المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌745 - (10) باب حديث توبة كعب بن مالك وصاحبيه - الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج - جـ ٢٥

[محمد الأمين الهرري]

فهرس الكتاب

- ‌ كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار

- ‌736 - (1) باب الحث على ذكر الله تعالى، وبيان عدد أسمائه، والأمر بالعزم في الدعاء، وكراهة تمني الموت، ومن أحب لقاء الله أحب الله لقاءه

- ‌737 - (2) باب فضل الذكر والدعاء والتقرب إلى الله تعالى، وكراهة الدعاء بتعجيل العقوبة في الدنيا، وفضل مجالس الذكر وكثر ما يدعو به النبي صلى الله عليه وسلم، وفضل التهليل والتسبيح

- ‌739 - (4) باب ما يقول عند النوم وأخذ المضجع، والتعوذ من شر ما عمل ومن شر ما لم يعمل

- ‌740 - (5) باب التسبيح أول النهار وعند النوم وعند صياح الديك وعند الكرب وفضل سبحان الله وبحمده والدعاء للمسلم بظهر الغيب وحمد الله بعد الأكل والشرب واستجابة الدعاء ما لم يعجل

- ‌ كتَاب الرقاق والتوبة

- ‌741 - (6) باب أكثر أهل الجنة الفقراء وأكثر أهل النَّار النساء وبيان الفتنة بالنساء وذكر قصة أصحاب الغار الثلاثة والتوسل بصالح العمل

- ‌742 - (7) باب الحض على التوبة والفرح بها وسقوط الذنب بالاستغفار توبة وفضل دوام الذكر والفكر في أمور الآخرة والمراقبة

- ‌743 - (8) باب في سعة رحمة الله تعالى وأنها سبقت غضبه وقبول التوبة من الذنوب وإن تكررت الذنوب والتوبة

- ‌744 - (9) باب غيرة الله تعالى وقوله: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} وقبول توبة القاتل وإن كثر قتله وفداء المسلم بالكافر من النَّار ومناجاة الله مع المؤمن يوم القيامة

- ‌745 - (10) باب حديث توبة كعب بن مالك وصاحبيه

- ‌[تتمة]:

- ‌ 747 - (13) باب صفات المنافقين وأحكامهم

- ‌ كتاب في أبواب مختلفة

- ‌748 - (13) باب عجائب يوم القيامة

- ‌749 - (14) باب بدء الخلق وخلق آدم والبعث والنشور ونُزُل أهل الجنة وقوله صلى الله عليه وسلم: "لو تابعني عشرة من اليهود

- ‌750 - (15) باب الدخان وانشقاق القمر وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا أحد أصبر من الله" وطلب الكافر الفداء وحشر الكافر على وجهه

- ‌751 - (16) باب صبغ أنعم أهل الدنيا في النار .. إلخ وجزاء المؤمن بحسناته .. إلخ ومثل المؤمن كالزرع .. إلخ، ومثل المؤمن كالنخلة وتحريش الشيطان وبعثه سراياه لفتنة الناس وذكر أن مع كل أحد من الناس قرين جن

- ‌752 - (17) باب لن يدخل الجنة أحد بعمله، وإكثار الأعمال والاجتهاد في العبادة، واستحباب الاقتصاد في الموعظة

- ‌ كتاب ذكر الموت وما بعده من الجنَّة والنَّار وغيرهما

- ‌753 - (18) باب حفت الجنَّة بالمكاره والنَّار بالشهوات، وفي الجنَّة ما لا عين رأت .. إلخ، وفي الجنَّة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام، والرضوان على أهل الجنَّة وترائي أهل الجنَّة أهل الغرف فوقهم

- ‌754 - (19) باب مودة رؤية النَّبيّ صلى الله عليه وسلم ببذل ماله وأهله، وذكر سوق الجنَّة، وأول زمرة تدخل الجنَّة على صورة القمر، ودوام نعيم أهل الجنَّة، وصفة خيام الجنَّة، وما في الدُّنيا من أنهار الجنَّة

- ‌755 - (20) باب في ذكر أقوام أفئدتهم مثل أفئدة الطير وكون أهل الجنَّة على صورة آدم، وفي ذكر شدة حر جهنم وبعد قعرها وما تأخذه من المعذبين وأنها مسكن الجبارين والجنة مسكن الضعفاء والمساكين وذبح الموت

- ‌756 - (21) باب غلظ جلد الكافر، وعظم ضرسه، وعلامات أهل الجنَّة والنَّار، ورؤيته صلى الله عليه وسلم عمرو بن لحي في النَّار، وصنفين من أهل النَّار، وذكر فناء الدُّنيا والحشر يوم القيامة

الفصل: ‌745 - (10) باب حديث توبة كعب بن مالك وصاحبيه

‌745 - (10) باب حديث توبة كعب بن مالك وصاحبيه

6843 -

(2748)(99) حدّثني أَبُو الطَّاهِرِ، أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَرْحٍ. مَوْلَى بَنِي أُمَيَّةَ. أَخبَرَنِي ابْنُ وَهْبٍ. أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ. قَالَ: ثُمَّ غَزَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم غَزْوَةَ تَبُوكَ. وَهُوَ يُرِيدُ الرُّومَ وَنَصَارَى الْعَرَبِ بِالشَّامِ

ــ

745 -

(10) باب حديث توبة كعب بن مالك وصاحبيه

أما كعب فهو كعب بن مالك بن أبي كعب عمرو بن القين بن كعب بن سواد بن كعب الأنصاري السلمي - بفتح السين واللام - أبو عبد الله المدني، الشاعر، أحد الثلاثة الذين خُلِّفوا، شهد العقبة، له ثمانون حديثًا، اتفقا على ثلاثة، وانفرد (ح) بحديث و (م) بحديثين، وقال في التقريب: صحابي مشهور، مات في خلافة علي رضي الله تعالى عنهما، وقال في التهذيب: قال الواقدي: مات سنة (50) خمسين، وقال الهيثم بن عدي: سنة (51) إحدى وخمسين، وأما صاحباه فهما مرارة بن ربيعة العمري نسبة إلى بني عمرو بن عوف، وهلال بن أمية الواقفي رضي الله تعالى عنهما كما سيأتيان في الحديث.

ثم استدل المؤلف رحمه الله تعالى على الترجمة بحديث كعب بن مالك نفسه رضي الله عنه فقال:

6843 -

(2748)(99)(حدثني أبو الطاهر أحمد بن عمرو بن عبد الله بن عمرو بن سرح) الأموي (مولى بني أمية) المصري الفقيه (أخبرني) عبد الله (بن وهب) بن مسلم القرشي المصري (أخبرني يونس) بن يزيد الأموي الأيلي (عن) محمد بن مسلم (بن شهاب قال) ابن شهاب بالسند الآتي (ثم) بعدما أعلن لهم جهة الخروج للجهاد وأمرهم بالتجهز والنفير (غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم أي خرج من المدينة قاصدًا (غزوة تبوك وهو يريد) ويقصد أن يجاهد (الروم ونصارى العرب) النازلين (بالشام) إقليم معروف في الشمال.

"وتبوك" مكان معروف وهو نصف طريق المدينة إلى دمشق وهو من المدن المشهورة اليوم في المملكة العربية السعودية في أقصى شمالها والروم جنس معروف من

ص: 257

قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَأَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ؛ أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ كَعْبِ كَانَ قَائِدَ كَعْبٍ، مِنْ بَنِيهِ، حِينَ عَمِيَ. قَالَ: سَمِعْتُ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ يُحَدِّثُ حَدِيثَهُ حِينَ تَخَلَّفَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ. قَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ: لَمْ أَتَخَلَّفْ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا قَطُّ. إِلَاّ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ. غَيْرَ أَنِّي قَدْ تَخَلَّفْتُ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ. وَلَمْ يُعَاتِبْ أَحَدًا تَخَلَّفَ عَنْهُ

ــ

أولاد سام بن نوح ونصارى العرب هم بنو لخم وبنو جذام وغيرهم كبني تغلب وبني تنوخ وكان السبب في غزوة تبوك ما ذكره ابن سعد وغيره من أن الأنباط الذين كانوا يقدمون بالزيت من الشام إلى المدينة أخبروا المسلمين بأن الروم جمعت جموعًا وأجلبت معهم لخم وجذام وغيرهم من منتصرة العرب وجاءت مقدمتهم إلى البلقاء فندب النبي صلى الله عليه وسلم الناس إلى الخروج وأعلمهم بجهة غزوهم، وتدل بعض الروايات على أن الذي حث هرقل على الخروج هم نصارى العرب وكتبوا إليه بأن النبي صلى الله عليه وسلم هلك وأصابتهم سنون فهلكت أموالهم فبعث رجلًا من عظمائهم يقال له قباذ وجهز معه أربعين ألفًا أخرجه الطبراني عن عمران بن حصين رضي الله عنه.

(قال ابن شهاب) بالسند السابق (فأخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك) الأنصاري السلمي أبو الخطاب المدني، ثقة، من (3) روى عنه في (4) أبواب (أن عبد الله بن كعب) بن مالك الأنصاري، ثقة، من (2) يقال له رؤية، روى عنه في (5) أبواب و (كان) عبد الله (قائد كعب من) بين (بنيه) يقوده ويمشي به (حين عمي) كعب وفقد بصره وكان بنوه أربعة عبد الله وعبد الرحمن ومحمد وعبيد الله (قال) عبد الله:(سمعت) والدي (كعب بن مالك يحدّث حديثه) أي قصته (حين تخلف عن) الخروج مع (رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة ثبوك) وهي آخر غزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم (قال كعب بن مالك) في قصته تلك (لم أتخلف) مضارع مسند إلى المتكلم أي لم أتخلف أنا في المدينة (عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها) رسول الله صلى الله عليه وسلم (قط) أي فيما مضى من عمري (إلا في غزوة تبوك غير أني) أي لكن أني (قد تخلفت) عنه (في غزوة بدر ولم يعاتب) أي لم يلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يعنف ولم يتعرض (أحدًا تخلف عنه) في بدر، وفي البخاري

ص: 258

وإِنَّمَا خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَالْمُسْلِمُونَ يُرِيدُونَ عِيرَ قُرَيْشٍ. حَتَّى جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ عَدُوِّهِمْ، عَلَى غَيْرِ مِيعَادٍ. وَلَقَدْ شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ. حِينَ تَوَاثَقْنَا عَلَى الإِسْلَامِ. وَمَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِهَا مَشْهَدَ بَدْرٍ. وَإِنْ كَانَت بَدْرٌ أَذْكَرَ فِي النَّاسِ مِنْهَا. وَكَانَ مِنْ

ــ

في غزوة بدر في رواية الكشمهيني بلفظ (ولم يعاتب الله أحدًا تخلف عنه)(و) إنما لم يعاتب أحدًا تخلف عن بدر لأنه (إنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون) معه حالة كونهم (يريدون عير قريش) التي جاءت من الشام أي يريدون أخذها بغتة، والعير بكسر العين الإبل التي عليها أحمالها، وقوله:(حتى جمع الله) معطوف على خرج وحتى عاطفة بمعنى الفاء أي فجمع الله (بينهم) أي بين المسلمين (وبين عدوهم على غير ميعاد) أي من غير وقوع مواعدة للقتال بين الفريقين، والحاصل أن غزوة بدر لم تقع بعزم سابق فلم يكن فيه النفير عامًا إنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن تيسر من أصحابه يريد عير قريش فقط، وهذا بيان لسبب عدم العتاب على من تخلف عن غزوة بدر (ولقد شهدت) وحضرت (مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة) أي بيعة ليلة العقبة وهي الليلة التي بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنصار فيها على الإسلام وعلى أن يؤوه وينصروه وهي العقبة التي في طرف منى التي يضاف إليها جمرة العقبة وكانت بيعة العقبة مرتين في سنتين في السنة الأولى كانوا اثني عشر رجلًا وفي الثانية كانوا سبعين كلهم من الأنصار رضي الله عنهم يريد أنه وإن لم يتشرف بحضور غزوة بدر لكنه تشرف بحضور ليلة العقبة التي بايع فيها الأنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم على مؤازرته والدفاع عنه فأبدله الله تعالى عن نعمة الحضور في غزوة بدر بنعمة أخرى وهي شهود ليلة العقبة (حين تواثقنا) أي تعاقدنا عقد الميثاق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم (على الإسلام) وتبايعنا عليه وتعاهدنا (وما أحب أن لي بها) أي بدل العقبة (مشهد بدر) أي وما أحب أن يكون لي مشهد بدر بدل العقبة، قال الأبي: ومذهبه أن مشهد العقبة أفضل من مشهد بدر (وإن كانت) غزوة (بدر أذكر) أي أكثر ذكرًا (في الناس) وأشهر في الفضيلة (منها) أي من بيعة العقبة عندهم يعني أن غزوة بدر كانت أعظم ذكرًا في الناس بالنسبة إلى ليلة العقبة ولكني لا أحب أن أستبدل ليلة العقبة بغزوة بدر لأن الشرف الذي حصل لي بشهود ليلة العقبة أجل عندي قدرًا من أن أستهين به (وكان من

ص: 259

خَبَرِي، حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، أَنِّي لَمْ أَكُنْ قَطُّ أَقْوَى وَلَا أَيْسَرَ مِنِّي حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْهُ فِي تِلْكَ الْغَزْوَةِ. وَاللهِ، مَا جَمَعْتُ قَبْلَهَا رَاحِلَتَيْنِ قَطُّ. حَتَّى جَمَعْتُهُمَا فِي تِلْكَ الْغَزْوَةِ. فَغَزَاهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَرٍّ شَدِيدٍ. وَاسْتَقْبَلَ سَفَرًا بَعِيدًا وَمَفَازًا. وَاسْتَقْبَلَ عَدُوًّا كَثِيرًا. فَجَلَا لِلْمُسْلِمِينَ أَمْرَهُمْ

ــ

خبري) وقصتي وشأني وحالي (حين تخلفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك) وجملة أن في قوله: (أني لم أكن قط) أي في زمن من الأزمنة الماضية (أقوى) أي أشد قوة في الجسم (ولا أيسر) أي ولا أكثر مالًا (مني) أي من قوتي ويساري (حين تخلفت عنه) صلى الله عليه وسلم (في تلك الغزوة) أي في غزوة تبوك في تأويل مصدر مرفوع على أنه اسم كان مؤخرًا، والجار والمجرور في قوله من خبري خبرها مقدمًا، والتقدير وكان عدم كوني أقوى وأيسر مني حين تخلفت عنه كائنًا من شأني وحالي حين تخلفت عنه وذلك لأني (والله ما جمعت قبلها) أي قبل غزوة تبوك (راحلتين قط) أي فيما مضى من عمري (حتى جمعتهما) أي فجمعتهما (في تلك الغزوة فغزاها) أي فغزا تلك الغزوة (رسول الله صلى الله عليه وسلم في حر شديد) أي في وقته (واستقبل) أي استأنف وابتدأ (سفرًا بعيدًا) مسافته (و) سلك (مفازًا) أي برية طويلة قليلة الماء يخاف فيها الهلاك (واستقبل) أي قابل (عدوًا كثيرًا) عددهم نحو أربعين ألفًا كما مر عن الطبراني (فـ) لأجل ذلك (جلا) أي كشف وبيّن وأظهر وأوضح (للمسلمين أمرهم) وشأنهم ومقصدهم وعرفهم ذلك على وجهه من غير تورية، من جلوت الشيء أي كشفته وبينته بتخفيف اللام، ووقع في بعض روايات البخاري (فجلا) بتشديد اللام، وهما بمعنى وزاد البخاري قبله ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد غزوة إلَّا ورى بغيرها، وسيأتي في رواية محمد بن عبد الله بن مسلم، والمقصود أن النبي صلى الله عليه وسلم كان من عادته أن لا يعلن جهة خروجه للقتال بل كان من عادته التورية بذلك فإن كان يريد جهة المشرق مثلًا توجه إلى المغرب عند الخروج ثم عاد إلى المشرق لئلا يتبين أمره للمنافقين ولطلائع العدو، كان ذلك من تدبير الحرب وسياسته فإن الحرب خدعة ولكنه لم يفعل مثل ذلك في غزوة تبوك بل أعلن جهة خروجه قبل أن يخرج لما رأى من طول السفر وكثرة العدو وزيادة المشقة فالمراد أن يكون المسلمون على بينة من الأمر

ص: 260

لِيَتَأَهَّبُوا أُهْبَةَ غَزْوِهِمْ. فَأَخْبَرَهُمْ بِوَجْهِهِمُ الَّذِي يُرِيدُ. وَالْمُسْلِمُونَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَثِيرٌ. وَلَا يَجْمَعُهُمْ كِتَابُ حَافِظٍ، (يُرِيدُ بِذلِكَ الدِّيوَانَ)، قَالَ كَعْبٌ: فَقَلَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَتَعيَّبَ، يَظُنُّ أَنَّ ذلِكَ سَيَخْفَى لَهُ مَا لَمْ يَنْزِلْ فِيهِ وَحْيٌ مِنَ اللهِ عز وجل

ــ

ويستعدوا لهذا السفر بما يتيسر لهم، أي جلا لهم أمرهم (ليتأهبوا) أي ليأخذوا (أهبة غزوهم) بضم الهمزة وسكون الهاء وهي ما يحتاج إليه الإنسان في سفره وحرمه اه دهني. أي مؤنة غزوهم وسفرهم بأخذ ما يحتاجون إليه في سفرهم ذلك من زاد ومزادة وعدة وسلاح (فأخبرهم) رسول الله (بوجههم) أي بمقصدهم (الذي يريد) هـ بهم (والمسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير) وسيأتي في رواية معقل عن الزهري أنهم يزيدون على عشرة آلاف، وللحاكم في الإكليل من حديث معاذ خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى غزوة زيادة على ثلاثين ألفًا، وبهذه العدة جزم ابن إسحاق، وأورده الواقدي بسند آخر موصول وزاد: إنه كان معه عشرة آلاف فرس، فتحمل رواية معقل على إرادة عدد الفرسان اه فتح الباري [8/ 118](ولا يجمعهم) أي لا يجمع المسلمون لكثرة عددهم كتاب حافظ) بإضافة الأول إلى الثاني في رواية مسلم أي حسابُ شخص ماهر في الحساب، ورواية البخاري (كتاب حافظ) بالتنوين فيهما على كون الثاني وصفًا للأول وفسره الزهري بقوله:(يريد) كعب (بذلك) الكتاب (الديوان) أي الدفتر الذي يجمع فيه أسماء الجيش والديوان بكسر الدال على المشهور وحكي فتحها وهو فارسي معرب وقيل عربي اه أُبي. والمعنى لم يكن هناك كتاب أو ديوان تسجل فيه أسماء المشاركين في الغزوة (قال كعب) بن مالك: (فقل رجل) منهم (يريد أن يتغيب) من الجيش إلَّا (يظن) أي إلَّا ظن ذلك الرجل (أن ذلك) الغياب (سيخفى له) لعدم تسجيل الأسماء ولكثرة الجيش (ما لم ينزل فيه) أي في غيابه (وحي من الله عز وجل وقوله: (يظن) هكذا هو في رواية مسلم وفيها إسقاط إلَّا كما قدرناه، ورواية البخاري (فقل رجل يريد أن يتغيَّب إلَّا ظن أن سيخفى له ما لم ينزل فيه وحي) بإثبات إلَّا وهي الصحيحة والمعنى أن من كان يريد أن يتغيب عن الغزوة فإنه كان من السهل عليه أن يفعل ذلك لأنه كان يظن أن لا يطلع على غيابه أحد لعدم تسجيل الأسماء إلَّا أن ينزل في ذلك وحي من الله تعالى على رسوله والله أعلم.

ص: 261

وَغَزَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم تِلْكَ الْغَزْوَةَ حِينَ طَابَتِ الثِّمَارُ وَالظِّلَالُ. فَأَنَا إِلَيْهَا أَصْعَرُ. فَتَجَهَّزَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَالْمُسْلِمُونَ مَعَهُ. وَطَفِقْتُ أَغْدُو لِكَيْ أَتَجَهَّزَ مَعَهُمْ. فَأَرْجِعُ وَلَمْ أَقْضِ شَيْئًا. وَأَقُولُ فِي نَفْسِي: أَنَا قَادِرٌ عَلَى ذلِكَ، إِذَا أَرَدْتُ. فَلَمْ يَزَلْ ذلِكَ يَتَمَادَى بِي حَتَّى اسْتَمَرَّ بِالنَّاسِ الْجِدُّ

ــ

وعبارة القرطبي هنا: قوله: (فقل رجل يريد أن يتغيب يظن أن ذلك سيخفى له) كذا وقع هذا الكلام في سائر روايات مسلم وفي نسخه، وسقط من الكلام (إلَّا) قبل (يظن) وبذكر إلَّا يستقيم الكلام وهي إيجاب بعدما تضمنه (قل) من معنى النفي لأن معنى قوله:(قل رجل) بمعنى ما رجل فكأنه قال: ما رجل يريد أن يتغيب إلَّا ظن أن ذلك سيخفى له اه من المفهم.

(وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزاة) يعني غزوة تبوك (حين طابت) وأدركت (الثمار) ونضجت (و) كثر (الظلال) بتورق الأشجار (فأنا إليها) أي إلى التفرج والتمتع بالثمار والظلال (أصعر) أي أميل بقلبي من باب فتح أي أشد ميلًا إليها من الخروج إلى الغزوة. وقوله: (حين طابت الثمار والظلال) يعني حين كانت الثمار ناضجة على الأشجار وهو موسم كان أهل المدينة يشتاقون إليه لوفور الثمار فيه ولكونها زمن تجارتهم فيها والحصول على الأرباح فيها وهي التي كانت أساس معيشتهم في ذلك الزمان، قوله:(فأنا إليها أصعر) أي أميل، وفي رواية لأحمد فأنا في ذلك أصغو إلى الثمار والظلال (فتجهز) أي تهيأ باستعداد الجهاز (رسول الله صلى الله عليه وسلم و) تجهز (المسلمون معه) صلى الله عليه وسلم (وطفقت) أي شرعت (أغدو) وأبكر من بيتي (لكي أتجهز) للخروج (معهم فأرجع) إلى منزلي (ولم أقض) وأحصل (شيئًا) من جهازي وأهبة سفري (وأقول في نفسي) أي في قلبي (أنا قادر على ذلك) أي على تحصيل جهازي وجمع أهبة سفري (إذا أردت) أي في أي وقت أردت ذلك (ولم يزل ذلك) أي التسويف في جمع جهازي (يتمادى بي) أي يستمر بي ويلازمني ويؤخرني عن الخروج يعني أن تردد رأيي في الخروج والقعود لم يزل يؤخرني عن الخروج (حتى استمر) ولازم (بالناس الجد) بكسر الجيم وضم الدال المشددة على أنه فاعل استمر أي الاجتهاد والاهتمام والاعتناء بالخروج، وأصله استمر الناس بجدهم في الخروج، وفي رواية البخاري (أشتد الناس الجد) والحاصل أن الصحابة غيري جدوا في مسيرهم فخرجوا

ص: 262

فَأَصْبَحَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم غَادِيًا وَالْمُسْلِمُونَ مَعَهُ. وَلَمْ أَقْضِ مِنْ جَهَازِي شَيْئًا. ثُمَّ غَدَوْتُ فَرَجَعْتُ وَلَمْ أَقْضِ شَيْئًا. فَلَمْ يَزَلْ ذلِكَ يَتَمَادَى بِي حَتَّى أَسْرَعُوا وَتَفَارَطَ الْغَزْوُ. فَهَمَمْتُ أَنْ أَرْتَحِلَ فَأُدْرِكَهُمْ. فَيَا لَيْتَنِي فَعَلْتُ. ثُمَّ لَمْ يُقَدَّرْ ذلِكَ لِي. فَطَفِقْتُ، إِذَا خَرَجْتُ فِي النَّاسِ، بَعْدَ خُرُوجِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، يَحْزُنُنِي أَنِّي لَا أَرَى لِي أُسْوَةَ. إِلَاّ رَجُلًا مَغْمُوصًا عَلَيْهِ فِي النِّفَاقِ،

ــ

(فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم أي فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصباح (غاديًا) أي مبكرًا إلى الخروج (و) أصبح (المسلمون) غادين (معه) صلى الله عليه وسلم أي مبكرين (ولم أقض) أي والحال أني لم أجد ولم أجمع (من جهازي) بفتح الجيم وكسرها أي من أهبة سفري ومؤنته (شيئًا) قليلًا ولا كثيرًا (ثم غدوت) أي خرجت من منزلي مبكرًا لأجمع جهازي (فرجعت) إلى منزلي (و) الحال أني (لم أقض) ولم أجد (شيئًا) من جهازي (فلم يزل ذلك) الغدو والرجوع إلى المنزل بلا قضاء شيء من جهازي (يتمادى بي) أي يستمر بي ويلازمني (حتى أسرعوا) أي حتى أسرع المسلمون في الخروج وبادروا إليه (وتفارط الغزو) أي أهله أي تقدم الغزاة وسبقوا وفاتوا حتى لا يوجد أحد منهم في المدينة، والفرط والفارط المتقدم وجمعه فراط (فهممت) أي فقصدت (أي أرتحل) وأخرج من المدينة (فأدركهم) في الطريق (فيا) هؤلاء (ليتني) أي أتمنى لنفسي لو (فعلت) ذلك أي ارتحالي وإدراكهم (ثم) بعد همي ذلك (لم يقدر) ولم يحكم (ذلك) الارتحال والإدراك (لي) من جهة الله تعالى (فطفقت) أي شرعت وكنت (إذا خرجت) من منزلي (في) زقاق المدينة واطلعت على (الناس بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم لسفره ذلك، وقوله: (يحزنني) ويؤسفني ويقلقني خبر طفقت أي كنت يحزنني أي يدخل في قلبي الحزن والأسف (أني لا أرى) ولا أبصر (لي أسوة) أي قدوة لي أي فكنت يحزنني عدم وجدان من يكون قدوة لي في القعود إذا خرجت من منزلي في الناس بعد سفر رسول الله صلى الله عليه وسلم (إلا رجلًا مغموصًا) أي مطعونًا (عليه في) دينه بسبب (النفاق) قال العيني: قوله: (إلَّا رجلًا مغموصًا عليه في النفاق) بالغين المعجمة وبالصاد المهملة أي مطعونًا عليه في دينه بالنفاق، وقيل معناه مستحقرًا يقال: غمصت فلانًا إذا استحقرته وكذلك أغمصته اه منه، قال القرطبي: والمغموص المعيب المتهم المستحقر يقال: غمصت فلانًا إذا استحقرته والمعنى إلَّا رجلًا مطعونًا

ص: 263

أَوْ رَجُلًا مِمَّنْ عَذَرَ اللهُ مِنَ الضُّعَفَاءِ. وَلَمْ يَذْكُرْنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى بَلَغَ تَبُوكًا فَقَالَ، وَهُوَ جَالِسٌ فِي انقَؤمِ بِتَبُوكَ:"مَا فَعَلَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ؟ " قَالَ رَجُلٌ مِن بَنِي سَلِمَةَ: يَا رَسُولَ اللهِ، حَبَسَهُ بُرْدَاهُ وَالنَّظَرُ فِي عِطْفَيهِ. فَقَالَ لَهُ

ــ

عليه في دينه متهمًا بالنفاق مستحقرًا بين الناس (أو) إلَّا (رجلًا ممن عذر) هـ (الله) تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ورخص له في القعود حالة كونه (من الضعفاء) والمرضى والزمنى والأعمى وغيرهم (ولم يذكرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بلسانه ولا بقلبه (حتى بلغ تبوكًا) بالتنوين والنصب كذا في أكثر نسخ مسلم وكذا في البخاري وكأنه صرفه لإرادة الموضع دون البقعة، وفي أكثر الروايات حتى بلغ تبوك غير منصرف لإرادة البقعة (فـ) لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم تبوك (قال: وهو) صلى الله عليه وسلم (جالس في القوم) من الصحابة (بتبوك) بعدم الصرف (ما فعل) أي أي شيء فعل (كعب بن مالك) حين تخلّف عنا في المدينة (قال رجل من بني سلمة) بفتح السين وكسر اللام واسم القائل هو عبد الله بن أنيس السلمي بفتح السين واللام قاله الواقدي اه من التنبيه (يا رسول الله حبسه) أي منعه من الخروج معنا (برداه) أي التزين ببرديه ردائه وإزاره (والنظر في عطفيه) بكسر العين وسكون الطاء تثنية عطف بمعنى الجانب أي النظر في جانبي بدنه وكبرهما، وهو إشارة إلى إعجابه بجسمه وبلباسه، قال الهروي: العطفان هما جانبا جسده وقال في موضع آخر ناحيتا عنقه ومنكب الرجل عطفه، وقال المبرد: العطف ما انثنى من العنق، وقال غيره: العرب تضع الرداء موضع البهجة والبهاء ويسمونه عطفًا لوقوعه على عطفي الرجل والمعنى حبسه بهاء لباسه وبهجة جسده، قال القرطبي: البردان يعني بهما الرداء والإزار أو الرداء والقميص وسماها بردين لأن القميص والإزار قد يكونان من برود والبرود ثياب تجلب من اليمن فيها خطوط، ويحتمل أن تسميتهما بردين على طريقة العمرين والبكرين والقمرين، والعطف الجانب وكأن هذا القائل كان في نفسه حقد، ولعله كان منافقًا فنسب كعبًا إلى الزهو والكبر وكانت نسبة باطلة بدليل شهادة العدل الفاضل معاذ بن جبل إذ قال: بئس ما قلت، والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلَّا خيرًا، وفيه جواز الذم والتقبيح للمتكلم في حق المسلم بالعيب والقبيح ونصرة المسلم في حال غيبته والرد عن عرضه اه من المفهم (فقال له) أي لذلك القائل

ص: 264

مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ: بئْسَ مَا قُلْتَ، وَاللهِ، يَا رَسُولَ اللهِ، مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ إِلَاّ خَيْرًا. فَسَكَتَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّه عَلَيهِ وَسَئمَ. فَبَينَمَا هُوَ عَلَى ذلِكَ رَأَى رَجُلًا مُبَيِّضًا يَزُولُ بِهِ السَّرَابُ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"كُنْ أَبَا خَيثَمَة"، فَإِذَا هُوَ أَبُو خَيْثَمَةَ

ــ

(معاذ بن جبل بئس) أي قبح (ما قلت) من الكلام، قال النووي فيه رد لغيبة المسلم الذي ليس بمنهمك في الباطل ولذا لم ينكر صلى الله عليه وسلم على قائل ذلك اكتفاء بإنكار معاذ اه أبي (والله يا رسول الله ما علمنا عليه) أي على كعب (إلا خيرًا) وإيمانًا خالصًا (فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فبينما هو) صلى الله عليه وسلم (على ذلك) السكوت (رأى) رسول الله صلى الله عليه وسلم (رجلًا مبيضًا) بتشديد الياء المكسورة اسم فاعل من بيض الرباعي فهو مبيض أي أظهر بياض نفسه في السراب أي رجلًا لابسًا الثياب البيض (يزول به السراب) أي يتحرك ويضطرب به السراب، والسراب ما يرى نصف النهار كأنه ماء اه مفهم، قال الطبري: المبيض بكسر الياء لابس البياض والمبيضة والمسودة لابس البياض والسواد (يزول به السراب) أي يتحرك والسراب ما يظهر في الهواجر في البراري كأنه الماء اه سنوسي (فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مخاطبًا لذلك الرجل المبيض الذي رآه (كن) أيها المرئي لنا (أبا خيثمة) قال ثعلب: تقول العرب كن زيدًا أي أنت زيد فمعناه حينئذٍ أنت أبو خيثمة اه نووي، قال القاضي عياض: والأشبه أن كن هنا للتحقق والوجود أي لتوجد يا هذا الشخص أبا خيثمة حقيقة، وهذا الذي قاله القاضي هو الصواب وهو معنى قول صاحب التحرير تقديره: اللهم اجعله أبا خيثمة اه، وقال القرطبي: هذه صيغة أمر ومعناها الخبر أي هو أبو خيثمة، وقيل معناها لتوجد أبا خيثمة واسمه عبد الله وقيل مالك بن قيس، وقيل سعد بن خيثمة وهذا الأخير أخرجه الطبراني من حديثه ولفظه تخلفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخلت حائطًا فرأيت عريشًا قد رش بالماء ورأيت زوجتي فقلت: ما هذا بإنصاف، رسول الله صلى الله عليه وسلم في السموم والحر وأنا في الظل والنعيم، فقمت إلى ناضح لي وتمرات فخرجت فلما طلعت على العسكر فرآني الناس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كن أبا خيثمة فجئت فدعا لي رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا في الفتح والقسطلاني (فإذا هو) أي الرجل المبيِّض (أبو خيثمة) سعد بن

ص: 265

الأَنْصَارِيُّ. وَهُوَ الَّذِي تَصَدَّقَ بِصَاعِ التَّمْرِ حِينَ لَمَزَهُ الْمُنَافِقُونَ.

فَقَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ: فَلَمَّا بَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ تَوَجَّهَ قَافِلًا مِنْ تَبُوكَ، حَضَرَنِي بَثِّي، فَطَفِقتُ أَتَذَكَّرُ الْكَذِبَ وَأَقُولُ: بِمَ أَخْرُجُ مِنْ سَخَطِهِ غَدًا؟ وَأَسْتَعِينُ عَلَى ذلِكَ كُلَّ ذِي رَأْيِ مِنْ أَهْلِي. فَلَمَّا قِيلَ لِي: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ أَظَلَّ قَادِمًا، زَاحَ عَنِّي الْبَاطِلُ. حَتَّى عَرَفْتُ أَنِّي لَنْ أَنْجُوَ مِنْهُ بِشَيْءٍ أَبَدًا. فَأَجْمَعْتُ صِدْقَهُ. وَصَبَّحَ

ــ

خيثمة (الأنصاري وهو) أي أبو خيثمة هو (الذي تصدق بصاع التمر حين) أُمروا بالصدقة و (لمزه) أي عيبه وطعنه (المنافقون) فقالوا: إن الله لغني عن صاع هذا، وهذا تفسير مدرج من الراوي ولعله ابن شهاب (فقال كعب بن مالك فلما بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توجه) أي أقبل وقدم (قافلًا) أي راجعًا (من تبوك) إلى المدينة (حضرني بثي) وحزني أي أخذني البث والهم، والبث أشد الحزن أي صرت مهمومًا بأني كيف أُواجه رسول الله صلى الله عليه وسلم (فطفقت) أي أخذت وشرعت وهي من أفعال المقاربة أن (أتذكر الكذب) في اعتذاري من التخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (وأقول) في نفسي (1) أي باي اعتذار (أخرج) وأتخلص (من سخطه) وغضبه صلى الله عليه وسلم حين جاء (غدًا) وذكر ابن سعد أن قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة كان في رمضان (و) كنت (أستعين) أي أطلب الإعانة لي (على ذلك) أي على أسباب الاعتذار إليه (كل ذي رأي) أي بكل ذي رأي وعقل (من أهلي) أي من أقاربي (فلما قيل لي إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظل) وصار (قادمًا) أي أقبل ودنا قدومه كأنه ألقى عليَّ ظله اه نووي (زاح) أي زال وبعد (عني الباطل) أي الكذب في الاعتذار إليه وحتى في قوله:(حتى عرفت) بمعنى الواو العاطفة كما في رواية البخاري أي وعرفت وتيقنت (أني لن أنجو) وأخرج (منه) أي من غضبه (بشيء) من الاعتذار (أبدًا) هو ظرف مستغرق لما يستقبل من الزمان ملازم للنفي متعلق بأنجو كما هو مقرر في محله (فأجمعت صدقه) أي عزمت على صدقه وجزمت عليه قصدي أي عقدت نيتي على إخباره بالكلام الصادق، ولابن أبي شيبة (وعرفت أنه لا ينجيني منه إلَّا الصدق) وهو من الإجماع بمعنى العزم الصميم، والمراد أني عزمت على أني لا أتكلم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إلَّا بصدق (وصبّح) بتشديد الباء وفي رواية البخاري

ص: 266

رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَادِمًا. وَكَانَ، إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ، بَدَأَ بِالْمَسْجِدِ فَرَكَعَ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ. ثُمَّ جَلَسَ لِلنَّاسِ. فَلَمَّا فَعَلَ ذلِكَ جَاءَهُ الْمُخَلَّفُونَ. فَطَفِقُوا يَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِ. وَيَحْلِفُونَ لَهُ. وَكَانُوا بِضْعَةً وَثَمَانِينَ رَجُلًا. فَقَبِلَ مِنْهُمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَانِيَتَهُمْ. وَبَايَعَهُمْ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ. وَوَكَلَ سَرَائِرَهُمْ إِلَى اللهِ. حَتَّى جِئْتُ. فَلَمَّا سَلَّمْتُ، تَبَسَّمَ تَبَسُّمَ الْمُغْضَبِ

ــ

وأصبح (رسول الله صلى الله عليه وسلم أي صار (قادمًا) المدينة في الصباح أي في أول النهار (وكان) صلى الله عليه وسلم دائمًا (إذا قدم من سفر بدأ بـ) دخول (المسجد) قبل دخول منزله فدخل المسجد (فركع) أي صلى (فيه ركعتين) تحية المسجد (ثم جلس) في المسجد مستعدًا (للناس) المسلمين عليه، قال القرطبي: إنما كان يفعل ذلك ليبدأ بتعظيم بيت الله قبل بيته وليقوم بشكر نعمة الله تعالى عليه في سلامته وليسلم عليه الناس وليسن ذلك في شرعه اه من المفهم (فلما فعل) رسول الله صلى الله عليه وسلم (ذلك) الجلوس في المسجد (جاءه المخلّفون) الذين خلفهم كسلهم ونفاقهم عن غزوة تبوك (فطفقوا) أي شرعوا (يعتذرون) أي يظهرون العذر (إليه) صلى الله عليه وسلم من تخلفهم عن تبوك (ويحلفون له) صلى الله عليه وسلم ليصدقهم في اعتذارهم (وكانوا) أي وكان المتخلفون عنه (بضعة وثمانين رجلًا) من منافقي الأنصار قاله الواقدي، وأن المعذرين من الأعراب كانوا أيضًا اثنين وثمانين رجلًا من غفار وغيرهم، وأن عبد الله بن أبي ومن أطاعه من قومه من غير هؤلاء وكانوا عددًا كثيرًا. والبضع بكسر الموحدة وسكون الضاد المعجمة ما بين ثلاث إلى تسع على المشهور، وقيل إلى الخمس، وقيل ما بين الواحد إلى الأربعة أو من أربع إلى تسع أو سبع وإذا جاوزت لفظ العشر ذهب البضع فلا يقال بضع وعشرون أو يقالى ذلك وهو مع المذكر بهاء ومع المؤنث بغير هاء فتقول بضعة وعشرون رجلًا وبضع وعشرون امرأة ولا يُعكس قاله في القاموس.

(فقبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم) أي ظواهرهم (وبايعهم) على الإسلام والنصرة له (واستغفر لهم) ما وقع منهم من التخلف (ووكل) بفتحات مع التخفيف أي فوض (سرائرهم إلى الله) تعالى، قال كعب: واستمر صلى الله عليه وسلم جالسًا (حتى جئت) أنا إليه (فلما سلمت) عليه (تبسَّم تبسُّم المنضب) بصيغة اسم

ص: 267

ثُمَّ قَالَ: "تَعَالَ" فَجِئْتُ أَمْشِي حَتَّى جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيهِ. فَقَالَ لِي: "مَا خَلَّفَكَ؟ أَلَمْ تَكُنْ قَدِ ابْتَعْتَ ظَهْرَكَ؟ " قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي، وَاللهِ، لَوْ جَلَسْتُ عِنْدَ غَيرِكَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا، لَرَأَيْتُ أَني سَأَخْرُجُ مِنْ سَخَطِهِ بِعُذرٍ. وَلَقَدْ أُعْطِيتُ جَدَلًا. وَلَكِنِّي، وَاللهِ، لَقَدْ عَلِمْتُ، لَئِنْ حَدَّثْتُكَ الْيَوْمَ حَدِيثَ كَذِبِ تَرْضَى بِهِ عَنِّي، لَيُوشِكَنَّ اللهُ أَنْ يُسْخِطَكَ عَلَيَّ. وَلَئِنْ حَدَّثْتُكَ حَدِيثَ صِدْقِ تَجِدُ عَلَيَّ فِيهِ، إِنِّي لأَرْجُو فِيهِ عُقْبَى اللهِ، وَاللهِ، مَا كَانَ لِي عُذْرٌ. وَاللهِ، مَا كُنْتُ قَطُّ أَقْوَى وَلَا أَيْسَرَ مِنِّي حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْكَ. قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَمَّا هَذَا، فَقَدْ صَدَقَ. فَقُمْ

ــ

المفعول أي تبسُّم من أخذه الغضب (ثم قال) لي: (تعال) أي أقبل إليَّ (فجئتـ) ـه (أمشي) على هينتي (حتى جلست بين يديه) وعند ابن عائذ في مغازيه فأعرض عنه فقال: يا نبي الله لم تعرض عني فوالله ما نافقت ولا ارتبت ولا بدلت (فقال لي ما خلَّفك) عن الغزو أي ما السبب الذي جعلك متخلفًا عن غزوة تبوك (ألم تكن قد ابتعت) واشتريت (ظهرك) أي مركوبك (قال) كعب: فـ (قلت) له: (يا رسول الله إني والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا) وملوكهم (لرأيت) أي لظننتُ (أني سأخرج من سخطه) وغضبه (بعذر و) الله (لقد أعطيت جدلًا) بفتحتين أي فصاحة وقوة في الكلام وبراعة بحيث أخرج من عهدة ما يُنْسب إليّ بما يُقبل ولا يُرَدُّ اه قسطلاني (ولكني والله لقد علمت لثن حدثتك) وأخبرتكَ (اليومَ حديثَ كذب) أي عُذرٍ كذبٍ (ترضى به عني ليوشِكَنَّ الله) أي ليقربن الله وُيسْرِعَنَّ (أن يُسخطك عليّ) بإظهار كذبي لك (ولئن حدَّثتك) اليومَ (حديث صدق) وخَبَر حق (تجد) بكسر الجيم من الموجِدَة بمعنى الغضب أي تغضبُ (عليّ) اليومَ (فيه) أي بذلك الحديث (إني لأرجو) وأطمع (فيه) أي في إخبارك خبر صدق (عقبَى الله) وثوابه، وفي رواية البخاري عفوَ الله أي أَنْ يُعْقِبَني ويُثيبني عليه وذلك الحديث الصدق هو ما أذكره لك بقولي (والله) أي أُقسمتُ لك بالإله الذي لا إله غيره (ما كان لي عذر) أصلًا في التخلُّف عن الغزو (والله ما كنت قط) أي فيما مضَى من عمري (أقوى) أي أشدَّ قوة في الجسم (ولا أيسر) مالًا أي أكثر مالًا (مني) أي من قوتي ويساري الحاصلَينِ لي (حين تخلفت عنك) في الخُروج للغزو فـ (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أما هذا) القائلُ هذا الكلامَ يعني كعبًا (فقد صدق) فيما أخبر لي (فقم) من عندي فقد سمِعْتُ كلامَك

ص: 268

حَتَّى يَقْضِيَ اللهُ فِيكَ" فَقُمْتُ. وَثَارَ رِجَالٌ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ فَاتَّبَعُونِي. فَقَالُوا لِي: وَاللهِ مَا عَلِمْنَاكَ أَذْنَبْتَ ذَنْبًا قَبْلَ هَذا. لَقَدْ عَجَزْتَ فِي أَنْ لَا تَكُونَ اعْتَذَرْتَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، بِمَا اعْتَذَرَ بِهِ إِلَيْهِ الْمُخَلَّفُونَ. فَقَدْ كَانَ كَافِيَكَ ذَنْبَكَ اسْتِغْفَارُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَكَ.

قَالَ: فَوَاللهِ، مَا زَالُوا يُؤَنِّبُونَنِي حَتَّى أَرَدْتُ أَنْ أَرْجِعَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم. فَأُكَذِّبَ نَفْسِي. قَالَ: ثُمَّ قُلْتُ لَهُمْ: هَلْ لَقِيَ هَذَا مَعِي مِنْ أَحَدٍ؟ قَالُوا: نَعَمْ. لَقِيَهُ مَعَكَ رَجُلَانِ. قَالَا مِثْلَ مَا قُلْتَ. فَقِيلَ لَهُمَا مِثلَ مَا قِيلَ لَكَ. قَالَ:

ــ

(حتى يقضي الله) ويحكُم (فيك) ما شاء (فقمت) من عنده فمضيتُ (وثارَ) إليّ وقام (رجالٌ مِنْ) قومي (بني سلمة) بكسر اللام ووَثَبُوا عليَّ (فَاتَّبعُوني) بوصل الهمزة وتشديد التاء الفوقية (فقالوا لي والله ما علمناك أذنبت ذنبًا قبل هذا) التخلُّف (لقد عجزتَ في أن لا تكون اعتذرتَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولفظةُ في بمعنى عن، ولا زائدة أي لقد عجزت عن أن تكون معتذرًا إلى رسول الله (بما اعتذر به) أي بمثلِ ما اعتذر به (إليه) صلى الله عليه وسلم هؤلاء (المخلَّفَون) عنه (فقد كان كافيَك) بفتح الياء (ذنبَك) أي عن عقوبة ذنبك بالكذب (استغفارُ رسول الله صلى الله عليه وسلم لك) كما استغفر لهؤلاء المخلّفين، برفع استغفارِ بقوله كافيك لأن اسم الفاعل يعملُ عملَ فعله (قال) كعب بن مالك (فوالله) أي فأقسمتُ لكم بالله (ما زالوا) أي ما زال أولئك الرجال (يُؤَنِّبُوني) بضم الياء وهمزة مفتوحة فنون مشددة مكسورة فموحدة مضمومة ونونين أي ما زالوا يلومونني لومًا عنيفًا شديدًا (حتى أردت) وقصدت (أن أرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكذّب نفسي) فيما قلت له وأعتذر إليه بعذر كذب (قال) كعب (ثم قلت لهم) أي لأولئك الرجال:(هل لقي) وقال (هذا) الذي قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم من كلام صدق (معي من أحد) أي أحد من المتخلّفين (قالوا) أي قال أولئك الرجال (نعم لقيه) أي لقي هذا الذي قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقاله (معك رجلان) من المتخلّفين (قالا) لرسول الله صلى الله عليه وسلم (مثل ما قلت) له من الكلام الحق (فقيل لهما) من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم (مثل ما قيل لك) من جهته يعني قوله صلى الله عليه وسلم له: قم حتى يقضي الله فيك (قال) كعب:

ص: 269

قُلْتُ: مَنْ هُمَا؟ قَالُوا: مُرَارَةُ بْنُ رَبِيعَةَ الْعَامِرِيُّ، وَهِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ الْوَاقِفِيُّ. قَالَ: فَذَكَرُوا لِي رَجُلَيْنِ صَالِحَيْنِ قَدْ شَهِدَا بَدْرًا، فِيهِمَا إِسْوَةٌ. قَالَ: فَمَضيْتُ

ــ

(قلت) لهم: (من هما) أي من الرجلان اللذان قالا مثل ما قلت؟ (قالوا) أي قال أولئك الرجال هما (مرارة) بضم الميم وتخفيف الراءين (ابن ربيعة) وفي البخاري ابن الربيع بدل ربيعة وهو المشهور (العامري) قال النووي: هكذا هو العامري في جميع نسخ مسلم، وأنكره العلماء وقالوا هو غلط إنما صوابه العمري بفتح العين المهملة وسكون الميم كما في البخاري نسبة إلى بني عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس، وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن مرسلًا أن سبب تخلفه أنه كان له حائط حين زها فقال في نفسه: قد غزوت قبلها فلو أقمت عامي هذا فلما تذكر ذنبه قال: اللهم إني أشهدك أني قد تصدقت به في سبيلك (و) ثانيهما (هلال) بكسر الهاء (ابن أمية الواقفي) بتقديم القاف على الفاء نسبة إلى واقف بن امرئ القيس بن مالك بن الأوس أبو بطن من الأنصار، وذكر ابن أبي حاتم في مرسل الحسن المذكور سبب تخلفه أنه كان له أهل تفرقوا ثم اجتمعوا فقال: لو أقمت هذا العام عندهم فلما تذكر ذنبه قال: اللهم لك علي أن لا أرجع إلى أهلي ولا مالي اه قسطلاني (قال) كعب: (فذكروا) أي ذكر أولئك الرجال (لي رجلين صالحين قد شهدا بدرًا فيهما) لي (أسوة) بضم الهمزة وكسرها أي قدوة، وقد استشكل هذا بأن أهل السير لم يذكروا واحدًا منهما فيمن شهد بدرًا ولا يعرف ذلك في غير هذا الحديث وممن جزم بأنهما شهدا بدرًا الأثرم وهو ظاهر صنيع البخاري وتعقب الأثرم ابن الجوزي ونسبه إلى الغلط لكن قال الحافظ ابن حجر إنه لم يصب، قال: واستدل بعض المتأخرين لكونهما لم يشهدا بدرًا بما وقع في قصة حاطب وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يهجره ولا عاقبه مع كونه جسَّ عليه بل قال لعمر لما هم بقتله: "وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم" قال: وأين ذنب التخلف من ذنب الجس، قال في الفتح: وليس ما استدل به بواضح لأنه يقتضي أن البدري عنده إذا جنى جناية ولو كبرت لا يعاقب عليها وليس كذلك فهذا عمر مع كونه المخاطب بقصة حاطب قد جلد قدامة بن مظعون الحد لما شرب الخمر وهو بدري وإنما لم يعاقب صلى الله عليه وسلم حاطبًا ولا هجره لأنه قبل عذره في أنه إنما كاتب قريشًا خشية على أهله وولده بخلاف كعب وصاحبيه فإنهم لم يكن لهم عذر أصلًا (قال) كعب: (فمضيت) أي ذهبت إلى منزلي ولم أرجع إلى رسول الله صلى الله عليه

ص: 270

حِينَ ذَكَرُوهُمَا لِي.

قَالَ: وَنَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْمُسْلِمِينَ عَنْ كَلَامِنَا، أَيُّهَا الثَّلَاثَةُ، مِنْ بَيْنِ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْهُ.

قَالَ: فَاجْتَنَبَنَا النَّاسُ. وَقَالَ: تَغَيَّرُوا لَنَا حَتَّى تَنَكَّرَتْ لِي فِي نَفْسِيَ الأَرْضُ. فَمَا هِيَ بِالأَرْضِ الَّتِي أَعْرِفُ

ــ

وسلم اعتذارًا إليه بالكذب كما قالوا لي (حين ذكروهما) أي حين ذكر أولئك الرجال (لي) الرجلين الصالحين اللذين لي بهما قدوة حسنة (قال) كعب: (ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا) والمحاورة معنا (أيها الثلاثة) بضم البناء الثابت له في حالة النداء في نحو قولهم يا أيها الثلاثة أقبلوا إلى لأنه نكرة مقصودة وهنا منصوب على الاختصاص بفعل محذوف وجوبًا تقديره أخص أيها الثلاثة (من بين من تخلف عنه) وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الأخير منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة الحكاية، الثلاثة تابع للفظ أي لأنه صفة له والجار والمجرور في قوله من بين متعلق بأخص المحذوف، قال سيبويه نقلًا عن العرب: اللهم اغفر لنا أيتها العصابة وهذا مثله والمعنى أخص هذه الثلاثة خصوصًا من بين من تخلف عنه، قال أبو سعيد السيرافي: إنه مفعول فعل محذوف أي أُريد الثلاثة أي أخص الثلاثة، وخالفه الجمهور وقالوا: أي منادى والثلاثة صفة له وإنما أوجبوا ذلك لأنه في الأصل كان كذلك فنُقل إلى الاختصاص، وكل ما نُقل من باب إلى باب فإعرابه بحسب أصله كأفعال التعجب اه قسطلاني. وليس هذا من الهجران الممنوع لكونه لسبب ديني منصوص كما تقدم تفصيله في البر والصلة باب تحريم الهجران فوق الثلاث.

(قال) كعب: (فاجتنبنا الناس) بفتح الموحدة أي ابتعدوا عن كلامنا ومحاورتنا (وقال) كعب: (تغيروا لنا) أي تغير الناس علينا كأنهم لا يعرفوننا وتغير جميع ما في الأرض علينا (حتى تنكَّرت لي) أي حتى تغيرت عليَّ (في نفسي الأرض فما هي) أي فما الأرض التي ولدنا فيها (بالأرض التي أعرف) لتوحشها عليّ وهذا يجده الحزين والمهموم في كل شيء حتى يجده في نفسه، وفي رواية معمر عند أحمد وتنكرت لي الحيطان حتى ما هي بالحيطان التي نعرف وتنكر لنا الناس حتى ما هم الذين نعرف، وزاد البخاري في التفسير (وما من شيء أهم إليّ من أن أموت فلا يصلي عليّ رسول الله

ص: 271

فَلَبِثنَا عَلَى ذلِكَ خَمْسِينَ لَيْلَةً. فَأَمَّا صَاحِبَايَ فَاسْتَكَانَا وَقَعَدَا فِي بُيُوتِهِمَا يَبْكِيَانِ. وَأَمَّا أَنَا فَكُنْتُ أَشَبَّ الْقَوْمِ وَأَجْلَدَهُمْ. فَكُنْتُ أَخْرُجُ فَأَشْهَدُ الصَّلَاةَ وَأَطُوفُ فِي الأَسْوَاقِ وَلَا يُكَلِّمُنِي أَحَدٌ. وَآتِي رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأُسَلِّمُ عَلَيْهِ، وَهُوَ فِي مَجْلِسِهِ بَعْدَ الصَّلَاةِ. فَأَقُولُ فِي نَفْسِي: هَل حَرَّكَ شَفَتَيهِ بِرَدِّ السَّلَامِ، أَمْ لَا؟ ثُمَّ أُصَلِّي قَرِيبًا مِنْهُ وَأُسَارِقُهُ النَّظَرَ. فَإِذَا أَقْبَلْتُ عَلَى صلَاتِي

ــ

صلى الله عليه وسلم أو يموت فأكون من الناس بتلك المنزلة فلا يكلمني أحد منهم ولا يصلي عليَّ).

قال السهيلي: وإنما اشتد الغضب على من تخلف وإن كان الجهاد فرض كفاية لكنه في حق الأنصار خاصة فرض عين لأنهم كانوا بايعوا على ذلك ومصداق ذلك قولهم وهم يحفرون الخندق:

نحن الذين بايعوا محمدًا

على الجهاد ما بقينا أبدًا

فكان تخلفهم عن هذه الغزوة كبيرة لأنه كالنكث لبيعتهم اه. وعند الشافعية وجه أن الجهاد كان فرض عين في زمنه صلى الله عليه وسلم اه من القسطلاني.

قال كعب: (فلبثنا) أي مكثنا معاشر الثلاثة (على ذلك) الهجران (خمسين ليلة) استنبط منه جواز الهجران أكثر من ثلاث، وأما النهي عن الهجر فوق ثلاث فمحمول على من لم يكن هجرانه شرعيًا (فأما صاحباي) مرارة وهلال (فاستكانا) أي خضعا ولزما الاستكانة في البيوت وصبرا عليه (وقعدا في بيوتهما) حالة كونهما (يبكيان) ليلًا ونهارًا (وأما أنا فكنت أشب القوم) الثلاثة أي أصغرهم سنًا (وأجلدهم) أي أجلد القوم الثلاثة وأقواهم قلبًا (فكنت أخرج) من بيتي (فاشهد) أي أحضر (الصلاة) أي جماعتها في المسجد (وأطوف) أي أتجول وأدور (في الأسواق) في المدينة (و) الحال أنه (لا يكلمني أحد) من المسلمين (وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم أي أحضره (فأسلم عليه وهو) صلى الله عليه وسلم (في مجلسه بعد الصلاة فأقول في نفسي) أي في قلبي (هل حرَّك شفتيه برد السلام) عليَّ (أم لا) يحركهما وإنما لم يجزم بتحريك شفتيه صلى الله عليه وسلم برد السلام عليه لأنه لم يكن يديم نظره إليه من الخجل (ثم أصلي) النوافل (قريبًا منه) أي في مكان قريب إليه أو حالة كوني قريبًا منه (وأسارقه النظر) بالسين المهملة والقاف أي انظر إليه خفية (فإذا أقبلت) أنا (على صلاتي) أي على الاستقبال فيها ولم

ص: 272

نَظَرَ إِلَيَّ. وَإِذَا الْتَفَتُّ نَحْوَهُ أَعْرَضَ عَنِّي. حَتَّى إِذَا طَالَ ذلِكَ عَلَيَّ مِنْ جَفْوَةِ الْمُسْلِمِينَ، مَشَيْتُ حَتَّى تَسَوَّرْتُ جِدَارَ حَائِطِ أَبِي قَتَادَةَ، وَهُوَ ابْنُ عَمِّي، وَأَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ. فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ. فَوَاللهِ مَا رَدَّ عَلَى السَّلَامَ. فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَا قَتَادَةَ، أَنْشُدُكَ بِاللهِ، هَل تَعْلَمَنَّ أَنِّي أُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ؟ قَالَ: فَسَكَتَ. فَعُدْتُ فَنَاشَدْتُهُ، فَسَكَتَ. فَعُدْتُ فَنَاشَدْتُهُ. فَقَالَ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ

ــ

ألتفت يمنة ولا يسرة (نظر إليّ) رسول الله صلى الله عليه وسلم (وإذا التفتُ) أنا (نحوه) أي جهته (أعرض عني) بوجهه (حتى إذا طال ذلك) الهجران (عليَّ) حالة كون ذلك الهجران (من جفوة المسلمين) بفتح الجيم وسكون الفاء أي من إعراضهم عني في الكلام (مشيت) من بيتي (حتى تسوَّرت) وصعدت وعلوت أعلى (جدار حائط أبي قتادة) الأنصاري الحارث بن ربعي رضي الله عنه أي جدار بستانه أي أعلى سور بستانه، وفيه دليل على جواز دخول الإنسان بستان صديقه وقريبه الذي يدل عليه وينبسط إليه ويعرف أنه لا يكره له ذلك بغير إذنه بشرط أن يعلم أنه ليس له هناك زوجة مكشوفة ونحو ذلك اه نووي. أي علوت سور بستانه ولعل ذلك من بشاشة العشرة فيما بينهما لكونه ابن عمه كما قال (وهو) أي أبو قتادة (ابن عمي) لأنه من بني سلمة وليس هو ابن عمه أخي أبيه الأقرب (وأحب الناس إليّ) أي عندي (فسلمت عليه فوالله ما رد عليّ السلام) لعموم النهي عن كلام الثلاثة (فقلت له) أي لأبي قتادة:(يا أبا قتادة أنشدك) بفتح الهمزة وضم الشين المعجمة من باب نصر، وأصله من النشيد وهو الصوت، قال في المصباح: نشدتك الله، وبالله أنشدك؛ ذكرتك به واستعطفتك أو سألتك به مقسمًا عليك اه أي أسألك (بالله هل تعلمنَّ) أنت يا أبا قتادة (أني أحب الله ورسوله؟ قال) كعب (فسكت) عني أبو قتادة فلم يرد على جوابًا (فعدت) أي رجعت إلى تكليمه (فناشدته) أي سألته بالله (فسكت فعدت فناشدته فقال) لي أبو قتادة:(الله ورسوله أعلم) ذلك أي محبتك إياهما وليس ذلك تكليمًا لكعب لأنه لم ينو به ذلك لأنه منهي عنه بل أظهر اعتقاده فلو حلف لا يكلم زيدًا فسأله عن شيء فقال: الله أعلم ولم يرد جوابه ولا إسماعه لا يحنث، قال القرطبي: ظاهر هذا الكلام أنه أجابه عند إلحاحه عليه بالسؤال فيكون قد كلمه مخالفًا للنهي، وقد يؤول بأن أبا قتادة قال ذلك لنفسه مخبرًا عن اعتقاده ولم يقصد كلامه ولا إسماعه. [قلت]: ويحتمل أن يقال إن أبا قتادة فهم أن الكلام الذي نُهي عنه إنما هو

ص: 273

فَفَاضَتْ عَيْنَايَ، وَتَوَلَّيْتُ، حَتَّى تَسَوَّرْتُ الْجِدَارَ.

فَبَيْنَا أَنَا أَمْشِي فِي سُوقِ الْمَدِينَةِ، إِذَا نَبَطِيُّ مِنْ نَبَطِ أَهْلِ الشَّامِ، مِمَّنْ قَدِمَ بِالطَّعَامٍ يَبِيعُهُ بِالْمَدِينَةِ. يَقُولُ: مَنْ يَدُلُّ عَلَى كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ. قَالَ: فَطَفِقَ النَّاسُ يُشِيرُون لَهُ إِلَيَّ. حَتَّى جَاءَنِي فَدَفَعَ إِلَيَّ كِتَابًا مِنْ مَلِكِ غَسَّانَ. وَكُنْتُ كَاتِبًا. فَقَرَأْتُهُ فَإِذَا فِيهِ: أَمَّا بَعْدُ. فَإِنَّهُ قَدْ بَلَغَنَا أَنَّ صَاحِبَكَ قَدْ جَفَاكَ. وَلَمْ يَجْعَلْكَ اللَّهُ بِدَارِ هَوَانٍ وَلَا مَضْيَعَةٍ

ــ

الحديث معه والمباسطة وإفادة المعاني فأما مثل هذا الكلام الذي يقتضي الإبعاد والمنافرة فلا، والله أعلم ألا ترى أنه لم يرد عليه السلام ولا التفت لحديثه اه من المفهم.

