الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة القدر
مكية في قول أكثر المفسرين ذكره الثعلبي.
وحكى الماوردي عكسه.
وذكره الواقدي: أنها أول سورة نزلت ب " المدينة "، وهي خمس آيات، وثلاثون كلمة، ومائة واثنا عشر حرفا. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى:{إِنَّا أَنزَلْنَاهُ} ، أي: القرآن، أضمر للعلم به {فِي لَيْلَةِ
القدر}
يجوز أن يكون ظرفاً للإنزال، والقرآن كله كالسورة الواحدة، وقال تعالى:{شَهْرُ رَمَضَانَ الذي أُنْزِلَ فِيهِ القرآن} [البقرة: 185]، وقال:{إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ} [الدخان: 3] يريد: ليلة القدر.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: نزل به جبريل عليه السلام جملة واحدة في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا إلى بيت العزة، وأملاه جبريل على السَّفرةِ، ثم كان جبريل ينزله على النبي صلى الله عليه وسلم َ منجماً، وكان بين أوله وآخره ثلاث وعشرون سنة.
حكى الماورديُّ عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: نزل القرآنُ في شهر رمضان، وفي ليلة القدر، وفي ليلة مباركة، جملة واحدة من عند الله، من اللوح
المحفوظ إلى السَّفرة الكرام الكاتبين في سماء الدنيا، فنجمته السَّفرة الكرام الكاتبون على جبريل عشرين سنة، ونجمه جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم َ عشرين سنة.
قال ابن العربي: وهذا باطل، ليس بين جبريل عليه السلام وبين الله واسطة، ولا بين جبريل محمد عليهما السلام واسطة.
وقيل: المعنى أنزل في شأنها وفضلها، فليست ظرفاً، وإنما كقول عمر رضي الله عنه: خشيت أن ينزل فيَّ قرآن، وقول عائشة رضي الله عنها: لأنا أحقر في نفسي أن ينزل فيّ قرآن.
وسميت ليلة القدر بذلك؛ لأن الله يقدر فيها ما يشاء من أمره إلى مثلها من السَّنة القابلة من أمر الموت، والأجل، والرزق، وغيره، ويسلمه إلى مدبرات الأمور، وهم أربعة من الملائكة: إسرافيل، وميكائيل، وعزرائيل، وجبريل، عليهم السلام.
وعن ابن عباس أيضاً: أن الله يقضي الأقضية في ليلة نصف شعبان، ويسلمها إلى أربابها في ليلة القدر، وأما تضييقها بالملائكة قال الخليل: لأن الأرض تضيق فيها بالملائكة؛ كقوله تعالى: {وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} [الطلاق: 7] .
وقيل: سميت بذلك لعظمها، وشرفها، وقدرها، من قولهم: لفلان قدر: أي شرف ومنزلة. قاله الزهري: وقيل: سميت بذلك لأن للطاعة فيها قدراً عظيماً، وثواباً جزيلاً.
وقيل: لأنه أنزل فيها كتاباً ذا قدر على رسول ذي قدر على أمه ذاتِ قدر، والقدر: مصدر، والمراد ما يمضيه الله تعالى من الأمور، قال الله تعالى:{إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49] ، وهو بمعنى القدر، إلا أنه بالتسكين، مصدر، وبالفتح اسم.
قوله: {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ القدر لَيْلَةُ القدر خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ} بين فضلها، وعظمها، وفضيلة الزمان إنما تكون بكثرة ما يقع فيه من الفضائل وفي تلك الليلة يقسم الخير الكثير الذي لا يوجد مثله في ألف شهر، جميع الدهر، لأن العرب تذكر الألف، لا تريد حقيقتها، وإنما تريد المبالغة في الكثرة، كقوله تعالى:
{يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} [البقرة: 96] ، يعني جمع الدهر.
[وقيل: إن العابد فيما مضى لا يسمى عابداً، حتى يعبد الله ألف شهر، فجعل الله تعالى لهذه الأمة أمة محمد صلى الله عليه وسلم َ عبادة ليلة خير من ألف شهر كانوا يعبدونها] .
