المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

سورة المطففين   مدنية في قول الحسن وعكرمة ومقاتل. قال مقاتل: وهي أول - اللباب في علوم الكتاب - جـ ٢٠

[ابن عادل]

الفصل: سورة المطففين   مدنية في قول الحسن وعكرمة ومقاتل. قال مقاتل: وهي أول

سورة المطففين

مدنية في قول الحسن وعكرمة ومقاتل.

قال مقاتل: وهي أول سورة نزلت ب " المدينة ".

وقال ابن عباس وقتادة: مدنية إلا ثمان آيات، وهي من قوله تعالى:{إن الذين أجرموا} [المطففين: 29] إلى آخرها مكي.

وقال الكلبي: وجابر بن زيد: نزلت بين " مكة " و" المدينة "

ص: 205

وقال ابن مسعود والضحاك: مكية. وهي ست وثلاثون آية، ومائة وتسعة وستون كلمة، وسبعمائة وثمانون حرفا. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى:{وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ} .

«ويلٌ» : ابتداء، وسوغ الابتداء به كونه دعاء، ولو نصب لجاز.

وقال مكيٌّ: والمختار في «وَيْل» وشبهه إذا كان غير مضاف الرَّفع، ويجوز النصب، فإن كان مضافاً، أو معرفاً كان الاختيار فيه النَّصب نحو:{وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُواْ} [طه: 6‌

‌1]

، و «للمُطففِينَ» خبره.

والمُطفِّف: المُنْقِص، وحقيقته: الأخذُ في كيل أو وزنٍ شيئاً طفيفاً، أي: نزراً حقيراً، ومنه قولهم: دُون التَّطفيف، أي: الشيء التافه لقلته.

ص: 205

قال الزجاجُ: إنما قيل للذي ينقص المكيال والميزان مطفِّف؛ لأنه لا يكاد يسرق في المكيال والميزان إلَاّ الشيء اليسير الطفيف.

فصل في تعلق هذه السورة بما قبلها

قال ابن الخطيب: اتصال أوَّل هذه السورة بالمتقدمة أنَّه تعالى بيَّن في آخر تلك السورة أنَّ من صفة يوم القيامة أنه لا تملك نفسٌ لنفسٍ شيئاً، والأمر يومئذٍ لله، وذلك يقتضي تهديداً عظيماً للعصاة، فلهذا أتبعه بقوله تعالى:{وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ} والمراد منه الزجر على التطفيف، وهو البَخْس في المكيال والميزان على سبيل الخفية.

واعلم أن الويل كلمة تذكر عند وقوع البلاء، يقال: ويل لك، وويل عليك، وفي اشتقاق لفظ التطفيف قولان:

الأول: قول الزجاج المتقدم.

والثاني: أنَّ طف الشيء، هو جانبه وحرفه يقال: طفَّ الوادي والإناء إذا بلغ الشيء الذي فيه حرفه، ولم يمتلئ، فهو طفافه وطففه، يقال: هذا طف المكيال وطفافه إذا قارب ملأه، لكنه بعدُ لم يمتلئ، ولهذا قيل للذي «ينقص» الكيل ولا يوفيه مطفف. لأنه إنما يبلغ الطفاف.

فصل في نزول الآية

روى ابن عباس رضي الله عنهما قال: «لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم َ» المدينة «، كانوا من أبْخَس النَّاس كيلاً، فأنزل الله تعالى: {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ} ، فاجتنبوا الكيل، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم َ فقرأها عليهم، وقال:» خَمْسٌ بِخمْسٍ، ما نقص قومٌ العَهْدَ إلَاّ سلَّط اللهُ عليهم عدُوَّهُم، ولا حكمُوا بغيرِ مَا أنْزَلَ اللهُ إلَاّ فَشَا فِيِهمُ الفقرُ، ولا ظَهَرَ فِيهمُ الفَاحِشَةُ إلَاّ ظَهَرَ فِيهمُ المَوْتُ، ولا طَفَّفُوا المِكْيَالَ إلَاّ مُنِعُوا النَّباتَ وأخذُوا بالسِّنينَ، ولا مَنَعُوا الزَّكاةَ إلَاّ حُبِسَ عَنْهُم المَطرُ «» .

وقال السديُّ: قَدِمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم َ «المدينة» ، وبها رجل يقال له: أبو جهينة، ومعه صاعان يكيل بأحدهما، ويكيل بالآخر فأنزل الله تعالى هذه الآية.

ص: 206

وروى ابن عمر رضي الله عنهما قال: المطفف الرجل الذي يستأجر المكيال، وهو يعلم أنه يحيف في كيله فوزن عليه.

قوله: {عَلَى الناس} . فيه أوجه:

أحدها: أنَّه متعلق ب «اكتالوا» ، و «على» و «من» «يتعاقبان» هنا.

قال الفراء: يقال: اكتلتُ على النَّاسِ: اسْتوفَيْتُ مِنهُمْ، واكْتلتُ مِنهُمْ: أخذتُ مَا عَليْهِمْ.

وقيل: «على» بمعنى اكتل على ومنه بمعنى، والأول أوضح.

وقيل: «على» يتعلق ب «يستوفون» .

قال الزمخشري «لما كان اكتيالهم لا يضرهم، ويتحامل فيه عليهم أبدل» على «مكان» من «للدلالة على ذلك، ويجوز أن يتعلق ب» يستوفون «وقدَّم المفعول على الفعل لإفادة الخصوصية، أي: يستوفون على الناس خاصَّة، فأمَّا أنفسهم فيستوفون لها. وهو حسن.

قوله تعالى: {وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ} . رُسمتَا في المصحف بغير ألف بعد الواو في الفعلين، فمن ثم اختلف الناس في» هم «على وجهين.

أحدهما: هو ضمير نصب فيكون مفعولاً به، ويعود على الناس، أي: وإذا كالوا الناس أو وزنوا الناس، وعلى هذا فالأصل في هذين الفعلين التعدي لاثنين: لأحدهما بنفسه بلا خلاف وللآخر بحرف الجر، ويجوز حذفه.

وهل كل منهما أصل بنفسه، أو أحدهما أصل للآخر؟ فيه خلاف، والتقدير: وإذا كالوا لهم طعاماً، أو وزنوه لهم، فحذف الحرف والمفعول؛ وأنشد:[الطويل]

5127 -

ولقَدْ جَنيتُكَ أكَمُؤاً وعَساقِلاً

ولقَدْ نَهيتُكَ عَن بَناتِ الأوبَرِ

أي: جنيت لك.

