المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

سورة الضحى - اللباب في علوم الكتاب - جـ ٢٠

[ابن عادل]

الفصل: سورة الضحى

سورة الضحى

ص: 380

مكية، وهي إحدى عشرة آية، وأربعون كلمة، ومائة وسبعون حرفا. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: {و‌

‌الضحى

والليل إِذَا سجى} ، تقدم الكلام في «الضُّحَى» والمراد به هنا: النهارُ، لمقابلته بقوله تعالى:{والليل إِذَا سجى} ، ولقوله تعالى:{أَوَ أَمِنَ أَهْلُ القرى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ} [الأعراف: 98]، أي: نهاراً.

وقال قتادة ومقاتل وجعفر الصادق، أقسم بالضحى الذي كلم الله فيه موسى عليه الصلاة والسلام ُ - وبليلة المعراج.

وقيل: «الضُّحَى» هي الساعة التي خرّ فيها السحرة سُجَّداً لقوله تعالى: {وَأَن يُحْشَرَ الناس ضُحًى} [طه: 59] .

وقال القرطبي: «يعني عباده الذين يعبدونه في وقت الضحى، وعباده الذين يعبدونه بالليل إذا أظلم» .

وقيل: الضحى نور الجنة، والليل ظلمة النار.

وقيل: الضحى نور قلوب العارفين كهيئة النهار، والليل سواد قلوب الكافرين كهيئة الليل، أقسم تعالى بهذه الأشياء.

وقال أهل المعاني فيه وفي أمثاله: فيه إضمار مجازه ورب الضحى وسيجيء معناه. و «سَجَى» ، أي: سكن، قاله قتادة ومجاهد وابن زيد وعكرمة.

يقال: ليلة ساجية، أي: ساكنة.

ويقال للعين إذا سكن طرفها ساجية، ويقال: سَجَا الشَّيءُ سَجْواً إذا سكن، وسَجَا

ص: 380

البحر سُجُوًّا، أي: سكنت أمواجُه وطرف ساج، أي: فاتر، ومنه استعير تسجية الميت، أي: تغطيته بالثواب؛ قاله الراغب.

وقال الأعشى: [الطويل]

5232 -

فَمَا ذَنْبُنَا أنْ جَاشَ بَحْرُ ابْنِ عمِّكُم

وبَحْرُكَ سَاجٍ ما يُوَارِي الدَّعَامِصَا

وقال الفراء: أظلم.

وقال ابن الأعرابي: اشتد ظلامه.

وقال الشاعر: [الرجز]

5233 -

يا حَبَّذَا القَمراءُ واللَّيلُ السَّاجْ

وطُرقٌ مِثْلُ مُلاءِ النَّسَّاجْ

[قال الضحاك: سجا غطى كل شيء.

قال الأصمعي: سجو الليل؛ تغطيته النهار، ومثل ما يسجَّى الرجل الثوب.

وعن ابن عباس: سجا أدبر، وعنه: أظلم.

وقال سعيد بن جبير: أقبل.

وعن مجاهد: سَجَا: استوى.

والقول الأول أشهر في اللغة، أي: سكن الناس فيه كما قال: نهار صائم وليل قائم.

وقيل: سكونه استقرار ظلامه، وهو من ذوات الواو، وإنما أميل لموافقة رءوس الآي، كالضحى، فإنه من ذوات الواو أيضاً] .

فصل

قال ابن الخطيب: وقدم هنا الضحى، وفي السورة التي قبلها قدم الليل إما لأن لكلَّ منهما أثر عظيمٌ في صلاح العالم، ولليل فضيلة السبق لقوله تعالى: {وَجَعَلَ الظلمات

ص: 381

والنور} [الأنعام: 1] ، وللنهار فضيلة النور، فقدم سبحانه هذا تارة وقدم هذا تارة، كالركوع والسجود في قوله تعالى:{اركعوا واسجدوا} [الحج: 77] وقوله تعالى: {واسجدي واركعي مَعَ الراكعين} [آل عمران: 43] .

وقيل: قدم الليل في سورة أبي بكر رضي الله عنه لأن أبا بكر سبقه كفر، وقدم الضحى في سورة محمد صلى الله عليه وسلم َ لأنه نور محض، ولم يتقدمه ذنب.

وقيل: لما كانت سورة «الليل» سورة أبي بكر رضي الله عنه وسورة «الضحى» سورة محمدٍ صلى الله عليه وسلم َ لم يجعل بينهما واسطة، ليعلم أنه لا واسطة بين محمد صلى الله عليه وسلم َ وبين أبي بكر رضي الله عنه.

فصل في ذكر الضحى والليل

قال ابن الخطيب: وذكر الضحى، وهو ساعة، وذكر الليل بجملته، إشارة إلى أن ساعة من النهار توازي جميع الليل، كما أنَّ محمداً صلى الله عليه وسلم َ يوازن جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.