وقال أبو بكر الوراق: كان ملك سليمان عليه الصلاة والسلام ُ - خمسمائة شهر، وملك ذي القرنين خمسمائة شهر، فصار ملكهما ألف شهر، فجعل الله العمل في هذه الليلة لمن أدركها خيراً من ملكهما.
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: إن النبي صلى الله عليه وسلم َ ذكر رجُلاً من بني إسرائيل حمل السلاح ألف شهرٍ، فعجب المسلمون من ذلك فنزلت هذه الآية، يعني خير من ألف شهر التي لبس السلاح فيها في سبيل الله، ونحوه عن ابن عبَّاس رضي الله عنه.
وقال مالك بن أنس رضي الله عنه: أري رسول الله صلى الله عليه وسلم َ أعمار الناس، فاستقصر أعمار أمته، فخاف ألا يبلغوا من العمل مثل ما بلغ غيرهم في طول العمر، فأعطاه الله ليلة القدر، وجعلها خيراً من ألف شهر لسائر الأمم.
وقال عكرمة وعروة: ذكر النبي صلى الله عليه وسلم َ أربعة من بني إسرائيل، يقال: عبدوا الله ثمانين سنة، لم يعصوا الله - تعالى - طرفة عين: أيوب، وزكريا، وحزقيل بن العجوز، ويوشع ابن نون، فعجب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم َ من ذلك، فأتاه جبريل عليه السلام فقال: يا محمد، عجبت أمتك من عبادة هؤلاء النَّفر ثمانين سنة، لم يعصوا الله تعالى طرفة عين، فقد أنزل الله عليك خيراً من ذلك، ثم قرأ:{إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القدر} ، فسر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم َ.
قوله: {تَنَزَّلُ الملائكة} ، أي: تهبط من كل سماء إلى الأرض، ويؤمنون على دعاء النَّاس إلى وقت طلوع الفجر، وقوله تعالى:{والروح فِيهَا} . يجوز أن ترتفع «الرُّوحُ» بالابتداء، والجار بعده الخبر وأن ترتفع بالفاعلية عطفاً على الملائكة، و «فيها» متعلق ب «تنزل» وأن يكون معطوفاً على الفاعل، و «فِيهَا» ظرف أو حال، والمراد بالروح جبريل عليه السلام.
[وحكى القشيري: أن الروح صنف من الملائكة؛ جعله حفظة على سائرهم، وأن الملائكة لا يرونهم كما لا نرى نحن الملائكة.
ووقال مقاتل: هم أشرف الملائكة، وأقربهم إلى الله تعالى.
وقيل: هم جند الله - تعالى - غير الملائكة رواه ابن عبَّاس مرفوعاً حكاه الماوردي.
وقيل: الروح خلق عظيم يقوم صفاً واحداً، والملائكة صفاً] .
وقيل: «الرُّوحُ» : الرحمة ينزل بها جبريل عليه السلام مع الملائكة في هذه الليلة على أهلها، بدليل قوله تعالى:
{يُنَزِّلُ
الملائكة
بالروح
مِنْ أَمْرِهِ على مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ} [النحل: 2]، أي: بالرحمة فيها، أي: في ليلة القدر.
قوله: {بِإِذْنِ رَبِّهِم} . يجوز أن يتعلق ب «تَنَزَّلُ» ، وأن يتعلق بمحذوف على أنه حال من المرفوع ب «تَنَزَّل» أي: ملتبساً بإذن ربهم.
قوله: {مِّن كُلِّ أَمْرٍ} . يجوز في «مِنْ» وجهان:
أحدهما: أنها بمعنى اللام، وتتعلق ب «تَنزَّلُ» ، أي: تنزل من أجل كل أمر قضي إلى العام القابل.
الثاني: أنها بمعنى الباء، أي: تنزل بكل أمر، فهي للتعدية، قاله أبو حاتم.
وقرأ العامة: «أمْرٍ» واحد الأمور.
وقرأ ابن عباس، وعكرمة، والكلبي:«مِنْ كُلِّ امْرئٍ» ، أي: من أجل كل إنسانٍ.
قال القرطبيُّ: وتأولها الكلبي على أن جبريل عليه السلام ينزل فيها مع الملائكة، فيسلمون على كُلِّ امرئ مسلم، ف «مِنْ» بمعنى «عَلَى» .
