من الإجماع.
قال: ولو سلم فغايته إجماع سكوتي (4)، ولا ينتهض السكوتي حجة، لأن عمر كان مهيبًا منفذًا لرأيه، ويعد من الغريب الملغي، ومن شروط الاحتجاج بالإجماع السكوتي
(1) تقدم ذكره.
(2)
أي السائل.
(3)
قال ابن قدامة في " المغني "(12/ 367): وإذا لم تكمل شهود الزنى فعليهم الحد في قول أكثر أهل العلم، منهم مالك، والشافعي، وأصحاب الرأي ثم قال ولنا:{والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة} [النور: 4] وهذا يوجب الجلد على كل رام لم يشهد بما قال أربعة، ولأنه إجماع الصحابة، ثم ذكر قصة جلد عمر لأبي بكرة وأصحابه.
وقال البخاري في صحيحه باب شهادة القاذف والسارق والزاني
وجلد عمر أبا بكرة وشبل بن معبد ونافعًا بقذف المغيرة
…
".
" فتح الباري "(5/ 255 - 256).
(4)
تقدم تعريفه.
أن لا يكون لمانع من الإنكار كما علم في الأصول.
أقول: لا ينبغي لمؤمن يؤمن بالله (واليوم الآخر)، ويعرف ما عظمه الله ورسوله من حق الصحابة أن يقول بمثل هذه المقالة، أو يظن بالصحابة رضي الله عنهم أنهم يكتمون ما عندهم من العلم هيبة لعمر أو غيره، فقد كانوا يراجعونه ويدفعون كثيرًا من أقواله، ويقبل ذلك ولا يغضب ولا ينكره، بل ردت عليه امرأة لما أراد تقدير المهر بقدر لا يثقل على الناس فقالت له: إن الله يقول: {وآتيتم إحداهن قنطارا} (1)، فقال:" كل الناس أعلم من عمر حتى النساء في خدورهن "(2)، ومراجعته (3) هو وجماعة من الصحابة مدونة في كتب الحديث والسير يعرفها كل أحد [4ب].
ثم قد قدم قريبًا ما وقع من علي من الاعتراض على عمر، وهو ينقض عليه ما ذكره هنا، فإن الرجل الذي اعترض عليه علي فيما تقدم هو هذا المهيب الذي لا يستطيع أحد الإنكار عليه. وأما ما يروى عن ابن عباس أنه قال لما قال له قائل: لم لم تظهر قولك في العول في أيام عمر؟ فقال: كان رجلاً مهيبًا فهبته، فينبغي النظر في صحة هذه الرواية (4)،
(1)[النساء: 20].
(2)
أخرجه البيهقي في " السنن الكبرى "(7/ 233) وسعيد بن منصور في سننه (1/ 166 - 167) وعبد الرازق في مصنفه (6/ 180) عن عمر رضي الله عنه أنه قال: خرجت وأنا أريد أن أنهى عن كثرة الصداق فذكرت هذه الآية {وآتيتم إحداهن قنطارا} .
وأخرجه عبد الرازق في مصنفه رقم (10420) عن عمر أنه قال: لا تغالوا في مهر النساء، فقالت امرأة: ليس ذلك لك يا عمر، إن الله تعالى يقول:{وآتيتم إحداهن قنطارا من ذهب} - كما في قراءة ابن مسعود - فقال عمر: خاصمت عمر فخصمته.
وانظر: تخريج الحديث في " نيل الأوطار "(4/ 243).
(3)
تقدم ذكره.
