المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

قوله تعالى: {يَوْمَ تَرْجُفُ الراجفة} منصوبٌ بفعلٍ مقدَّرٍ، وهو جوابُ - اللباب في علوم الكتاب - جـ ٢٠

[ابن عادل]

الفصل: قوله تعالى: {يَوْمَ تَرْجُفُ الراجفة} منصوبٌ بفعلٍ مقدَّرٍ، وهو جوابُ

قوله تعالى: {يَوْمَ تَرْجُفُ الراجفة} منصوبٌ بفعلٍ مقدَّرٍ، وهو جوابُ القسمِ: تقديرهُ: لتُبْعَثُنَّ، لدلالةِ ما بعده عليه.

قال الفرَّاءُ: ويدل عليه قوله تعالى: {أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً نَّخِرَةً} ألسْتَ ترى أنه كالجواب لقولهم: {أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً نَّخِرَةً} نُبعث؟ فاكتفى بقوله: {أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً نَّخِرَةً} ؟ .

وقال الأخفشُ والزجاجُ: يَنْفُخْنَ في الصُّورِ نَفْخَتَيْنِ، بدليل ذكر «الرَّادفة» و «الرَّاجفَةِ» ، وهما النَّفختانِ.

قال الزمخشريُّ: فإن قلت: كيف جعلت «يَوْمَ تَرْجفُ» ظرفاً للمضمر الذي هو لَتُبْعَثُنَّ، ولا يبعثون عند النفخة الأولى؟ .

قلت: المعنى: لتبعثن في الوقت الواسع الذي تقع فيه النفختان، وهم يبعثون في بعض ذلك الوقت الواسع، وهو وقت النفخة الأخرى ودلَّ على ذلك أن قوله:{تَتْبَعُهَا الرادفة} جعل حالاً عن «الرَّاجِفَة» .

وقيل: العامل مقدر، أي: اذكر يوم ترجفُ.

وفي الجواب على هذا التقدير وجوهٌ:

أحدها: قوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً} [النازعات: 2‌

‌6]

.

واستقبحه أبو بكر بن الأنباري، لطول الفصل.

الثاني: أنه قوله: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ موسى} [النازعات: 15] ؛ لأن «هَلْ» بمعنى: «قَدْ» .

وهذا غلطٌ؛ لأنه كما تقدَّم في «هَلْ أتَى» أنَّها لا تكون بمعنى «قد» إلَاّ في الاستفهام على ما قال الزمخشري.

الثالث: أن الجواب: «تَتْبعُهَا» وإنَّما حذفتِ «اللامُ» ، والأصل:«اليَوْمَ تَرْجفُ الرَّاجفةُ تَتْبعُهَا» ، فحذفت «اللَاّمُ» ، ولم تدخل نون التوكيد على تتبعها للفصل بين «اللام» المقدَّرة، وبين الفعل المقسمِ عليه بالظرف، ومثله:{لإِلَى الله تُحْشَرُونَ} [آل عمران: 158] .

وقيل: في الكلام تقديم، وتأخير، أي: يَوْمَ تَرْجفُ الرَّاجفةُ، تَتْبعُهَا الرَّادفةُ والنَّازعات.

ص: 127

وقال أبو حاتم: هو على التقديم، والتأخير، كأنه قالأ: فإذا هم بالساهرة والنازعات.

قال ابنُ الأنباريُّ: وهذا خطأ؛ لأن الفاء لا يفتتح بها الكلام.

وقيل: «يَوْمَ» منصوب بما دلَّ عليه «راجِفةٌ» ، أي: يَوْمَ تَرْجفُ رَجَفَتْ.

وقيل: بما دلَّ عليه «خَاشِعَة» أي: يوم ترجف خشعت، وقوله:«تَتْبعُهَا الرَّادفَةُ» يجوز أن يكون حالاً من «الرَّاجِفَةُ» ، وأن يكون مستأنفاً.

فصل في تفسير الآية

قال عبد الرحمن بن زيد: «الرَّاجِفَةُ» أي: المُضطَرِبَةُ، ومعناه: أنَّ الأرض تضطرب، و «الرَّادفة» السَّاعة.

وقال مجاهدٌ: الزلزلةُ تتبعها الرادفة، أي: الصيحة.

وعنه - أيضاً -، وابن عباس والحسن وقتادة: هما الصَّيحتان، أي: النفختان، أمَّا الأولى فتُمِيْتُ كُلَّ شيء بإذنِ الله تعالى، وأمَّا الثانية فتُحْيِي كُلَّ شيءٍ بإذن الله تعالى.

قال صلى الله عليه وسلم َ: «بَيْنَ النَّفْخَتيْنِ أرْبعُونَ سنةً» .

وقال مجاهد: «الرَّاجفَةُ» الرجفة حين تنشقُّ السَّماءُ، وتُحْملُ الأرضُ والجبالُ، فتُدَكُّ دكَّةً واحدةٍ [وذلك بعد الزلزلة وقيل: الرجفة تحرك الأرض والرادفة زلزلة أخرى تفني الأرضين] .

وأصل «الرَّجفَةِ» الحركةُ، قال تعالى:{يَوْمَ تَرْجُفُ الأرض} [المزمل: 14] ، وليست الرجفة هناك من الحركة فقط، بل من قولهم: رجف الرَّعدُ يرجف رجفاً ورجيفاً، أي: أظهرت الصوت والحركة، ومنه سُمِّيت الأراجيف لاضطراب الأصوات بها، وإفاضة النَّاس فيها.

وقيل: الرجفة هذه منكرة في السحاب، ومنه قوله تعالى:{فَأَخَذَتْهُمُ الرجفة} [الأعراف: 78] .

وأما الرادفة: فكل شيء جاء بعد شيء آخر، يقال: ردفهُ: أي: جاء بعده.

قوله: {قُلُوبٌ} مبتدأ، و «يومئذ» منصوب ب «وَاجِفَة» ، و «وَاجِفَة» صفة القلوب،

ص: 128

وهو المسوغ للابتداء بالنكرة، و «أبْصارُهَا» مبتدأ ثانٍ، و «خَاشِعَة» خبره، وهو وخبره خبر الأول، وفي الكلام حذف مضاف، تقديره: أبصار أصحاب القلوب.

قال ابن عطية: وجاز ذلك، أي: الابتداء ب «قُلُوب» ؛ لأنها تخصصت بقوله: «يَوْمَئِذ» .

ورد عليه أبو حيان: بأن ظرف الزَّمان لا يخصص الجثث، يعني: لا يوصف به الجثث.

و «الواجِفة» : الخائفة الوجلة، قاله ابن عباس، يقال: وجَفَ يَجِفُ وجِيفاً، وأصله: اضطراب القلب.

قال قيس بن الخطيم: [المنسرح]

5088 -

إنَّ بَنِي جَحْجَبَى وأسرتَهُمْ

أكْبَادُنَا مِنْ وَرائِهمْ تَجِفُ

وقال السديُّ: زَائلةٌ عن أماكنها، ونظيره:{إِذِ القلوب لَدَى الحناجر} [غافر: 18] .

وقال المؤرج، قلقة مستوفزة، مُرتكضةٌ غير ساكنة.

وقال المبرد: مضطربة، والمعنى متقارب، والمراد: قلوب الكفَّار، يقال: وجَفَ القلب يَجِفُ وجِيفاً: إذا خفق، كما يقال: وجَبَ يَجِبُ وَجِيْباً - بالياء الموحدة - بدل الفاء، ومنه وجيف الفرس والنَّاقة في العدوِ.

والإيجاف: حمل الدابة على السير السريع.

قوله: {أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ} أي: مُنْكَسِرةٌ ذليلة من هول ما ترى، نظيره:{خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} [القلم: 43] .

