الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
•
قوله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28)}
.
الضمير في قوله: منها. راجع إلى بهيمة الأنعام المذكورة في قوله تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} وهذا الأكل الذي أمر به هنا منها، وإطعام البائس الفقير منها أمر بنحوه في خصوص البدن أيضًا في قوله تعالى:{وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} إلى قوله: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} الآية، ففي الآية الأولى الأمر بالأكل من جميع بهيمة الأنعام الصادق بالبدن، وبغيرها. وقد بينت الآية الأخيرة أن البدن داخلة في عموم الآية الأولى.
وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يرد نص عام، ثم يرد نص آخر يصرح بدخول بعض أفراده في عمومه، ومثلنا لذلك بعض الأمثلة. وفي الآية العامة هنا أمر بالأكل، وإطعام البائس الفقير، وفي الآية الخاصة بالبدن أمر بالأكل، وإطعام القانع والمعتر.
وفي هاتين الآيتين الكريمتين مبحثان:
الأول: حكم الأكل المأمور به في الآيتين هل هو الوجوب لظاهر صيغة الأمر، أو الندب والاستحباب؟
المبحث الثاني: فيما يجوز الأكل منه لصاحبه، وما لا يجوز له الأكل منه، ومذاهب أهل العلم في ذلك.
أما المبحث الأول: فجمهور أهل العلم على أن الأمر بالأكل في الآيتين: للاستحباب، والندب، لا للوجوب، والقرينة الصارفة
عن الوجوب في صيغة الأمر: هي ما زعموا من أن المشركين كانوا لا يأكلون هداياهم، فرخص للمسلمين في ذلك.
وعليه فالمعنى: فكلوا إن شئتم، ولا تحرموا الأكل على أنفسكم كما يفعله المشركون.
وقال ابن كثير في تفسيره: إن القول بوجوب الأكل غريب، وعزا للأكثرين أن الأمر للاستحباب. قال: وهو اختيار ابن جرير في تفسيره.
وقال القرطبي في تفسيره: فكلوا منها. أمر معناه: الندب عند الجمهور. ويستحب للرجل أن يأكل من هديه وأضحيته، وأن يتصدق بالأكثر مع تجويزهم الصدقة بالكل، وأكل الكل. وشذت طائفة، فأوجبت الأكل، والإِطعام بظاهر الآية، ولقوله صلى الله عليه وسلم :"فكلوا وادخروا وتصدقوا".
قال إلكيا: قوله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا} يدل على أنه لا يجوز بيع جميعه، ولا التصدق بجميعه. انتهى كلام القرطبي.
ومعلوم: أن بيع جميعه لا وجه لحليته، بل ولا بيع بعضه، كما هو معلوم.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: أقوى القولين دليلًا: وجوب الأكل والإِطعام من الهدايا والضحايا؛ لأن الله تعالى قال: {فَكُلُوا مِنْهَا} في موضعين. وقد قدمنا أن الشرع واللغة دلا على أن صيغة أفعل تدل على الوجوب إلَّا لدليل صارف عن الوجوب. وذكرنا الآيات الدالة على ذلك، كقوله:{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)} .
وأوضحنا جميع أدلة ذلك في مواضع متعددة من هذا الكتاب المبارك، منها آية الحج التي ذكرنا عندها مسائل الحج.
ومما يؤيد أن الأمر في الآية يدل على وجوب الأكل وتأكيده "أن النبي صلى الله عليه وسلم نحر مائة من الإِبل، فأمر بقطعة لحم من كل واحدة منها، فأكل منها وشرب من مرقها" وهو دليل واضح على أنه أراد ألا تبقى واحدة من تلك الإِبل الكثيرة إلَّا وقد أكل منها أو شرب من مرقها. وهذا يدل على أن الأمر في قوله: {فَكُلُوا مِنْهَا} ليس لمجرد الاستحباب والتخيير، إذ لو كان كذلك لاكتفى بالأكل من بعضها، وشرب مرقه دون بعض، وكذلك الإِطعام، فالأظهر فيه الوجوب.
والحاصل أن المشهور عند الأصوليين: أن صيغة افعل تدل على الوجوب إلَّا لصارف عنه، وقد أمر بالأكل من الذبائح مرتين، ولم يقم دليل يجب الرجوع إليه صارف عن الوجوب، وكذلك الإِطعام. هذا هو الظاهر بحسب الصناعة الأصولية. وقد دلت عليها أدلة الوحي، كما قدمنا إيضاحه.
وقال أبو حيان في البحر المحيط: والظاهر وجوب الأكل والإِطعام، وقيل باستحبابهما. وقيل باستحباب الأكل، ووجوب الإِطعام. والأظهر أنه لا تحديد للقدر الذي يأكله، والقدر الذي يتصدق به، فيأكل ما شاء، ويتصدق بما شاء. وقد قال بعض أهل العلم يتصدق بالنصف، ويأكل النصف. واستدل لذلك بقوله تعالى:{فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28)} قال: فجزأها نصفين نصف له، ونصف للفقراء. وقال بعضهم: يجعلها ثلاثة أجزاء، يأكل الثلث ويتصدق بالثلث، ويهدي الثلث. واستدل بقوله تعالى:{فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} فجزأها ثلاثة أجزاء، ثلث له،
وثلث للقانع، وثلث للمعتر. هكذا قالوا وأظهرها الأول. والعلم عند الله تعالى.
والبائس: هو الذي أصابه البؤس، وهو الشدة.
قال الجوهري في صحاحه: وبئس الرجل يبأس بؤسًا وبئسًا: اشتدت حاجته، فهو بائس. وأنشد أبو عمرو:
لبيضاء من أهل المدينة لم تذق
…
بئيسًا ولم تتبع حمولة مجحد
وهو اسم وضع موضع المصدر. اهـ منه يعني: أن البئيس في البيت لفظه لفظ الوصف، ومعناه المصدر.
والفقير معروف، والقاعدة عند علماء التفسير: أن الفقير والمسكين إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا، وعلى قولهم: فالفقير هنا يشمل المسكين؛ لأنه غير مذكور معه هنا، وذلك هو مرادهم بأنهما إذا افترقا اجتمعا. ومعلوم خلاف العلماء في الفقير والمسكين في آية الصدقة أيهما أشد فقرًا، وقد ذكرنا حجج الفريقين، وناقشناها في كتابنا (دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب) في سورة البلد. ومما استدل به القائل: إن الفقير أحوج من المسكين، وأن المسكين من عنده شيء لا يقوم بكفايته قوله تعالى:{أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} الآية، قالوا: فسماهم مساكين، مع أن عندهم سفينة عاملة للإِيجار.
ومما استدل به القائلون بأن المسكين أحوج من الفقير: أن الله قال في المسكين: {أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16)} قالوا: ذا متربة، أي: لا شيء عنده، حتى كأنه قد لصق بالتراب من الفقر، ليس له مأوى إلَّا التراب. قال ابن عباس: هو المطروح على الطريق الذي لا بيت
له. وقال مجاهد: هو الذي لا يقيه من التراب لباس، ولا غيره. انتهى من القرطبي. وعضدوا هذا بأن العرب تطلق الفقير على من عنده مال لا يكفيه، ومنه قول راعي نمير:
أما الفقير الذي كانت حلوبته
…
وفق العيال فلم يترك له سبد
فسماه فقيرًا مع أن له حلوبة قدر عياله.
وقد ناقشنا أدلة الفريقين مناقشة تبين الصواب في الكتاب المذكور، فأغنانا ذلك عن إعادته هنا. والعلم عند الله تعالى.
وأما المبحث الثاني: وهو ما يجوز الأكل منه، وما لا يجوز فقد اختلف فيه أهل العلم. وهذه مذاهبهم وما يظهر رجحانه بالدليل منها:
فذهب مالك رحمه الله، وأصحابه إلى جواز الأكل من جميع الهدي واجبه وتطوعه إذا بلغ محله إلَّا ثلاثة أشياء: جزاء الصيد، وفدية الأذى، والنذر الذي هو للمساكين. وقال اللخمي: كل هدي واجب في الذمة عن حج أو عمرة من فساد، أو متعة، أو قران، أو تعدي ميقات، أو ترك النزول بعرفة نهارًا، أو ترك النزول بمزدلفة، أو ترك رمي الجمار، أو أخر الحلق يجوز الأكل منه قبل بلوغ محله وبعده. أما جزاء الصيد، وفدية الأذى فيؤكل منهما قبل بلوغهما محلهما، ولا يؤكل منهما بعده.
وأما النذر المضمون إذا لم يسمه للمساكين فإنه يأكل منه بعد بلوغه محله، وإن كان منذورًا معينًا، ولم يسمعه للمساكين، أو قلده، وأشعره من غير نذر أكل منه بعد بلوغه محله، ولم يأكل منه قبله، وإن عين النذر للمساكين، أو نوى ذلك حين التقليد والإِشعار لم يأكل منه قبل ولا بعد.
والحاصل: أن النذر المعين للمساكين لا يجوز له الأكل منه مطلقًا عند مالك، وأن النذر المضمون للمساكين، حكمه عند المالكية حكم جزاء الصيد، وفدية الأذى، فيمتنع الأكل منه بعد بلوغه محله، ويجوز قبله، لأنه باقي في الذمة حتى يبلغ محله.
وأما النذر المضمون الذي لم يسم للمساكين، كقوله: علي للَّه نذر أن أتقرب إليه بنحر هدي، فله عند المالكية الأكل منه قبل بلوغ محله، وبعده. وقد قدمنا أن هدي التطوع إن عطب في الطريق لا يجوز له الأكل منه عند المالكية، وأوضحنا دليل ذلك. هذا هو حاصل مذهب مالك في الأكل من الهدايا. ولا خلاف في جواز الأكل من الضحايا. وقد قدمنا قول اللخمي من المالكية أن كل هدي جاز أن يأكل منه جاز أن يطعم منه من شاء من غني وفقير، وكل هدي لم يجز له أن يأكل منه، فإنه يطعمه فقيرًا، لا تلزمه نفقته كالكفارة. وكره ابن القاسم من أصحاب مالك إطعام الذمي من الهدايا كما تقدم.
ومذهب أبي حنيفة رحمه الله: أنه يأكل من هدي التمتع والقران، وهدي التطوع إذا بلغ محله، أما إذا عطب هدي التطوع قبل بلوغ محله، فليس لصاحبه الأكل منه عند أبي حنيفة كما تقدم إيضاحه. ولا يأكل من غير ذلك، هو ولا غيره من الأغنياء، بل يأكله الفقراء. هذا حاصل مذهب أبي حنيفة رحمه الله.
وأما مذهب الشافعي رحمه الله: فهو أن الهدي إن كان تطوعًا، فالأكل منه مستحب. واستدل بعضهم لعدم وجوب الأكل بقوله:{وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} قالوا: فجعلها لنا، وما هو للإِنسان فهو مخير بين تركه، وأكله. ولا يخفى ما في هذا الاستدلال.
واعلم: أنا حيث قلنا في هذا المبحث: يجوز الأكل، فإنا نعني. الإِذن في الأكل الصادق بالاستحباب، وبالوجوب؛ لما قدمنا من الخلاف في وجوب الأكل والإِطعام، واستحبابهما، والفرق بينهما بإيجاب الإِطعام دون الأكل. وكل هدي واجب لا يجوز الأكل منه في مذهب الشافعي، كهدي التمتع، والقران، والنذر، وجميع الدماء الواجبة.
قال النووي: وكذا قال الأوزاعي، وداود الظاهري: لا يجوز الأكل من الواجب. هذا هو حاصل مذهب الشافعي.
وأما مذهب أحمد رضي الله عنه: فهو أنه لا يأكل من هدي واجب إلَّا هدي التمتع والقران، وأنه يستحب له أن يأكل من هدي التطوع، وهو ما أوجبه بالتعيين ابتداءً من غير أن يكون عن واجب في ذمته، وما نحره تطوعًا من غير أن يوجبه. هذا هو مشهور مذهب الإِمام أحمد. وعنه رواية أنه لا يأكل من المنذور، وجزاء الصيد ويأكل مما سواهما.
قال في المغني: وهو قول ابن عمر، وعطاء، والحسن، وإسحاق؛ لأن جزاء الصيد بدل، والنذر جعله للَّه تعالى بخلاف غيرهما.
وقال ابن أبي موسى: لا يأكل أيضًا من الكفارة، ويأكل مما سوى هذه الثلاثة. ونحوه مذهب مالك؛ لأن ما سوى ذلك لم يسمه للمساكين، ولا مدخل للإِطعام فيه فأشبه التطوع.
وقال الشافعي: لا يأكل من واجب؛ لأنه هدي واجب بالإِحرام فلم يجز الأكل منه، كدم الكفارة. انتهى من المغني.
فقد رأيت مذاهب الأربعة فيما يجوز الأكل منه، وما لا يجوز.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الذي يرجحه الدليل في هذه المسألة: هو جواز الأكل من هدي التطوع، وهدي التمتع، والقران دون غير ذلك. والأكل من هدي التطوع لا خلاف فيه بين العلماء بعد بلوغه محله، وإنما خلافهم في استحباب الأكل منه، أو وجوبه. ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في الأحاديث الصحيحة في حجة الوداع "أنه أهدى مائة من الإِبل" ومعلوم أن ما زاد على الواحدة منها تطوع، وقد أكل منها وشرب من مرقها جميعًا.
وأما الدليل على الأكل من هدي التمتع والقران، فهو ما قدمنا مما ثبت في الصحيح أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ذبح عنهن صلى الله عليه وسلم بقرًا ودخل عليهم بلحمه وهن متمتعات، وعائشة منهن قارنة، وقد أكلن جميعًا مما ذبح عنهن في تمتعهن، وقرانهن بأمره صلى الله عليه وسلم . وهو نص صحيح صريح في جواز الأكل من هدي التمتع والقران. أما غير ما ذكرنا من الدماء فلم يقم دليل يجب الرجوع إليه على الأكل منه، ولا يتحقق دخوله في عموم {فَكُلُوا مِنْهَا} لأنه لترك واجب، أو فعل محظور، فهو بالكفارات أشبه، وعدم الأكل منه أظهر وأحوط. والعلم عند الله تعالى.
مسألة في الأضحية
لا يخفى أن كلامنا في الهدي، وأن الآية التي نحن بصددها ظاهرها أنها في الهدي، ولما كان عمومها قد تدخل فيه الأضحية. أردنا هنا أن نشير إلى بعض أحكام الأضحية باختصار.
اعلم أولًا: أن الأضحية فيها أربع لغات: أضحية بضم الهمزة،
وإضحية بكسرها، وجمعها أضاحي بتشديد الياء، وتخفيفها، وضحية، وجمعها ضحايا، وأضحاة وجمعها: أضحى كأرطأة وأرطى.
