الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الثاني: هو ما بينا أن ما وعد الله به الكفار لا يصح أن يخلفه بحال؛ لأن ادعاء جواز إخلافه - لأنه إيعاد، وأن العرب تعد الرجوع عن الإِيعاد كرمًا - يبطله أمران:
الأول: أنه يلزمه جواز ألا يدخل النار كافر أصلًا؛ لأن إيعادهم بإدخالهم النار مما زعموا أن الرجوع عنه كرم، وهذا لا شك في بطلانه.
الثاني: ما ذكرنا من الآيات الدالة: على أن الله لا يخلف ما أوعده به الكفار من العذاب، كقوله:{قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ} الآية، وقوله تعالى فيهم:{فَحَقَّ وَعِيدِ (14)} وقوله فيهم: {فَحَقَّ عِقَابِ (14)} ومعنى حق: وجب وثبت، فلا وجه لانتفائه بحال، كما أوضحناه هنا وفي غير هذا الموضع.
•
قوله تعالى: {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47)}
.
بين جل وعلا هذه الآية الكريمة أن اليوم عنده جل وعلا كألف سنة مما يعده خلقه. وما ذكره هنا من كون اليوم عنده كألف سنة، أشار إليه في سورة السجدة بقوله:{يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5)} وذكر في سورة المعارج أن مقدار اليوم خمسون ألف سنة، وذلك في قوله:{تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4)} الآية. فآية الحج، وآية السجدة متوافقتان تصدق كل واحدة منهما الأخرى، وتماثلها في المعنى. وآية المعارج تخالف ظاهرهما؛ لزيادتها عليهما بخمسين ضعفًا. وقد ذكرنا وجه الجمع بين هذه الآيات في كتابنا:
دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب. وسنذكره إن شاء الله هنا ملخصًا مختصرًا. ونزيد عليه بعض ما تدعو الحاجة إليه.
فقد ذكرنا ما ملخصه: أن أبا عبيدة روى عن إسماعيل بن إبراهيم، عن أيوب، عن ابن أبي مليكة أنه حضر كلا من ابن عباس، وسعيد بن المسيب سئل عن هذه الآيات: فلم يدر ما يقوله فيها، ويقول: لا أدري، ثم ذكرنا أن للجمع بينهما وجهين.
الأول: هو ما أخرجه ابن أبي حاتم من طريق سماك، عن عكرمة عن ابن عباس من أن يوم الألف في سورة الحج: هو أحد الأيام الستة التي خلق الله فيها السموات والأرض، ويوم الألف في سورة السجدة، هو مقدار سير الأمر وعروجه إليه تعالى، ويوم الخمسين ألفًا، هو يوم القيامة.
الوجه الثاني: أن المراد بجميعها يوم القيامة، وأن اختلاف زمن اليوم إنما هو باعتبار حال المؤمن، وحال الكافر؛ لأن يوم القيامة أخف على المؤمن منه على الكافر، كما قال تعالى:{فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10)} . اهـ. ذكر هذين الوجهين صاحب الإِتقان.
وذكرنا أيضًا في كتابنا: دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب في سورة الفرقان في الكلام على قوله تعالى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا (24)} ما ملخصه: أن آية الفرقان هذه تدل على انقضاء الحساب في نصف نهار، لأن المقيل القيلولة أو مكانها، وهي الاستراحة نصف النهار في الحر، وممن قال بانقضاء الحساب في نصف نهار: ابن عباس، وابن مسعود، وعكرمة وابن جبير؛ لدلالة هذه الآية على ذلك. كما نقله عنهم ابن كثير وغيره.
وفي تفسير الجلالين ما نصه: وأخذ من ذلك انقضاء الحساب في نصف نهار، كما ورد في حديث. انتهى منه. مع أنه تعالى ذكر أن مقدار يوم القيامة خمسون ألف سنة في قوله:{فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4)} وهو يوم القيامة بلا خلاف في ذلك.
والظاهر في الجواب: أن يوم القيامة يطول على الكفار، ويقصر على المؤمنين، ويشير لهذا قوله تعالى بعد هذا بقليل:{الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا (26)} فتخصيصه عسر ذلك اليوم بالكافرين: يدل على أن المؤمنين ليسوا كذلك، وقوله تعالى:{فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10)} يدل بمفهوم مخالفته على أنه يسير على المؤمنين غير عسير، كما دل عليه قوله تعالى:{مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ (8)} .