وقيل: من أجل كل ملك، وهو بعيد.
وقيل: «مِنْ كُلِّ أمْرٍ» ليس متعلقاً ب «تَنَزَّلُ» إنما هو متعلق بما بعده، أي: هي سلام من كل أمر مخوف، وهذا لا يتم على ظاهره؛ لأن «سلام» مصدر لا يتقدم عليه معموله، وإنما المراد أنه متعلق بمحذوف يدل عليه هذا المصدر.
فصل في معنى الآية
قوله: {سَلَامٌ هِيَ} فيه وجهان:
أحدهما: أن «هِيَ» ضمير الملائكة، و «سلامٌ» بمعنى التسليم، أي: الملائكة ذات التَّسليم على المؤمنين من مغيب الشمس حتى مطلع الفجر وقيل: الملائكة يسلم بعضهم على بعض فيها.
الثاني: أنها ضمير ليلة القدر، و «سلامٌ» بمعنى سلامة، أي: ليلة القدر ذات سلامة من كلّ شيء مخوف.
قال الضحاكُ: لا يقدر الله - تعالى - في تلك الليلة إلا السلامة.
وقيل: هي ذات سلامة من أن يؤثر فيها شيطان في مؤمن ومؤمنة، قاله مجاهد.
وعلى التقديرين: يجوز أن يرتفع «سلامٌ» على أنه خبر مقدم، و «هِيَ» مبتدأ مؤخر، وهذا هو المشهور، ويجوز أن يرتفع بالابتداء، و «هي» فاعلة عند الأخفش؛ لأنه لا يشترط الاعتماد على الوصف.
وقد تقدم أن بعضهم يجعل الكلام تاماً على قوله: «بِإذْنِ ربِّهِمْ» ، وتعلق «كُلِّ أمْرٍ» بما بعده، وتقدم تأويله.
وقال أبو الفضل: «وقيل: معناه هي سلام من كل أمرٍ أو امرئٍ؛ أي سالمة، أو مسلمة منه، ولا يجوز أن يكون» سلامٌ «بهذه اللفظة الظَّاهرة التي هي المصدر عاملاً فيما قبله، لامتناع تقدم معمول المصدر على المصدر، كما أن الصفة كذلك لا يجوز تقديمها على الموصول» انتهى.
[وقد تقدم أن معنى ذلك عند هذا القائل أن يتعلق بمحذوف مدلول عليه ب «سلام» فهو تفسير معنى لا تفسير إعراب] .
وما يروى عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما أن الكلام تمَّ عند قوله تعالى: «سلامٌ» ويبتدئ ب «هِيَ» على أنها خبر مبتدأ، والإشارة بذلك إلى أنها ليلة السابع والعشرين، لأن لفظه: هي سابعة وعشرون، من كلم هذه السورة، فلا ينبغي أن يعتقد صحته لأنه إلغاز وتغيير لنظم أفصح الكلام.
[قوله: {حتى مَطْلَعِ الفجر} متعلق ب «تنزل» أو ب «سلام» وفيه إشكال للفصل بين المصدر والمعمول للمبتدأ، إلا أن يتوسع في الجار] .
وقرأ الكسائي وابن محيصن: «مطلِع» بكسر اللام، والباقون: بالفتح، والفتح هو القياس، والكسر سماع، وله أخوات تحفظ فيها الكسر مما ضم مضارعه، أو فتح، نحو: المَشْرِق، والمَغْرِب، والمنْسِك، والمسْكِن، والمحْشِر، والمسْقِط.
قال القرطبي: «حكي في ذلك كله الفتح والكسر» .
وهل هما مصدران أو المفتوح مصدر، والمكسور مكان؟ خلاف، وعلى كل تقدير، فالقياس في الفعل مطلقاً مما ضمت عين مضارعه أو فتحت فتح العين، وإنما يقع الفرق في المكسور العين الصحيح، نحو:«يضرب» .
فصل في تعيين ليلة القدر
اختلفوا في تعيين ليلة القدر، فالأكثرون على أنها ليلة سبع وعشرين، لحديث أبيٍّ ابن كعب: أنها في العشر الأواخر، وأنَّها ليلةُ سبعٍ وعشرين.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم َ: «مَنْ كَانَ مُتَحَرِّياً لليلة القدرِ فَلْيَتَحَرَّهَا في ليلة سبعٍ وعشرين» .