واعلم أنه لا خلاف في مشروعية الأضحية. قال بعض أهل العلم: وقد دل على مشروعيتها الكتاب والسنة والإِجماع.
أما الكتاب فقوله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2)} على ما قاله بعض أهل التفسير من أن المراد به: ذبح الأضحية بعد صلاة العيد، ولا يخفى أن صلاة العيد داخلة في عموم {فَصَلِّ لِرَبِّكَ} وأن الأضحية داخلة في عموم {وَانْحَرْ (2)} .
وأما الإِجماع: فقد أجمع جميع المسلمين على مشروعية الأضحية.
وأما السنة فقد وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة صحيحة في مشروعية الأضحية. وسنذكر طرفًا منها فيه كفاية إن شاء الله.
قال البخاري في صحيحه: باب أضحية النبي صلى الله عليه وسلم بكبشين أقرنين ويذكر سمينين. وقال يحيى بن سعيد: سمعت أبا أمامة بن سهل قال: كنا نسمن الأضحية بالمدينة، وكان المسلمون يسمنون.
حدثنا آدم بن أبي إياس، حدثنا عبد العزيز بن صهيب قال: سمعت أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يضحي بكبشين" وأنا أضحي بكبشين.
حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا عبد الوهاب، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انكفأ إلى كبشين أقرنين أملحين فذبحهما بيده" وقال إسماعيل، وحاتم بن وردان، عن
أيوب، عن ابن سيرين، عن أنس. تابعه وهيب، عن أيوب.
وقال: حدثنا عمرو بن خالد، حدثنا الليث، عن يزيد، عن أبي الخير، عن عقبة بن عامر "أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه غنمًا يقسمها على صحابته ضحايا فبقي عتود، فذكره للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: ضح به أنت" انتهى من صحيح البخاري. وفي لفظ له من حديث أنس رضي الله عنه قال: "ضحى النبي صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين، فرأيته واضعًا قدمه على صفاحهما يسمي ويكبر فذبحهما بيده" وفي لفظ له عن أنس رضي الله عنه أيضًا "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يضحي بكبشين أملحين أقرنين، ويضع رجله على صفاحهما، ويذبحهما بيده". انتهى منه.
وقال مسلم بن الحجاج في صحيحه: حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا أبو عوانة، عن قتادة، عن أنس قال:"ضحى النبي صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين أقرنين ذبحهما بيده، وسمى وكبر، ووضع رجله على صفاحهما" وفي لفظ له عن أنس رضي الله عنه قال: "ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين أقرنين قال: ورأيته يذبحهما بيده ورأيته واضعًا قدمه على صفاحهما قال: وسمى وكبر" وفي لفظ لمسلم عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله غير أنه قال: ويقول: "بسم الله واللَّه أكبر".
وقال مسلم في صحيحه أيضًا: حدثنا هارون بن معروف، حدثنا عبد الله بن وهب قال: قال حيوة: أخبرني أبو صخر، عن يزيد بن قسيط، عن عروة بن الزبير، عن عائشة رضي الله عنها: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بكبش أقرن يطأ في سواد، ويبرك في سواد، وينظر في سواد، فأتى به ليضحي به فقال لها: يا عائشة هلمي المدية، ثم قال: أشحذيها بحجر، ففعلت، ثم أخذها وأخذ الكبش، فأضجعه ثم
ذبحه ثم قال: باسم الله اللهم تقبل من محمد وآل محمد، ومن أمة محمد ثم ضحى به". انتهى من صحيح مسلم. والأحاديث الواردة في مشروعية الأضحية كثيرة معروفة.
وقد اختلف أهل العلم في حكمها، فذهب أكثر أهل العلم إلى أنها سنة مؤكدة في حق الموسر، ولا تجب عليه.
وقال النووي في شرح المهذب: وهذا مذهبنا. وبه قال أكثر العلماء، منهم أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وبلال، وأبو مسعود البدري، وسعيد بن المسيب، وعطاء، وعلقمة، والأسود، ومالك، وأحمد، وأبو يوسف، وإسحاق، وأبو ثور، والمزني، وداود وابن المنذر. وقال ربيعة، والليث بن سعد، وأبو حنيفة، والأوزاعي: هي واجبة على الموسر إلا الحاج بمنى. وقال محمد بن الحسن: هي واجبة على المقيم بالأمصار. والمشهور عن أبي حنيفة: أنه إنما يوجبها على مقيم يملك نصابًا. انتهى كلام النووي.
وقال النووي في شرح مسلم: واختلف العلماء في وجوب الأضحية، على الموسر، فقال جمهورهم: هي سنة في حقه إن تركها بلا عذر لم يأثم، ولم يلزمه القضاء، وممن قال بهذا: أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب إلى آخر كلامه قريبًا مما ذكرنا عنه في شرح المهذب.
وقال ابن قدامة في المغني: أكثر أهل العلم على أنها سنة مؤكدة غير واجبة. روي ذلك عن أبي بكر، وعمر، وبلال، وأبي مسعود البدري رضي الله عنهم. وبه قال سويد بن غفلة وسعيد بن المسيب، وعلقمة، والأسود، وعطاء، والشافعي،
وإسحاق، وأبو ثور، وابن المنذر. وقال ربيعة، ومالك، والثوري، والأوزاعي، والليث، وأبو حنيفة: هي واجبة. ونقل ابن قدامة في المغني عن مالك وجوب الأضحية خلاف مذهبه، ومذهبه هو ما نقل عنه النووي: من أنها سنة، ولكنها عنده لا تسن على خصوص الحاج بمنى، لأن ما يذبحه هدي، لا أضحية. وقد قدمنا أن آية الحج لا تخلو من دلالة على ما ذهب إليه مالك، كما سيأتي إيضاحه إن شاء الله تعالى.
فإذا رأيت أقوال أهل العلم في حكم الأضحية، فهذه أدلة أقوالهم ومناقشتها، وما يظهر رجحانه بالدليل منها، على سبيل الاختصار.
أما من قال: إنها واجبة فقد استدل بأدلة منها: "أنه صلى الله عليه وسلم كان يفعلها" واللَّه يقول: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} الآية.
وقد قدمنا قول من قال من أهل الأصول: إن فعله صلى الله عليه وسلم الذي لم تعلم جهته من وجوب أو غيره يحمل على الوجوب. وأوضحنا أدلة ذلك. وذكرنا أن صاحب مراقي السعود ذكره بقوله في كتاب السنة في مبحث أفعال النبي صلى الله عليه وسلم :
وكل ما الصفة فيه تجهل
…
فللوجوب في الأصح يجعل
وذكرنا مناقشة الأقوال فيه في الحج، وغيره من سور القرآن.
ومن أدلتهم على وجوب الأضحية ما رواه البخاري في صحيحه: حدثنا آدم، حدثنا شعبة، حدثنا الأسود بن قيس: سمعت جندب بن سفيان البجلي قال: شهدت النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر فقال: "من ذبح قبل أن يصلي فليعد مكانها أخرى، ومن لم يذبح
فليذبح". اهـ. قالوا: قوله: فليعد، وقوله: فليذبح، كلاهما صيغة أمر.
وقد قدمنا أن الصحيح عند أهل الأصول أن الأمر المتجرد عن القرائن يدل على الوجوب، وبينا أدلة ذلك من الكتاب والسنة، ورجحناه بالأدلة الكثيرة الواضحة، كقوله تعالى:{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} الآية، وقوله:{أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93)} فسمى مخالفة الأمر معصية، وقوله:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} الآية. فجعل أمره وأمر رسوله مانعًا من الاختيار، موجبًا للامتثال، وكقوله صلى الله عليه وسلم :"إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم" الحديث إلى آخر ما قدمنا.
وحديث جندب بن سفيان الذي ذكرناه عن البخاري أخرجه أيضًا مسلم في صحيحه بلفظ "من كان ذبح أضحيته قبل أن يصلي أو نصلي، فليذبح مكانها أخرى، ومن كان لم يذبح فليذبح باسم الله" وصيغة الأمر بالذبح في حديثه واضحة كما بينا دلالتها على الوجوب آنفًا.
ومن أدلتهم على وجوب الأضحية: ما رواه أبو داود في سننه: حدثنا مسدد، ثنا يزيد (ح) وثنا حميد بن مسعدة، ثنا بشر، عن عبد الله بن عون، عن عامر أبي رملة قال: أخبرنا مخنف بن سليم قال: ونحن وقوف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفات قال: قال: "يا أيها الناس إن على كل أهل بيت في كل عام أضحية وعتيرة، أتدرون ما العتيرة؟ هي: التي يقول عنها الناس: الرجبية". اهـ منه.
وقال النووي في شرح المهذب في هذا الحديث: رواه أبو داود والترمذي، والنسائي وغيرهم. قال الترمذي: حديث حسن.
قال الخطابي: هذا الحديث ضعيف المخرج؛ لأن أبا رملة مجهول. وهو كما قال الخطابي مجهول. قال فيه ابن حجر في التقريب: عامر أبو رملة شيخ لابن عون لا يعرف. اهـ منه. وقال فيه الذهبي في الميزان: عامر أبو رملة شيخ لابن عون فيه جهالة، له عن مخنف ابن سليم عن النبي صلى الله عليه وسلم "يا أيها الناس إن على كل بيت في الإِسلام أضحية، وعتيرة" قال عبد الحق: إسناده ضعيف - وصدقه ابن القطان - ؛ لجهالة عامر، رواه ابن عون. اهـ منه.
وبه تعلم أن قول ابن حجر في الفتح في حديث مخنف بن سليم: أخرجه أحمد والأربعة بسند قوي. خلاف التحقيق كما ترى. وقد قال أبو داود بعد أن ساق الحديث بسنده ومتنه كما ذكرناه عنه آنفًا. قال أبو داود: العتيرة: منسوخة، هذا خبر منسوخ. اهـ. ولكنه لم يبين الناسخ، ولا دليل النسخ. وعلى كل حال فالحديث ضعيف لا يحتج به؛ لأن أبا رملة مجهول كما رأيت من قال ذلك.
ومن أدلتهم على وجوبها: ما رواه الإِمام أحمد، وابن ماجه وصححه الحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من وجد سعة فلم يضح فلا يقربن مصلانا".
قال ابن حجر في بلوغ المرام في هذا الحديث: رواه أحمد، وابن ماجه، وصححه الحاكم. ورجح الأئمة غيره وقفه.
وقال ابن حجر في فتح الباري: وأقرب ما يتمسك به لوجوب الأضحية حديث أبي هريرة، رفعه "من وجد سعة فلم يضح فلا يقربن مصلانا" أخرجه ابن ماجه، وأحمد. ورجاله ثقات. لكن اختلف في رفعه ووقفه، والموقوف أشبه بالصواب. قاله الطحاوي وغيره. ومع ذلك فليس صريحًا في الإِيجاب. اهـ منه.
وذكر النووي في شرح المهذب من أدلة من أوجبها: ما جاء عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما أنفقت الورق في شيء أفضل من نحيرة يوم عيد" ثم قال: رواه البيهقي وقال: تفرد به محمد بن ربيعة، عن إبراهيم بن يزيد الخوزي. وليسا بقويين، ثم قال. وعن عائذ الله المجاشعي، عن أبي داود نفيع بن زيد بن أرقم أنهم قالوا: يا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ما هذه الأضاحي قال "سنة أبيكم إبراهيم (صلى الله عليه وعلى نبينا وسلم) قالوا: ما لنا فيها من الأجر؟ قال: بكل قطرة حسنة" رواه ابن ماجه، والبيهقي.
قال البيهقي: قال البخاري: عائذ الله المجاشعي عن أبي داود لا يصح حديثه، وأبو داود هذا ضعيف. ثم قال النووي: وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "نسخ الأضحى كل ذبح، وصوم رمضان كل صوم والغسل من الجنابة كل غسل، والزكاة كل صدقة" رواه الدارقطني، والبيهقي قال: وهو ضعيف، واتفق الحفاظ على ضعفة. وعن عائشة قالت: قلت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أستدين وأضحي؟ قال: "نعم فإنه دين مقضي" رواه الدارقطني والبيهقي، وضعفاه قالا: وهو مرسل. اهـ. كلام النووي. وما ذكره من تضعيف الأحاديث المذكورة: هو الصواب.
وقد وردت أحاديث غير ما ذكرنا في الترغيب في الأضحية، وفيها أحاديث متعددة ليست بصحيحة. وهذا الذي ذكرنا هو عمدة من قال بوجوب الأضحية. واستدلال بعض الحنفية على وجوبها بالإِضافة في قولهم: يوم الأضحى قائلًا: إن الإِضافة إلى الوقت لا تحقق إلا إذا كانت موجودة فيه بلا شك، ولا تكون موجودة فيه بيقين إلا إذا كانت واجبة لا يخفي سقوطه؛ لأن
الإِضافة تقع بأدنى ملابسة، فلا تقتضي الوجوب على التحقيق، كما لا يخفى.
وأقوى أدلة من قال بالوجوب: هو ما قدمنا في الصحيحين من حديث جندب بن سفيان البجلي من أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر من ذبح قبل الصلاة بالإِعادة، وأمر من لم يذبح بالذبح. وقد قدمنا دلالة الأمر على الوجوب، والحديث المختلف في وقفه ورفعه الذي قدمنا؛ لأن قوله فيه:"فلا يقربن مصلانا" يفهم منه أن ترك الأضحية مخالفة غير هينة، لمنع صاحبها من قرب المصلى، وهو يدل على الوجوب. والفرق بين المسافر والمقيم عند أبي حنيفة لا أعلم له مستندًا من كتاب ولا سنة. وبعض الحنفية يوجهه بأن أداءها له أسباب تشق على المسافر، وهذا وحده لا يكفي دليلًا، لأنه من المعلوم أن كل واجب عجز عنه المكلف يسقط عنه؛ لقوله تعالى:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} .
وأما الذين قالوا بأن الأضحية سنة مؤكدة، وليست بواجبة، فاستدلوا بأدلة منها: ما رواه مسلم في صحيحه: حدثنا ابن أبي عمر المكي، حدثنا سفيان، عن عبد الرحمن بن حميد بن عبد الرحمن بن عوف، سمع سعيد بن المسيب يحدث عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إذا دخلت العشر وأراد أحدكم أن يضحي فلا يمس من شعره وبشره شيئًا" قيل لسفيان: فإن بعضهم لا يرفعه. قال: لكني أرفعه. اهـ. وفي لفظ عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم عند مسلم "إذا دخل العشر وعنده أضحية يريد أن يضحي فلا يأخذن شعرًا ولا يقلمن ظفرًا" وفي لفظ له عنها مرفوعًا "إذا أراد أحدكم أن يضحي فليمسك عن شعره وأظفاره". اهـ.