والثاني: أنَّه ضمير رفع مؤكد للواو، والضمير عائد على» المطففين «، ويكون على هذا قد حذف المكيل والمكيل له، والموزون والموزون له.

إلا أن الزمخشري رد هذا فقال:» ولا يصح أن يكون ضميراً مرفوعاً «

ص: 207

للمطففين» ، لأن الكلام يخرج به إلى نظم فاسد، وذلك أن المعنى: إذا أخذوا من الناس،، استوفوا، وإذا أعطوهم أخسروا، وإن جعلت الضمير «للمطففين» انقلب إلى قولك: إذا أخذوا من الناس استوفوا، وإن تولوا الكيل، أو الوزن هم على الخصوص أخسروا، وهو كلام متنافر؛ لأن الحديث واقع في الفعل لا في المباشر «.

قال أبو حيان: ولا تنافر فيه بوجه، ولا رق بين أن يؤكد الضمير، وألَاّ يؤكد، والحديث واقع في الفعل، غاية ما في هذا أن متعلِّق الاستيفاء، وهو» على الناس «مذكور، وهو في» كالوهم أو وزنوهم «محذوف للعلم به؛ لأنَّه من المعلوم أنهم لا يخسرُون ذلك لأنفسهم.

قال شهابُ الدين: الزمخشري يريد أن يحافظ على أنَّ المعنى مرتبط بشيئين: إذا أخذوا من غيرهم، وإذا أعطوا غيرهم، وهذا إنَّما فهم على تقدير أن يكون الضمير منصوباً عائداً على الناس، لا على كونه ضمير رفع عائداً على الناس، لا على كونه رفع عائداً على» المطففين «، ولا شك أن هذا المعنى الذي ذكره الزمخشري وأراده أتم وأحسن من المعنى الثاني، ورجَّح الأول سقوط الألف بعد الواو؛ لأنه دال على اتصال الضمير.

إلَاّ أن الزمخشري استدرك فقال: «والتعلق في إبطاله بخط المصحف، وأن الألف التي تكتب بعد واو الجمع غير ثابتة فيه ركيك؛ لأن خط المصحف لم يراع في كثير منه حد المصطلح عليه في علم الخط على أني رأيت في الكتب المخطوطة بأيدي الأئمة المتقنين هذه الألف مرفوضة، لكونها غير ثابتة في اللفظ والمعنى جميعاً؛ لأن الواو وحدها معطية معنى الجمع، وإنما كتبت هذه الألف تفرقة بين واو الجمع وغيرها في نحو قولك:» هم لم يدعوا، وهو يدعو «، فمن لم يثبتها قال: المعنى كافٍ في التفرقة بينهما، وعن عيسى بن عمر وحمزة أنهما كانا يرتكبان ذلك، أي: يجعلان الضميرين» للمطففين «، ويقفان عند الواوين وقيفة، يبينان بها ما أرادوا» . ولم يذكر فعل الوزن أوَّلاً، بل اقتصر على الكيل، فقال:«إذا اكتالوا» ، ولم يقل: إذا اتزنوا، كما قال ثانياً:«أوْ وزَنُوهُمْ» .

قال ابن الخطيب: لأن الكيل والوزن بهما البيع والشراء، فأحدهما يدل على الآخر.

وقال الزمخشري: «كأنَّ المطففين كانوا لا يؤخذون ما يكال ويوزن إلا بالمكاييل دون الموازين، لتمكنهم من البخس في النوعين جميعاً» .

قوله: «يُخْسِرُونَ» جوابُ «إذا» ، وهو يتعدَّى بالهمزة، يقال: خسر الرجل وأخسرته

ص: 208

أنا، فمفعوله محذوف، أي: يخسرون الناس متاعهم. قال المؤرج: يخسرون أي ينقصون بلغة «قريش» .

فصل في تفسير الآية

قال الزجاج: المعنى: إذا اكتالوا من الناس استوفوا عليهم الكيل والوزن.

أي: إذا استوفوا لأنفسهم استوفوا في الكيل والوزن، «وإذَا كَالُوهُمْ أو وزَنُوهُمْ» أي: كالوا لهم، أو وزنوا لهم، أي: للناس، ولمَّا كان اكتيالهم من الناس اكتيالاً فيه إضرارٌ بهم، وتحاملٌ عليهم أقيمَ «على» مقام «من» للدلالة على ذلك.

وقال الكسائيُّ والفراءُ: حذف الجار وأوصل الفعل، وهذا من كلام أهل الحجاز، ومن جاورهم، يقال: وزنتك حقك، وكلتك طعامك أي: وزنت لك، وكلتُ لك، كما يقال: نصحتك، ونصحت لك، وكسيتك، وكسيت لك.

وقال الفراء: المراد اكتالوا من الناس، و «على» و «من» يتعاقبان؛ لأنه حق عليه فإذا فلت: اكتلت عليك، فكأنه قال: أخذت ما عليك، وإذا قلت: اكتلت منك فهو كقولك: استوفيت منك.

وقيل: على حذف مضاف، أي: إذا كالوا مكيلهم، أو وزنوا لهم موزونهم.

قوله: {أَلا يَظُنُّ} : الظَّاهر أنَّها «ألا» التحضيضية، حضهم على ذلك، ويكون الظنُّ بمعنى: اليقين.

وقيل: هي «لا» النافية دخلت عليها همزة الاستفهام.

ومعنى الآية: ألا يستيقن أولئك الذي يفعلون ذلك بأنهم مبعوثون ليوم عظيم، وهو يوم القيامة، وفي الظن هنا قولان:

أحدهما: أنَّ المراد به: العلمُ، وعلى هذا التقدير يحتملُ أن يكون المخاطبون بهذا الخطاب من جملة المصدِّقين بالبعث، ويحتمل ألَاّ يكونوا كذلك لتمكُّنهم من الاستدلال عليه بالفعل.

الثاني: أنَّ المراد بالظن هنا: هو الظن نفسه، لا العلم، ويكون المعنى: هؤلاء المطففون هَبْ أنهم لا يجزمون بالبعث، ولكن لا أقل من الظن لوضوح أدلَّته، فإنَّ الأليق بحكمة الله - تعالى - ورحمته، ورعايته مصالح خلقه ألَاّ يهمل أمرهم بعد الموت، وأن يكون لهم نشر وحشر، وأن هذا الظَّن كافٍ في حصول الخوف.