(4)
روي عن ابن عباس، أنه قال، في زوج، وأخت وأم: من شاء باهلته أن المسائل لا تعول، إن الذي أحصى رمل عالج عددًا أعدل من أن يجعل في مال نصفًا، ونصفًا وثلثًا هذان نصفان ذهبا بالمال، فأين موضع الثلث؟ فسميت هذه مسألة المباهلة لذلك، وهي أول مسألة عائلة حدثت في زمن عمر رضي الله عنه، فجمع الصحابة للمشورة فيها، فقال العباس: أرى أن تقسم المال بينهم على قدر سهامهم فأخذ به عمر رضي الله عنه واتبعه الناس على ذلك، حتى خالفهم ابن عباس، فروى الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، قال: لقيت زفر بن أوس البصري، فقال: نمضي إلى عبد الله بن عباس، نتحدث عنده، فأتيناه فتحدثنا عنده، فكان حديثه، أنه قال: سبحان الله الذي أحصى رمل عالج عددًا، ثم يجعل في مال نصفًا، ونصفًا وثلثًا، ذهب النصفان بالمال، فأين موضع الثلث! وأيم الله، لو قدموا ما قدم الله، وأخروا من أخر الله، ما عالت فريضة أبدًا، فقال زفر: فمن الذي قدمه الله ومن الذي أخره الله؟ فقال: الذي أهبطه من فرض إلى فرض، فذلك الذي قدمه الله، والذي أهبطه من فرض إلى ما بقي، فذلك الذي أخره الله. فقال زفر: فمن أول من أعال الفرائض؟ قال: عمر بن الخطاب. فقلت: ألا أشرت عليه، فقال: هبته، وكان امرءًا مهيبًا.
أخرجه البيهقي في " السنن الكبرى "(6/ 253) وسعيد بن منصور في سننه (1/ 44).
انظر: " المغني "(9/ 29 - 30).
وعلى فرض أنه يهابه مثل ابن عباس في إبان شبابه، وأوان حداثته فلا يستلزم ذلك أن يهابه كبار الصحابة، وقد كان يقول: لا أبقاني الله في معضلة ليس فيها أبو الحسن. وقال: لولا علي لهلك عمر. حين اعترض عليه لما أراد رجم الحامل (1).
قال: نعم هو كالرمي بسائر المعاصي، فيه التعزيز لا الحد كما سيأتي.
أقول: قد عرفت اختلال ما رتب عليه هذا الكلام فلا حاجة لإعادة ما قدمنا، وما أدري بعد هذا الجزم منه في أنه لا يجلد قاذف الذكر. ما يقول فيما رمى رجلاً بأنه يلوط أو يلاط به، هل يقول بأنه يحد من قذفه بذلك؟ فإن قال: فلم يتم له ما نفاه نفيًا عامًا، أو يقول: إن اللواط من الرجل وبه، وكان مما تتمادح به العرب ويتفاخرون به، ولا يعدونه عيبًا، ولا يرون به بأسًا، فيكون قد ألصق بالعرب ما هم عنه براء، ونسب إليهم ما لا يوافقه عليه أحد من أهل العلم، أو يقول: إن حد القذف مختص برمي النساء بالزنا، وأن قاذف الرجل باللواط لا يصدق عليه مسمى القذف، فقد ناقض ما ذكره
(1) أخرجه عبد الرازق في " مصنفه "(7/ 350) والبيهقي في " السنن الكبرى "(6/ 442) وانظر " موسوعة فقه عمر بن الخطاب "(ص479).
من أن شرع حد القذف إنما كان لدفع النقيصة، ودفع العار، ولا عار ولا نقيصة [5أ] أبلغ من عار اللواط ونقيصته عقلاً وشرعًا وعادة، مع كونه يصدق عليه أنه زنا لغة وشرعًا وعرفًا.
وإذا تقرر لك ما قدمناه علمت أنه قد دل على إثبات الجلد على قاذف الرجل القرآن الكريم، وهو قوله تعالى: {والذين يرمون المحصنات
…
} الآية. وإنما خص المحصنات لأن الغالب أن يكون القاذف لهن لكونهن أسرع إلى الوقوع في المعصية، وهن أصل الفتنة ومنشأ البلية، وهذا وجه للتغليب، ثم لو سلمنا اختصاص هذه الصيغة بالنساء، وأنه لا وجه للتغليب لكان القياس الصحيح السالم عن المطاعن، والاعتراض الجامع للأركان دليلاً كافيًا. ثم إجماع الأمة سلفها وخلفها في كل عصر بعد إجماع الصحابة، ووقوع ذلك من الخلفاء الراشدين الذين هم أهل الشرع، ومن أهل اللغة، فإن كان المبحث لغويًا فهم من أهل اللغة، وإن كان شرعيًا فهم من أهل الشرع، فعلى كل حال هم أعرف بمقاصد القرآن، ومعاني الشريعة، وقد قال فيهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم- فيما أخرجه أهل السنن وغيرهم:" عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين الهادين عضوا عليها بالنواجذ "(1) فإن هذا النص النبوي مشعر بصلاحية ما وقع من الخلفاء الراشدين للحجية على فرض عدم وجود ما يدل عليه في الشريعة، لا إذا وقع مخالفًا لما هو ثابت فيها.