كل هذه الألفاظ في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث زوجه أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها. ووجه الاستدلال بها على عدم الوجوب أن ظاهر الرواية: أن الأضحية موكولة إلى إرادة المضحي، ولو كانت واجبة لما كانت كذلك.
قال النووي في شرح المهذب - بعد أن ذكر بعض روايات حديث أم سلمة المذكور ما نصه - : قال الشافعي: هذا دليل أن التضحية ليست بواجبة، لقوله صلى الله عليه وسلم : وأراد. فجعله مفوضًا إلى إرادته، ولو كانت واجبة لقال: فلا يمس من شعره حتى يضحي. اهـ منه. وقال النووي في شرح المهذب أيضًا: واستدل أصحابنا يعني لعدم الوجوب بحديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "هن عليَّ فرائض وهن لكم تطوع: النحر، والوتر، وركعتا الضحى" رواه البيهقي بإسناد ضعيف. ورواه في موضع آخر وصرح بضعفه. وللحديث المذكور طرق، ولا يخلو شيء منها من الضعف، ولم يذكرها النووي. ثم قال النووي: وصح عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما أنهما كانا لا يضحيان مخافة أن يعتقد الناس وجوبها. اهـ. كلام النووي.
وقال ابن حجر في فتح الباري: قال ابن حزم: لا يصح عن أحد من الصحابة أنها واجبة، وصح أنها غير واجبة عن الجمهور، ولا خلاف في كونها من شرائع الدين.
وقد استدل لعدم وجوبها المجد في المنتقى بحديثين، ولا تظهر دلالتها على ذلك عندي كل الظهور. قال في المنتقى: باب ما احتج به في عدم وجوبها، بتضحية رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمته. عن جابر قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عيد الأضحى، فلما انصرف "أتى
بكبش فذبحه فقال: باسم الله، واللَّه أكبر، اللهم هذا عني وعمن لم يضح من أمتي" وعن علي بن الحسين، عن أبي رافع "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا ضحى اشترى كبشين سمينين أقرنين أملحين، فإذا صلى وخطب للناس أوتي بأحدهما وهو قائم في مصلاة فذبحه بنفسه بالمدية، ثم يقول: اللهم هذا عني وعن أمتي جميعًا من شهد لك بالتوحيد، وشهد لي بالبلوغ، ثم يؤتى بالآخر فيذبحه بنفسه ويقول: هذا عن محمد وآل محمد فيطعمهما جميعًا المساكين، ويأكل هو وأهله منهما" فمكثنا سنين ليس لرجل من بني هاشم يضحي، قد كفاه الله المؤنة برسول الله صلى الله عليه وسلم والغرم. رواه أحمد. اهـ من المنتقى.
وقال شارحه في نيل الأوطار: ووجه دلالة الحديثين، وما في معناهما على عدم الوجوب: أن تضحيته صلى الله عليه وسلم عن أمته، وعن أهله تجزئ كل من لم يضح، سواء كان متمكنًا من الأضحية، أو غير متمكن. ثم تعقبه بقوله: ويمكن أن يجاب عن ذلك بأن حديث "على كل أهل بيت أضحية" يدل على وجوبها على كل أهل بيت يجدونها، فيكون قرينة على أن تضحية رسول الله صلى الله عليه وسلم عن غير الواجدين من أمته ولو سلم الظهور المدعى فلا دلالة له على الوجوب؛ لأن محل النزاع من لم يضح عن نفسه، ولا ضحى عنه غيره، فلا يكون عدم وجوبها على من كان في عصره صلى الله عليه وسلم من الأمة مستلزمًا لعدم وجوبها على من كان في غير عصره صلى الله عليه وسلم منهم. اهـ. من نيل الأوطار. وقد رأيت أدلة القائلين بالوجوب، والقائلين بالسنة. والواقع في نظرنا أنه ليس في شيء من أدلة الطرفين دليل جازم سالم من المعارض على الوجوب، ولا على عدمه؛ لأن صيغة الأمر بالذبح في الحديث
الصحيح، وبإعادة من ذبح قبل الصلاة وإن كان يفهم منه الوجوب على أحد الأقوال، وهو المشهور في صيغة الأمر، فحديث أم سلمة الذي ظاهره تفويض ذلك إلى إرادة المضحي، وهو في صحيح مسلم يمكن أن يكون قرينة صارفة عن الوجوب في صيغة الأمر المذكور. وكلا الدليلين لا يخلو من احتمال. وحديث "من وجد سعة فلم يضح فلا يقربن مصلانا" رجح أكثر الأئمة وقفه. وقد قدمنا أن ابن حجر قال: إنه ليس صريحًا في الإِيجاب.
وأجاب القرطبي في المفهم عن دلالة صيغة الأمر في قوله: فليعد، وقوله: فليذبح، وقال: لا حجة في شيء من ذلك على الوجوب، وإنما المقصود بيان كيفية مشروعية الأضحية لمن أراد أن يفعلها، أو من أوقعها على غير الوجه المشروع خطأ أو جهلًا، فبين له وجه تدارك ما فرط منه. اهـ. محل الغرض منه بواسطة نقل ابن حجر في الفتح.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الذي يظهر لي في مثل هذا الذي لم تتضح فيه دلالة النصوص على شيء معين إيضاحًا بينا أنه يتأكد على الإِنسان: الخروج من الخلاف فيه، فلا يترك الأضحية مع قدرته عليها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول:"دع ما يريبك إلى ما لا يريبك"، فلا ينبغي تركها لقادر عليها؛ لأن أداءها هو الذي يتيقن به براءة ذمته. والعلم عند الله تعالى.
فروع تتعلق بهذه المسألة
الأول: قد علمت: أن أكثر أهل العلم من الصحابة فمن بعدهم على أن الأضحية سنة، لا واجبة. والمالكية يقولون: إن وجوبها خاص به صلى الله عليه وسلم . وقد علمت أن الأحاديث الواردة في ذلك لا تخلو من
ضعف. وقد استثنى مالك، وأصحابه الحاج بمنى، قالوا: لا تسن له الأضحية؛ لأن ما يذبحه هدي، لا أضحية. وخالفهم جماهير أهل العلم نظرًا لعموم أدلة الأمر بالأضحية في الحاج وغيره، ولبعض النصوص المصرحة بمشروعية الأضحية للحاج بمنى.
قال البخاري في صحيحه: باب الأضحية للمسافر والنساء: حدثنا مسدد، حدثنا سفيان، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها:"أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها وحاضت بسرف قبل أن تدخل مكة، وهي تبكي" الحديث. وفيه: "فلما كنا بمنى أتيت بلحم بقر فقلت: ما هذا؟ قالوا: ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أزواجه بالبقر". اهـ.
وقال مسلم في صحيحه: حدثنا يحيى بن يحيى قال: قرأت على مالك، عن أبي الأسود محمد بن عبد الرحمن بن نوفل، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت:"خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع، فمنا من أهل بعمرة، ومنا من أهل بحج وعمرة، ومنا من أهل بالحج، وأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج" الحديث بطوله. وفيه فقالت: "وضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نسائه بالبقر". اهـ. من صحيح مسلم. قالوا: فقد ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها: "أن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى عن نسائه ببقر يوم النحر بمنى" وهو دليل صحيح على مشروعية الأضحية للحاج بمنى.
قال مقيدة عفا الله عنه وغفر له: أظهر القولين دليلًا عندي في هذا الفرع قول مالك وأصحابه وإن خالفهم الجمهور، وأن الأضحية لا تسن للحاج بمنى، وأن ما يذبحه هدي، لا أضحية، وأن
الاستدلال بحديث عائشة المتفق عليه المذكور آنفًا لا تنهض به الحجة على مالك وأصحابه.
ووجه كون مذهب مالك أرجح في نظرنا هنا مما ذهب إليه جمهور أهل العلم هو أن القرآن العظيم دال عليه، ولم يثبت ما يخالف دلالة القرآن عليه سالمًا من المعارض من كتاب أو سنة.
ووجه دلالة القرآن على أن ما يذبحه الحاج بمنى: هدي، لا أضحية هو ما قدمناه موضحًا؛ لأن قوله تعالى:{وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا} الآية. فيه معنى: أذن في الناس بالحج: يأتوك مشاة وركبانًا لحكم. منها. شهودهم منافع لهم، ومنها: ذكرهم اسم الله: {عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} عند ذبحها تقربًا إلى الله والذي يكون من حكم التأذين فيهم بالحج حتى يأتوا مشاة وركبانًا، ويشهدوا المنافع ويتقربوا بالذبح إنما هو الهدي خاصة، دون الأضحية؛ لإِجماع العلماء على أن للمضحي أن يذبح أضحيته في أي مكان شاءه من أقطار الدنيا، ولا يحتاج في التقرب بالأضحية إلى إتيانهم مشاة وركبانًا من كل فج عميق. فالآية ظاهرة في الهدي، دون الأضحية، وما كان القرآن أظهر فيه وجب تقديمه على غيره.
أما الاحتجاج بحديث عائشة المتفق عليه: "أنه ضحى ببقر عن نسائه يوم النحر صلوات الله وسلامه عليه" فلا تنهض به الحجة، لكثرة الأحاديث الصحيحة المصرحة بأنهن متمتعات، وأن ذلك البقر هدي واجب، وهو هدي التمتع المنصوص عليه في القرآن، وأن عائشة منهن قارنة، والبقر التي ذبحت عنها هدي قران، سواء قلنا:
إنها استقلت بذبح بقرة عنها وحدها، كما قدمناه في بعض الروايات الصحيحة، أو كان بالاشتراك مع غيرها في بقرة، كما قال به بعضهم. وأكثر الروايات ليس فيها لفظ: ضحى، بل فيها: أهدى. وفيها: ذبح عن نسائه. وفيها: نحر عن نسائه فلفظ ضحى من تصرف بعض الرواة للجزم بأن ما ذبح عنهن من البقر يوم النحر بمنى هدي تمتع بالنسبة لغير عائشة، وهدي قران بالنسبة إليهما، كما هو معلوم بالأحاديث الصحيحة التي لا نزاع فيها. وبهذا الذي ذكرنا تعلم أن ظاهر القرآن مع مالك، والحديث ليس فيه حجة عليه.
وقال ابن حجر في فتح الباري في باب ذبح الرجل البقر عن نسائه من غير أمرهن بعد ذكره رواية ضحى المذكور ما نصه: والظاهر أن التصرف من الرواة؛ لأنه في الحديث ذكر النحر، فحمله بعضهم على الأضحية، فإن رواية أبي هريرة صريحة في أن ذلك كان عمن اعتمر من نسائه، فقويت رواية من رواه بلفط أهدى، وتبين أنه هدي التمتع، فليس فيه حجة على مالك في قوله: لا ضحايا على أهل منى. اهـ. محل الغرض من فتح الباري. وهو واضح فيما ذكرنا. والعلم عند الله تعالى.
الفرع الثاني: اعلم أن من ذبح أضحية قبل أن يصلي إمام المسلمين صلاة العيد، فإن ذبيحته لا تجزئه عن الأضحية، وإنما شاته التي ذبحها شاة لحم يأكلها هو ومن شاء، وليست بشاة نسك. وهذا ثابت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم.
قال البخاري في صحيحه: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا غندر، حدثنا شعبة، عن زبيد اليامي، عن الشعبي، عن البراء رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن أول ما يبدأ به في يومنا هذا
أن نُصلي، ثم نرجع فننحر، من فعل فقد أصاب سنتنا، ومن ذبح قبل فإنما هو لحم قدمه لأهله ليس من النسك في شيء". اهـ. محل الغرض منه. وفي لفظ للبخاري من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم "من ذبح قبل الصلاة، فإنما ذبح لنفسه، ومن ذبح بعد الصلاة؛ فقد تم نسكه وأصاب سنة المسلمين". اهـ. وفي لفظ للبخاري عن أنس بن مالك أيضًا قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر: "من كان ذبح قبل الصلاة فليعد" الحديث. وفي لفظ للبخاري من حديث البراء عنه صلى الله عليه وسلم قال: "من ذبح قبل الصلاة فإنما يذبح لنفسه، ومن ذبح بعد الصلاة فقد تم نسكه، وأصاب سنة المسلمين". اهـ.
وقد قدمنا في حديث جندب بن سفيان البجلي أن صلى الله عليه وسلم قال: "من ذبح قبل أن يصلي فليعد مكانها أخرى" الحديث. إلى غير هذا من الروايات بمعناه في صحيح البخاري. وكون الأضحية المذبوحة قبل الصلاة لا تجزئ صاحبها الذي ذكرنا في صحيح البخاري، أخرجه مسلم أيضًا من حديث جندب بن سفيان البجلي، والبراء بن عازب، وأنس بن مالك رضي الله عنهم. فهذه الأحاديث المتفق عليها من جندب، والبراء، وأنس: نصوص صريحة في أن من ذبح أضحيته قبل صلاة الإِمام صلاة العيد أنها لا تجزئه، وإن كان الإِمام الأعظم هو إمام الصلاة فلا إشكال، وإن كان إمام الصلاة غيره، فالظاهر أن المعتبر إمام الصلاة؛ لأن ظاهر الأحاديث أنها يشترط لصحتها أن تكون بعد الصلاة. وظاهرها العموم سواء كان إمام الصلاة الإِمام الأعظم أو غيره. والعلم عند الله تعالى.
والأظهر: أن من أراد أن يضحي بمحل لا تقام فيه صلاة العيد
أنه يتحرى بذبح أضحيته قدر ما يصلي فيه الإِمام صلاة العيد عادة، ثم يذبح. واللَّه تعالى أعلم.
وقد جاء في صحيح مسلم وغيره = ما يدل على عدم إجزاء ما نحر قبل نحره صلى الله عليه وسلم . وظاهره أنه لا بد لإِجزاء الأضحية من أن تكون بعد الصلاة، وبعد نحر الإِمام. والعلم عند الله تعالى.
الفرع الثالث: في سن الأضحية التي تجزئ. والأظهر أن السن التي تجزئ في الأضحية هي التي تكون مسنة، فإن تعسرت المسنة أجزأته جذعة من الضأن.
قال مسلم بن الحجاج في صحيحه: حدثنا أحمد بن يونس، حدثنا زهير، حدثنا أبو الزبير، عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا تذبحوا إلا مسنة إلا أن يعسر عليكم، فتذبحوا جذعة من الضأن". اهـ.