قوله: {يَوْمَ} : يجوز نصبه ب «مبعوثون» .

قال الزمخشريُّ: أو ب «يبعثون» مقدراً، أو على البدل من محل اليوم، أو

ص: 209

بإضمار «أعني» ، أو هو مرفوع المحل لإضافته لفعل وإن كان مضارعاً، كما هو رأيُ الكوفيين، ويدل على صحة هذين الوجهين، قراءة زيد بن عليٍّ:«يَوْمَ يقُومُ» بالرفع، وما حكاه أبو معاذ القارئ:«يومِ» بالجر على ما تقدَّم.

فصل في المراد بقيام الناس لرب العالمين

قيام الناس لرب العالمين إمَّا للحساب، وإمَّا قيامهم من القبور.

وقال أبُو مسلم: قيامهم له عبارة عن طاعتهم له وانقيادهم، كقوله تعالى:{والأمر يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الانفطار: 19]، وفي الحديث:«إنَّ النَّاسَ يَقُومُونَ مِقدارَ ثَلاثِمائةِ سَنَة لا يُؤْمَرُ فِيهِمْ بأمْرٍ» .

وعن ابن عباس: وهو في حقِّ المؤمنين كقدر انصرافهم من الصلاة. وفي هذه الآيات مبالغات، منها أنَّ الويل إنما يذكر عند شدة البلاء، ومنها الإنكار بقوله تعالى:{أَلا يَظُنُّ أولئك أَنَّهُمْ مَّبْعُوثُونَ} ، ومنها استعظامه - تعالى - لليومِ، ومنها تأكيده بما بعده، وما يوهم ذلك، وما يقتضيه من خضوعهم وذلتهم، وفي هذا نكتة، وهي كأن قائلاً يقول: هذا التشديد العظيم، والوعيد البليغ، كيف يكون على التطفيف مع نزارته، وزهادته، وكرم المولى وإحسانه؟ .

فأشار بقوله: {لِرَبِّ العالمين} إلى أنَّه مُربيهم ومسئول عن أمورهم، فلا يليق أن يهمل من أمورهم شيئاً.

فصل في الكلام على لفظ «المطفف»

قال القشيري: لفظ المطفِّف يتناول التطفيف في الوزن والكيل، وفي إظهار العيب، وإخفائه؛ وفي طلب الإنصاف والانتصاف، ويقال: من لم يرض لأخيه المسلم ما يرضاه لنفسه، فليس بمنصف، والمباشرة والصحبة من هذه المادة، والذي يرى عيب الناس، ولا يرى عيب نفسه من هذه الجملة، ومن طلب حقَّ نفسه من الناس، ولا يعطيهم حقوقهم، كما يتطلبه.

ص: 210

«كَلَاّ» حرف ردع، أي: ليس الأمر على ما هم عليه فَليَرتَدِعُوا، وها هنا تم الكلام.

وقال الحسنُ: «كَلَاّ» : ابتداء يتصل بما بعده على معنى «حقًّا» إنَّ كتابَ الفجَّار الذي كتب فيه أعمالهم لفي سجين.

اختلفوا في نون «سِجِّين» .

فقيل: هي أصليَّة، واشتقاقه من السَّجن، وهو الحبسُ، وهو بناء مبالغة «فعيلاً» من السجن، ك «سِكِّير» و «فسِّيق» من السكر والفسق وهو قول أبي عبيدة والمبرد والزجاج.

قال الواحدي: وهذا ضعيف؛ لأن العرب ما كانت تعرف سجيناً.

وقيل: «النون» بدل من «اللام» ، والأصل:«سجيل» مشتقاً من السِّجل، وهو الكتاب.

واختلفوا فيه أيضاً: هل هو اسم موضع، أو اسم كتاب مخصوص؟ .

وقيل: هو صفة، أو علمٌ منقول من وصفٍ ك «خاتم» ، وهو مصروف إذ ليس فيه إلا سبب واحدٌ، وهو العلمية.

وإذا كان اسم مكان، فقوله تعالى:{كِتَابٌ مَّرْقُومٌ} إمَّا بدل منه، أو خبر لمبتدأ محذوف، وهو ضمير يعود عليه.

وعلى التقديرين فهو مشكل؛ لأن الكتاب ليس هو المكان.

فقيل: التقدير، هو محل كتاب، ثم حذف المضاف.

وقيل: التقدير: وما أدراك ما كتاب سجين، والحذف إما من الأول وإمّا من الثاني.

وأما إذا قلنا: إنه اسم لكتاب فلا إشكال.

وقال ابن عطية: من قال: إن سجيناً موضع، فكتاب مرفوع على أنه خبر «إنَّ» ، والظرف الذي هو «لفي سجين» ملغى، ومن جعله عبارة عن الخسار، ف «كتاب» خبر مبتدأ محذوف، والتقدير: هو كتاب، ويكون هذا الكلام مفسراً لسجين ما هو انتهى.

وهذا لا يصح - ألبتة - إذ دخول اللام يعيّن كونه خبراً، فلا يكون ملغياً لا يقال:«اللام» تدخل على معمول الخبر، فهذا منه، فيكون ملغىً؛ لأنَّه لو فرض الخبر، وهو «كتاب» عاملاً أو صفته عاملة، وهو «مَرقُوم» لامتنع ذلك، أمّا منع عمل «كتاب» ، فلأنه موصوف، والمصدر الموصوف لا يعمل، وأمَّا امتناع عمل «مرقوم» ؛ فلأنه صفة، ومعمول الصفة لا يتقدم على موصوفها، وأيضاً: فاللام إنما تدخل على معمول الخبر بشرطه، وهذا ليس معمولاً للخبر، فتعيَّن أن يكون الجار هو الخبر، وليس بملغى.

ص: 211

وأمَّا قوله ثانياً: ويكون هذا الكلام تفسيراً ل «سجين» ما هو فهو مشكل، لأن الكتاب ليس هو الخسار الذي جعل الضمير عائداً عليه مخبراً عنه ب «كتاب» .

وقال الزمخشري: فإن قلت: قد أخبر الله تعالى عن كتاب الفجَّار بأنه في سجِّين، وفسَّر سجيناً ب «كتاب مرقوم» ، فكأنه قيل: إنَّ كتابهم في كتاب مرقوم فما معناه؟ .