قوله: {يَقُولُونَ} أي: يقول هؤلاء المكذِّبون المنكِرُونَ للبعث إذا قيل لهم: إنكم تُبْعَثُون، قالوا منكرين متعجبين: أنُرَدُّ بعد موتتنا إلى أول الأمر، فنعود أحياء، كما كنا قبل الموت؟ وهو كقولهم:{أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً} [الإسراء: 49] .

ص: 129

قوله: {فِي الحافرة} «الحافرة» : التي يرجعُ الإنسان فيها من حيث جاء، يقال: رجع في حافرته، ثم يعبر عن الرجوع في الأحوال من آخر الأمر إلى أوله؛ قال:[الوافر]

5089 -

أحَافِرةً عَلى صَلعٍ وشَيْبٍ؟

مَعاذَ اللهِ من سَفهٍ وعَارِ

يقول: أأرجعُ ما كنت عليه في شبابي مع الغزلِ والصبا بعد أن شبت وصلعت؟ .

وأصله: أنَّ الإنسان إذا رجع في طريقه أثرت قدماه فيها حفراً.

وقال الراغبُ، في قوله تعالى:{فِي الحافرة} مثل لمن يرد من حيث جاء، أي: أنَحْيَا بعد أن نموت؟ .

وقيل: «الحَافرة» ، الأرضُ التي جُعلتْ قبُورهُمْ فيها، ومعناه: أئِنَّا لمردودون ونحن في الحافرة؟ أي: في القبور.

وقوله: «في الحافرة» على هذا في موضع الحال، ويقال: رجع الشيخ إلى حافرته، أي: هرم لقوله تعالى:

{وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إلى أَرْذَلِ العمر} [النحل: 70] .

وقولهم: «النقد عند الحافرة» لما يباع نقداً، وأصله من الفرس إذا بيع، فيقال: لا يزول حافره، أو ينقد ثمنه.

والحفر: تآكل الأسنان، ود حفر فوه حفراً، وقد أحفر المهر للأثناء والأرباع.

والحافرة: «فاعلة» بمعنى: «مفعولة» ، وهي الأرض التي تحفر قبورهم فيها فهي بمعنى:«المحفورة» ، كقوله تعالى:{مَّآءٍ دَافِقٍ} [الطارق: 6]، و {عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ} [القارعة: 7] ، والمعنى: أئِنَّا لمردودون في قبورنا.

وقيل: على النسب، أي: ذاتُ حفر.

وقيل: سُمِّيت الأرض الحافرة؛ لأنها مستقر الحوافر، كما سمِّيت القدم أرضاً؛ لأنها على الأرض، لقولهم: الحافرة جمع حافرة بمعنى: القدم أي: نمشي أحياء على أقدامنا، ونطأ بها الأرض.

وقيل: هي أول الأمر.

ويقول التجار: «النقد في الحافرة» أي في أول السّوم؛ وقال الشاعر: [السريع]

5090 -

آلَيْتُ لا أنْسَاكُم فاعْلَمُوا

حَتَّى يُرَدَّ النَّاسُ في الحَافِرَهْ

ص: 130

وقال ابن زيدٍ: الحافرة «النَّار» ، وقرأ:«تلك إذا كرَّه خاسرة» .

وقال مقاتلٌ وزيدُ بن أسلم: هي اسم من أسماء النار.

وقال ابنُ عبَّاسٍ: الحافرة في كلام العرب: الأرض التي تغيَّرت وأنتنت بأجسادِ موتاها، من قولهم: حفرت أسنانه، أي: تآكلت، أي: دكها الوسخُ من باطنها وظاهرها، ويجوز تعلقه ب «مردودون» ، أو: بمحذوف على أنه حال.

فصل في تفسير الآية

قال ابن الخطيب: هذه الأحوال المتقدمة هي أحوال القيامة عند جمهور المفسرين.

وقال أبو مسلم: هذه الأحوال ليست هي أحوال القيامة؛ لأنه فسَّر «النَّازعات» بنزعِ القوسِ، و «المُدبِّرات» بالأمور التي تحصل أدبار ذلك الرمي، والعدو، ثم بنى على ذلك فقال:«الرَّاجفَة» هي خيلُ المشركين، وكذلك «الرَّادفة» ، وهما طائفتان من المشركين غزوا رسول الله صلى الله عليه وسلم َ فسبقت إحداهما الأخرى، والقلوب الواجفة، هي القلقةُ، والأبصار الخاشعة، هي أبصار المنافقين، كقوله تعالى:{يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ المغشي عَلَيْهِ مِنَ الموت} [محمد: 20]، كأنَّه قيل: لمَّا جاء خيل العدو ترجف؛ لأنها اضطربت قلوب المنافقين خوفاً، وخشعت أبصارهم جُبْناً وضَعْفاً ثم قالوا:«أئِنَّا لمردودون فِي الحَافِرَةِ» أي: نرجع إلى الدنيا حتى نتحمّل هذا الخوف لأجلها. وقالوا أيضاً: «تِلْكَ إذا كَرَّة خَاسِرةٌ» ، فأول هذا الكلام حكاية لحال من غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم َ من المشركين، وأوسطه حكاية لحال المنافقين، وآخره حكاية لكلام المنافقين في إنكار الحشر، ثم إنه - تعالى - أجاب عن كلامهم بقوله تعالى:{فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُم بالساهرة} .

قال ابن الخطيب: وكلام أبي مسلم محتملٌ، وإن كان على خلاف قولِ الجمهور.

قوله تعالى: {أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً نَّخِرَةً} .

قرأ الأخوان وأبو بكر: «نَاخِرَةً» بألف.

والباقون: «نَخِرة» بدُونِهَا.

ص: 131

وهما ك «حَاذِرٍ، وحَذِر» فاعل لمن صدر عنه الفعل، و «فعل» لمن كان فيه غريزة أو كالغريزة.

وقيل: ناخِرَة، ونخِرَة بمعنى: بالية.

يقال: نَخِر العظم - بالكسر - أي بلي وتفتَّت.

وقيل: نَاخِرةٌ، أي: صارت الريح تَنْخَر فيها، أيك تصوت، ونَخِرَةٌ أي: ينخر فيها دائماً.

وقيل: ناخرة، أي: بالية، ونخرة: متآكلة.

وعن أبي عمرو: النَّاخرة: التي لم تنخر بعد، والنَّخرةُ: البالية.

وقيل: النَّاخرةُ: المصوت فيها الريح، والنَّاخرة: البالية التي تعفّنت.

قال الزمخشري: «نَخِرَ العَظْمُ فهو نَخِرٌ ونَاخِرٌ، كقولك: طمع، فهو طَمِعٌ وطَامِع، و» فَعِل «أبلغ من فاعل، وقد قُرئ بهما، وهو البالي الأجوف الذي تمرُّ فيه الريح، فيسمع له نخير» .

ومنه قول الشاعر: [الطويل]

5091 -

وأخْلَيْتُهَا مِنْ مُخِّهَا فكَأنَّهَا

قَوارِيرُ في أجْوافِهَا الرِّيحُ تَنْخُرُ

وقال الرَّاجز لفرسه: [الرجز]

5092 -

أقْدِمْ سَجاجِ إنَّها الأسَاوِرَهْ

ولا يَهُولنكَ رُءُوسٌ نَادِرَهْ

فإنَّمَا قَصْرُكَ تُرْبُ السَّاهِرَهْ

ثُمَّ تَعُودُ بَعْدَهَا في الحَافِرَهْ

مِنْ بَعْدِ مَا كُنت عِظَاماً نَاخِرَهْ

ونُخْرةُ الريح - بضم النون - شدة هبوبها، والنُّخْرَةُ أيضاً: مقدم أنف الفرس، والحمار، والخنزير، يقال: هشم نخرته، أي: مقدم أنفه.

و «إذَا» منصوبٌ بمُضْمَرٍ، أي: إذَا كُنَّا كذا نُردُّ ونُبعَثُ.

قوله تعالى: {قَالُواْ تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ} .