وقال النووي في شرح هذا الحديث ما نصه: قال العلماء: المسنة هي الثنية من كل شيء من الإِبل والبقر والغنم، فما فوقها. وهذا تصريح بأنه لا يجوز الجذع من غير الضأن في حال من الأحوال. وهذا مجمع عليه على ما نقله القاضي عياض. ونقل العبدري وغيره، من أصحابنا عن الأوزاعي أنه قال: يجزئ الجذع من الإِبل والبقر والمعز والضأن. وحكي هذا عن عطاء. وأما الجذع من الضأن فمذهبنا، ومذهب العلماء كافة أنه يجزئ سواء وجد غيره أو لا. وحكوا عن ابن عمر والزهري أنهما قالا: لا يجزئ. وقد يحتج لهما بظاهر هذا الحديث.
قمال الجمهور: هذا الحديث محمول على الاستحباب
والأفضل، وتقديره: يستحب لكم أن لا تذبحوا إلا مسنة، فإن عجزتم فجذعة ضأن. وليس فيه تصريح بمنع جذعة ضأن، وأنها لا تجزئ بحال.
وقد أجمعت الأمة أنه ليس على ظاهره؛ لأن الجمهور يجوزون الجذع من الضأن، مع وجود غيره وعدمه. وابن عمر والزهري يمنعانه مع وجود غيره وعدمه، فتعين تأويل الحديث على ما ذكرنا من الاستحباب. واللَّه أعلم. . . إلى أن قال: والجذع من الضأن: ما له سنة تامة. هذا هو الأصح عند أصحابنا، وهو الأشهر عند أهل اللغة وغيرهم، وقيل: ما له ستة أشهر. وقيل: سبعة، وقيل: ثمانية، وقيل: ابن عشرة. حكاه القاضي، وهو غريب.
وقيل: إن كان متولدًا من بين شابين فستة أشهر، وإن كان من هرمين فثمانية أشهر. اهـ. محل الغرض منه.
وقال في شرح المهذب: ثم الجذع ما استكمل سنة على أصح الأوجه. . . إلى آخر الأوجه التي ذكرها في شرح مسلم. وتقدم نقلها عنه آنفًا.
وقال أيضًا: وأما الثني من الإِبل فما استكمل خمس سنين، ودخل في السادسة. وروى حرملة عن الشافعي أنه الذي استكمل ست سنين، ودخل في السابعة.
قال الروياني: وليس هذا قولًا آخر للشافعي وإن توهمه بعض أصحابنا، ولكنه إخبار عن نهاية سن الثني. وما ذكره الجمهور بيان لابتداء سنه. وأما الثني من البقر فهو ما استكمل سنتين، ودخل في الثالثة.
وروى حرملة عن الشافعي، أنه ما استكمل ثلاث سنين، ودخل في الرابعة. والمشهور من نصوص الشافعي الأول. وبه قطع الأصحاب وغيرهم من أهل اللغة وغيرهم. والثني من المعز فيه وجهان: أصحهما: ما استكمل سنتين. والثاني: ما استكمل سنة. اهـ منه.
وقد علمت أن الثني هو المسن.
قال ابن الأثير في النهاية في الجذع: هو من الإِبل ما دخل في السنة الخامسة، ومن البقر والمعز: ما دخل في السنة الثانية، وقيل: البقر في الثالثة، ومن الضأن: ما تمت له سنة، وقيل: أقل منها. ومنهم من يخالف بعض هذا في التقدير. اهـ. منه.
وقال ابن الأثير في النهاية أيضًا: الثنية من الغنم ما دخلت في السنة الثالثة، ومن البقر كذلك، ومن الإِبل: في السادسة، والذكر ثني. وعلى مذهب أحمد بن حنبل: ما دخل من المعز في الثانية، ومن البقر في الثالثة.
وقال ابن الأثير في النهاية في المسنة، قال الأزهري: البقرة والشاة يقع عليهما اسم المسن إذا أثنيا، ويثنيان في السنة الثالثة.
وقال الجوهري في صحاحه: الجذع قبل الثني، والجمع جذعان وجذاع، والأنثى: جذعة، والجمع: جذعات. تقول منه لولد الشاة في السنة الثانية، ولولد البقر والحافر في السنة الثالثة، وللإِبل في السنة الخامسة: أجذع. والجذع اسم له في زمن ليس بسن تنبت ولا تسقط، وقد قيل في ولد النعجة: إنه جذع في ستة أشهر، أو تسعة أشهر. وذلك جائز في الأضحية. انتهى منه.
وفي القاموس: والثنية: الناقة الطاعنة في السادسة، والبعير ثني، والفرس الداخلة في الرابعة، والشاة في الثالثة كالبقرة. اهـ منه.
وقد علمت مما مر: أن حديث مسلم الثابت فيه دل على أن الأضحية لا تكون إلَّا بمسنة، وأنها إن تعسرت فجذعة من الضأن، فمن ضحى لمسنة، أو بجذعة من الضأن عند تعسرها: فضحيته مجزئة إجماعًا.
واختلف أهل العلم فيما سوى ذلك، وهذه مذاهبهم وأدلتها.
فذهب مالك رحمه الله وأصحابه إلى أن المجزئ في الضحية جذع الضأن، وثني المعز، والبقر، والإِبل. وجذع الضأن عندهم هو ما أكمل سنة على المشهور، وثني المعز عندهم هو ما أكمل سنة، ودخل في الثانية دخولًا بيّنًا، فالدخول في السنة الثانية، دخولًا بيِّنًا هو الفرق عندهم بين جذع الضأن، وثني المعز.
ودليل مالك وأصحابه على ما ذكرنا عنهم في سن الأضحية: أن جذع الضأن عندهم لا فرق بينه وبين جذعة الضأن المنصوص على إجزائها في صحيح مسلم، وأن الثني ثبت إجزاؤه مطلقًا، وتحديدهم له في المعز بما دخل في الثانية دخولًا بيِّنًا من تحقيق المناط، والثني عندهم من البقر ابن ثلاث سنين، والأنثى والذكر سواء عندهم. والثني عندهم من الإِبل: ابن خمس سنين، والذكر والأنثى سواء.
ومعلوم أن الذكورة، والأنوثة في الضحايا والهدايا، وصفان طرديان، لا أثر لواحد منهما في الحكم فهما سواء.
وقال بعض المالكية: إن الثني من البقر: ابن أربع سنين. والظاهر: أنه غير مخالف للقول الأول، وأن المراد به ابن ثلاث ودخل في الرابعة.
وقال ابن حبيب من المالكية: والثني من الإِبل ابن ست سنين. والظاهر أيضًا أنه غير مخالف للقول الأول؛ لأن المراد به ابن خمس، ودخل في السادسة.
فإن قيل: ظاهر
(1)
. . . سلمنا أن جذعة الضأن المنصوص عليها في حديث جابر عند مسلم لا فرق بينها وبين الجذع الذكر؛ لأن الذكورة والأنوثة في الهدايا والضحايا وصفان طرديان، لا أثر لهما في الحكم، ولكن ظاهر الحديث يدل على أن جذعة الضأن الأنثى المذكورة في الحديث لا يذبحها إلَّا من تعسرت عليه المسنة، التي هي الثنية؛ لأن لفظ الحديث المتقدم "لا تذبحوا إلَّا مسنة إلَّا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن".
فالجواب: أن ظاهر الحديث أن الجذعة من الضأن لا تجزئ إلَّا عند تعسر المسنة وظاهره أن الجذع الذكر من الضأن لا يجزئ سواء عسر وجود المسنة، أو لم يعسر. وجمهور أهل العلم خالفوا ظاهر هذا الحديث من الجهتين المذكورتين إلَّا ما روي عن ابن عمر، والزهري من أن الجذع الذكر من الضأن لا يجزئ مطلقًا؛ لظاهر هذا الحديث.
قال النووي في شرحه لحديث مسلم هذا ما نصه: قال العلماء: المسنة هي الثنية من كل شيء من الإِبل والبقر والغنم، فما فوقها.
(1)
كذا في الأصل.
وهذا تصريح بأنه لا يجوز الجذع من غير الضأن في حال من الأحوال. وهذا مجمع عليه على ما نقله القاضي عياض. ونقل العبدري، وغيره من أصحابنا أنه قال: يجوز الجذع من الإِبل والبقر والمعز والضأن. وحكي هذا عن عطاء. وأما الجذع من الضأن فمذهبنا، ومذهب العلماء كافة أنه يجزئ، سواء وجد غيره أو لا، وحكوا عن ابن عمر، والزهري أنهما قالا: لا يجزئ. وقد يحتج لهما بظاهر الحديث. قال الجمهور: هذا الحديث محمول على الاستحباب، والأفضل، وتقديره: يستحب لكم ألا تذبحوا إلَّا مسنة، فإن عجزتم فجذعة ضأن. وليس فيه تصريح بمنع جذعة الضأن، وأنها لا تجزئ بحال. وقد أجمعت الأمة أنه ليس على ظاهره؛ لأن الجمهور يجوزون الجذع من الضأن مع وجود غيره وعدمه، وابن عمر، والزهري يمنعانه مع وجود غيره وعدمه، فتعين تأويل الحديث على ما ذكرنا من الاستحباب. والله أعلم.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الحديث ظاهر في أن جذعة الضأن لا تجزئ إلَّا إذا تعسر وجود المسنة، لأن قوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الصحيح:"لا تذبحوا إلَّا مسنة" نهي صريح عن ذبح غير المسنة التي هي الثنية. والنهي يقتضي التحريم، كما تقرر في الأصول إلَّا إذا وجد صارف عنه، وهو دليل ظاهر على أن جذعة الضأن لا تجزئ إلَّا عند تعسر المسنة كما ترى. وسيأتي إن شاء الله إيضاح بقية هذا البحث بعد ذكر مذاهب أهل العلم في هذه المسألة، ومناقشة أدلتهم.
وأما مذهب الشافعي رحمه الله في هذه المسألة فهو أن الجذع لا يجزئ إلَّا من الضأن خاصة، والجذع من الضأن والجذعة عنده
سواء. وأما غير الضأن فلا يجزئ عنده منه إلَّا الثنية، أو الثني. وقد قدمنا كلام أهل العلم، واللغة في سن الجذع، والثني، والجذعة والثنية. والوجه الذي حكاه الرافعي أن جذع المعز يجزئ عند الشافعية غلط كما صرح به النووي.
وأما مذهب أبي حنيفة فهو كمذهب الشافعي، وهو جواز التضحية بالجذع من الضأن خاصة، وبالثني من غير الضأن، وهو المعز والإِبل والبقر.
وقال صاحب تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق في الفقه الحنفي ما نصه: والجذع من الضأن ما تمت له ستة أشهر عند الفقهاء. وذكر الزعفراني أنه ابن سبعة أشهر. والثني من الضأن والمعز ابن سنة، ومن البقر ابن سنتين، ومن الإِبل ابن خمس سنين. وفي القرب: الجذع من البهائم قبل الثني إلَّا أنه من الإِبل قبل السنة الخامسة، ومن البقر والشاة في السنة الثانية، ومن الخيل في الرابعة. وعن الزهري الجذع من المعز لسنة، ومن الضأن لثمانية أشهر. اهـ منه.
والأصح: هو ما قدمنا في سن الجذع والثني عن الفقهاء، وأهل اللغة.
ومذهب الإِمام أحمد كمذهب أبي حنيفة والشافعي، فلا يجوز عنده الجذع إلَّا من الضأن خاصة، ولا يجوز من غير الضأن إلَّا الثني. والجذع من الضأن عندهم ما له ستة أشهر، ودخل في السابع، وثني المعز عندهم إذا تمت له سنة، ودخل في الثانية، وثني البقر عندهم إذا تمت له سنتان، ودخل في الثالثة، وثني الإِبل عندهم إذا تمت له خمس سنين، ودخل في السادسة. قاله ابن قدامة في المغني.
وقال أيضًا: قال الأصمعي، وأبو زياد الكلابي، وأبو زيد الأنصاري: إذ مضت السنة الخامسة على البعير، ودخل في السادسة، وألقى ثنيته فهو حينئذٍ ثني، ونرى أنه إنما سمى ثنيًا؛ لأنه ألقى ثنيتيه. وأما البقرة فهي التي لها سنتان؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا تذبحوا إلَّا مسنة" ومسنة البقر التي لها سنتان. وقال وكيع: الجذع من الضأن يكون ابن سبعة أشهر. انتهى كلام المغني.
وقد عرفت مذاهب الأئمة الأربعة في السن التي تجزئ ضحية من بهيمة الأنعام، وأنهم متفقون على إجزاء جذع الضأن، والثني من غيره مع بعض الاختلاف الذي رأيت في سن الجذع والثني.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الأظهر عندي. هو ما عليه جمهور أهل العلم منهم الأئمة الأربعة وغيرهم؛ أنه لا يجزئ في الأضحية الجذع إلَّا من الضأن خاصة، ومن غير الضأن وهو المعز، والإِبل والبقر لا يجزئ إلَّا الثني، فما فوقه. والذكر والأنثى سواء في الهدايا والأضاحي، كما تقدم.
والتأويل الذي قدمنا عن النووي في حديث جابر في قوله صلى الله عليه وسلم "لا تذبحوا إلَّا مسنة إلَّا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن" أنه متعين بحمله على الاستحباب، والأفضل يظهر لي أنه متعين، كما قاله النووي. والقرينة الصارفة عن ظاهر حديث جابر المذكور عند مسلم هي أحاديث أخر جاءت من طرق عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الجذع من الضأن يجزئ. وظاهرها ولو كان المضحي قادرًا على المسنة، وسنذكرها هنا بواسطة نقل المجد في المنتقى؛ لأنه ذكرها في محل واحد.
فمنها: ما رواه الإِمام أحمد والترمذي، عن أبي هريرة
رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "نعم أو نعمت الأضحية: الجذع من الضأن".
ومنها: ما رواه الإِمام أحمد، وابن ماجه، عن أم بلال بنت هلال، عن أبيها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"يجوز الجذع من الضأن ضحية".
ومنها: ما رواه أبو داود، وابن ماجه، عن مجاشع بن سليم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول:"إن الجذع يوفي مما توفي منه الثنية".
ومنها: ما رواه النسائي، عن عقبة بن عامر رضى الله عنه قال:"ضحينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجذع من الضأن". اهـ. بواسطة نقل المجد في المنتقى.
وهذه الأحاديث يقوي بعضها بعضًا، فتصلح بمجموعها للاحتجاج، وتعتضد بأن عامة أهل العلم على العمل بها إلَّا ما نقل عن ابن عمر، والزهري.