قلت: سجين: كتاب جامع هو: ديوان الشر دون الله فيه أعمال الشياطين، وأعمال الكفرة والفسقة من الجنِّ والإنسِ، وهو كتاب مرقومٌ مسطورٌ بين الكتابة، أو معلم يعلم من رآه أنه لا خير فيه، فالمعنى: أن ما كتب من أعمال الفجار مثبت في ذلك الديوان، وسمي «سجِّيْناً» «فعيلاً» من السجن؛ لأنه سبب الحبس والتضييق في جهنم انتهى.

فصل في تفسير معنى سجين

قال عبدُ اللهِ بن عُمرَ وقتادةُ ومجاهدٌ والضحاكُ: «سِجِّين» هي الأرض السابعة السفلى، فيها أرواح الكفَّار.

وروى البراء، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم َ: «» سِجِّين «أسفلُ سبْعِ أرضين، و» عِلِّيُّون «في السماءِ السَّابعة تحت العرشِ» .

وقال الكلبي: هي صخرة تحت الأرض السابعة.

وقال عكرمةُ: «لفي سجِّين» لفي خسارةٍ وضلالٍ.

قال القشيريُّ: «سجين» : موضع في السافلين، يدفن فيه كتاب هؤلاء، فلا يظهر، بل يكون في ذلك الموضع كالمسجون.

قوله تعالى: {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ} ، أي: ليس ذلك مما كنت تعلمه أنت، ولا قومك.

قال القرطبي: وليس في قوله تعالى: {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ} ما يدل على أن لفظ «سجين» ليس عربياً، كما لا يدل قوله:{وَمَآ أَدْرَاكَ مَا القارعة} [القارعة: 3] ، بل هو تعظيم لأمْرِ سجين.

ص: 212

قوله تعالى: {كِتَابٌ مَّرْقُومٌ} قال المفسرون: ليس هذا تفسيراً ل «سجين» ، بل هو بيان للكتاب المذكور في قوله:«إنَّ كِتابَ الفُجَّار» أي: هو كتاب مرقوم، أي: مكتوب فيه أعمالهم مثبت عليهم، كالرقم لا ينسى ولا يمحى حتى يجازى به، والرقم: الخط؛ قال: [الطويل]

5128 -

سَأرْقمُ فِي المَاءِ القَراحِ إليْكمُ

عَلَى بُعدكُمْ، إنْ كَانَ في الماءِ رَاقمُ

وقيل: الرَّقْمُ: الختم بلغة حمير. [وتقدمت هذه المادة في سورة «الكهف» ] .

وقال قتادةُ ومقاتل: رقم: نشر، كأنه أعلم بعلامة يعرف بها أنَّه كافر.

ص: 213

قوله تعالى: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} .

قيل: إنَّه متصل بقوله تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ الناس لِرَبِّ العالمين} لمن كذَّب بأخبار الله تعالى.

وقيل: إنَّ قوله: «مرقوم» معناه: مرقم أي: يدل على الشَّقاوة يوم القيامة، ثم قال:{وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} في ذلك اليوم من ذلك الكتاب.

ثم إنه - تعالى - أخبر عن صفة من يكذِّب بيوم الدين، فقال تعالى:{وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَاّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ إِذَا تتلى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأولين} ، فقوله تعالى:{الذين يُكَذِّبُونَ} يجوز فيه الإتباع نعتاً وبدلاً وبياناً، والقطع رفعاً ونصباً.

واعلم أنه - تعالى - وصف المكذب بيوم الدين بثلاث صفاتٍ:

أولها: كونه معتدياً، والاعتداء هو التجاوز عن المنهج الحقِّ.

وثانيها: الأثيم وهو المبالغة في ارتكاب الإثم والمعاصي.

وثالثها: {إِذَا تتلى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأولين} والمراد: الذين ينكرون النبوة، والمراد بالأساطير: قيل: أكاذيب الأولين. وقيل: أخبار الأولين.

قوله: {إِذَا تتلى عَلَيْهِ} . العامة على الخبر.

ص: 213

والحسن: «أئِذَا؟» على الاستفهام الإنكاري.

والعامَّة: «تتلى» بتاءين من فوق.

وأبو حيوة وابن مقسم: بالياء من تحت؛ لأن التأنيث مجازي.

فصل في المراد بالمكذب في الآية

قال الكلبيُّ: المراد بالمكذِّب هنا: هو الوليدُ بن المغيرةِ - لعنه الله - لقوله تعالى: {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَاّفٍ مَّهِينٍ} [القلم: 10] إلى قوله: {مُعْتَدٍ أَثِيمٍ} [القلم: 12] وقوله: {إِذَا تتلى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأولين} [القلم: 15] .

فقيل: هو الوليد بن المغيرة.

وقيل: هو النَّضر بنُ الحارث.

وقيل: عام في كل موصوف بهذه الصفة.

قوله: {كَلَاّ} . ردعٌ وزجرٌ، أي: ليس هو أساطير الأولين.

وقال الحسن: معناها «حقًّا» ران على قلوبهم.

وقال مقاتلٌ: معناه: لا يؤمنون، ثم استأنف:{بَلْ رَانَ على قُلُوبِهِمْ} قد تقدم وقف حفص على لام «بل» في سورة «الكهف» .

والرَّان: الغشاوة على القلب كالصَّدأ على الشيء الصقيل من سيف، ومرآة، ونحوهما.

قال الشاعر: [الطويل]

5129 -

وكَمْ رَانَ من ذَنْبٍ على قَلْبِ فَاجِرٍ

فَتَابَ منَ الذَّنْبِ الذي رَانَ وانْجَلَى

وأصل الرَّيْنِ: الغلبة، ومنه رانت الخمر على عقل شاربها.

وقال الزمخشري: «يقال ران عليه الذنب، وغان عليه، رَيْناً، وغَيْناً، والغَيْنُ: الغَيْمُ» .

والغين أيضاً: شجر متلف، الواحدة غَيْنَاء، أي: خضراء كثيرة الورق ملتفة الأغصان.

ويقال: رَانَ رَيْناً ورَيَناً، فجاء مصدره مفتوح العين وساكنها.

وقرأ حمزة والكسائي والأعمش وأبو بكر والفضل: «رَانَ» بالإمالة؛ لأن فاء الفعل

ص: 214

راء، وعينه ألف منقلبة عن ياء، فحسنت الإمالة، ومن فتح فعلى الأصل مثل: كَالَ وبَاعَ.

فصل في المراد بالرَّين والإقفال والطبع

قال أبُو معاذ النحويُّ: الرَّيْنُ، والإقفال:[أن يسود القلب من الذنوب وهو] أشدّ من الطبع، وهو أن يقفلُ على القلب، قال تعالى:

{أَمْ

على

قُلُوبٍ

أَقْفَالُهَآ} [محمد: 24] .