وأيضاً: فالضحى وقت السرورٍ، والليل وقتُ الوحشةِ، ففيه إشارة إلى أن سرور الدنيا، أقل من شرورها، وأن هموم الدنيا أدوم من سرورها، فإن الضحى ساعة، والليل ساعات، يروى أن الله سبحانه وتعالى لما خلق العرش أظلت غمامة سوداء، ونادت: ماذا أمطر؟ فأجيبت أن أمطري الهموم والأحزان مائة عامٍ، ثم انكشفت، فأمرت مرة أخرى بذلك، وهكذا إلى ثلاثمائة سنة، ثم بعد ذلك أظَّلت عن يمين العرش غمامة بيضاء، ونادت ماذا أمطر؟ فأجيبت أن أمطري السرور ساعة فلهذا ترى الهموم، والأحزان دائمة، والسرور قليلاً ونادراً، وقدم ذكر الضحى لأنه يشبه الحياة، وأخر الليل؛ لأنه يشبه الموت.

قوله: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ} ، هذا جواب القسم، والعامة: على تشديد الدال من التوديع.

وقرأ عروة بن الزبير وابنه هاشم، وابن أبي عبلة، وأبو حيوة بتخفيفها، من قولهم:«ودَعَهُ» ، أي: تركه والمشهور في اللغة الاستغناء عن «ودع، ووذرَ» واسم فاعلهما، واسم مفعولهما ومصدرهما ب «ترك» وما تصرف منه، وقد جاء «ودع ووذَرَ» ؛ قال الشاعر:[الرمل]

5234 -

سَلْ أمِيرِي: ما الَّذي غَيَّرهُ

عَنْ وصالِي اليَوْمَ حَتَّى وَدَعَهْ

ص: 382

وقال آخر: [الطويل]

5235 -

وثَمَّ ودعْنَا آل عمرٍو وعامِرٍ

فَرائِسَ أطْرافِ المُثقَّفَةِ السُّمْرِ

قيل: والتوديع مبالغة في الودع؛ لأن من ودعك مفارقاً، فقد بالغ في تركك.

قال القرطبيُّ: واستعماله قليل يقال: هو يدع كذا، أي: يتركه.

قال المبرد: لا يكادون يقولون: ودع، ولا ذر، لضعف الواو إذا قدمت، واستغنوا عنهما ب «ترك» .

قوله: {وَمَا قلى} ، أي: ما أبغضك، يقال: قلاه يقليه - بكسر العين في المضارع - وتقول: قلاه يقلاه، بالفتح؛ قال:[الهزج]

5236 -

أيَا مَنْ لَستُ أنسَاهُ

وَلَا واللَّهِ أقْلاهُ

لَكَ اللَّهُ عَلَى ذَاكَا

لَكَ اللَّهُ لَكَ اللَّهُ

وحذف مفعول «قَلَا» مراعاة للفواصل مع العلم به، وكذا بعد «فآوَى» وما بعده.

فصل في «القِلَى»

القلى: البغض، أي: ما أبغضك ربك منذ أحبك، فإن فتحت القاف مددت، تقول: قلاه يقليه قى وقلاء، كما تقول: قريت الضيف أقرية قرى وقراء، ويقلاه: لغة طيىء. وأنشد:

5237 -

أيَّامَ أمِّ الغَمْرِ لا نَقْلَاهَا

أي: لا نبغضها، ونقلي: أي: نبغض؛ وقال: [الطويل]

5238 -

أسِيئِي بِنَا أو أحْسِنِي لا ملُومَةٌ

لَديْنَا ولا مَقلِيَّةٌ إنْ تقلَّتِ

وقال امرؤ القيس: [الطويل]

5239 -

... .....

...

...

...

...

ص: 383

ولَسْتُ بِمقْلِيِّ الخِلالِ ولا قَالِ

ومعنى الآية: ما ودعك ربك وما قلاك، فترك الكاف، لأنه رأس آية، كقوله تعالى:{والذاكرين الله كَثِيراً والذاكرات} [الأحزاب: 35] أي: والذاكرات الله.

فصل في سبب نزول الآية

قال المفسرون: انحبس الوحي عن النبي صلى الله عليه وسلم َ اثني عشر يوماً.

وقال ابن عباس: خمسة عشر يوماً [وقيل خمسة وعشرين يوماً.

وقال مقاتل: أربعين يوماً] .

فقال المشركون: إن محمداً صلى الله عليه وسلم َ قلاه ربه وودعه، ولو كان أمره من الله لتابع عليه كما كان يفعل بمن كان قبله من الأنبياء، فنزلت هذه الآية.

وروى البخاريُّ عن جندب بن سفيان قال: اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم َ فلم يقم ليلتين، أو ثلاثاً، فجاءت أم جميل امرأة أبي لهب - لعنة الله عليها - فقالت: يا محمدُ، إني لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك، لم أره قربك ليلتين، أو ثلاث، فأنزل الله تعالى:{والضحى والليل إِذَا سجى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قلى} .