قال كعب: (فـ) لما قال أبو قتادة ذلك (فاضت) أي سألت (عيناي) دموعًا (وتوليت) عنه أي أدبرت عنه وذهبت من عنده (حتى تسورت) أي علوت (الجدار) أي جدار سور البستان للخروج منه (قال) كعب كما في رواية البخاري (فبينا أنا أمشي في سوق المدينة) أي فبينما أوقات مشيي في سوق المدينة، وإذا في قوله (إذا نبطييٌّ) أي فلاح وحراث (من نبط) وفلاح (أهل الشام ممن قدم بالطعام) من الشام لـ (يبيعه بالمدينة يقول) ذلك النبطي، فجائية رابطة لجواب بينا أي فاجاني قول نبطي من أنباط الشام (من يدلـ) ـني (على كعب بن مالك) والنبطي بفتح النون والموحدة وكسر الطاء المهملة واحد الأنباط وهم فلاحو العجم وحراثهم للأرض، وكان نصرانيًا، ولم أر من ذكر اسمه وهو مشتق من استنباط الماء واستخراجه من الأرض وهؤلاء كانوا في ذلك الوقت أهل الفلاحة، وفي رواية معمر عند أحمد (إذا نصراني جاء بطعام له يبيعه) (قال) كعب:(فطفق) أي شرع (الناس يشيرون له) أي لذلك النبطي (إليّ) يعني ولا يتكلمون بقولهم مثلًا هذا كعب مبالغة في هجره والإعراض عنه (حتى جاءني) ذلك النبطي إليَّ (فدفع إليّ كتابًا من ملك غسان) بفتح الغين المعجمة وتشديد السين المهملة اسمه جبلة بن الأيهم، وقيل الحارث بن أبي شمر، وكان ملكًا لنصارى العرب له عهد وصداقة مع نصارى الروم، وعند ابن مردويه (فكتب إليَّ كتابًا في سرقة حرير) قال كعب:(وكنت كاتبًا) أي عارفًا لقراءة الكتابة (فقرأته) أي فقرأت ذلك الكتاب (فإذا فيه) أي في ذلك الكتاب (أما بعد) ما ذُكر (فإنه) أي فإن الشأن والحال (قد بلننا) ووصلنا (أن صاحبك) الذي آمنت به (قد جفاك) وأهانك وطردك (ولم يجعلك الله بدار هوان) وذل (ولا مضيعة) بفتح الميم

ص: 274

فَالْحَقْ بِنَا نُوَاسِكَ، قَالَ: فَقُلْتُ، حِينَ قَرَأْتُهَا: وَهَذهِ أَيضًا مِنَ الْبَلَاءِ. فَتَيَامَمْتُ بِهَا التَّنورَ فَسَجَرْتُهَا بِهَا. حَتَّى إِذَا مَضَتْ أَرْبَعُونَ مِنَ الْخَمْسِينَ، وَاسْتَلْبَثَ الْوَحْيُ،

ــ

وسكون الضاد وفتح الياء أو بكسر الضاد وسكون الياء اسم مكان من ضاع أي ولا بمكان يضيع فيه حقك ولا بدار يهان فيه قدرك (فالحق بنا) بفتح الحاء المهملة أي فات إلينا (نواسك) بضم النون وكسر السين المهملة من المواساة أي إن لحقت بنا نحسن إليك ببعض أموالنا ونشاركك فيها بالجزم في جواب الطلب، وفي بعض النسخ (نواسيك) بإثبات الياء على الاستئناف وهو صحيح أيضًا أي ونحن نواسيك ونعطيك من أموالنا (قال) كعب (فقلت) في نفسي (حين قرأتها) أي قرأت تلك الرسالة أو الصحيفة المكتوب فيها، وذكر المقول بقوله (وهذه) الصحيفة (أيضًا) أي كهجران المسلمين (من البلاء) أي من الاختبار، وفي رواية لابن أبي شيبة (فقلت: إنا لله، وقد طمع فيّ أهل الكفر) (فتياممت) هكذا هو في جمع النسخ التي ببلادنا وهي لغة من تيممت أي قصدت (بها) بتلك الصحيفة (التنور) بفتح الفوقية وتشديد النون المشددة المضمومة هو المكان الذي يُخبز فيه فرميتها فيه (فسجرتها) بالسين المهملة المفتوحة والجيم أي أوقدت نار التنور (بها) أي بتلك الصحيفة، وفي رواية البخاري (فسجرته) أي أوقدت التنور وألهبته بها والضمير المؤنث في بها للصحيفة أو الرسالة المفهومة من لفظ الكتاب وهذا يدل على قوة إيمانه وشدة محبته لله ورسوله على ما لا يخفى، وعند ابن عائذ أنه شكا حاله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ما زال إعراضك عنّي حتى رغب فيَّ أهل الشرك اه قسطلاني.

قال الحافظ في الفتح: دل صنيع كعب هذا على قوة إيمانه ومحبته لله ولرسوله وإلا فمن صار في مثل حاله من الهجر والإعراض قد يضعف عن احتمال ذلك وتحمله الرغبة في الجاه والمال على هجران من هجره ولا سيما مع أمنه من الملك الذي استدعاه إليه أنه لا يكرهه على فراق دينه لكن لما احتمل عنده أنه لا يأمن من الافتتان حسم المادة وأحرق الكتاب ومنع الجواب هذا مع كونه من الشعراء الذين طُبعت نفوسهم على الرغبة، ولا سيما بعد الاستدعاء والحث على الوصول إلى المقصود من الجاه والمال، ولا سيما والذي استدعاه قريبه ونسيبه ومع ذلك فغلب عليه دينه وقوي عنده يقينه ورجح ما هو فيه من النكد والتعذيب على ما دُعي إليه من الراحة والنعيم حبًا لله ولرسوله اه منه.

ومكثنا على ذلك الهجران (حتى إذا مضت أربعون من الخمسين واستلبث الوحي)

ص: 275

إِذَا رَسُولُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَأْتِينِي. فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُكَ أَنْ تَعْتَزِلَ امْرَأَتَكَ. قَالَ: فَقُلْتُ: أُطَلِّقُهَا أَمْ مَاذَا أَفْعَلُ؟ قَالَ: لَا. بَلِ اعْتَزِلْهَا. فَلَا تَقْرَبَنَّهَا. قَالَ: فَأَرْسَلَ إِلَى صَاحِبَيَّ بِمِثْلِ ذلِكَ. قَالَ: فَقُلْتُ لاِمْرَأَتِي: الْحَقِي بِأَهْلِكِ فَكُونِي عِنْدَهُمْ حَتَّى يَقْضيَ اللهُ فِي هَذَا الأَمْرِ

ــ

أي والحال أن الوحي قد استلبث وتأخر وأبطأ، أو معطوف على فعل الشرط لإذا، وإذا في قوله:(إذا رسولُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيني) أي أتاني، فجائية رابطة لجواب إذا الشرطية أي مكثنا على ذلك الهجران حتى فاجأني إتيان رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت مضى أربعين ليلة من الخمسين، قال الواقدي: هو خزيمة بن ثابت قال: وهو الرسول إلى مرارة وهلال بذلك، ولأبي ذر إذا رسولٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم (فقال) لي ذلك الرسول:(إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل) أي تبتعد وتفارق (امرأتك) في السكنى وهي عميرة بنت جبير بن صخر بن أمية الأنصارية أم أولاده الثلاثة عبد الله وعبيد الله ومعبد أو هي زوجته الأخرى خيرة بفتح الخاء المعجمة بعدها تحتية ساكنة التي كانت عنده يومئذٍ والله أعلم (قال) كعب (فقلت) لذلك الرسول هل (أطلقها أم ماذا أفعل؟ ) بها أي أي شيء أفعل بها كترك الاستمتاع بها أو المساكنة معها (قال) الرسول: (لا) يقول لك طلقها (بل) يقول لك (اعتزلها) بكسر الزاي مجزوم بالأمر أي بل يقول لك ابتعد عنها في الاستمتاع (فلا تقربنها) معطوف على اعتزلها أي ولا تجامعها (قال فأرسل) رسول الله صلى الله عليه وسلم (إلى صاحبيّ) بتشديد الياء على التثنية (بمثل ذلك) الذي أرسل به إليّ أي بمثل ما أرسل به إليّ من عدم قربان كل منهما إلى زوجته (قال) كعب (فقلت لامرأتي الحقي) بفتح الحاء لأنه أمر مؤنث من لحق الثلاثي من باب سمع (بأهلك) واذهبي إليهم واسكني معهم حتى يحكم الله فيَّ ما يشاء كما قال (فكوني عندهم حتى يقضي الله) تعالى (في هذا الأمر) والهجران الذي نزل بنا فلحقت بهم.

وهذا الحديث يدل على أن لفظ الحقي بأهلك ليس من ألفاظ الطلاق لا من صرائحه ولا من كناياته الظاهرة وغايته أن يكون مما يحتمل أن يراد به الطلاق فيقع به إذا نوى به الطلاق اه من المفهم.

[قلت]: وهذا من كنايته لأن الكناية كلى لفظ يحتمل الطلاق وغيره فيقع به الطلاق

ص: 276

قَالَ: فَجَاءَتِ امْرَأَةُ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم. فَقَالَتْ لَهُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ هِلَالَ بْنَ أُمَيَّةَ شَيْخٌ ضَائِعٌ لَيْسَ لَهُ خَادِمٌ. فَهَلْ تَكْرَهُ أَنْ أَخْدُمَهُ؟ قَالَ:"لا. وَلكِنْ لَا يَقْرَبَنَّكِ" فَقَالَتْ: إِنَّهُ، وَاللهِ، مَا بِهِ حَرَكَةٌ إِلَى شَيْءٍ. وَوَاللهِ مَا زَالَ يَبْكِي مُنْذُ كَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا كَانَ. إِلَى يَوْمِهِ هَذَا.

قَالَ: فَقَالَ لِي بَعْضُ أَهْلِي: لَوِ اسْتَأْذَنْتَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي امْرَأَتِكَ؟ فَقَدْ أَذِنَ لاِمْرَأَةِ

ــ

إذا نوى به كما هو مقرر في كتب الفروع (قال) كعب (فجاءت امرأة هلال بن أمية) خولة بنت عاصم (رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت له: يا رسول الله إن هلال بن أمية شيخ ضائع) أي ذو ضياع، والضياع الإهمال وترك المبالاة به حتى يضيع وفسرته بقولها أي (ليس له خادم فهل تكره أن أخدمه) من خدم من باب نصر (قال) رسول الله صلى الله عليه وسلم:(لا) أكره أن تخدميه (ولكن لا يقربنك) بالجماع بالنهي المؤكد بالنون الثقيلة، وفي رواية البخاري لا يقربك بالجزم على النهي بلا نون (فقالت) امرأته:(إنه) أي إن هلالًا (والله ما به حركة) بالاستمتاع (إلى شيء) من النساء (ووالله ما زال يبكي منذ) أي مدة (كان من أمره ما كان) من هجران المسلمين له أي من ابتداء مدة ما كان من أمره (إلى يومه هذا) الذي كان فيه الآن (قال) كعب (فقال لي بعض أهلي) بالإشارة لا بالكلام، قال في الفتح لم أقف على اسمه.

واستشكل هذا مع نهيه صلى الله عليه وسلم الناس عن كلام الثلاثة وأجيب أنه عبِّر عن الإشارة بالقول يعني فلم يقع الكلام اللساني وهو المنهي عنه قاله ابن الملقن، قال في المصابيح: وهذا بناء منه على الوقوف عند اللفظ وإطراح جانب المعنى وإلا فليس المقصود بعدم المكالمة عدم النطق باللسان فقط بل المراد هو وما كان بمثابته من الإشارة المفهمة لما يفهمه القول باللسان، وقد يُجاب بأن النهي كان خاصًا بمن عدا زوجة هلال ومن جرت عادته بخدمته إياه من أهله ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما حظر على زوجة هلال غشيانه إياها وقد أذن لها في خدمته ومعلوم أنه لا بد في ذلك من مخالطة وكلام فلم يكن النهي شاملًا لكل أحد وإنما هو شامل لمن لا تدعو حاجة هؤلاء إلى مخالطته وكلامه من زوجة وخادم ونحو ذلك فلعل الذي قال لكعب من أهله (لو استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأتك) لتخدمك (فقد أذن لامرأة

ص: 277

هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ أَنْ تَخْدُمَهُ. قَالَ: فَقُلْتُ: لَا أَسْتَأْذِنُ فِيهَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم. وَمَا يُدْرِينِي مَاذَا يَقُولُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، إِذَا اسْتَأَذَنْتُهُ فِيهَا، وَأَنَا رَجُلٌ شَابٌّ. قَالَ: فَلَبِثْتُ بِذَلِكَ عَشْرَ لَيَالٍ. فَكَمُلَ لَنَا خَمْسُونَ لَيْلَةً مِنْ حِينَ نُهِيَ عَنْ كَلَامِنَا. قَالَ: ثُمَّ صَلَّيْتُ صَلاةَ الْفَجْرِ صَبَاحَ خَمْسِينَ لَيْلَةً، عَلَى ظَهْرِ بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِنَا. فَبَيْنَا أَنَا جَالِسٌ عَلَى الْحَالِ الَّ! تِي ذَكَرَ اللهُ عز وجل مِنَّا. قَدْ ضَاقَتْ عَلَيَّ نَفْسِي وَضَاقَتْ عَلَيَّ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ،

ــ

هلال بن أمية أن تخدمه) كان ممن لم يشمله النهي، وعبارة العيني هنا: قوله: (فقال لي بعض أهلي) استشكل هذا مع نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن كلام الثلاثة وأجيب بأنه يحتمل أن يكون عبَّر عن الإشارة بالقول، وقيل لعله من النساء لأن النهي لم يقع عن كلام النساء اللاتي في بيوتهم، وقيل كان الذي كلمه منافقًا، وقيل كان ممن يخدمه فلم يدخل في النهي اه منه. قال كعب (فقلت) لذلك القائل:(لا أستأذن فيها) أي في خدمة امرأتي (رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يدريني) أي وما يعلمني (ماذا يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لي (إذا استأذنته فيها) أي في خدمتها لي أي هل يكلمني كلام رضا وقبول أو كلام غضب وردٍّ لاستئذاني (وأنا) أي والحال أني (رجل شاب) قوي على خدمة نفسي قادر عليها أو خائف على نفسي من أن أُصيب امرأتي (قال) كعب (فلبثت بذلك) أي مكثت على ذلك الاعتزال لامرأتي وهجران الناس لي (عشر ليال فكمل) بتثليث حركة الميم (لنا) معاشر الثلاثة (خمسون ليلة من حين نُهي) المسلمون (عن كلامنا) وفي رواية البخاري (من حين نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا)(قال) كعب: (ثم) بعدما كمل لنا خمسون ليلة (صليت صلاة الفجر صباح خمسين ليلة على ظهر بيت) أي على سطح بيت (من بيوتنا) أي من بيوت أقاربنا (فبينا أنا جالس على الحال التي) قد (ذكر الله عز وجل وأخبرها (منا) معاشر الثلاثة في كتابه العزيز من أنه (قد ضاقت عليّ) وعلى صاحبيَّ (نفسي) وأنفسهما (وضاقت عليّ) وعليهما (الأرض بما رحبت) أي مع رحبها وسعتها حقيقة، وما مصدرية، والرحب بضم الراء وسكون الحاء السعة، قوله:(ضاقت عليَّ نفسي) أي قلبي لا يسعه أنس ولا سرور من فرط الوحشة والغم (وضاقت عليَّ الأرض بما رحبت) أي مع سعتها وهو مثل للحيرة في أمره كأنه لم يجد فيها مكانًا يفر فيه قلقًا وجزعًا، وإذا كان هؤلاء لم يأكلوا مالًا حرامًا ولا سفكوا

ص: 278

سَمِعْتُ صَوْتَ صَارخٍ أَوْفَى عَلَى سَلْعٍ يَقُولُ، بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ، أَبْشِرْ. قَالَ: فَخَرَرْتُ سَاجِدًا. وَعَرَفْتُ أَنْ قَدْ جَاءَ فَرَجٌ.

قَالَ: فَآذَنَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم النَّاسَ بِتَوْبَةِ اللهِ عَلَيْنَا، حِينَ صَلَّى صَلاةَ الْفَجْرِ. فَذَهَبَ النَّاسُ

ــ

دمًا حرامًا ولا أفسدوا في الأرض وأصابهم ما أصابهم فكيف بمن واقع الفواحش والكبائر اه من القسطلاني، وأما الحالة التي ذكرها الله عز وجل فيهم هي ما ذكره في كتابه العزيز بقوله:{وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ} .

وذكر جواب بينا بقوله أي بينا أنا جالس على الحالة التي ذكر الله عز وجل في كتابه: (سمعت صوت صارخ) أي مناد يرفع صوته (أوفى) بالفاء مقصورًا أي طلع وصعد وارتفع وأشرف (على) جبل (سلع) بفتح السين وسكون اللام جبل معروف بالمدينة، وزاد ابن مردويه (وكنت ابتنيت خيمة على ظهر سلع فكنت أكون فيها) صرخ و (يقول باعلى صوته) أي بأرفع صوته (يا كعب بن مالك أبشر) بهمزة قطع، وعند الواقدي: وكان الذي أوفى على سلع أبا بكر الصديق فصاح بقوله: (قد تاب الله على كعب)(قال) كعب: (ف) لما سمعت صوت صارخ (خررت) أي سقت على الأرض حالة كوني (ساجدًا) سجود شكر لله تعالى على قبول هذه التوبة، وفيه مشروعية سجدة الشكر وكرهها أبو حنيفة ومالك اه عيني، قال القرطبي: وظاهر هذا الحديث أنها كانت معلومة عندهم معمولًا بها فيما بينهم، وقال بها الشافعي ومالك في أحد قوليه ومشهور مذهبه الكراهة (وعرفت) بسماع صوته (أن قد جاء فرج) أي مجيء فرج لنا من الله تعالى وكشف كربة عنا (قال) كعب:(فآذن) بالمد من الرباعي أي أعلم وأعلن (رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس) الحاضرين عنده وقتئذٍ (بتوبة الله) سبحانه وتعالى (علينا) معاشر الثلاثة (حين صلى صلاة الفجر) أي فرغ منها، ووقع في رواية إسحاق بن راشد ومعمر عند أحمد: فأنزل الله توبتنا على نبيه حين بقي الثلث الأخير من الليل ورسول الله صلى الله عليه وسلم عند أم سلمة وكانت أم سلمة محسنة في شأني معتنية بأمري فقال: "يا أم سلمة تيب على كعب" قالت: أفلا أرسل إليه فأبشره، قال:"إذًا يحطمَكم الناس فيمنعوكم النوم سائر الليلة" حتى إذا صلى الفجر آذن بتوبة الله علينا (فذهب الناس) من عند رسول الله صلى الله عليه

ص: 279

يُبَشِّرُونَنَا. فَذَهَبَ قِبَلَ صَاحِبَيَّ مُبَشِّرُونَ. وَرَكَضَ رَجُلٌ إِلَيَّ فَرَسًا. وَسَعَى سَاعٍ مِنْ أَسْلَمَ قِبَلِي. وَأَوْفَى الْجَبَلَ. فَكَانَ الصَّوْتُ أَسْرَعَ مِنَ الْفَرَسِ. فَلَمَّا جَاءَنِي الَّذِي سَمِعْتُ صَوْتَهُ يُبَشِّرُنِي. فَنَزَعْتُ لَهُ ثَوْبَيَّ فَكَسَوْتُهُمَا إِيَّاهُ بِبِشَارَتِهِ. وَاللهِ، مَا أَمْلِكُ غَيْرَهُمَا يَوْمَئِذٍ

ــ

وسلم إلى بيوتنا، حالة كونهم (يبشروننا) أيها الثلاثة بتوبة الله علينا (فذهب قبل) بكسر القاف وفتح الموحدة أي جهة (صاحبي) مرارة وهلال (مبشرون) يبشرونهما (وركض رجل إليّ) بتشديد الياء أي أجرى إجراءً شديدًا (فرسًا) له إلى جهة بيتي أي استحثه على العدو ليبشرني، وعند الواقدي هو الزبير بن العوام (وسعى) أي عدا برجله (ساع من أسلم قبلي) أي جهة بيتي (وأوفى الجبل) أي سعد جبل سلع وصاح إليّ بالبشارة وهو حمزة بن عمرو الأسلمي رواه الواقدي، وعند ابن عائذ أن اللذين سعيا أبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما لكنه صدره بقوله زعموا (فكان الصوت) أي صوت الذي أوفى (أسرع) أي أسبق إليّ (من) مجيء صاحب (الفرس) ووصوله إليّ فلما جاءني الرجل (الذي سمعت صوته) أولًا بنفسه وذاته، حالة كونه (يبشرني) بصراخه وهو حمزة بن عمرو الأسلمي، والفاء في قوله:(فنزعت) أي خلعت (له) أي لإكسائه وإعطائه (ثوبي) بتشديد الياء على التثنية أي إزاري وردائي زائدة في جواب لما كما هي ساقطة في رواية البخاري، وفي قوله:(فكسوتهما) عاطفة على نزعت أي فكسوت ثوبي (إياه) أي ذلك المبشر أولًا (ببشارته) أي في مقابلة بشارته إياي بتوبة الله تعالى، وعبارة البخاري هنا (فكسوته إياهما ببشراه) فهي الأفصح على القاعدة النحوية لتقديمها الآخذ على المأخوذ وهو الأفصح في باب كسا بخلاف عبارة مسلم، والباء في قوله:(ببشراه) باء المقابلة، والحال أني (والله ما أملك) من الثياب (غيرهما) أي غير الثوبين اللذين كسوته إياهما (يومئذٍ) أي يوم إذ كسوته إياهما، وقد كان له مال غيرهما كما سيصرح به فيما يأتي اه قسطلاني، نعم له مال غيرهما من نوع العقار والأراضي ومثلها لا يعطى ولا يليق للمبشر فلا يرد عليه شيء من الاعتراض والله أعلم اه دهني. وكسوته للبشير ثوبيه مع كونه ليس له غيرهما دليل على جواز مثل ذلك إذا ارتجى حصول ما يستبشر به وهو دليل على جواز إظهار الفرح بأمور الخير والدين وجواز البذل والهبات عندها، وقد نحر عمر لما حفظ سورة البقرة جزورًا اه مفهم.

ص: 280

وَاسْتَعَرْتُ ثَوْبَيْنِ فَلَبِسْتُهُمَا. فَانْطَلَقْتُ أَتَأَمَّمُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم. يَتَلَقَّانِي النَّاسُ فَوْجًا فَوْجًا، يُهَنِّئُونِي بِالتَّوْبَةِ وَيَقُولُونَ: لِتَهْنِئْكَ تَوْبَةُ اللهِ عَلَيْكَ. حَتَّى دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ، فَإِذَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ،

ــ

وحاصل ما في المقام أن رجلًا ركض إليّ فرسًا وآخر جعل يسعى على قدميه كل منهما يريد أن يبشرني، وذكر الواقدي أن الذي ركض فرسًا هو الزبير بن العوام والذي سعى على قدميه هو حمزة بن عمرو الأسلمي، قال الواقدي أيضًا: وكان الذي بشر هلال بن أمية بتوبته سعيد بن زيد، قال سعيد: فما ظننته يرفع رأسه حتى تخرج نفسه يعني لما كان فيه من الجهد فقد قيل إنه امتنع من الطعام حتى كان يواصل الأيام صائمًا ولا يفتر من البكاء، وكان الذي بشر مرارة بتوبته سلكان بن سلامة أو سلمة بن سلامة بن وقش.

(واستعرت ثوبين) إزارًا ورداءً من أبي قتادة كما ذكره الواقدي (فلبستهما وانطلقت) أي ذهبت من بيتي حالة كوني (أتأمم) أي أقصد، قال الطبري هي لغة في تميم اه سنوسي (رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيارته، حالة كوني (يتلقاني الناس) أي يستقبلوني في الطريق (فوجًا فوجًا) أي زمرة زمرة وجماعة بعد جماعة، حالة كونهم (يهنئوني) أي يبشروني (بالتوبة) من الله تعالى (ويقولون) عطف تفسير ليهنئوني (لتهنئك) بكسر اللام وفتح التاء وسكون الهاء وكسر النون، وزعم ابن التين والسفاقسي بأنه بفتحها، والمعروف الكسر وسكون الهمزة بالجزم بلام الدعاء أي لتبشرك (توبة الله عليك) وفي رواية البخاري (لتهنك) بكسر النون وحذف الهمزة، قال في القاموس: التهنيء على وزن التكميل التبريك والاستسعاد يقابله التعزية يقال: هنأه تهنئة وتهنيئًا ضد عزاه اه وفي المصباح هنؤ الشيء بالضم مع الهمزة هناءة بالفتح والمد تيسر من غير مشقة ولا عناء فهو هنيء، ويجوز الإبدال والإدغام وهنأني الولد يهنؤني مهموزًا من بابي نفع وضرب، وتقول العرب في الدعاء ليهنئك الولد بهمزة ساكنة وبإبدالها ياء اه دهني. وفي الحديث دليل على جواز التهنئة بأمور الخير بل على ندبها إذا كانت دينية فإنه إظهار السرور بما يسر به أخوه المسلم وإظهار المحبة وتصفية القلب بالمودة اه مفهم. أي فما زال الناس يتلقوني ويهنئوني (حتى دخلت المسجد) النبوي (فإذا) فجائية والفاء عاطفة (رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد) أي ففاجأني جلوس رسول الله صلى

ص: 281

وَحَوْلَهُ النَّاسُ. فَقَامَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ يُهَرْوِلُ حَتَّى صَافَحَنِي وَهَنَّأَنِي. وَاللهِ، مَا قَامَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ غَيْرُهُ.

قَالَ: فَكَانَ كَعْبٌ لَا يَنْسَاهَا لِطَلْحَةَ.

قَالَ كَعْبٌ: فَلَمَّا سَلَّمْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ، وَهُوَ يَبْرُقُ وَجْهُهُ مِنَ السُّرُورِ وَيَقُولُ:"أَبْشِرْ بِخَيرِ يَوْمٍ مَرَّ عَلَيكَ مُنْذُ وَلَدَتْكَ أُمُّكَ"

ــ

الله عليه وسلم في المسجد (وحوله) أي والحال أن حوله صلى الله عليه وسلم (الناس) جالسين (فقام) إليَّ بتشديد الياء كما في البخاري (طلحة بن عبيد الله) مصغرًا أحد العشرة المبشرين بالجنة حالة كونه (يهرول) أي يسير سيرًا بين المشي والعدو (حتى صافحني) بيده يدي (وهنأني) أي بشرني بالتوبة من الله تعالى، وفيه دليل لمن قال بجواز القيام للداخل والمصافحة، وفيه خلاف بيّناه في الجهاد اه مفهم، قال كعب:(والله ما قام) إليّ كما في البخاري (رجل من المهاجرين غيره) أي غير طلحة قالوا سبب ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان آخى بين كعب وطلحة، والذي ذكره أهل المغازي أن كعبًا كان أخا الزبير لكن كان الزبير أخا طلحة في أخوة المهاجرين فكعب أخو أخيه كذا في الفتح (قال) عبد الله بن كعب:(فكان) والدي (كعب لا ينساها لطلحة) أي لا ينسى كعب تلك الخصلة وهو بشارته إياه بالتوبة أي لا يزال يذكر إحسانه إليه بتلك وكان رهين مسرته، وفي القرطبي: أي لا ينسى تلك القومة والبشاشة التي صدرت له منه، ومعناه أن تلك الفعلة أكدت في قلبه محبته وألزمته حرمته حتى عدّها من الأيدي الجسيمة والمنن العظيمة، وفي رواية البخاري (ولا أنساها لطلحة) (قال كعب: فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال) رسول الله صلى الله عليه وسلم كما هو مصرح في رواية البخاري وهو جواب لما (وهو) أي والحال أنه صلى الله عليه وسلم (يبرق وجهه) ويلمع ويستنير (من السرور) بتوبة الله تعالى علينا، والجملة الاسمية حال من فاعل قال الذي هو جواب لما، وقوله:(ويقول) تحريف من النساخ وزيادة منهم كما هو ساقط من رواية البخاري، وقوله:(أبشر) يا كعب (بخير يوم) أي بأفضل يوم (مر عليك منذ ولدتك أمك) أي من وقت ولادة أمك إياك، مقول لقال الذي هو جواب لما، ولفظ البخاري هنا (قال كعب: فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبرق وجهه من السرور: "أبشر بخير يوم مر عليك مذ ولدتك أمك")

ص: 282

قَالَ: فَقُلْتُ: أَمِنْ عِنْدِكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ أَمْ مِنْ عِنْدِ اللهِ؟ فَقَالَ: "لَا. بَلْ مِنْ عِنْدِ اللهِ" وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا سُرَّ اسْتَنَارَ وَجْهُهُ، كَأَنَّ وَجْهَهُ قِطْعَةُ قَمَرٍ. قَالَ: وَكُنَّا نَعْرِفُ ذلِكَ.