قال الزجاجُ: «رَانَ على فُلوبِهمْ» بمعنى غَطَّى على قُلوبِهم.

وقال الحسن ومجاهد: هو الذنب على الذنب حتى تحيط الذنوب بالقلب، ويغشى، فيموت القلب.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم َ: «إيَّاكُمْ والمُحقراتِ مِنَ الذنُوبِ، فإنَّ الذنْبَ على الذَّنْبِ يُوقِدُ على صَاحبهِ [جحيماً] ضخمة» .

وقال صلى الله عليه وسلم َ: «إنَّ المُؤْمِنَ إذَا أذْنَبَ كَانتْ نُكْتةٌ سَودَاء في قَلْبهِ، فإنْ تَابَ ونَزعَ واسْتَغفرَ صُقِلَ قَلْبهُ مِنْهَا، فإذَا زَادَ زَادتْ حتَّى تَعلُو قَلْبهُ، فَذلِكُمُ الرَّانُ الَّذي ذَكَرَ اللهُ - تعَالَى - في كِتَابِهِ: {كَلَاّ بَلْ رَانَ على قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} » .

قوله: {مَّا كَانُواْ} هو الفاعل، و «ما» : يحتمل أن تكون مصدرية، وأن تكون بمعنى:«الذي» والعائد محذوف، وأميلت ألف «رَانَ» ، وفخمت، فأمالها الأخوان وأبو بكرٍ وفخَّمها الباقُون، وأدغمت لام «بل» في الراء، وأظهرتْ.

قوله تعالى « {كَلَاّ إِنَّهُمْ} .

قال الزمخشريُّ:» كلَاّ «ردع عن الكسب الرَّائن على قلوبهم.

وقال القفالُ: إنَّ الله - تعالى - حكى في سائر السور عن هذا المعتدي الأثيم، أنه كان يقول: إن كانت الآخرة حقًّا، فإن الله - تعالى - يعطيه مالاً وولداً، ثم كذَّبه الله - تعالى - بقوله:{أَطَّلَعَ الغيب أَمِ اتخذ عِندَ الرحمن عَهْداً} [مريم: 78] .

ص: 215

وقال أيضاً: {وَمَآ أَظُنُّ الساعة قَائِمَةً} [الكهف: 36]{وَلَئِن رُّجِّعْتُ إلى ربي إِنَّ لِي عِندَهُ للحسنى} [فصلت: 50] ، فلمَّا تكرَّر ذكره في القرآن، ترك الله ذكره - هاهنا - وقال تعالى:{كَلَاّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} أي: ليس الأمر كما يقولون من أن لهم في الآخرة الحسنى، بل هم عن ربهم يومئذ لمحجوبون. وقال ابن عباس أيضاً:» كلَاّ «يريد لا يصدقون ثم أستأنف فقال: {إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} وقيل: قوله تعالى:» كلَاّ «تكرير، وتكون» كلَاّ «هذه المذكورة في قوله:» كلا، بل ران على قلوبهم «.

قوله: {عَن رَّبِّهِمْ} . متعلق بالخبر، وكذلك» يومئذ «، والتنوين عوض عن جملة، تقديرها:» يوم إذْ يقوم الناس «؛ لأنه لم يناسب إلا تقديرها.

فصل في حجب الكفار عن رؤية ربهم

قال أكثر المفسرين: محجوبون عن رؤيته، وهذا يدل على أن المؤمنين يرون ربهم سبحانه وتعالى ولولا ذلك لم يكن للتخصيص فائدة.

وأيضاً فإنه - تعالى - ذكر هذا الحجاب في معرض الوعيد، والتهديد للكفار، وما يكون وعيداً وتهديداً للكفَّار لا يجوز حصوله للمؤمنين، وأجاب المعتزلة عن هذا بوجوه:

أحدها: قال الجبائي: المراد أنهم محجوبون عن رحمة ربهم أي: ممنوعون كما تحجب الأم بالإخوة من الثُّلث إلى السُّدس، ومن ذلك يقال لمن منع من الدخول: حاجب.

وثانيها: قال أبو مسلم: «لمحجوبون» غير مقربِّين، والحجاب: الرَّدُ، وهو ضد القبول، فالمعنى: أنهم غير مقبولين عند الرؤية، فإنه يقال: حُجِبَ عن الأمير، وإن كان قد رآه عن بعدٍ، بل يجب أن يحمل على المنع من رحمته.

وثالثها: قال الزمخشريُّ: كونهم محجوبين عنه تمثيل للاستخفاف بهم وإهانتهم؛ لأنه لا يرد على الملوك إلا المكرَّمين لديهم، ولا يُحجب عنهم إلا المبانون عنهم.

والجواب: أن الحجب في استعمالاته مشترك في المنع، فيكون حقيقة فيه، ومنع العبد بالنسبة إلى الله تعالى، إمَّا عن العلم، وإمَّا عن الرؤية، والأول: باطل؛ لأن الكفَّار يعلمون الله تعالى، فوجب حمله على الرؤية.

وأمَّا الوجوه المذكورة فهو عدول عن الظاهر من غير دليل، ويؤيد ما قلنا: أقوال السَّلف من المفسرين:

ص: 216

قال مقاتلٌ: بل لا يرون ربَّهم بعد الحساب، والمؤمنون يرون ربهم.

وقال الكلبيُّ: محجوبون عن رؤية ربهم والمؤمن لا يحجبُ، وسُئلَ مالكُ بنُ أنسٍ رضي الله عنه عن هذه الآية، فقال: كما حجب الله تعالى أعداءه فلم يروهُ، ولا بد أن يتجلَّى لأوليائه حتى يروه.

وعن الشَّافعيُّ رحمه الله كما حجب قومٌ بالسُّخطِ دلَّ على أنهم يرونهُ بالرضا.

قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الجحيم} . أي: إنّ الكفَّار مع كونهم محجوبين من الله يدخلون النار.

{ثُمَّ يُقَالُ} أي: تقول لهم الخزنةُ: «هذا» أي: هذا العذاب {هذا الذي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} ، وقوله: يقال يجوز أن يكون القائم مقام الفاعل ما دلَّت عليه جملة قوله: «هَذا الَّذي كُنتُمْ» ، ويجوز أن تكون الجملة نفسها، ويجوز أن تكون المصدرية. [وقد تقدم تحريره في أول «البقرة» ] .

