الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
•
.
معنى قوله: (تمنى) في هذه الآية الكريمة فيه للعلماء وجهان من التفسير معروفان:
الأول: أن (تمنى) بمعنى: قرأ وتلا. ومنه قول حسان في عثمان بن عفان رضي الله عنه:
تمنى كتاب الله أول ليله
…
وآخرها لاقى حمام المقادر
وقول الآخر:
تمنى كتاب الله آخر ليله
…
تمني داود الزبور على رسل
فمعنى (تمنى) في البيتين قرأ وتلا.
وفي صحيح البخاري عن ابن عباس أنه قال: إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته: إذا حدث ألقى الشيطان في حديثه. وكون تمنى بمعنى: قرأ وتلا هو قول أكثر المفسرين.
القول الثاني: أن تمني في الآية من التمني المعروف، وهو تمنيه إسلام أمته، وطاعتهم للَّه ولرسله، ومفعول ألقى محذوف، فعلى أن (تمنى) بمعنى: أحب إيمان أمته، وعلق أمله بذلك، فمفعول ألقى يظهر أنه من جنس الوساوس، والصد من دين الله حتى لا يتم للنبي أو الرسول ما تمنى.
ومعنى كون الإِلقاء في أمنيته على هذا الوجه: أن الشيطان يلقي وساوسه وشبهه ليصدّ بها عما تمناه الرسول أو النبي،
فصار الإِلقاء كأنه واقع فيها بالصد عن تمامها والحيلولة دون ذلك.
وعلى أن تمنى بمعنى: قرأ ففي مفعول ألقى تقديران:
أحدهما: من جنس الأول، أي: ألقى الشيطان في قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو النبي الشبه والوساوس ليصد الناس عن اتباع ما يقرؤه، ويتلوه الرسول أو النبي، وعلى هذا التقدير فلا إشكال.
وأما التقدير الثاني: فهو ألقى الشيطان في أمنيته، أي: قراءته ما ليس منها ليظن الكفار أنه منها.
وقوله: {فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ} يستأنس به لهذا التقدير.
وقد ذكر كثير من المفسرين في تفسير هذه الآية قصة الغرانيق قالوا: سبب نزول هذه الآية الكريمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ سورة النجم بمكة، فلما بلغ:{أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20)} ألقى الشيطان على لسانه: تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى، فلما بلغ آخر السورة سجد وسجد معه المشركون والمسلمون. وقال المشركون: ما ذكر آلهتنا بخير قبل اليوم، وشاع في الناس أن أهل مكة أسلموا بسبب سجودهم مع النبي صلى الله عليه وسلم ، حتى رجع المهاجرون من الحبشة ظنًا منهم أن قومهم أسلموا، فوجدوهم على كفرهم.
وقد قدمنا في هذا الكتاب المبارك أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يقول بعض العلماء في الآية قولًا، ويكون في الآية قرينة تدل على بطلان ذلك القول، ومثلنا لذلك بأمثلة متعددة.
وهذا القول الذي زعمه كثير من المفسرين: وهو أن الشيطان ألقى على لسان النبي صلى الله عليه وسلم هذا الشرك الأكبر، والكفر البواح الذي هو قولهم: تلك الغرانيق العلا، وإن شفاعتهن لترتجى. يعنون: اللات
والعزى، ومناة الثالثة الأخرى، الذي لا شك في بطلانه في نفس سياق آيات النجم التي تخللها إلقاء الشيطان المزعوم قرينة قرآنية واضحة على بطلان هذا القول؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ بعد موضع الإِلقاء المزعوم بقليل قوله تعالى في اللات والعزى، ومناة الثالثة الأخرى:{إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} وليس من المعقول أن النبي صلى الله عليه وسلم يسب آلهتهم هذا السب العظيم في سورة النجم متأخرًا عن ذكره لها بخير المزعوم إلا وغضبوا، ولم يسجدوا؛ لأن العبرة بالكلام الأخير، مع أنه قد دلت آيات قرآنية على بطلان هذا القول، وهي الآيات الدالة على أن الله لم يجعل للشيطان سلطانًا على النبي صلى الله عليه وسلم ، وإخوانه من الرسل، وأتباعهم المخلصين، كقوله تعالى:{إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100)} وقوله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42)} وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ} الآية، وقوله:{وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ} الآية. وعلى القول المزعوم أن الشيطان ألقى على لسان صلى الله عليه وسلم ذلك الكفر البواح، فأي سلطان له أكبر من ذلك.
ومن الآيات الدالة على بطلان ذلك القول المزعوم قوله تعالى في النبي صلى الله عليه وسلم : {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)} وقوله: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222)} وقوله في القرآن العظيم: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)} وقوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)} فهذه الآيات القرآنية تدل على بطلان القول المزعوم.
