المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

سورة المرسلات   مكية في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر. وقال ابن عباس - اللباب في علوم الكتاب - جـ ٢٠

[ابن عادل]

الفصل: سورة المرسلات   مكية في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر. وقال ابن عباس

سورة المرسلات

مكية في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر.

وقال ابن عباس وقتادة رضي الله عنهم: إلا آية منها، وهي قوله تعالى:{وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون} [المرسلات: 48] ، مدنية.

وقال ابن مسعود رضي الله عنه: نزلت {والمرسلات عرفا} على النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن ونحن نسير معه، حتى أوينا إلى غار بمنى فنزلت، فبينا نحن نتلقاها منه، وإن فاه لرطب بها إذ وثبت حية، فوثبنا عليها لنقتلها فذهبت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:" وقيتم شرها كما وقيت شركم ".

وعن كريب مولى ابن عباس، قال: قرأت سورة {والمرسلات عرفا} فسمعتني أم الفضل امرأة العباس، فبكت، وقالت: والله يا بني، لقد أذكرتني بقراءتك هذه السورة، إنها لآخر ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها في صلاة المغرب.

ص: 59

وهي خمسون آية، ومائة وإحدى وثمانون كلمة، وثمانمائة وستة عشر حرفا. بسم الله الرحمن الرحيم قوله: {و‌

‌المرسلات

عُرْفاً} في «عرفاً» ثلاثة أوجه:

ص: 59

أحدها: أنه مفعول من أجله، أي: لأجل العرف، وهو ضد النُّكْر، فإن الملائكة إن كانوا بعثُوا للرحمة، فالمعنى فيه ظاهر، وإن كانوا بعثوا للعذاب فذلك العذاب وإن لم يكن معروفاً للكفار فإنه معروف للأنبياء والمؤمنين، والمراد بالمرسلات، إما الملائكة، وإما الأنبياء، وإما الرياح، أي: والملائكة المرسلات، أو والأنبياء المرسلات، أو والرياح المرسلات. و «العرف» المعروف، والإحسان، قال:[البسيط]

5054 -

مَنْ يَفْعَلِ الخَيْرَ لا يَعْدمْ جَوازِيَهُ

لا يَذهبُ العُرْفُ بيْنَ اللهِ والنَّاسِ

وقد يقال: كيف جمع صفة المذكر العاقل بالألف والتاء، وحقه أن يجمع بالواو والنون نقول: الأنبياء المرسلون ولا نقول: المرسلات؟ .

والجواب: أن المرسلات جمع مرسلة ومرسلة: صفة لجماعة من الأنبياء، والمرسلات: جمع مرسلة الواقعة صفة لجماعة، لا جمع مرسل مفرد.

والثاني: أن ينتصب على الحال بمعنى متتابعة، من قولهم: جاءوا كعرف الفرس، وهم على فلان كعرف الضبع، إذا تألبُّوا عليه.

قال ابن الخطيب: يكون مصدراً، كأنه قيل: والمرسلات إرسالاً، أي متتابعة.

الثالث: أن ينتصب على إسقاط الخافض، أي: المرسلات بالعرف، وفيه ضعف، وقد تقدم الكلام على العرف في الأعراف.

والعامة: على تسكين رائه، وعيسى: بضمها، وهو على تثقيل المخفف، نحو:«بكّر» في «بكَر» ، ويحتمل أن يكون هو الأصل، والمشهور مخففة منه، ويحتمل أن يكونا وزنين مستقلين.

فصل في المراد بالمرسلات

جمهور المفسرين على أن «المرسلات» هي الرياح.

وروى مسروق عن عبد الله قال: هي الملائكة أرسلت بالعرف من أمر الله ونهيه والخبر والوحي، وهو قول أبي هريرة ومقاتل وأبي صالح والكلبي.

ص: 60

وقال ابن عباس رضي الله عنهما: هم الأنبياء أرسلوا بلا إله إلا الله.

وقال أبو صالحٍ: الرسل ترسل بما يعرفون به من المعجزات.

وعن ابن عباس وابن مسعود: أنها الرياح، كما قال تعالى:{وَأَرْسَلْنَا الرياح} [الحجر: 22]، وقال تعالى:{وَهُوَ الذي يُرْسِلُ الرياح} [الأعراف: 57]، ومعنى «عُرْفاً» أي: يتبع بعضها بعضاً كعرف الفرس، وقيل: يحتمل أن يكون المراد بالمرسلات: السحاب لما فيها من نعمة ونقمة عارفة بما أرسلت إليه ومن أرسلت إليه.

وقيل: إنها الزَّواجر والمواعظ، و «عُرْفاً» على هذا التأويل: متتابعات كعرف الفرس، قاله ابن عبَّاس.

وقيل: جاريات، قاله الحسن، يعني في القلوب.

وقيل: معروفات في العقول.

قوله تعالى: {فالعاصفات عَصْفاً} . هذا المصدر مؤكد لاسم الفاعل.

والمراد بالعَاصفاتِ: الرياح. قاله المهدوي.

وقال ابن عباسٍ: هي الرياح العواصف تأتي بالعصف، وهو ورق الزرع وحطامه.

وقال: العاصفات الملائكة شبهت بسرعة جريها في أمر الله - تعالى - بالرياح، وكذلك «نَشْراً، وفَرْقاً» انتصابهما على المصدر.

وقيل: الملائكة تعصف برُوح الكَافرِ، يقال: عصف بالشيء إذا أباده وأهلكه، وناقة عصوف، أي تعصف براكبها فتمضي كأنها ريحٌ في السرعة، وعصفت الحرب بالقوم، أي: ذهبت بهم.

وقيل: يحتمل أنها الآيات المهلكة كالزلازل والخوف.

قوله تعالى: {والناشرات نَشْراً} . هي الملائكة المُوكَّلُون بالسحاب ينشرونها.

وقال ابن مسعود ومجاهد: هي الرياح يرسلها الله تعالى نشراً بين يدي رحمته ينشر السحاب للغيث، وهو مروي عن أبي صالح.

وعنه أيضاً: هي الأمطار لأنها تنشر النبات، فالنَّشر بمعنى الإحياء، يقال: نشر الله الميت وأنشره، بمعنى أحياهُ، قال تعالى:{ثُمَّ إِذَا شَآءَ أَنشَرَهُ} [عبس: 22] .

وروي عن السديِّ: أنها الملائكة تنشر كتب الله تعالى، وروى الضحاك عن ابن

ص: 61

عباس قال: يريد ما ينشر من الكتب، وأعمال بني آدم، وروى الضحاك: أنها الصحف تنشر على الله تعالى بأعمال العباد.

وقال الربيع: إنه البعث للقيامة تنشر فيه الأرواح.

وقال تعالى: {والناشرات} - بالواو - لأنه استئنافُ قسم آخر.

قوله: {فالفارقات فَرْقاً} : هي الملائكة تنزل بالفرق بين الحق والباطل. قاله ابن عباس ومجاهد والضحاك وأبو صالح.

وروى الضحاك عن ابن عباس، قال: ما تفرق الملائكة من الأقوات والأرزاق والآجال، وروى أنس عن مجاهد قال:«الفارقات» الرياح تفرق بين السحاب وتبدده.

وروى سعيد عن قتادة قال: {فالفارقات فَرْقاً} ، الفرقان فرق الله بين الحق والباطل والحلال والحرام، وهو قول الحسن وابن كيسان.

وقيل: هم الرسل فرقوا بين ما أمر الله - تعالى - به، ونهى عنه؛ أي بينوا ذلك.

وقيل: السحابات الماطرة تشبيهاً بالنَّاقة الفارقة، وهي الحامل التي تخرج وتندّ في الأرض حين تضع، ونوق فوارق وفُرَّق.

قوله تعالى: {فالملقيات ذِكْراً} . هي الملائكة، أي: تلقي كتب الله إلى الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - قاله المهدوي.

وقيل: هو جبريل عليه الصلاة والسلام ُ - وسمي باسم الجمع تعظيماً لأنه كان ينزل بها وقيل: المراد الرسل يلقون إلى أممهم ما أنزل عليهم. قاله قطرب.

وقوله تعالى: {ذِكْراً} مفعول به ناصبه «المُلْقِيَاتِ» .

وقرأ العامة: «فالملقيات» - بسكون اللام وتخفيف القاف - اسم فاعل.

وقرأ ابن عباس: بفتح اللام وتشديد القاف، اسم مفعول من التلقية، وهي إيصال

ص: 62

الكلام إلى المخاطب. وروى عنه المهدوي أيضاً: فتح القاف، أي: يلقيه من قِبَل الله تعالى، كقوله تعالى:{وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى القرآن} [النمل: 6] .

قوله: {عُذْراً أَوْ نُذْراً} . فيهما أوجه:

أحدها: أنهما بدلان من «ذِكْراً» .

الثاني: أنهما منصوبان به على المفعولية، وإعمال المصدر المنون جائز، ومنه {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً} [البلد: 14، 15] .

الثالث: أنهما مفعولان من أجلهما، والعامل فيهما، إما «المُلقيَات» ، وإما «ذِكراً» ؛ لأن كُلاًّ منهما يصلح أن يكون معلولاً بأحدهما.

وحينئذ يجوز في «عُذْراً» ، ونذراً «وجهان:

أحدهما: أن يكونا مصدرين - بسكون العين - كالشُّكْر والكُفْر.

والثاني: أن يكونا جمع عذير، ونذير، المراد بهما المصدر، بمعنى الإعذار والإنذار، كالنكير بمعنى الإنكار.