ص: 217

قوله تعالى: {كَلَاّ إِنَّ كِتَابَ الأبرار} : لمَّا ذكر تعالى حال الكفار والمطففين أتبعه بذكر الأبرار الذين لا يطففون، فقال:«كلَاّ» أي: ليس الأمر كما توهمه أولئك الفجَّار من إنكار البعث، ومن أنَّ كتاب الله أساطير الأولين، بل كتابهم في سجِّين، وكتابُ الأبرارِ في علِّيِّين.

وقال مقاتلٌ: «كلَاّ» أي: لا يؤمن بالعذاب الذي يصلاه.

قوله: {لَفِي عِلِّيِّينَ} . هو خبر «إنَّ» .

ص: 217

وقال ابن عطيَّة هنا كما قال هناك، ويرد عليه بما تقدم، و «علِّيُّون» : جمع «عِلِّيِّ» ، أو هو اسم مكان في أعْلَى الجنة، وجرى مجرى جمع العقلاء، فرفع الواو، ونصب وجر بالياء، مع فوات شرط العقل.

وقال أبو البقاء: واحدها «عليّ» وهو الملك.

وقيل: هو صيغة للجمع مثل عشرين، ثم ذكر نحواً مما ذكره في «سِجِّين» من الحذف المتقدم.

وقال الزمخشري: «عِلِّيُّون» علم لديوان الخير الذي دوِّن فيه كلُّ ما عملته الملائكة وصلحاء الثقلين منقول من جمع «عليّ» «فعيل» من العلو ك «سجين» من السجن، سمي بذلك؛ إمَّا لأنَّه سبب الارتفاع إلى أعلى الدرجات في الجنة، وإما لأنَّه مرفوع في السماء السابعة.

وتلك الأقوال الماضية في «سجِّين» كلُّها عائدة هنا.

وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنَّها السماء السابعة.

وقال مقاتلٌ وقتادةُ: هي سدرةُ المنتهى.

وقال الفراء: يعني: ارتفاعها بعد ارتفاع لا غاية له.

وقال الزجاجُ: أعْلَى الأمْكِنَةِ.

وقال آخرون: هي مراتب عالية محفوفة بالجلالة.

وقال آخرون: عند كتاب أعمال الملائكة، لقوله تعالى:{وَمَآ أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ} وذلك تنبيه على أنَّه معلوم، وأنه سيعرفه، ثم قال تعالى:{كِتَابٌ مَّرْقُومٌ يَشْهَدُهُ المقربون} فبين أن كتابهم في هذا الكتاب بالمرقوم الذي يشهده المقربون من الملائكة، فكأنَّه - تعالى - كما وكلَّهم باللوح المحفوظ، فكذلك وكلَّهُم بحفظ كُتبِ الأبرار في جملة ذلك الكتاب الذي هو أم الكتاب على وجه الإعظام له، ولا يمنع أن الحفظة إذا صعدت تكتب الأبرار بأنهم يسلمونها إلى هؤلاء المقربين، فيحفظونها كما يحفظون كتب أنفسهم، أو ينقلون ما في تلك الصحائف إلى ذلك الكتاب الذي وُكِّلوا بحفظه، ويصير علمهم شهادة لهؤلاء الأبرار، فلذلك يحاسبون حساباً يسيراً.

وقيل: المعنى: ارتفاع بعد ارتفاع.

ص: 218

وقال أبو مسلم: هذا كناية عن العلو والرفعة، والأول كناية عن الذُّلِّ والإهانةِ.

وقال ابن عباسٍ رضي الله عنهما: «عِلِّيُّون» : لوحٌ من زبرجدة خضراء معلَّق تحت العرش أعمالهم مكتوبة فيه.

قال كعب وقتادة: هي قائمة العرش اليمنى.

وقال ابن عباس: هو الجنة.

وقال الضحاكُ: سدرةُ المنتهى.

وقوله تعالى: {كِتَابٌ مَّرْقُومٌ} : ليس فيه تفسير عليِّين، أي: مكتوب أعمالهم كما تقدم في كتاب الفجار.

وقيل: كتب هناك ما أعد الله لهم من الكرامة.

قوله: {يَشْهَدُهُ} : جملة يجوز أن تكون صفة ثانية، وأن تكون مستأنفة، والمعنى: أنَّ الملائكة الذين هم في عليين يشهدون، ويحضرون ذلك المكتوب وذلك الكتاب إذا صعد به إلى عليين.

قوله تعالى: {إِنَّ الأبرار لَفِي نَعِيمٍ} . لمَّا عظم كتابهم عظم منزلتهم بأنَّهم في النعيم ثم بين ذلك النعيم بأمورٍ، ثلاثة: أولها: بقوله تعالى: {عَلَى الأرآئك يَنظُرُونَ} .

قال القفَّال: «الأرائك» : الأسِرَّة في الحجال، ولا تُسَمَّى أريكة فيما زعموا إلا إذا كان كذلك.

وعن الحسن رضي الله عنه كُنَّا لا ندري ما الأريكةُ، حتى لقينا رجلٌ من أهل «اليمن» ، أخبرنا أن الأريكة عندهم ذلك. وقوله:«يَنْظُرون» قيل: إلى أنواع نعيمهم من الحُور والولدان، وأنواع الأطعمة والأشربة والملابس والمراكب وغيرها.

وقال مقاتلٌ: ينظرون إلى عدوِّهم حين يعذبون.

وقيل: إذا اشتهوا شيئاً نظروا إليه، فيحضرهم ذلك الشيء في الحال قيل: يحمل على الكل.

ص: 219

قال ابن الخطيب: إنهم ينظرون إلى ربهم بدليل قوله تعالى: {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النعيم} .

قوله تعالى: {تَعْرِفُ} . العامة: على إسناد الفعل إلى المخاطب، أي: تعرف أنت يا محمد، أو كل من صح منه المعرفة.

وقرأ أبو جعفر وابن أبي إسحاق وشيبة وطلحة ويعقوب والزعفراني: «تُعْرَفُ» مبنياً للمفعول، و «نضرةُ» : بالرفع على قيامها مقام الفاعل.

وعلي بن زيد: كذلك إلا أنه بالياء أسفل؛ لأن التأنيث مجازي.

والمعنى: إذا رأيتهم عرفت أنَّهم من أهل النَّعيم مما ترى في وجوههم من النور والحسن والبياض.

وقال الحسن: النضرةُ في الوجه والسُّرور في القلب.