وقال أبيُّ بن كعب: سَمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم َ يقول: «لَيلَةُ القَدرِ سَبعٍ وعشْرينَ» .
وقال أبو بكر الوراق: كرر ذكرها ثلاث مرات، وهي تسعة أحرف، فيكون سبعة وعشرين.
وقال عبيد بن عمير: كنت ليلة السابع والعشرين في البحر فأخذت من مائة، فوجدته عذباً سلسلاً.
وقال أبو هريرة وغيره: هي في ليلة السنة كلها، وإليه ذهب أبو حنيفة، وعنه أنها رفعت، وأنها إنما كانت مرة واحدة قال الخليل: من قال: إن فضلها لنزول القرآن [يقول] انقطعت، والجمهور على أنها في كل عام من رمضان، ثم اختلفوا.
فقيل: هي ليلة إحدى وعشرين، وإليه مال الشافعي رضي الله عنه لحديث الماء والطين.
وقيل: ليلة الثالث والعشرين لما روى ابن عمر رضي الله عنه «أنَّ رجلاً قال: يا رسول الله، إني رأيتُ ليلة القدر في سابعة تبقى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم َ:» أرَى رُؤيَاكُمْ قَدْ تَواطَأتْ عَلى ثَلاثٍ وعِشريْنَ، فَمَنْ أرَادَ أن يقُومَ مِنَ الشَّهرِ شَيْئاً فليَقُمْ لَيْلَةَ ثلاثٍ وعِشْريْنَ «» .
وقيل: ليلة خمس وعشرين، لما روى مسلم عن أبي سعيد الخدري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم َ قال:
«التَمِسُوهَا في العَشْرِ الأواخرِ، في تَاسعةٍ تَبْقَى، في سابِعةٍ تَبْقَى، فِي خَامسةٍ تَبْقَى» .
[قال مالك رضي الله عنه: يريد بالتاسعة ليلة إحدى وعشرين، وبالسابعة ليلة ثلاث وعشرين، وبالخامسة ليلة خمس وعشرين.
وقيل: سبع وعشرين وقد تقدم] .
وقيل: ليلة تسع وعشرين، لقول النبي صلى الله عليه وسلم َ:«لَيْلةُ القَدرِ التَّاسعةُ والعِشرُونَ، والسَّابِعَةُ والعِشْرُونَ» .
وقال الحسن رضي الله عنه: «ارتقبت الشمس ليلة أربع وعشرين عشرين سنة فرأيتها تطلع بيضاء لا شعاع لها، يعني من كثرة الأنوار في تلك الليلة» .
[وروي عن أبي بكر رضي الله عنه أنها في ليالي الأفراد من النصف الأخير من شهر رمضان مستقلة في ليالي الجمع، ونظمه محمد ابن الأثير فقال: [الطويل]
5263 -
ثَلاثُ شُرُوطٍ هُنَّ فِي ليْلَةِ القَدرِ
…
كَذَا قَال شَيخُ العُربِ فِيهَا أبُو بكْرٍ
فأوَّلُهَا وتْرٌ وليْلةُ جُمْعَةٍ
…
وثَالثُهَا النِّصفُ الأخيرُ من الشَّهْرِ
وقيل: هي تنتقل في جميع السنة] .
قالوا: والحكمة في إخفائها ليجتهد الناس في إحياء جميع الليالي، كما أخفى رمضان في الطاعات، حتى يرغبوا في الكل، وأخفى ساعة الإجابة في الدعاء، ليبالغوا في كل الساعات، وأخفى الاسم الأعظم، ليعظموا كل الأسماء، وأخفى قبول التوبة، ليحافظوا على جميع أقسام التوبة، وأخفى وقت الموت، ليخاف الموت المكلف، وكذلك أخفى هذه الليلة، ليعظموا جميع ليالي رمضان.