وروي عن أبي عمران الجوني: قال: أبطأ جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم َ حتى شق عليه، فجاءه وهو واضع جبهته على الكعبة يدعو، فنكت بين كتفيه، وأنزل عليه:{مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قلى} .

وروي أن خولة كانت تخدم النبي صلى الله عليه وسلم َ فقالت: «إن جرواً دخل البيت، فدخل تحت السرير فمات، فمكث نبي الله أياماً لا ينزل عليه الوحي، فقال:» يا خولةُ ما حدّثَ في بَيْتِي؟ ما لِجِبْريلَ لا يَأْتِينِي «؟ قالت خولة: فقلت: لو هيأت البيت، وكنسته، فأهويت بالمكنسة تحت السرير، فإذا جرو ميت، فأخذته، فألقيته خلف الجدار، فجاء نبي الله صلى الله عليه وسلم َ ترعد لحياه - وكان إذا نزل عليه الوحي استقبلته الرعدة - فقال: يا خولة دثِّرِيِنْي، فأنزل

ص: 384

الله هذه السورة، ولما نزل جبريل سأله النبي صلى الله عليه وسلم َ عن التّأخر، فقال:» أما عَلِمْتَ أنَّا لا ندخلُ بَيْتَاً فيهِ كَلبٌ، ولا صُورةٌ «.

وقيل: لما سألته اليهود عن الروح، وذي القرنين وأهل الكهف، قال النبي صلى الله عليه وسلم َ:» سَأخْبركُمْ غداً «ولم يقل: إن شاء الله، فاحتبس عنه الوحي إلى أن نزل جبريل عليه السلام بقوله تعالى:{وَلَا تَقْولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلك غَداً إِلَاّ أَن يَشَآءَ الله} [الكهف: 23، 24] ، فأخبره بما سئل عنه، وفي هذه القصة نزلت:{مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قلى} .

قوله: {وَلَلآخِرَةُ} الظاهر في هذه اللام أنها جواب القسم، وكذلك وفي» ولسَوْفَ «أقسم الله تعالى على أربعة أشياءٍ: اثنان منفيان، وهما توديعه وقلاه، واثنان مثبتان مؤكدان، وهما كون الآخرة خيراً له من الأولى، وأنه سوف يعطيه ما يرضيه. وقال الزمخشري:» فإن قلت: ما هذه اللام الداخلة على «سَوْفَ» ؟ .

قلت: هي لام الابتداء المؤكدة لمضمون الجملة، والمبتدأ محذوف، تقديره: وأنت سوف - كما ذكرنا في «لأقسمُ» أن المعنى: لأنا أقسم - وذلك أنها لا تخلو من أن تكون لام قسم، أو ابتداء، فلام القسم لا تدخل مع المضارع إلا مع نون التوكيد، فبقي أن تكون لام ابتداء، ولام الابتداء لا تدخل إلَاّ على الجملة من المبتدأ، والخبر، فلا بد من تقدير مبتدأ، وخبره، وأن يكون أصله: ولأنت سوف يعطيك «.

ونقل أبو حيَّان عنه، أنه قال:» وخلع من اللام دلالتها على الحال «انتهى.

وهذا الذي رده على الزمخشري، يختار منه: أنها لام القسم، وقوله:» لا يدخل مع المضارع إلا مع نون التوكيد «، استثنى النحاة منه صورتين:

إحداهما: أن لا يفصل بينها وبين الفعل حرف التنفيس كهذه الآية، وكقولك:» والله لسأعطيك «.

والثاني: ألَاّ يفصل بينهما بمعمول الفعل، كقوله:{لإِلَى الله تُحْشَرُونَ} [آل عمران: 158] .

ويدل لما قلت ما قال الفارسي: ليست هذه اللام هي التي في قولك:» إن زيداً لقائم «، بل هي التي في قولك:» لأقُومنَّ «ونابت» سَوْفَ «عن إحدى نوني التأكيد، فكأنه قال: ولنعطينك.

ص: 385

وقوله:» خلع منها دلالتها على الحال «يعني أن لام الابتداء الداخلة على المضارع مخلصة للحال وهنا لا يمكن ذلك؛ لأجل حرف التنفيس، فلذلك خلعت الحالية منها.

وقال أبو حيَّان: واللام في» وللآخِرةُ «لام ابتداء أكدت مضمون الجملة، ثم حكى بعض ما تقدم عن الزمخشري وأبي علي، ثم قال:» ويجوز عندي أن تكون اللام في «وللآخِرَةُ خَيْرٌ» وفي «ولسَوْفَ يُعْطِيكَ» اللام التي يُتَلَقَّى بها القسم، عطفهما على جواب القسم، وهي قوله تعالى:{مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ} ، فيكون هذا قسماً على هذه الثلاثة «انتهى.