ثم قد ثبت عند أحمد (2)، وأبي داود (3)، وغيرهما (4) في قصة الملاعنة أن من رماها أو
(1) تقدم تخريجه وهو حديث صحيح.
(2)
في " المسند "(1/ 238 - 239).
(3)
في " السنن " رقم (2256).
(4)
كأبي داود الطيالسي في مسنده (1/ 319 - 320 رقم 1620 - منحة المعبود). والبيهقي في " السنن الكبرى "(7/ 394 - 395) من حديث ابن عباس. وهو حديث صحيح.
رمى ولدها فعليه الحد. ورمي الولد هاهنا مطلق لم يقيد بكون الرمي له [5ب] هو الرمي لأمه، ثم قد ثبت في الصحيحين (1) وغيرهما (2) من حديث أبي هريرة قال: سمعت أبا القاسم صلى الله عليه وآله وسلم يقول: " من قذف مملوكه يقام عليه الحد يوم القيامة إلا أن يكون كما قال " فهذا فيه التصريح بثبوت حد السيد إذا قذف مملوكه، وإنما كان مؤخرًا إلى يوم القيامة (3) لأنه لا يثبت للعبد ذلك في الدنيا، فهو يدل أبلغ
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (6858) ومسلم رقم (37/ 1660).
(2)
كأحمد (2/ 431) وأبو داود رقم (5165) والترمذي رقم (1940).
قال ابن حجر في " الفتح "(12/ 181): تضمنت الآية الأولى بيان حد القذف: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون} .
والثانية بيان كونه من الكبائر بناء على أن كل ما توعد عليه باللعن أو العذاب أو شرع فيه حد فهو كبيرة وهو المعتمد.
{إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم} وبذلك يطابق الحديث الآيتين المذكورتين، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اجتنبوا السبع الموبقات " قالوا: يا رسول الله وما هن؟ قال: " الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات ".
ثم قال ابن حجر: وقد انعقد الإجماع على أن حكم قذف المحصن من الرجال حكم قذف المحصنة من النساء.
(3)
"
…
وإنما خص ذلك بالآخرة تمييزًا للأحرار من المملوكين، فأما في الآخرة فإن ملكهم يزول عنهم ويتكافئون في الحدود، ويقتص لكل منهم إلا أن يعفو، ولا مفاضلة حينئذ إلا بالتقوى .. ".
" فتح الباري "(12/ 185).
* والقذف: هو الرمي بالزنى، وهو محرم بإجماع الأمة، والأصل في تحريمه الكتاب والسنة.
أما الكتاب فقوله تعالى: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون} [النور: 4].
وقال سبحانه وتعالى: {إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم} [النور: 23].
وأما السنة: فقول النبي صلى الله عليه وسلم: " اجتنبوا السبع الموبقات " قالوا: وما هن يا رسول الله؟ قال: " الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات ". متفق عليه.
ثم قال ابن قدامة في " المغني "(12/ 384) وأجمع العلماء على وجوب الحد على من قذف المحصن إذا كان مكلفًا.
دلالة، ويفيد أعظم إفادة أن قاذف الرجل الحر يثبت عليه الحد في الدنيا.
وبالجملة فهذه المسألة التي حررها الجلال رحمه الله بهذا التحرير الذي أوضحنا ما فيه هي من جملة ما أغرب به من الاجتهادات، وهو إمام من أئمة المسلمين، ومحقق من محققيهم، ونحرير من نحاريرهم، وكل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا المعصوم، وكفى المرء نبلاً أن تعد معايبه، وإنما استعملنا بعض الخشونة فيما كتبناه هاهنا لتصريح السائل - كثر الله فوائده - بأن ما تكلم به هذا الإمام في هذا البحث هو الحق، حتى قال في آخر سؤاله ما لفظه: ووقع في خيالي إنه كلام بمحل من الانتظام والصحة، وإن عدم قبوله ليس إلا هجيري أهل التقليد والقحة. انتهى.
فلدفع مثل هذا الخيال الواقع لصاحب السؤال - لا برح في ألطاف ذي الجلال - استعملنا في الجواب ما استعملنا.
وفي هذا المقدار كفاية، والله ولي الهداية [6أ].