«تلك» مبتدأ بها إلى الرَّجفةِ والردة في الحافرة، و «كَرَّةٌ» خبرها، و «خاسرة»

ص: 132

صفة، أي: ذاتُ خسرانٍ، أو أسند إليها الخسار مجازاً والمراد أصحابُها، والمعنى: إن كان رجوعنا إلى القيامة حقاً، فتلك الرجعة رجعة خاسرة [خائبة] ، وهذا أفادته «إذن» فإنها حرف جواب وجزاء عند الجمهور.

وقيل: قد لا تكون جواباً.

وعن الحسن: أن «خاسرة» بمعنى كاذبة، أي: ليست كائنة.

وقال الربيع بن أنس: خاسرةٌ على من كذَّب بها.

وقيل: كَرَّةُ خُسران، والمعنى: أهْلُهَا خاسرون، كقولك: تِجَارةٌ رابحةٌ، أي: يَرْبَحُ صاحبها.

وقال قتادة ومحمد بن كعب أي: لئن رجعنا أحياءً بعد الموت لنحشرن بالنَّار، وإنَّما قالوا هذا لأنَّهُم أوعدُوا بالنار، و «الكَرُّ» :«الرجوع» ، يقال: كرَّهُ، وكَرَّ بنفسه، يتعدى ولا يتعدَّى.

والكَرَّةُ: المرَّةُ، الجمع: الكرَّات.

قوله: {فَإِنَّمَا هِيَ} ضمير الكرة، أي: لا تحسبوا تلك الكرَّة صعبة على الله تعالى.

قال الزمخشري: «فإن قلت: بم يتعلق قوله:» فإنما هي «؟ .

قلت: بمحذوف، معناه: لا تستصعبوها فإنما هي زجرة واحدة، يعني بالتعلُّق من حيث المعنى، وهو العطف.

وقوله:» فإذَا هُمْ «المفاجأة والسبب هنا واضحان.

والزجرة: قال ابن عباس رضي الله عنهما: في النَّفخةِ الواحدة» فإذا هُمْ «أي: الخلائق أجمعون،» بالساهرة «أي: على وجه الأرض من الفلاة، وصفت بما يقع فيها، وهو السهر لأجل الخوف.

وقيل: لأن السراب يجري فيها من قولهم: «عين ساهرة» أي: جارية الماء، وفي ضدها نائمة.

[قال الزمخشري: «والساهرةُ: الأرض البيضاء المستوية، سميت بذلك؛ لأن

ص: 133

السراب يجري فيها] من قولهم: عين ساهرة: أي: جارية الماء، وفي ضدِّها نائمة؛ قال الأشعثُ بن قيسٍ:[الطويل]

5093 -

وسَاهِرةٍ يُضْحِي السَّرابُ مُجَلِّلاً

لأقْطَارِهَا قدْ جُبْتُهَا مُتلثِّماً

أي: ساكنها لا ينام خوف الهلكة انتهى؛ وقال أميَّةُ: [الوافر]

5094 -

وفِيهَا لَحْمُ سَاهِرةٍ وبَحْرٍ

ومَا فَاهُوا به لهُمُ مُقِيمُ

يريد: لحم حيوان أرض ساهرة؛ وقال أبو كبير الهذليُّ: [الكامل]

5095 -

يَرْتدْنَ سَاهِرةً كَأنَّ جَمِيمهَا

وعَمِيمَهَا أسْدافُ ليْلٍ مُظْلِمِ

وقال الراغب: هي وجه الأرض.

وقيل: أرض القيامة، وحقيقتها التي يكثر الوطء بها، كأنَّها سهرت من ذلك.

والأسهران: عرقان في الأنف.

والساهور: غلافُ القمر الذي يدخل فيه عند كسوفه؛ قال: [البسيط]

5096 -

...

...

...

...

..... أوْ شُقَّةٌ خَرجتْ مِنْ بَطْنِ سَاهُورِ

أي: هذه المرأة بمنزلة قطعة القمرِ. وقال أمية بن أبي الصلت: [الكامل]

5097 -

قَمَرٌ وسَاهُورٌ يُسلُّ ويُغْمَدُ

وروى الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:» السَّاهرة: أرض من فضَّةٍ لم يُعْصَ اللهُ عليها مُنْذُ خَلقهَا «.

وقيل: أرض يجددها الله يوم القيامة.

وقيل: السَّاهرة: اسم الأرض السابعة يأتي الله بها، فيحاسب عليها الخلائقَ، وذلك حين تبدَّلُ الأرض غير الأرض.

ص: 134

وقال الثَّوري: السَّاهرة: أرضُ» الشَّام «.

وقال وهبُ بن منبه: جبلُ بيتِ المقدسِ.

وقال عثمانُ بنُ أبي العاتكةِ: إنَّه اسم مكان من الأرض بعينه، ب» الشام «، وهو الصقع الذي بين جبل» أريحَا «وجبل» حسَّان «يمُدُّه الله كيف يشاء.

وقال قتادةُ: هي جهنَّم، أي: فإذا هؤلاءِ الكُفَّار في جهنَّم، وإنَّما قيل لها: ساهرة؛ لأنَّهُم لا ينامون عليها حينئذ.

وقيل: السَّاهرة بمعنى: الصحراء على شفيرِ جهنَّم، أي: يوقفون بأرض القيامة، فيدوم السهر حينئذ.

ص: 135

قوله تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ موسى} أي: قد جاءك وبلغك، وهذه تسليةٌ للنبي صلى الله عليه وسلم َ، أي: أنَّ فرعون كان أقوى من كفار عصرك، ثُمَّ أخذناه وكذلك هؤلاء.

وقيل: «هَلْ» بمعنى: «ما» أي: ما أتاك، ولكِّي أخبرك به، فإنَّ فيه عِبْرَةً لمن يخشى.

وقال ابنُ الخطيبِ: قوله: «هَلْ أتَاكَ» يحتملُ أن يكون معناه: أليْسَ قَدْ أتَاكَ حديثُ موسى، هذا إن كان قد أتاه ذلك قبل هذا الكلام، أمَّا إن لم يكن قد أتاه، فقد يجوز أن يقال:«هَلْ أتَاكَ» أي: أنا أخبرك وتقدم الكلام على موسى وفرعون فإنَّ فيه عبرة لمن يخشى.

قوله: {إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ} منصوب ب «حديث» لا ب «أتاك» ؛ لاختلاف وقتيهما، وتقدم الخلاف بين القراء في «طُوَى» في سورة [طه: 12] .

و «الوادي المقدس» : المُبَاركُ المُطَهَّر.

قال الفراء: «طُوى» واد بين «المدينة» و «مصر» ، قال: وهو معدولٌ، من «طاو» ، كما عدل «عُمَرُ» من «عامر» .

ص: 135

قال الفراء: مَنْ صرفه قال: هو ذكر، ومن لم يصرفه جعله معدولاً ك «عمر، وزفر» .

قال: «والصَّرفُ أحبُّ إليَّ إذا لم أجد في المعدول نظيراً» أي: لم أجد له اسماً من الواو والياء عدلَ من «فاعل» إلى «فُعَل» غير طُوى.

وقيل: «طوى» معناه: يا رجل، بالعبْرَانيَّةِ، فكأنَّه قيل: اذهب يا رجل إلى فرعون، [قاله ابن عباس.

وقيل: الطوى: أي: ناداه بعد طويّ من الليل اذهب إلى فرعون] ؛ لأنك تقول: جئتك بعد طويّ، أي بعد ساعة من الليل.

وقيل: معناه «بالوَادِ المُقدَّسِ طُوى» أي بُورِكَ فيهِ مرَّتيْنِ.

قوله: {اذهب} يجوز أن يكون تفسيراً للنداء، ناداه اذهب، ويجوز أن يكون على إضمار القول.

وقيل: هو على حذف، أي: أن اذهب، ويدل له قراءة عبد الله: أن اذهب.