فظاهره أن هذه اللام في» وللآخِرةُ «لام ابتداء غير متلقى بها القسم بدليل قوله ثانياً:» ويجوز عندي «، ولا يظهر انقطاع هذه الجملة عن جواب القسم ألبتة، وكذلك في» وَلَسَوْفَ «، وتقدير الزمخشريِّ: مبتدأ بعدها لا ينافي كونها جواباً للقسمِ، إنَّما منع أن يكون جواباً لكونها داخلة على المضارع لفظاً، وتقديراً.

وقال ابن الخطيب: فإن قيل: ما معنى الجمع بين حرفي التأكيد والتأخير؟ .

قلت: معناه أن العطاء كائن لا محالة وإن تأخر لما في التأخير من المصلحة.

فصل

قال إبن إسحاق: معنى قوله: {وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأولى} ، أي: ما عندي من مرجعك إليَّ يا محمد خير لك مما عجلت لك من الكرامة في الدنيا.

روى علقمة عن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم َ:

«إنَّا أهْل بيتٍ اخْتَارَ اللهُ لنَا الآخِرَةِ على الدُّنْيَا» .

وقوله تعالى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فترضى} روى عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما: هو الشفاعة في أمته حتى يرضى، وهو قول علي والحسن.

وعن عبد الله بن عمرو بن العاص: «أن النبي صلى الله عليه وسلم َ تلا قول الله تعالى في إبراهيم عليه الصلاة والسلام ُ: {فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [إبراهيم: 36] ، وهو قول عيسى عليه الصلاة والسلام ُ -: {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ} [المائدة: 118] ، الآية، فرفع يديه وقال:» اللَّهُمَّ أمَّتِي أمَّتِي «وبكى، فقال الله تعالى لجبريل» اذهب إلى محمد، وربُّك أعلم، فسلهُ ما يُبْكِيكَ «فأتى جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم َ فسأله فأخبره، فقال الله تعالى لجبريل:» اذهب إلى محمد، فقل له: إن الله يقول لك: إنَّا سَنُرضِيْكَ فِي أمَّتكَ،

ص: 386

ولا نَسُوءَكَ «وقال حرب بن شريح: سمعت أبا جعفر محمد بن علي يقول: إنكم يا معشر أهل العراق تقولون: إنَّ أرْجَى آية في كتاب الله تعالى: {قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ الله} [الزمر: 53] قالوا: إنا نقول ذلك، قال: ولكنا أهل البيت نقول: إن أرجى آية في كتاب الله: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فترضى} .

وقيل: يعطيك ربك من الثواب، وقيل: من النصر، فترضى، وقيل: الحوض والشفاعة.

فصل في الكلام على انقطاع الوحي

وجه النظم، كأنه قيل: انقطاع الوحي لا يكون عزلاً عن النبوّة، بل غايته أنه أمارة الموت للاستغناء عن الرسالة، فإن فهمت منه قرب الموت، فالموت خير لك من الأولى، وفهم النبي صلى الله عليه وسلم َ من الخطاب بقوله: ما ودعك ربك وما قلى تشريفاً عظيماً، فقيل له:{وللآخِرةُ خيرٌ لك من الأوْلَى} ، أي: أنَّ الأحوال الآتية خير لك من الماضية، فهو وعد بأنه سيزيده عزَّا إلى عزِّه، وبيان أن الآخرة خيرٌ، كأنه صلى الله عليه وسلم َ يفعل فيها ما يريد، ولأنه آثرها فهي ملكه، وملكه خير مما لا يكون ملكه، أو لأن الكفار يؤذونك وأمتك في الدنيا، وأما في الآخرة فهم شهداء على الناس، أو لأن خيرات الدنيا قليلة مقطوعة، ولم يقل: خير لك، لأن فيهم من الآخرة شر له، فلو ميزهم لافتضحوا.

ص: 387

ثم أخبر الله تعالى عن حاله التي كان عليها قبل الوحي وذكره نعمه فقال: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فآوى} ، العامة على:«فآوى» بألف بعد الهمزة رباعياً.

وأبو الأشهب: «فأوى» ثلاثياً.

قال الزمخشري: «وهو على معنيين: إما من» أواه «بمعنى» آواه «سمع بعض الرعاة يقول: أين آوي هذه الموقسة؟ وإما من أوى له، إذا رحمه» . انتهى.

وعلى الثاني قوله: [الطويل]

5240 -

أرَانِي ولا كُفْرانَ للَّهِ أيَّةَ

لنَفْسِي لقَدْ طَالبْتُ غَيْرَ مُنيلِ

ص: 387

أي: رحمة لنفسي، ووجه الدلالة من قوله «أين آوي هذه» ، أنه لو كان من الرباعي [لقال: أُأْوي - بضم الهمزة الأولى وسكون الثانية - لأنه مضارع آوى مثل أكرم، وهذه الهمزة] المضمومة هي حرف المضارعة، والثانية هي فاء الكلمة، وأما همزة «أفْعَل» فمحذوفة على القاعدة، ولم تبدل هذه الهمزة كما أبدلت في «أومن» لئلا يستثقل بالإدغام، ولذلك نص الفراء على أن «تُؤويهِ» من قوله تعالى {وَفَصِيلَتِهِ التي تُؤْوِيهِ} [المعارج: 13] لا يجوز إبدالها للثقل.