وقد دل حديث جابر المذكور عند مسلم على أن الجذع من غير الضأن لا يجزئ، وهو كذلك، وحديث البراء بن عازب الثابت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بردة "ضح بجذعة من المعز، ولن تجزئ عن أحد بعدك" دليل على أن جذع المعز لا يجزئ في الأضحية.
قال البخاري في صحيحه: باب قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بردة: "ضح بالجذع من المعز، ولن تجزئ عن أحد بعدك".
حدثنا مسدد، حدثنا خالد بن عبد الله، حدثنا مطرف، عن عامر، عن البراء بن عازب رضي الله عنهما، قال: ضحى خال لي
يقال له: أبو بردة قبل الصلاة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم :"شاتك شاة لحم، فقال: يا رسول الله إن عندي داجنًا جذعة من المعز. قال: اذبحها ولا تصلح لغيرك". اهـ منه. وفي لفظ للبخاري من حديث البراء "ولن تجزئ عن أحد بعدك" وكذلك هي في بعض ألفاظ مسلم في حديث البراء المذكور "ولن تجزئ عن أحد بعدك" وفي لفظ عند مسلم من حديث البراء "ضح بها ولا تصلح لغيرك" وفي لفظ له عنه "ولا تجزئ جذعة عن أحد بعدك".
والروايات بأن النبي صلى الله عليه وسلم رخص لأبي بردة في التضحية بعناق جذعة من المعز. وصرح بأنها لا تجزئ عن أحد بعده معروفة في الصحيحين وغيرهما وهي دليل على أن جذع المعز لا يجزئ. فمن قال من أهل العلم بأنه يجزئ رد قوله بهذا الحديث الصحيح، المصرح بأن جذعة المعز لا تجزئ عن أحد بعد أبي بردة.
فإن قيل: جاء في الصحيحين من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه غنمًا يقسمها على صحابته ضحايا، فبقي عتود فذكره النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ضح به أنت" وهذا لفظ البخاري في صحيحه، وفي لفظ لمسلم عن عقبة بن عامر الجهنى المذكور رضي الله عنه قال:"قسم النبي صلى الله عليه وسلم فينا ضحايا فأصابني جذع، فقلت: يا رسول الله أصابني جذع فقال: ضح به". اهـ منه.
وروايات هذا الحديث الصحيح عن عقبة بن عامر: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يضحي بجذع المعز؛ لأن العتود لا تطلق إلَّا على ولد المعز، والروايات مصرحة بأن المذكور جذع. وقال ابن الأثير في النهاية: والعتود من ولد المعز إذا قوي ورعى، وأتى عليه حول. وهذا حديث متفق عليه، فيه الدلالة الصريحة على جواز التضحية
بجذع المعز. وذكر ابن حجر في الفتح: أن البيهقي ذكر زيادة في حديث عقبة بن عامر المذكور عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعقبة: "ولا رخصة فيها لأحد بعدك" وقال ابن حجر: إن الطريق التي روى بها البيهقي الزيادة المذكورة صحيحة وإن حاول بعضهم تضعيفها.
فالجواب: أن الجمع بين ما وقع لأبي بردة، وعقبة بن عامر أشكل على كثير من أهل العلم، ويزيده إشكالًا أن الترخيص في الأضحية بجذع المعز ورد عنه صلى الله عليه وسلم لجماعة آخرين.
قال ابن حجر في الفتح: فقد أخرج أبو داود، وأحمد، وصححه ابن حبان من حديث زيد بن خالد "أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه عتودًا جذعًا فقال: ضح به. فقلت: إنه جذع أفأضحي؟ قال: نعم ضح به فضحيت به" لفظ أحمد. . . إلى أن قال: وفي الطبراني في الأوسط من حديث ابن عباس "أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى سعد بن أبي وقاص جذعًا من المعز فأمره أن يضحي به" وأخرجه الحاكم من حديث عائشة. وفي سنده ضعف. ولأبي يعلى، والحاكم من حديث أبي هريرة أن رجلًا قال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا جذع من الضأن مهزول، وهذا جذع من المعز سمين، وهو خيرهما أفأضحي به؟ قال: "ضح به فإن للَّه الخير". انتهى بواسطة نقل ابن حجر في فتح الباري.
وإذا عرفت أن في الأحاديث المذكورة إشكالًا، فاعلم: أن الحافظ في الفتح تصدى لإِزالة ذلك الإِشكال، فقال في موضع بعد سوقه الأحاديث التي ذكرنا: والحق أنه لا منافاة بين هذه الأحاديث، وبين حديثي أبي بردة، وعقبة، لاحتمال أن يكون ذلك في ابتداء
الأمر، ثم تقرر الشرع بأن الجذع من المعز لا يجزئ، واختص أبو بردة وعقبة بالرخصة في ذلك. وإنما قلت ذلك، لأن بعض الناس زعم أن هؤلاء شاركوا أبا بردة وعقبة في ذلك، والمشاركة إنما وقعت في مطلق الإِجزاء، لا في خصوص منع الغير. انتهى محل الغرض منه بلفظه. ومقصوده: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل لأحد ممن رخص لهم في التضحية بجذع المعز "ولن تجزئ عن أحد بعدك" إلَّا لأبي بردة، وعقبة بن عامر على ما رواه البيهقي، والذين لم يقل لهم: ولن تجزئ عن أحد بعدك. لا إشكال في مسألتهم، لاحتمال أنها قبل تقرر الشرع بعدم إجزاء جذع المعز، فبقي الإِشكال بين حديث أبي بردة، وحديث عقبة. وقد تصدى لحله ابن حجر في الفتح أيضًا فقال في موضع: وأقرب ما يقال فيه: إن ذلك صدر لكل منهما في وقت واحد، أو تكون خصوصية الأول نسخت بثبوت الخصوصية للثاني، ولا مانع من ذلك؛ لأنه لم يقع في السياق استمرار المنع لغيره صريحًا. اهـ محل الغرض منه. وقال في موضع آخر: وإن تعذر الجمع الذي قدمته، فحديث أبي بردة أصح مخرجًا. اهـ منه.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: أما الجمع الذي ذكره ابن حجر، فالظاهر عندي: أنه لا يصح. وقوله: لأنه لم يقع في السياق استمرار المنع غلط منه رحمه الله، بل وقع في السياق التصريح باستمرار المنع؛ لأن قوله صلى الله عليه وسلم :"ولن تجزئ عن أحد بعدك" صريح في استمرار منع الإِجزاء عن غيره، لأن لفظة "لن" تدل على نفي الفعل في المستقبل من الزمن، فهي دليل صريح على استمرار عدم الإِجزاء عن غيره في المستقبل من الزمن. ويؤيد ذلك أن قوله: "عن
أحد بعدك" نكرة في سياق النفي، فهي تعم كل أحد في كل وقت، كما ترى.
والصواب: الترجيح بين الحديثين، وحديث أبي بردة لا شك أن لفظة "ولن تجزئ عن أحد بعدك" فيه أصح سندًا من زيادة نحو ذلك في حديث عقبة، فيجب تقديم حديث أبي بردة على حديث عقبة، كما ذكره ابن حجر في كلامه الأخير. واللَّه تعالى أعلم.
فإن قيل: ذكر جماعة من علماء العربية أن لفظة. "لن"، لا تدل على تأبيد النفي.
قال ابن هشام في المغني في الكلام على "لن" ولا تفيد توكيد النفي، خلافًا للزمخشري في كشافه، ولا تأبيده خلافًا له في أنموذجه، وكلاهما دعوى بلا دليل. قيل: ولو كانت للتأبيد، لم يقيد منفيها باليوم في {فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26)} ، ولكان ذكر الأبد في {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا} تكرارًا والأصل عدمه. اهـ محل الغرض منه.
فالجواب: أن قول الزمخشري بإفادة "لن" التأبيد يجب رده؛ لأنه يقصد به استحالة رؤية الله تعالى يوم القيامة زاعمًا أن قوله لموسى: {لَنْ تَرَانِي} تفيد فيه لفظة "لن" تأبيد النفي، فلا يرى الله عنده أبدًا لا في الدنيا، ولا في الآخرة. وهذا مذهب معتزلي معروف باطل ترده النصوص الصحيحة في القرآن، والأحاديث الصحيحة الكثيرة التي لا مطعن في ثبوتها. وقد بينا مرارًا أن رؤية الله تعالى بالأبصار جائزة عقلًا في الدنيا والآخرة، ولو كانت ممنوعة عقلًا في الدنيا لما قال نبي الله موسى:{رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} لأنه لا يجهل المحال في حق خالقه تعالى، وأنها ممنوعة شرعًا في الدنيا ثابتة الوقوع في الآخرة، وإفادة "لن" التأبيد التي زعمها الزمخشري في
الآية تردها النصوص الصحيحة الصريحة في الرؤية في الآخرة، ولا ينافي ذلك أن تفيد "لن" التأبيد في موضع لم يعارضها فيه نص.
وبالجملة فقد اختلف أهل العربية في إفادة "لن" تأبيد النفي حيث لم يصرف عنه صارف، وعدم إفادتها لذلك، فعلى القول بأنها تفيد التأبيد فقوله صلى الله عليه وسلم لأبي بردة:"ولن تجزئ عن أحد بعدك" يدل على تأبيد نفي الإجزاء، كما ذكرنا، وعلى عدم اقتضائها التأبيد، فلا تقل عن الظهور فيه، حتى يصرف عنه صارف. وبذلك كله تعلم أن الجمع بين حديث أبي بردة، وحديث عقبة بن عامر كالمتعذر، فيجب الترجيح. وحديث أبي بردة أرجح. والعلم عند الله تعالى.
وهذا الذي ذكرنا في هذا الفرع هو حاصل كلام أهل العلم في السن التي تجزئ في الضحايا.
الفرع الرابع: اعلم: أنه لا يجوز في الأضحية إلَّا بهيمة الأنعام، وهي الإِبل، والبقر، والضأن، والمعز بأنواعها، لقوله تعالى:{وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} فلا تشرع التضحية بالظباء، ولا ببقرة الوحش، وحمار الوحش مثلًا.
وقال النووي في شرح المهذب: ولا تجزئ بالمتولد من الظباء والغنم؛ لأنه ليس من بهيمة الأنعام. اهـ.
والظاهر أنه كذلك كما عليه جماهير أهل العلم، فما روي عن الحسن بن صالح من أن بقرة الوحش تجزئ عن سبعة، والظبي عن واحد، خلاف التحقيق. وعن أصحاب الرأي: أن ولد البقرة الإِنسية يجزئ وإن كان أبوه وحشيًا. وعن أبي ثور: يجزئ إن كان منسوبًا
إلى بهيمة الأنعام. والأظهر: أن المتولد من بين ما يجزئ وما لا يجزئ، لا يجزئ بناء على قاعدة تقديم الحاظر على المبيح. ومعلوم أنها خالف فيها بعض أهل الأصول. وعلى كل حال فالأحوط أن لا يضحي إلَّا ببهيمة الأنعام، لظاهر الآية الكريمة.
الفرع الخامس: اعلم: أن أكثر أهل العلم على أن أفضل أنواع الأضحية: البدنة، ثم البقرة، ثم الشاة. والضأن أفضل من المعز. وسيأتي الكلام على حكم الاشتراك في الأضحية ببدنة، أو بقرة إن شاء الله وكون الأفضل البدنة، ثم البقرة، ثم شاة الضأن، ثم شاة المعز.
قال النووي في شرح المهذب: هو مذهبنا ومذهب أبي حنيفة، وأحمد، وداود. وقال مالك: أفضلها الغنم، ثم البقر، ثم الإِبل. قال: والضأن أفضل من المعز، وإناثها أفضل من فحول المعز، وفحول الضأن خير من إناث المعز، وإناث المعز خير من الإِبل، والبقر. وقال بعض أصحاب مالك: الإِبل أفضل من البقر.
فإذا عرفت أقوال أهل العلم في أفضل ما يضحى به من بهيمة الأنعام فاعلم أن الجمهور الذين قالوا: البدنة أفضل، ثم البقرة، ثم الشاة احتجوا بأدلة:
منها: أن البدنة أعظم من البقرة، والبقرة أعظم من الشاة. واللَّه تعالى يقول:{ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32)} الآية.
ومنها: ما قدمنا ثابتًا في الصحيح: أن البقرة والبدنة كلتاهما تجزئ عن سبعة في الهدي، فكل واحدة منهما تعدل سبع شياه.
وكونها تعدل سبع شياه دليل واضح على أنها أفضل من شاة واحدة.
ومنها: ما رواه الشيخان، والإِمام أحمد، وأصحاب السنن، غير ابن ماجه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة، ثم راح فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة، فكأنما قرب كبشًا أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة، فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة، فكأنما قرب بيضة، فإذا خرج الإِمام حضرت الملائكة يسمعون الذكر". اهـ. قالوا: ففي هذا الحديث الصحيح الدلالة الواضحة على أن البدنة أفضل، ثم البقرة، ثم الكبش الأقرن، ووجهه ظاهر.
واحتج مالك وأصحابه على أن التضحية بالغنم أفضل بأنه صلى الله عليه وسلم كان يضحي بالغنم لا بالإِبل ولا بالبقر. وقد قدمنا الأحاديث بتضحيته بكبشين أقرنين أملحين، وتضحيته بكبش أقرن يطأ في سواد، ويبرك في سواد، وينظر في سواد. وكلها ثابتة في الصحيح كما قدمنا أسانيدها ومتونها. قالوا: وهو صلى الله عليه وسلم لا يضحى مكررًا ذلك عامًا بعد عام إلَّا بما هو الأفضل في الأضحية. فلو كانت التضحية بالإِبل، والبقر أفضل لفعل صلى الله عليه وسلم ذلك الأفضل.
قالوا: فإن قيل: أهدى في حجته الإِبل، ولم يهد الغنم.
فالجواب: أنه أهدى الغنم أيضًا فبعث بها إلى البيت، ولو سلمنا أن الإِبل أفضل في الهدي، فلا نسلم أنها أفضل في الأضحية. والمالكية لا ينكرون أفضلية الإِبل في الهدي، وإنما يقولون: إن الغنم أفضل في الأضحية، ولكل من الغنم والإِبل فضل من جهة، فالإِبل أفضل من حيث كثرة لحمها، والغنم أفضل من حيث إن لحمها
أطيب، وألذ. وعند المالكية فلا مانع من أن يراعى كل واحد من الوصفين في نوع من أنواع النسك.
ودليل الجمهور ظاهر، لكن دليل المالكية أخص في محل النزاع؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يضح إلَّا بالغنم، والخير كله في اتباعه في أقواله، وأفعاله. وما جاء عنه من تفضيل البدنة، ثم البقرة، ثم الكبش الأقرن، لم يأت في خصوص الأضحية، ولكن فعله صلى الله عليه وسلم في خصوص الأضحية، واللَّه تعالى يقول:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} .