الثالث: أنهما منصوبان على الحال من «الملقيات» أو من الضمير فيها، وحينئذ يجوز أن يكونا مصدرين واقعين موقع الحال، بالتأويل المعروف في أمثاله، وأن يكونا جمع «عذير ونذير» مراداً بهما المصدر، أو مراداً بهما اسم الفاعل بمعنى المعذر والمنذر، أي: معذرين، أو منذرين.

وقرأ العامة: بسكون الذَّال من {عُذْراً أَوْ نُذْراً} .

وقرأ زيد بن ثابت، وابن خارجة، وطلح: بضمها.

والحرميَّان، وابن عامر، وأبو بكر، بسكونها في «عُذْراًَ» وضمها في «نُذْراً» ، والسكون والضم - كما تقدم - في أنه يجوز أن يكون كل منهما أصلاً للآخر، وأن يكونا أصلين، ويجوز في كل من المثقّل والمخفّف أن يكون مصدراً، وأن يكون جمعاً سكنت عينه تخفيفاً.

وقرأ إبراهيم التيمي: «عُذْراً ونُذْراً» بواو العطف موضع «أو» ، وهي تدل على أن «أو» بمعنى الواو.

ص: 63

فصل في معنى الآية

والمعنى: يلقي الوحي إعذاراً من الله تعالى وإنذاراً إلى خلقه من عذابه. قاله الفراء.

وروي عن أبي صالحٍ قال: يعني الرسل يعذرون وينذرون.

وروى سعيد عن قتادة: «عُذْراً» قال: عذراً لله - تعالى - إلى خلقه، ونذراً للمؤمنين ينتفعون به ويأخذون به، وروى الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما:«عُذْراً» أي: ما يقبله الله - تعالى - من معاذير أوليائه، وهي التوبة «أو نُذْراً» ينذر أعداءه.

فصل في المراد بهذه الكلمات الخمس

قال ابن الخطيب: اعلم أن هذه الكلمات الخمس، إما أن يكون المراد منها جنساً واحداً، أو أجناساً مختلفة، فالأول فيه وجوه:

أحدها: أن المراد بها الملائكة والمرسلات هي الملائكة الذين أرسلهم الله - تعالى - إما لإيصال النِّعمة إلى قوم أو لإيصال النقمة إلى آخرين، وقوله تعالى:«عُرْفاً» إما أن يكون العُرْف هو الذي ضد النُّكر، فإن كانوا الملائكة المبعوثين للرحمة، فالمعنى فيهم ظاهر وإن بعثوا للعذاب فذلك العذاب وإن لم يكن معروفاً للكفَّار فإنه معروف للأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - والمؤمنين، أو يكون العرف التَّتابع، وقوله تعالى:{فالعاصفات عَصْفاً} فمعناه أن الملائكة عصفوا في طيرانهم كعصف الرياح، أو يعصفون بروح الكافرِ، يقال: عصف بالشيء إذا أباده، وقوله تعالى:{والناشرات نَشْراً} أي: أنهم نشروا أجنحتهم عند انحطاطهم إلى الأرض، أو نشروا الرحمة والعذاب، أو المراد الملائكة الذي ينشرون الكتب التي فيها أعمال بني آدم يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً، وقوله تعالى:{فالفارقات فَرْقاً} أي: أنهم يفرقون بين الحق والباطل، وقوله:{فالملقيات ذِكْراً} أي أنهم يلقون الذِّكرَ إلى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.

والمراد بالذكر إما العلم والحكمة أو القرآن، لقوله تعالى:{أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا} [القمر: 25] ، وهذا المُلْقي وإن كان جبريل وحده إلا أنه سمِّي باسم الجمع تعظيماً له.

واعلم أن الملائكة أقسام: قسمٌ يرسل لإنزال الوحي على الأنبياء، وقسمٌ يرسل لكتابة اعمل بني آدم، وقسم يرسل لقبض الأرواح، وقسم يرسل بالوحي من سماءٍ إلى سماءٍ.

الوجه الثاني: أن المراد بهذه الكلمات الخمس: الرياح، أقسم الله - تعالى - بالرياح

ص: 64

عند إرسالها عُرْفاً، أي: متتابعة، كشعر العرف، ثم إنها تشتدّ حتى تصير عواصف ورياح رحمة تنشر السحاب في الجو، قال الله تعالى:{يُرْسِلُ الرياح بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} [الأعراف: 57]، وهو المراد بقوله تعالى:{والناشرات نَشْراً} أي: أنها تنشر السحاب، أو أنها تلقح الأشجار والنبات، فتكون ناشرة، وقوله تعالى:{فالفارقات فَرْقاً} أي: أنها تفرق بين أجزاء السحاب، أو أنها تخرب بعض القرى، وذلك يصير سبباً لظهور الفرق بين أولياء الله وأعدائه، أو أنها عند هبوبها تفرّق الخلق فمن مقرّ خاضع، ومن منكر جاحد.

وقوله تعالى: {فالملقيات ذِكْراً} أي: أن العاقل إذا شاهد هبوب تلك الرياح التي تقلع القِلَاع وتهدم الصخور والجبال، وترفع أمواج البحار تمسَّك بذكر الله - تعالى - والتجأ إلى إعانة الله - تعالى - فصارت تلك الرياح كأنها ألقت الذِّكر والإيمان والعبودية في القلب.

الوجه الثالث: قال ابن الخطيب: من الناس من حمل بعض هذه الكلمات الخمس على القرآن، وعندي أنه يمكن حمل جميعها على القرآن، فقوله تعالى:{والمرسلات عُرْفاً} المراد منه الآيات المتتابعة المرسلة على لسان جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم َ، وقوله تعالى:{عُرْفاً} أي هذه الآيات نزلت بكل عرف وخير، كيف لا وهي الهادية إلى سبيل النجاة الموصلة إلى مجامع الخيرات، والمراد ب «العاصفات عصفاً» أن دولة الإسلام والقرآن إن كانت ضعيفةً في أولها، ثم عظُمت وقهرت سائر الملل والأديان، فكأن دولة القرآن عصفت سائر الدُّول والملل والأديان وقهرتها، وجعلتها باطلة دائرة.

والمراد ب «النَّاشِرات نَشْراً» ، أن آيات القرآن نشرت الحِكَم والهداية في قلوب العالمين شرقاً وغرباً.

والمراد ب «الفارقات فرقاً» أن آيات القرآن نشرت الحِكَم والهداية في قلوب العالمين شرقاً وغرباً.

والمراد ب «الفارقات فرقاً» أن آيات القرآن فرَّقت بين الحقِّ والباطل، ولذلك سمِّي القرآن فرقاناً، والمراد ب «الملقيات ذكراً» أن القرآن ذكر، قال تعالى:{ص والقرآن ذِي الذكر} [ص: 1]{وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف: 44]{وهذا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ} [الأنبياء: 50]{وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ} [الحاقة: 48] .

الوجه الرابع: قاله ابن الخطيب: ويمكن حملها أيضاً على بعثة الرُّسل، فالمراد ب «المرسلات عرفاً» هم المُرسَلُون بالوَحْي المشتمل على كُلِّ خير ومعروف، {فالعاصفات عَصْفاً} أن كل أمر لكل رسول يكون في أول أمره حقيراً ضعيفاً، ثم يشتدّ ويعظم ويصير في القوة كعصف الرياح {والناشرات نَشْراً} انتشار دينهم، {فالفارقات فَرْقاً} أنهم يفرقون بين الحق والباطل، {فالملقيات ذِكْراً} أنهم يأمرونهم بالذكر ويحثُّونهم عليه.

ص: 65

الاحتمال الثاني: وهو ألَاّ يكون المراد من هذه الكلمات الخمس شيئاً واحداً، وفيه وجوه:

أحدها: قال الزجاج، واختاره القاضي: أن الثلاثة الأول هي الرياح، فقوله تعالى:{والمرسلات عُرْفاً} هي الرياح التي تتصل على العرف المعتاد، والعاصفات: ما اشتدّ عنها، والنَّاشرات: ما ينشر السحاب، وقوله تعالى:{فالفارقات فَرْقاً} هم الملائكة الذي يُفرِّقُون بين الحقِّ والباطل والحلال والحرام بما يتحمَّلونه من القرآن والوحي، وكذا قوله:{فالملقيات ذِكْراً} أنها الملائكة المتحمِّلون للذِّكر الذي يلقونه إلى الرسل.

فإن قيل: ما المجانسة بين الريح وبين الملائكة حتى جمع بينهما في القسمِ؟ .

قلت: الملائكة روحانيّون فهم سبب طاقاتهم وسرعة حركاتهم كالرياح.

وثانيها: أن الآيتين الأوليين هما الرياح، والثلاثة الباقية منهم الملائكة؛ لأنها تنشر الوحي والدين، ثم لذلك الوحي أثران:

الأول: حصول الفرق بين المحق والمبطل.

والثاني: ظهر الله في القلوب والألسنة، ويؤكد هذا أنه قال:{والمرسلات عُرْفاً فالعاصفات عَصْفاً} ، ثم عطف الثاني على الأول بحرف الواو، فقال:«والنَّاشِرَاتِ» وعطف الاثنين الباقيين عليه بحرف الفاء، وهذا يقتضي أن يكون الأولان ممتازين عن الثلاثة الأخيرة.

قال ابن الخطيب: ويمكن أن يكون المراد بالأولين الملائمكة، فقوله تعالى:{والمرسلات عُرْفاً} ملائكة الرَّحمة، وقوله تعالى:{فالعاصفات عَصْفاً} ملائكة العذاب، والثلاثة الباقية آيات القرآن؛ لأنها تنشر الحق في القلوب والأرواح، وتفرّق بين الحق والباطل، وتلقي الذكر في القلوب والألسنة.

