الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القاتل فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصًا على قتل صاحبه" فقولهم: ما بال المقتول سؤال عن تشخيص عين الذنب الذي دخل بسببه النار مع أنَّه لم يفعل القتل، فبين النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "إنه كان حريصًا على قتل صاحبه المسلم"، وقد قدمنا مرارًا أن إن المكسورة المشددة تدل على التعليل، كما تقرر في مسلك الإِيماء والتنبيه.
ومثال المعاقبة على العزم المصمم على ارتكاب المحظور فيه ما وقع بأصحاب الفيل من الإهلاك المستأصل بسبب طير أبابيل: {تَرْمِيهِم بِحِجِارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ} لعزمهم على ارتكاب المناكر في الحرم، فأهلكهم الله بذلك العزم قبل أن يفعلوا ما عزموا عليه. والعلم عند الله تعالى. والظاهر أن الضمير في قوله:{فِيهِ} راجع إلى المسجد الحرام، ولكن حكم الحرم كله في تغليظ الذنب المذكور كذلك. والله تعالى أعلم.
•
.
أي: اذكر حين بوأنا، تقول العرب: بوأت له منزلًا، وبوأته منزلًا، وبوأته في منزل بمعنى واحد كلها بمعنى هيأته له، ومكنت له فيه، وأنزلته فيه، فتبوأه، أي: نزله، وتبوأت له منزلًا أيضًا هيأته له، وأنزلته فيه، فبوأه المتعدي بنفسه، كقوله تعالى:{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا} الآية وقوله: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً} الآية، ومنه قول عمرو بن معد يكرب الزبيدي:
كمْ من أخٍ لي ماجدٍ
…
بوَّأته بيدي لحْدا
أي: هيأته له، وأنزلته فيه، وبوأت له، كقوله هنا:{وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ} الآية، وبوأته فيه كقول الشاعر:
وبُؤِّئت في صميم مَعْشَرِها
…
وتمَّ في قومها مُبوِّؤُها
أي: نزلت من الكرم في صميم النسب، وتبوأت له منزلًا كقوله تعالى:{وَأَوْحَينَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا} وتبوأه كقوله: {وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيثُ نَشَاءُ} الآية، وقوله تعالى:{وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيثُ يَشَاءُ} وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ} الآية. وأصل التبوء: من المباءة: وهي منزل القوم في كل موضع، فقوله:{وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيتِ} أي: هيأناه له، وعرفناه إياه، ليبنيه بأمرنا على قواعده الأصلية المندرسة، حين أمرناه ببنائه، كما يهيأ المكان لمن يريد النزول فيه.
والمفسرون يقولون: بوأه له، وأراه إياه بسبب ريح تسمى الخجوج كنست ما فوق الأساس حتَّى ظهر الأساس الأول الذي كان مندرسًا، فبناه إبراهيم وإسماعيل عليه. وقيل: أرسل له مزنة فاستقرت فوقه، فكان ظلها على قدر مساحة البيت، فحفرا عن الأساس، فظهر لها فبنياه عليه. وهم يقولون أيضًا: إنه كان مندرسًا من زمن طوفان نوح، وأن محله كان مربض غنم لرجل من جرهم، والله تعالى أعلم.
وغاية ما دل عليه القرآن أن الله بوأ مكانه لإِبراهيم، فهيأه له، وعرفه إياه ليبنيه في محله. وذهبت جماعة من أهل العلم إلى أن أول من بناه إبراهيم ولم يبن قبله. وظاهر قوله حين ترك إسماعيل، وهاجر في مكة:{رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيتِكَ الْمُحَرَّمِ} يدل على أنَّه كان مبنيًّا، واندرس، كما يدل عليه قوله هنا:
{مَكَانَ الْبَيتِ} لأنه يدل على أن له مكانًا سابقًا كان معروفًا. والله أعلم.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيئًا وَطَهِّرْ بَيتِيَ لِلطَّائِفِينَ} الآية، متعلق بمحذوف، وقد دلت على تقدير المحذوف المذكور آية البقرة، وهي قوله تعالى:{وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيتِيَ لِلطَّائِفِينَ} الآية، فدلت آية البقرة المذكورة على أن معنى آية الحج هذه:{وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيتِ} وعهدنا إليه، أي: أوصيناه أن لا تشرك بي شيئًا، وطهر بيتي للطائفتين، وزادت آية البقرة أن إسماعيل مأمور بذلك أيضًا مع أبيه إبراهيم. وإذا عرفت أن المعنى: وعهدنا إلى إبراهيم ألا تشرك بي شيئًا، وطهر بيتي. الآية.
فاعلم أن في "أن" وجهين:
أحدهما: أنَّها هي المفسرة، وعليه طهير البيت من الشرك، وغيره هو تفسير العهد إلى إبراهيم، أي: والعهد هو إيصاؤه بالتطهير المذكور.
والثاني: أنَّها مصدرية بناء على دخول "أن" المصدرية على الأفعال الطلبية.
فإن قيل: كيف تكون مفسرة للعهد إلى إبراهيم، وهو غير مذكور هنا؟
فالجواب: أنَّه مذكور في سورة البقرة في المسألة بعينها، والقرآن يفسر بعضه بعضًا، فالمذكور هناك كأنه مذكور هنا؛ لأن كلام الله يصدق بعضه بعضًا. والتطهير هنا في قوله:{وَطَهِّر بَيتِي} يشمل التطهير المعنوي والحسي، فيطهره الطهارة الحسية: من الأقذار،
والمعنوية: من الشرك والمعاصي، ولذا قال:{أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيئًا} وكانت قبيلة جرهم تضع عنده الأصنام تعبدها من دون الله، وقد قدمنا في سورة الإِسراء الكلام مستوفى فيما كان عند الكعبة من الأصنام عام الفتح، وطهرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أنجاس الأوثان وأقذارها، كما أمر الله بذلك إبراهيم هنا، وقال لنبينا - صلى الله عليه وسلم - :{ثُمَّ أَوْحَينَا إِلَيكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} الآية، والمراد بالطائفين في هذه الآية: الذين يطوفون حول البيت، والمراد بالقائمين، والركع السجود المصلون، أي: طهر بيتي للمعتبدين، بطواف، أو صلاة، والركع جمع راكع، والسجود جمع ساجد.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيئًا} لفظة "شيئًا" مفعول له {لَا تُشْرِكْ} أي: لا تشرك بي شيئًا من الشركاء كائنًا ما كان، ويحتمل أن تكون ما نال عن المطلق، من {لَا تُشْرِكْ} ، أي: لا تشرك بي شيئًا من الشرك، لا قليلًا، ولا كثيرًا.
فالمعنى على هذا: لا تشرك بي شركًا قليلًا، ولا كثيرًا. وقرأ نافع وعاصم في رواية حفص، وابن عامر في رواية هشام بيتي بفتح الياء، وقرأ باقي السبعة بإسكانها.
واعلم أن المؤرخين لهم كلام كثير في قصة بناء إبراهيم، وإسماعيل للبيت، ومن جملة ما يزعمون أن البيت الحرام رفعه الله إلى السماء أيام الطوفان، وأنه كان من ياقوتة حمراء، ودرج على ذلك ناظم عمود النسب فقال:
ودلَّت إبراهيم مزنةٌ عليه
…
فهي على قدر المساحة تُريه
وقيل: دلَّته خجوجٌ كنست
…
ما حولَه حتَّى بدا ما أسَّست
قَبْل الملائك من البناء
…
قبل ارتفاعه إلى السماء