قَالَ: فَلَمَّا جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي صَدَقَةً إِلَى اللهِ وَإِلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم

ــ

وقوله: (بخير يوم) .. إلخ، قال النووي: معناه سوى يوم إسلامه وإنما لم يستثنه لأنه معلوم لا بد منه، وعبارة القسطلاني أي سوى يوم إسلامه وهو مستثنى تقديرًا وإن لم يُنطق به أو إن يوم توبته مكمل ليوم إسلامه فيوم إسلامه بداية سعادته ويوم توبته مكمل لها فهو خير من جميع أيامه وإن كان يوم إسلامه خيرها فيوم توبته المضاف إلى إسلامه خير من يوم إسلامه المجرد عنها اه منه (قال) كعب (فقلت) له صلى الله عليه وسلم:(أ) هذه البشارة (من عندك يا رسول الله أم) هي (من عند الله؟ ) تعالى (فقال) رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا) أي ليست من عندي (بل) هي (من عند الله) تعالى زاد ابن أبي شيبة "أنتم صدقتم الله فصدقكم"(وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سُرَّ) على صيغة المجهول أي إذا حصل له السرور (استنار وجهه) أي تنوَّر وجهه (كأن وجهه قطعة قمر، قال) كعب: (وكنا) معاشر الصحابة (نعرف ذلك) أي كون استنارة وجهه علامة على سروره فيما بيننا، قيل: وإنما قال كأنه قطعة قمر ولم يقل كأنه قمر احترازًا من السواد الذي في القمر أو إشارة إلى موضع الاستنارة وهو الجبين الذي يظهر فيه السرور، وقالت عائشة: إذا كان مسرورًا تبرق أسارير وجهه فكأن التشبيه وقع على بعض الوجه فناسب أن يُشبّه ببعض القمر اه من القسطلاني (قال) كعب: (فلما جلست بين يديه) صلى الله عليه وسلم (قلت: يا رسول الله إن من) علامات صدق (توبتي) أو من تمام توبتي أو من شكر توبتي (أن أنخلع) وأخرج (من) جميع (مالي) وأتصدق به حالة كونه (صدقة) مصروفة (إلى الله) تعالى (وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم أي خالصة لوجه الله ورضاه ومصروفة إلى رسوله صلى الله عليه وسلم ليقسمها بين مستحقيها. وقوله: (صدقة) قال الزركشي وتبعه البرماوي وابن حجر وغيرهما: هي مصدر فيجوز انتصابه بأنخلع لأن معنى أنخلع أتصدق، ويجوز أن يكون مصدرًا في موضع الحال أي متصدقًا، وتعقبه في المصابيح فقال: لا نُسلّم أن الصدقة مصدر وهي اسم لما يُتصدّق به، ومنه قوله تعالى:

ص: 283

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَمْسِكْ بَعْضَ مَالِكَ. فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ" قَالَ: فَقُلْتُ: فَإِنِّي أُمْسِكُ سَهْمِيَ الَّذِي بِخَيْبَرَ. قَالَ: وَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ اللهَ إِنَّمَا أَنْجَانِي بِالصِّدْقِ. وَإِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ لَا أُحَدِّثَ إِلَاّ صدْقًا مَا بَقِيتُ. قَالَ: فَوَاللَّهِ، مَا عَلِمْتُ أَنَّ أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَبْلَاهُ اللهُ

ــ

{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} وفي الصحاح الصدقة ما تُصدِّق به على الفقراء فعلى هذا يكون نصبها على الحال من مالي كما قررناه في حلنا، وقوله:(إلى الله وإلى رسوله) أي صدقة خالصة لله ولرسوله فإلى بمعنى اللام، قال القرطبي: قوله: (أن أنخلع من مالي) أي إن عليّ ذلك فهي صيغة نذر والتزام خرج مخرج الشكر وابتغاء الثواب أقرَّ عليه النبي صلى الله عليه وسلم فكان ذلك جائزًا، ولم يدخل في عموم النذر المنهي عنه بقوله:"لا تنذروا" رواه أحمد والبخاري ومسلم وقد بينا ذلك فيما تقدم، وعلى مقتضى هذا اللفظ فقد وجب عليه إخراج كل ماله لكن لما كان ذلك يؤدي إلى أن يبقى فقيرًا محتاجًا وربما يُفضي به ذلك إلى سؤال الناس وإلى الدخول في مفاسد اكتفى الشرع منه ببعضه فقال:"أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك" وهذا البعض الذي أمره بإمساكه هو الأكثر، والمتصدَّق به هو الأقل، كما قال في حديث سعد "الثلث والثلثُ كثير" متفق عليه اه من المفهم، قال النووي: وفي الحديث استحباب الصدقة شكرًا للنعم المتجددة لا سيما ما عظم منها وإنما أمره صلى الله عليه وسلم بالاقتصار على الصدقة ببعضه خوفًا من تضرره بالفقر وأن لا يصبر على الإضافة ولا يخالف هذا صدقة أبي بكر الصديق رضي الله عنه بجميع ماله لأنه كان صابرًا راضيًا (فإن قيل) كيف قال أن أنخلع من مالي فأثبت له مالًا مع قوله أولًا (نزعت ثوبيَّ والله ما أملك غيرهما) فالجواب أن المراد بقوله أن أنخلع من مالي الأرض والعقار ولهذا قال فإني أمسك سهمي الذي بخيبر، وأما قوله ما أملك غيرهما فالمراد به من الثياب ونحوهما مما يخلع ويليق بالبشير اه منه (فقال) له (رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمسك بعض مالك فهو خير لك) خوفًا من تضرره بالفقر وعدم صبره على الإضافة (قال) كعب: (فقلت) له صلى الله عليه وسلم: (فإني أمسك سهمي الذي بخيبر قال) كعب: (وقلت يا رسول الله إن الله) عز وجل (إنما أنجاني) من غضبه (بالصدق) في إخباري لك بعدم العذر لي في تخلفي عنك في غزوة تبوك (وإن من) قبول (توبتي) أيضًا (أن لا أحدث إلَّا) كلامًا (صدقًا ما بقيت) بكسر القاف في الدنيا (قال) كعب: (فوالله ما علمت أن أحدًا من المسلمين أبلاه الله) تعالى

ص: 284

فِي صِدْقِ الْحَدِيثِ، مُنْذُ ذَكَرْتُ ذلِكَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى يَوْمِي هَذَا، أَحْسَنَ مِمَّا أَبْلَانِي اللَّهُ بِهِ. وَاللهِ، مَا تَعَمَّدْتُ كَذْبَةً مُنْذُ قُلْتُ ذلِكَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، إِلَى يَوْمِي هَذَا. وَإِنِّي لأَرْجُو أَنْ يَحْفَظَنِيَ اللهُ فِيمَا بَقِيَ.

قَالَ: فَأَنْزَلَ اللهُ عز وجل: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ

ــ

أي أنعمه الله تعالى (في صدق الحديث) أي بصدق الحديث، وفي بمعنى الباء أي بإخبار الكلام الصادق والأمر الواقع (منذ ذكرت) وأخبرت (ذلك) الأمر الواقع مني من تخلفي عن الغزو بلا عذر (لرسول الله صلى الله عليه وسلم أي من مدة ذكري ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم (إلى يومي هذا) الذي كنت الآن فيه، وقوله:(أحسن مما أبلاني) وأنعمني (الله به) صفة لمصدر محذوف والمعنى ما علمت أحدًا من المسلمين أبلاه الله بصدق الحديث إبلاء أحسن مما أبلاني به من وقت ذكري ذلك الأمر الواقع مني لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا، وفيه نفي الأفضلية لا نفي المساواة لأنه شاركه في ذلك مرارة وهلال اه قسطلاني، قال القاضي: يقال أبلاه الله إذا أنعم عليه ومنه {وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} أي نعمة، والبلاء يُطلق على الخير والشر وأصله الاختبار وأكثر ما ياتي مطلقًا في الشر فإذا كان في الخير جاء مقيدًا كما قال تعالى:{بَلَاءً حَسَنًا} اه، قال النووي: كما قيده هنا فقال أحسن مما أبلاني به اه (والله ما تعمدت) وقصدت (كذبة) بفتح الكاف وكسرها مع سكون الذال فيهما أي مرة من الكذب (منذ قلت) وأخبرت (ذلك) الأمر الواقع من تخلفي بلا عذر (لرسول الله صلى الله عليه وسلم أي من وقت إخباري ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم (إلى يومي هذا) أي إلى وقتي هذا الذي أنا فيه (وإني لأرجو) وأطمع من فضل الله وكرمه (أن يحفظني الله) تعالى (فيما بقي) من عمري من الكذب (قال) كعب: (فأنزل الله عز وجل في قبول توبتنا في الكتاب العزيز (لقد تاب الله على النبي) صلى الله عليه وسلم أي تجاوز عنه إذنه للمنافقين في التخلف كما قال تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} (و) على (المهاجرين والأنصار) وفيه حث للمؤمنين على التوبة وأنه ما من مؤمن إلَّا وهو محتاج إلى التوبة والاستغفار حتى النبي صلى الله عليه وسلم والمهاجرين والأنصار. وقوله:

ص: 285

الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117) وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ} [التوبة: 117 - 118] حَتَّى بَلَغَ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)} [التوبة: 119].

قَالَ كَعْبٌ: وَاللَّهِ، مَا أَنْعَمَ اللهُ عَلَيَّ مِنْ نِعْمَةٍ قَطُّ، بَعْدَ إِذْ هَدَانِي اللهُ لِلإِسْلَامِ، أَعْظَمَ فِي نَفْسِي، مِنْ صِدْقِي رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم. أَنْ لَا أَكُونَ كَذَبْتُهُ فَأَهْلِكَ كَمَا هَلَكَ الَّذِينَ كَذَبُوا. إِنَّ

ــ

(الذين اتبعوه في ساعة العسرة) والشدة والضيق صفة لكل من المهاجرين والأنصار (من بعد ما كاد) وقرب أن (يزيغ) ويميل عن الحق (قلوب فريق منهم) لشدة الضيق وتأخر النصر (ثم) بعدما كاد قلوب فريق منهم أن تزيغ (تاب عليهم) أي ألهمهم أسباب التوبة وأعانهم عليها ليتوبوا (إنه) تعالى (بهم رؤوف رحيم و) لقد تاب الله (على الثلاثة) كعب وهلال ومرارة (الذين خُلِّفوا) أي أُخِّروا في قبول توبتهم عن سائر المنافقين الذين اعتذروا فقبل النبي صلى الله عليه وسلم عذرهم عملًا بظواهرهم (حتى إذا ضاقت) أي أُخِّروا إلى أن ضاقت (عليهم الأرض بما رحبت) أي مع رحبها وسعتها (وضاقت عليهم أنفسهم) بسبب هجران المسلمين عليهم أي فأنزل الله في توبتهم هذه الآيات (حتى بلغ) التنزيل قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} الآيات الثلاث/17 و 18 و 19 من التوبة (قال كعب: والله ما أنعم الله عليّ من نعمة قط) أي فيما مضى من عمري (بعد إذ هداني الله) ووفقني (للإسلام أعظم في نفسي) أي ما أنعم الله تعالى عليّ إنعامًا أعظم في نفسي (من صدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم أي من إخباري لرسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر الصادق الموافق لما في الواقع في تخلفي عنه. وقوله: (أن لا أكون كذبته) في تأويل مصدر مجرور على البدلية من صدقي. وقوله: (فأهلك) معطوف على أكون، ولا نافية والتقدير إنعامًا أعظم في نفسي من صدقي عدم كذبي فعدم هلاكي، قال النووي: قالوا لفظة لا زائدة ومعناه أن أكون كذبته فأهلك أي من كذبي فهلاكي نحو قوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ} اه عيني، والأول هو الصواب كما قررناه في حلنا فلا أصلية نافية لا زائدة أي فأهلك هلاكًا (كما هلك) المنافقون (الذين كذبوا) في اعتذارهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أي هلاكًا كهلاكهم فـ (أن

ص: 286

اللَّهَ قَالَ لِلَّذِينَ كَذَبُوا، حِينَ أَنْزَلَ الْوَحْيَ، شَرَّ مَا قَالَ لأَحَدٍ. وَقَالَ اللَّهُ:{سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (95) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (96)} [التوبة: 95 - 96].

قَالَ كَعْبٌ: كُنَّا خُلِّفْنَا، أَيُّهَا الثَّلَاثَةُ، عَنْ أَمْرِ أُولَئِكَ الَّذِينَ قَبِلَ مِنْهُمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ حَلَفُوا لَهُ. فَبَايَعَهُمْ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ. وَأَرْجَأَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَمْرَنَا حَتَّى قَضَى اللهُ فِيهِ. فَبِذلِكَ

ــ

الله) سبحانه وتعالى (قال للذين كذبوا) في اعتذارهم (حين أنزل الوحي) على رسوله صلى الله عليه وسلم (شر ما قال) أي أقبح ما قال (لأحد) من الكاذبين أي قال قولًا شر ما قال لأحد بالإضافة أي شر القول الكائن لأحد من الناس، والواو في قوله:(وقال الله سيحلفون بالله) بمعنى الفاء العاطفة على ما قال الأول كما في رواية البخاري أي فقال الله فيهم سيحلفون بالله (لكم إذا انقلبتم) أي رجعتم (إليهم) من الغزو (لتعرضوا عنهم) أي عن توبيخهم (فأعرضوا عنهم إنهم رجس) نجس الاعتقاد (ومأواهم) أي مقرهم ومنزلهم في الآخرة (جهنم) حالة كونها (جزاء) لهم (بما) أي على ما (كانوا يكسبونـ) ـه من النفاق، وقال سبحانه فيهم أيضًا (يحلفون لكم) على اعتذارهم بالكذب (لترضوا) أي لتقبلوا (عنهم) اعتذارهم الكاذب (فإن ترضوا) وتقبلوا (عنهم) اعتذارهم الكاذب (فإن الله لا يرضى) ولا يقبل (عن القوم الفاسقين) اعتذارهم الكاذب ([التوبة/ 95 و 96]) أي فإن رضاكم وحدكم لا ينفعهم إذا كان الله ساخطًا عليهم وكانوا عرضة لعاجل عقوبته وآجلها (قال كعب: كنا خُلّفنا) بالبناء للمجهول أي أُخّر أمر توبتنا أخص (أيها الثلاثة) يعني نفسه ومرارة وهلالًا وأي في محل النصب بعامل محذوف مبني على الضم لشبهها بالحرف شبهًا افتقاريًا، وكانت الحركة ضمة لشبهها بأسماء الغايات، وها حرف تنبيه زائد تعويضًا عما فات أي من الإضافة والثلاثة صفة له تابع للفظه أي أُخّر أمر توبتنا معاشر الثلاثة (عن أمر أولئك الذين قبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتذارهم (حين حلفوا) له على أن تخلفهم كان لعذر (فبايعهم) معطوف على قبل (واستغفر لهم وأرجأ) بالجيم والهمزة آخره أي أخّر (رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا) أيها الثلاثة (حتى قضى الله) سبحانه وحكم (فيه) أي في أمرنا بالتوبة (فبذلك) أي ففي ذلك أي في

ص: 287

قَالَ اللهُ عز وجل: {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} . وَلَيسَ الَّذِي ذَكَرَ اللهُ مِمَّا خُلِّفْنَا، تَخَلُّفَنَا عَنِ الْغَزْوِ. وَإِنَّمَا هُوَ تَخْلِيفُهُ إِيَّانَا، وَإِرْجَاؤُهُ أَمْرَنَا، عَمَّنْ حَلَفَ لَهُ وَاعْتَذَرَ إِلَيْهِ فَقَبِلَ مِنْهُ.

6844 -

(00)(00) (وَحَدَّثَنِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ. حَدَّثَنَا حُجَيْنُ بْنُ الْمُثَنَّى. حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، بِإِسْنَادِ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ. سَوَاءً

ــ

بيان أمرنا (قال الله عز وجل: و) لقد تاب الله (على الثلاثة الذين خُلِّفوا) أي أُخِّروا في أمر التوبة (وليس) الأمر (الذي ذكر الله) سبحانه في هذه الآية (مما خُلِّفنا) أي من تخليفنا بيان للموصول (تخلفنا) بالنصب خبر ليس (عن الغزو وإنما هو) أي التخلف الذي ذكره في هذه الآية (تخليفه) أي تأخيره (إيانا) في التوبة (وإرجاؤه) أي تأخيره (أمرنا) أي بيان أمرنا وحكمنا (عمن حلف له) صلى الله عليه وسلم (واعتذر إليه) صلى الله عليه وسلم (فقبل منه) رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتذاره والله سبحانه وتعالى أعلم.

وشارك المؤلف في رواية هذا الحديث أحمد [6/ 386]، والبخاري في عشرة أبواب منها في تفسير سورة براءة باب سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم [4673] وباب لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار [4676] وباب وعلى الثلاثة [4677]، وأبو داود في الطلاق [2202] وفي الجهاد باب إعطاء البشير [2773]، والترمذي في التفسير باب ومن سورة براءة [3101]، والنسائي في الطلاق باب الحقي بأهلك [3422].

ثم ذكر المؤلف رحمه الله تعالى المتابعة فيه فقال:

6844 -

(00)(00)(وحدثنيه محمد بن رافع) القشيري النيسابوري (حدثنا حُجين بن المثنى) اليمامي أبو عمرو البغدادي، ثقة، من (9) روى عنه في (8) أبواب (حدثنا الليث) بن سعد الفهمي المصري (عن عقيل) بن خالد المصري (عن ابن شهاب) وهذا السند من ثمانياته، غرضه بيان متابعة عقيل ليونس بن يزيد، وساق عقيل (بإسناد يونس) يعني عن عبد الرحمن عن عبد الله عن كعب (عن الزهري) مثله أي مثل حديث يونس، حالة كون حديثهما (سواء) أي متساويين في اللفظ والمعنى.

ص: 288

6845 -

(00)(00) (وحدّثني عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ. حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُسْلِمٍ، ابْنُ أَخِي الزُّهْرِيِّ عَنْ عَمِّهِ، مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِبم الزُّهْرِيِّ. أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ؛ أَنَّ عُبَيْدَ اللهِ بْنَ كَعْب بْنِ مَالِكٍ، وَكَانَ قَائِدَ كَعْبٍ حِينَ عَمِيَ، قَالَ: سَمِعْتُ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ يُحَدِّثُ حَدِيثَهُ، حِينَ تَخَلَّفَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَسَاقَ الْحَدِيثَ، وَزَادَ فِيهِ، عَلَى يُونُسَ: فَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَلَمَّا يُرِيدُ غَزْوَةَ إِلَاّ وَرَّى بِغَيْرِهَا،

ــ

ثم ذكر المؤلف رحمه الله تعالى المتابعة ثانيًا في حديث كعب بن مالك رضي الله عنه فقال:

6845 -

(00)(00)(وحدثني عبد بن حميد) الكسي، ثقة من (11)(حدثني يعقوب بن إبراهيم بن سعد) بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهري المدني، ثقة، من (9)(حدثنا محمد بن عبد الله بن مسلم) بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب المدني الزهري (ابن أخي الزهري) صدوق، من (6) روى عنه في (3) أبواب (عن عمه محمد ابن مسلم الزهري أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك أن عبيد الله بن كعب بن مالك وكان) عبيد الله (قائد كعب حين عمي قال) عبيد الله (سمعت كعب بن مالك يحدّث حديثه) وقصَّتَه (حين تخلَّف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك) رضي الله عنه. وهذا السند من سباعياته، غرضُه بيانُ متابعة محمد بن عبد الله بن مسلم ليونس بن يزيد. وقولُه (أنَّ عبيد الله بن كعب) قال النووي: كذا قال في هذه الرواية عبيد الله بضم العين مصغرًا، وكذا قاله في الرواية التي بعدها رواية معقل بن عبيد الله عن الزهري عن عبد الرحمن عن عبيد الله بن كعب مصغرًا وقال قبلهما في رواية يونس المذكورة أولَ الحديث عن الزهري عن عبد الله بن كعب مكبرًا، قال الدارقطني: الصوابُ روايةُ من قال عبد الله مكبرًا، ولم يذكر البخاري في الصحيح إلَّا روايةَ عبد الله مكبرًا مع تكراره الحديثَ اه منه (وساق) أي ذكَر محمدُ بن عبد الله بن مسلم (الحديثَ) المذكور في الروايةِ الأولى (و) لكن (زاد) محمدُ بن عبد الله بن مسلم (فيه) أي في الحديث (على يونس) لفظةَ (فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قَلَّمَا يُريد غزوة إلَّا وَرَّى) وسَتَر عنها (بِـ) ذِكْرِ (غيرها) بدلَها أَي أَوْهَم إرادَتَه غَيْرها، وأصلُه مِنْ ورَاءَ كأنه

ص: 289

حَتَّى كَانَتْ تِلْكَ الْغَزْوَةُ.

وَلَمْ يَذْكُرْ، فِي حَدِيثِ ابْنِ أَخِي الزُّهْرِيِّ، أَبَا خَيْثَمَةَ وَلُحُوقَهُ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

6846 -

(00)(00) وحدّثني سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَعْيَنَ. حَدَّثَنَا مَعْقِلٌ (وَهُوَ ابْنُ عُبَيْدِ اللهِ)، عَنِ الزُّهْرِيِّ. أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ عَمِّهِ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ كَعْبٍ. وَكَانَ قَائِدَ كَعْبٍ حِينَ أُصيبَ بَصَرُهُ. وَكَانَ أَعْلَمَ قَوْمِهِ وَأَوْعَاهُمْ لأَحَادِيثِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم. قَالَ:

ــ

جعل البيانَ وراءَ ظهرِه، قال الأبي: ينبغي للأمير أن يَفْعَل ذلك لِئلَاّ يَتْبَعه الجَواسيسُ فيقع التحرز إلَّا إذا كانت سفرة بعيدة فَيُعلِمهم لِيَأْخُذوا الأُهبةَ اه (حتى كانت) وحصَلَت (تلك الغزوة) يعني غزوةَ تبوك فلَمْ يُورِّ عنها بل صرَّح بها قاله النووي، والمرادُ هنا التوريةُ الفعليةُ لا اللفظيةُ فكان بِفِعْلِهِ يُوهم أعداءَه أنه يخرج لجهةٍ أخرى (ولم يذكر) يعقوب بن إبراهيم (في حديث) محمد (بن) عبد الله (أخي الزهري) قصةَ كُنْ (أبا خيثمة و) قصةَ (لحوقِه) أي لحوقِ أبي خيثمة (بالنبي صلى الله عليه وسلم في طريق تبوك بعد تخلفه عنهم أولًا في المدينة.

ثم ذكر المؤلف رحمه الله تعالى المتابعة ثالثًا في حديث كعب بن مالك رضي الله عنه فقال:

6846 -

(00)(00)(وحدثني سلمة بن شبيب) المسمعي النيسابوري ثم المكي، ثقة، من (11) روى عنه في (5) أبواب (حدثنا الحسن) بن محمد (بن أعين) نُسب إلى جده لشهرته به الأموي مولاهم مولى بني مروان الحراني، صدوق، من (9) روى عنه في (7) أبواب (حدثنا معقل وهو ابن عبيد الله) الجزري الحراني أبو عبد الله العبسي مولاهم، صدوق، من (8) روى عنه في (9) أبواب (عن الزهري أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك عن عمه عبيد الله بن كعب وكان) عبيد الله (قائد كعب) من بين بنيه (حين أصيب بصره) أي عمي بصر كعب (وكان) عبيد الله (أعلم قومه) بني سلمة بفتح السين واللام أي أعلمهم بالأحكام الشرعية وأفقههم (وأوعاهم) أي أوعى قومه وأحفظهم (لأحاديث) وقصص (أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال) عبيد الله:

ص: 290

سَمِعْتُ أَبِي، كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ، وَهُوَ أَحَدُ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ تِيبَ عَلَيْهِمْ، يُحَدِّثُ؛ أَنَّهُ لَمْ يَتَخَلَّفْ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا قَطُّ. غَيْرَ غَزْوَتَيْنِ. وَسَاقَ الْحَدِيثَ وَقَالَ فِيهِ: وَغَزَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِنَاسٍ كَثِيرٍ يَزِيدُونَ عَلَى عَشْرَةِ آلَافٍ. وَلَا يَجْمَعُهُمْ دِيوَانُ حَافِظٍ

ــ

(سمعت أبي) ووالدي (كعب بن مالك) رضي الله عنه. وهذا السند من سداسياته، غرضه بيان متابعة معقل بن عبيد الله ليونس بن يزيد (وهو) أي والدي كعب بن مالك (أحد الثلاثة الذين تيب عليهم) أي قبلت توبتهم عن ذنب التخلف عن غزوة تبوك أي سمعت والدي كعبًا وهو (يحدّث) أي والحال أنه يحدِّث (أنه) أي أن كعبًا (لم يتخلف عن) الخروج مع (رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها) رسول الله صلى الله عليه وسلم أي خرج فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم (قط) أي في زمن مضى من عمري (غير غزوتين) أي إلَّا في غزوتين غزوة بدر وغزوة تبوك (وساق) أي ذكر معقل بن عبيد الله (الحديث) السابق الذي ساقه يونس بن يزيد عن الزهري (و) لكن (قال) معقل (فيه) أي في روايته لفظة (وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم أي خرج في تلك الغزوة (بناس) أي مع ناس (كثير يزيدون على عشرة آلاف) جندي (و) بناس كثير (لا يجمعهم ديوان) أي دفتر شخص (حافظ) أي ماهر في معرفة الحساب، قال النووي: هكذا وقع هنا زيادة على عشرة آلاف ولم يبين قدرها، وقد قال أبو زرعة الرزاي: كانوا سبعين ألفًا، وقال ابن إسحاق: كانوا ثلاثين ألفًا وهذا أشهر، وجمع بينهما بعض الأئمة بأن أبا زرعة عبد التابع والمتبوع جميعًا، وابن إسحاق عدَّ المتبوع فقط فكان الكل سبعين نفرًا والله سبحانه وتعالى أعلم اه منه.

(فائدة): وقد دل حديث كعب بن مالك رضي الله عنه على فوائد كثيرة ذكرها النووي والحافظ في الفتح:

(1)

منها فضيلة أهل العقبة لأن كعبًا لم يفضّل عليها فضيلة حضور بدر.

(2)

ومنها جواز الحلف من غير استحلاف عند غير القاضي لقول كعب عنده صلى الله عليه وسلم والله ما كان لي عذر، والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك.

ص: 291

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

(3)

ومنها أنه ينبغي لأمير الجيش إذا أراد غزوة أن يورّي عنها بغيرها خوفًا من فتنة الأعداء.

(4)

ومنها جواز التأسف على ما فات من الخير وتمني فعله لقول كعب فيا ليتني فعلت.

(5)

ومنها ردُّ غيبة المسلم لقول معاذلمن ذكر كعبًا بالسوء بئس ما قلت.

(6)

ومنها فضيلة الصدق والثبات عليه وإن كان فيه مشقة فإن فيه عقبى خير.

(7)

ومنها استحباب صلاة القادم من سفر.

(8)

ومنها قعوده في المسجد ليسلم عليه الناس إذا كان مشهورًا بالفضل يقصده الناس للسلام عليه.

(9)

ومنها الحكم بظواهر أحوال الناس وتفويض سرائرهم إلى الله تعالى في قبول معاذيرهم.

(10)

ومنها جواز هجران من ارتكب معصية ومقاطعته زجرًا له وتنكيلًا لغيره.

(11)

ومنها استحباب البكاء على نفسه إذا صدرت منه معصية.

(12)

ومنها أن مسارقة النظر في الصلاة والالتفات فيها لا يبطلها.

(13)

ومنها جواز إحراق الورق الذي فيه ذكر الله لمصلحة لأن كعبًا أحرق رسالة الغساني وفيها لم يجعلك الله بدار هوان.

(14)

ومنها الورع والاحتياط بمجانبة ما يخاف منه الوقوع في منهي عنه لأن كعبًا لم يستأذن في خدمة امرأته له خشية الوقوع في محظور.

(15)

ومنها استحباب سجود الشكر عند حدوث ما يسر به.

(16)

ومنها استحباب تهنئة من رزقه الله خيرًا أو نعمة.

(17)

ومنها استحباب إكرام المبشر بجائزة أو بخلع الثياب له.

(18)

ومنها جواز تخصيص الألفاظ العامة في اليمين بما أراده الحالف لقول كعب والله لا أملك غيرهما وأراد تخصيصه بالثياب.

ص: 292

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

(19)

ومنها استحباب سرور الإمام وكبير القوم بما يسر أصحابه وأتباعه.

(20)

ومنها استحباب التصدق لمن حصلت له نعمة ظاهرة أو اندفعت عنه كربة ظاهرة.

(21)

ومنها استحباب المواظبة على العمل الصالح لمن حصلت له نعمة بعمل صالح كما فعل كعب حيث أنجاه الصدق فحافظ عليه.

(22)

ومنها استحباب النهي لمن رأى من يريد أن يتصدق لكل ماله عن ذلك وأمره بإمساك بعض ماله.

(23)

ومنها مؤاخذة القوي في الإيمان بأشد مما يؤاخذ به الضعيف فيه.

(24)

ومنها كون الجهاد فرض عين على الأنصار أو على جميع الصحابة في عهده صلى الله عليه وسلم ولذلك وقعت هذه المعاتبة الشديدة على التخلف.

ومنها غير ذلك من الفوائد التي لا تحصى والله سبحانه وتعالى أعلم.

ص: 293

746 -

(11) باب في حديث الإفك وقبول توبة القادف وبراءة حرم النبي صلى الله عليه وسلم من الريبة

6847 -

(2749)(100) حدّثنا حِبَّانُ بْنُ مُوسَى. أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ الْمُبَارَكِ. أَخْبَرَنَا يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ الأَيْلِيُّ. ح وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ. (قَالَ ابْنُ رَافِعٍ: حَدَّثَنَا. وَقَالَ الآخَرَانِ: أَخْبَرَنَا) عَبْدُ الرَّزَّاقِ. أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ. وَالسِّيَاقُ حَدِيثُ مَعْمَرٍ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدٍ وَابْنِ رَافِعٍ. قَالَ يُونُسُ وَمَغمَرٌ. جَمِيعًا عَنِ الزُّهْرِيِّ: أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَعَلْقَمَةُ بْنُ وَقَّاصٍ وَعُبَيْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ،

ــ

746 -

(11) باب في حديث الإفك وقبول توبة القاذف وبراءة حرم النبي صلى الله عليه وسلم من الريبة

6847 -

(2749)(100)(حدثنا حبان) بكسر الحاء وتشديد الموحدة (ابن موسى) بن سوار السلمي أبو محمد المروزي روى عن عبد الله بن المبارك حديث الإفك، ويروي عنه (خ م ت س) والحسن بن سفيان والفريابي، قال إبراهيم بن الجنيد: ليس صاحب حديث ولا بأس به، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال في التقريب: ثقة، من العاشرة، مات سنة (233) ثلاث وثلاثين ومائتين، وليس له في صحيح مسلم ذكر إلَّا في هذا الموضع اه نووي (أخبرنا عبد الله بن المبارك) بن واضح الحنظلي مولاهم المروزي، ثقة، من (8) روى عنه في (10) أبواب (أخبرنا يونس بن يزيد الأيلي) الأموي، ثقة، من (7)(ح وحدثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي) المروزي (ومحمد بن رافع) القشيري النيسابوري، ثقة، من (11)(وعبد بن حميد) بن نصر الكسي، ثقة، من (11) (قال ابن رافع: حدثنا وقال الآخران: أخبرنا عبد الرزاق) بن همام الصنعاني الحميري (أخبرنا معمر) بن راشد الأزدي البصري (والسياق) الآتي أي واللفظ المسوق المذكور فيما سيأتي (حديث معمر) وروايته، حالة كونه (من رواية عبد وابن رافع) لا من رواية إسحاق (قال يونس) في السند الأول (ومعمر) في السند الثاني (جميعًا) أي كلاهما رويا لي (عن الزهري) قال:(أخبرني سعيد بن المسيب) بن حزن المخزومي المدني من سادات التابعين (وعروة بن الزبير وعلقمة بن وقاص) الليثي المدني، ثقة، من (2) روى عنه في (3) أبواب (وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود) الهذلي المدني، ثقة، من

ص: 294

عَنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ، زَوْج النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. حِينَ قَالَ لَهَا أَهْل الإِفْكِ مَا قَالُوا. فَبَرَّأَهَا اللهُ مِمَّا قَالَوا، وَكُلُّهُمْ حَدَّثَنِي طَائِفَةً مِنْ حَدِيثِهَا. وَبَعْضُهُمْ كَانَ أَوْعَى لِحَدِيثِهَا مِنْ بَعْضٍ. وَأَثْبَتَ اقْتِصَاصًا. وَقَدْ وَعَيْتُ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمُ الْحَدِيثَ الَّذِي حَدَّثَنِي. وَبَعْضُ حَدِيثِهِمْ يُصَدِّقُ بَعْضًا

ــ

(3)

روى عنه في (9) أبواب، قال الزهري: هؤلاء الأربعة رووا لي (عن حديث عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله تعالى عنها (حين قال لها أهل الأفك) بكسر الهمزة وسكون الفاء الكذب الشديد والافتراء المزيد (ما قالوا) مما لا يليق بها (فبرأها الله) سبحانه (مما قالوا) بما أنزله في محكم كتابه، قال الزهري (وكلهم) أي كل من الأربعة المذكورين (حدثني) بالإفراد (طائفة) أي بعضًا (من حديثها) فجميعه من مجموعهم لا أن مجموعه عن كل واحد منهم اه قسطلاني (وبعضهم) أي وبعض هؤلاء الأربعة (كان أوعى) أي أحفظ (لحديثها) أي لحديث عائشة المذكور (من بعض) آخر (وأثبت) أي أحسن (اقتصاصًا) وإيرادًا وأوضح سردًا للحديث ومساقًا، قال الزهري:(وقد وعيت) أي حفظت (عن كل واحد منهم) أي من هؤلاء الأربعة (الحديث الذي حدثني) به (وبعض حديثهم يُصدّق بعضًا) آخر في حديثه، قال في الفتح: كأنه مقلوب والمقام يقتضي أن يقول: وحديث بعضهم يُصدّق بعضًا، ويحتمل أن يكون على ظاهره أي إن بعض حديث كل منهم يدل على صدق الراوي في بقية حديثه لحُسن سياقه وجودة حفظه اه.