و «أن» هذه الظَّاهرة أو المقدرة، يحتملُ أن تكون تفسيرية، وأن تكون مصدرية، أي: ناداه ربُّه بكذا.

«اذهب إلى فرعون إنه طغى» أي تجاوز القدر في العصيان.

قال ابنُ الخطيب: ولم يُبيِّنُ أنَّه طغَى في أيِّ شيءٍ.

فقيل: تكبَّر على الله تعالى، وكفر به.

وقيل: تكبَّر على الخلقِ واسْتعبَدهُمْ.

روي عن الحسن قال: كان فرعون علجاً من «همدان» .

وقال مجاهد: كان من أهل «إصطخر» وعن الحسن - أيضاً - كان من أهل «أصبهان» ، يقال له: ذو ظفر، طوله أربعة أشبارٍ.

قوله: {هَل لَّكَ} خبر مبتدأ مضمر.

و {إلى أَن تزكى} متعلِّق بذلك المبتدأ، وهو حذفٌ سائغٌ، والتقدير: هل لك سبيل إلى التزكية، ومثله: هل لك في الخير، تريد: هل لك رغبة في الخير؛ قال: [الطويل]

ص: 136

5098 -

فَهَلْ لَكمُ فِيهَا إليَّ فإنَّنِي

بَصِيرٌ بِمَا أعْيَا النِّطاسِيَّ حِذْيَمَا

وقال أبو البقاء: لمَّا كان المعنى: أدعوك، جاء ب «إلى» .

وقال غيره: يقال: هل لك في كذا، هل لك إلى كذا كما تقول: هل ترغب فيه وهل ترغب إليه؟ .

قال الواحدي: المبتدأ محذوف في اللفظ، مراد في المعنى، والتقدير: هل لك إلى أن تزكَّى حاجة.

وقرأ نافع وابن كثير: بتشديد الزاي من «تزكَّى» والأصل تتزكى، وكذلك «تَصدَّى» في السورة تحتها، فالحرميان: أدغما، والباقون: حذفوا، نحو تنزل، وتقدَّم الخلاف في أيتهما المحذوفة.

فصل في تفسير الآية

معنى «هَلْ لَكَ إلى أنْ تَزكَّى» أي: تُسْلِم فتطهرُ من الذُّنُوبِ.

وعن ابن عباس رضي الله عنهما هل لك إلى أن تشهد أن لا إله إلا الله.

و «أهْديكَ إلى ربِّك فتَخْشَى» أي: تخافُه وتتقيه.

قال ابن الخطيب: سائر الآيات تدل على أنه - تعالى - لمَّا نادى موسى عليه الصلاة والسلام ُ - ذكر له أشياء كثيرة، كقوله تعالى في سورة «طه» :{نُودِيَ ياموسى إني أَنَاْ رَبُّكَ} [طه: 11، 12] إلى قوله: {لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الكبرى اذهب إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طغى} [طه: 23، 24] .

فدلَّ [قوله تعالى - هاهنا -: «اذْهَبْ إلى فِرعَوْنَ إنَّه طَغَى» ] أنه من جملة ما ناداه به [لا كل ما ناداه به] ، وأيضاً فليس الغرض أنَّه صلى الله عليه وسلم َ كان مبعوثاً إلى فرعون فقط بل إلى كل من كان في الطور، إلَاّ أنَّه خصَّه دعوته جاريةٌ مجرى دعوةِ كُلِّ القَوْمِ.

فصل في كلام المعتزلة

تمسَّك المعتزلة بهذه الآية في إبطال القول بأن الله - تعالى - يخلق فعل العبد،

ص: 137

فإن هذا استفهام على سبيل التقرير، أي: لك سبيل إلى أن تزكَّى، ولو كان ذلك بفعل الله - تعالى - لا نقلب الكلام حجةً على موسى.

والجواب: ما تقدَّم في نظائره.

حكى القرطبيُّ عن صخرِ بنِ جويرية قال: «لمَّا بعث الله تعالى موسى عليه الصلاة والسلام ُ - إلى فرعون، قال له:» اذْهَبْ إلى فِرْعَونَ «إلى قوله:» وأهْديكَ إلى ربِّك فتَخْشَى «، ولن يفعل، فقال: يا رب، وكيف أذهب إليه، وقد علمت أنه لا يفعل، فأوحى الله - تعالى - إليه أن امض إلى ما أمرتَ به، فإنَّ في السماء اثني عشر ألفاً ملك، يطلبون علم القدرة، فلم يبلغوه، ولم يدركوه» .

قوله تعالى: {فَأَرَاهُ الآية الكبرى} «الفاء» في «فأراه» : معطوف على محذوف، يعني فذهب فأراه، كقوله تعالى:{اضرب بِّعَصَاكَ الحجر فانفجرت} [البقرة: 60] أي: فضرب فانفجرت.

واختلفوا في الآية الكبرى، أي: العلامة العظمى، وهي المعجزة.

فقيل: هي العصا.

وقيل: اليدُ البيضاءُ تبْرقُ كالشَّمْسِ، قاله مقاتل والكلبي.

والأول: قول عطاء وابن عباس؛ لأنَّه ليس في اليد إلا انقلاب لونها، وهذا كان حاصلاً في العصا؛ لأنَّها لمَّا انقلبت حيّة، فلا بد وأن يتغيَّر اللون الأول، فإذن كل ما في اليد، فهو حاصل في العصا، وأمور أخر، وهي الحياة في الجرم الجمادي، وتزايد الأجر إليه، وحصول القدرةِ الكبيرة والقُوَّة الشديدة، وابتلاعها أشياء كثيرة، وزوال الحياة، والقدرة عليها، وبقاء تلك الأجزاء التي عظمت، وزوال ذلك اللون والشكل اللذين صارت العصا بهما حيَّة، وكلُّ واحدٍ من هذه الوجوه كان معجزاً مستقلاً في نفسه، فعلمنا أن الآية الكبرى هي العصا.

وقال مجاهد: هي مجموع العصا واليد.

وقيل: فلق البحر، وقيل: جميع آياته ومعجزاته.

{فَكَذَّبَ} أي: كذَّب بِنَبِيِّ الله موسى و «عصى» ربَّه تبارك وتعالى.

فإن قيل: كل من كذَّب الله فقد عصى، فما فائدة قوله:«فكذب وعصى» ؟ .

فالجواب: كذَّب بالقول، وعصى بالتمرد والتجبر.

ص: 138

{ثُمَّ أَدْبَرَ يسعى} أي: يعملُ بالفساد في الأرض.

وقيل: يعمل في نكاية موسى.

وقيل: «أدْبَرَ يَسْعَى» هارباً من الحيَّة.

قال ابن الخطيب: معنى «أدْبَرَ يَسْعَى» أي: أقبل يسعى، كما يقالُ: أقبل يفعل كذا، يعني: إن شاء يفعل، فموضع «أدبر» موضع «أقبل» لئلَاّ يوصف بالإقبَالِ.

قوله: {فَحَشَرَ فنادى} لم يذكر مفعولاهما، إذ المراد: فعل ذلك، أو يكون التقدير: فحشر قومه فناداهم.

وقوله: «فَقَالَ» تفسير للنِّداء.

وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، أي: فنادى فحشر؛ لأنَّ النداء قبل الحشر، ومعنى «حشر» ، أي: جمع السَّحرة، وجمع أصحابه ليَمْنَعُوهُ من الحيَّة.

وقيل: جمع جنوده للقتال، والمحاسبة، و «السَّحَرةُ» : المعارضة.

وقيل: حَشَرَ النَّاس للُضُور «فنادى» أي: قال لهم بصوتٍ عالٍ.

{أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى} أي: لا ربَّ فوقِي.

وقيل: أمر منادياً ينادي فنادى في النَّاس بذلك.

وقيل: قام فيهم خطيباً فقال ذلك.

وعن ابن عباس، ومجاهدٍ، والسديِّ، وسعيد بن جبير، ومقاتلٍ: كلمته الأولى {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرِي} [القصص: 38] والأخرى: {أنَا ربُّكمُ الأعْلَى} .