فصل في وجه دخول الفاء والواو في جواب القسم

قال القفالُ: الوجه في دخول الفاء في بعض ما وقع به القسم، والواو في بعض مبنيّ على أصل، وهو أن عند أهل اللغة أن الفاء تقتضي الوصل والتعلُّق، فإذا قيل: قام زيد فذهب، فالمعنى: أنه قام ليذهب، فكان قيامه سبباً لذهابه ومتصلاً به، فإذا قيل: قام وذهب، فهما خبران، وكل واحد منهما قائم بنفسه، لا يتعلق بالآخر. ثم إن القفال رحمه الله لما مهد هذا الأصل، فرع عليه الكلام في هذه الآية بوجوه.

قال ابن الخطيب: وتلك الوجوه لا يميل القلب إليها، وأنا أنوع على هذا الأصل

ص: 66

فأقول: أما من جعل الأولين صفة لشيءٍ، والثلاثة الأخيرة صفاتٍ لشيء واحدٍ، فنقول: إن حملناها على الملائكة فالملائكة إذا أرسلت طارت سريعاً، وذلك الطيران هو العصف، فالعصف مرتب على الإرسال، فإن الملائكة أول ما يلقون الوحي إلا الرُّسل لا يصير في الحال ذلك الدين مشهوراً منتشراً، بل الخلق يردون الأنبياء في أول الأمر فيكذبونهم وينسبونهم إلى السحر والجنون، فلا جرم أن يذكر الفاء التي تفيد التعقيب، بل ذكر الواو، وإذا حصل النشر ترتب عليه حصول الفرق بين الحق والباطل وظهور ذلك الحق على الألسنة فلا جرم ذكر هذين الأمرين بحرف الفاء، فكأنه - والله أعلم - قال: يا محمد، أنا أرسلت إليك الملك بالوحي الذي هو عنوان كل سعادة وخير، ولكن لا تطمع في أن ينتشر ذلك الأمر في الحال، ولكن لا بد من الصَّبر وتحمل المشقة، ثم إذا جاء وقت النصرة اجعل دينك ظاهراً منتشراً في شرق العالم وغربه، وعند ذلك الانتشار يظهر الفرق، فتصير الأديان باطلة، ضعيفة، ساقطة، ودينك الحق ظاهراً عالياً، وهنالك يظهر ذكر الله على الألسنة، وفي المحاريب وعلى المنابر، ومن عرف هذا الوجه أمكنه ذكر مناسبة سائر الوجوه.

قوله: {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ} . هذا جوابُ القسم، وقوله:«والمُرسَلاتِ» وما بعده معطوف عليه، وليس قسماً مستقلاً، لما تقدم في أول الكتاب، لوقوع الفاء هنا عاطفة؛ لأنها لا تكون للقسم، و «ما» موصولة بمعنى «الذي» هي اسم إن و «تُوعَدُون» صلتها، والعائد محذوف، أي إن الذي توعدونه، و «لواقع» خبرها، وكان من حق «إن» أن تكون منفصلة عن «ما» الموصولة، ولكنهم كتبوها متصلة بها.

فصل في الموعود به

إنما توعدون من أمر القيامة لواقع بكم ونازل عليكم ثم لذكره علامات القيامة بعده.

وقال الكلبي: المراد أن كل ما توعدون به من الخير والشَّر لواقع بكم.

ص: 67

ثم بين وقت وقوعه فقال تعالى: {فَإِذَا النجوم طُمِسَتْ} اي: ذهب ضوؤها، ومُحِيَ نورها كطَمْسِ الكتاب، يقال: طمس الشيء إذا درس، وطمس فهو مطموس، والريح

ص: 67

تطمس الآثار، فتكون الريح طامسة، والأثر طامس بمعنى مطموس.

قال ابن الخطيب: ويحتمل ان تكون محقت ذواتها، وهو موافق لقوله تعالى:{نُشرت} .

و «النُّجومُ» مرتفعة بفعل مضمر يفسره ما بعده عند البصريين غير الأخفش، وبالابتداء عن الكوفيين والأخفش.

وفي جواب «إذا» قولان:

أحدهما: محذوف، تقديره: فإذا طمست النجوم وقع ما توعدون، لدلالة قوله إنما توعدون لواقع أو بان الأمر.

والثاني: أنه «لأيَِّ يَومٍ أجِّلتْ» على إضمار القول، أي يقال: لأي يوم أجّلت، فالفعل في الحقيقة هو الجواب.

وقيل: الجواب: «وَيْلٌ يَوْمَئذٍ» . نقله مكي، وهو غلط؛ لأنه لو كان جواباً للزمته الفاء لكونه جملة اسمية.

قوله تعالى: {وَإِذَا السمآء فُرِجَتْ} . أي: فتحت وشقّت، ومنه قوله تعالى:{وَفُتِحَتِ السمآء فَكَانَتْ أَبْوَاباً} [النبأ: 19]، والفَرْجُ: الشقُّ، ونظيره:{إِذَا السمآء انشقت} [الانشقاق: 1]{وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السمآء بالغمام} [الفرقان: 25] .

وروى الضحاك عن ابن عباس: رضي الله عنهم قال: فرجت للطي.

قوله تعالى: {وَإِذَا الجبال نُسِفَتْ} أي: ذهب بها كلها بسرعة، من أنسفت الشيء إذا اختطفته، وقيل: تنشق كالحب المغلق إذا نسف بالمنسف، ومنه قوله تعالى:{لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي اليم نَسْفاً} [طه: 97]، ونظيره:{وَبُسَّتِ الجبال بَسّاً} [الواقعة: 5]{وَكَانَتِ الجبال كَثِيباً مَّهِيلاً} [المزمل: 14]{فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً} [طه: 105] .

وقرئ: «طُمّست، وفُرّجت، ونُسّفت» مشددة.

وكان ابن عباس يقول: سويت بالأرض، والعرب تقول: فرس نسوف، إذا كان يؤخر الحزام بمرفقيه؛ قال بشرٌ:[الوافر]

5055 -

نَسُوفٌ لِلحزَامِ بِمرْفقيْهَا.....

...

...

...

...

...

ص: 68

ونسفت الناقة الكلأ إذا رعتهُ.

قوله: {وَإِذَا الرسل أُقِّتَتْ} . قرأ أبو عمرو: «وقِّتَتْ» بالواو، والباقون: بهمزة بدل الواو. قالوا: والواو هي الأصل؛ لأنه من الوقت، والهمزة بدل منها لأنها مضمومة ضمة لازمة، وكل واو انضمت وكانت ضمتها لازمة تبدل على الاطراد همزة أولاً، تقول: صلى القوم إحداناً، تريد: وِحدَاناً، وهذه أجوه حسان؛ لأن ضمة الواو ثقيلة وبعدها واو فالجمع بينهما يجري مجرى المثلين فيكون ثقيلاً، ولم يجز البدل في قوله تعالى {وَلَا تَنسَوُاْ الفضل بَيْنَكُمْ} [البقرة: 237] ؛ لأن الضمة غير لازمة، قال الفراء. وقد تقدم ذكر ذلك أول الكتاب.

فصل في المراد بالتأقيت

قال مجاهد والزجاج: المراد بهذا التأقيت تبيين الوقت الذي تحضرون فيه للشهادة على أممكم، أي: جمعت لوقتها ليوم القيامة، والوقت: الأجل الذي يكون عنده الشيء المؤخر إليه، فالمعنى: جعل لها وقت وأجل للفصل والقضاء بينهم وبين الأمم، كقوله تعالى:{يَوْمَ يَجْمَعُ الله الرسل} [المائدة: 109] .

وقيل: المراد بهذا التأقيت تحصيل الوقت وتكوينه، وليس في اللفظ بيان أنه يحصل لوقت أي شيء، ولم يبينه ليذهب الوهم إلى كل جانب، فيكون التهويل فيه أشد، فيحتمل أن يكون المراد تكوين وقت جمعهم للفوز بالثواب، وأن يكون وقت سؤال الرسل عما أجيبوا به، وسؤال الأمم عما أجابوا هم لقوله تعالى:

{فَلَنَسْأَلَنَّ الذين أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ المرسلين} [الأعراف: 6] ، وأن يكون وقت مشاهدة الجنة والنار وسائر أحوال القيامة، وقيل:«أقِّتَتْ» أي: أرسلت لأوقات معلومة على ما علمه الله وأراده.

فصل في قراءات الآية

قرأ أبو جعفر وشيبة: بالواو وتخفيف القاف وهو «فعلت» من الوقت، ومنه {كِتَاباً مَّوْقُوتاً} [النساء: 103] .

وقرئ - أيضاً -: «وُوقتت» - بواوين -، وهو «فوعلت» من الوقت أيضاً مثل: عُوهِدَت.

قال القرطبي: «ولو قلبت الواو في هاتين القراءتين ألفاً لجاز، وقد قرأ يحيى

ص: 69

وأيوب وخالد بن إلياس وسلام:» أقِتَتْ «بالهمز والتخفيف؛ لأنها مكتوبة في المصحف بالألف» .

قوله تعالى: {لأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ} . الجار متعلق ب «أجلت» وهذه الجملة معمولةٌ لقول مضمر، أي: يقال وهذا القول المضمرُ يجوز أن يكون جواباً ل «إذا» - كما تقدَّم - وأن يكون حالاً من مرفوع «أقتت» أي: مقولاً فيها لأيِّ يوم أجّلت أي: أخّرت، وهذا تعظيم لذلك اليوم، فهو استفهام على التعظيم، أي ليوم الفصل أجلت، كأنه تعالى قال: يعجب العباد من تعظيم ذلك اليوم، فيقال: لأي يوم أجلت الأمور المتعلقة بهذه الرسل، وهي تعذيب من كذبهم وتعظيم من آمن بهم وظهور ما كانوا يدعون الخلق إلى الإيمان به من الأهوال والعرض والحساب، ونشر الدواوين ووضع الموازين.