فصل

قال ابن الخطيب: «يَجدْكَ» من الوجود الذي بمعنى العلم، والمفعولان منصوبان ب «وجد» ، والوجود من الله العلم، والمعنى: ألم يعلمك الله يتيماً فآوى.

قال القرطبي: «يَتِيْماً» لا أب لك، قد مات أبوك، «فآوى» ، أي: جعل لك مأوى تأوى إليه عند عمك أبي طالب، فكفلك.

وقيل لجعفر بن محمد الصادق: لم أوتم النبي صلى الله عليه وسلم َ من أبويه؟ .

فقال: لئلَاّ يكون لمخلوق عليه حق.

وعن مجاهدٍ: هو من قول العرب: درة يتيمة إذا لم يكن لها مثل، فمجاز الآية ألم يجدك واحداً في شرفك، لا نظير لك، فآواك الله بأصحاب يحفظونك، ويحوطونك.

فصل في جواب سؤال

أورد ابن الخطيب هنا سؤالاً: وهو أنه كيف يحسن من الجواد أن يمن بنعمة، فيقول:{ألمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فآوى} ، ويؤكد هذا السؤال أن الله - تعالى - حكى عن فرعون قوله لموسى عليه الصلاة والسلام ُ:{أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً} [الشعراء: 18] في معرض الذَّم لفرعون فما كان مذموماً من فرعون، كيف يحسن من الله تعالى؟ قال: والجواب: أن ذلك يحسن إذا قصد بذلك تقوية قلبه، ووعده بدوام النعمة، ولهذا ظهر الفرق بين هذا الامتنان، وبين امتنان فرعون، لأن امتنان فرعون معناه: فما بالك لا تخدمني، وامتنان الله تعالى: زيادة نعمه، كأنه يقول: ما لك تقطع عني رجاءك، ألست شرعت في تربيتك أتظنني تاركاً لما صنعته، بل لا بد وأ أتمّ النعمة كما قال تعالى:{وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ} [البقرة: 150] .

فإن قيل: إن الله تعالى منَّ عليه بثلاثة أشياء، ثم أمره أن يذكر نعمة ربه، فما وجه المناسبة؟ .

ص: 388

فالجوابُ: وجه المناسبة أن تقول: قضاء الدين واجب، والدين نوعان: مالي وإنعامي، والإنعامي أقوى وجوباً لأن المال قد يسقط بالإبراء، والإنعامي يتأكد بالإبراء، والمالي يقضى مرة فينجو منه الإنسان، والإنعامي يجب عليه قضاؤه طول عمره، فإذا تعذر قضاء النعمة القليلة من منعم، هو مملوك، فكيف حال النعمة العظيمة من المنعم المالك، فكان العبد يقول: إلهي أخرجتني من العدم، إلى الوجود بشراً مستوياً، طاهر الظاهر نجس الباطن، بشارة منك، تستر عليَّ ذنوبي بستر عفوك، كما سترت نجاستي بالجلد الظاهر، فكيف يمكنني قضاء نعمتك التي لا حصر لها، فيقول تبارك وتعالى: الطريق إلى ذلك أن تفعل في حق [عبيدي ذلك، وكنت عائلاً فأغنيتك، فافعل في حق] الأيتام ذلك ثم إذا فعلت كل ذلك، فاعلم أنما فعلته بتوفيقي، ولطفي، وإرشادي، فكن أبداً ذاكراً لهذه النعم.

قوله: {وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فهدى} ، أي: غافلاً عما يراد بك من أمر النبوة فهداك أي: أرشدك، والضلال هنا بمعنى الغفلة، لقوله تعالى:{لَاّ يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى} [طه: 52] أي: لا يغفل، وقال في حق نبيه صلى الله عليه وسلم َ:{وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الغافلين} [يوسف: 3] وقيل: معنى قوله: «ضالاًّ» لم تكن تدري القرآن، والشرائع، فهداك اللهُ إلى القرآن، وشرائع الإسلام، قاله الضحاك وشهر بن حوشب وغيرهما. قال تعالى:{مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكتاب وَلَا الإيمان} [الشورى: 52] على ما تقدم في سورة الشورى.

وقال السديُّ والكلبي والفراء: وجدك ضالاًّ، أي: في قوم ضلال، فهداهم الله بك، أو فهداك إلى إرشادهم.