فصل في أحكام تتعلق بليلة القدر
نقل القرطبي عن بعض العلماء: أن من علق طلاق امرأته، أو عتق عبده بليلة القدر لم يقع الطلاق والعتق إلى مضى سنةٍ من يوم حلف، لأنه لا يجوز إيقاع الطلاق بالشك، ولم يثبت اختصاصها بوقت، فلا ينبغي وقوع الطلاق إلا لمضي حولٍ.
وفي هذا نظر؛ لأنه تقدم عن أبي حنيفة في أحد قوليه أنها رفعت، فعلى هذا لا ينبغي أن يقع شيء أصلاً، لوجود الخلاف في بقائها.
وروى الثعلبي عن أبيّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم َ: «مَنْ قَرَأَ سُورة القَدرِ، كانَ كَمنْ صَامَ رَمَضَانَ، وأحْيَا لَيْلَةَ القَدرِ» .
سورة البينة
مكية في قول يحيى بن سلام، ومدنية في قول الجمهور، وهي ثمان آيات وأربع وتسعون كلمة، وثلاثمائة وتسعون حرفا. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى:{لَمْ يَكُنِ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب والمشركين} ، هذه قراءة العامة، وخط المصحف.
وقرأ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: «لَمْ يكُن المُشْركُونَ وأهْلُ الكِتابِ منفكين» وهذه قراءة على التفسير.
قال ابن العربي: «وهي جائزة في معرض البيان، لا في معرض التلاوة، فقد قرأ النبي صلى الله عليه وسلم َ في رواية الصحيح» فَطلِّقُوهُنَّ لقُبُلِ عدَّتهِنَّ «وهو تفسيرٌ، فإن التلاوة هو ما كان في خط المصحف» .
وقرئ: «والمُشرِكُون» بالواو نسقاً على «الَّذينَ كَفَرُوا» .
قوله: {مُنفَكِّينَ} اسم فاعل من «انفكَ» ، وهي هنا التامة، فلذلك لم تحتج إلى خبر.
وزعم بعضهم: أنها هنا ناقصة، وأن الخبر مقدر، تقديره: منفكّين عارفين محمداً صلى الله عليه وسلم َ.
قال أبو حيان: وحذف خبر «كَانَ» لا يجوز اقتصاراً، ولا اختصاراً.
وجعلوا قوله: [الكامل]
5263 -
ب -.....
…
...
…
...
…
...
…
...
…
.
…
يَبْغِي جِوَاركَ حَيْثُ لَيْسَ مُجِيرُ
أي: في الدنيا، ضرورة، ووجه من منع من ذلك أنه قال: صار الخبر مطلوباً من جهتين: من جهة كونه مخبراً به، فهو أحد جزئي الإسناد، ومن حيث كونه منصوباً بالفعل، وهذا منتقض بمفعولي ظن، فإن كلاًّ منهما فيه المعنيان المذكوران ومع ذلك يحذفان، أو أحدهما اختصاراً، وأما الاقتصار ففيه خلاف وتفصيل وتقدم ذكره.
وقوله: {حتى تَأْتِيَهُمُ} متعلق ب «لَمْ يَكُنْ» أو ب «مُنفكِّينَ» .
فصل
قال الواحديُّ: هذه الآية من أصعب ما في القرآن نظماً وتفسيراً، ولم يبين كيفية الإشكال قال ابن الخطيب: ووجه الإشكال أن تقدير الآية: لم يكن الذين كفروا إلى أن تأتيهم البينة التي هي الرسول، ثم إنه تعالى لم يذكر الشيء المنفكّ عنه، والظاهر أن المراد لم ينفكوا عن كفرهم، حتى تأتيهم البينة التي هي الرسول، فانفكوا عنه لأن «حتَّى» لانتهاء الغاية، فهذه الآية تقتضي أنهم صاروا منفكين عن كفرهم عند إتيان الرسول صلى الله عليه وسلم َ، لكن قوله تعالى:{وَمَا تَفَرَّقَ الذين أُوتُواْ الكتاب} يقتضي زيادة كفرهم عند مجيء الرسول عليه الصلاة والسلام ُ - فحينئذ يحصل التناقض، والجواب من وجوه:
أحدها: وهو أحسنها، ما لخصه الزمخشريُّ: أن الأول حكاية ما كانوا يقولونه من أنه صلى الله عليه وسلم َ الموعود به لا ننفك عما نحن عليه من ديننا.