قوله: {لِيَوْمِ الفصل} بدل من «لأيِّ يومٍ» بإعادة العامل.

وقيل: بل يتعلق بفعل مقدر أي أجلت ليوم الفصل، وقيل: اللام بمعنى «إلى» ذكرها مكي.

فصل في المراد بيوم الفصل

اعلم أنه تعالى بين ذلك اليوم فقال: {لِيَوْمِ الفصل} ، قال ابن عباس: يوم فصل الرحمن بين الخلائق، لقوله تعالى:{إِنَّ يَوْمَ الفصل مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ} [الدخان: 40] .

قوله: {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الفصل} . أتبع التعظيم تعظيماً، أي: وما علمك بيوم الفصل وشدته ومهابته، ثم أتبعه بتهويل ثالث، وهو قوله:«ويْلٌ» مبتدأ، سوغ بالابتداء به كونه دعاء.

قال الزمخشري: «فإن قلت: كيف وقعت النكرة مبتدأ في قوله تعالى {وَيْلٌ} ؟ قلت: هو في أصله مصدر منصوب سادّ مسدَّ فعله، ولكنه عدل به إلى الرفع للدلالة على إثبات معنى الهلاك، ودوامه للمدعو عليهم، ونحوه {سَلَامٌ عَلَيْكُم} [الرعد: 24] ، ويجوز» قِيلاً «بالنصب، ولكنه لم يقرأ به» .

قال شهاب الدين: «هذا الذي ذكره ليس من المسوّغات التي عدها النحويون وإنما المسوغ كونه دعاء وفائدة العدول إلى الرفع ما ذكره» .

و «يَوْمئذٍ» ظرف للويل.

وجوز أبو البقاء: أن يكون صفة للويلِ، وللمكذبين خبره.

ص: 70

فصل في تفسير الآية

قال القرطبي: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} أي: عذاب وخِزْي لمن كذب بالله تعالى وبرسله، وعلى تقدير تكذيبهم؛ فإنَّ لكل مكذب بشيء سوى تكذيبه بشيء آخر، وربّ شيء كذب به وهو أعظم جرماً من تكذيبه بغيره؛ لأنه أقبح في تكذيبه، وأعظم في الرد على الله تعالى، فإنما يقسم له من الويل على قدر ذلك، وهو قوله:{جَزَآءً وِفَاقاً} [النبأ: 26] .

وقيل: كرره لمعنى تكرار التخويف والوعيد.

وروي عن النعمان بن بشير قال: «ويْلٌ» واد في جهنم فيه ألوان العذاب، قاله ابن عباس وغيره.

وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم َ أنه قال: «عُرِضتْ عليَّ جَهنَّمُ فَلمْ أرَ فيهَا وَادِياً أعْظمَ منَ الوَيْلِ» .

وروي أيضاً أنه مجمع ما يسيل من قيحِ أهل النار وصديدهم، وإنما يسيل الشيء فيما سفل من الأرض، وقد علم العباد في الدنيا أن شرّ المواضع في الدنيا ما استنقع فيها مياه الأدناس والأقذار والغسلات من الجيف وماء الحمَّامات، فذكر أن ذلك الوادي مستنقع صديد أهل النَّار والشرك ليعلم العاقل أنه لا شيء أقذرُ منه قذارةً، ولا أنتنُ منه نتناً.

قوله تعالى: {أَلَمْ نُهْلِكِ الأولين} . العامة: على ضم حرف المضارعة، من «أهْلَكَ» رباعيًّا، وقتادة: بفتحه.

قال الزمخشري: من هلكه بمعنى «أهلكه» ؛ قال العجاج: [الرجز]

5056 -

ومَهْمَهٍ هَالكُ مَنْ تَعرَّجَا

ف «من» معمول الهالك، وهو من «هلك» ، إلَاّ أن بعض النَّاس جعل هذا دليلاً على إعمال الصِّفة المشبهة في الموصول، وجعلها من اللازم؛ لأن شرط الصفة المشبهة أن تكون من فعل لازم، فعلى هذا دليل فيه.

قوله: {ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الآخرين} .

العامة: على رفع العين استئنافاً أي: ثم نحن نتبعهم، كذا قدره أبو البقاء.

ص: 71

وقال: «وليس بمعطوف، لأن العطف يوجب أن يكون المعنى: أهلكنا الأولين، ثمَّ أتبعناهم الآخرين في الهلاك، وليس كذلك؛ لأن هلاك الآخرين لم يقع بعد» .

قال شهاب الدين: ولا حاجة في وجه الاستئناف إلى تقدير مبتدأ قبل الفعل، بل يجعل الفعل معطوفاً على مجموع الجملة من قوله:«ألَمْ نُهْلكِ» ، ويدل على هذا الاستئناف قراءة عبد الله:«ثم سَنُتْبِعهُم الآخرين» بسين التنفيس، وقرأ الأعرج والعباس عن أبي عمرو: بتسكينها، وفيها وجهان:

أحدهما: أنه تسكين للمرفوع، فهو مستأنف كالمرفوع لفظاً.

والثاني: أنه معطوف على مجزوم، والمعني بالآخرين حينئذ قوم شعيب ولوط وموسى، وبالأولين قوم نوح وعاد وثمود.

قال ابن الخطيب: وهذا القول ضعيف؛ لأن قوله تعالى: {نُتْبِعُهُمُ} مضارع، وهو للحال والاستقبال، ولا يتناول الماضي، وإنما المراد بالأولين: جميع الكفار الذين كانوا في عهد محمد صلى الله عليه وسلم َ، وقوله:{ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الآخرين} على الاستئناف، أي: سنفعل ذلك، ونتبع الأول الآخر، ويدل على الاستئناف قراءة عبد الله في نتبعهم تدل على الاشتراك، وحينئذ يكون المراد به الماضي لا المستقبل.

قلنا: لو كان المراد هو الماضي لوقع التنافي بين القراءتين، وهو غير جائز، فعلمنا أن تسكين العين ليس للجزم، بل للتخفيف.

قوله: {كَذَلِكَ نَفْعَلُ} أي: مثل ذلك الفعل الشَّنيع نفعل بكل من أجرم.

فصل في المراد بالآية

المقصوُد من هذه الآية تخويف الكفار وتحذيرهم من الكفر، أخبر عن إهلاك الكفار من الأمم الماضين من لدُن آدم عليه الصلاة والسلام ُ - إلى محمد - عليه أفضل الصلاة والسلام - {ثُمَّ نُتْبِعهُمُ الآخرين} أي: نُلحق الآخرين بالأولين، {كَذَلِكَ نَفْعَلُ بالمجرمين} أي: مثل ما فعلنا بمن تقدم بمشركي قريش إما بالسيف وإما بالهلاك، ثم قال تعالى:{وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} كأنه تعالى يقول: أما الدنيا: فحاصلهم الهلاك، وأما الآخرة فالعذاب الشديد، وإليه الإشارة بقوله تعالى:{خَسِرَ الدنيا والأخرة ذلك هُوَ الخسران المبين} [الحج: 11] فإن قيل: المراد من قوله: {أَلَمْ نُهْلِكِ الأولين} وهو مطلق الإماتة،

ص: 72

والإماتة بالعذاب فإن كان مطلق الإماتة لم يكن ذلك تخويفاً للكفار؛ لأن ذلك معلوم حاصل للمؤمن والكافر، فلا يكون تخويفاً للكفار، وإن كانت الإماتة بالعذاب فقوله تعالى:{ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الآخرين} {كَذَلِكَ نَفْعَلُ بالمجرمين} يقتضي أن يكون فعل بكفَّار قريش مثل هذا، ومعلوم أن ذلك لم يوجد، وأيضاً فقد قال تعالى:{وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ} [الأنفال: 33] .

فالجواب: قال ابن الخطيب: لم لا يجوز أن يكون المراد من الإهلاك معنى ثالث، وهو الإماتة للذمِّ واللَّعن، فكأنه قيل: أولئك المتقدمون لحرصهم على الدنيا عادوا الأنبياء وخاصموهم، ثم ماتوا ففاتتهم الدنيا، وبقي اللَّعْن عليهم في الدنيا والعقوبة في الاخرة دائماً سرمداً، فهكذا يكون حال الكفار الموجودين، وهذا من أعظم وجوه الزجر.

ص: 73

قوله: {أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ} . أي: ضعيف حقير وهو النُّطفة، وهذا نوع آخر من تخويف الكفار، وهو من وجهين:

الأول: أنه - تعالى - ذكرهم عظيم إنعامه عليهم، وكلما كانت نعمه عليهم أكثر كانت جنايتهم في حقه أقبح وأفحش، فيكون العقاب أعظم، فلهذا قال جل ذكره عقيب هذه الأنعام:{وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} .

والثاني: أنه تعالى ذكرهم كونه تعالى قادراً على الابتداء، والظاهر في العقل أن القادر على الابتداء قادر على الإعادة، فلما أنكروا هذه الدلالة الظاهرة، لا جرم قال في حقهم:{وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} ، وهذه الآية نظير قوله تعالى:{ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍ مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ} [السجدة: 8] .

{فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ} ، أي: مكان حريز وهو الرَّحم.

{إلى قَدَرٍ مَّعْلُومٍ} ، قال مجاهد: إلى أن نصوره، وقيل: إلى وقت الولادة، كقوله تعالى:{إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة} [لقمان: 34] إلى قوله: {وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرحام} [لقمان: 34] .