مسألة
اعلم: أن مسألة الغرانيق مع استحالتها شرعًا، ودلالة القرآن على بطلانها لم تثبت من طريق صالح للاحتجاج، وصرح بعدم ثبوتها خلق كثير من علماء الحديث كما هو الصواب. والمفسرون يروون هذه القصة عن ابن عباس من طريق الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس. ومعلوم أن الكلبي متروك، وقد بين البزار رحمه الله: أنها لا تعرف من طريق يجوز ذكره إلا طريق أبي بشر، عن سعيد بن جبير، مع الشك الذي وقع في وصله. وقد اعترف الحافظ ابن حجر مع انتصاره لثبوت هذه القصة بأن طرقها كلها إما منقطعة أو ضعيفة إلا طريق سعيد بن جبير.
وإذا علمت ذلك فاعلم أن طريق سعيد بن جبير لم يروها بها أحد متصلة إلا أمية بن خالد، وهو وإن كان ثقة فقد شك في وصلها.
فقد أخرج البزار، وابن مردويه من طريق أمية بن خالد، عن شعبة عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس فيما أحسب. ثم ساق حديث القصة المذكورة. وقال البزار: لا يرى متصلًا إلا بهذا الإِسناد، تفرد بوصله أمية بن خالد، وهو ثقة مشهور. وقال البزار: وإنما يروى عن طريق الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس. والكلبي متروك.
فتحصل أن قصة الغرانيق لم ترد متصلة إلا من هذا الوجه الذي شك راويه في الوصل، ومعلوم أن ما كان كذلك لا يحتج به لظهور ضعفه؛ ولذا قال الحافظ ابن كثير في تفسيره: إنه لم يرها مسندة من وجه صحيح.
وقال الشوكاني في هذه القصة: ولم يصح شيء من هذا، ولا يثبت بوجه من الوجوه، ومع عدم صحته، بل بطلانه فقد دفعه المحققون بكتاب الله، كقوله تعالى:{وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44)} الآية، وقوله:{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3)} الآية. وقوله: {وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74)} فنفى المقاربة للركون فضلًا عن الركون، ثم ذكر الشوكاني عن البزار أنها لا تروى بإسناد متصل، وعن البيهقي أنه قال: هي غير ثابتة من جهة النقل، وذكر عن إمام الأئمة ابن خزيمة: أن هذه القصة من وضع الزنادقة.
وأبطلها ابن العربي المالكي، والفخر الرازي، وجماعات كثيرة.
وقراءته صلى الله عليه وسلم سورة النجم وسجود المشركين ثابت في الصحيح، ولم يذكر فيه شيء من قصة الغرانيق. وعلى هذا القول الصحيح وهو أنها باطلة فلا إشكال.
وأما على ثبوت القصة كما هو رأي الحافظ ابن حجر فإنه قال في فتح الباري: إن هذه القصة ثابتة بثلاثة أسانيد كلها على شرط الصحيح، وهي مراسيل يحتج بمثلها من يحتج بالمرسل، وكذلك من لا يحتج به؛ لاعتضاد بعضها ببعض؛ لأن الطرق إذا كثرت وتباينت مخارجها، دل ذلك على أن لها أصلًا. فللعلماء عن ذلك أجوبة كثيرة أحسنها، وأقربها: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرتل السورة ترتيلًا تتخلله سكتات، فلما قرأ:{وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20)} قال الشيطان لعنه الله محاكيًا لصوته: تلك الغرانيق العلى. . إلخ. فظن المشركون أن الصوت صوته صلى الله عليه وسلم ، وهو بريء من ذلك براءة الشمس من اللمس.
وقد أوضحنا هذه المسألة في رحلتنا إيضاحًا وافيًا، واختصرناها هنا، وفي كتابنا: دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب.
والحاصل: أن القرآن دل على بطلانها، ولم تثبت من جهة النقل، مع استحالة الإِلقاء على لسانه صلى الله عليه وسلم لما ذكر شرعًا. ومن أثبتها نسب التلفظ بذلك الكفر للشيطان، فتبين أن نطق النبي صلى الله عليه وسلم بذلك الكفر ولو سهوًا مستحيل شرعًا، وقد دل القرآن على بطلانه، وهو باطل قطعًا على كل حال.
والغرانيق: الطير البيض المعروفة واحدها غرنوق كزنبور وفردوس، وفيه لغات غير ذلك. يزعمون أن الأصنام ترتفع إلى الله كالطير البيض، فتشفع عنده لعابديها، قبحهم الله ما أكفرهم، ونحن وإن ذكرنا أن قوله:{فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ} يستأنس به لقول من قال: إن مفعول الإِلقاء المحذوف تقديره: ألقى الشيطان في قراءته ما ليس منها؛ لأن النسخ هنا هو النسخ اللغوي، ومعناه الإِبطال والإِزالة، من قولهم: نسخت الشمس الظل، ونسخت الريح الأثر. وهذا كأنه يدل على أن الله ينسخ شيئًا ألقاه الشيطان، ليس مما يقرؤه الرسول أو النبي. فالذي يظهر لنا أنه الصواب، وأن القرآن يدل عليه دلالة واضحة، وإن لم ينتبه له من تكلم على الآية من المفسرين: هو أن ما يلقيه الشيطان في قراءة النبي: الشكوك والوساوس المانعة من تصديقها وقبولها، كإلقائه عليهم أنها سحر أو شعر، أو أساطير الأولين، وأنها مفتراة على الله ليست منزلة من عنده.