قال ابنُ عباس: كان بين الكلمتين أربعون سنة، والمعنى: أمهله في الأولى، ثم أخذه في الآخرة فعذبه بكلمتيه.

قال ابن الخطيب: واعلم أنَّا بينَّا في سورة «طه» أنه لا يجوز أن يعتقد الإنسانُ في نفسه كونه خالقاً للسماوات والأرض والجبال والنبات والحيوان، فإنَّ العلمَ بفسادِ ذلك ضروريٌّ، فمن تشكك فيه كان مجنوناً، ولو كان مجنوناً لما جاز من الله بعثة الرسل

ص: 139

إليه، بل الرَّجل كان دهرياً منكراً للصَّانع والحشر والنشر، وكان يقول: ليس لأحدٍ أمرٌ ولا نهيٌ إلَاّ لي «فأنَا ربُّكم» ، بمعنى مربيكم والمُحسنُ إليكم، وليس للعالم إله حتى يكون له عليكم أمرٌ، أو نهيٌ، أو يبعث إليكم رسولاً.

قال القاضي: وقد كان الأليق به بعد ظهور خزيه عند انقلاب العصا حية ألا يقول هذا القول؛ لأن عند ظهور الدلالة والمعجزة، كيف يليق أن يقول:«أنَا ربُّكم الأعْلَى» فدلت هذه الآية أنَّه في ذلك الوقت صار كالمعتوه الذي لا يدري ما يقول.

قوله تعالى: {فَأَخَذَهُ الله نَكَالَ الآخرة والأولى} يجوز أن يكون مصدر الأخذِ، والتجوز إما في الفعل، أي: نكل بالأخذِ نكال الآخرة، وإما في المصدر، أي: أخذه أخذ نكالٍ، ويجوز أن يكون مفعولاً له، أي: لأجلِ نكالهِ، ويضعف جعله حالاً لتعريفه، وتأويله كتأويل جهدك وطافتك، غير مقيس.

ويجوز أن يكون مصدراً مؤكِّداً لمضمون الجملة المتقدِّمة، أي: نكل الله [به] نكال الآخرة. قاله الزَّمخشريُّ، وجعله كوعد الله، وصبغة الله.

وقال القرطبيُّ: وقيل: نُصِبَ بنَزْعِ حرف الصِّفة، أي: فأخذه الله بنكال الآخرة، فلمَّا نُزعَ الخافضُ نُصِبَ.

والنكال: اسم لما جعل نكالاً للغير، أي: عقوبة له حتى يعتبر، يقال: نَكَل فلانٌ بفلانِ، إذا ألحقهُ عُقوبة، والكلمة من الامتناع، ومنه النُّكُول عن اليمين، والنكل: القيد وقد مضى في سورة «المزمل» ، والنكال: بمنزلة التنكيل، كالسلام بمعنى التسليم.

والآخرة والأولى: إمَّا الدَّاران وإمَّا الكلمتان والاخرة قوله: «أنَا ربُّكمُ الأعْلَى» ، والأولى:{مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرِي} [القصص: 38] كما تقدم فحذف الموصول للعلم به.

فصل في تفسير الآخرة والأولى

قيل: الآخرة والأولى: هما الكلمتان كما تقدَّم.

وقال الحسنُ وقتادةُ: «نكال الآخرة والأولى» : هو أن أغرقهُ في الدَّنيَا وعذّبه في الآخرة.

وروي عن قتادة - أيضاً -: الآخرةُ قوله: {أنَا ربُّكمُ الأعْلَى} والأولى تكذيبه بموسى عليه الصلاة والسلام ُ.

ص: 140

قال القفال: وهذا كأنَّه هو الأظهرُ؛ لأنَّه - تعالى - قال: {فَأَرَاهُ الآية الكبرى فَكَذَّبَ وعصى ثُمَّ أَدْبَرَ يسعى فَحَشَرَ فنادى فَقَالَ أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى} فذكر القصتين، ثم قال:{فَأَخَذَهُ الله نَكَالَ الآخرة والأولى} .

فظهر أنَّ المراد: أنَّه عاقبه على هذين الأمرين.

ثمَّ إنَّه - تعالى - ختم هذه القصة بقوله:

{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يخشى} ، إنَّ فيما قصصنا عليك اعتباراً وعظةً لمن يخاف.

ص: 141

قوله: {أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً} ، يريد: أهل «مكّة» ، أي: أخلقكم بعد الموت أشدُّ في تقديركم أم السماءُ؟ .

فمن قدر على خلقِ السَّماء على عظمها، وعظم أحوالها، قدر على الإعادة، وهذا كقوله:{لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس} [غافر: 57] .

والمقصود من الآية الاستدلال على منكري البعث، ونظيره قوله تعالى:{أَوَلَيْسَ الذي خَلَقَ السماوات والأرض بِقَادِرٍ على أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم} [يس: 81] .

ومعنى الكلام: التقريع والتوبيخ.

ثم وصف تعالى السماء، فقال:«أم السَّماءَ بَناهَا» عطف على «أنتم» ، وقوله «» بَنَاهَا «بيان لكيفية خلقه إياها، فالوقف على» السَّماءِ «، والابتداء بما بعدها، ونظيره قوله - تعالى - في» الزخرف «: {أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ} [الزخرف: 58] .

وقوله:» رَفَعَ سَمْكهَا «جملة مفسرة لكيفية البناء،» والسَّمْك «:» الارتفاع «.

قال الزمخشريُّ:» جعل مقدار ذهابها في سمتِ العلوِّ مديداً رفيعاً «.

وسكمتُ الشيء: رفعته في الهواء، وسمك هو، أي: ارتفع سُمُوكاً، فهو قاصرٌ ومتعدٍّ، وبناء مسموك، وسنامٌ سَامِكٌ تَامِكٌ، أي: عالٍ مرتفعٌ، وسماك البيت ما سمكته به، والمسموكاتُ: السماوات ويقال: اسمك في الدّيم، أي: اصعد في الدرجة، والسماك: نجم معروف، وهما اثنان، رامح وأعزل؛ قال الشاعر:[الكامل]

5099 -

إنَّ الذي سَمكَ السَّماءَ بَنَى لَنَا

بَيْتاً دَعَائِمُهُ اعَزُّ وأطْوَلُ

ص: 141

وقال البغويُّ:» رفَعَ سمْكهَا «أي: سقفها.

فصل في الكلام على هذه الآية

قال الكسائيُّ والفراء والزجاج: هذا الكلام تم عند قوله تعالى: {أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السمآء بَنَاهَا} ، قال: لأنَّه من أصله السماء، والتقدير:» أم السماء التي بناها «فحذف» التي «، ومثل هذا الحذف جائز.

قال القفالُ: يقال: الرجل جاءك عاقل، أي: الرجل الذي جاءك عاقل، وإذا ثبت جواز ذلك في اللغة، فنقول: الدَّليل على أن قوله تعالى:» بَنَاهَا «صلةٌ لما قبله، أنَّه لو لم يكن صلة لكان صفة فقوله:» بَنَاهَا «صفة، ثم قوله:» رَفَعَ سَمْكهَا «صفة، فقد توالت صفتان، لا تعلُّق لإحداهما بالأخرى، فكان يجب إدخال العاطف بينهما، كما في قوله:» وأغطَشَ ليْلهَا «، ولمَّا لم يكن كذلك، علمنا أنَّ قوله:» بَناهَا «صلةٌ للسَّماءِ، فكان التقدير: أم السَّماء التي بناهَا» ، وهذا يقتضي وجود سماءٍ ما بَنَاهَا اللهُ، وذلك باطل.

وقوله: {فَسَوَّاهَا} أي: خَلقهَا خَلْقاً مستوياً، لا تفاوت فيه، ولا فطور، ولا شقوق.