وحاصل ما في هذا المقام أن الزهري سمع حديث الإفك عن أربعة من التابعين سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وعلقمة بن وقاص وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة كل واحد منهم يروي طرفًا من القصة عن عائشة رضي الله تعالى عنها فجمع الزهري رواياتهم وجعلها حديثًا واحدًا، وذكر القاضي عياض اعتراض العلماء على صنيع الزهري هذا حيث لفق بين الروايات وكان عليه أن يفرد حديث كل واحد منهم عن الآخر ولكن ذلك لا يقدح في صحة الحديث.

قال النووي: وهذا الذي ذكره من جمع الحديث عنهم جائز لا مانع ولا كراهة فيه لأنه قد بيّن أن بعض الحديث عن بعضهم وبعضه عن بعض آخر منهم وهؤلاء الأربعة أئمة حُفّاظ ثقات من أجلِّ التابعين فإذا ترددت اللفظة بين كونها عن هذا أو ذاك لم يضره وجاز الاحتجاج بها لأنهما ثقتان، وقد اتفق العلماء على أنه لو قال حدثني زيد أو عمرو

ص: 295

ذَكَرُوا: أَنَّ عَائِشَةَ، زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ سَفَرًا، أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ. فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا، خَرَجَ بِهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَعَهُ

ــ

وهما ثقتان معروفان بالثقة عند المخاطب جاز الاحتجاج به.

ثم إن قصة الإفك مروية بعدة طرق وقد تتبعها الحافظ في الفتح [8/ 156 و 157] وذكر أن جملة من رواها من الصحابة غير عائشة ستة وهم عبد الله بن الزبير وأم رومان وابن عباس وابن عمر وأبو هريرة وأبو اليسر، ورواها عن عائشة عشرة من التابعين فيهم هؤلاء الأربعة الذين روى عنهم الزهري، وقد رواها عن الزهري جماعة كثيرة من تلامذته.

قال الزهري: وقد (ذكروا) أي ذكر لي هؤلاء الأربعة المذكورون (أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم دائمًا (إذا أراد أن يخرج سفرًا) أي إلى سفر فهو منصوب بنزع الخافض أو فيه تضمين لمعنى الإنشاء أي إذا أراد أن ينشئ سفرًا (أقرع) أي أسهم (بين نسائه) وزوجاته أي ساهم بينهن تطييبًا لقلوبهن (فأيتهن) بتاء التأنيث (خرج سهمها خرج بها رسول الله صلى الله عليه وسلم مصحوبة (معه) في السفر.

قال العيني في العمدة [6/ 361] وكيفية القرعة بالخواتيم يؤخذ خاتم هذا وخاتم هذا ويدفعان إلى رجل فيخرج منهما واحدًا، وعن الشافعي يجعل رقاعًا صغارًا يكتب في كل واحد اسم ذي السهم ثم يجعل في بنادق طين ويغطى عليها ثوب ثم يدخل رجل يده فيخرج بندقة وينظر من صاحبها فيدفعها إليه، وقال أبو عبيد بن سلام: عمل بالقرعة ثلاثة من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام نبينا ويونس وزكرياء عليهم السلام، قال القرطبي: وهذا الحديث دليل على أن للقرعة مدخلًا شرعيًا في الحقوق المشتركة وهو قول الكافة، قال أبو عبيدة: وقد عمل بها ثلاثة من الأنبياء يونس وزكرياء ومحمد صلى الله وسلم عليهم أجمعين، قال ابن المنذر: واستعمالها كالإجماع بين أهل العلم فيما يُقسم بين الشركاء ولا معنى لقول من ردها، وحُكي عن أبي حنيفة إجازتها قال: ولا تقسيم في القياس ولكنَّا تركنا القياس للآثار.

"قلت": ومقتضى هذا أنه قصرها على المواضع التي وردت في الأحاديث دون

ص: 296

قَالَتْ عَائِشَةُ: فَأَقْرَعَ بَينَنَا فِي غَزْوَةِ غَزَاهَا

ــ

تعديتها إلى غيرها وهو قول مالك أيضًا والمغيرة وبعض أصحابنا، وحكى ابن المنذر عن أبي حنيفة ترك القول بها وأنكرها بعض الكوفيين وقال هي كالأزلام (وبإجازتها) في المشكلات (قال الشافعي)، قال القاضي: وهو مشهور مذهب مالك.

وأما القرعة بين النساء إذا أراد سفرًا فقد اختلف العلماء فذهب مالك في أحد قوليه والشافعي وأبو حنيفة إلى أنه لا يخرج منهن إلَّا من خرجت عليها القرعة تمسكًا بظاهر هذا الحديث فإنه كالنص في ذلك، وقال مالك أيضًا: إن له أن يسافر بمن شاء منهن بغير قرعة وإن القسمة هنا سقطت للضرورة إذ كانت إحداهن أخف محملًا وأقل مؤونة وأصلح للسفر والأخرى أصلح للمقام في بيته لسد ضيعته وللقيام بولده وقد تكون أثقل جسمًا وأكثر مؤونة.

"قلت": والذي يقع لي أن هذا ليس بخلاف في أصل القرعة في هذا وإنما هذا لاختلاف أحوال النساء فإذا كان فيهن من تصلح للسفر ومن لا تصلح تعين من تصلح ولا يمكن أن يقال يجب أن يسافر بمن لا تصلح لأن ذلك ضرر ومشقة عليه ولا ضرر وضرار وإنما تدخل القرعة إذا كن كلهن صالحات للسفر فحينئذٍ تتعيّن القرعة لأنه لو أخرج واحدة منهن بلا قرعة لخيف أن يكون ذلك ميلًا إليها ولكان للأخرى مطالبته بحقها فإذا خرج بمن وقعت عليها القرعة انقطعت حجة الأخرى وارتفعت التهمة عنه وطاب قلب من بقي منهن والله تعالى أعلم اه من المفهم.

(قالت عائشة) رضي الله تعالى عنها بالسند السابق (فأقرع بيننا) رسول الله صلى الله عليه وسلم (في غزوة غزاها) أي خرج فيها وهي غزوة بني المصطلق بكسر اللام وهم بطن من بني خزاعة كما ذكره البخاري في المغازي معلقًا عن الزهري وصرّح به محمد بن إسحاق في روايته وكذا أفلح بن عبد الله عند الطبراني، وكانت سنة ست فيما جزم به ابن التين وقيل في شعبان سنة خمس، ورُوي عن موسى بن عقبة سنة أربع، والصحيح الذي عليه المحققون أنها وقعت ممنة خمس وكان سببها أن النبي صلى الله عليه وسلم بلغه أن بني المصطلق يجمعون له وقائدهم الحارث بن أبي ضرار وأرسل عينًا يأتيه بخبر المسلمين فخرج النبي صلى الله عليه وسلم إليهم حتى لقيهم على ماء من مياههم يقال له المريسيع قريبًا من الساحل ولذلك تسمى هذه الغزوة غزوة المريسيع أيضًا فزاحف الناس

ص: 297

فَخَرَجَ فِيهَا سَهْمِي. فَخَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم. وَذلِكَ بَعْدَمَا أُنْزِلَ الْحِجَابُ. فَأَنَا أُحْمَلُ فِي هَوْدَجِي، وَأُنْزَلُ فِيهِ، مَسِيرَنَا. حَتَّى إِذَا فَرَغَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ غَزْوِهِ، وَقَفَلَ، وَدَنَوْنَا مِنَ الْمَدِينَةِ، آذَنَ لَيْلَةً بِالرَّحِيلِ،

ــ

فاقتتلوا فهزمهم الله تعالى وقُتل منهم ونفل رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءهم وأبناءهم وأموالهم كذا ذكره ابن إسحاق بأسانيد مرسلة (فخرج فيها) أي في تلك الغزاة (سهمي) أي سهم قرعة سفري معه صلى الله عليه وسلم، وعند ابن إسحاق (فخرج سهمي عليهن) وهو يُشعر بأنه لم يخرج معه يومئذٍ غيرها (فخرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك) السفر (بعدما أنزل الحجاب) أي آية احتجاب النساء عن الرجال أي الأمر بالحجاب، وإنما قالت هذا توطئة للسبب في كونها مستترة في الهودج حتى أفضى ذلك إلى تحميله وهي ليست فيه وهم يظنون أنها فيه بخلاف ما كان قبل الحجاب فلعل النساء حينئذٍ كن يركبن ظهور الرواحل بغير هوادج أو يركبن الهوادج غير مستترات (فأنا أُحمل في هودجي) على الراحلة (وأُنزل) من راحلتي (فيه) أي في هودجي في (مسيرنا) وسفرنا ذلك لنزول الحجاب، وقوله: أُحمل وأُنزل بضم همزة أُحمل وأُنزل مع التخفيف بالبناء للمفعول فيهما، والهودج بفتح الدال مركب من مراكب العرب أُعد للبناء اه عيني، وقال القسطلاني: هو محمل له قبة تستر بالثياب ونحوها يوضع على ظهر البعير ويركب فيه النساء ليكون أستر لهن اه منه (فسرنا) إلى بني المصطلق كما في رواية البخاري (حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوه) وجهاده ذلك (وقفل) أي رجع منه إلى جهة المدينة (ودنونا) أي قربنا (من المدينة آذن) رُوي بالمد وتخفيف الذال، ورُوي بالقصر وتشديدها جواب إذا أي أعلم (ليلة) أي قبل الفجر (بالرحيل) أي بالارتحال والذهاب من ذلك المنزل إلى جهة المدينة.

قولها: (فأنا أُحمل في هودجي وأُنزل فيه) وفي رواية ابن إسحاق (فكنت إذا رحلوا بعيري جلست في هودجي ثم يأخذون بأسفل الهودج فيضعونه على ظهر البعير) وهو معنى قولها في رواية مسلم أُحمل في هودجي وكذلك معنى قولها أُنزل فيه أي كانوا يُنزلون الهودج عن ظهر البعير إلى الأرض وهي فيه قوله: (مسيرنا) بنصب الراء تعني وقع ذلك في سائر مسيرنا أي سفرنا فهو منصوب بنزع الخافض. وقوله: (آذن ليلة بالرحيل)

ص: 298

فَقُمْتُ حِينَ آذَنُوا بِالرَّحِيلِ. فَمَشَيْتُ حَتَّى جَاوَزْتُ الْجَيْشَ. فَلَمَّا قَضَيْتُ مِنْ شَأْنِي أَقْبَلْتُ إِلَى الرَّحْلِ. فَلَمَسْتُ صَدْرِي فَإِذَا عِقْدِي مِنْ جَزْعِ ظَفَارِ قَدِ انْقَطَعَ

ــ

وفي رواية ابن إسحاق (فنزل منزلًا فبات فيه بعض الليل ثم آذن بالرحيل) أي أعلن بالسفر والذهاب من ذلك الموضع.

(فقمت) من منزلي (حين آذنوا) وأعلنوا (بالرحيل) أي بالارتحال والذهاب من ذلك المنزل (فمشيت) لقضاء حاجتي (حتى جاوزت الجيش) وبعُدت عنهم (فلما قضيت) وفرغت (من شأني) وحاجتي التي ذهبت لأجلها ولم تذكرها لاستقباح ذكرها (أقبلت) وجئت (إلى الرحل) أي إلى منزلي الذي كنت فيه أولًا (فلمست صدري) بيدي (فإذا عقدي من جزع ظفار قد انقطع) مني وسقط وضاع أي ففاجأني انقطاعه مني وسقوطه فإذا فجائية والفاء عاطفة على لمست، والعقد بكسر العين وسكون القاف قلادة تُعلّق في العنق للزينة، والجزع بفتح الجيم وسكون الزاي خرز معروف في سواده بياض كان يُجلب من اليمن والصين وغيرهما ويقال ليس في الحجارة أصلب من الجزع فكانوا لا يتيمنون به فيزعمون أن من تقلد به كثرت همومه ورأى أحلامًا رديئة حتى قيل إن وجه تسميته بالجزع أنه يورث الجزع، وأما ظفار فهي بفتح الظاء والفاء على وزن حذام وراؤها مبنية على الكسر لشبهه بالحرف شبهًا معنويًا لتضمنه معنى حرف التأنيث وهو التاء وإنما حُرك فرارًا من التقاء الساكنين وكانت كسرة لأنها الأصل في حركة التخلص، وفي القسطلاني: فالظفار بالظاء المعجمة والفاء بعد الألف راء مكسورة مبنية على الكسر كخضار وحذام مدينة باليمن تقول هذه ظفار ودخلت ظفار وذهبت إلى ظفار بكسر الراء بغير تنوين في الأحوال كلها، وفي رواية أبي ذر من جزع أظفار بالهمزة المفتوحة وتنوين الراء وهي جمع ظفر وهو أحد أنواع القسط وهو طيب الرائحة يتبخر به فإن ثبتت هذه الرواية فلعل الظفر عمل مثل الخرز فأطلقت عليه جزعًا تشبيهًا به ونظمته قلادة إما لحسن لونه أو لطيب رائحته، وقد حكى ابن التين أن قيمته كانت اثني عشر درهمًا وهذا يؤيد أنه ليس جزعًا ظفاريًا إذ لو كان ذلك لكانت قيمته أكثر من ذلك كذا في فتح الباري [8/ 459].

ووقع في رواية الواقدي (فكان في عنقي عقد من جزع ظفار كانت أمي أدخلتني به على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال القرطبي: والصواب جزع ظفار بلا همزة كما

ص: 299

فَرَجَعْتُ فَالْتَمَسْتُ عِقْدِي فَحَبَسَنِي ابْتِغَاؤُهُ. وَأَقْبَلَ الرَّهْطُ الَّذِينَ كَانُوا يَرْحَلُونَ لِي فَحَمَلُوا هَوْدَجِي. فَرَحَلُوهُ عَلَى بَعِيرِي الَّذِي كُنْتُ أَرْكَبُ. وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنِّي فِيهِ.

قَالَتْ: وَكَانَتِ النِّسَاءُ إِذْ ذَاكَ خِفَافًا، لَمْ يُهَبَّلْنَ وَلَمْ يَغْشَهُنَّ اللَّحْمُ. إِنَّمَا يَأْكُلْنَ الْعُلْقَةَ مِنَ الطَّعَامِ

ــ

قاله ابن السكيت، وفي الصحاح ظفار مثل قطام مدينة باليمن يقال: من دخل ظفار حمّر وجزع ظفاري منسوب إليها وكذلك عود ظفاري وهو العود الذي يُتبخر به، وقيل اسم جبل وكان أهلها من حمير تُنسب إليها القلائد الثمينة وعلى هذا فمن قال فيه جزع أظفار بألف فقد أخطأ وبالوجه الصحيح رويته أنا اه من المفهم بتصرف وزيادة.

قالت عائشة: (فرجعت) إلى المكان الذي ذهبت إليه أولًا لقضاء حاجتي فضاعت القلادة فيه (فالتمست) أي طلبت فيه (عقدي وحبسني) أي منعني وأبطأني عن الرجوع إلى منزلي (ابتغاؤه) أي طلب ذلك العقد في ذلك المكان الذي ضاع فيه، وفي رواية الواقدي:(وكنت أظن أن القوم لو لبثوا شهرًا لم يبعثوا بعيري حتى أكون في هودجي)(وأقبل) ولأبي ذر (فأقبل) بالفاء بدل الواو (الرهط الذين كانوا يرحلون لي) بفتح التحتية وسكون الراء وفتح الحاء المهملة مع التخفيف، والرهط ما دون العشرة أي يشدون الرحل على بعيري ويجعلونه عليه، وذكر الحافظ عن الواقدي أن أحدهم كان أبا موهوبة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أبو مويهبة الذي روى عنه عبد الله بن عمرو بن العاص حديثًا في مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم ووفاته أخرجه أحمد وغيره، وقال البلاذري: شهد أبو مويهبة غزوة المريسيع وكان يخدم بعير عائشة رضي الله تعالى عنها (فحملوا هودجي) أي أخذوه (فرحلوه) بالتخفيف أي شدوه (على بعيري الذي كنت) أنا (أركبـ) ـه (وهم يحسبون) أي يظنون (أني فيه) أي في هودجي (قالت) عائشة: (وكانت النساء إذ ذاك) أي في ذلك الزمن (خفافًا) أي خفيفات غير ثقيلة (لم يهبّلن) بضم الياء وفتح الهاء والباء المشددة المفتوحة على صيغة المبني للمجهول أي لم يثقلن باللحم يقال هبّله اللحم وأهبله إذا أثقله وكثر لحمه وشحمه فيجوز فيه ضم الياء وسكون الهاء وتخفيف الباء من باب أكرم، ويحتمل أن يكون بفتح الياء وسكون الهاء وضم الباء يَهْبُلن (ولم يغشهن اللحم) أي لم يغطهن اللحم (إنما يأكلن) النساء (العلقة) بضم العين وسكون اللام وبالقاف أي القليل (من الطعام) ويُقال لها أيضًا البلغة، قال في المصباح:

ص: 300

فَلَمْ يَسْتَنْكِرِ انقَوْمُ ثِقَلَ الْهَوْدَجِ حِينَ رَحَلُوهُ وَرَفَعُوهُ. وَكُنْتُ جَارِيةً حَدِيثَةَ السِّنِّ. فَبَعَثُوا الْجَمَلَ وَسَارُوا. وَوَجَدْتُ عِقْدِي بَعْدَمَا اسْتَمَرَّ الْجَيْشُ. فَجِئْتُ مَنَازِلَهُمْ وَلَيْسَ بِهَا دَاعٍ وَلَا مُجِيبٌ. فَتَيَمَّمْتُ مَنْزِلِي الَّذِي كُنْتُ

ــ

يقال فلان لا يأكل إلَّا علقة أي إلَّا ما يُمسك نفسه ويسد رمقه، قال القرطبي: كان المراد بها الشيء القليل الذي يسكت الرمق ويقال له البلغة أيضًا والحاصل أن النساء وقتئذٍ كن لا يأكلن الكثير من الطعام فكن خفيفة الوزن فكانت عائشة رضي الله تعالى عنها كذلك فلما حمل الهودج أصحابه لم يشعروا بأنها ليست جالسة فيه وظنوا أنها فيه فرحلوا (فلم يستنكر القوم) الذين حملوا الهودج (ثقل الهوج) أي لم يشعروا عدم ثقله ولم ينتبهوا له (حين رحلوه) أي حين حملوه (ورفعوه) على البعير وشدوه عليه، قالت عائشة:(وكنت) أنا (جارية) أي بنتًا (حديثة السن) أي قليلة العمر وإنما بلغت حينئذٍ ذاك خمس عشرة سنة، ولعلها أشارت بذلك إلى خفة وزنها أو إلى بيان عذرها فيما فعلته من الحرص على العقد ومن استقلالها بطلبه في تلك الحال وترك إعلام أهلها بذلك. قوله:(ولم يستنكر القوم ثقل الهودج) وفي رواية البخاري (فلم يستنكر القوم خفة الهودج) وهي أوضح لأن مرادها إقامة عذرهم في تحميل هودجها وهي ليست فيه فكأنها تقول كانت لخفة جسمها بحيث إن الذين يحملون هودجها لا فرق عندهم بين وجودها فيه وعدمها اه قسطلاني. قوله: (وكنت جارية حديثة السن) قال القسطلاني: لأنها إذ ذاك لم تبلغ خمس عشرة سنة أي إنها مع نحافتها صغيرة السن ففيه إشارة إلى المبالغة في خفتها أو إلى بيان عذرها فيما وقع منها من الحرص على العقد الذي انقطع واشتغلت بالتماسه من غير أن تعلم أهلها بذلك وذلك لصغر سنها وعدم تجاربها بالأمور (فبعثوا الجمل) أي أثاروه (وساروا) به أي وهم يظنون أنها عليه (ووجدت) أي رأيت (عقدي) أي قلادتي (بعدما استمر الجيش) هو استفعل من مر أي بعدما طال وبعُد مرورهم وذهابهم عني (فجئت) أنا (منازلهم) بصيغة الجمع أي منازل الجيش التي كانوا نازلين بها أولًا (وليس بها) أي والحال أنه ليس فيها (داع) أي مناد ينادي لضائعهم وطالب لمن بقي منهم فيها (ولا مجيب) لذلك المنادي من الضائعين الذين بقوا فيها، والمعنى أنه ليس فيها طالب ولا مطلوب، وفي رواية فليح عند البخاري (وجئت منزلهم وليس فيه أحد) قالت عائشة:(فتيممت) أي قصدت النزول والجلوس في (منزلي الذي كنت) نازلًا

ص: 301

فِيهِ. وَظَنَنْتُ أَن الْقَوْمَ سَيَفْقِدُونِي فَيَرْجِعُونَ إِلَيَّ. فَبَيْنَا أَنَا جَالِسَةٌ فِي مَنْزِلِي غَلَبَتْنِي عَيْنِي فَنِمْتُ. وَكَانَ صَفْوَانُ بْنُ الْمُعَطَّلِ السُّلَمِيُّ، ثُمَّ الذَّكْوَانِيُّ، قَدْ عَرَّسَ مِنْ وَرَاءِ الْجَيْشِ

ــ

(فيه) أولًا (وظننت) أي تيقنت، والظن هنا بمعنى العلم لأن فقدهم إياها محقق قطعًا وهو معلوم عندها (أن القوم) الذين يحملون هودجي (سيفقدوني) بكسر القاف وبنون واحدة، وفي رواية (سيفقدنني) بنونين لعدم الناصب والجازم والأولى محمولة على أنها لغة أو على حذف إحدى النونين لتوالي المثلين (فتيممت منزلي) .. إلخ أي قصدته ولزمت ذلك المكان وهذا من كمال عقلها وإلا فإن النساء في مثل تلك الحالة تغلب عليهن الفزع ويبعثهن على الاضطراب من مكان إلى مكان ولكنها علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يطلبها أولًا إلَّا في نفس المكان الذي تركها فيه فلزمته أي فقصدت الجلوس والملازمة لمنزلي الذي نزلت فيه أولًا، والحال أني قد تيقنت أنهم يفقدونني قريبًا (فيرجعون إليّ) أي إلى منزلي الذي نزلت فيه لطلبي فيه (فبينا أنا جالسة في منزلي) أي فبينا أوقات جلوسي في منزلي الأول (غلبتني عيني) بالإفراد أي غلب النوم عيني (فنمت) بسبب شدة الغم إذ من شأن الغم وهو وقوع ما يكره غلبة النوم بخلاف الهم وهو توقع ما يكره فإنه يقتضي السهر وغلبة النوم من كمال طمأنينتها وثقتها بالله تعالى وإلا فالفزع في مثل هذه الحالة ربما يمنع من النوم أو أن الله تعالى لطف بها فألقى عليها النوم لتستريح من وحشة الانفراد في البرية بالليل اه قسطلاني (وكمان صفوان بن المعطل) بتشديد الطاء المفتوحة (السلمي) بضم السين وفتح اللام نسبة إلى سُليم قبيلة كبيرة له (ثم الذكواني) بفتح الذال المعجمة نسبة إلى بني ذكوان قبيلة صغيرة له لأنه نسبة إلى ذكوان بن ثعلبة بن بهشة بن سليم وهو بطن من بني سليم، وكان صحابيًا فاضلًا شجاعًا خيِّرًا شاعرًا، أول مشاهده عند الواقدي الخندق وعند ابن الكلبي المريسيع وسيأتي آنفًا ما يدل على تقدم إسلامه كما بينا هناك، وقد ذكر ابن إسحاق أنه استشهد في غزاة أرمينية في خلافة عمر سنة تسع عشرة، وقيل بل عاش إلى سنة أربع وخمسين فاستشهد بأرض الروم في خلافة معاوية رضي الله تعالى عنهما (قد عرس) ونزل في آخر الليل (من وراء الجيش) أي نزل في منزل كان خلف منازل الجيش، ووقع في حديث ابن عمر عند الطبراني وغيره بيان سبب تأخر صفوان ولفظه (سأل النبي صلى الله

ص: 302

فَادَّلَجَ. فَأَصْبَحَ عِنْدَ مَنْزِلِي. فَرَأَى سَوَادَ إِنْسَانٍ نَائِمٍ. فَأَتَانِي فَعَرَفَنِي حِينَ رَآنِي. وَقَدْ كَانَ يَرَانِي قَبْلَ أَنْ يُضْرَبَ الْحِجَابُ عَلَيَّ. فَاسْتَيْقَظْت بِاسْتِرْجَاعِهِ حِينَ عَرَفَنِي. فَخَمَّرْتُ وَجْهِي بِجِلْبَابِي. وَوَاللهِ، مَا يُكَلِّمُنِي كَلِمَةً وَلَا سَمِعْتُ مِنْهُ كَلِمَةً غَيْرَ اسْتِرْجَاعِهِ. حَتَّى أَنَاخَ رَاحِلَتَهُ

ــ

عليه وسلم أن يجعله على الساقة فكان إذا رحل الناس قام يصلي ثم أتبعهم فمن سقط له شيء أتاه به) وفي حديث أبي هريرة عند البزار وكان صفوان يتخلف عن الناس فيصيب القدح والجراب والإداوة، وفي مرسل مقاتل بن حيان عند الحاكم في الإكليل (فيحمله فيقدم به فيعرفه في أصحابه)(فـ) لما ارتحل الجيش (أدلج) أي سار في آخر الليل وارتحل من منزله (فأصبح) أي فوصل وقت الصباح (عند منزلي فرأى سواد إنسان) أي شخص إنسان (نائم) لا يدري أهو رجل أم امرأة (فأتاني فعرفني حين رآني) لعلها انكشف وجهها نامت (وقد كان يراني) ولأبي ذر وكان رآني (قبل أن يضرب) ويُجعل (الحجاب عليّ) وعلى سائر النساء، وهذا يدل على قدم إسلام صفوان بن معطل فإن الحجاب نزل سنة ثلاث أو أربع في الأصح فلما رآني استرجع أي قال: إنا لله وإنا إليه راجعون (فاستيقظت) أي انتبهت من نومي (باسترجاعه) أي بقوله: إنا لله وإنا إليه راجعون، والمراد أن صفوان لما رآها نائمة وحدها تفطّن أنها تخلفت عن الجيش فاسترجع على ذلك (حين عرفني فخمّرت) بالخاء المعجمة والميم المشددة أي فغطيت (وجهي بجلبابي) تعني الثوب الذي كان عليها وهو بكسر الجيم (و) إنه (والله ما يكلمني كلمة) وفي رواية البخاري (ما كلمني كلمة) والتعبير بالمضارع أحسن من الماضي لما فيه من الإشارة إلى أنه استمر على ترك المخاطبة إذ الماضي يخص النفي بحال الاستيقاظ اه قسطلاني (ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه حتى أناخ راحلته) أي حتى أبرك وأضجع راحلته، فيه نفي لكلامه لها بغير الاسترجاع إلى أن أناخ ولا يمنع ما بعد الإناخة، وفي رواية أبي ذر (حين أناخ راحلته) فالنفي مقيد بحال إناخة الراحلة فلا يمنع ما قبل الإناخة ولا ما بعدها، وقد فهم أكثر الشراح من هذه العبارة أن صفوان لم يخاطبها بكلام غير أنه استرجع فقط فقالوا استعمل معها الصمت اكتفاء بقرائن الحال مبالغة منه في الأدب وإعظامًا لها وإجلالًا، ولكن قد دلت بعض الروايات الأخرى على أنه خاطبها بكلام يتوقع في مثله، فقد وقع في رواية ابن إسحاق أنه قال لها ما خلفك؟

ص: 303

فَوَطِئَ عَلَى يَدِهَا فَرَكِبْتُهَا. فَانْطَلَقَ يَقُودُ بِي الرَّاحِلَةَ. حَتَّى أَتَينَا الْجَيْشَ. بَعْدَمَا نَزَلُوا مُوغِرِينَ فِي نَحْرِ الظَّهِيرَةِ. فَهَلَكَ مَنْ هَلَكَ فِي شَأْنِي