وقيل: وجدك ضالاً عن الهجرة، فهداك وقيل:«ضالاً» ، أي: ناسياً شأن الاستثناء حين سئلت عن أصحاب الكهفِ، وذي القرنين، والروح، فأذكرك، لقوله تعالى:{أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا} [البقرة: 282] .

وقيل: ووجدك طالباً للقبلة فهداك إليها، لقوله تعالى:{قَدْ نرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السمآء} [البقرة: 144] ، ويكون الضلال بمعنى الطلب؛ لأن الضال طالب.

وقيل: وجدك ضائعاً في قومك، فهداك إليهم، ويكون الضلال بمعنى الضياع.

وقيل: ووجدك محباً للهداية، فهداك إليها؛ ويكون الضلال بمعنى المحبة ومنه قوله تعالى:{قَالُواْ تالله إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ القديم} [يوسف: 95]، أي: في محبتك.

قال الشاعر: [الكامل]

5241 -

هَذا الضَّلالُ أشَابَ منِّي المفْرِقَا

والعَارضَينِ ولَمْ أكُنْ مُتحقِّقَا

ص: 389

عَجَباً لعزَّة في اخْتِيَارِ قَطيعَتِي

بَعْدَ الضَّلالِ فحِبْلُهَا قَدْ أخْلقَا

وقيل: ضالاً في شعاب «مكة» ، فهداك وردك إلى جدك عبد المطلب.

وقال كعب رضي الله عنه: إن حليمة لما قضت حق الرضاع، جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم َ لتردهُ على عبد المطلب، فسمعت عند باب «مكة» : هنيئاً لك يا بطحاء «مكة» ، اليوم يرد إليك الدين والبهاء والنور والجمالُ، قالت: فوضعته لأصلح ثيابي، فسمعت هدة شديدة فالتفت فلم أره، فقلت: معشر الناس، أين الصبي؟ فقالوا: لم نر شيئاً فصحتُ: وامحمداه، فإذا شيخ فإن يتوكأ على عصاه، فقال: اذهبي إلى الصنم الأعظم، فإن شاء أن يرده إليك فعل، ثم طاف الشيخ بالصَّنم، وقبل رأسه وقال: يا رب، لم تزل منتك على قريش، وهذه السعدية تزعم أن ابنها قد ضلّ، فرده إن شئت، فانكبّ هبل على وجهه، وتساقطت الأصنام؛ وقالت: إليك عنا أيها الشيخ فهلاكُنَا على يدي محمد فألقى الشيخ عصاه وارتعد وقال: إن لابنك رباً لا يضيعه فاطلبيه على مهل، فانحشرت قريش إلى عبد المطلب، وطلبوه في جميع «مكة» ، فلم يجدوه فطاف عبد المطلب بالكعبة سبعاً، وتضرع إلى الله أن يرده؛ وقال:[الرجز]

5242 -

يا ربِّ، رُدَّ ولَدِي مُحَمَّداً

أرْدُدْهُ ربِّي واصْطَنِعْ عِنْدِي يَدَا

فسمعوا منادياً ينادي من السماء: معاشر الناس لا تضجوا، فإن لمحمد ربَّا لا يضيعه ولا يخذله، وإن محمداً بوادي «تهامة» ، عند شجرة السَّمُرِ، فسار عبد المطلب هو وورقة بن نوفل، فإذا النبي صلى الله عليه وسلم َ قائم تحت شجرة يلعب بالإغصان وبالورق.

وفي رواية: فما زال عبد المطلب يردد البيت حتى أتاه أبو جهل على ناقة، ومحمد صلى الله عليه وسلم َ بين يديه، وهو يقول: ألا تدري ماذا جرى من ابنك؟ .

فقال عبد المطلب: ولم؟ قال: إني أنخت الناقة، وأركبته خلفي فأبت الناقة أن تقوم، فلما أركبته أمامي قامت النَّاقة.

قال ابن عباس رضي الله عنهما: رده إلى جده وبيد عدوه، كما فعل بموسى عليه الصلاة والسلام ُ - حين حفظه عند فرعون.

وقال سعيد بن جبيرٍ: خرج النبي صلى الله عليه وسلم َ مع عمه أبي طالب في سفر، فأخذ إبليس بزمام ناقته في ليلة ظلماء فعدل بها على الطريق، فجاء جبريل عليه السلام فنفخ لإبليس نفخة وقع منها إلى أرض «الهند» ، ورده إلى القافلة صلى الله عليه وسلم َ.

ص: 390

وقيل: ووجدك ضالاً ليلة المعراج حين انصرف عنك جبريل، وأنت لا تعرف الطريق، فهداك إلى ساق العرش.

وقال بعض المتكلمين: إذا وجدت العرب شجرة منفردة في فلاة من الأرض، لا شجر معها، سموها ضالة، فيهتدى بها إلى الطريق، فقال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم َ:«ووجَدَكَ ضالاًّ» أي لا أحد على دينك، بل وأنت وحيد ليس معك أحد، فهديت بك الخلق إلي.