قوله تعالى: {فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ القادرون} ، قرأ نافع والكسائي: بالتشديد من التقدير، وهو موافق لقوله تعالى:{مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ} [عبس: 19] .

ص: 73

والباقون: بالتخفيف، من القدرة، ويدل عليه {فَنِعْمَ القادرون} .

ويجوزُ أن يكون المعنى على القراءة الأولى: فنعم القادرون على تقديره: وإن جعلت «القادرون» بمعنى «المقدرون» كان جمعاً بين اللَّفظين، ومعناهما واحد، ومنه قوله تعالى:{فَمَهِّلِ الكافرين أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً} [الطارق: 17] ؛ وقول الأعشى: [البسيط]

5057 -

وأنْكرَتْنِي وقَدْ كَانَ الَّذِي نَكرَتْ

مِنَ الحَوادثِ إلَاّ الشَّيْبَ والصَّلْعَا

وقال الكسائي والفراء: هما لغتان بمعنى.

قال القتيبي: «قَدَرْنَا» بمعنى «قَدَّرْنَا» مشددة، كما تقول: قدرت كذا وقدرته ومنه قوله صلى الله عليه وسلم َ في الهلال: «إذَا غُمَّ عَليْكُمْ فاقْدُرُوا لَهُ» أي: قدروا له المسير والمنازل.

وقال محمد بن الجهم عن الفرَّاء: أنه ذكر تشديدها عن علي رضي الله عنه وتخفيفها.

قال: ولا يبعُد أن يكون المعنى في التشديد والتخفيف واحداً، لأن العرب تقول: قدر عليه الموت وقدر، قال تعالى:{نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الموت} [الواقعة: 60] قرئ بالتخفيف والتشديد، وقدر عليه رزقه وقدر، واحتج الذين خففوا فقالوا: لو كانت كذلك لكانت «فنِعْمَ المُقدِّرُونَ» .

قال الفراء: والعرب تجمع بين اللُّغتين، واستدل بقوله:{فَمَهِّلِ الكافرين} الآية، [الطارق: 17] وذكر بيت الأعشى المتقدم.

وقيل: المعنى قدَّرنا قصيراً وطويلاً، ونحوه عن ابن عبَّاس: قدرنا ملكنا.

قال المهدوي: وهذا التفسير أشبه بقراءة التخفيف.

ص: 74

قوله تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأرض كِفَاتاً} هذا هو النوع الرَّابع من تخويف الكُفَّار؛ لأنه - تعالى - ذكرهم في الآية المتقدمة بالنعم التي في الأنفس لأنها كالأصل للنعم التي في الآفاق، ثم قال في آخرها:{وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} ؛ لأن النعم كلها كانت أكثر كانت الخيانة أقبح وكان استحقاق الذم أشد، وذكر في هذه الآية النعم التي في الأنفس، لأنها كالأصل للنعم التي في الآفاق، قالوا: فإنه لولا الحياة والسمع والبصر والأعضاء السليمة لما كان

ص: 74

الانتفاع بشي من المخلوقات ممكناً - والله أعلم -، وإنما قدم الأرض لأنها أقرب الأشياء إلينا من الأمور الخارجة.

والكِفَات: اسم للوعاء الذي يكفت فيه أي يجمع. قاله أبو عبيدٍ، يقال: كفته يكفته أي جمعه وضمه.

وفي الحديث: «أكْفِتُوا صبيانكُم» ، قال الصمصمامة بن الطرمَّاح:[الوافر]

5058 -

وأنْتَ غَداً اليَوْمَ فَوْقَ الأرْضِ حَيًّا

وأنْتَ غَداً تَضُمَّكَ فِي كِفاتِ

وقيل: الكِفَات: اسم لما يكفت ك «الضِّمام والجماع» ، يقال: هذا الباب جماع الأبواب، والمعنى: نجعل الأرض ضامَّة تضم الأحياء على ظهرها، والأموات في بطنها، والكفت: الضم والجمع؛ وأنشد سيبويه: [الوافر]

5059 -

كِرَامٌ حِينَ تَنْكفِتُ الأفَاعِي

إلَى أحْجارِهنَّ مِنَ الصَّقيعِ

وروي عن ربيعة في النباش، قال: تقطع يده، فقيل له: لم قلتَ ذلك؟ فقال: إن الله - تعالى - يقول: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأرض كِفَاتاً أَحْيَآءً وَأَمْواتاً} فالأرض حِرز، وكانوا يسمون بقيع الغرقد كفته، لأنه مقبرة تضم الموتى، فالأرض تضم الأحياء إلى منازلهم، والأموات في قبورهم، وأيضاً استقرار النَّاس على وجه الأرض، ثم اضطجاعهم عليها، انضمام منهم إليها.

وقال الأخفش وأبو عبيدة ومجاهد في أحد قوليه: الأحياء والأموات ترجع إلى الأرض، والأرض منقسمة إلى حيٍّ وهو الذي ينبت، وإلى ميت وهو الذي لا ينبت.

وفي انتصاب: «كَفَاتاً، أحياء وأمواتاً» وجهان:

أحدهما: أنه مفعول ثانٍ ل «نجعل» ؛ لأنها للتصيير.

والثاني: أنه منصوب على الحال من «الأرض» ، والمفعول الثاني:«أحياءً وأمواتاً» بمعنى: ألم نصيِّرها أحياء بالنبات، وأمواتاً بغير نبات، أي: بعضها كذا، وبعضها كذا.

وقيل: «كِفَاتاً» جمع كافت ك «صيام، وقيام» جمع «صائم، وقائم» .

وقيل: بل هو مصدر كالكتاب والحساب.

وقال الخليل: التكفيت: تقليب الشَّيء ظهراً لبطن وبطناً لظهر، ويقال: انكفت القوم إلى منازلهم، أي: انقلبوا، فمعنى الكفات: أنهم يتصرفون على ظهرها، وينقلبون إليها فيدفنون فيها.

ص: 75

قوله: {أَحْيَآءً} . فيه أوجه:

أحدها أنه منصوب ب «كفات» قاله مكي، والزمخشري؛ وبدأ به بعد أن جعل «كِفَاتاً» اسم ما يكفت، كقولهم: الضِّمام والجماع.

وهذا يمنع أن يكون «كِفَاتاً» ناصباً ل «أحياءً» ؛ لأنه ليس من الأسماء العاملة، وكذلك إذا جعلناه بمعنى الوعاء على قول أبي عبيدة، فإنه لا يعمل أيضاً، وقد نصّ النحاة على أن أسماء الأمكنة والأزمنة والآلات وإن كانت مشتقة جارية على الأفعال لا تعمل، نحو: مَرْمَى، ومَنْجَل.

وفي اسم المصدر خلاف مشهور، ولكن إنما يتمشّى نصبهما ب «كفات» على قول أبي البقاء، فإنه يجوز فيه إلا أن يكون جمعاً لاسم فاعل أو مصدراً وكلاهما من الأسماء العاملة.

الوجه الثاني: أن ينتصب بفعل مقدر يدل عليه «كفاتاً» أي: يكفتهم أحياءً عى ظهرها، وأمواتاً في بطنها، وبه ثنى الزمخشري.

الثالث: أن ينتصب على الحالِ من محذوف، أي: يكفتكم أحياءً وأمواتاً، لأنه قد علم أنها كفات للإنس قاله الزمخشري، وإليه نحا مكي، إلا أنه قدر غائباً اي تجمعهم الأرض في هاتين الحالتين.

الرابع: أن ينتصب مفعولاً ثانياً ل «نجعل» و «كفاتاً» حال، كما تقدم تقريره.

وتنكير «أحياء وأمواتاً» إما للتفخيم، أي يجمع أحياء لا يقدرون وأمواتاً لا يحصون، وإما للتبعيض؛ لأن أحياء الإنس وأمواتهم ليسوا بجميع الأحياء ولا الأموات، وكذلك التنكير في «ماءً فراتاً» يحتمل المعنيين أيضاً، أما التفخيم فواضحٌ لعظم المنّة عليهم وأما التبعيض، فلقوله تعالى:{وَيُنَزِّلُ مِنَ السمآء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ} [النور: 43] فهذا مفهم للتبعيض والقرآن يفسِّر بعضه بعضاً.

وقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ} . أي جعلنا في الأرض «رواسي» وهي الثوابت «شامخات» ، وهي الجبال الطُّوال، جمع شامخ، وهي المرتفعة جدًّا، ومنه شمخ بأنفه إذا تكبّر، جعل كناية عن ذلك كثني العطف، وصعر الخد وإن لم يحصل شيء من ذلك.

قوله تعالى: {وَأَسْقَيْنَاكُم مَّآءً فُرَاتاً} ، أي: وجعلنا لكم سُقْياً، والفرات: الماء العذب يُشْرَب ويُسْقَى به الزرع، أي: خلقنا الجبال، وأنزلنا الماء الفرات، وهذه الأمور أعجبُ من البعث.

وروى أبو هريرة رضي الله عنه: في الأرض من الجنة الفرات والدجلة ونهر الأردن.

ص: 76

وفي مسلم: سيحان وجيحان، والنيل، والفرات، كل من أنهار الجنة.

قوله

تعالى

: {انطلقوا

} . أي: يقال لهم ذلك.

والعامة: على «انطلقوا» الثاني كالأول بصيغة الأمر على التأكيد وروى رويس عن يعقوب: «انْطَلَقُو» - بفتح اللام - فعلاً ماضياً على الخبر، أي: لمَّا أمروا امتثلوا ذلك وهذا موضع الفاء، فكان ينبغي أن يكون التركيب فانطلقوا، نحو قولك: قلت له: اذهب فذهب، وعدم الفاء هنا ليس بواضح.