ــ

وأنه قال لها: اركبي .. واستأخر، وفي رواية أبي أويس عند أبي عوانة والطبراني فاسترجع وأعظم مكاني أي حين رآني وحدي، وقد كان يعرفني قبل أن يُضرب علينا الحجاب فسألني عن أمري فسترت وجهي عنه بجلبابي وأخبرته بأمري فقرّب بعيره فوطئ على ذراعه فولاني قفاه فركبت، وفي حديث ابن عمر عند الطبراني فلما رآني ظن أني رجل فقال: يا نومان قم فقد سار الناس، وفي مرسل سعيد بن جبير عن ابن أبي حاتم فاسترجع ونزل عن بعيره وقال: يا أم المؤمنين ما شأنك فحدثته بأمر القلادة، ومن أجل هذه الروايات رجَّح الحافظ في الفتح [8/ 463] أن مرادها في حديث الباب نفي الكلام غير الاسترجاع إلى أن ينيخ راحلته لأن لفظها (ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه حتى أناخ راحلته) تعني أنه لم يكلمها بشيء إلى أن أناخ راحلته، فأما بعد أن أناخها فقد كلمها بما وقع في الروايات الأخرى والله سبحانه وتعالى أعلم (فوطئ) أي قام (على يدها) أي ذراعها ليكون أسهل لركوبها ولا يحتاج إلى مسها (فركبتها فانطلق) حالة كونه (يقود) ويجر (بي الراحلة) وفي مرسل مقاتل بن حيان بالمهلمة عند الحاكم في الإكليل أنه ركب معها مردفًا لها، وما في الصحيح هو الصحيح (حتى أتينا الجيش) ووصلنا إليهم (بعدما نزلوا) حال كونهم (موغرين) أي نازلين وداخلين في وقت الوغرة أي في وقت شدة الحر (في نحر الظهيرة) أي في وقت وقوف الشمس ووصولها وسط السماء، وقوله:(موغرين) بضم الميم وكسر الغين المعجمة والراء المهملة أي نازلين في وقت الوغرة بفتح الواو وسكون الغين وهي شدة الحر وقت كون الشمس في كبد السماء، ومنه أُخذ وغر الصدر وهو توقده من الغيظ بالحقد وأوغر فلان إذا دخل في ذلك الوقت كأصبح وأمسى، وقوله:(في نحر الظهيرة) تأكيد لقولها موغرين فإن نحر الظهيرة أوّلها، والظهيرة بفتح المعجمة وكسر الهاء وصول الشمس منتهاها في الارتفاع كأنها وصلت إلى النحر وهو أعلى الصدر، ووقع في رواية ابن إسحاق (فوالله ما أدركنا الناس ولا افتقدت حتى نزلوا واطمأنوا طلع الرجل يقودني)(فهلك) بسبب الإفك (من هلك في شأني) وفي رواية أبي أويس عند الطبراني (فهنالك قال فيّ وفيه أهل الإفك ما قالوا) أي هلكوا بقذفها مع صفوان بن معطل رضي الله تعالى عنهما بما هي بريئة منه وأشارت بذلك إلى من تكلموا بالإفك وخاضوا في ذلك، ووقع في بعض الروايات أنهم عبد الله بن أُبي

ص: 304

وَكَانَ الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيِّ ابْنُ سَلُولَ. فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ. فَاشْتَكَيْتُ، حِينَ قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ، شَهْرًا. وَالنَّاسُ يُفِيضُونَ فِي قَوْلِ أَهْلِ الإِفْكِ. وَلَا أَشعُرُ بِشَيْءِ مِنْ ذلِكَ. وَهُوَ يُرِيبُنِي فِي وَجَعِي أَنِّي لَا أَعْرِفُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم اللُّطْفَ الَّذِي

ــ

ومسطح بن أثاثة وحسان بن ثابت وحمنة بنت جحش، وزاد بعضهم عبد الله وأبا أحمد ابني جحش، وأنكر بعضهم كون حسان بن ثابت من جملة القاذفين فإنه أنكر ذلك صراحة (وكان الذي تولى) أي أسس ودبر واخترع واختلق (كبره) بكسر الكاف وضمها وسكون الباء وكبر الشيء معظمه أي كبر ذلك الإفك، والموصول في محل النصب خبر لكان مقدم على اسمه لإفادة الحصر و (عبد الله) اسمها مؤخر لأن العلم أعرف من الموصول ويجوز العكس و (ابن أُبي) بالرفع صفة أولى لعبد الله وهو اسم أبيه و (ابن سلول) صفة ثانية وهمزة الوصل تكتب لحصول الفاصل بين العلم وصفته، وسلول اسم أمه ممنوع من الصرف للعلمية والتأنيث والمعنى على هذا الوجه وكان عبد الله بن أبي هو الذي اخترع معظم ذلك الإفك وأشاعه وهو رأس المنافقين في المدينة، والمراد أنه هو المرجع والمسؤول في أكثر ما قيل في الإفك لأنه هو الذي اخترع هذه التهمة الشنيعة (فقدمنا المدينة) مع رسول الله صلى الله عليه وسلم (فاشتكيت) أي مرضت (حين قدمنا المدينة شهرًا والناس يُفيضون) بضم أوله أي يخوضون، يقال أفاض في قول إذا أكثر منه، ووقع في حديث ابن عمر عند الطبراني وابن مردويه فشاع ذلك في العسكر فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فلما قدموا المدينة أشاع عبد الله بن أُبي ذلك في الناس فاشتد على رسول الله صلى الله عليه وسلم أي والناس يخوضون (في قول أهل الإفك) ويشيعونه والإفك بكسر الهمزة وإسكان الفاء هذا هو المشهور كما مر وحكى القاضي فتحهما جميعًا قال هما لغتان كنجس ونجس وهو الكذب أو أشده (و) الحال أني (لا أشعر) ولا أعلم (بشيء من ذلك) الإفك الذي يشيعونه، وفي رواية ابن إسحاق وقد انتهى الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى أبويّ ولا يذكرون لي شيئًا من ذلك (وهو) ضمير شأن أو زائدة أي والشأن (يريبني) بضم الياء وفتحها من رابه الأمر وأرابه إذا أوقعه في شك مما يخاف عاقبته أي يشككني ويوهمني ذلك الإفك، وقوله:(في وجعي) متعلق بقوله: (أني لا) أرى أي يريبني ذلك الإفك أني لا أرى في وجعي هذا بما (أعرف من رسول الله صلى الله عليه وسلم من (اللطف) والرفق والشفقة (الذي

ص: 305

كُنْتُ أَرَى مِنْهُ حِينَ أَشْتَكِي. إِنَّمَا يَدْخُلُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَيُسَلِّمُ ثُمَّ يَقُولُ: "كَيفَ تِيكُمْ؟ " فَذَاكَ يَرِيبُنِي. وَلَا أَشْعُرُ بِالشَّرِّ. حَتَّى خَرَجْتُ بَعْدَمَا نَقَهْتُ وَخَرَجَتْ مَعِي أُمُّ مِسْطَحٍ قِبَلَ الْمَنَاصِعِ. وَهُوَ مُتَبَرَّزُنَا. وَلَا نَخْرُجُ إِلَاّ لَيْلًا إِلَى لَيْلٍ. وَذلِكَ

ــ

كنتُ أرى منه حين أشتكي) وأمرض قبل ذلك، واللطف بفتح اللام والطاء المهملة والفاء ولأبي ذر اللطف بضم اللام وسكون الطاء أي الرفق اه قسط (إنما يدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم عليّ بتشديد الياء كما عند البخاري (فيُسلِّم) على من في الدار (ثم يقول كيف تيكم؟ ) بكسر الفوقية وهو اسم إشارة للمؤنث مثل ذاكم للذكر والكاف لخطاب الحاضرين أي كيف حال هذه الفتاة التي تمرضونها هل خف مرضها أم لا؟ ولابن إسحاق (فكان إذا دخل قال لأمي وهي تمرضني:"كيف تيكم؟ " وفهمت أم المؤمنين من ذلك بعض الجفاء منه صلى الله عليه وسلم ولكنها لم تكن تدري السبب) ووقع في رواية أبي أويس (إلَّا أنه يقول وهو مارٌّ: "كيف تيكم؟ " ولا يدخل عندي ولا يعودني وسأل عن أهل البيت) وفي حديث ابن عمر: (كنت أرى منه جفوة ولا أدري من أي شيء)(فذاك) الذي أرى منه (يريبني) أي يشككني في تغير حاله (و) الحال أني (لا أشعر) ولا أعلم (بالشر) والإفك الذي تقوّله أهل الإفك (حتى خرجت) يومًا من بيتي قبل المناصع لقضاء حاجة الإنسان (بعدما نقهت) بفتح النون والقاف ويجوز كسرها أي بعدما أفقت من مرضي وحصلت لي الصحة ولكن لم تكمل لي القوة، وفي المصباح نقه من مرضه نقهًا فهو نقه من باب تعب إذا برئ ونقه ينقه من باب نقع لغة فهو ناقه، والناقه الذي أفاق من مرضه، ولم تتكامل صحّته والإنسان في هذه الحالة يغلب عليه الضعف (وخرجت معي أم مسطح) بكسر الميم وسكون السين وفتح الطاء وبعدها حاء مهملات واسمها سلمى بنت أبي رهم القرشية كما سيأتي في الحديث (قبل المناصع) بكسر القاف وفتح الموحدة أي من جهة المناصع متعلق بخرجت الأول والمناصع بفتح الميم والنون وبعد الألف صاد وعين مهملتان اسم للمواضع التي كانت خارج المدينة كانوا يتبرَّزون فيها كما قالت (وهو) أي المناصع (متبرزنا) بفتح الراء المشددة أي موضع قضاء حاجتنا وهو اسم مكان من التبرز وهو الخروج إلى البراز لقضاء الحاجة والبراز الفضاء من الأرض التي من خرج إليها فقد برز أي ظهر وكُني به هنا عن الخروج للحدث (ولا نخرج) إليه (إلا ليلًا) ولا نخرج في النهار (إلى) دخول (ليل) آخر (وذلك) أي خروجنا

ص: 306

قَبْلَ أَنْ نَتَّخِذَ الْكُنُفَ قَرِيبًا مِنْ بُيُوتِنَا. وَأَمْرُنَا أَمْرُ الْعَرَب الأوُلِ فِي التَّنَزُّهِ. وَكُنَّا نَتَأَذَّى بِالْكُنُفِ أَنْ نَتَّخِذَهَا عِنْدَ بُيوتِنَا. فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَأُمُّ مِسْطَحٍ، وَهِيَ بِنْتُ أَبِي رُهْمِ بْنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ. وَأُمُّهَا ابْنَةُ صَخْرِ بْنِ عَامِرٍ، خَالَةُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ. وَابْنُهَا مِسْطَحُ بْنُ أُثَاثَةَ بْنِ عَبَّادِ بْنِ الْمُطَّلِبِ

ــ

إلى المناصع (قبل أن نتخذ) ونبني (الكنف) بضم الكاف والنون أي مواضع قضاء الحاجة جمع كنيف وهو الموضع الذي أُعدّ لقضاء حاجة الإنسان وهو في أصل اللغة الساتر لأنه يستر قاضي الحاجة عن أعين الناس حالة كون الكنف (قريبًا من بيوتنا) وأفرد الحال مع أن صاحبها جمع لأن فعيلًا يستوي فيه الجمع والمفرد أو منصوب بنزع الخافض أي قبل أن نتخذها في مكان قريب إلى بيوتنا ودورنا (وأمرنا) أي عادتنا في ذلك الوقت (أمر العرب) أي عادة العرب (الأول) بضم الهمزة وتخفيف الواو نعت للعرب جمع الأول بتشديدها وضبطه بعضهم (الأوّل) بفتح الهمزة وتشديد الواو فعلى هذا الوجه فهو مرفوع على أنه صفة للأمر (في التنزه) أي في طلب النزاهة والنظافة بالخروج إلى الصحراء فكانوا يتنزهون عن أن يكون في بيوتهم موضع تقضى فيه الحاجة والمراد أن العرب كانوا يخرجون إلى الفضاء لقضاء حوائجهم ولم يكونوا تخلقوا بأخلاق العجم باتخاذ الكنف في البيوت (وكنا نتأذى بـ) رائحة (الكنف) بـ (أن نتخذها عند بيوتنا) وجملة أن نتخذها صلة أن المصدرية أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور على كونه بدلًا من الكنف كما أشرنا إليه بتقدير الجار أي كنا نتأذى برائحة الكنف باتخاذها عند بيوتنا، وقوله:(فانطلقت أنا وأم مسطح) معطوف على خرجت (وهي) أي أُم مسطح أي اسمها سلمى (بنت أبي رهم) بضم الراء وسكون الهاء اسمه أُنيس مصغرًا (ابن المطلب بن عبد مناف وأمها) أي أم أم مسطح رائطة (ابنة صخر بن عامر) وقوله: (خالة أبي بكر الصديق) عطف بيان لابنة صخر فكانت أم مسطح بنت خالة أبي بكر الصديق رضي الله عنه (وابنها) أي ابن أم مسطح (مسطح) بكسر الميم وسكون السين بوزن منبر (ابن أثاثة) بضم الهمزة ومثلثتين بينهما ألف من غير تشديد (ابن عباد) بفتح العين وتشديد الباء (ابن المطلب) والمسطح بكسر الميم عود من أعواد الخباء وهو لقب له واسمه عوف وقيل عامر، وذكر الحافظ أن المعتمد هو الأول، وكان هو وأمه من المهاجرين الأولين، وكان أبوه مات وهو صغير فكفله أبو بكر لقرابة أم مسطح منه، وتُوفي مسطح سنة (34)

ص: 307

فَأَقْبَلْتُ أَنَا وَبِنْتُ أَبِي رُهْمٍ قِبَلَ بَيْتِي. حِينَ فَرَغنَا مِنْ شَأْنِنَا. فَعَثَرَت أُمُّ مِسْطَحٍ فِي مِرْطِهَا. فَقَالَتْ: تَعِسَ مِسْطَحٌ. فَقُلْتُ لَهَا:

ــ

هـ وقيل (37) هـ بعد أن شهد صفين مع علي رضي الله عنهما.

(فأقبلت) أي رجعت (أنا و) أم مسطح (بنت أبي رهم) من المناصع (قبل بيتي) أي جهة منزلي وحجرتي (حين فرغنا من) قضاء (شأننا) وحاجتنا (فعثرت) بالفاء والعين والراء المفتوحين، أي زلقت (أم مسطح في مرطها) أي في كسائها والمرط بكسر الميم وسكون الراء الكساء من صوف أو خز أو كتان أو إزار، وقال ابن فارس: ملحفة يؤتزر بها، وقال الهروي: المروط الأكسية، وضبطه ابن التين المرط بفتح الميم كذا في عمدة القاري.

ثم ظاهر هذا الحديث أن أم مسطح إنما عثرت بعد أن قضت عائشة حاجتها ولكن وقع في رواية هشام بن عروة عند البخاري رقم [4757](خرجت لبعض حاجتي ومعي أمُّ مسطح فعثرت وقالت: تعس مسطح، فقلت لها: أي أُم مسطح تسبين ابنك؟ وسكتت ثم عثرت الثانية فقالت تعس مسطح فقلت لها تسبين ابنك؟ ثم عثرت الثالثة فقالت تعس مسطح فانتهرتها فقالت: والله ما أسبه إلَّا فيك فقلت: في أي شأني قالت فنقرت لي الحديث فقلت: وقد كان هذا؟ قالت نعم والله فرجعت إلى بيتي كأن الذي خرجت له لا أجد منه قليلًا ولا كثيرًا) وكذلك وقع في رواية ابن إسحاق (فوالله ما قدرت أن أقضي حاجتي) وفي رواية ابن أبي أويس (فذهب ما كنت أجد من الغائط فرجعت عودي على بدئي) فهذه الروايات تدل على أنَّ أُمَّ مسطح عثرت في طريقهما إلى المناصع فرجعت عائشة رضي الله تعالى عنها دون أن تقضي حاجتها .. وجمع بينهما الحافظ بأن المراد من قولها في حديث الباب، وقد فرغنا من شأننا أي من شأن المسير لا من قضاء الحاجة وهو جمع مستبعد لأن لفظ حديث الباب صريح أنهما حين عثرت أم مسطح كانتا راجعتين على البيت فالتعارض بين هذه الرواية والروايات الأخرى واضح ولم أقف على طريق الجمع بينهما إلَّا أن يقال: إن أحد الرواة في حديث الباب وهم في تفصيل القصة والله سبحانه وتعالى أعلم اه من التكلمة.

(فقالت) أُمُّ مسطح (تعس) بكسر العين وبفتحها لغتان مشهورتان (مسطح) أي أكبه الله على وجهه أو كَبَّ أو هلك أو لزمه الشر أو بعد، قالت عائشة:(فقلت لها) أي لأم

ص: 308

بِئْسَ مَا قُلْتِ. أَتَسُبِّينَ رَجُلًا قَدْ شَهِدَ بَدْرًا. قَالَتْ: أَيْ هَنْتَاهُ، أَوَ لَمْ تَسْمَعِي مَا قَالَ؟ قُلْتُ: وَمَاذَا قَالَ؟ قَالَتْ، فَأَخْبَرَتْنِي بِقَوْلِ أَهْلِ الإِفْكِ. فَازْدَدْتُ مَرَضًا إِلَى مَرَضِي. فَلَمَّا رَجَعْتُ إِلَى بَيْتِي، فَدَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم. فَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ:"كَيفَ تِيكُمْ؟ " قُلْتُ: أَتَأْذَنُ لِي أَنْ آتِيَ أَبَوَيَّ؟

ــ

مسطح (بئس) وقبح (ما قلت) في ابنك يا أُمَّ مسطح (أتسبين) وتشتمين (رجلًا قد شهد بدرًا) أي غزوتها أي تدعين عليه بالهلاك (قالت) لي أم مسطح: (أي هنتاه) بفتح الهاء الأولى وسكون الأخيرة أي يا هذه (أ) تقولين ذلك (ولم تسمعي ما قال) مسطح، قالت عائشة (قلت) لها:(وماذا قال) أي وأيُّ شيء قال (قالت) عائشة: (فأخبرتني) أم مسطح (بقول أهل الإفك) قالت عائشة: (فازددت مرضًا) بما سمعته منها (إلى مرضي) الأول. قوله: (أي هنتاه) بفتح الهاء وسكون النون وفتحها والسكون أشهر وتُضم الهاء الأخيرة وتسكن على أنها هاء سكت، ومعناها يا هذه، وقيل يا مرأة، وقيل: يا بلهى كأنها نسبت إلى قلة المعرفة بمكايد الناس وشرورهم ثم صيغة النداء هذه تختص بنداء البعيد وتستعمل للقريب حيث ينزل منزلة البعيد، قال القسطلاني: أي يا هذه نداء للبعيد فخاطبتها خطاب البعيد لكونها نسبتها إلى البله وقلة المعرفة بمكايد النساء. هذا ملخص ما في العمدة والفتح وإعرابه أي حرف نداء هنتاه منادى نكرة مقصودة في محل النصب مبني على الضم أو مبني بضم مقدر على الألف إن قلنا إن الهاء الأخيرة للسكت.

وقال ابن أبي جمرة: يحتمل أن يكون قول أم مسطح تعس مسطح عمدًا لتتوصل به إلى إخبار عائشة بما قيل فيها وهي غافلة، ويحتمل أن يكون اتفاقًا أجراه الله على لسانها لتستيقظ عائشة عن غفلتها عما قيل فيها، قوله:(فأخبرتني بقول أهل الإفك) وفي رواية ابن أبي أويس عند أبي عوانة والطبراني (إن مسطحًا وفلانًا وفلانًا يجتمعون في بيت عبد الله بن أُبي يتحدثون عنك وعن صفوان يرمونك به). قوله: (فازددت مرضًا إلى مرضي) وفي رواية هشام عند البخاري وعند الطبراني بإسناد صحيح عن أيوب عن أبي مليكة عن عائشة قالت: لما بلغني ما تكلموا به هممت أن آتي قليبًا فأطرح نفسي فيه. (قالت) عائشة كما هو ثابت في رواية البخاري (فلما رجعت إلى بيتي) أي واستَقْرَيتُ فيه (فدخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم الفاء زائدة في جواب لما (فسلم) على من في البيت (ثم قال كيف تيكم؟ قلت) جواب لما (أتأذن لي أن آتي أبويّ) وفي رواية هشام عند البخاري فقلت:

ص: 309

قَالَتْ، وَأَنَا حِينَئِذٍ أُرِيدُ أَنْ أَتَيَقَّنَ الْخَبَرَ مِنْ قِبَلِهِمَا. فَأَذِنَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم. فَجِئْتُ أَبَوَيَّ فَقُلْتُ لأُمِّي: يَا أُمَّتَاهْ، مَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ؟ فَقَالَتْ: يَا بُنَيَّةُ، هَوِّنِي عَلَيْكِ. فَوَاللهِ، لَقَلَّمَا كَانَتِ امْرَأَةٌ قَطُّ وَضِيئَةٌ عِنْدَ رَجُلٍ يُحِبُّهَا، وَلَهَا ضَرَائِرُ، إِلَاّ كَثَّرْنَ عَلَيْهَا،

ــ

(أرسلني إلى بيت أبي فأرسل معي الغلام)(قالت) عائشة: (وأنا حينئذٍ) أي حين إذ استأذنته (أريد أن أتيقن) هذا (الخبر) وأتثبت فيه تعني خبر أهل الإفك (من قبلهما) أي من جهتهما (فأذن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم في إتيان أبويّ (فجئت أبوي فقلت لأمي) أم رومان (يا أمتاه) بسكون الهاء زيدت للندبة أو للوقف (ما يتحدث الناس) به أي أيَّ شيء يتحدثون به (فقالت) أمي: (يا بنية) تصغير بنت تصغير شفقة (هوِّني) الأمر (عليك) أي أمر الإفك فلا تهلك نفسك بالهمِّ، وفي رواية هشام (خففي عليك الشأن)(فوالله لقلّما) واللام فيه رابطة لجواب القسم مؤكدة له وقل فعل ماض من الأفعال الأربعة المكفوفة عن الفاعل بدخول ما الكافة عليها وهي قلما كثرما طالما قصرما وما كافة لها عن الفاعل وتكون قل للنفي (كانت) فعلى ماضٍ ناقص (امرأة) اسمها (قط) ظرف مستغرق لما مضى من الزمان ملازمة للنفي متعلق بكان (وضيئة) أي حسنة جميلة من الوضاءة وهو الجمال صفة لامرأة وفي نسخة لمسلم (حظية) أي ذات منزلة ووجاهة عند زوجها (عند رجل) خبر كان (يحبها) صفة رجل (ولها) خبر مقدم (ضرائر) مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية حال من الضمير المنصوب في يحبها (إلا كثرن) تلك الضرائر أو أصدقاء تلك الضرائر أو نساء زمانها أي إلَّا كثرن القول (عليها) أي على تلك المرأة الوضيئة أي القول في نقصها وعيبها والمعنى ما كانت قط امرأة وضيئة عند رجل يحبها والحال أن لها ضرائر إلَّا أكثرن تلك الضرائر أو أصحابها القول فيها بالعيب والنقص، ويحتمل كون ما في قلما مصدرية وجملة كان في تأويل مصدر فاعل قل وقط زائدة لعدم النفي في قل والمعنى قل كون امرأة وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلَّا أكثرن القول فيها بالعيب والنقص.

قوله: (ولها ضرائر) جمع ضرة، وزوجات الرجل ضرائر لأن كل واحدة تتضرر بالأخرى بالغيرة والقسم وغيره والاسم منه الضِرُّ بكسر الضاد وحُكي ضمها. وقوله:(إلَّا كثرن) أي إلَّا أكثرن نساء زمانها القول في عيبها ونقصها فيكون الاستثناء منقطعًا أو

ص: 310

قَالَتْ: قُلْتُ: سُبْحَانَ اللهِ، وَقَدْ تَحَدَّثَ النَّاسُ بِهَذَا؟ قَالَتْ، فَبَكَيْتُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ حَتَّى أَصْبَحْتُ لَا يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ وَلَا أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ. ثُمَّ

ــ

أكثرن بعض أتباع تلك الضرائر القول فيها كحمنة بنت جحش أخت زينب أم المؤمنين فإن الحامل لها على القول كون عائشة ضرة أختها فيكون الاستثناء متصلًا لأن أمهات المؤمنين لم يقلن فيها شيئًا نظير قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ} فأطلق الإياس على الرسل والمراد بعض أتباعهم ولم تقصد أم رومان بقولها ولها ضرائر إلَّا أكثرن عليها قصة عائشة بنفسها وإنما ذكرت شأن الضرائر في العادة، وأما ضرائر عائشة وإن لم يصدر منهن شيء من القول فقد حصل ذلك ممن هو من أتباعهن كحمنة بنت جحش وأرادت أمها بذلك أن تهوِّن عليها بعض ما سمعت اه قسطلاني، قال الحافظ في الفتح: وفي هذا الكلام من فطنة أمها وحُسن تأتيها في تربيتها ما لا مزيد عليه فإنها علمت أن ذلك يعظم عليها فهونت عليها الأمر بإعلامها بأنها لم تنفرد بذلك لأن المرء يتأسى بغيره فيما يقع له وأدمجت في ذلك ما تطيب به خاطرها من أنها فائقة في الجمال والحظوة وذلك مما يعجب المرأة أن توصف به مع ما فيه من الإشارة إلى ما وقع من حمنة بنت جحش وأن الحامل على ذلك كون عائشة ضرة أختها زينب بنت جحش وأما ضرائرها فإنهن وإن لم يقع منهن في حقها شيء مما يصدر من الضرائر لكن وقع ذلك ممن لهن تبع كما وقع في حمنة لأن ورع أختها زينب منعها من القول في عائشة كما منع بقية أمهات المؤمنين وإنما اختصت زينب بالذكر لأنها التي كانت تضاهي عائشة في المنزلة اه منه.

(قالت) عائشة (قلت) لأمي: (سبحان الله) صيغة تعجب من قول الناس فيها ما قالوا مع براءتها أي عجبًا لله، قال القسطلاني: تعجبت من وقوع مثل ذلك في حقها مع تحققها براءتها اه (وقد تحدث الناس بهذا) الإفك (قالت) عائشة: (فبكيت تلك الليلة) في بيت أمي (حتى أصبحت لا يرقأ) أي لا ينقطع (لي دمع ولا أكتحل) عيني (بنوم) لأن الهموم موجبة للسهر وسيلان الدموع، وفي رواية هشام بن عروة عند البخاري فاستعبرت فبكيت فسمع أبو بكر صوتي وهو فوق البيت يقرأ فقال لأمي ما شأنها؟ فقالت: بلغها الذي ذُكر من شأنها ففاضت عيناه، فقال: أقسمت عليك يا بنية إلَّا رجعت إلى بيتك، فرجعت ففي رواية مسلم حذف ما علم من رواية البخاري (ثم) رجعت إلى بيتي وبت

ص: 311

أَصْبَحْتُ أَبْكِي. وَدَعَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَأُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ حِينَ اسْتَلْبَثَ الْوَحْيُ. يَسْتَشِيرُهُمَا فِي فِرَاقِ أَهْلِهِ. قَالَتْ: فَأَمَّا أُسَامَةُ بْنُ زيدٍ فَأَشَارَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِالَّذِي يَعْلَمُ مِنْ بَرَاءَةِ أَهْلِهِ، وَبِالَّذِي يَعْلَمُ فِي نَفْسِهِ لَهُمْ مِنَ الْوُدِّ. فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، هُمْ أَهْلُكَ وَلَا نَعْلَمُ إِلَاّ خَيْرًا. وَأَمَّا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ: لَمْ يُضَيِّقِ اللهُ عَلَيْكَ. وَالنِّسَاءُ سِوَاهَا كَثِيرٌ

ــ

تلك الليلة لا يرقأ لي دمع حتى (أصبحت أبكي ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد) بن حارثة حين استلبث الوحي أي أبطأ وتأخر نزوله حالة كونه (يستشيرهما في فراق أهله) تعني نفسها (قالت) عائشة: (فأما أسامة بن زيد فأشار على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذي يعلم من براءة أهله) مما يقوله أهل الإفك (وبالذي يعلم) ويعتقد (في نفسه) أي في قلبه (لهم) أي لأهله صلى الله عليه وسلم متعلق بيعلم وقوله: (من الود) بيان للموصول (فقال) أسامة: (يا رسول الله هم أهلك) العفائف اللائقات بك، وعبّر بالجمع إشارة إلى تعميم أمهات المؤمنين بالوصف المذكور أو أراد تعظيم عائشة (ولا نعلم) فيهم (إلَّا خيرًا) أي براءة مما يقوله الناس، ومعنى (هم أهلك) أي أن عائشة رضي الله تعالى عنها عفيفة لائقة بأن تكون أهلك، ووقع في بعض الروايات (أهلك) بالنصب بدون (هم) فهو مفعول لمحذوف تقديره أمسك أهلك ولا تسمع فيها أحدًا (وأما علي بن أبي طالب فقال): يا رسول الله (لم يُضيّق الله عليك والنساء سواها كثير) بلفظ التذكير على إرادة الجنس وفعيل يستوي فيه المذكر والمؤنث إفرادًا وجمعًا، وقال ذلك لما رأى منه صلى الله عليه وسلم من شدة القلق فرأى أن بفراقها يسكن ما عنده بسببها فإذا تحقق براءتها فيراجعها اه قسطلاني.

قال النووي: هذا الذي قاله علي رضي الله عنه هو الصواب في حقه لأنه رآه مصلحة ونصيحة للنبي صلى الله عليه وسلم في اعتقاده ولم يكن ذلك في نفس الأمر لأنه رأى انزعاج النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الأمر وتقلقله فأراد إراحة خاطره وكان ذلك أهم من غيره، وقال الحافظ في الفتح: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم شديد الغيرة فرأى علي أنه إذا فارقها سكن ما عنده من القلق بسببها إلى أن يتحقق براءتها فيمكن رجعتها، وقال ابن أبي جمرة: لم يجزم علي بالإشارة بفراقها لأنه عقب ذلك بقوله:

ص: 312

وَإِنْ تَسْأَلِ الْجَارِيَةَ تَصْدُقْكَ. قَالَتْ: فَدَعَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَرِيرَةَ فَقَالَ: "أَيْ بَرِيرَةُ، هَلْ رَأَيْتِ مِنْ شَيءٍ يَرِيبُكِ مِنْ عَائِشَةَ؟ " قَالَتْ لَهُ بَرِيرَةُ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، إِنْ رَأَيْتُ عَلَيْهَا أَمْراَ قَطُّ أَغْمِصُهُ عَلَيْهَا،

ــ

وسل الجارية تصدقك، ففوض الأمر في ذلك إلى نظر النبي صلى الله عليه وسلم فكأنه قال: إن أردت تعجيل الراحة ففارقها وإن أردت خلاف ذلك فابحث عن حقيقة الأمر إلى أن تطلع على براءتها لأنه كان يتحقق أن بريرة لا تخبره إلَّا بما علمته وهي لم تعلم من عائشة إلَّا البراءة المحضة اه.