والثاني: إخبار عن الواقع، يعني أنهم كانوا يعدون الاتِّفاق على الحق إذا جاءهم الرسول عليه الصلاة والسلام ُ -، والمعنى أن الذي وقع فيه كان خلافاً لما ادعوا.
وثالثها: المعنى: لم يكونوا منفكين عن كفرهم، وإن جاءتهم بينة، قاله القاضي. إلا أن جعل «حتى» بمعنى «أن» بعيد في اللغة.
ورابعها: المعنى لم يكونوا منفكين عن ذكر محمد صلى الله عليه وسلم َ بالمناقب والفضائل، حتى أتتهم البينة، والمضارع هنا بمعنى الماضي كقوله تعالى:{واتبعوا مَا تَتْلُواْ الشياطين} [البقرة: 102]، أي ما تلت أي: ما كانوا منفكين عن ذكر مناقبه، ثم لما جاءهم محمد تفرقوا، ونظيره {فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ} [البقرة: 89] .
وخامسها: أنهم كانوا متفقين على الكفر قبل البينة، فلما جاءتهم البينة تفرقوا، وتكفي هذه المغايرة.
وسادسها: هي كقوله تعالى: {كَانَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ الله النبيين} [البقرة: 213] الآية، أي: كان كل منهم جازماً بمذهبه ودينه، فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم َ شكوا في أديانهم، لأن قوله تعالى {مُنفَكِّينَ} مشعر بهذا؛ لأن الانفكاك من الشيء هو الانفصال عنه، فمعناه: أن قلوبهم ما خلت عن تلك العقائد، وما انفصلت عن الجزم بصحتها، ثم بعد المبعث لم يبق الأمر على تلك الحالة.
فصل في المراد بأهل الكتاب هنا
قال ابن عباس: أهل الكتاب الذين كانوا ب «يثرب» ، وهم: قريظة، والنضير، وبنو قينقاع، والمشركون الذين كانوا ب «مكة» وما حولها، و «المدينة» ، وهم مشركو قريش، وقوله تعالى:{مُنفَكِّينَ} أي: منتهين من كفرهم {حتى تَأْتِيَهُمُ البينة} يعني محمداً صلى الله عليه وسلم َ.
وقيل: لانتهاء بلوغ الغاية أي لم يكونوا ليبلغوا نهاية أعمارهم فيموتوا حتى تأتيهم البينة. وقيل: منفكين زائلين إن لم تكن مدتهم لتزول حتى يأتيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم َ، والعرب تقول: ما انفككت أفعل كذا، أي ما زلت، وما انفك فلان قائماً، أي: ما زال قائماً.
وأصل الفك للفتح، ومنه: فك الكتاب، وفك الخلخال.
وقيل: «مُنفكِّينَ» ، بارحين، أي: لم يكونوا ليبرحوا ويفارقوا الدنيا حتى تأتيهم البينة.
وقال ابن كيسان: أي: لم يكن أهل الكتاب تاركين صفة محمد صلى الله عليه وسلم َ ويسمونه الأمين في كتابهم حتى بعث فلما بعث صلى الله عليه وسلم َ حسدوه، وجحدوه، وهو قوله تعالى:{فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ} [البقرة: 89]، ولهذا قال تعالى:{وَمَا تَفَرَّقَ الذين أُوتُواْ الكتاب} [البينة: 4]، وعلى هذا فقوله تعالى:{والمشركين} أي: ما كانوا يسيئون القول في محمد صلى الله عليه وسلم َ حتى بعث، فإنهم كانوا يسمونه الأمين، حتى أتتهم البينة على لسانه، وبعث إليهم صلى الله عليه وسلم َ فحينئذ عادوه.
وقال بعض اللغويين: «مُنفكِّينَ» ، أي: هالكين، من قولهم: انفك صلا المرأة عند الولادة، وهو أن ينفصل فلا يلتئم فتهلك، والمعنى: لم يكونوا معذّبين، ولا هالكين إلا بعد قيام الحجة عليهم بإرسال الرسل وإنزال الكتب.