وقيل: ووجدك مغموراً في أهل الشرك، فميزك عنهم، يقال: ضل الماءُ في اللبن، ومنه {أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرض} [السجدة: 10] ، أي: لحقنا بالتراب عند الدَّفن، حتى كأنا لا نتميز من جملته وقيل: ضالاًّ عن معرفة الله حين كنت طفلاً صغيراً، كقوله تعالى:{والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئاً}

[النحل: 78] فخلق فيك العقل والهداية والمعرفة، فالمراد من الضال الخالي من العلم لا الموصوف بالاعتقاد، قيل: قد يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم َ، والمراد قومه فقوله تعالى:{وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فهدى} أي وجد قومك ضلالاً فهداهم بك.

وقيل: إنه كان على ما كان القوم عليه لا يظهر لهم في الظاهر الحال، وأما الشرك فلا يظن به على مواسم القوم في الظاهر أربعين سنة.

وقال الكلبي والسدي أي وجدك كافراً والقوم كفاراً فهداك، وقد مضى الرد على هذا القول في سورة الشورى.

قوله: {وَوَجَدَكَ عَآئِلاً فأغنى} ، العائل: الفقير، وهذه قراءة العامة يقال: عال زيد، أي: افتقر.

قال الشاعر: [الوافر]

5243 -

ومَا يَدْري الفَقِيرُ متَى غِنَاهُ

ومَا يَدْرِي الغَنِيُّ متَى يَعِيلُ

وقال جرير: [الكامل]

5244 -

اللهُ أنْزَلَ في الكِتَابِ فَريضَةً

لابْنِ السَّبِيلِ وللفَقِيرِ العَائِلِ

وقرأ اليماني: «عيِّلاً» بكسر الياء المشددة ك «سيد» .

وقال ابن الخطيب: العائل ذو العيلة، ثم أطلق على الفقير لم يكن له عيال،

ص: 391

والمشهور أن المراد به الفقير، ويؤيده ما روي في مصحف عبد الله:«وَوَجَدَكَ عديماً» .

وقوله تعالى: {فأغنى} ، أي: فأغناك خديجة وتربية أبي طالب، ولما اختل ذلك أغناك بمال أبي بكر رضي الله عنه، ولما اختل ذلك أمره بالهجرة وأغناه بإعانة الأنصار رضي الله عنهم، ثم أمره بالجهاد، وأغناه صلى الله عليه وسلم َ بالغنائم.

[وقال مقاتل: أغناك بما أعطاك من الرزق.

وقال عطاء: وجدك فقير النفس، فأغنى قلبك، وقيل: فقيراً من الحجج والبراهين، فأغناك بها] .

قوله: {فَأَمَّا اليتيم فَلَا تَقْهَرْ} . اليتيم منصوب ب «تَقْهَرْ» ، وبه استدل ابن مالك على أنه لا يلزم من تقديم المعمول تقديم العامل؛ ألا ترى أنَّ اليتيم منصوب بالمجزوم، وقد تقدم الجازم، لو قدمت المجزوم على جازمه، لامتنع، لأن المجزوم لا يتقدم على جازمه، كالمجرور لا يقدم على جاره.

وتقدَّم ذلك في سورة هود عليه السلام عند قوله تعالى: {أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ} [هود: 8] .

وقرأ العامة: «تَقْهَر» بالقاف من الغلبة، وابن مسعود، والشعبي، وإبراهيم النخعي والأشهب العقيلي، «تكهر» بالكاف. كهر في وجهه: أي عبس، وفلان ذو كهرة، أي: عابس الوجه.

ومنه الحديث: «فَبِأبِي هُوَ وأمِّي فوالله ما كهرني» .

قال أبو حيان: «وهي لغة بمعنى قراءة الجمهور» انتهى.

والكهر في الأصل: ارتفاع النهار مع شدة الحر.

وقيل: الكهر: الغلبة، والكهر: الزجر. والمعنى: لا تسلط عليه بالظلم، بل ادفع إليه حقه، واذكر يتمكَ. قاله الأخفش.

وقال مجاهدٌ: لا تحتقر. وخص اليتيم، لأنه لا ناصر له غير الله تعالى، فغلظ في تأثير العقوبة على ظالمه، والمعنى: عامله كما عاملناك به، ونظيره:

{وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ الله إِلَيْكَ} [القصص: 77] .

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم َ: «الله الله فيمَنْ لَيْسَ له إلا الله» .

ص: 392

فصل

دلت الآية على اللطف باليتيم وبره والإحسان إليه، قال قتادة: كن لليتيم كالأب الرحيم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم َ:«أنا وكافل اليتيم كهاتين، وأشار بالسبابة والوسطى» .

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم َ: «مَنْ ضَمَّ يَتِيمَاً فَكَانَ فِي نَفَقَتِهِ وكفاهُ مؤنَتَهُ، كَانَ لَهُ حِجَابَاً مِنَ النَّارِ يَوْمَ القِيَامَةِ» .