ثم قال علي رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (وإن تسأل الجارية) أي بريرة عن حالها (تصدقك) الجارية أي تخبرك كلامًا صادقًا في شأنها وهو مجزوم على أنه جواب لإن الشرطية (فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة) مولاة عائشة رضي الله تعالى عنهما، واستشكل قوله الجارية بريرة بأن قصة الإفك قبل شراء بريرة وعتقها لأنه كان بعد فتح مكة في السنة التاسعة أو العاشرة لأن بريرة لما خُيرت واختارت نفسها كان زوجها مغيث يتبعها في سكك المدينة يبكي عليها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس:"يا عباس ألا تعجب من حب مغيث بريرة" والعباس إنما سكن المدينة بعد رجوعهم من الطائف في أواخر سنة ثمان وذلك رد على ابن القيم حيث قال تسميتها بريرة وهم من بعض الرواة فإن عائشة إنما اشترت بريرة بعد الفتح ولما كاتبتها عقيب شرائها وعتقت خُيرت فاختارت نفسها فظن الراوي أن قول علي وإن تسأل الجارية تصدقك أنها بريرة فغلط قال وهذا نوع غامض لا يتنبه له إلَّا الحذاق اه وتبعه الزركشي فقال إن تسمية الجارية بريرة مدرجة من بعض الرواة وأنها جارية أخرى وأجاب السبكي بأجوبة أحسنها احتمال أنها كانت تخدم عائشة قبل شرائها وهذا أولى من دعوى الإدراج وتغليط الحفاظ اه قسطلاني (قالت) عائشة: (فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة فقال) لها (أي بريرة) أي يا بريرة (هل رأيت من شيء) أي شيئًا (يريبك) أي يُشَكِّكُكِ فيما قالوا لها (من عائشة؟ قالت له) صلى الله عليه وسلم (بريرة) مجيبة له على العموم نافية عنها كل نقص (والذي بعثك بالحق إن رأيت) أي ما رأيت فإن نافية (عليها) أي على عائشة (أمرًا) أي شيئًا (قط) أي فيما مضى من عمري (أغمصه) أي أعيبه (عليها) بفتح الهمزة وسكون المعجمة وكسر الميم وصاد مهملة صفة لأمرًا أي أمر أعيبه في

ص: 313

أَكْثَرَ مِنْ أَنَّهَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ، تَنَامُ عَنْ عَجِينِ أَهْلِهَا، فَتَأْتِي الدَّاجِنُ فَتَأْكُلُهُ. قَالَتْ، فَقَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمِنْبَرِ. فَاسْتَعْذَرَ مِنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيِّ ابْنِ سَلُولَ. قَالَتْ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ: "يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، مَنْ يَعْذِرُنِي مِنْ رَجُلٍ قَدْ بَلَغَ أَذَاهُ فِي أَهْلِ بَيتِي. فَوَاللهِ، مَا عَلِمْتُ عَلَى أَهْلِي إِلَاّ خَيْرًا. وَلَقَدْ ذَكَرُوا رَجُلًا

ــ

جميع أمورها (أكثر) أي أمر أكثر (من أنها جارية) أي بنت (حديثة السن) أي صغيرة (تنام عن عجين أهلها) لصغر سنها ورطوبة بدنها (فتأتي الداجن) أي الشاة المعلوفة في البيت (فتأكله) أي فتأكل الداجن العجين الذي وكلت بحفظه لكثرة نومها، والداجن بدال مهملة وبعد الألف جيم مكسورة فنون آخره الشاة التي تقتنى في البيت وتعلف فيه ولا تخرج إلى المرعى وقد يطلق على غيرها مما يألف البيوت من الطير وغيره، والعجين الدقيق المعجون بالماء ولفظ رواية مقسم عن عائشة عند أبي عوانة والطبراني (ما رأيت منها مذ كنت عندها إلَّا أني عجنت عجينًا لي فقلت احفظي هذه العجينة حتى أقتبس نارًا لأخبزها فغفلت فجاءت الشاة فأكلتها).

(قالت) عائشة: (فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر فاستعذر) بالذال المعجمة أي طلب أن يعذر ويسمح له في انتقامه (من عبد الله بن أبي ابن سلول) ولا يلام على الانتصار منه (قالت) عائشة (فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في استعذاره (وهو) صلى الله عليه وسلم (على المنبر يا معشر المسلمين من يعذرني) ويسمح لي ولا يلومني في الانتقام (من رجل قد بلغ أذاه) أي إذايته (في أهل بيتي) الغاية القصوى، وقوله:(من يعذرني) بفتح أوله وكسر المعجمة من باب ضرب أي من يقيم عذري إن كافأته على قبيح فعله أو ينصرني (من رجل) يريد ابن أبي، وفي رواية البخاري (قد بلغني أذاه) بنون الوقاية في أهل بيتي أي في زوجتي، قال القاضي: فيه شكوى السلطان غيره ممن يؤذيه، ومعنى من يعذرني أي من يقوم بعذري إن كافأته على سوء صنيعه ولا يلومني اه وقال بعضهم: من ينصرني والعذير الناصر (فوالله ما علمت على) ولأبي ذر في (أهلي إلَّا خيرًا) أي إلَّا براءة مما قالوا فيها (ولقد ذكروا) أي ذكر أهل الإفك في رميها (رجلًا) يعني صفوان بن معطل رضي الله عنه، وزاد الطبري في روايته (صالحًا) ووقع في رواية أبي أويس عند أبي عوانة والطبراني وكان صفوان بن معطل قعد لحسان فضربه ضربة قوية بالسيف وهو يقول:

ص: 314

مَا عَلِمْتُ عَلَيْهِ إِلَاّ خَيْرًا. وَمَا كَانَ يَدْخُلُ عَلَى أَهْلِي إِلَاّ مَعِي" فَقَامَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ الأَنْصَارِيُّ فَقَالَ: أَنَا أَعْذِرُكَ مِنْهُ يَا رَسُولَ اللهِ، إِنْ كَانَ مِنَ الأَوْسِ ضَرَبْنَا عُنُقَهُ. وَإِنْ كَانَ مِنْ إِخْوَانِنَا الْخَزْرَجِ أَمَرْتَنَا فَفَعَلْنَا أَمْرَكَ. قَالَتْ، فَقَامَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، وَهُوَ سَيِّدُ الْخَزْرَجِ، وَكَانَ رَجُلًا صَالِحًا. وَلكِنِ اجْتَهَلَتْهُ الْحَمِيَّةُ

ــ

تلق ذباب السيف مني فإنني

غلام إذا هوجيت لست بشاعر

فصاح حسان ففر صفوان فاستوهب النبي صلى الله عليه وسلم من حسان ضربة صفوان فوهبها له (ما علمت عليه إلَّا خيرًا) أي براءة مما قالوا فيه (وما كان) ذلك الرجل (يدخل على أهلي إلَّا معي فقام سعد بن معاذ الأنصاري) واستشكل كون سعد بن معاذ حاضرًا في قصة الإفك لأنه مات بعد الأحزاب متصلًا عند غزوة بني قريظة وكانت غزوة الخندق سنة أربع عند أكثر أصحاب السير وسنة خمس عند الواقدي وعلى كلا التقديرين كانت الأحزاب قبل غزوة المريسيع التي وقع فيها قصة أهل الإفك فكيف يكون سعد بن معاذ حاضرًا فيها؟ وأجاب العلماء عن هذا الإشكال بطرق مختلفة منها إن ذكر سعد بن معاذ في هذه الرواية وهم من أحد الرواة وإنما وقعت المكالمة هنا بين أسيد بن حضير الأوسي وبين سعد بن عبادة الخزرجي وبهذا جزم ابن حزم وابن عبد البر وابن العربي والقرطبي والقاضي عياض رحمهم الله تعالى كما في عمدة القاري [6/ 266] ورجح الحافظ ابن حجر نفسه أن كلًا من غزوة المريسيع والخندق وقعت سنة خمس (وما ذكره البخاري عن موسى بن عقبة من أن المريسيع وقعت سنة أربع سبق قلم) فيمكن أن تكون المريسيع وقعت قبل الأحزاب وحينئذٍ فلا إشكال في كون سعد بن معاذ حاضرًا في قصة الإفك والله أعلم، وقيل غير ذلك مما يطول بذكره الكلام (فقال) سعد:(أنا أعذرك) أي أنتقم لك (منه) أي من ذلك الرجل (يا رسول الله إن كان) ذلك الرجل (من الأوس) قبيلتنا (ضربنا عنقه) لأن حكمه فيهم نافذ إذ كان سيدهم ولأن من آذاه صلى الله عليه وسلم وجب قتله (وإن كان) ذلك الرجل (من إخواننا الخزرج أمرتنا) فيه بما شئت (ففعلنا) فيه (أمرك) فيه من القتل أو الجلد (قالت) عائشة: (فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج) بعد فراغ ابن معاذ من مقالته (وكان) ابن عبادة قبل ذلك (رجلًا صالحًا ولكن اجتهلته) في ذلك اليوم أي حملته (الحمية) أي العصبية من مقالة ابن معاذ على قول الجهل وأغضبته، قال النووي: كذا وقع لمعظم رواة مسلم (اجتهلته) بالجيم والهاء أي استخفته وأغضبته وحملته على الجهل، وفي رواية ابن ماهان (احتملته) بالحاء والميم

ص: 315

فَقَالَ لِسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ: كَذَبْتَ. لَعَمْرُ اللهِ، لَا تَفتُلُهُ وَلَا تَقْدِرُ عَلَى قَتْلِهِ. فَقَامَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ، وَهُوَ ابْنُ عَمِّ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، فَقَالَ لِسَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ: كَذَبْتَ

ــ

وكذا رواه مسلم بعد هذا من رواية يونس وصالح وكذا رواه البخاري ومعناه أغضبته فالروايتان صحيحتان كذا في شرح النووي (فقال) سعد بن عبادة (لسعد بن معاذ كذبت) يا ابن معاذ (لعمر الله) قسمي بفتح العين أي بقاء الله قسمي (لا تقتله) أي لا تقتل ذلك الرجل بنفسك (ولا تقدر على قتله) بأمر النبي صلى الله عليه وسلم لأنا نمنعك منه بل نقتله إن كان منا بأمر النبي صلى الله عليه وسلم إن أمرنا بقتله ولا سيطرة لك على الخزرج ولم يرد ابن عبادة الرضا بقول ابن أبي لكن كان بين الحيين مشاحنة زالت بالإسلام وبقي بعضها بحكم الأنفة فتكلم ابن عبادة بحكم الأنفة والعصبية ونفى أن يحكم فيه ابن معاذ، وليس المراد أنك لا تقدر على قتله ولو أمرك النبي صلى الله عليه وسلم بقتله وحاشا سعد بن عبادة أن يقصد ذلك، وإنما المراد كما قال ابن التين عن الداودي أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يجعل حكمه إليك فلا تقدر على قتله، وأما قوله كذبت فالمراد منه قوله:(إن كان من الأوس ضربنا عنقه) فنسبه إلى الكذب في هذه الدعوى وأنه يقتله إن كان رهطه مطلقًا وأنه إن كان من غير رهطه إن أُمر بقتله قتله وإلا فلا فكأنه قال له بل الذي تعتقده على العكس مما نطقت به وأنه لو كان من رهطك ما أحببت أن يُقتل ولكنه كان من غير رهطك فأنت تحب أن يُقتل، وفي رواية ابن إسحاق فقال سعد بن عبادة لابن معاذ ما قلت هذه المقالة إلَّا أنك علمت أنه من الخزرج.

والحاصل أن سعد بن عبادة قد فهم من كلام سعد بن معاذ رضي الله تعالى عنهما أنه انتهز هذه الفرصة للحمل على الخزرج لأنه كان يعلم أن من ارتكب القذف في هذه الواقعة يتعلق بالخزرج فأشار على رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله وإنما جاء بذكر الأوس توطئة لكلامه لئلا ينسب إليه أنه يشير بقتل أحد من الخزرج فرد كلام سعد بن معاذ بناءً على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر بقتله بعد وكأن هذا الزعم من سعد بن عبادة مبني على ما كان بينهم في الجاهلية من الضغائن وأن الإسلام وإن كان نجاهم منها ولكن كانت تظهر بعض آثارها في بعض الوقائع على مقتضى البشرية والله تعالى أعلم اه من التكملة.

(فقام أً سيد بن حضير) بالتصغير فيهما الأنصاري الأوسي (وهو ابن عم سعد بن معاذ) الأوسي من رهطه فقال أسيد (لسعد بن عبادة) الخزرجي: (كذبت) يا ابن عبادة

ص: 316

لَعَمْرُ اللهِ، لَنَقْتُلَنَّهُ. فَإِنَّكَ مُنَافِقٌ تُجَادِلُ عَنِ الْمُنَافِقِينَ. فَثَارَ الْحَيَّانِ الأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ. حَتَّى هَمَّوا أَنْ يَقْتَتِلُوا. وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَائِمٌ عَلَى الْمِنْبَرِ. فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُخَفِّضُهُمْ حَتَّى سَكَتُوا وَسَكَتَ. قَالَتْ: وَبَكَيْتُ يَوْمِي ذلِكَ. لَا يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ وَلَا أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ. ثُمَّ بَكَيْتُ لَيْلَتِيَ الْمُقْبِلَةَ. لَا يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ وَلَا أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ. وَأَبَوَايَ يَظُنَّانِ أَنَّ الْبُكَاءَ فَالِقٌ كَبِدِي. فَبَيْنَمَا هُمَا

ــ

(لعمر الله لنقتلنه) بالنون ولو كان من الخزرج رهطك إذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم (فإنك) يا ابن عبادة (منافق تجادل) أي تخاصم وتدافع (عن المنافقين) تفسير لقوله فإنك منافق فليس المراد بقوله إنك منافق نفاق الكفر، قال المازري: إن ذلك وقع منه على جهة الغيظ والمبالغة في زجر سعد بن عبادة عن المجادلة لابن أبي وغيره ولم يرد النفاق الذي هو إظهار الإسلام وإبطان الكفر ولعله صلى الله عليه وسلم إنما ترك الإنكار عليه لذلك اه، قوله:(تجادل عن المنافقين) لم يثبت عن سعد بن عبادة رضي الله عنه أنه دافع عن ابن أبي ولا يتصور من مثله ذلك وإنما قال ما قال ردًا على ما فهم من كلام سعد بن معاذ من الحمل على الخزرج ومراد أسيد بن حضير أن نتيجة كلامه أن ينفع المنافقين الذين تولوا قذف عائشة رضي الله تعالى عنها (فثار) أي قام ونهض (الحيّان الأوس والخزرج) أي تناهضوا للنزاع والعصبية وتواثبوا أي نهض بعضهم إلى بعض من الغضب (حتى همّوا) وقصدوا (أن يقتتلوا ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخفضهم) أي يأمرهم بخفض الأصوات وجلوس كل في محله (حتى سكتوا) أي سكت الحيّان (وسكت) رسول الله صلى الله عليه وسلم (قالت) عائشة: (وبكيت يومي ذلك) الذي قام فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر حالة كوني (لا يرقأ لي) أي لا ينقطع عني (دمع) يقال: رقأ الدمع إذا انقطع (ولا أكتحل بنوم) أي لا أنام أصلًا قليلًا ولا كثيرًا وهي استعارة جيدة كأنها قالت لم يأتني النوم حتى بمقدار ما يكون الكحل في عين المكتحل (ثم بكيت ليلتي المقبلة) لذلك اليوم (لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم وأبواي) أي أبي وأمي (يظنان أن البكاء فالق) أي شاق كبدي) لكثرته أي أن كبدي انشق بسبب حزني وبكائي (فبينما) بميم (هما) أي

ص: 317

جَالِسَانِ عِنْدِي، وَأَنَا أَبْكِي، اسْتَأْذَنَتْ عَلَيَّ امْرَأَةٌ مِنَ الأَنْصَارِ فَأَذِنْتُ لَهَا. فَجَلَسَتْ تَبْكِي. قَالَتْ: فَبَيْنَا نَحْنُ عَلَى ذلِكَ دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم. فَسَلَّمَ ثُمَّ جَلَسَ. قَالَتْ، وَلَمْ يَجْلِسْ عِنْدِي مُنْذُ قِيلَ لِي مَا قِيلَ. وَقَدْ لَبِثَ شَهْرًا لَا يُوحَى إِلَيْهِ فِي شَأْنِي بِشَيْءٍ. قَالَتْ: فَتَشَهَّدَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ جَلَسَ ثُمَّ قَالَ: "أَمَّا بَعْدُ. يَا عَائِشَةُ، فَإِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي عَنْكِ كَذَا وَكَذَا. فَإِنْ كُنْتِ بَرِيئَةً فَسَيُبَرِّئُكِ اللهُ. وَإِنْ كُنْتِ أَلْمَمْتِ بِذَنْبٍ. فَاسْتَغْفِرِي

ــ

أبواي (جالسان عندي) في بيتي (وأنا أبكي) جملة حالية (استأذنت) جواب بينما أي طلبت الإذن في الدخول (عليّ امرأة من الأنصار) لم أر من ذكر اسمها (فأذنت لها) في الدخول فدخلت (فجلست) المرأة حالة كونها (تبكي) معي تحزنًا على (قالت) عائشة: (فبينا نحن) أي أنا وأبواي وتلك المرأة كائنون (على ذلك) الحال من بكائي وبكاء المرأة معي وجلوس أبويّ معي (دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي رواية هشام المذكورة (دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد صلى العصر وقد اكتنفني أبواي عن يميني وعن شمالي) وفي رواية ابن حاطب عند الطبري (وقد جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جلس على سرير وجاهي) وفي حديث أم رومان عند البخاري في المغازي رقم [4143] فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "ما شأن هذه؟ " قلت يا رسول الله أخذتها الحمى بنافض، وقال: فلعل في حديث تحدث به قالت نعم فقعدت عائشة اه من التكلمة (فسلم) علينا (ثم جلس، قالت) عائشة: (ولم يجلس) رسول الله صلى الله عليه وسلم (عندي مذ قيل لي ما قيل) أي بعدما قيل فيّ ما قيل من الإفك غير تلك الجلسة (و) الحال أنه (قد لبث) ومكث (شهرًا) كاملًا (لا يُوحى إليه في) بيان (شأني) وأمرى الذي نزل بي من إفك أهل الإفك (بشيء) من البيان والحكم (قالت) عائشة: (فتشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أي قال بالشهادتين (حين جلس) عندنا (ثم قال: أما بعد يا عائشة فإنه) أي فإن الشأن والحال (قد بلغني عنك) أي من جهتك (كذا وكذا) كناية عما رماها به أهلى الإفك، وهذا يدل على أن كذا وكذا يكنى بها عن الأحوال كما يكنى بها عن الأعداد اه مفهم (فإن كنت بريئة) أي خالصة من ذلك الإفك (فسيبرئك الله) سبحانه أي يظهر الله براءتك من ذلك الإفك قريبًا بوحي ينزله (وإن كنت ألممت) واقترفت (بذنب) أي وقع منك مخالفًا لعادتك (فاستغفري

ص: 318

اللَّهَ وَتُوبِي إِلَيْهِ. فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا اعْتَرَفَ بذَنْبٍ ثُمَّ تَابَ، تَابَ اللهُ عَلَيهِ" قَالَتْ: فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَقَالَتَهُ، قَلَصَ دَمْعِي حَتَّى مَا أُحِسُّ مِنْهُ قَطْرَةً. فَقُلْتُ لأَبِي: أَجِبْ عَنِّي رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِيمَا قَالَ، فَقَالَ: وَاللَّهِ، مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم. فَقُلْتُ لأُمِّي: أَجِيبِي عَنِّي رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم. فَقَالَتْ: وَاللهِ مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم

ــ

الله) تعالى (وتوبي إليه) منه. قوله (ألممت) من الإلمام وهو النزول النادر غير المتكرر، وقال الكرماني: أي فعلت ذنبًا مع أنه ليس من عادتك اه عيني، وقال في المصباح: اللمم بفتحتين مقاربة الذنب، وقيل هو الصغائر، وقيل هو فعل الصغيرة ثم لا يعاوده كالقُبلة ويقال ألم بالذنب فعله وألم الشيء قرب اه (فإن العبد إذا اعترف) وأقر على نفسه (بذنب ثم تاب) منه، فيه دليل على أن مجرد الاعتراف لا يغني عن التوبة بل إذا اعترف به متصلًا نادمًا اه مفهم (تاب الله عليه) أي قبل توبته المستكملة للشروط، قال الداودي: أمرها بالاعتراف ولم يندبها إلى الكتمان المفرق بين أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهن فيجب على أزواجه الاعتراف بما يقع منهن ولا يكتمنه إياه لأنه لا يحل لنبي إمساك من يقع منها ذلك بخلاف نساء الناس فإنهن ندبن إلى الستر لأنفسهن مع التوبة منه (قالت) عائشة: (فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته) تلك (قلص) بالقاف واللام والصاد المهملة أي انقطع مني (دمعي) واستمسك نزوله (حتى ما أحس) ولا أجد (منه قطرة) أي نقطة، قال القرطبي ومعنى قلص انقض وارتفع وإنما كان ذلك لأن الحزن والموجدة قد انتهت نهايتها وبلغت غايتها ومتى انتهى الأمر إلى ذلك جف الدمع لفرط حرارة المصيبة كما قال الشاعر:

عيني سُحّا ولا تشُحّا

جل مصابي عن الدواء

إن الأسى والبكا جميـ

ـعًا ضدان كالداء والدواء

اه من المفهم، ويحتمل أيضًا أنها لما سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم أنها إن كانت بريئة فسيبرئها الله قل حزنها وسكن جاشها فانقطع الدمع (فقلت لأبي أجب عني رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قال، فقال) أبي (والله ما أدري) ولا أعلم (ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأبي أويس (فقال: لا أفعل هو رسول الله صلى الله

ص: 319

فَقُلْتُ، وَأَنَا جَارِيةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ، لَا أَقْرَأُ كَثِيرًا مِنَ الْقُرْآنِ: إِنِّي، وَاللهِ، لَقَدْ عَرَفْتُ أَنَّكُمْ قَدْ سَمِعْتُنم بِهَذَا حَتَّى اسْتَقَرَّ فِي نُفُوسِكُمْ وَصَدَّقْتُمْ بِهِ. فَإِنْ قُلتُ لَكُمْ إِنِّي بَرِيئَةٌ، وَاللهُ يَعْلَمُ أَنِّي بَرِيئَةٌ، لَا تُصَدِّقُونِي بِذلِكَ. وَلَئِنِ اعْتَرَقتُ لَكُمْ بِأَمْرٍ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي بَرِيئَةٌ، لَتُصَدِّقُونَنِي. وَإِنِّي،

ــ

عليه وسلم والوحي يأتيه) قال الحافظ: إنما قالت عائشة لأبيها مع أن السؤال إنما وقع عما في باطن الأمر وهو لا اطلاع له على ذلك لكن قالته إشارة إلى أنها لم يقع منها شيء في الباطن يخالف الظاهر الذي هو يطلع عليه فكأنها قالت له: برئني بما شئت وأنت على ثقة من الصدق فيما تقول، وإنما أجابها أبو بكر بقوله: لا أدري، لأنه كان كثير الاتباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأجاب بما يطابق السؤال في المعنى ولأنه وإن كان يتحقق براءتها لكنه كره أن يزكّي ولده وكذا الجواب عن قول أمها: لا أدري اه، قال الأبي: وفي قولها: (أجب عني) .. إلخ دليل على تقديم الكبير للكلام في مهمات الأمور ومخاطبة أولى الأمر، وقولها:(ما ندري) لأن الأمر الذي سألها عنه لم يقفا منه على زائد على ما عند النبي صلى الله عليه وسلم قبل نزول الوحي إلَّا حسن الظن بها اه منه (فقلت لأمي أجيبي عني رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قال (فقالت) أمي: (والله ما أدري) ولا أعلم (ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم قالت عائشة (فقلت) أنا في جواب رسول الله صلى الله عليه وسلم (وأنا) أي والحال أني (جارية) أي بنت (حديثة السن) أي قليلة العمر وأنا أيضًا (لا أقرأ كثيرًا من القرآن) وهذا توطئة لعذرها في عدم استحضارها اسم يعقوب عليه السلام، وقوله:(إني والله) .. إلخ مقول قلت: (لقد عرفت) وتيقنت (أنكم قد سمعتم) وقبلتم (بهذا) الإفك الذي قيل فيّ (حتى استقر) ورسخ (في نفوسكم) أي في قلوبكم (وصدقتم به) أي بهذا الإفك، قيل مرادها من صدق به من أصحاب الإفك وضمت إليهم من لم يكذبهم تغليبًا (فإن قلت لكم إني بريئة) من هذا الإفك (والله) عز وجل (يعلم أني بريئة) منه، والجملة الاسمية معترضة بين إن الشرطية وجوابها اعترض بها لتأكيد الكلام (لا تصدقوني) فيما قلت لكم من براءتي ولا تقطعون (بذلك) أي بصدقي (ولئن اعترفت) وأقررت (لكم بأمر) أنا بريئة منه وأثبته على نفسي تعني ما قيل فيها من الإفك (والله) سبحانه (يعلم أني بريئة) منه (لتصدقونني) فيما أقررت لكم من قول أهل الإفك وحينئذٍ فالمرء مؤاخذ بإقراره (وإني

ص: 320

وَاللَّهِ، مَا أَجِدُ لِي وَلَكُمْ مَثَلًا إِلَاّ كَمَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ.

قَالَتْ: ثُمَّ تَحَوَّلْتُ فَاضْطَجَعْتُ عَلَى فِرَاشِي. قَالَتْ، وَأَنَا، وَاللهِ، حِينَئِذٍ أَعْلَمُ أَنِّي بَرِيئَةٌ. وَأَنَّ اللهَ مُبَرِّئِي بِبَرَاءتِي. وَلكِنْ، واللهِ، مَا كُنْتُ أَظُنُّ أَنْ يُنْزَلَ فِي شَأْنِي وَحْيٌ يُتْلَى. وَلَشَأْنِي كَانَ أَحْقَرَ فِي نَفْسِي مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ اللهُ عز وجل فِيَّ بَأَمْرٍ يُتْلَى

ــ

والله ما أجد لي ولكم مثلًا) أي شبهًا في سؤالكم وجوابي لكم (إلا كما قال أبو يوسف) عليهما السلام، وفي رواية أبي أويس (نسيت اسم يعقوب لما بي من البكاء واحتراق الجوف أي لا أجد لي في جواب سؤالكم إلَّا قولًا مثل قول أبي يوسف إذ قال لأولاده:(فصبر جميل) أي فصبري على ما قلتم صبر جميل لا جزع فيه (والله المستعان على ما تصفون) أي على ما تقولون من الكذب (قالت) عائشة (ثم) بعد مقالتي هذه (تحولت) أي تنقلت عن محل قعودي (فاضطجعت على فراشي) زاد ابن جريج ووليت وجهي نحو الجدار (قالت) عائشة: (وأنا والله حينئذٍ) أي حين إذ قلت تلك المقالة واضطجعت على الفراش (أعلم) أي أتيقن (أني بريئة) مما قال أهل الإفك (و) أعلم (أن الله) سبحانه (مبرئي) بميم مضمومة فموحدة مفتوحة فراء مشددة وهمزة مكسورتين فتحتية ساكنة أي مُظهر براءتي للناس (ببراءتي) أي بسبب براءتي مما قالوا حقيقة (ولكن) بتخفيف النون استدراك على قولها، وأعلم أن الله مُبرّئي (والله ما كنت أظن أن يُنزل في شأني وحي يُتلى) على رسول الله صلى الله عليه وسلم واللام في قولها (ولشأني) لام الابتداء (كان أحقر) وأهون (في نفسي) وقلبي (من أن يتكلم الله عز وجل فيّ) أي في بيان شأني وبراءتي (بأمر) أي بقرآن (يُتلى) أي يُقرأ على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى الناس إلى يوم القيامة.

قال القرطبي: وهذا الذي قالته عائشة دليل على أن الذي يتعين على أهل الفضل والعلم والعبادة والمنزلة احتقار أنفسهم وترك الالتفات إلى أعمالهم ولا إلى أحوالهم وتجريد النظر إلى لطف الله ومنته وعفوه ورحمته وكرمه ومغفرته وقد اغتر كثير من الجهال بالأعمال فلاحظوا أنفسهم بعين استحقاق الكرامات وإجابة الدعوات وزعموا

ص: 321

وَلكِنِّي كُنْتُ أَرْجُو أَنْ يَرَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي النَّوْمِ رُؤيا يُبَرِّئُنِي اللَّهُ بِهَا. قَالَتْ: فَوَاللهِ، مَا رَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَجْلِسَهُ، وَلَا خَرَجَ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ أَحَدٌ، حَتَّى أَنْزَلَ اللهُ عز وجل عَلَى نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم. فَأَخَذَهُ مَا كَانَ يَأْخُذُهُ مِنَ الْبُرَحَاءِ عِنْدَ الْوَحْي، حَتَّى إِنَّهُ لَيَتَحَدَّرُ مِنْهُ مِثْلُ الْجُمَانِ مِنَ الْعَرَقِ، فِي الْيَوْمِ الشَّاتِ، مِنْ ثِقَلِ الْقَوْلِ الذِي أُنْزِلَ عَلَيْهِ

ــ

أنهم ممن يُتبرك بلقائهم ويُغتنم صالح دعائهم وأنهم يجب احترامهم وتعظيمهم فيتمسَّح بأثوابهم وتُقبّل أيديهم ويرون أن لهم من المكانة عند الله تعالى بحيث ينتقم لهم ممن تنقّصهم في الحال وبحيث يؤخذ من أساء الأدب عليهم من غير إمهال وهذه كلها نتائج الجهل العميم والعقل غير المستقيم فإن ذلك إنما يصدر من جاهل متعجب بنفسه غافل عن جرمه وذنبه مغتر بإمهال الله عز وجل له عن أخذه ولقد غلب أمثال هؤلاء الأنذال في هذه الأزمان فاستتبعوا العوام وعظمت بسببهم على أهل الدين المصائب والطوام فإنا لله وإنا إليه راجعون، وهذه نفثات الصدور وإلى الله عاقبة الأمور اه من المفهم.