قوله تعالى: {يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ} .

قال الليث: الرَّحيقُ: الخمر.

وقيل: الخمر الصافية الطيبة.

وقال مقاتل: الخمر البيضاء.

وقال ابنُ الخطيب: لعله الخمر الموصوف بقوله تعالى: {لَا فِيهَا غَوْلٌ} [الصافات: 47] .

قوله: «مختوم» ، أي: ختم ومنع أن تمسَّهُ يد إلى أن يفكّ ختم الأبرار.

قال القفال: يحتملُ أن يكون ختم عليه تكريماً له بالصيانة على ما جرت به العادة من ختم ما يكرم ويصان، وهناك خمر أخرى تجري أنهاراً، لقوله:{وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ} [محمد: 15] ، إلَاّ أنَّ هذا المختوم أشرف من الجاري.

وقال أبو عبيدة والمبرد والزجاج: «المختوم» : الذي له ختام أي: عاقبة.

وروى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: المختوم أشرف من الجاري الممزوج ختامه، أي: طعمه وعاقبته مسكٌ، وختم كلِّ شيء: الفراغ منه، ومنه يقال: ختمتُ

ص: 220

القرآن، والأعمال بخواتيمها، ويؤيده قراءة علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه - واختاره الكسائي، فإنه قرأ:«خاتمةُ مِسْك» أي: آخره، كما يقال: خاتمُ النبيين، ومعناه واحد.

قال الفراء: وهما متقاربان في المعنى، إلا أن الخاتم: الاسم، والخِتَام: المصدر، كقولهم: هو كريم الطِّباع والطَّابع، والخِتَام والخَاتم.

وقال قتادة: يمزج لهم بالكافور، ويختم لهم بالمسك.

وقال مجاهد: مختوم، أي: مطين.

قوله: {خِتَامُهُ} أي: طينة مسك.

قال ابن زيد: ختامه عند الله مسك، وختام الدنيا طين.

وقرأ الكسائي: «خَاتَمهُ» بفتح التاء بعد الألف.

والباقون: بتقديمها على الألف.

فوجه قراءة الكسائي: أنه جعله اسماً لما يختم به الكأس، بدليل قوله:«مَخْتُوم» . ثم بين الخاتم ما هو، فروي عن الكسائي أيضاً: كسر التاء، فيكون كقوله تعالى:{وَخَاتَمَ النبيين} [الأحزاب: 40]، والمعنى: خاتم رائحته مسك ووجه قراءة الجماعة: أن الختام هو الطين الذي يختم به الشيء، فجعل بدله المسك.

قال الشاعر: [الوافر]

كَأَنَّ مُشعْشَعاً مِنْ خَمْرِ بُصْرَى

نَمَتْهُ البَحْتُ مَشْدُودَ الخِتَامِ

وقيل: خلطه ومزاجه.

وقيل: خاتمته أي: مقطع شربه يجد الإنسان فيه ريح المسك.

قيل: سُمِّي المسك مسْكاً؛ لأن الغزال يُمسكه في سُرَّته، والمساكةُ: البُخْلُ وحبس

ص: 221

المال، يقال: رجل مَسِيكٌ لبخله، والمَسْكُ: الجلد لإمساكه ما فيه، والمَاسِكَة: التي أخطأت خافضتُها فأصابت من مسكها غير موضع الختان، والمَسَكة: سوار من قرن أو عاجٍ لتماسكه والمسكة - بضم الميم -: الشَّيء القليل، يقال: ما له مُسْكَة، أي: عقل.

قوله تعالى: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المتنافسون} . التَّنافسُ: المُغالبة في الشيء النفيس، يقال: نفستُه به نفاسة، أي: بخلت به، وأصله من النَّفْسِ لعزتها.

قال الواحديّ: نفستُ الشيء أنفسُه نفاسةً: بَخِلْتُ به.

وقال البغوي: وأصله من الشيء النَّفِيس أي: تحرص عليه نفوس النَّاس، ويريده كل واحد لنفسه، وينفس به على غيره أي: يضنّ، والمعنى: وفي ذلك فليرغب الراغبون بالمبادرة إلى طاعة الله تعالى.

وقال مجاهد: فليعمل العاملون، كقوله تعالى:{لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ العاملون} [الصافات: 61] .

وقال عطاء: فليستبق المستبقون.

وقال مقاتلُ بن سليمان: فليتنازع المتنازعون.

قوله: {وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ} ، التسنيم: علمٌ لعينٍ في الجنَّة.

فصل في المراد بالتسنيم

قال الزمخشريُّ: «التسنيم» علمٌ لعين بعينها، سميت بالتسنيم الذي هو مصدر سنَّمه، إذا رفعه.

قال شهاب الدِّين: وفيه نظر؛ لأنه كان من حقه أن يمنع الصَّرف للعلمية والتأنيث، وإن كان مجازياً، ولا يقدح في ذلك كونه مذكر الأصل؛ لأن العبرة بحال العلمية، ألا ترى أنهم نصّوا على أنَّه لو سمي ب «زيد» امرأة وجب المنع، وإن كان في «هِنْد» وجهان، اللهم إلا أن يقول: ذهب بها مذهب النهر، ونحوه، فيكون ك «واسط، ودانق» .

فصل في معنى التسنيم

التسنيم: شرابٌ ينصبُّ عليهم من علوٍّ في غرفهم ومنازلهم.

وقيل: يجري في الهواء منسماً فينصبُّ في أوانيهم فيملأها.

ص: 222

قال قتادة: وأصل الكلمة من العلو، ويقال للشيء المرتفع سنامٌ، ومنه سنامُ البعيرِ، وتسمنتُ الحائط: إذا علوته.

وقال الضحاك: هو شراب اسمه: تسنيمٌ، وهو من أشرف الشراب.

قال ابنُ مسعودٍ وابن عباسٍ: هو خالص للمقربين يشربونها، ويمزج لسائر أهل الجنَّة، وهو قوله تعالى:{وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا المقربون} .

وعن ابن عباس: أنَّه سُئِلَ عن قوله تعالى: {مِن تَسْنِيمٍ} قال: هذا ما قال الله تعالى: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17] .

قوله: {عَيْناً} . فيه أوجه:

أحدها: أنَّه حالٌ.

قال الزجاج: يعني من تسنيم، لأنه علم لشيء بعينه، إلا أنه يشكل بكونه جامداً.

الثاني: أنه منصوب على المدح. قاله الزمخشري.