والدليل على هذا المعنى: أن الله بين أن الحكمة في الإِلقاء المذكور امتحان الخلق؛ لأنه قال: {لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً
لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} ثم قال الله: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ} فقوله: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ} الآية. يدل على أن الشيطان يلقي عليهم أن الذي يقرأه النبي ليس بحق فيصدقه الأشقياء، ويكون ذلك فتنة لهم، ويكذبه المؤمنون الذين أوتوا العلم، ويعلمون أنه الحق، لا الكذب كما يزعم لهم الشيطان في إِلقائه. فهذا الامتحان لا يناسب شيئًا زاده الشيطان من نفسه في القراءة. والعلم عند الله تعالى.
وعلى هذا القول فمعنى نسخ ما يلقي الشيطان: إزالته وإبطاله، وعدم تأثيره في المؤمنين الذين أوتوا العلم.
ومعنى يحكم آياته: يتقنها بالإِحكام، فيظهر أنها وحي منزل منه بحق، ولا يؤثر في ذلك محاولة الشيطان صد الناس عنها بإِلقائه المذكور.
وما ذكره هنا من أنه يسلط الشيطان فيلقي في قراءة الرسول والنبي فتنة للناس ليظهر مؤمنهم من كافرهم بذلك الامتحان جاء موضحًا في آيات كثيرة قدمناها مرارًا، كقوله:{وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} الآية، وقوله تعالى:{وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} الآية، وقوله:{وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ} أي: لأنها فتنة، كما قال:{أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64)} الآية. لأنه لما نزلت هذه الآية قالوا: ظهر كذب محمد صلى الله عليه وسلم ؛ لأن الشجر
لا ينبت في الموضع اليابس، فكيف تنبت شجرة في أصل الجحيم إلى غير ذلك من الآيات، كما تقدم إيضاحه مرارًا، والعلم عند الله تعالى.
واللام في قوله: {لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ} الآية الأظهر أنها متعلقة بألقى، أي: ألقى الشيطان في أمنية؛ لرسل والأنبياء، ليجعل الله ذلك الإِلقاء فتنة للذين في قلوبهم مرض، خلافًا للحوفي القائل: إنها متعلقة بيحكم، وابن عطية القائل: إنها متعلقة بينسخ.
ومعنى كونه: فتنة لهم أنه سبب لتماديهم في الضلال والكفر.
وقد أوضحنا معانى الفتنة في القرآن سابقًا، وبينا أن أصل الفتنة في اللغة وضع الذهب في النار، ليظهر بسبكه فيها أخالص هو أم زائف، وأنها في القرآن تطلق على معان متعددة:
منها: الوضع في النار، ومنه قوله تعالى:{يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13)} أي: يحرقون بها، وقوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10)} الآية، أي: أحرقوهم بنار الأخذوذ على أظهر التفسيرين.
ومنها: الاختبار وهو أكثر استعمالاتها في القرآن، كقوله تعالى:{إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} وقوله تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} وقوله تعالى: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} .
ومنها: نتيجة الابتلاء إن كانت سيئة كالكفر والضلال، كقوله:{حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} أي: شرك بدليل قوله: {وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} وقوله في الأنفال: {وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} ومما يوضح هذا المعنى
قوله صلى الله عليه وسلم : "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله" الحديث. فالغاية في الحديث مبينة للغاية في الآية؛ لأن خير ما يفسر به القرآن بعد القرآن السنة، ومنه بهذا المعنى قوله هنا:{لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} وقد جاءت الفتنة في موضع بمعنى الحجة، وهو قوله تعالى في الأنعام:{ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23)} أي: حجتهم كما هو الظاهر.
واعلم أن مرض القلب في القرآن يطلق على نوعين:
أحدهما: مرضه بالنفاق والشك والكفر، ومنه قوله تعالى في المنافقين:{فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} الآية، وقوله هنا:{لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} أي: كفر وشك.
والثاني: منهما إطلاق مرض القلب على ميله للفاحشة والزنى، ومنه بهذا المعنى قوله تعالى:{فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} أي: ميل إلى الزنى ونحوه، والعرب تسمى انطواء القلب على الأمور الخبيثة: مرضًا، وذلك معروف في لغتهم. ومنه قول الأعشى:
حافظ للفرج راض بالتقى
…
ليس ممن قلبه فيه مرض
وقوله هنا: {وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ} قد بينا في سورة البقرة الآيات القرآنية الدالة على سبب قسوة القلوب في الكلام على قوله: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} .
وآية الحج هذه تبين أن ما اشتهر على ألسنة أهل العلم من أن النبي هو من أوحي إليه وحي، ولم يؤمر بتبليغه، وأن الرسول هو النبي الذي أوحي إليه، وأمر بتبليغ ما أوحي إليه غير صحيح؛ لأن