وقال ابن جرير: حدثني يونس، أنبأنا ابن وهب، أنبأنا عمرو بن الحارث: أن سعيدًا الصواف حدثه أنه بلغه؛ أن يوم القيامة يقصر على المؤمنين، حتى يكون كما بين العصر إلى غروب الشمس، وأنهم يتقلبون في رياض الجنة، حتى يفرغ من الناس، وذلك قوله:{أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا (24)} ونقله عنه ابن كثير في تفسيره.
وأما على قول من فسر المقيل في الآية بأنه المأوى والمنزل كقتادة رحمه الله، فلا دلالة في الآية لشيء مما ذكرنا. ومعلوم أن من كان في سرور ونعمة، أنه يقصر عليه الزمن الطويل قصرًا شديدًا، بخلاف من كان في العذاب المهين والبلايا والكروب، فإن الزمن القصير يطول عليه جدًّا، وهذا أمر معروف، وهو كثير في كلام العرب. وقد ذكرنا في كتابنا المذكور بعض الشواهد الدالة عليه،
كقول أبي سفيان بن الحارث رضي الله عنه يرثي رسول الله صلى الله عليه وسلم :
أرقت فبات ليلي لا يزول
…
وليل أخي المصيبة فيه طول
وقول الآخر:
فقصارهن مع الهموم طويلة
…
وطوالهن مع السرور قصار
وقول الآخر:
ليلي وليلى نفى نومي اختلافهما
…
في الطُول والطَول طوبى لي لو اعتدلا
يجود بالطُول ليلي كلما بخلت
…
بالطَول ليلى وإن جادت به بخلا
ونحو هذا كثير جدًّا في كلام العرب. ومن أظرف ما قيل فيه ما روي عن يزيد بن معاوية أنه قال:
لا أسأل الله تغييرًا لما فعلت
…
نامت وقد أسهرت عيني عيناها
فالليل أطول شيء حين أفقدها
…
والليل أقصر شيء حين ألقاها
وقد ورد بعض الأحاديث بما يدل على ظاهر آية الحج، وآية السجدة.
وسنذكر هنا طرفًا منه بواسطة نقل ابن كثير في تفسير هذه الآية من سورة الحج.
قال ابن كثير: قال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن عرفة، حدثني عبدة بن سليمان، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم خمسمائة عام" ورواه الترمذي، والنسائي من حديث الثوري عن محمد بن عمرو به. وقال الترمذي: حسن صحيح.
وقد رواه ابن جرير عن أبي هريرة موقوفًا فقال: حدثني
يعقوب، ثنا ابن علية، ثنا سعيد الجريري، عن أبي نضرة، عن سمير بن نهار قال: قال أبو هريرة: يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل الأغنياء بمقدار نصف يوم، قلت: وما مقدار نصف يوم؟ قال: أو ما تقرأ القرآن؟ قلت: بلى قال: {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47)} . وقال أبو داود في آخر كتاب الملاحم من سننه: حدثنا عمرو بن عثمان، حدثنا أبو المغيرة، حدثني صفوان، عن شريح بن عبيد، عن سعد بن أبي وقاص، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إني لأرجو ألا تعجز أمتي عند ربها أن يؤخرهم نصف يوم، قيل لسعد: وكم نصف يوم؟ قال: خمسمائة سنة".
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سفيان، حدثنا عبد الرحمن بن المهدي، عن إسرائيل، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس:{وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47)} قال: من الأيام التي خلق الله فيها السموات والأرض. ورواه ابن جرير عن ابن بشار، عن ابن المهدي. وبه قال مجاهد، وعكرمة، ونص عليه أحمد بن حنبل في كتاب الرد على الجهمية. وقال مجاهد: هذه الآية كقوله: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5)} . اهـ. محل الغرض من ابن كثير.
وظواهر الأحاديث التي ساق يمكن الجمع بينها وبين ما ذكرنا من أن أصل اليوم كألف سنة، ولكنه بالنسبة إلى المؤمنين يقصر ويخف، حتى يكون كنصف نهار. واللَّه تعالى أعلم.
وقرأ هذا الحرف ابن كثير، وحمزة، والكسائي:{كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا يَعُدُّونَ} بياء الغيبة، وقرأه الباقون:{تَعُدُّونَ (5)} بتاء الخطاب. ومعنى القراءتين واضح. والعلم عند الله تعالى.