والحاصل: أن لكل من القولين وجهًا من النظر. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
واعلم: أن الجمهور أجابوا عن دليل مالك بأن تضحيته صلى الله عليه وسلم بالغنم لبيان الجواز، أو لأنه لم يتيسر له في ذلك الوقت بدنة ولا بقرة، وإنما تيسرت له الغنم. هكذا قالوا. وظاهر الأحاديث تكرر تضحيته صلى الله عليه وسلم بالغنم. وقد يدل ذلك على قصده الغنم دون غيرها؛ لأنه لو لم يتيسر له إلَّا الغنم سنة فقد يتيسر له غيرها في سنة أخرى. واللَّه تعالى أعلم.
فإن قيل: روى البيهقي عن ابن عمر كان صلى الله عليه وسلم يضحي بالجزور أحيانًا، وبالكبش إذا لم يجد الجزور.
فالجواب: أن الزرقاني في شرح الموطأ قال ما نصه: وحديث البيهقي عن ابن عمر كان صلى الله عليه وسلم يضحي بالجزور أحيانًا، وبالكبش إذا لم يجد الجزور. ضعيف. في سنده عبد الله بن نافع، وفيه مقال. اهـ منه. وقد روى البيهقي في السنن الكبرى، عن أبي أمامة، وعبادة بن الصامت رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه
قال: "خير الضحايا الكبش الأقرن". اهـ منه. وقد ذكر النووي أن فيه ضعفًا. ولا شك أنه تقويه الأحاديث الصحيحة الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم بالمداومة على التضحية بالكبشين الأقرنين، أو الكبش الأقرن، كما تقدم إيضاحه.
الفرع السادس: اعلم: أن جمهور أهل العلم: أجازوا اشتراك سبعة مضحين في بدنة، أو بقرة، بأن يشتروها مشتركة بينهم، ثم يهدوا بها، أو يضحوا بها عن كل واحد سبعها.
وقد قدمنا النصوص الصريحة بذلك في الهدي. والظاهر: عدم الفرق في ذلك بين الهدي، والأضحية.
وخالف مالك وأصحابه الجمهور، فقالوا: لا يجوز ذبح بدنة مشتركة، ولا بقرة، وإنما يملكها واحد، فيشرك غيره معه في الأجر. أما اشتراكهم في ملكها فلا يجزئ عند مالك لا في الأضحية ولا في الهدي الواجب، وكذلك هدي التطوع خلافًا لأشهب من أصحابه.
واعلم: أن مالكًا رحمه الله حمل أحاديث اشتراك السبعة في البدنة والبقرة على الاشتراك في الأجر، بأن يكون المالك واحدًا، ويشرك غيره معه في الأجر، لا في ملك الرقبة. وظاهر الأحاديث فيه الدلالة الواضحة على الاشتراك في الملك. وأجاز مالك للرجل أن يضحي بالشاة الواحدة، ويشرك معه أهله في الأجر.
وقد قدمنا في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم ذبح كبشًا وقال: "اللَّهم تقبل من محمد وآل محمد".
والحاصل: أن العلماء مجمعون على أنه لا يجوز اشتراك
مالكين في شاة الأضحية. أما كون المالك واحدًا فيضحي عن نفسه بالشاة، وينوي اشتراك أهل بيته معه في الأجر، وأن ذلك يتأدى به الشعار الإِسلامي عنهم جميعًا، فلا ينبغي أن يختلف فيه؛ لدلالة النصوص الصحيحة عليه، كالحديث المذكور آنفًا وغيره، كحديث أبي أيوب الأنصاري كان الرجل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحي بالشاة عنه، وعن أهل بيته، فيأكلون ويطعمون، حتى تباهى الناس، فصار كما ترى. قال في المنتقى: رواه ابن ماجه، والترمذي، وصححه. وقال شارحه في النيل: وأخرجه مالك في الموطأ. إلى غير ذلك من الأحاديث. والاشتراك المذكور في الأجر في الشاة الواحدة يصح ولو كانوا أكثر من سبعة، كما هو ظاهر النص، وكما صرح به المالكية وغيرهم. واشترط المالكية لذلك شروطًا ثلاثة: وهي سكناهم مع المضحي، وقرابتهم منه، وإنفاقه عليهم، وإن تبرعا. ولا أعلم لهذه الشروط مستندًا من الوحي إلَّا أن يكون يراد بها تحقيق المناط في مسمى الأهل، وأن أهل الرجل هم ما اجتمع فيهم الأوصاف الثلاثة. ولا تساعد على الشروط المذكورة في جميع النسك الأحاديث المتقدمة باشتراك كل سبعة من الصحابة في بدنة أو بقرة في عمرة الحديبية، وفي الحج؛ لأن ذلك الاشتراك عند مالك في الأجر لا في الرقبة. وظاهر الأحاديث أنهم لم تجتمع فيهم الشروط المذكورة. والعلم عند الله تعالى.
وما ذكرنا من التضحية بالشاة الواحدة عن المضحي وأهله. قال ابن قدامة في المغني: نص عليه أحمد، وبه قال مالك، والليث والأوزاعي، وإسحاق، وروي ذلك عن ابن عمر، وأبي هريرة، ثم قال: وكره ذلك الثوري، وأبو حنيفة؛ لأن الشاة لا تجزئ عن أكثر
من واحد، فإذا اشترك فيها اثنان لم تجزئ عنهما كالأخبيين. اهـ منه. والحديث المتفق عليه المذكور حجة على من خالفه.
الفرع السابع: اعلم أنا قدمنا وقت الأضحية والهدي وأقوال أهل العلم في ذلك بما أغنى عن إعادته هنا. وقد قدمنا حديث أم سلمة، عند مسلم المقتضي أن من أراد أن يضحي لا ينبغي له أن يحلق شيئًا من شعره، ولا أن يقلم شيئًا من أظفاره في عشر ذي الحجة، حتى يضحي. وظاهر الحديث تحريم ذلك؛ لأن في لفظ الحديث عند مسلم، عن أم سلمة عنه صلى الله عليه وسلم "فلا يأخذن شعرًا، ولا يقلمن ظفرًا" وفي لفظ له عنها عنه صلى الله عليه وسلم : "فلا يمس من شعره وبشره شيئًا" وفي الألفاظ المذكورة في الحديث الصحيح النهي عن حلق الشعر، وتقليم الأظفار في عشر ذي الحجة لمن أراد أن يضحي، والنهي يقتضي التحريم إلَّا لصارف عنه يجب الرجوع إليه، كما تقرر في الأصول. وقال الشافعية والمالكية، ومن وافقهم: إن الحلق وتقليم الأظفار مكروه كراهة تنزيه لا تحريم؛ لأن المضحي ليس بمحرم.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: التحريم أظهر لظاهر الحديث، ولأنه صلى الله عليه وسلم يقول:"وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه" والتحريم المذكور لظاهر النص وجه للشافعية. قال النووي: حكاه أبو الحسن العبادي في كتابه الرقم، وحكاه الرافعي عنه لظاهر الحديث، وحكى الشيخ المواق في شرحه لخليل، عن أحمد، وإسحاق: تحريم الحلق، وتقليم الأظافر في عشر ذي الحجة لمريد التضحية. وقال ابن قدامة في المغني: قال بعض أصحابنا بالتحريم، وحكاه ابن المنذر عن أحمد، وإسحاق، وسعيد بن المسيب، وقال القاضي، وجماعة من
أصحابنا: هو مكروه غير محرم، وبه قال مالك، والشافعي لقول عائشة:"كنت أفتل قلائد هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يقلدها بيده" ولا يحرم عليه شيء أحله الله له حتى ينحر الهدي متفق عليه، وقال أبو حنيفة: لا يكره ذلك؛ لأنه لا يحرم عليه الوطء واللباس، فلا يكره له حلق الشعر، وتقليم الأظفار، كما لو لم يرد أن يضحي. اهـ محل الغرض منه بلفظه.
وأظهر شيء في محل النزاع وأصرحه وأخصه فيه: حديث أم سلمة، وظاهره التحريم.
وقال النووي في شرح المهذب: مذهبنا أن إزالة الشعر والظفر في العشر لمن أراد التضحية: مكروه كراهة تنزيه، حتى يضحي، وقال مالك، وأبو حنيفة: لا يكره، وقال سعيد بن المسيب، وأحمد، وربيعة، وإسحاق، وداود: يحرم، وعن مالك أنه يكره، وحكى عنه الدارمي يحرم في التطوع، ولا يحرم في الواجب، ثم ذكر الدليلين المذكورين للقولين.
وقد ذكرنا آنفًا أن أخصهما في محل النزاع ظاهره التحريم، وهو حديث أم سلمة. والعلم عند الله تعالى.
الفرع الثامن: أجمع العلماء على إجزاء الذكر والأنثى. واختلفوا أيهما أفضل، وظاهر النصوص الصحيحة: أن ذكور الضأن خير من إناثها، لتضحيته بالكبش، دون النعجة، وبعضهم قال بأفضلية الذكور مطلقًا، وبعضهم قال بأفضلية الإِناث مطلقًا. ولم يقم دليل صحيح في غير ذكر الضأن فلا ينبغي أن يختلف في ذكر الضأن أنه أفضل من أنثاه.
الفرع التاسع: اعلم أن منع ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث. منسوخ. فقد دلت الأحاديث الصحيحة على أنه صلى الله عليه وسلم منع ادخار لحم الأضاحي بعد ثلاث، ومنع المضحي أن يأكل من أضحيته بعد ثلاث، ثم نسخ ذلك، وصار الأكل والادخار منها مباحًا مطلقًا. وسنذكر هنا إن شاء الله طرفًا من الأحاديث الصحيحة الدالة على المنع المذكور أولًا، وعلى نسخه وإباحة ذلك مطلقًا.
قال البخاري رحمه الله في صحيحه: حدثنا أبو عاصم، عن يزيد بن أبي عبيد، عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم : "من ضحى منكم فلا يصبحن بعد ثالثة وبقي في بيته منه شيء، فلما كان العام المقبل قالوا: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم نفعل كما فعلنا العام الماضي؟ قال: كلوا وأطعموا وادخروا، فإن ذلك العام كان بالناس جهد، فأردت أن تعينوا فيها" وحديث سلمة بن الأكوع هذا. أخرجه أيضًا مسلم في صحيحه قريبًا من لفظ البخاري.
وقال مسلم بن الحجاج رحمه الله في صحيحه: حدثني عبد الجبار بن العلاء، حدثنا سفيان، حدثنا الزهري، عن أبي عبيد قال: شهدت العيد مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فبدأ بالصلاة قبل الخطبة، وقال:"إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهانا أن نأكل من لحوم نسكنا بعد ثلاث" وفي لفظ مسلم عن علي أنه قال: "إنه صلى الله عليه وسلم قد نهاكم أن تأكلوا لحوم نسككم فوق ثلاث ليال فلا تأكلوا".
وفي لفظ لمسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يأكل أحدكم من لحم أضحيته فوق ثلاثة أيام" وفي لفظ له عنه "أنه صلى الله عليه وسلم نهى أن تؤكل لحوم الأضاحي بعد ثلاث" ثم قال: قال
سالم: فكان ابن عمر لا يأكل لحوم الأضاحي فوق ثلاث. وفي لفظ: بعد ثلاث.
وفي لفظ لمسلم عن عبد الله بن واقد قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل لحوم الضحايا بعد ثلاث، فقال عبد الله بن أبي بكر: فذكرت ذلك لعمرة فقالت: صدق، سمعت عائشة رضي الله عنها تقول: دف أهل أبيات من أهل البادية صفرة الأضحى زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ادخروا ثلاثًا، ثم تصدقوا بما بقي فلما كان بعد ذلك قالوا: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الناس يتخذون الأسقية من ضحاياهم، ويجملون منها الودك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وما ذاك؟ قالوا: نهيت أن تؤكل لحوم الضحايا بعد ثلاث، فقال: إنما نهيتكم من أجل الدافة التي دفت، فكلوا وادخروا وتصدقوا".
وفي لفظ لمسلم عن جابر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه نهى عن أكل لحوم الضحايا بعد ثلاث ثم قال بعد: كلوا وتزودوا وادخروا".
وفي لفظ لمسلم عن عطاء، عن جابر أيضًا أنه قال: كنا لا نأكل من لحوم بدننا فوق ثلاث في منى فأرخص لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "كلوا وتزودوا" قلت لعطاء: قال جابر: حتى جئنا المدينة؟ قال: نعم.
وفي لفظ لمسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: كنا لا نمسك لحوم الأضاحي فوق ثلاث، فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتزود منها ونأكل. يعني: فوق ثلاث. وفي لفظ له عنه: كنا نتزودها إلى المدينة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وفي لفظ لمسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يا أهل المدينة لا تأكلوا لحوم الأضاحي فوق ثلاث" وقال ابن المثنى: ثلاثة أيام، فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لهم عيالًا وحشمًا وخدمًا فقال:"كلوا وأطعموا واحبسوا وادخروا" قال ابن المثنى: شك عبد الأعلى.
وفي لفظ لمسلم عن ثوبان رضي الله عنه قال: "ذبح رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحية ثم قال: يا ثوبان أصلح لهم هذه، فلم أزل أطعمه منها حتى قدم المدينة".
وفي بعض ألفاظ حديث ثوبان هذا عند مسلم أن ذلك في حجة الوداع.
وفي لفظ لمسلم، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، ونهيتكم عن لحوم الأضاحي فوق ثلاث فأمسكوا ما بدا لكم، ونهيتكم عن النبيذ إلَّا في سقاء فاشربوا في الأسقية كلها ولا تشربوا مسكرًا". اهـ منه.
فكل هذه الألفاظ الثابتة بالأسانيد الصحيحة في مسلم، وبعضها في البخاري فيها الدلالة الصحيحة الصريحة: أن تحريم الادخار، والأكل من لحوم الأضاحي فوق ثلاث: أنه منسوخ، وأن ذلك جائز مطلقًا، وفي بعض الروايات: تعليل ذلك النهي الموقت بمجيء بعض الفقراء من البادية، وهم المعبر عنهم في الحديث بالدافة.
قال ابن الأثير في النهاية: الدافة القوم يسيرون جماعة سيرًا ليس بالشديد. يقال لهم: يدفون دفيفًا، والدافة قوم من الأعراب يردون المصر. يريد أنهم قدموا المدينة عند الأضحى، فنهاهم عن
ادخار لحوم الأضاحي، ليفرقوها ويتصدقوا بها، فينتفع أولئك القادمون بها. انتهى من النهاية.