فصل فيمن استدل بالآية على أن السماء كرة

قال ابن الخطيب: واستدلُّوا بهذه الآية على كونِ السَّماء كُرةً، قالوا: لأنه لو لم تكن كرةً لكان بعضُ جوانبها سطحاً، والبعض زاويةً والبعضُ خطًّا، ولكان بعض أجزائه اقرب إلينا، والبعض الآخر أبعد، فلا تحصل التَّسويةُ الحقيقية، ثُمَّ قالوا: لما ثبت أنَّها محدثةٌ مُفتقِرةٌ إلى فاعل مختار، فأيُّ ضررٍ في الدِّين يُنافِي كونها كرة.

قوله تعالى: {وَأَغْطَشَ} . أي: أظلم بلغة أنمار، يقال: غطشَ الليلُ، وأغطشته أنا؛ قال:[المتقارب]

5100 -

عَقرْتُ لَهُمْ نَاقَتِي مَوهِناً

فَليْلهُم مُدلَهِمٌّ غَطِشْ

وليل أغطش، وليلة غطشاء.

قال الراغب: وأصله من الأغطش، وهو الذي في عينه شبه عمش، ومنه فلاة غَطْشَى لا يهتدى فيها، والتَّغَاطشُ: التَّعامِي انتهى.

ويقال: أغْطشَ اللَّيْلُ قاصراً ك «أظلم» ، ف «أفْعَلَ» فيه متعدٍّ ولازمٍ، فالغَطَشُ والغَتَشُ: الظُّلمة، ورجل أغطش، أي: أعْمَى، أو شبيهٌ به، وقد غطش، والمرأة:

ص: 142

غطشاءُ، وفلاة غَطْشَى لا يهتدى لها؛ قال الأعشى:[المتقارب]

5101 -

وبَهْمَاءَ بالليْلِ غَطْشَى الفَلَا

ةِ يُؤنِسُنِي صَوْتُ قَيَّادِهَا

ومعنى قوله: {وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا} أي: جعلهُ مُظلماً، وأضاف اللَّيل إلى السَّماء؛ لأنَّ الليل يكون بغروب الشمس، والشمس تضاف إلى السماء، ويقال: نجُومُ اللَّيْلِ؛ لأنَّ ظهورها بالليل.

قوله: {وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا} ، فيه حذف، أي: ضحى شمسها، وأضاف الليل والضحى لها للملابسة التي بينها وبينهما، وإنَّما عبَّر عن النَّهارِ بالضحى؛ لأنَّ الضُّحى أكمل النَّهار بالنَّور والضَّوءِ.

قوله تعالى: {والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} أي: بسطها، و «بَعْدَ» على بابها من التأخير، ولا معارضة بينها وبين آية فُصلت؛ لأنَّه - تعالى - خلق الأرض غير مدحوة، ثم خلق السماء، ثم دحا الأرض.

وقول أبي عبيدة: إنَّها بمعنى: «قَبْلَ» منكرٌ عند العلماء.

والعرب تقول: دحوتُ الشيء ادحوهُ دحْواً: إذا بسطه، ودحَى يَدحِي دَحْياً: إذا بسطه، فهو من ذوات الواو والياء، فيكتب بالألف، والياء.

وقيل لعشّ النَّعامة: أدحو، وأدحى لانبساطه في الأرض.

وقال أمية بن أبي الصلت: [الوافر]

5102 -

وبَثَّ الخَلْقَ فِيهَا إذْ دَحاهَا

فَهُمْ قُطَّانُهَا حتَّى التَّنَادِي

وقيل: دَحَى بمعنى سوَّى.

قال زيدُ بنُ عمرو بن نفيلٍ: [المتقارب]

5103 -

وأسْلَمْتُ وجْهِي لِمَنْ أسْلمَتْ

لَهُ الأرْضُ تَحْمِلُ صَخْراً ثِقَالاً

دَحَاهَا فلمَّا اسْتَوَتْ شَدَّهَا بأيدٍ وأرْسَى عَلَيْهَا الجِبَالا

والعامة: على نصب الأرض، والجبال على إضمار فعلٍ مفسَّر بما بعده، وهو المختار لتقدُّم جملة فعلية.

ورفعهما الحسن، وابن أبي عبلة، وأبو حيوة وأبو السمال وعمرو بن عبيد، برفعهما علىلابتداء، وعيسى برفع «الأرض» فقط.

ص: 143

فصل

روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: خلق الله تعالى الكعبة ووضعها على الماء على أربعة أركان، وكان قبل أن يخلق الدُّنيا بألفي عام، ثم دُحيتِ الأرض من تحت البيت.

وحكى القرطبي عن بعض أهل العلم أنَّ «بَعْدَ» هنا في موضع: «مع» ، كأنَّه قال: والأرض مع ذلك دحاها، كقوله تعالى:{عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} [القلم: 13]، ومنه قولهم:«أنت أحمق، وأنت بعد هذا سيِّئُ الخلقِ» ؛ وقال الشاعر: [الطويل]

5104 -

فَقُلت لَهَا: عَنِّي إليْك فإنَّنِي

حَرامٌ وإنِّي بَعْدَ ذَاكَ لَبِيبُ

أي: مع ذلك.

وقيل: «بعد» بمعنى: «قبل» كقوله تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزبور مِن بَعْدِ الذكر} [الأنبياء: 105] أي: من قبلِ الفرقان؛ قال أبو كثير: [الطويل]

5105 -

حَمدْتُ إلَهِي بَعْدَ عُرْوةَ إذْ نَجَا

خِراشٌ وبَعْضُ الشَّرِّ أهونُ مِنَ بعضِ

وزعموا أن خِراشاً نجا قبل عروة.

وقيل: «دَحاهَا» حرثها وشقَّها، قاله ابن زيد.

وقيل: «دَحاهَا» مهَّدها للأقوات، والمعنى متقارب.

قوله: {أَخْرَجَ} . فيه وجهان:

أحدهما: أن يكون تفسيراً.

والثاني: أن يكون حالاً.

قال الزمخشري: فإن قلت هلَاّ أدخل حرف العطف على «أخرج» ؟ قلت: فيه وجهان:

أحدهما: أن يكون «دَحَاهَا» بمعنى: بسطها، ومهَّدها للسُّكْنَى، ثم فسَّر التَّمهيد بما

ص: 144

لا بد منه في تأتي سكناها من تسوية أمر المأكلِ والمشربِ وإمكان القرار عليها.

والثاني: أن يكون «أخْرَج» حالاً، بإضمار «قد» ، كقوله تعالى:{أَوْ جَآءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} [النساء: 90] .

واعلم أنَّ إضمار «قد» هو قول الجمهور، وخالف الكوفيون والأخفش.

قوله: {مِنْهَا مَآءَهَا} ، أي: من الأرض عيونها المتفجِّرة بالماء.

و «مَرْعَاهَا» أي: النبات الذي يرعى، والمراد بمرعاها، ما يأكل النَّاسُ والأنعامُ، ونظيره قوله تعالى:{أَنَّا صَبَبْنَا المآء صَبّاً ثُمَّ شَقَقْنَا الأرض شَقّاً} [عبس: 25، 26]، إلى قوله تعالى:{مَّتَاعاً لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ} [عبس: 32] ، واستعير الرَّعي للإنسان، كما استعير الرَّتعُ في قوله:{يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ} [يوسف: 12] وقد قُرئ «نرتع» ويرتع من الرَّعي، والرعي في الأصل مكان أو زمان، أو مصدر، وهو هنا مصدر بمعنى:«المفعول» ، وهو في حق الآدميين استعارة.

قال ابن قتيبة: قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنَ المآء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء: 30]، فانظر كيف دلَّ بقوله:«مَاءهَا ومَرْعاهَا» على جميع ما أخرجه من الأرض قوتاً، ومنها متاعاً للأنام من العشب، والشجر، والثمر، والحب والقضب، واللباس، والدواء، حتى النار والملح.