فصل في المراد بالمشركين
قال قوم: المراد بالمشركين من أهل الكتاب، فمن اليهود من قال: عزير ابن الله ومن النصارى من قال: عيسى هو الله.
ومنهم من قال: هو ابنه.
ومنهم من قال: هو ثالث ثلاثة وكذبوا فيما قالوا عن الله تعالى، وأن الله سبحانه وتعالى واحد لا شريك له، ولا ولد له، ولا مثل ولا ضد له، ولا ند له، ولا شبيه له، ولا صاحبة له، ولا زوجة له، ولا وزير له، ولا حاجب له، ولا بواب له، وهو سبحانه وتعالى كما قال في كتابه المنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم َ:{قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ الله الصمد لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الاخلاص 1 - 4] .
وقيل: المشركون وصف لأهل الكتاب أيضاً، لأنهم لم ينتفعوا بكتابهم، وتركوا التوحيد، فالنصارى مثلثة، وعامة اليهود مشبهة، والكل شرك، وهو كقولك: جاءني العقلاء والظرفاء، وأنت تريد أقواماً بعينهم تصفهم بالأمرين، قال تعالى:{الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عَنِ المنكر والحافظون لِحُدُودِ الله} [التوبة: 112] ، وهذا وصف للطائفة الواحدة، فالمعنى على هنا من أهل الكتاب المشركين.
ٌ [وقيل: أهل الكتاب كانوا مؤمنين، ثم كفروا بعد أنبيئاهم، والمشركون ولدوا على الفطرة، ثم كفروا حين بلغوا.
وقيل: الكفر هنا هو الكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم َ، أي: لم يكن الذين كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم َ من اليهود والنصارى الذين هم أهل الكتاب، ولم يكن المشركون الذين هم عبدة الأوثان من العرب وغيرهم، وهم الذين ليس لهم كتاب منفكين.
قال القشيريُّ: وفيه بعد، لأن الظاهر من قوله تعالى:{حتى تَأْتِيَهُمُ البينة رَسُولٌ مِّنَ الله} أنّ هذا الرسول هو محمد صلى الله عليه وسلم َ.
فيبعد أن يقال لم يكن الذين كفروا الآن بمحمد صلى الله عليه وسلم َ منفكين، حتى يأتيهم محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم َ إلا أن يقال: أراد لم يكن الذين كفروا الآن بمحمد صلى الله عليه وسلم َ وقد كانوا من قبل معظمين له منتهين عن هذا الكفر إلى أن يبعث الله تعالى لهم محمداً صلى الله عليه وسلم َ ويبين لهم الآيات، فحينئذٍ يؤمن قوم] .
وقرأ الأعمش وإبراهيم: «والمُشْرِكُونَ» رفعاً عطفاً على «الَّذِينَ كَفرُوا» .
قال القرطبيُّ: «والقراءة الأولى أبين، لأن الرفع يصير فيه الصنفان، كأنهم من غير أهل الكتاب» .
وفي حرف أبيّ: «فما كان الذين من أهل الكتاب والمشركون منفكين» .
قال ابن الخطيب: فإن قيل: لم قال الذين كفروا، بلفظ الفعل، وذكر المشركين
باسم الفاعل؟ فالجوابُ: أن أهل الكتاب ما كانوا كافرين من أول الأمر؛ لأنهم كانوا مصدقين بالتوراة والإنجيل، وبمبعث محمد صلى الله عليه وسلم َ بخلاف المشركين، فإنهم ولدوا على عبادةِ الأوثان، وذلك يدل على الثبات على الكفر.
قوله: {حتى تَأْتِيَهُمُ البينة} .
قيل: البينة، محمد صلى الله عليه وسلم َ لأنه في نفسه بينة وحُجَّة ولذلك سمَّاه الله - تعالى - سراجاً منيراً.
قوله تعالى: {رَسُولٌ مِّنَ الله} ، وهو رفع على البدل من «البَيِّنةُ» ، ولأن اللام في «البَيِّنةُ» للتعريف أي: هو الذي سبق ذكره في التوراة والإنجيل على لسان موسى وعيسى، وقد يكون التعريف للتفخيم؛ إذ هو البينة التي لا مزيد عليها والبينة كل البينة، وكذا التنكير، وقد جمعهما الله - تعالى - ها هنا - في حق الرسول، أي: هو رسول، وأي رسول الله صلى الله عليه وسلم َ ونظيره: قوله تعالى حين أثنى على نفسه، فقال سبحانه وتعالى:{ذُو العرش المجيد} [البروج: 15] ثم قال تعالى: {فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} [البروج: 16] فنكر بعد التعريف.
