الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال القرطبي عبثًا، أي: مهملين. والعبث في اللغة اللعب، ويدل على تفسيره في الآية باللعب قوله تعالى:{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38)} وقوله: {الْمَلِكُ الْحَقُّ} قال بعضهم: أي: الذي يحق له الملك؛ لأن كل شيء منه وإليه. وقال بعضهم: الملك الحق الثابت الذي لا يزول ملكه، كما قدمنا إيضاحه في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى:{وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا} وإنما وصف عرشه بالكرم لعظمته وكبر شأنه. والظاهر أن قوله: {وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115)} معطوف على قوله: {أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا} خلافًا لمن قال: إنه معطوف على قوله: {عَبَثًا} لأن الأول أظهر منه. والعلم عند الله تعالى.
•
.
البرهان: الدليل الذي لا يترك في الحق لبسًا.
وقوله: {لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} كقوله: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا} الآية. والسلطان: هو الحجة الواضحة، وهو بمعنى: البرهان.
وقوله في هذه الآية الكريمة: {فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ} قد بين أن حسابه الذي عند ربه لا فلاح له فيه بقوله بعده: {إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117)} وأعظم الكفارين كفرًا هو من يدعو مع الله إلهًا آخر، لا برهان له به، ونفي الفلاح عنه يدل على هلاكه، وأنه من أهل النار. وقد حذر الله من دعاء إله معه في آيات كثيرة كقوله:{وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51)} وقوله: {وَلَا تَدْعُ مَعَ
اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88)} وقوله تعالى: {لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا (22)} والآيات بمثل ذلك كثيرة جدًّا. ولا خلاف بين أهل العلم أن قوله هنا: {لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} لا مفهوم مخالفة له، فلا يصح لأحد أن يقول: أما من عبد معه إلهًا آخر له برهان به فلا مانع من ذلك، لاستحالة وجود برهان على عبادة إله آخر معه، بل البراهين القطعية المتواترة دالة على أنه هو المعبود وحده جل وعلا، ولا يمكن أن يوجد دليل على عبادة غيره البتة.
وقد تقرر في فن الأصول أن من موانع اعتبار مفهوم المخالفة كون تخصيص الوصف بالذكر لموافقته للواقع، فيرد النص ذاكرًا الوصف الموافق للواقع ليطبق عليه الحكم، فتخصيصه بالذكر إذًا ليس لإِخراج المفهوم عن حكم المنطوق، بل لتخصيص الوصف بالذكر لموافقته للواقع.
ومن أمثلته في القرآن هذه الآية؛ لأن قوله {لَا بُرْهَانَ لَهُ} وصف مطابق للواقع؛ لأنهم يدعون معه غيره بلا برهان، فذكر الوصف لموافقته الواقع، لا لإِخراج المفهوم عن حكم المنطوق. ومن أمثلته في القرآن أيضًا قوله تعالى:{لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} لأنه نزل في قوم والوا اليهود دون المؤمنين، فقوله:{مِن دُونِ الْمُؤمِنِينَ} ذكر لموافقته للواقع، لا لإخراج المفهوم عن حكم المنطوق. ومعلوم أن اتخاذ المؤمنين الكافرين أولياء ممنوع على كل حال. وإلى هذا أشار في مراقي السعود في ذكره موانع اعتبار مفهوم المخالفة بقوله:
أو امتنان أو وفاق الواقع
…
والجهل والتأكيد عند السامع
• قوله تعالى في خاتمة هذه السورة الكريمة. {وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118)} .
فيه الدليل على أن ذلك الفريق الذين كانوا يقولون: "ربنا آمنا، فاغفر لنا، وارحمنا، وأنت خير الراحمين" موفقون في دعائهم ذلك ولذا أثنى الله عليهم به، وأمر به نبيه صلى الله عليه وسلم لتقتدي به أمته في ذلك. ومعمول اغفر وارحم حذف هنا، لدلالة ما تقدم عليه في قوله:{فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا} والمغفرة: ستر الذنوب بعفو الله وحلمه حتى لا يظهر لها أثر يتضرر به صاحبها. والرحمة صفة الله التي اشتق لنفسه منها اسمه الرحمن، واسمه الرحيم، وهي صفة تظهر آثارها في خلقه الذين يرحمهم، وصيغة التفضيل في قوله:{وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109)} لأن المخلوقين قد يرحم بعضهم بعضًا. ولا شك أن رحمة الله تخالف رحمة خلقه، كمخالفة ذاته وسائر صفاته لذواتهم، وصفاتهم كما أوضحنا في سورة الأعراف في الكلام على قوله تعالى:{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} . والعلم عند الله تعالى.
* * *
انتهى الجزء الخامس من هذا الكتاب المبارك، ويليه إن شاء الله تعالى الجزء السادس وأوله "سورة النور". وصلَّى الله على سيِّدنا محمد وآله وصحبه وسلَّم