أمَّا النار؛ فلأنها من العيدانِ، قال جلا وعلا:{أَفَرَأَيْتُمُ النار التي تُورُونَ أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَآ أَمْ نَحْنُ المنشئون} [الواقعة: 71، 72] .

وأمَّا الملحُ؛ فلأنَّه من الماءِ.

قوله تعالى: {والجبال أَرْسَاهَا} .

قراءة العامة: بنصب «الجبال» .

وأرْسَى: ثبَّت فيها الجبال.

وقرأ الحسنُ، وعمرو بنُ عبيدٍ، وعمرو بنُ ميمونٍ، ونصرُ بنُ عاصمٍ: بالرَّفعِ على الابتداءِ.

قوله تعالى: {مَتَاعاً لَّكُمْ} .

العامَّة: على النصب مفعولاً له، أو مصدراً لعاملٍ مقدرٍ، اي: متَّعكُمْ، أو مصدراً من غير اللفظ؛ لأن المعنى: أخرج منها ماءها ومرعاها أمتع بذلك.

وقيل: نُصِبَ بإسقاط حرف الصفة، تقديره: لتتمتعوا به متاعاً، والمعنى منفعة لكم ولأنعامكم.

ص: 145

قوله تعالى: {فَإِذَا جَآءَتِ الطآمة الكبرى} في جواب «إذا» أوجه:

أحدها: قوله: {فَأَمَّا مَن طغى} ، نحو:«إذا جاءك بنو تميمٍ، فأما العاصي فأهنه، وأمَّا الطائع فأكرمه» .

وقيل: محذوف.

فقدَّرهُ الزمخشريُّ: فإن الأمر كذلك، أي: فإنَّ الجحيمَ مأواهُ.

وقدَّره غيرهُ: انقسم الرَّاءون قسمين.

وقيل: عاينُوا أو علموا.

وقيل: جوابها أدخل أهل النار النار، وأهل الجنة الجنة.

وقال أبو البقاء: العامل فيها جوابها، وهو معنى قوله تعالى:{يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإنسان} .

والطَّامةُ الكبرى: الدَّاهيَة العُظمَى التي تطمّ على غيرها من الدَّواهي لعظمها، و «الطَّمُّ» :«الدفن» ، ومنه: طمَّ السَّيلُ الرَّكية، وفي المثل: جَرَى الوادِي فطمَّ على القُرَى.

وقيل: مأخوذٌ من قولهم: طمَّ الفرس طميماً، إذا استفرغ جهده في الجري، والمراد بها في القرآن: النَّفخة الثانية؛ لأن بها يحصل ذلك.

قال ابن عباس: هي النَّفخةُ الثانية التي يكون معها البعث.

وعن ابن عباس رضي الله عنه أيضاً، والضحاك: أنَّها القيامة، سميت بذلك؛ لأنَّها تطمُّ على كل شيء فتغمره.

وقال القاسمُ بنُ الوليد الهمداني: الطامةُ الكبرى حين يساق أهل الجنَّة إلى الجنة، وأهل النار إلى النار.

ص: 146

قوله: {يَوْمَ يَتَذَكَّرُ} بدل من «إذا» ، أو: منصوباًَ بإضمار فعلٍ، أي: أعني: يوم أو يوم يتذكر كيت وكيت.

قوله: {مَا سعى} أي: ما عمل من خير أو شر يراه مكتوباً في كتابه فيتذكرهُ، وكان قد نسيه، لقوله تعالى:{أَحْصَاهُ الله وَنَسُوهُ} [المجادلة: 6] .

قوله تعالى: {وَبُرِّزَتِ الجحيم} العامة على بنائه للمفعول مشدداً، و {لِمَن يرى} بياء الغيبة.

وزيدُ بن علي وعائشة وعكرمة: مبنيًّا للفاعل مخففاً، و «ترى» بتاء من فوق، فجوزوا في تاء «ترى» أن تكون للتأنيث، وفي «ترى» ضمير الجحيم، كقوله تعالى:{إِذَا رَأَتْهُمْ مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ} [الفرقان: 12] ، وأن تكون للخطاب، أي: ترى أنت يا محمد، والمراد: ترى الناس. وقرأ عبد الله: «لمن رأى» فعلاً ماضياً.

قال ابن عباس رضي الله عنهما: «بُرِّزَتْ» كشفت عنها تتلظّى، فيراه كل ذي بصرٍ، فالمؤمنون يمرُّون عليها، {وَإِن مِّنكُمْ إِلَاّ وَارِدُهَا} [مريم: 71] ، وأمَّا الكفار فهي مأواهُم.

وقيل: الرؤية هنا: استعارة، كقولهم: قد تبين الصبح لذي عينين.

وقيل: المراد: الكافر؛ لأنه الذي يرى النار بما فيها من أصناف العذاب.

وقيل: يراها المؤمن ليعرف قدر النَّعمةِ.

قوله: {فَأَمَّا مَن طغى} أي: تجاوز الحدَّ في العصيان.

قيل: نزلت في النَّضْرِ وأبيه الحارث، وهي عامة في كل كافرٍ آثر الحياة الدنيا على الآخرة.

قوله: {فَإِنَّ الجحيم هِيَ المأوى} إمَّا هي المأوى له، أو هي مأواه، وقامت «أل» مقام الضمير، وهو رأي الكوفيين وقد تقدم تحقيق هذا والرد على قائله، خلافاً للبصريين؛ قال الشاعر:[الطويل]

5106 -

رَحيبٌ قِطَابُ الجَيْبِ مِنْهَا رَقِيقَةٌ

بِجَسِّ النَّدامَى بَضَّةُ المُتَجَرَّدِ

إذ لو كانت «أل» عوضاً من الضمير لما جمع بينهما في هذا البيت، ولا بُدَّ من أحد هذين التأويلين في الآية الكريمة لأجل العائد من الجملة الواقعة خبراً للمبتدأ، والذي

ص: 147

حسَّن عدم ذكر العائد كون الكلمة وقعت رأس فاصلة.

وقال الزمخشري «فإن الجحيم مأواهُ، كما تقول للرجل: غُضَّ الطَّرف، تريد طرفك، وليس الألف و» اللام «بدلاً من الإضافة، ولكن لما علم أنَّ الطَّاغي هو صاحب المأوى، وأنَّه لا يغُضُّ طرف غيره تركت الإضافة، ودخول الألف واللام في» المأوى «والطرف، للتعريف؛ لأنهما معروفان» .

قال أبو حيان: «وهو كلام لا يتحصَّل منه الرابط العائد على المبتدأ، إذ قد نفى مذهب الكوفيين، ولم يقدّر ضميراً محذوفاً ضميراً كما قدَّره البصريون، فرام حصول الرابط بلا رابط» .

قال شهابُ الدِّين: «ولكن لما علم إلى آخره، هو عين قول البصريين، ولا أدري كيف خفي عليه هذا» .

قوله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ} اي: حَذِرَ مقامه بين يدي ربه.

وقال الربيعُ: مقامه يوم الحساب.

وقال مجاهدٌ: خوفه في الدنيا من الله عند مواقعه الذَّنب فقلع عنه، نظيره:{وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46] .

{ونَهَى النَّفْس عن الهَوى} أي: زجرها عن المعاصي والمحارم.

قال ابن الخطيب: هذان الوصفان مضادَّان للوصفين المتقدمين، فقوله تعالى:{مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ} ضدُّ قوله: «فأمَّا من طغى» ، «ونَهَى النفس» ضدُّ قوله:«وآثر الحياةَ الدُّنيا» فكما دخل في ذينك الوصفين جميع القبائح دخل في هذين الهوى، وسيأتي زمان يقوى الهوى الحقَّ، فنعوذُ بالله من ذلك الزمنِ.

قوله: {فَإِنَّ الجنة هِيَ المأوى} أي: المنزل، نزلت لآيتان في مصعبِ بن عميرٍ، وأخيه عامرِ بنِ عميرٍ.