فصل في كيفية عذاب الكفار في الآخرة

هذا هو النَّوع الخامس من تخويف الكُفَّار، وهو بيان كيفية عذابهم في الآخرة والمعنى: يقال لهم: انطلقوا إلى ما كذبتم به من العذاب، يعني النار، فقد شاهدتموها عياناً.

{انطلقوا إلى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ} أي: دخان ذي ثلاث شعب، يعني الدخان الذي يرتفع، ثم يتشعب إلى ثلاث شعب، وكذلك بيان دخان جهنم العظيم إذا ارتفع تشعب.

قال أبو مسلم: ويحتمل في ثلاث شعبٍ ما ذكره بعد ذلك، وهو أنه غير ظليل، وأنه لا يغنى من اللهب، وبأنه يرمي بشرر، ثم وصف الظليل، فقال:

{لَاّ ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللهب} أي: لا يدفع من لهب جهنم شيئاً، أي: ليس كالظلِّ الذي يقي حر الشمس، وهذا تهكّم بهم، وتعريض بأن ظلَّهم غير ظلَّ المؤمنين، وأنه لا يمنع حرَّ الشمس.

واللهب ما يعلو على النار إذا اضطرمت من أحمر، وأصفر، وأخضر.

وقيل: إن الشعب الثلاث من الضَّريع، والزَّقُّوم، والغسلين؛ قاله الضحاك.

وقيل: اللهب ثم الشرر ثُمَّ الدخان، لأنها ثلاثة أحوال هي غاية أوصاف النار إذا اضطرمت واشتدت.

وقيل: عنق يخرج من النار فيتشعب ثلاث شعب، فأما النور فيقف على رءوس

ص: 77

المؤمنين، وأما الدخان فيقف على رءوس المنافقين، وأما اللهب الصافي فيقف على رءوس الكفار.

وقيل: هو السرادق، وهو لسان من النَّار يحيط بهم يتشعب منه ثلاث شعب، فيظلهم حتى يفرغ من حسابهم، لقوله تعالى:{أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} [الكهف: 29] .

وتَسْمِيَةُ النَّار بالظِّل مجاز من حيث إنها محيطةٌ بهم من كل جانب، لقوله تعالى:{لَهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النار وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ} [الزمر: 16]، وقال تعالى:{يَوْمَ يَغْشَاهُمُ العذاب مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} [العنكبوت: 55]

وقيل: هو الظل من يحموم لقوله تعالى: {وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ لَاّ بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ} [الواقعة: 43، 44] .

وفي الحديث: «إنَّ الشَّمسَ تَدنُو مِنْ رُءوسِ الخَلائقِ، وليْسَ عَلَيْهِم ولا لَهُمْ أكْفانٌ، فتَلْحَقُهمُ الشَّمْسُ وتَأخذُ بأنْفَاسِهمْ، ثُمَّ يُنَجِّي اللهُ بِرحْمَتهِ مَنْ يَشَاءُ إلى ظلِّ من ظلِّه، فهُناكَ يقُولُونَ: {فَمَنَّ الله عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السموم} [الطور: 27] ويقال للمذكبين: انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون من عذاب الله وعقابه» .

قوله: {لَاّ ظَلِيلٍ} صفة ل «ظلّ» ، و «لا» متوسّطة بين الصفة والموصوف لإفادة النَّفي، وجيء بالصِّفة الأولى اسماً، وبالثانية فعلاً دلالة على نفي ثبوت هذه الصِّفةِ واستقرارها للظل، ونفي التجدد والحدوث للإغناء عن اللَّهب، يقال: أغني عني وجهك، أي أبعد؛ لأن الغنيَّ عن الشيء يباعده كما أن المحتاج إليه يقاربه.

فال الزمخشري: «ولا يغني» في محل الجر، أي وغير مُغْنٍ عنهم من حر اللهب شيئاً.

{إِنَّهَا} أي إن جهنم، لأن السياق كله لأجلها.

وقرأ العامة: «بِشَررٍ» بفتح الشين وألف بين الراءين.

وورش يرقّق الراء الأولى لكسر التي بعدها.

وقرأ ابن عباس وابن مقسم: بكسر الشين وألف بين الراءين.

وعيسى كذلك، إلا أنه يفتح الشين.

فقراءة ابن عباس: يجوز أن تكون جمعاً ل «شَرَرة» ، و «فَعَلة» تجمع على «فِعَال» نحو «رَقَبة ورِقَاب، ورحبة ورِحَاب» .

ص: 78

وأن يكون جمعاً ل «شر» لا يراد به «أفعل» التفضيل: يقال: رجل شر، ورجال أشرار ورجل خير ورجال أخيار، ويؤنثان، فيقال: امرأة شرة وامرأة خيرة، فإن أريد بهما التفضيل امتنع ذلك فيهما، واختصّا بأحكام مذكورة في كتب النحو، أي: ترمي بشرار من العذاب، أو بشرار من الخلق.

وأما قراءة عيسى: فهو جمع شرارة بالألف، وهي لغة تميم، والشررة والشرارة: ما تطاير من النار منصرفاً.

قال القرطبي: «الشرر: واحدته شررة، والشرار: واحدته شرارة، وهو ما تطاير من النار في كل جهة، وأصله من شررت الثوب إذا بسطته للشمس ليجفَّ.

والقَصْر: البناء العالي» .

قوله: {كالقصر} العامة على فتح القاف وسكون الصاد وهو من القصر المعروف شبِّهت به في كبره وعظمه.

وابن عباس وتلميذه ابن جبير والحسن: بفتح القاف والصَّاد، وهي جمع قصرة - بالفتح - والقصرة: أعناق الإبل والنخل وأصول الشجر.

وقرأ ابن جبير والحسن أيضاً: بكسر القاف وفتح الصَّاد، جمع قصرة بفتح القاف.

قال الزمخشري: «كحاجة وحوج» .

وقال أبو حيان: «كحلقة من الحديد وحلق» .

وقرئ: «كالقَصِر» بفتح القاف وكسر الصاد.

قال شهاب الدين: ولم أر لها توجيهاً، ويظهر أن يكون ذلك من باب الإتباع والأصل: كالقصر - بسكون الصاد - ثم أتبع الصاد حركة الراء فكسرها، وإذا كانوا قد فعلوا ذلك في المشغول بحركة نحو «كَتِف، وكَبِد» فلأن يفعلوه في الخالي منها أولى، ويجوز أن يكون ذلك للنقل، بمعنى أنه وقف على الكلمة، فنقل كسرة الراء إلى الساكن قبلها، ثم أجرى الوصل مجرى الوقف، وهو باب شائع عند القراء والنحاة.

وقرأ عبد الله: قُصُر وفيها وجهان:

ص: 79

أحدهما: أنه جمع قصر، ك «رَهْن ورُهُن» . قاله الزمخشري.

والثاني: أنه مقصور من قصور؛ كقوله: [الرجز]

5060 -

فِيهَا عَيَايِيلُ أسُودٌ ونُمُرْ

يريد: نمور، فقصر، وكقوله:{والنجم} [النجم: 1] يريد: النجوم.

وتخريج الزمخشري أولى، لأن محل الثاني إما الضرورة، وإما الندور.

قوله: «جِمَالات» قرأ الأخوان وحفص: «جِمَالَة» ، والباقون:«جِمَالَات» .

ف «الجِمَالة» نحو «ذكر، وذِكارة، وحجر، وحِجَارة» .

والثاني: أنه جمع ك «الذِّكَارة، والحِجَارة» . قاله أبو البقاء.

والأول: قول النحاة.

وأما «جمالات» ، فيجوز أن يكون جمعاً ل «جمالة» ، وأن يكون جمعاً ل «جمال» ، فيكون جمع الجمع، ويجوز أن يكون جمعاً ل «جميل» المفرد كقولهم:«رجالات قريش» كذا قالوه. وفيه نظر؛ لأنهم نصُّوا على أن الأسماء الجامدة، وغير العاقلة لا تجمع بالألف والتاء، إلا إذا لم تكسر، فإن تكسرت لم تجمع، وقالوا: ولذلك لحن المتنبي في قوله: [الطويل]

5061 -

إذَا كَانَ بَعْضُ النَّاس سَيْفاً لِدوْلَةٍ

فَفِي النَِّاس بُوقاتٌ لَهُمْ وطُبُولُ

فجمع «بوقاً» على «بوقات» مع قولهم: «أبواق» ، فكذلك «جمالات» مع قولهم:«جمل، وجمال» على أن بعضهم لا يجيز ذلك، ويجعل نحو «حمامات، وسجلات» شاذًّا، وإن لم يكسر.

وقرأ ابن عباس والحسن وابن جبير وقتادة وأبو رجاء، بخلاف عنهم كذلك، إلا أنهم ضموا الجيم، وهي حبال السفن.

وقيل: قلوص الجسور، الواحد منها جملة، لاشتمالها على طاقات الحبال، وفيها وجهان:

أحدهما: أن يكون «جُمالات» - بالضم - جمع جمال، ف «جمال» جمع «جملة» ، كذا قال أبو حيَّان، ويحتاج في إثبات أن «جُمَالات» جمع «جملة» بالضم إلى نقل.

ص: 80

والثاني: أن «جمالات» جمع «جمالة» . قاله الزمخشري. وهو ظاهر.

وقرأ ابن عبَّاس والسلمي وأبو حيوة: «جُمَالة» بضم الجيم لما قاله الزمخشري آنفاً.

وروي عن علي رضي الله عنه أنها قطع النُّحاس.

قوله: {صُفْرٌ} . صفة ل «جمالات» أو ل «جمالة» لأنه إما جمع أو اسم جمع.

والعامة: على سكون الفاء جمع، والحسن بضمها، كأنه إتباع، ووقع التشبيه بها في غاية الفصاحة.