الثالث: أنَّها منصوبة ب «يُسْقونَ» مقدراً. قاله الأخفش.

وقوله: {يَشْرَبُ بِهَا} أي: منها، والباء زائدة، أو ضمير «يشرب» بمعنى يروى، وتقدم هذا مشبعاً في «هل أتى» .

قال البغوي: التقدير: يشربها المقربون صرفاً.

قوله تعالى: {إِنَّ الذين أَجْرَمُواْ} ، أي: أشركوا، يعني: كفَّار قريش أبا جهل، والوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل من مترفي «مكة» .

{كَانُواْ مِنَ الذين آمَنُواْ} عمَّار، وخبَّاب، وصهيب، وبلال وأصحابهم من فقراء المؤمنين «يَضْحَكُون» استهزاء بهم.

وقوله: {مِنَ الذين} متعلِّق ب «يضحكون» أي: من أجلهم، وقدم لأجل الفواصل.

قوله تعالى: {وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ} يعني: المؤمنين بالكفار «يَتَغَامَزُونَ» ، والغَمْز: الإشارة بالجفنِ والحاجبِ، أي: يشيرون إليهم بالأعين استهزاء.

ص: 223

وقيل: الغمزُ بمعنى: العيب يقال: غمزهُ، أي: عابه، وما في فلان غميزٌ، أي: ما يعابُ به.

قوله تعالى: {وَإِذَا انقلبوا} يعني: الكفار {إلى أَهْلِهِمْ انقلبوا فَكِهِينَ} معجبين بما هم فيه، يتفكَّهُونَ تذكرهم بالسُّوءِ.

وقرأ حفص: «فكهين» دون ألف.

والباقون: بها.

فقيل: هما بمعنى، وقيل:«فكهين» أشرين، و «فاكهين» من التفكه.

وقيل: «فكهين» فرحين و «فاكهين» ناعمين.

وقيل: «فاكهين» أصحاب فاكهة ومزاح.

قوله: {وَإِذَا رَأَوْهُمْ} . يجوز أن يكون المرفوع للكفَّار، والمنصوب للمؤمنين، أي: أن الكفار إذا رأوا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم َ قالوا: {إِنَّ هؤلاء لَضَالُّونَ} أي: يأتون محمداً المختار، يرون أنهم على شيء، أي: هم على ضلال في تركهم التنعيم الحاضر بسبب شراب لا يدري هل له وجود أم لا؟ ويجوز العكس، وكذلك الضميران في {أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ} يعني: المشركين عليهم، والمعنى:{وَمَآ أُرْسِلُواْ} يعني المشركين «عليهم» يعني المؤمنين «حافظين» أعمالهم، لم يوكلوا بحفظ أعمالهم.

قوله تعالى: {فاليوم الذين آمَنُواْ} . «فاليوم» : منصوب ب «يَضْحَكُون» ، ولا يضرّ تقديمه على المبتدأ، لأنه لو تقدم هان العامل لجاز، إذ لا لبس بخلاف «زيد قائم في الدار» لا يجوز «في الدار زيد قائم» .

ومعنى، «فاليوم» أي: في الآخرة يضحك المؤمنون من الكافرين، وفي سبب هذا الضحك وجوه:

منها: أنَّ الكفار كانوا يضحكون على المؤمنين في الدنيا، بسبب ما هم فيه من التضرر والبؤس، وفي الآخرة يضحك المؤمنون على الكافرين، بسبب ما هم فيه من أنواع العذاب والبلاء.

ومنها: أنَّهم علموا أنهم كانوا في الدنيا على غير شيء، وأنهم باعوا الباقي بالفاني.

ومنها: أنَّهم دخلوا الجنة، أجلسُوا على الأرائكِ ينظرون إلى الكفَّار كيف يعذبون

ص: 224

في النار، ويرفعون أصواتهم بالويل والثبور، ويلعن بعضهم بعضاً.

ومنها: قال أبو صالح: يقال لأهل النار - وهم فيها - اخرجوا، ويفتحُ، لهم أبوابها، فإذا رأوها وقد فتحت أبوابها أقبلوا إليها يريدون الخروج والمؤمنون ينظرون إليهم فإذا انتهوا إلى أبوابها غلقت دونهم، فذلك سبب الضحاك.

قوله: {عَلَى الأرآئك يَنظُرُونَ} : الجار متعلقٌ ب «ينظرون» ، و «ينظرون» : حال من «يضحكون» ، أي: يضحكون ناظرين إليهم، وإلى ما هم فيه من الهوان.

قوله: {هَلْ ثُوِّبَ} . يجوز أن تكون الجملة الاستفهامية معلقة للنظر قبلها، فتكون في محل نصب بعد إسقاط الخافض ب «ينظرون» .

وقيل: استئناف لا موضع له، ويجوز أن يكون على إضمار القول: أي: يقولون: هل ثوب، ومعنى «ثُوِّب» أي: جُوزيَ، يقال: ثوَّبهُ وأثابهُ.

قال: [الطويل]

5131 -

سَأجزِيكَ أو يَجْزيكَ عنِّي مُثوِّبٌ

وحَسْبُكَ أنْ يُثْنَى عَليْكَ وتُحْمَدَا

ويدغم أبو عمرو والكسائي وحمزة: لام «هل» في الثناء.

قوله: «ما كانوا» فيه حذف، أي: ثواب ما كانوا، أو موصول اسمي أو حرفي.

قال المبرد: «ثوب» فعل من الثواب، وهو ما ثوب، يرجع على فاعله جزاء ما علمه من خير، أو شر، والثَّوابُ: يستعمل في المكافأة بالشَّر.

وأنشد أبو عبيدة: [الوافر]

5132 -

ألَا أَبْلِغْ أبَا حَسنٍ رَسُولاً

فمَا لَكَ لا يَجِيءُ إلَى الثَّوابِ

وثوَّب وأثاب بمعنى واحد، والأولى أن يحمل على سبيل التَّهكُّم، كقوله:{ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم} [الدخان: 49]، كأنه - تعالى - يقول للمؤمنين: هل جازينا هؤلاء الكفار على استهزائهم بطريقتكم كما جازيناكم على أعمالكم الصالحة، فيكون هذا القول زائداً في سرورهم والله أعلم.

روى الثعلبي عن أبيّ بن كعبٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم َ: «مَنْ قَرَأَ سُورَة» المُطَفِّفِين «سقاهُ اللهُ من الرَّحيقِ المختُومِ يَوْمَ القِيَامَةِ» .

ص: 225