(ولكني) بالتشديد استدراك على الاستدراك الأوَّل (كنت أرجو) وآمل من الله سبحانه (أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم رؤيا) أي منامًا (يبرئني الله) تعالى أي يُظهر الله براءتي (بها) أي بتلك الرؤيا لرسول الله صلى الله عليه وسلم (قالت) عائشة: (فوالله ما رام) وفارق (رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسه) الذي تشهد فيه وقال لي ما قال (ولا خرج من أهل البيت) الذين كانوا حاضرين حينئذٍ (أحد) ومعنى ما رام أي ما فارق وهو من رام يريم ريمًا من باب باع وأما رام يروم رومًا من باب قال فمعناه قصد، قال القرطبي: قوله: (ما رام مجلسه) أي ما برحه ولا قام عنه يقال رامه يريمه ريمًا أي برحه ولازمه ويقال: رمت فلانًا ورمت من عند فلان، قال الأعشى:

أبانا فلا رمت من عندنا

فإنا بخير إذا لم ترم

وأما رام بمعنى طلب فيقال منه رام يروم رومًا اه مفهم (حتى أنزل الله عز وجل الوحي (على نبيه صلى الله عليه وسلم فأخذه) صلى الله عليه وسلم (ما كان) دائمًا (يأخذه من البرحاء) بضم الموحدة وفتح الراء أي من العرق من شدة الوحي (عند الوحي حتى إنه) صلى الله عليه وسلم (ليتحدر) أي ليتصبب ويسيل (منه مثل الجمان) أي مثل الدر (من العرق في اليوم الشات) أي البارد (من ثقل) وشدة (القول الذي أُنزل عليه)

ص: 322

قَالَتْ: فَلَمَّا سُرِّيَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ يَضْحَكُ، فَكَانَ أَوَّلَ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بِهَا أَنْ قَالَ:"أَبْشِرِي. يَا عَائِشَةُ، أَمَّا اللهُ فَقَدْ بَرَّأَكِ" فَقَالَتْ لِي أُمِّي: قُومِي إِلَيْهِ

ــ

والبرحاء على زنة فعلاء شدة الحمى وغيرها وهو البرح أيضًا يقال لقيت منه برحًا بارحًا ولقيت منه البرحين والبرحين بضم الباء وكسرها أي الشدائد والدواهي. قوله: (مثل الجمان) بكسر الميم وسكون المثلثة مرفوعًا على أنه فاعل يتحدر والجُمان بضم الجيم وتخفيف الميم الدر، قال الشاعر:

كجمانة البحري جاء بها

غواصها من لجة البحر

وقال الداودي: هو شيء كاللؤلؤ يُصنع من الفضة والأول هو المعروف اه قسطلاني، شُبهت قطرات عرقه صلى الله عليه وسلم بحبات اللؤلؤ لمشابهتها في الصفاء والحسن. وقوله:(في اليوم الشات) متعلق بيتحدر أي يتصبب منه في يوم بارد من الشتاء أصله في اليوم الشاتي أي المنسوب إلى الشتاء، وفي المصباح شتا اليوم إذا برد فهو شات من باب قال إذا اشتد برده اه دهني تأمل، وزاد ابن جريج قال أبو بكر: فجعلت انظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أخشى أن ينزل من السماء ما لا مرد له وأنظر إلى وجه عائشة فإذا هو منبق فيطمعني فيها، وفي رواية ابن إسحاق من حديث عائشة فأما أنا فوالله ما فزعت قد عرفت أني بريئة وأن الله غير ظالمي، وأما أبواي فما سُرّي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ظننت لتخرجن أنفسهما فرقًا من أن يأتي من الله تحقيق ما يقول الناس.

(قالت) عائشة: (فلما سُرِّي) بالبناء للمجهول مع تشديد الراء أي كشف وأزيل (عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شدة ما يجده عند الوحي (وهو) أي والحال أنه صلى الله عليه وسلم (يضحك) جملة حالية، وقوله:(فكان أول كلمة) جواب لما والفاء زائدة في جوابها وأول كلمة بالنصب على أنه خبر كان مقدم على اسمها وجملة (تكلم بها) صفة لكلمة وجملة قوله: (أن قال أبشري يا عائشة) في تأويل مصدر مرفوع على كونه اسم كان مؤخرًا والتقدير كان قوله أبشري يا عائشة أول كلمة تكلم بها حين سُرّي عنه الوحي (أما الله) عز وجل بتشديد ميم أما على أنها شرطية (فقد برأك) بالقرآن مما قاله أهل الإفك أي مهما يكن من شيء فالله قد برأك مما قالوا وأما الناس فقد افتروا عليك بهتانًا عظيمًا (فقالت لي أمي) أم رومان: (قومي إليه) صلى الله عليه وسلم لأجل ما بشرك به

ص: 323

فَقُلْتُ: وَاللهِ، لَا أَقُومُ إِلَيْهِ. وَلَا أَحْمَدُ إِلَاّ اللهَ. هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ بَرَاءَتِي. قَالَتْ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} [النور: 11] عَشْرَ آيَاتِ. فَأَنْزَلَ اللهُ عز وجل هَؤُلَاءِ الآيَاتِ بَرَاءَتِي. قَالَتْ: فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ، وَكَانَ يُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ لِقَرَابَتِهِ مِنْهُ وَفَقْرِهِ: وَاللهِ، لَا أُنْفِقُ عَلَيْهِ شَيْئًا أَبَدًا بَعْدَ الَّذِي قَالَ لِعَائِشَةَ

ــ

(فقلت) لها: (والله لا أقوم إليه) صلى الله عليه وسلم (ولا أحمد) أي ولا أشكر أحدًا (إلا الله) عز وجل (هو الذي أنزل براءتي) وزاد في رواية الأسود عن عائشة عند أبي عوانة والطبراني (وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فانتزعت يدي منه فنهرني أبو بكر) قال ابن الجوزي إنما قالت ذلك إدلالًا وعتيًا كما يدل الحبيب على حبيبه، وروى الطبري وأبو عوانة عن مجاهد قال: قالت لما نزل عذرها قبّل أبو بكر رأسها فقلت: ألا عذرتني! فقال: أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت ما لا أعلم (قالت) عائشة: (فأنزل الله عز وجل براءتي قوله في الكتاب العزيز: (إن الذين جاووا بالإفك عصبة) أي جماعة قليلة (منكم) أيها المؤمنون، وقوله:(عشر آيات) بدل من مفعول أنزل أي فأنزل عشر آيات إلى قوله: {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وقالت أيضًا (فأنزل الله عز وجل هؤلاء الآيات) العشر لأجل (براءتي) وأقيم الحد على من أقيم عليه (قالت) عائشة (فقال أبو بكر) الصديق: (وكان ينفق على مسطح) بن أثاثة (لقرابته منه) كان ابن خالته (وفقره) أي لأجلهما (والله لا أنفق عليه شيئًا أبدًا بعد الذي قال لعائشة) ما قال:

قولها: (فأنزل الله عز وجل إن الذين جاؤوا بالإفك) قال الزمخشري لم يقع في القرآن من التغليظ في معصية مثل ما وقع في قصة الإفك بأوجز عبارة وأشبعها لاشتماله على الوعيد الشديد والعتاب البليغ والرجز العنيف واستعظام القول في ذلك واستشناعه بطرق مختلفة وأساليب متقنة كل واحد منها كاف في بابه بل ما وقع منها من وعيد عبدة الأوثان إلَّا بما هو دون ذلك وما ذلك إلَّا لإظهار علو منزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتطهير من هو نبيل اه ثم إن عائشة رضي الله تعالى عنها ذكرت هاهنا أن الذي نزل في هذه القصة عشر آيات وهي إلى قوله تعالى: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (20)} لكن وقع في رواية عطاء الخراساني عن الزهري عند أبي عوانة في صحيحه والطبراني (فأنزل الله {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا} .. إلى قوله .. {أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وعدد الآي إلى هذا الموضع اثنتا عشرة آية وبين الروايتين معارضة من حيث العدد وجمع بينهما الحافظ في الفتح بأن عائشة ألغت الكسر هاهنا وقد يُجمع بينهما بأن ما نزل

ص: 324

فَأَنْزَلَ اللهُ عز وجل: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى} إِلَى قَوْلِهِ: {أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور: 22].

قَالَ حِبَّانُ بْنُ مُوسَى: قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: هَذِهِ أَرْجَى آيَةٍ فِي كِتَابِ اللهِ.

فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَاللهِ، إِنِّي لأحُبُّ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لِي. فَرَجَعَ إِلَى مِسْطَحٍ النَّفَقَةَ الَّتِي كَانَ يُنْفِقُ عَلَيْهِ. وَقَالَ: لَا أَنْزِعُهَا مِنْهُ أَبَدًا.

قَالَتْ عَائِشَةُ: وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم سَأَلَ زينَبَ بِنْتَ جَحْشٍ، زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ

ــ

في خصوص تبرئة عائشة عشر آيات كما ذكرته هاهنا في هذه الرواية ثم بعدها حلف أبو بكر على أن لا ينفق على مسطح نزلت الآيتان ففصلت عائشة في رواية الباب، ووقع في رواية عطاء الإجمال فذكرت اثنتي عشرة بالجملة. قوله:(والله لا أنفق على مسطح شيئًا أبدًا) يؤخذ منه مشروعية ترك المؤاخذة بالذنب ما دام احتمال عدمه موجودًا لأن أبا بكر لم يقطع نفقة مسطح إلَّا بعد تحقيق ذنبه فيما وقع منه.

(فأنزل الله عز وجل ولا يأتل) أي لا يحلف (أولو الفضل منكم) في الدين أبو بكر (والسعة) في المال من (أن يوتوا) وينفقوا (أولى القربى) والمساكين والمهاجرين في سبيل الله) صفات لموصوف واحد وهو مسطح لأنه كان مسكينًا مهاجرًا بدريًا (إلى قوله ألا تحبون أن يغفر الله لكم) قال المؤلف رحمه الله تعالى (قال) لنا (حبان بن موسى) بن سوّار السُلمي المروزي (قال عبد الله بن المبارك) بن واضح الحنظلي المروزي (هذه) الآية يعني قوله ألا تحبون أن يغفر الله لكم (أرجى آية في كتاب الله) عز وجل لكونه بشر بالمغفرة من يعفو ويصفح عن خطإ غيره (فـ) لما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية (قال أبو بكر) الصديق رضي الله عنه: (والله إني لأحب أن يغفر الله لي فرجع) بالتخفيف (إلى مسطح النفقة التي كان ينفقـ) ـها (عليه) أي على مسطح أولًا (وقال) أبو بكر: (لا أنزعها) أي لا أقطع تلك النفقة (منه) أي من مسطح (أبدًا) أي مدة حياتي وحياته، وفي رواية للطبراني أنه صار معطيه ضعف ما كان يعطيه قبل ذلك (قالت عائشة وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل زينب بنت جحش زوج النبي صلى الله عليه

ص: 325

وَسَلَّمَ عَنْ أَمْرِي: "مَا عَلِمْتِ؟ أَوْ مَا رَأَيْتِ؟ " فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَحْمِي سَمْعِي وَبَصَرِي. وَاللهِ، مَا عَلِمْتُ إِلَاّ خَيْرًا.

قَالَت عَائِشَةُ: وَهِيَ الَّتِي كَانَتْ تُسَامِينِي مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. فَعَصَمَهَا اللهُ بِالْوَرَعِ. وَطَفِقَتْ أُخْتُهَا حَمْنَةُ بِنْتُ جَحْشٍ تُحَارِبُ لَهَا. فَهَلَكَتْ فِيمَنْ هَلَكَ.

قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَهذَا مَا

ــ

وسلم عن أمري) وشأني فيما تقوَّل عليّ أهل الإفك فقال لها: (ما علمت) في شأن عائشة (أو) قال: (ما رأيت) في شأنها بالشك من الراوي (فقالت) زينب له صلى الله عليه وسلم (يا رسول الله أحمي سمعي وبصري) أي أصون وأحفظ سمعي وبصري من أن أقول سمعت ولم أسمع وأبصرت ولم أبصر (والله ما علمت) منها (إلا خيرًا) أي براءة مما قالوا فيها، قال القاضي في سؤالها الكشف عن الأمر المسموع لمن يهمه أو يعنيه وأما من غيره فتجسس ممنوع اه (قالت عائشة وهي) أي زينب (التي تُساميني) أي تفاخرني وتضاهيني بجمالها ومكانتها عند النبي صلى الله عليه وسلم وهي مفاعلة من السمو وهو الارتفاع (من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أي هي التي تطلب من العلو والارتفاع والحظوة عند النبي صلى الله عليه وسلم ما أطلب أو هي التي تعتقد أن لها مثل الذي لي عنده (فعصمها الله) أي حفظها (بالورع) من أن تقول قول أهل الإفك (وطفقت) بكسر الفاء أي جعلت أو شرعت (أختها حمنة) بفتح الحاء المهملة وسكون الميم وفتح النون فهاء تأنيث (بنت جحش تُحارب لها) أي تغضب لأختها زينب وتحكي مقالة أهل الإفك لتخفض منزلة عائشة وتُعلي منزلة أختها زينب (فهلكت) بالعقوبة (فيمن هلك) أي مع من هلك من أصحاب الإفك فحدَّت فيمن حد أو أثمت مع من أثم، ثم اختلف العلماء هل أقام النبي صلى الله عليه وسلم حد القذف على من ارتكبه في عائشة رضي الله تعالى عنها، وصحح الحافظ في الفتح أنه صلى الله عليه وسلم أقام الحد على الذين تكلموا بالإفك وفيهم عبد الله بن أُبي كما ثبت بحديث عائشة عند ابن إسحاق وبحديث أبي هريرة عند البزار وبرواية أبي أويس عند الحاكم في الإكليل.

(قال الزهري) بالسند السابق (فهذا) الذي ذكرناه من الحديث السابق هو (ما

ص: 326

انْتَهَى إِلَيْنَا مِنْ أَمْرِ هَؤُلاءِ الرَّهْطِ.

وَقَالَ فِي حَدِيثِ يُونُسَ: احْتَمَلَتْهُ الْحَمِيَّةُ.

6848 -

(00)(00) وحدّثني أَبُو الرَّبِيعِ الْعَتَكِيُّ. حَدَّثَنَا فُلَيْحُ بْنُ سُلَيْمَانَ. ح وَحَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِى الْحُلْوَانِيُّ وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ. قَالَا: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاِهيمَ بْنِ سَعْدٍ. حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ. كِلَاهُمَا عَنِ الزُّهْرِيِّ، بِمِثْلِ حَدِيثِ يُونُسَ وَمَعْمَرٍ. بِإِسْنَادِهِمَا

ــ

انتهى) ووصل (إلينا) بالسند السابق (من أمر هولاء الرهط) الذين تقولوا على عائشة رضي الله تعالى عنها بالإفك العظيم (وقال) ابن المبارك (في حديث يونس احتملته الحمية) أي أغضبته العصبية.

وشارك المؤلف في رواية هذا الحديث أحمد [6/ 195]، والبخاري في (15) خمسة عشر بابًا منها في تفسير سورة النور باب إن الذين جاؤوا بالإفك عصبة منكم [4749]، والترمذي في تفسير سورة النساء [2179]، والنسائي في الطهارة باب بدء التيمم [310].

ثم ذكر المؤلف رحمه الله تعالى المتابعة في هذا الحديث فقال:

6848 -

(00)(00)(وحدثني أبو الربيع العتكي) الزهراني سليمان بن داود البصري (حدثنا فليح) مصغرًا (ابن سليمان) بن أبي المغيرة الخزاعي أو الأسلمي أبو يحيى المدني، صدوق، من (7) روى عنه في (4) أبواب (ح وحدثنا الحسن بن علي الحلواني) الهذلي المكي، ثقة، من (11) روى عنه في (8) أبواب (وعبد بن حميد) بن نصر الكسي، ثقة، من (11) (قالا: حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد) الزهري المدني، ثقة، من (9)(حدثنا أبي) إبراهيم بن سعد الزهري المدني، ثقة، من (8)(عن صالح بن كيسان) الغفاري المدني، ثقة، من (4)(كلاهما) أي كل من فليح وصالح رويا (عن الزهري) غرضه بيان متابعتهما ليونس ومعمر، وساقا أي ساق فليح وصالح (بمثل حديث يونس ومعمر بإسنادهما) أي بإسناد يونس ومعمر يعني عن الزهري عن سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وعلقمة بن وقاص وعبيد الله بن عبد الله عن عائشة رضي الله تعالى عنها

ص: 327

وَفِي حَدِيثِ فُلَيْحٍ: اجْتَهَلَتْهُ الْحَمِيَّةُ. كَمَا قَالَ مَعْمَرٌ.

وَفِي حَدِيثِ صَالِحٍ: احْتَمَلَتْهُ الْحَمِيَّةُ كَقَوْلِ يُونُسَ، وَزَادَ فِي حَدِيثِ صَالِحٍ: قَالَ عُرْوَةُ: كَانَتْ عَائِشَةُ تَكْرَهُ أَنْ يُسَبَّ عِنْدَهَا حَسَّانُ. وَتَقُولُ: فَإِنَّهُ قَالَ:

فَإِنَّ أَبِي وَوَالِدَهُ وَعِرْضِي

لِعِرْضِ مُحَمَّدٍ مِنْكُمْ وِقَاءُ

وَزَادَ أَيْضًا: قَالَ عُرْوَةُ: قَالَتْ عَائِشَةُ: وَاللهِ، إِنَّ الرَّجُلَ الَّذِي قِيلَ لَهُ مَا قِيلَ لَيَقُولُ: سُبْحَانَ اللهِ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، مَا كَشَفْتُ عَنْ كَنَفِ أُنْثَى قَطُّ. قَالَتْ: ثُمَّ قُتِلَ بَعْدَ ذَلِكَ شَهِيدًا فِي سَبِيلِ اللهِ

ــ

(و) لكن (في حديث فليح) وروايته لفظة (اجتهلته الحمية كما قال معمر وفي حديث صالح احتملته الحمية كقول يونس وزاد) إبراهيم بن سعد (في حديث صالح) بن كيسان وروايته لفظة (قال عروة كانت عائشة) رضي الله تعالى عنها (تكره أن يسب) ويشتم (عندها حسان) بن ثابت (وتقول) عائشة: لا تسبوا حسان (فإنه قال) في المدافعة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:

(فإني أبي ووالده وعرضي

لعرض محمد منكم وقاء)

أي وقاية عن طعن عرض محمد وهجوه وذلك لكمال حبها لرسول الله صلى الله عليه وسلم وكان حسان يذب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بشعره فكرهت أن يذكر عندها بسوء، وتقدم في باب مناقب حسان عن السهيلي أنه لم يقع في القذف والله تعالى أعلم (وزاد) إبراهيم في حديث صالح (أيضًا) أي كما زاد فيه أولًا لفظة (قال عروة قالت عائشة: والله إن الرجل الذي قيل له ما قيل) في رميه تعني به صفوان بن معطل رضي الله عنه (ليقول) عندما سمع الإفك الذي قيل فيه (سبحان الله) أي تنزيهًا لله تعالى وعجبًا لإفكهم (فوالذي) أي فأقسمت بالإله الذي (نفسي) وروحي (بيده) المقدسة (ما كشفت عن كنف أنثى) أي ما كشفت أنا عن أنثى كنفها وثوبها للاستمتاع بها (قط) أي فيما مضى من عمري فكيف يأفكون عليّ يعني ما جامعتها في حرام أو كان حصورًا، والكنف هنا بفتح الكاف والنون الثوب الذي يستر المرأة وهو كناية عن كونه لم يقارب امرأة قط، وقد تقدم ما فيه في شرح قول عائشة في هذا الحديث (فأدلج فأصبح عند منزلي)(قالت) عائشة (ثم قُتل) ذلك الرجل (بعد ذلك) أي بعدما رموه (شهيدًا في سبيل الله) تعالى في

ص: 328

وَفِي حَدِيثِ يَعْقُوبَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ: مُوعِرِينَ فِي نَحْرِ الظَّهِيرَةِ.

وَقَالَ عَبْدُ الرَّزاقِ: مُوغِرِينَ.

قَالَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ: قُلْتُ لِعَبْدِ الرَّزَّاقِ: مَا قَوْلُهُ مُوغِرِينَ؟ قَالَ: الْوَغْرَةُ شِدَّةُ الْحَرِّ.

6849 -

(00)(00) (حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ. قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: لَمَّا ذُكِرَ مِنْ شَأْنِي الَّذِي ذُكِرَ، وَمَا عَلِمْتُ بِهِ، قَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَطِيبًا فَتَشَهَّدَ. فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ

ــ

غزوة أرمينية سنة تسع عشرة في خلافة عمر رضي الله عنهما كما قاله ابن إسحاق (وفي حديث يعقوب بن إبراهيم) أي في روايته لفظة (موعرين في نحر الظهيرة) يعني بالعين المهملة من قولهم أوعر به الطريق أي صار وعرًا صعبًا، ولكن هذه الرواية ضعفها النووي، والصحيح موغرين بالغين المعجمة، وقد تقدم شرحه (وقال عبد الرزاق موغرين) بالغين المعجمة (قال عبد بن حميد قلت لعبد الرزاق ما قوله) أي ما معنى قول الراوي يعني عائشة حتى أتينا الجيش بعدما نزلوا (موغرين) في نحر الظهيرة (قال) عبد الرزاق هي مأخوذة من الوغر و (الوغرة شدة الحر) في وقت الظهيرة.

ثم ذكر المؤلف رحمه الله تعالى المتابعة ثانيًا في حديث عائشة رضي الله تعالى عنها فقال:

6849 -

(00)(00)(حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ومحمد بن العلاء) أبو كريب الهمداني (قالا: حدثنا أبو أسامة) حماد بن أسامة الهاشمي الكوفي، من (9)(عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة) رضي الله تعالى عنها. وهذا السند من خماسياته، غرضه بيان متابعة هشام للزهري (قالت) عائشة (لما ذُكر من شأني الذي ذُكر) من قول أهل الإفك (وما علمت) أي والحال أني ما علمت ولا سمعت (به) أي بالذي ذُكر في شأني (قام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر (خطيبًا) جواب لما (فتشهد) أي أتى بالشهادتين (فحمد الله) تعالى بوصفه بالكمالات (وأثنى عليه) بتنزيهه من النقائص أي حمده وأثنى عليه (بما) أي بوصف وتنزيه (هو) سبحانه (أهله) أي مستحق له أو بوصف

ص: 329

ثُمَّ قَالَ: "أَمَّا بَعْدُ. أَشِيرُوا عَلَيَّ فِي أُناسٍ أَبنُوا أَهْلِي. وَايمُ اللهِ، مَا عَلِمْتُ عَلَى أَهْلِي مِنْ سُوءٍ قَطُّ. وَأَبَنُوهُمْ، بِمَنْ، وَاللهِ مَا عَلِمْتُ عَلَيهِ مِنْ سُوءٍ قَطُّ، وَلَا دَخَلَ بَيْتِي قَطُّ إِلَاّ وَأَنَا حَاضِرٌ. وَلَا غِبْتُ فِي سَفَرٍ إِلَاّ غَابَ مَعِي"، وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِقِصَّتِهِ، وَفِيهِ: وَلَقَدْ دَخَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَيْتي فَسَأَلَ جَارَيتِي. فَقَالَتْ: وَاللهِ، مَا عَلِمْتُ عَلَيْهَا عَيْبًا، إِلَاّ أَنَّهَا كَانَتْ تَرْقُدُ حَتَّى تَدْخُلَ الشَّاةُ فَتَأْكُلَ عَجِينَهَا. أَوْ قَالَتْ: خَمِيرَهَا - (شَكَّ هِشَامٌ) - فَانْتَهَرَهَا بَعْضُ أَصْحَابِهِ فَقَالَ: اصْدُقِي رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم

ــ

وتنزيه هو أي ذلك الوصف أهله أي لائق به تعالى (ثم) بعد حمد الله وثنائه (قال: أما بعد أشيروا عليّ) أي تشاوروا لأجل (في) شأن (أناس) ورهط (أبنوا) وعيبوا (أهلي) ومعنى (أبنوا أهلي) بفتح الهمزة والباء المخففة أي اتهموا وعابوا يقال: أبنه يأبنه من بابي نصر وضرب إذا اتهمه ورماه بخلة سوء فهو مأبون (وأيم الله) أي واسم الله قسمي (ما علمت على أهلي من سوء) أي من عيب (قط) أي في زمن من الأزمنة الماضية (وأبنوهم) أي وأبنى أهل الإفك أهلي وعابوهم (بمن) أي برجل بريء (والله ما علمت عليه من سوء) أي من عيب (قط) أي في زمن مضى من عمري (ولا دخل بيتي قط إلَّا وأنا حاضر) فيه يعني من اتهموا أهلي به يعني صفوان رجل لم يُعلم إلَّا خير (ولا غبت) أنا (في سفر إلَّا غاب) ذلك الرجل (معي وساق) أي ذكر هشام بن عروة (الحديث) السابق الذي ذكره الزهري (بقصته) أي ذكره هشام بتفاصيل قصته كما ذكره الزهري من تنازع الأنصاريين وتواثبهم حتى خفضهم النبي صلى الله عليه ويسلم (وفيه) أي وفي الحديث الذي ساقه هشام لفظة قالت عائشة (ولقد دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيتي) أي منزلي (فسأل جاريتي) أي خادمتي بريرة عن شأني وحالي (فقالت) له الجارية (والله ما علمت عليها) يا رسول الله (عيبًا إلَّا أنها كانت ترقد) وتنام فتستغرق في نومها (حتى تدخل الشاة) من الدواجن بيتها (فتأكل عجينها) أي دقيقها المعجون للخبز (أو) قال عروة (قالت) الجارية (خميرها) بدل عجينها (شك هشام) فيما قال عروة والخمير العجين المخلوط بالخميرة والخميرة ما يُخلط بالعجين ليصلح للخبز بسرعة (فانتهرها) أي فانتهر الجارية وأزعجها وخوّفها (بعض أصحابه) صلى الله عليه وسلم (فقال) لها ذلك البعض (اصدقي) من باب نصر أي أخبري (رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر

ص: 330

حَتَّى أَسْقَطُوا لَهَا بهِ. فَقَالَتْ: سُبْحَانَ اللهِ، وَاللهِ، مَا عَلِمْتُ عَلَيهَا إِلَاّ مَا يَعْلَمُ الصَّائِغُ عَلَى تِبْرِ الذَّهَبِ الأَحْمَرِ.

وَقَدْ بَلَغَ الأَمْرُ ذَلِكَ الرَّجُلَ الَّذِي قِيَل لَهُ، فَقَالَ: سُبْحَانَ اللهِ، وَاللَّهِ، مَا كَشَفْتُ عَنْ كَنَفِ أُنْثَى قَطُّ.

قَالَتْ عَائِشَةُ:

ــ

صدق وقوله: (حتى أسقطوا لها) أي حتى صرّح أولئك البعض لها أي للجارية (به) أي بالأمر الذي جرى من الإفك غاية لقوله فانتهرها بعض أصحابه أو حتى أوقعوا لها في الأمر الذي جرى أو حتى قاربوا إسقاطها في الإفك، وفي رواية أبي أويس عند الطبراني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي:"شأنك بالجارية" فسألها عني وتوعدها فلم تخبره إلَّا بخير ثم ضربها وسألها فقالت والله ما علمت على عائشة سوءًا (حتى أسقطوا لها به) من قولهم أي أسقط الرجل إذا أتى بكلام ساقط، والضمير في قوله به للحديث أو للرجل الذي اتهموها به، وقال ابن الجوزي: حتى صرحوا لها بالأمر الذي جرى، وقيل حتى جاؤوا في خطابها بسقط من القول بسبب ذلك الأمر وضمير لها للجارية وبه عائد على ما تقدم من انتهارها وتهديدها وإلى هذا التأويل كان يذهب أبو مروان بن سرّاج، وقال ابن بطال: يحتمل أن يكون من قولهم سقط إلى الخبر إذا علمه والمعنى ذكروا لها الحديث وشرحوه (فقالت) الجارية: (سبحان الله والله ما علمت عليها) أي على عائشة (إلَّا ما يعلم الصائغ) الذي يصوغ ويسبك المعادن (على تبر الذهب الأحمر) بالغت في نفي العيب كقوله:

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم

بهن فلول من قراع الكتائب

والتبر: القطعة الخالصة من الذهب ووصفه بالأحمر صفة كاشفة، قالت عائشة:(وقد بلغ الأمر) أي أمر الإفك (ذلك الرجل الذي قيل له) أي عنه من الإفك ما قيل تعني صفوان فاللام هنا بمعنى عن كهي في قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} أي عن الذين آمنوا كما قاله ابن الحاجب أو بمعنى في أي قيل فيه ما قيل فهي كقوله تعالى: {يَالَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} أي في حياتي (فقال) ذلك الرجل (سبحان الله والله ما كشفت عن كنف أنثى) وسترها (قط) أي فيما مضى من عمري (قالت عائشة

ص: 331

وَقُتِلَ شَهِيدًا فِي سَبِيلِ اللهِ.

وَفِيهِ أَيْضًا مِنَ الزِّيَادَةِ: وَكَانَ الَّذِينَ تَكَلَّمُوا بِهِ مِسْطَحٌ وَحَمْنَةُ وَحَسَّانُ. وَأَمَّا الْمُنَافِقُ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيِّ فَهُوَ الَّذِي كَانَ يَسْتَوْشِيهِ وًيجْمَعُهُ. وَهُوَ الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ، وَحِمْنَةُ.

6850 -

(2740)(101) حدّثني زُهَيرُ بْنُ حَرْبٍ. حَدَّثَنَا عَفَّانُ. حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ. أَخْبَرَنَا ثَابِتٌ، عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ رَجُلًا كَانَ يُتَّهَمُ بِأُمِّ وَلَدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم

ــ

وقُتل) ذلك الرجل تعني صفوان (شهيدًا في سبيل الله) في غزوة أرمينية في خلافة عمر رضي الله عنهماه وقوله: (وفيه) معطوف على قوله أولًا (وفيه ولقد دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي وفي حديث هشام (أيضًا) أي كما قلنا أولًا وفيه (من الزيادة) على حديث الزهري (وكان الذين تكلموا به) أي بالإفك، والموصول خبر مقدم لكان واسمها قوله:(مسطح وحمنة وحسان) أي وكان هؤلاء الثلاثة من المسلمين الذين تكلموا بهذا الإفك مع المنافقين (وأما المنافق) الذي هو (عبد الله بن أُبي فهو الذي كان يستوشيه) أي يستوشي الإفك ويستخرجه (ويجمعه) بالبحث والمسألة عنه ثم يفشيه ويشيعه ويحركه ولا يدعه يخمد وينعدم (وهو) أي عبد الله بن أُبي هو (الذي تولى) وأشاع (كبره) أي كبر الإفك ومعظمه (وحمنة) بنت جحش أخت أمهات المؤمنين زينب كذلك أي مثل عبد الله بن أُبي في إشاعته.

ثم استدل المؤلف رحمه الله تعالى على الجزء الثاني من الترجمة وهو براءة حرمه صلى الله عليه وسلم من الريبة بحديث أنس رضي الله عنه فقال:

6850 -

(2740)(101)(حدثني زهير بن حرب حدثنا عفان) بن مسلم بن عبد الله الصفّار الأنصاري البصري، ثقة، من (10) روى عنه في (15) بابًا (حدثنا حماد بن سلمة) بن دينار الربعي البصري، ثقة، من (8) روى عنه في (16) بابًا (أخبرنا ثابت) بن أسلم البناني البصري (عن أنس) بن مالك رضي الله عنه. وهذا السند من خماسياته (أن رجلًا) من المسلمين لم أر من ذكر اسمه (كان يتهم بأم ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر القاضي عياض أنه كان قبطيًا وكان يتكلم مع مارية القبطية رضي الله تعالى

ص: 332