قال الزمخشري: وقيل: «صُفْر» سود تضرب إلى الصفرة، وفي شعر عمران بن حطَّان الخارجيِّ:[الطويل]

5062 -

دَعتْهُمْ بأعْلَى صَوْتهَا ورَمتهُمُ

بِمِثْلِ الجمالِ الصُّفْرِ نزَّاعةُ الشَّوَى

وقال أبو العلاءِ: [الكامل]

5063 -

حَمْرَاءُ سَاطِعَةُ الذَّوائِبِ في الدُّجَى

تَرْمِي بكُلِّ شَرارةٍ كطِرَافِ

فشبهها بالطِّراف، وهو بيت الأدم في العظمِ والحمرة، وكأنه قصد بخبثه أن يزيد على تشبيه القرآن، ولتبجحه بما سوّل له من توهم الزيادة جاء في صدر بيته قوله: حمراء، توطئة لها ومناداة عليها تنبيهاً للسَّامعين على مكانها، ولقد عمي، جمع الله له عمى الدارين عن قوله تعالى:{كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ} فإنه بمنزلة قوله: كبيت أحمر وعلى أن في التشبيه بالقصر، وهو الحصن تشبيهاً من جهتين: من جهة العظم، ومن جهة الطّول في الهواء.

انتهى.

وكان قد قال قبل ذلك بقليل: «شبهت بالقصور، ثم بالجمال لبيان التشبيه؛ ألا ترى أنهم يشبهون الإبل بالأفدان والمجادل» .

والأفدان: القصور؛ كأنه يشير إلى قول عنترة: [الكامل]

5064 -

فَوقفْتُ فِيهَا نَاقَتِي وكَأنَّهَا

فَدنٌ لأقْضِيَ حَاجةَ المُتلومِ

فصل في المراد بالقصر

قال القرطبي: القصر: البناء العالي.

ص: 81

وقيل: القصر: جمع قصرة - ساكنة الصاد - مثل جمرة وجمرة، وتمر وتمرة، والقصر: الواحدة من جزل الحطب الغليظ.

قال سعيد بن جبير، والضحاك: هي أصول الشجر والنخل العظام إذا وقع وقطع.

وقيل: أعناقه: شبّه الشرر بالجمال الصفر، وهي الإبل السود، والعرب تسمي السود من الإبل صفراً.

قال الشاعر: [الخفيف]

5065 -

تِلْكَ خَيْلِي منهُ وتِلْكَ رِكَابِي

هُنَّ صُفْرٌ أولادُهَا كالزَّبيبِ

أي: هنّ سود، وإنما سميت السود من الإبل صفراً؛ لأنه يشوب سوادها شيء من صفرة.

قال الترمذي: وهذا القول ضعيف، ومحال في اللغة أن يكون من يشوبه قليل فينسب كله إلى ذلك الشائب، فالعجب ممن قال هذا، وقد قال تعالى:{جِمَالَةٌ صُفْرٌ} فلا نعلم شيئاً من هذا في اللغة. والجمالات: الجمال.

وقال الفراء: يجوز أن تكون الجُمَالات - بالضم - من الشيء المجمل، يقال: أجملت الحساب، وجاء القوم جملة، أي مجتمعين.

والمعنى: أن هذا الشرر يرتفع كأنه شيء مجموع غليظ أصفر.

قيل: شبهها بالجمالات لسرعة سيرها.

وقيل: لمتابعة بعضها بعضاً.

قوله

: {هذا

يَوْمُ لَا يَنطِقُونَ} العامة على رفع «يوم» خبراً ل «هذا» ، أي تقول الملائكة: هذا يوم لا ينطقون.

ويجوز أن يكون «انطَلِقُوا» من قول الملائكة ثم يقول الله لأوليائه: هذا يومُ لا ينطق الكافر، ومعنى اليوم السَّاعة والوقت.

وزيد بن علي، والأعرج، والأعمش، وأبو حيوة، وعاصم في بعض طرقه: بالفتحِ، وفيه وجهان:

أحدهما: أن الفتحة فتحة بناء، وهو خبر ل «هذا» كما تقدم.

ص: 82

والثاني: أنه منصوب على الظرف واقعاً خبراً ل «هذا» على أن يشار به لما تقدم من الوعيد، كأنه قال: هذا العقاب المذكور كائن يوم لا ينطقون وقد تقدم آخر المائدة ما يشبه هذا في قوله تعالى: «هذا يَوْم يَنفَع» إلا أن النصب هناك متواتر.

قوله: {وَلَا يُؤْذَنُ} العامة: على عدم تسمية الفاعل. وحكى الأهوازي عن زيد بن علي: «ولا يَأذَنُ» سمى الفاعل، وهو الله تعالى.

وقوله: فيعتذرون «. في رفعه وجهان:

أحدهما: أنه مستأنف، أي فهم يعتذرون.

قال أبو البقاء: ويكون المعنى: أنهم لا ينطقون نطقاً ينفعهم، أو ينطقون نطقاً في بعض المواقف ولا ينطقون في بعضها.

والثاني: أنه معطوف على» يؤذن «فيكون منفياً، ولو نصب لكان متسبباً عنه.

وقال ابن عطيَّة:» ولم ينصب في جواب النَّفْي لتشابه رءوس الآي، والوجهان جائزان «.

فظهر من كلامه أنهما بمعنى واحد، وليس كذلك بل المرفوع له معنى غير معنى المنصوب، وإلى هذا ذهب الأعلم إلى أن الفعل قد يرتفع ويكون معناه النصب، ورد عليه ابن عصفور.

قال الفرَّاء في قوله:» وَلَا يُؤْذَنُ لهُمْ فيَعْتَذِرُونَ «: الفاء نسق، أي عطف على» يؤذن «، وأجيز ذلك، لأن آخر الكلام بالنون، ولو قال: فيعتذروا، لم يوافق الآيات، وقد قال:{لَا يقضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُواْ} [فاطر: 36] ، بالنصب، وكل صواب، ومثله:{مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ} [البقرة: 245] ، بالرفع والنصب.

فصل في تخويف الكفار

هذا نوع آخر من أنواع تخويف الكفار، لأن الله - تعالى - بين أنه ليس لهم عذر ولا حجة فيما أتوا به من القبائح، ولا لهم قدرة على رفع العذاب عن أنفسهم، واعلم أن يوم القيامة له مواطن ومواقيت، فهذا من المواقيت التي لا يتكلمون فيها ولا يعتذرون.

روى عكرمة: أن ابن عباس رضي الله عنهما سأله ابن الأزرق عن قوله تعالى: {هذا يَوْمُ لَا يَنطِقُونَ} و {فَلَا تَسْمَعُ إِلَاّ هَمْساً} [طه: 108]، وقد قال تعالى:{وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ} [الطور: 25] . فقال له: إن الله - تعالى - يقول:

{وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ

ص: 83

كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ} [الحج: 47] فإن لكل مقدار من هذه الأيام لوناً من هذه الألوان.

وقال الحسن: فيه إضمار، أي هذا يوم لا ينطقون فيه بحجة نافعة، ومن نطق بما لا ينفع ولا يفيد، فكأنه ما نطق، كما يقال لمن ذكر كلاماً غير مفيد: ما قلت شيئاً، وقيل: إن هذا وقت جوابهم: {اخسئوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون: 108] .

قال الفراء: أراد بقوله: «لا ينطقون» تلك الساعة، وذلك القدر من الوقت الذي لا ينطقون فيه، كما تقول: آتيك يوم يقدم فلان، والمعنى: ساعة يقدم، وليس باليوم كله؛ لأن القدوم إنما يكون في وقت يسير ولا يمتد في كل اليوم.

وأجاب ابن الخطيب: بأن قوله تعالى {لَا يَنطِقُونَ} لفظ مطلق، والمطلق لا يفيد العموم لا في الأنواع، ولا في الأوقات، بدليل أنك تقول: فلان لا ينطق بالشر ولكنه ينطق بالخير، وتارة تقول: فلان لا ينطق شيئاً ألبتة، فهذا يدل على أن مفهوم «لا ينطق» مشترك بين الدائم والمؤقت، وإذا كان كذلك فمفهوم «لا ينطق» يكفي في صدقه عدم النطق ببعض الأشياء، وفي بعض الأوقات، وذلك لا ينافي حصول النطق بشيء آخر في وقت آخر، فيكتفى في صدق قوله:«لا يَنطقُونَ» أنهم لا ينطقون بعذر وعلة في وقت واحد، وهو وقت السؤال.

فإن قيل: لو حلف لا ينطق في هذا اليوم حنث في قطعه في جزء منه. قلنا: ذلك لعرف الإيمان بحثنا في عرف اللفظ من حيث هو.

قال ابن الخطيب: فإن قيل: قوله: {ولا يُؤذنُ لهُم فيَعتَذِرُونَ} يوهم أن لهم عذراً، وقد منعوا من ذكره، فهم لا يؤذن لهم في ذكر ذلك العذر الفاسد.

قوله

تعالى

: {هذا

يَوْمُ الفصل جَمَعْنَاكُمْ} . هذا نوع آخر من أنواع تهديد الكفار وتخويفهم، أي: يقال لهم: هذا اليوم الذي يفصل فيه بين الخلائق، فيتبين المحق من المبطل.

ص: 84

{جَمَعْنَاكُمْ والأولين} .

قال ابن عباس: جمع الذين كذبوا محمداً صلى الله عليه وسلم َ والذين كذبوا النبيين من قبله.

{فَإِن كَانَ لَكمُ كَيْدٌ فَكِيدُونِ} أي: حيلة في الخلاص من العذاب «فَكِيدُونِ» أي «فاحتالوا لأنفسكم وفاء، ولن تجدوا ذلك.