وقال أبو مسلم: المراد من البينة مطلق الرسل، فقوله تعالى:{حتى تَأْتِيَهُمُ البينة} أي: تأتيهم رسل من ملائكة الله تعالى، تتلو عليهم صحفاً مطهرة، نظيره:{بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امرىء مِّنْهُمْ أَن يؤتى صُحُفاً مُّنَشَّرَةً} [المدثر: 52] .
وقال قتادة وابن زيد: «البَيِّنةُ» هي القرآن، كقوله تعالى:{أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصحف الأولى} [طه: 133] .
قوله: «رسُولٌ» ، العامة: على رفعه بدلاً من «البينة» ، إما بدل اشتمال، وإما بدل كل من كل على سبيل المبالغة، جعل الرسول صلى الله عليه وسلم َ نفس البينة، أو على حذف مضاف، أي: بينة رسول.
وقال الفرَّاء: رفع على خبر ابتداء مضمر، أي: هي رسول، أو هو رسول من الله لأن البينة قد تذكَّر، فيقال: بَيَّنتي فلان.
وقرأ عبد الله وأبيّ: «رسولاً» على الحال من «البينة» .
وقال القرطبي: «بالنصب على القطع» .
قوله: «من اللهِ» يجوز تعلُّقه بنفس «رسول» أو بمحذوف على أنه صفة ل «رسول» ، وجوز أبو البقاء ثالثاً، وهو أن يكون حالاً من «صحفاً» ، والتقدير: يتلو صحفاً مطهرة منزلة من الله تعالى.
يعني كانت صفة في الأصل للنَّكرة، فلما تقدمت عليها نصبت حالاً.
قوله: «يتلو» يجوز أن يكون صفة ل «رسول» وأن يكون حالاً من الضمير في الجار قبله، إذا جعله صفة ل «رسول» . و «يتلو» : أي: يقرأ، يقال: تلا يتلو تلاوة. و «صُحُفاً» جمع صحيفة، وهي ظرف المكتوب.
«مُطهَّرة» ، قال ابن عبَّاسٍ: من الزور، والشك، والنفاق، والضلالة، وقال قتادة: من الباطل.
وقيل: من الكذب والشبهات، والمعنى واحد [أي: يقرأ ما تتضمن الصحف من المكتوب بدليل أنه كان يتلو على ظهر قلب لا عن كتاب، ولأنه كان أميًّا لا يقرأ، ولا يكتب، ومطهرة من نعت الصحف كقوله تعالى:{فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ} [عبس: 13، 14] فالمطهرة: نعت للصحف في الظاهر، وهو نعت لما في الصحف من القرآن.
وقيل: مطهرة أي: لا يسمُّها إلا المطهرون كما تقدم في سورة «الواقعة» .
وقيل: الصحف المطهرة هي التي عند الله - تعالى - في أم الكتاب الذي منه نسخ ما أنزل على الأنبياء صلوات الله عليهم من الكتب لقوله تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ} [البروج: 21 - 22] .
قوله: {فِيهَا كُتُبٌ} . يجوز أن تكون جملة صفة ل «صُحُفاً» ، أو حالاً من ضمير «مُطهَّرة» وأن يكون الوصف أو الحال الجار والمجرور فقط، و «كتب» فاعل به، وهو الأحسن، والمراد بالكتب: الآيات المكتوبة في الصحف، والقيمةُ: المستقيمة المحكمةُ، من قول العرب: قام يقوم إذا استوى وصح.
وقال صاحب «النَّظم» : الكتب بمعنى الحكم؛ لقوله تعالى: {لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ ورسلي} [المجادلة: 21]، ومنه حديث العسيف:«لأقضينَّ بَينكُمَا بِكتابِ اللهِ» ، ثم قضى بالرَّجْم، وليس ذكر الرجم مسطُوراً في الكتاب.