ص: 148

روى الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهم أمَّا من طغى فهو أخٌ لمصعب بن عمير، أسر يوم بدر، فأخذته الأنصار، فقالوا: من أنت. قال: أنا أخو مصعب بن عمير فلم يشدوه في الوثاق، وأكرموه، وبيتوه عندهم، فلمَّا أصبحُوا حدَّثوا مصعب بن عمير حديثه، فقال: ما هو لي بأخ، شدُّوا أسيركم، فإنَّ أمَّه أكثر أهل البطحاءِ حلياً ومالاً، فأوثقوه حتى بعثت أمه في فدائه.

«» وأمَّا من خَاف مَقامَ ربِّهِ «فمصعب بن عمير، وَقَى رسول الله صلى الله عليه وسلم َ بنفسه يوم» أحُدٍ «حين تفرَّق الناس عنه، حتى نفذت المشاقص في جوفه، وهي السِّهام، فلما رأه رسول الله صلى الله عليه وسلم َ مشطحاً في دمهِ، قال:» عِندَ اللهِ أحْتسبهُ «. وقال صلى الله عليه وسلم َ لأصحابه:» لَقِدْ رأيْتهُ وعَليْهِ بُرْدَانِ ما تُعرفُ قيمتُهما وإنَّ شِراكَ نَعْليهِ مِنْ ذَهَبٍ «» .

وعن ابن عباس: رضي الله عنهما «نزلت هذه الآية في رجلين: أبو جهل بن هشام، ومصعب بن عمير» .

وقال السديُّ: نزل قوله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ} في أبي بكرٍ الصديق رضي الله عنه.

وقال الكلبيُّ: هما عامَّتان.

ص: 149

قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الساعة أَيَّانَ مُرْسَاهَا} . لما سمع المشركون أخبار القيامة، ووصفها بالأوصاف الهائلة مثل:«الطَّامة الكبرى» ، و «الصَّاخَّة» ، و «القاَرِعَة» ، سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم َ استهزاءً، متى تكون الساعة؟ .

وقيل: يحتمل أن يكون ذلك إيهاماً لأيقاعهم أنَّه لا أصْلَ لذلكَ، ويحتملُ أنَّهم كانوا يسألونه عن وقت القيامة استعجالاً كقوله:{الذين لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا} [الشورى: 18] .

وقوله: {أَيَّانَ مُرْسَاهَا} ، أي: إقامتها، والمعنى: أيُّ شيء يقيمُها ويوجدُها، ويكون المعنى: أيان منتهاها ومستقرها، كما أنَّ مرسى السفينة: مستقرّها الذي تنتهي إليه فأجابهم الله - تعالى - بقوله: {فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا} .

قوله «فِيْمَ» خبر مقدم و «أنْتَ» مبتدأ مؤخرٌ، و «مِنْ ذِكْراهَا» متعلقٌ بما تعلق به الخبر، والمعنى: أنت في أي شيء من ذكراها، أي: ما أنْتَ من ذكراهَا لهم وتبين وقتها في شيء.

ص: 149

وقال الزمخشري: «وعن عائشة رضي الله عنها لم يزل رسول الله عليه وسلم يذكر الساعة، ويسأل عنها ويذكرها حتى نزلت، قال:» فَهوَ عَلى هَذَا تَعجَّبَ مِنْ كَثْرَةِ ذِكْرهِ لَهَا كأنَّهُ قِيلَ: فِي أيِّ شُغلٍ واهتمامٍ أنْتَ من ذِكرِهَا والسُّؤال عَنْهَا «.

وقيل: الوقف على قوله:» فيم «، وهو خبر مبتدأ مضمر، أي: فيم هذا السؤال، ثم يبتدئ بقوله:» أنْت مِنْ ذِكراهَا «أي: إرسالك، وأنت خاتم الأنبياء، وآخر الرسل، والمبعوث في تسمية ذكر من ذكراها، وعلامة من علاماتها، فكفاهُم بذلك دليلاً على دُنوِّها، ومشارفتها، والاستعداد لها، ولا معنى لسؤالهم عنها.

قاله الزمخشري: وهو كلام حسنٌ، لولا أنَّه يخالف الظاهر، وتفكيك لنظم الكلام.

ومعنى» إلى ربِّك مُنتَهاهَا «منتهى علمها، كقوله تعالى:{قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ الله} [الأعراف: 187]، وقوله تعالى:{إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة} [لقمان: 34] .

قال القرطبي: ويجوز أن يكون إنكاراً على المشركين في مسألتهم له، أي: فيم أنت من ذلك حتى يسألوك بيانه، ولست ممن يعلمه، وروي معناه عن ابن عباس رضي الله عنهما.

قوله تعالى: {إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا} .

العامة: على إضافة الصفة لمعمولها تخفيفاً.

وقرأ عمر بن عبد العزيزِ وأبو جعفرٍ، وطلحةُ، وابن محيصنٍ: بالتنوين، ويكون في موضع نصب، والمعنى: إنَّما ينتفع بإنذارك من يخشى الساعة.

قال الزمخشري: وهو الأصل، والإضافة تخفيف، وكلاهما يصلح للحال والاستقبال، فإذا أريد الماضي، فليس إلا الإضافة، كقولك: هو منذرٌ زيدٍ أمس.

ص: 150

قال أبو حيان: قوله:» هُو الأصل «يعني:» التنوين «، هو قول قاله غيره.

ثم اختار أبو حيَّان: أن الأصل الإضافة، قال: لأنَّ العمل إنما هو بالشبه، والإضافة أصل في الأسماء، ثم قال: وقوله:» ليس إلا الإضافة «فيه تفصيل وخلاف مذكورفي كتب النحو.

قال شهاب الدين: لا يلزمه أن يذكر إلَاّ محل الوفاق، بل هذان اللذان ذكرهما مذهب جماهير الناس.

فصل في معنى الآية

المعنى: إنَّما أنت مُخوِّف، وخص الإنذار بمن يخشى؛ لأنهم المنتفعون به، وإن كان منذراً لكلِّ مكلَّف، كقوله:{إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتبع الذكر وَخشِيَ الرحمن بالغيب} [يس: 11] .

قوله تعالى: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا} يعني: الكُفَّار، يرون الساعة.

{لَمْ يلبثوا} في دنياهم، {إِلَاّ عَشِيَّةً} أي: قدر عشيَّةٍ، {أَوْ ضُحَاهَا} أي: أو قدْرَ الضُّحى الذي يلي تلك العَشيَّة، والمراد: تقليل مدة الدنيا، كقوله تعالى:{لَمْ يلبثوا إِلَاّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ} [الأحقاف: 35] . وأضاف الضحى إلى العشية إضافة الظرف إلى ضمير الظرف الآخر تجوُّزاً واتِّساعاً. وذكرهما؛ لأنَّهما طرفا النهار، وحسَّن هذه الإضافة وقوع الكلمة فاصلة.

قإن قيل: قوله تعالى: {أَوْ ضُحَاهَا} معناه: ضُحَى العشيَّة، وهذا غيرر معقولٍ؛ لأنَّه ليس للعشيَّة ضُحى؟ .

فالجواب: قال ابن عباس رضي الله عنهما: الهاء والألف صلة للكلام، يريد: لم يلبثوا إلا عشية أو ضحى.

وقال الفرَّاء والزجاجُ: المرادُ بإضافة الضُّحى إلى العشية على عادة العرب، يقولون: آتيك الغداة أو عشيها، وآتيك العشية أوغداتها، فتكون العشية في معنى: آخر النهار، والغداة في معنى: أول النهار؛ وأنشد بعض بني عقيل: [الرجز]

5107 -

أ - نَحْنُ صَبَحْنَا عَامراً في دَارِهَا

جُرْداً تَعَادَى طَرفَيْ نَهارِهَا

عَشِيَّةَ الهِلالِ أو سِرَارِهَا

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

ص: 151