تنبيه
في هذا الحديث دليل لمن قال من أهل الأصول باشتراط انعكاس العلة في صحتها؛ لأن علة تحريم ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث: هي وجود دافة فقراء البادية الذين دفوا عليهم. ولما زالت هذه العلة زال الحكم معها، ودوران الحكم مع علته في العدم، هو المعروف في الاصطلاح بانعكاسها. والمقرر في الأصول: أن محل القدح في العلة بعدم انعكاسها فيما إذا كانت علة الحكم واحدة، لا إن كانت له علل متعددة، فلا يقدح في واحدة منها بعدم العكس؛ لأنه إذا انعدمت واحدة منها ثبت الحكم بالعلة الأخرى، كالبول، والغائط، لنقض الوضوء مثلًا، فإن البول يكون معدومًا، وعلة النقض ثابتة بخروج الغائط، وهكذا. وكذلك مع كونها علة واحدة لا بد أيضًا في القدح فيها بعدم العكس من عدم ورود دليل ببقاء الحكم مع ذهاب العلة، فإن دل دليل على بقاء الحكم، مع انتفاء العلة، فلا يقدح فيها بعدم العكس، كالرمل في الأشواط الأول من الطواف، فإن علته هي أن يعلم المشركون: أن الصحابة أقوياء ولم تضعفهم حمى يثرب، وهذه العلة قد زالت مع أن حكمها وهو الرمل في الأشواط المذكورة باق؛ لوجود الدليل على بقائه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم رمل في حجة الوداع، والعلة المذكورة معدومة قطعًا زمن حجة الوداع كما قدمنا إيضاحه. وإلى هذه المسألة أشار صاحب مراقي السعود في مبحث القوادح بقوله:
وعدم العكس مع اتحاد
…
يقدح دون النص بالتمادي
الفرع العاشر: أظهر قولي أهل العلم عندي: هو نسخ الأمر بالفرع والعتيرة. ونقل النووي في شرحه لمسلم عن عياض: أن جماهير العلماء على نسخ الأمر بالفرع، والعتيرة. وذكر النووي أيضًا في شرحه لمسلم: أن الصحيح عند علماء الشافعية: استحباب الفرع والعتيرة قال: وهو نص الشافعي.
والدليل عندنا على أن الأظهر هو نسخهما: هو ثبوت ما يدل على ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم .
قال مسلم بن الحجاج رحمه الله في صحيحه: حدثنا يحيى بن يحيى التميمي، وأبو بكر بن أبي شيبة، وعمرو الناقد، وزهير بن حرب. قال يحيى: أخبرنا. وقال الآخرون: حدثنا سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن سعيد، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم (ح) وحدثني محمد بن رافع وعبد بن حميد قال عبد: أخبرنا. وقال ابن رافع: حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا فرع ولا عتيرة". زاد ابن رافع في روايته: والفرع: أول النتاج، كان ينتج لهم فيذبحونه. اهـ من صحيح مسلم. وهذا الإِسناد في غاية الصحة من طريقيه كما ترى. وفيه: تصريح النبي صلى الله عليه وسلم بأنه لا فرع ولا عتيرة. والفرع بالفاء والراء المفتوحتين بعدهما عين مهملة، جاء تفسيره عن ابن رافع كما ذكره عنه مسلم فيما رأيت.
وقال النووي: قال الشافعي وأصحابه وآخرون: الفرع: هو أول نتاج البهيمة، كانوا يذبحونه، ولا يملكونه رجاء البركة في الأم، وكثرة نسلها. وهكذا فسره كثيرون من أهل اللغة وغيرهم. وقال كثيرون منهم: هو أول النتاج، كانوا يذبحونه لآلهتهم: وهي
طواغيتهم. وكذا جاء هذا التفسير في صحيح البخاري، وسنن أبي داود. وقيل: هو أول النتاج لمن بلغت إبله مائة يذبحونه. وقال شمر: قال أبو مالك: كان الرجل إذا بلغت إبله مائة قدم بكرًا فنحره لصنمه، ويسمونه الفرع. اهـ محل الغرض منه.
وأما العتيرة بعين مهملة مفتوحة، ثم تاء مثناة من فوق فهي ذبيحة كانوا يذبحونها في العشر الأول من رجب، ويسمونها الرجبية أيضًا. وحديث مسلم هذا الذي ذكرنا صريح في نسخ الأمر بها، لأن قوله:"لا فرع ولا عتيرة" نفي أريد به النهي فيما يظهر، كقوله:{فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} أي: لا ترفثوا ولا تفسقوا. وعليه فيكون المعنى: لا تعملوا عمل الجاهلية في ذبح الفرع والعتيرة. ولو قدرنا أن الصيغة نافية، فالظاهر أن المعنى: لا فرع ولا عتيرة مطلوبان شرعًا. ونسخهما هو الأظهر عندنا، للحديث الصحيح كما رأيت. ومن زعم بقاء مشروعيتهما، واستحبابهما فقد استدل ببعض الأحاديث على ذلك، وسنذكر حاصلها بواسطة نقل النووي، لأنه جمعها في محل واحد، فقال: منها حديث نبيشة رضي الله عنه قال: نادى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنا كنا نعتر عتيرة في الجاهلية في رجب، فقال:"اذبحوا للَّه في أي شهر كان، وبروا للَّه وأطعموا" قال: إنا كنا نفرع فرعًا في الجاهلية، فما تأمرنا؟ فقال:"في كل سائمة فرع تغذوه ماشيتك حتى إذا استحمل ذبحته فتصدقت بلحمه" رواه أبو داود، وغيره بأسانيد صحيحة. وقال ابن المنذر: هو حديث صحيح. قال أبو قلابة، أحد رواة هذا الحديث: السائمة مائة. ورواه البيهقي بإسناده الصحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفرعة من كل خمسين
واحدة. وفي رواية: من كل خمسين شاة شاة. قال ابن المنذر: حديث عائشة صحيح.
وفي سنن أبي داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه قال الراوي: أراه عن جده. قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الفرع فقال: "الفرع حق وإن تركوه حتى يكون بكرًا أو ابن مخاض أو ابن لبون فتعطيه أرملة أو تحمل عليه في سبيل الله خير من أن تذبحه فيلزق لحمه بوبره وتكفأ إناؤك وتوله ناقتك" قال أبو عبيد في تفسير هذا الحديث: قال النبي صلى الله عليه وسلم : "الفرع حق" ولكنهم كانوا يذبحونه حين يولد ولا شبع فيه. ولذا قال: "تذبحه فيلزق لحمه بوبره" وفيه أن ذهاب ولدها يدفع لبنها، ولهذا قال:"خير من أن تكفأ" يعني. أنك إذا فعلت ذلك، فكأنك كفأت إناءك وأرقته. وأشار به إلى ذهاب اللبن، وفيه: أنه يفجعها بولدها ولهذا قال: "وتوله ناقتك" فأشار بتركه، حتى يكون ابن مخاض، وهو ابن سنة، ثم يذهب وقد طاب لحمه، واستمتع بلبن أمه، ولا تشق عليها مفارقته، لأنه استغنى عنها. هذا كلام أبي عبيد.
وروى البيهقي بإسناده عن الحارث بن عمر قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بعرفات، أو قال: بمنى، وسأله رجل عن العتيرة؟ فقال:"من شاء عتر ومن شاء لم يعتر، ومن شاء فرع ومن شاء لم يفرع" وعن أبي رزين قال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إنا كنا نذبح في الجاهلية ذبائح في رجب، فنأكل منها، ونطعم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"لا بأس بذلك". وعن أبي رملة، عن مخنف بن سليم قال: كنا وقوفًا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفات فسمعته يقول: "يا أيها الناس إن على أهل كل بيت في كل عام أضحية وعتيرة هل تدري ما العتيرة؟ هي: التي تسمى
الرجبية" رواه أبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم. قال الترمذي: حديث حسن.
وقال الخطابي: هذا الحديث ضعيف المخرج؛ لأن أبا رملة مجهول. هذا مختصر ما جاء من الأحاديث في الفرع والعتيرة. اهـ كلام النووي.
وقد قدمنا الكلام مستوفى على حديث مخنف بن سليم المقتضى أن على كل أهل بيت في كل عام أضحية وعتيرة. وقد علمت حجج الفريقين في الفرع والعتيرة.
وقد قدمنا أن الأظهر عندنا فيهما النسخ، ويترجح ذلك بأمور:
منها: أن حديث مسلم المصرح بذلك أصح من جميع الأحاديث المذكورة في الباب.
ومنها: أن أكثر أهل العلم على النسخ في ذلك، كما ذكره النووي عن عياض.
ومنها: أن ذلك كان من فعل الجاهلية، وكانوا يتقربون بها لطواغيتهما، وللمخالف أن يقول في هذا الأخير: إن المسلمين يتقربون بهما للَّه ويتصدقون بلحومهما. ولم نستقص أقوال أهل العلم في المسألة لقصد الاختصار، لطول الكلام في موضوع آيات الحج هذه.
الفرع الحادي عشر: اعلم أن المعيبة لا تجوز التضحية بها، ولا تجزئ. والأصل في ذلك ما رواه الإِمام أحمد، وأصحاب السنن وابن حبان والبيهقي، والحاكم عن البراء بن عازب رضي الله عنه، وصححه الترمذي. وقال النووي: في حديث البراء: صحيح رواه
أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه وغيرهم، بأسانيد حسنة قال أحمد بن حنبل: ما أحسنه من حديث. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أربع لا تجزئ في الأضاحي: العوراء البين عورها، والمريضة البين مرضها، والعرجاء البين ضلعها، والعجفاء التي لا تنقي" وفي رواية "والكسير التي لا تنقي" والتي لا تنقى هي التي لا مخ فيها؛ لأن النِّقْي بكسر النون المشددة وسكون القاف المخ. فقول العرب: أنقت تنقي إنقاء: إذا كان لها مخ ومنه قول كعب بن سعد الغنوي يرثي أخاه:
يبيت الندى يا أم عمرو ضجيعه
…
إذا لم يكن في المنقيات حلوب
وقول الآخر:
ولا يسرق الكلب السرو نعالنا
…
ولا ينتقي المخ الذي في الجماجم
وقال ابن الأثير في النهاية: الكسير: التي لا تنقى، أي: التي لا مخ فيها" لضعفها وهزالها. وقوله في الحديث: البين ضلعها، أي: عرجها كما هو واضح. والضلع بفتح الضاد، واللام، وقد جاء في الحديث عن عليّ رضي الله عنه قال: "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستشرف العين والأذن، ولا نضحي بمقابلة، ولا مدابرة، ولا شرقاء ولا خرقاء" قال المجد في المنتقى: ورواه الخمسة، وصححه الترمذي. ومراده بالخمسة الإِمام أحمد، وأصحاب السنن الأربعة. وقال الشوكاني في نيل الأوطار في حديث علي المذكور: أخرجه أيضًا البزار، وابن حبان، والحاكم، والبيهقي. وأعله الدارقطني. والمقابلة والمدابرة: كلتاهما بفتح الباء بصيغة اسم المفعول. والمقابلة: هي التي قطع شيء من مقدم أذنها ولم ينفصل، بل بقي لاصقًا بالأذن متدليًا، والمدابرة: هي التي قطع شيء من مؤخر أذنها
على نحو ما ذكرنا فيما قبلها. والخرقاء: التي في أذنها خرق مستدير. والشرقاء: مشقوق الأذن. اهـ. وضابط ما يمنع الإِجزاء هو ما ينقص اللحم.
وقال النووي في شرح المهذب: أجمعوا على أن العمياء لا تجزئ، وكذلك العوراء البين عورها، والعرجاء البين عرجها، والمريضة البين مرضها، والعجفاء.
واختلفوا في ذاهبة القرن ومكسورته فمذهبنا: أنها تجزئ. قال مالك: إن كانت مكسورة القرن، وهو يدمي لم تجزه، وإلَّا فتجزئه. وقال أحمد: إن ذهب أكثر من نصف قرنها لم تجزه، سواء دميت أم لا، وإن كان دون النصف أجزأته. وأما مقطوعة الأذن، فمذهبنا: أنها لا تجزئ، سواء قطع كلها أو بعضها. وبه قال مالك، وداود. وقال أحمد: إن قطع أكثر من النصف لم تجزه، وإلَّا فتجزئه. وقال أبو حنيفة: إن قطع أكثر من الثلث لم تجزه. وقال أبو يوسف، ومحمد: إن بقي أكثر من نصف أذنها أجزأت. وأما مقطوعة بعض الألية فلا تجزئ عندنا. وبه قال مالك وأحمد. وقال أبو حنيفة في رواية: إن بقي الثلث أجزأت، وفي رواية: إن بقي أكثرها أجزأت. وقال داود: تجزئ بكل حال. انتهى محل الغرض من كلام النووي.
ومعلوم أن هناك روايات أخر لم يذكرها عن الأئمة الذين نقل عنهم، ولم نستقص هنا أقوال أهل العلم؛ لأن باب الأضحية جاء في هذا الكتاب استطرادًا، مع أن الكلام في آيات الحج طال كثيرًا، ولذلك اكتفينا هنا بهذه الجمل التي ذكرنا من أحكام الأضاحي.
مسألة
اعلم أنه لما كانت العمرة قرينة الحج في آيات من كتاب الله كقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} وقوله: {فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} وقوله: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} أردنا أن نذكر هنا حكم العمرة على سبيل الاختصار استطرادًا. والعمرة في اللغة الزيارة، ومنه قول الراجز:
لقد سما ابن معمر حين اعتمر
…
مغزى بعيدًا من بعيد وضبر
وهي في الشرع: زيارة بيت الله للنسك المعروف المتركب من إحرام، وطواف، وسعي، وحلق، أو تقصير.
واعلم: أن العلماء أجمعوا على أن من أحرم بالعمرة وجب عليه إتمامها، ولا يجوز له قطعها، وعدم إتمامها: لقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} .
أما حكم استئناف فعلها فقد اختلف فيه أهل العلم، فذهب بعضهم إلى أنها واجبة في العمر كالحج، وذهب بعضهم: إلى أنها غير واجبة أصلًا، ولكنها سنة في العمر مرة واحدة، وممن قال بأنها فرض في العمر مرة: الشافعي في الصحيح من مذهبه.
قال النووي: وبه قال عمر، وابن عباس، وابن عمر، وجابر، وطاوس، وعطاء، وابن المسيب، وسعيد بن جبير، والحسن البصري، وابن سيرين، والشعبي، ومسروق، وأبو بردة بن أبي موسى الحضرمي، وعبد الله بن شداد، والثوري، وأحمد، وإسحاق، وأبو عبيد، وداود.
