الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يزيد على ذلك مستقبلًا، وأصبح هؤلاء الحجاج والقائمون على العناية بأمورهم وترتيب أحوالهم إذا طبقوا هذه السنة وهي المبيت ليلة التاسع بمنى والانصراف أو الدفع من منى إلى عرفات بعد طلوع الشمس من يوم عرفة، يجدون مشقة وعسرًا شديدًا، وبعض الحملات ربما لا يصلون إلى عرفات إلَّا في حدود الساعة الثانية أو الثالثة أو حتى الرابعة ظهرًا أو بعد العصر، فما يصل الحجاج إلى عرفات إلَّا وهم في حالة من التعب شديدةٍ، ثم إذا وصلوا عرفات وجاء وقت الدعاء والتضرُّع الذي هو أعظم المواقف التي يقول فيها النبي صلى الله عليه وسلم:"خَيْرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ"(1)، إذا بهذا الحاج في قمة الإنهاك والتعب والمشقة، وإذا هو يبحث عن الراحة، ولو أنه جاهد نفسه ودعا فإنه لا يكون في حالة من الإقبال على الله سبحانه وتعالى، واستحضار التضرع والخشوع والإنابة إلى الله عز وجل، والطمع فيما عنده، فمن أجل ذلك يرى بعض أهل العلم أن الأولى لهم أن يتركوا المبيت بمنى ليلة التاسع؛ من أجل أن يحصلوا على أعظم مقاصد الحج وهو الإقبال والدعاء والتضرع والإخبات إلى الله سبحانه وتعالى، في يوم عرفة.
والذي يظهر لنا أن الأمر يختلف حسب قدرة الحجاج وتيسُّر وصولهم إلى عرفات، ونحن نشاهد كثيرًا من الحجاج يصلون في زمن قياسي إلى عرفات ولا يأخذون في الطريق من منى إلى عرفات إلَّا في حدود الساعة فقط.
الإفاضة من عرفات قبل غروب الشمس لمن وقف نهارًا:
قال أهل العلم: إذا خرج الحاج قبل غروب الشمس من عرفة تعيَّن عليه الرجوع، فإن لم يرجع ففيه خلاف بين أهل العلم، ذهب بعضهم إلى أن عليه دمًا، وقال آخرون: لا دم عليه؛ إذا لا دليل على ذلك، لكنه أخطأ وخالف السنة.
(1) رواه الترمذيُّ (3585)، وصححه الألباني في المشكاة (ج 2 ح رقم 2598).
لكن مع وجود هذا العدد الكبير والكم الهائل من الحجيج وكثرة ما يحصل من الزحام وشدته -حيث نرى طوال الليل الحافلات والسيارات يأتي عليها الفجر وهي ما زالت تحمل الحجاج إلى مزدلفة، بل بعضها يمر بها مرورًا فقط- فهل نقول بجواز النفر قبل غروب الشمس لمن كان بعرفة؟
قال بعض أهل العلم: لو قيل بجوازه في ظل هذه الأوضاع المذكورة لكان لذلك وجه، لا سيما والمسألة محل خلاف بين أهل العلم، وهذا هو الأرفق بالناس، ومن أَوْجَهِ الأدلة على ذلك ما رواه أبو داود والنسائيُّ عن عروة بن مضرس قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بجمع فقلت: يا رسول الله، إني أقبلت من جبلي طيئ لم أَدع جبلًا إلَّا وقفت عليه، فهل لي من حج؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"مَنْ صَلَّى هَذِهِ الصَّلاةَ مَعَنَا وقَدْ وَقَفَ قَبْلَ ذَلِكَ بعَرَفَةَ لَيلًا أو نهَارًا، فَقَدْ تَمَّ حَجُهُ وَقَضَى تَفَثَهُ"(1).
فقوله: "وَقَدْ وَقَفَ قَبْلَ ذَلِكَ بِعَرَفَةَ لَيْلا أَوْ نَهارًا" يعني وقف ثم دفع ليلًا أو نهارًا فقد تم حجَّه وقضى تفثهُ، وليس بعد التمام نقصٌ، وليس مع التمام نقص. هذا هو الذي يظهر عندنا. والله أعلم.
قلنا: والصحيح أن الوقوف بعرفة إلى الغروب واجب؛ للأدلة الآتية:
أولًا: مكث النبي صلى الله عليه وسلم فيها إلى الغروب مع أنه لو دفع بالنهار لكان أرفق بالناس؛ لأنه لو دفع بالنهار كان ضوء النهار معينًا للناس على السير، وإذا دفع بعد الغروب حل الظلام، ولا سيما في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم والناس يمشون على الإبل والأقدام فينتشر الظلام قبل الوصول إلى مزدلفة.
فتأخير الرسول صلى الله عليه وسلم الدفع من عرفة إلى ما بعد الغروب، وتركه للأيسر، يدل على أنه الأفضل، ودليل ذلك قول عائشة رضي الله عنها: "ما خُيِّرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ
(1) رواه النسائي (3041)، وصححه الألباني في سنن النسائي (5/ 263).