الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْكَافِرِينَ} وبينا الآيات الدالة على ذلك، كقوله في النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه:{أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} وقوله: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88)} وقوله: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} إلى آخر ما تقدم.
وقوله في هذه الآية: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97)} الهمزات: جمع همزة وهي المرة من فعل الهمز، وهو في اللغة: النخس والدفع، وهمزات الشياطين نخساتهم لبني آدم ليحثوهم، ويحضوهم على المعاصي، كما أوضحنا الكلام عليه في قوله تعالى:{أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83)} وكقوله تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ} الآية.
والظاهر في قوله: {وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98)} ، أن المعنى: أعوذ بك أن يحضرني الشيطان في أمر من أموري كائنًا ما كان، سواء كان ذلك وقت تلاوة القرآن، كما قال تعالى:{فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98)} أو عند حضور الموت، أو غير ذلك من جميع الشئون في جميع الأوقات. والعلم عند الله تعالى.
•
قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا}
.
الظاهر عندي: أن "حتى" في هذه الآية هي التي يبتدأ بعدها الكلام، ويقال لها: حرف ابتداء، كما قاله ابن عطية، خلافًا للزمخشري القائل: إنها غاية لقوله: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ} ، وأبي حيان القائل: إن الظاهر له أن قبلها جملة محذوفة هي غاية لها
يدل عليها ما قبلها، وقدر الجملة المذكورة بقوله: فلا أكون كالكفار الذين تهمزهم الشياطين ويحضرونهم، حتى إذا جاء أحدهم الموت قال: رب ارجعون. ونظير حذف هذه الجملة قول الشاعر وهو الفرزدق.
فواعجبًا حتى كليب تسبني
…
كأن أباها نهشل أو مجاشع
قال: المعنى: يسبني الناس حتى كليب، فدل ما بعد حتى على الجملة المحذوفة. وفي الآية دل ما قبلها عليها. انتهى الغرض من كلام أبي حيان. ولا يظهر عندي كل الظهور.
بل الأظهر عندي: هو ما قدمته، وهو قول ابن عطية.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن الكافر والمفرط في عمل الخير إذا حضر أحدهما الموت طلبا الرجعة إلى الحياة، ليعملا العمل الصالح الذي يدخلهما الجنة، ويتداركا به ما سلف منهما من الكفر والتفريط، وأنهما لا يجابان لذلك، كما دل عليه حرف الزجر والردع الذي هو "كلّا" جاء موضحًا في مواضع أخر، كقوله تعالى:{وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا} الآية. وقوله تعالى: {وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (44)} إلى غير ذلك من الآيات، وكما أنهم يطلبون الرجعة عند حضور الموت، ليصلحوا أعمالهم فإنهم يطلبون ذلك يوم القيامة، ومعلوم أنهم لا يجابون إلى ذلك.
ومن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى: {يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ
الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} وقوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ (12)} وقوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَالَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (28)} وقوله تعالى: {وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44)} وقوله تعالى: {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11)} وقوله تعالى: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37)} وقوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (51) وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (52) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ} الآية. وقد تضمنت هذه الآيات التي ذكرنا، وأمثالها في القرآن أنهم يسألون الرجعة فلا يجابون عند حضور الموت، ويوم النشور، ووقت عرضهم على الله تعالى، ووقت عرضهم على النار.
وفي هذه الآية الكريمة سؤال معروف: وهو أن يقال: ما وجه صيغة الجمع في قوله: {رَبِّ ارْجِعُونِ (99)} ولم يقل: رب ارجعني بالإِفراد.
وقد أوضحنا الجواب عن هذا في كتابنا: دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب، وبينا أنه يجاب عنه من ثلاثة أوجه:
الأول - وهو أظهرها - : أن صيغة الجمع في قوله: (ارجعون)، لتعظيم المخاطب، وذلك أن النادم السائل الرجعة يظهر في ذلك
الوقت تعظيمه ربه. ونظير ذلك من كلام العرب قول الشاعر حسان بن ثابت أو غيره:
ألا فارحموني يا إله محمد
…
فإن لم أكن أهلًا فأنت له أهل
وقول الآخر يخاطب امرأة:
وإن شئت حرمت النساء سواكم
…
وإن شئت لم أطعم نقاخًا ولا بردًا
والنقاخ الماء البارد، والبرد: النوم، وقيل: ضد الحر. والأول أظهر.
الوجه الثاني: قوله: (رب) استغاثة به تعالى، وقوله:(ارجعون) خطاب للملائكة. ويستأنس لهذا الوجه بما ذكره ابن جرير، عن ابن جريج قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة: "إذا عاين المؤمن الملائكة قالوا: نرجعك إلى دار الدنيا فيقول: إلى دار الهموم والأحزان، فيقول: بل قدموني إلى الله، وأما الكافر فيقولون له: نرجعك؟ فيقول: رب ارجعون".
الوجه الثالث: وهو قول المازني: إنه جمع الضمير ليدل على التكرار، فكأنه قال: رب ارجعني، ارجعني، ارجعني. ولا يخفى بعد هذا القول كما ترى. والعلم عند الله تعالى.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا} الظاهر أن لعل فيه التعليل، أي: ارجعون، لأجل أن أعمل صالحًا، وقيل: هي للترجي والتوقع؛ لأنه غير جازم بأنه إذا رد للدنيا عمل صالحًا، والأول أظهر. والعمل الصالح يشمل جميع الأعمال من الشهادتين والحج الذي كان قد فرط فيه، والصلوات، والزكاة ونحو ذلك. والعلم عند الله تعالى.