وقيل: فإن كان لكم كيد أي إن قدرتم على حرب» فَكِيدُونِ «أي: حاربوني رواه الضحاك عن ابن عباس أيضاً، قال: يريد كنتم في الدنيا تحاربون محمداً وتحاربوني، فاليوم حاربوني.

وقيل: إنكم كنتم في الدنيا تعملون المعاصي، وقد عجزتم الآن عنها، وعن الدفع عن أنفسكم.

وقيل: إنه من قول النبي صلى الله عليه وسلم َ فيكون كقول هود عليه الصلاة والسلام ُ -: {فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لَا تُنظِرُونِ} [هود: 55] .

ص: 85

قوله تعالى: {إِنَّ المتقين فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ} .

قال مقاتل والكلبي: المراد بالمتقين: الذين يتقون الشرك بالله تعالى؛ لأن السورة من أولها إلى آخرها في تقريع الكفار على كفرهم وتخويفهم.

قال ابن الخطيب: فيجب أن تكون هذه الآية مذكورة لهذا الغرضِ، وإلا لتفككت السورة في نظمها وترتيبها، وإنما يتم النظم بأن يكون الوعد للمؤمنين بسبب إيمانهم، فأما من جعله بسبب الطاعة فلا يليق بالنظم، وأيضاً فإن المتقي للشرك يصدق عليه أنه متَّقٍ؛ لأن غاية هذا أنه عام مخصوص، فتبقى حُجَّة فيما عدا محل التخصيص، وأيضاً فأن يحمل اللفظ على المعنى الكامل أولى وأكمل أنواع التقوى تقوى الشرك، فالحمل عليه أولى.

ص: 85

وقال بعضهم: هذه الآية أيضاً من جملة التهديد، فإن الكفار في الدنيا يكون الموت عليهم أسهل من أن يكون للمؤمنين دولة، فإذا رأوا عاقبة الفريقين في الآخرة تضاعف خسرانهم وندمهم، ولما أوعد الكفار بظل ذي ثلاث شعب، وعد المؤمنين بظلال وعيون وفواكه.

قوله: {فِي ظِلَالٍ} . هذه قراءة العامة.

والأعمش والزهري وطلحة والأعرج: «ظُلَل» جمع ظلة، يعني في الجنة. وتقدم في «يونس» مثل لها.

قوله: {كُلُواْ} . معمولاً لقول ذلك المنصوب على الحال من الضمير المستكن في الظرف، أي كائنين في ظلال مقولاً لهم: وكذلك كلوا وتمتعوا قليلاً، فإن كان ذلك مقولاً لهم في الدنيا فواضح، وإن كان مقولاً في الآخرة فيكون تذكيراً بحالهم، أي حقاً بأن يقال لهم في دنياهم كذا؛ ومثله قوله:[المديد]

5066 -

إخوتِي لا تَبعَدُوا أبَداً

وبَلَى، واللَّهِ قَدْ بَعِدوا

أي هم أهل إن دعا لهم بذلك.

قوله {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين} . أي: نثيب الذين أحسنوا في تصديقهم بمحمد صلى الله عليه وسلم َ وأعمالهم في الدنيا.

فصل في الكلام على الآية

اختلفوا في قوله {كُلُواْ واشربوا} هل هو أمر أو إذن؟ .

فقال أبو هاشم: هو أمر، وأراد الله تعالى منهم الأكل والشرب لأن سرورهم يعظم بذلك إذا علموا أن الله تعالى أراده منهم جزاء على عملهم، فكما يريد إجلالهم وإعظامهم بذلك، فكذلك يريد نفس الأكل والشرب منهم. وقال أبو علي: ليس بأمر وإنما يقوله على وجه الإكرام، والأمر والنهي إنما يحصلان في زمان التكليف لا في الاخرة.

فصل فيمن قال: العمل يوجب الثواب

تمسّك من قال: العمل يوجب الثواب بالباء في قوله: {بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} .

قال ابن الخطيب: وهذا ضعيف؛ لأن الباء للإلصاق، ولمَّا جعل هذا العمل

ص: 86

علامة لهذا الثواب كان الإتيان بذلك كالآلة والصلة إلى تحصيل ذلك الثواب، وقوله تعالى:{إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين} المقصود منه تذكير الكفار بما فاتهم من النعيم العظيم ليعلموا أنهم لو كانوا من المتقين المحسنين لفازوا بمثل تلك الخيرات، فلما لم يفعلوا وقعوا فيما وقعوا فيه.

قوله تعالى: {كُلُواْ وَتَمَتَّعُواْ قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُّجْرِمُونَ} هذا مردود إلى ما تقدم قبل المتقين وهو وعيد وتهديد، وهو حال من المكذبين، أي: الويل ثابت لهم في حال ما يقال لهم: {كُلُواْ وَتَمَتَّعُواْ قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُّجْرِمُونَ} أي كافرون.

وقيل: مكتسبون فعلاً يضركم في الآخرة من الشرك، فكأنه - تعالى - يقول للكافر: إنك في الدنيا عرضت نفسك لهذه الآفات التي وصفناها لمحبتك الدنيا، ورغبتك في طيباتها، إلا أن طيباتها قليلةٌ بالنسبة إلى تلك الآفات العظيمة، فالمشتغل بتعظيمها يجري مجرى لُقْمةٍ واحدة من الحلوى، وفيها السم المهلك، فإنه يقال لآكلها تذكيراً له ونصحاً: كُلْ هذا، وويلٌ لك منه بعدُ؛ فإنك من الهالكين بسببه، فهذا وإن كان في اللفظ أمر إلا أنه في المعنى نهيٌ بليغ وزجر عظيم.

قوله تعالى: {وَإذَا قِيلَ لَهُمُ اركعوا لَا يَرْكَعُونَ} نزلت في ثقيف، حين امتنعوا من الصلاة فنزلت فيهم.

قال مقاتل: قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم َ: أسْلِمُوا وأمرهم بالصلاة، فقالوا: لا نَنْحَنِي، فإنها مَسبَّة علينا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم َ:«لا خَيْرَ فِي دِينٍ ليس فيهِ رُكوعٌ ولا سجُودٌ» .

وقال ابن عباس: إنما يقال لهم هذا في الآخرة حين يدعون إلى السجود فلا يستطيعون.

وقال قتادة: هذا في الدنيا.

فصل في وجوب الركوع

قال ابن العربي: هذه الآية تدلّ على وجوب الركوع، وكونه ركناً في الصلاة، وقد انعقد الإجماع عليه.

ص: 87

وقال قوم: إن هذا يكون في الآخرة، وليست بدار تكليف فيتوجه فيها أمر يكون عليه ويل وعقاب، وإنما يدعون إلى السجود كشفاً لحال الناس في الدنيا، فمن كان يسجد لله تمكن من السجود، ومن كان يسجد رياء لغيره صار ظهره طبقاً واحداً.

وقيل: إذا قيل لهم: اخضعوا للحق لا يخضعون، فهي عامّة في الصلاة وغيرها، وإنما ذكره الصلاة لأنها أصل الشرائع بعد التوحيد، والأمر بالصلاة أمر الإيمان لا يصح من غير إيمان.

فصل في المراد بالآية

حكى ابن الخطيب عن ابن عباس رضي الله عنهما أن المراد بقوله: {وإذا قيلَ لهم اركعُوا لا يَرْكعُونَ} هو الصلوات، قال: وهذا ظاهر، لأن الركوع من أركانها فبين أن هؤلاء الكفار من صفتهم أنهم إذا دعوا إلى الصلاة لا يصلون، وهذا يدل على أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة، وأنهم حال كفرهم يستحقُّون الذم والعقاب بترك الصلاة، لأن الله - تعالى - ذمهم حال كفرهم على ترك الصلاة.

فصل في أن الأمر للوجوب

استدلوا بهذه الآية على أن الأمر للوجوب، لأن الله - تعالى - ذمهم بمحمود ترك المأمور به، وهذا يدل على أن مجرد الأمر للوجوب.

فإن قيل: إنما ذمهم لكفرهم.

فالجواب: أنه - تعالى - ذمهم على كفرهم من وجوه، إلا أنه - تعالى - إنما ذمهم في هذه الآية لترك المأمور به؛ فدل على أن ترك المأمور به غير جائز.

قوله: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ} . متعلق بقوله: {يُؤْمِنُونَ} .

والعامة: على الغيبة، وقرأ ابن عامر في رواية ويعقوب: بالخطاب على الالتفات، أو على الانفصال.

فصل في الكلام على الآية

قال ابن الخطيب: اعلم أنه تعالى لما بالغ في زجر الكفار من أول هذه السورة إلى آخرها في الوجوه العشرة المذكورة، وحثَّ على التمسُّك بالنظر والاستدلال، والانقياد للدين الحق، ختم السورة بالتعجُّب من الكفار، وبين أنهم إذا لم يؤمنوا بهذه

ص: 88

الدلائل العقلية بعد تجليتها ووضوحها، {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} .

قال القاضي: هذه الآية تدلّ على أن القرآن محدث؛ لأن الله - تعالى - وصفه بأنه حديث، والحديث ضد القديم، والضدان لا يجتمعان، فإذا كان حديثاً وجب ألَاّ يكون قديماً.

وأجيب: بأن المراد منه هذه الألفاظ، ولا نزاع في أنها محدثة.

روى الثعلبي عن أبيِّ بن كعبٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم َ: «مَنْ قَرَأ سُورةَ» المُرْسَلاتِ «كُتِبَ أنَّهُ لَيْسَ مِنَ المُشْرِكينَ» .

ص: 89