وممن قال بأنها سنة في العمر ليست بواجبة: مالك وأصحابه،
وأبو حنيفة، وأبو ثور، وحكاه ابن المنذر وغيره عن النخعي. قاله النووي.
وقال ابن قدامة في المغني: وتجب العمرة على من يجب عليه الحج في إحدى الروايتين. وروي ذلك عن عمر، وابن عباس، وزيد بن ثابت، وابن عمر، وسعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، وعطاء، وطاوس، ومجاهد، والحسن، وابن سيرين، والشعبي. وبه قال الثوري، وإسحاق، والشافعي في أحد قوليه. والرواية الثانية ليست بواجبة، وروي ذلك عن ابن مسعود وبه قال مالك، وأبو ثور، وأصحاب الرأي. اهـ محل الغرض منه.
وإذا علمت أقوال العلماء في العمرة: هل هي فرض في العمر، أو سنة؟ فدونك أدلتهم، ومناقشتها باختصار مع بيان ما يظهر رجحانه منها.
أما الذين قالوا: العمرة فرض في العمر، فقد احتجوا بأحاديث:
منها: حديث أبي رزين العقيلي. وقد قدمنا الكلام عليه مستوفى، وهو أنه "أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن أبي شيخ كبير، لا يستطيع الحج، ولا العمرة ولا الظعن، فقال: حج عن أبيك واعتمر" رواه أحمد، وأصحاب السنن، وصححه الترمذي. ومحل الدليل منه قوله: "واعتمر"، لأنه صيغة أمر بالعمرة، مقرونة بالأمر بالحج، فأفادت صيغة الأمر الوجوب، كما أوضحنا توجيه ذلك مرارًا في هذا الكتاب المبارك. وذكر غير واحد عن الإِمام أحمد رحمه الله أنه قال: لا أعلم في إيجاب العمرة حديثًا أجود من هذا ولا أصح.
ومن أدلتهم على وجوبها قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ}
الآية، بناء على أن المراد بإتمامها في الآية ابتداء فعلها على الوجه الأكمل، لا إتمامها بعد الشروع. وقد قدمنا الكلام في الآية بما أغنى عن إعادته هنا. وأن الظاهر أن المتبادر منها: وجوب الإِتمام بعد الشروع من غير تعرض إلى حكم ابتداء فعلها.
ومن أدلتهم على وجوبها: ما رواه الدارقطني من حديث زيد بن ثابت "الحج والعمرة فريضتان لا يضرك أيهما بدأت". اهـ.
ومن أدلتهم على وجوب العمرة: ما جاء في بعض روايات حديث سؤال جبريل. "وأن تحج وتعتمر" أخرجه ابن خزيمة، وابن حبان، والدارقطني، وغيرهم. ورواه المجد في المنتقى بلفظ فقال:"يا محمد ما الإِسلام؟ قال: الإِسلام أن تشهد أن لَا إلهَ إلَّا الله وأن محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأن تقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتحج البيت وتعتمر، وتغتسل من الجنابة، وتتم الوضوء، وتصوم رمضان" الحديث. وأنه قال: "هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم" ثم قال المجد: رواه الدارقطني وقال: هذا إسناد ثابت صحيح. ورواه أبو بكر الجوزقي في كتابه المخرج على الصحيحين.
ومن أدلتهم على وجوبها: ما أخرجه الإِمام أحمد، وابن ماجه عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم هل على النساء من جهاد؟ قال: "نعم عليهن جهاد لا قتال فيه: الحج والعمرة". اهـ. قال المجد في المنتقى: رواه أحمد، وابن ماجه، وإسناده صحيح.
ومن أجوبة المخالفين عن هذه الأدلة الدالة على وجوب العمرة أن الحديث الذي قال أحمد: لا أعلم حديثًا أجود في إيجاب العمرة منه، وهو حديث أبي رزين العقيلي الذي فيه: "حج عن أبيك
واعتمر" أن صيغة الأمر في قوله: "واعتمر" واردة بعد سؤال أبي رزين، وقد قرر جماعة من أهل الأصول أن صيغة الأمر الواردة بعد المنع أو السؤال: إنما تقتضي الجواز، لا الوجوب، لأن وقوعها في جواب السؤال عن الجواز دليل صارف عن الوجوب، إلى الجواز. والخلاف في هذه المسألة معروف.
وقد قدمنا الكلام عليه في آيات الحج هذه.
وأجابوا عن آية {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ} بأن المراد بها: الإِتمام بعد الشروع كما تقدم إيضاحه.
وأجابوا عن حديث "الحج والعمرة فريضتان" الحديث. بأن في إسناده إسماعيل بن مسلم المكي، وهو ضعيف لا يحتج به.
وقال ابن حجر في التلخيص: ثم هو عن ابن سيرين، عن زيد، وهو منقطع، ورواه البيهقي موقوفًا على زيد من طريق ابن سيرين، وإسناده أصح. وصححه الحاكم، ورواه ابن عدي والبيهقي من حديث ابن لهيعة، عن عطاء، عن جابر، وابن لهيعة ضعيف. وقال ابن عدي: هو غير محفوظ عن عطاء. انتهى محل الغرض منه. وبه تعلم أن حديث زيد بن ثابت المذكور ليس بصالح للاحتجاج.
وأجابوا عما جاء في حديث جبريل عن عمر مرفوعًا بلفظ "وأن تحج وتعتمر" بجوابين.
أحدهما: أن الروايات الثابتة في صحيح مسلم، وغيره وليس فيها ذكر العمرة وهي أصح. وقد يجاب عن هذا بأن زيادة العدول مقبولة.
والجواب الثاني: هو ما ذكر الشوكاني رحمه الله في نيل الأوطار في شرحه للحديث المذكور، ونص كلامه:
فإن قيل: إن وقوع العمرة في جواب من سأل عن الإِسلام يدل على الوجوب. فيقال: ليس كل أمر من الإِسلام واجبًا. والدليل على ذلك: حديث شعب الإِسلام، والإِيمان، فإنه اشتمل على أمور ليست بواجبة بالإِجماع. اهـ منه وله وجه من النظر.
وأجابوا عن حديث عائشة: بأن قوله صلى الله عليه وسلم : "عليهن جهاد لا قتال فيه الحج والعمرة" بأن لفظة عليهن، ليست صريحة في الوجوب، فقد تطلق على ما هو سنة مؤكدة، وإذا كان محتملًا لإرادة الوجوب والسنَّة المؤكدة لزم طلب الدليل بأمر خارج. وقد دل دليل خارج على وجوب الحج، ولم يدل دليل خارج يجب الرجوع إليه على وجوب العمرة.
هذا هو حاصل أدلة القائلين بوجوب العمرة مرة في العمر ومناقشة مخالفيهم لهم.
أما القائلون بأن العمرة سنَّة لا فرض، فقد احتجوا أيضًا بأدلة:
منها: ما رواه الإِمام أحمد، والترمذي وصححه، والبيهقي، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، عن جابر رضي الله عنه أن أعرابيًا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أخبرني عن العمرة، أواجبة هي؟ فقال:"لا، وأن تعتمر خير لك" وفي رواية: "أولى لك".
وقال صاحب نيل الأوطار: وقد رواه البيهقي من حديث سعيد بن عفير، عن يحيى بن أيوب، عن عبيد الله، عن جابر بنحوه. ورواه ابن جريج، عن ابن المنكدر، عن جابر.
وقال ابن حجر في التلخيص: وفي الباب عن أبي صالح، عن أبي هريرة. رواه الدارقطني، وابن حزم والبيهقي. وإسناده ضعيف.
وأبو صالح ليس هو ذكوان السمان، بل هو أبو صالح ماهان الحنفي، كذلك رواه الشافعي، عن سعيد بن سالم، عن الثوري، عن معاوية بن إسحاق، عن أبي صالح الحنفي، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"الحج جهاد والعمرة تطوع" ورواه ابن ماجه من حديث طلحة، وإسناده ضعيف. والبيهقي من حديث ابن عباس ولا يصح من ذلك شيء.
واستدل بعضهم بما رواه الطبراني من طريق يحيى بن الحارث عن القاسم، عن أبي أمامة مرفوعًا:"من مشى إلى صلاة مكتوبة فأجره كحجة، ومن مشى إلى صلاة تطوع فأجره كعمرة".
هذا هو حاصل أدلة من قالوا: بأن العمرة غير واجبة.
وأجاب مخالفوهم عن أدلتهم، قالوا: أما حديث سؤال الأعرابي النبي صلى الله عليه وسلم عن وجوب العمرة، وأنه أجابه بأنها غير واجبة، وأنه إن اعتمر تطوعًا، فهو خير له بأنه حديث ضعيف، وتصحيح الترمذي له مردود. ووجه ذلك أن في إسناده: الحجاج بن أرطاة، وأكثر أهل الحديث على تضعيف الحجاج المذكور كما قدمناه مرارًا.
وقال ابن حجر في التلخيص: وفي تصحيحه نظر كثير من أجل الحجاج، فإن الأكثر على تضعيفه، والاتفاق على أنه مدلس.
وقال النووي: ينبغي ألا يغتر بكلام الترمذي في تصحيحه، فإنه اتفق الحفاظ على تضعيفه. وقد نقل الترمذي، عن الشافعي أنه قال: ليس في العمرة شيء ثابت أنها تطوع. وأفرط ابن حزم فقال: إنه مكذوب باطل. اهـ محل الغرض من كلام ابن حجر. ثم قال بعد هذا في الحديث المذكور: أنه موقوف على جابر، وقال: كذلك رواه ابن جريج، عن ابن المنكدر، عن جابر. اهـ منه.
هذا هو حاصل حجج من قالوا: إن العمرة سنة لا واجبة.
وقال الشوكاني: في نيل الأوطار - بعد أن ساق الأحاديث، التي ذكرنا في عدم وجوب العمرة ما نصه - : قال الحافظ: ولا يصح من ذلك شيء، وبهذا تعرف أن الحديث من قسم الحسن لغيره، وهو محتج به عند الجمهور. ويؤيده ما عند الطبراني عن أبي أمامة مرفوعًا "من مشى إلى صلاة مكتوبة فأجره كحجة، ومن مشى إلى صلاة غير مكتوبة، فأجره كعمرة" إلى أن قال: والحق عدم وجوب العمرة؛ لأن البراءة الأصلية لا ينتقل عنها إلَّا بدليل يثبت به التكليف، ولا دليل يصلح لذلك، لا سيما مع اعتضاده بما تقدم من الأحاديث القاضية بعدم الوجوب، ويؤيد ذلك اقتصاره صلى الله عليه وسلم على الحج في حديث "بني الإسلام على خمس" واقتصار الله جل جلاله على الحج في قوله:{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} . انتهى محل الغرض منه.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الذي يظهر لي أن ما احتج به كل واحد من الفريقين لا يقل عن درجة الحسن لغيره، فيجب الترجيح بينهما. وقد رأيت الشوكانى رجح عدم الوجوب بموافقته للبراءة الأصلية. والذي يظهر بمقتضى الصناعة الأصولية ترجيح أدلة الوجوب على أدلة عدم الوجوب، وذلك من ثلاثة أوجه.
الأول: أن أكثر أهل الأصول يرجحون الخبر الناقل عن الأصل على الخبر المبقي على البراءة الأصلية، وإليه الإِشارة بقول صاحب مراقي السعود في مبحث الترجيح باعتبار المدلول:
وناقل ومثبت والآمر
…
بعد النواهي ثم هذا الآخر
على إباحة. . . . .
…
. . . . . . . . . . . . . إلخ
لأن معنى قوله: "وناقل" أن الخبر الناقل عن البراءة الأصلية مقدم على الخبر المبقي عليها. وعزاه في شرحه المسمى نشر البنود للجمهور، وهو المشهور عند أهل الأصول.
الثاني: أن جماعة من أهل الأصول رجحوا الخبر الدال على الوجوب على الخبر الدال على عدمه. ووجه ذلك: هو الاحتياط في الخروج من عهدة الطلب، وإليه الإِشارة بقول صاحب مراقي السعود المذكور آنفًا:
. . . . . . . . .
…
. . . . . . ثم هذا الآخر
على إباحة. . . . .
…
. . . . . . . . . . . إلخ
لأن مراده بالآخر المقدم على الإِباحة: هو الخبر الدال على الأمر، فالأول الدال على النهي؛ لأن درأ المفاسد مقدم على جلب المصالح، ثم الدال على الأمر للاحتياط في الخروج من عهدة الطلب، ثم الدال على الإِباحة ويشمل غير الواجب، فيدخل فيه المسنون والمندوب، لاشتراك الجميع في عدم العقاب على ترك الفعل.
الثالث: أنك إن عملت بقول من أوجبها فأديتها على سبيل الوجوب برئت ذمتك بإجماع أهل العلم من المطالبة بها، ولو مشيت على أنها غير واجبة فلم تؤدها على سبيل الوجوب بقيت مطالبًا بواجب على قول جمع كثير من العلماء. والنبي صلى الله عليه وسلم يقول:"دع ما يريبك إلى ما لا يريبك" ويقول: "فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه" وهذا المرجع راجع في الحقيقة لما قبله. والعلم عند الله تعالى.
فروع تتعلق بهذه المسألة
اعلم: أنه لا خلاف بين أهل العلم في أن جميع السَّنة وقت للعمرة إلَّا أيام التشريق. فلا تنبغي العمرة فيها حتى تغرب شمس اليوم الرابع عشر
(1)
، على ما قاله جمع من أهل العلم.
الفرع الثاني: اعلم أنه قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم : أن عمرة في رمضان تعدل حجة. وفي بعض روايات الحديث في الصحيح "حجة معي".
الفرع الثالث: اعلم أن التحقيق أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعتمر في رجب بعد الهجرة قطعًا، وأنه لم يعتمر بعد الهجرة إلَّا أربع عمر:
الأولى: عمرة الحديبية في ذي القعدة، من عام ست، وصده المشركون، وأحل ونحر من غير طواف ولا سعي، كما هو معلوم.
الثانية: عمرة القضاء في ذي القعدة، عام سبع، وهي التي وقع عليها صلح الحديبية. وقد قدمنا في سورة البقرة وجه تسميتها عمرة القضاء وأوضحناها.
الثالثة: عمرة الجعرانة في ذي القعدة من عام ثمان، بعد فتح مكة في رمضان عام ثمان.
الرابعة: العمرة التي قرنها، مع حجة الوداع. هذا هو التحقيق.
وقد قدمنا الإِشارة إليه. ولنكتف هنا بما ذكرنا من أحكام العمرة؛ لأن غالب أحكامها ذكرناه في أثناء كلامنا على مسائل الحج، والعلم عند الله تعالى.
(1)
كذا في الأصل، ولعله سبق قلم، وصوابه: شمس اليوم الثالث عشر.