وقال النبي صلى الله عليه وسلم َ: «مَنْ مَسَحَ برأسِ يَتِيمٍ كَانَ لَهُ بكُلِّ شَعْرةً حَسَنةٌ» .

فصل

الحكمة في أن الله تعالى اختار لنبيه اليتم، أنه عرف حرارة اليتم، فيرفق باليتيم، وأيضاً ليشاركه في الاسم، فيكرمه لأجل ذلك، لقوله عليه الصلاة والسلام ُ -:«إذَا سَمَّيْتُم الوَلَدَ مُحَمَّداً فأكْرِمُوهُ ووسِّعُوا لَهُ فِي المَجْلسِ» وأيضاً ليعتمد من أول عمره على الله تعالى، فيشبه إبراهيم عليه الصلاة والسلام ُ - في قوله:«حَسْبي مِنْ سُؤالِي، علمهُ بِحَالِي» .

وأيضاً فالغالب أن اليتيم تظهر عيوبه فلما لم يجدوا فيه عيباً، لم يجدوا فيه مطعناً.

وأيضاً جعله يتيماً، ليعلم كل أحد فضيلته ابتداء من الله تعالى، لا من التعليم، لأن من له أب فإن أباه يعلمه، ويؤدبه.

وأيضاً فاليتم والفقر نقص في العادة، فكونه صلى الله عليه وسلم َ مع هذين الوصفين من أكرم الخلق كان ذلك قلباً للعادة، فكان معجزة ظاهرة.

قوله تعالى: {وَأَمَّا السآئل فَلَا تَنْهَرْ} ، أي: فلا تزجره، يقال: نهره، وانتهره إذا زجره، وأغلظ له في القول، ولكن يرده ردَّا جميلاً.

[قال إبراهيم بن أدهم: نعم القوم السؤال، يحملون زادنا إلى الآخرة. وقال إبراهيم النخعي: السائل يريد الآخرة يجيء إلى باب أحدكم فيقول: هل تبعثون إلى أهليكم بشيء.

وقيل: المراد بالسائل الذي يسأل عن الدين] .

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم َ: «سَألتُ ربِّي مَسْألةً ودِدْتُ أنِّي لَمْ أسْألْهَا، قُلْتُ: يَا ربِّ، اتَّخذتَ إبْراهِيمَ خَلِيلاً، وكلَّمْتَ مُوسَى تَكْلِيماً، وسخَّرتَ مَع دَاوُدَ الجِبالَ يُسَبِّحْنَ،

ص: 393

وأعطيتَ فُلاناً كَذَا فقال عز وجل: ألَمْ أجِدْكَ يَتِيماً فَأويتك؟ أَلَمْ أَجِدْكَ ضالاً فَهَدَيْتُكَ؟ أَلَمْ أَجِدكَ عائِلاً فَأَغْنَيْتُكِ؟ أَلَمْ أَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ؟ أَلَمْ أُوتِكَ مَا لَمْ أُوتِ أَحَدَاً قبلَكَ خَوَاتِيِمَ سورةِ البقرة؟ أَلَمْ أَتَّخِذُكَ خَلِيْلاً كَمَا اتَّخَذْتُ إبراهيمَ خليلاً؟ قلت: بلى يا ربِّ» .

قوله: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} . الجار متعلق ب «حدِّثْ» والفاء غير مانعة من ذلك قال مجاهدٌ: تلك النعمة هي القرآن والحديث.

وعنه أيضاً: تلك النعمة هي النبوة، أي: بلغ ما أنزل إليك من ربك قيل: تلك النعمة هي أن وفقك الله تعالى، ورعيت حق اليتيم والسائل، فحدث بها؛ ليقتدي بك غيرك.

وعن الحسين علي رضي الله عنهما قال: إذا عملت خيراً فحدث به الثقة من إخوانك ليقتدوا بك.

إلا أنَّ هذا لا يحسن إلا إذا لم يتضمن رياء، وظن أن غيره يقتدي به.

وروى مالك بن نضلة الجشمي، قال:«كنت جالساً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم َ، فرآني رثَّ الثياب فقال:» أَلَكَ مَالٌ «؟ .

قلت: نعم، يا رسول الله، من كل المال، قال:» إذَا آتَاكَ اللهُ مالاً فليُرَ أثرهُ عَلَيْكَ «.

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم َ:» إنَّ اللهَ تعالى جَميلٌ يُحِبُّ الجَمالَ، ويُحِبُّ أنْ يَرَى أثَرَ نِعْمَتِهِ على عَبْدِهِ «.

فإن قيل: ما الحكمة في أن الله أخر نفسه على حق اليتيم والسائل؟ .

فالجواب: كأنه سبحانه وتعالى يقول: أنا غني، وهما محتاجان، وحق المحتاج أولى بالتقديم، واختار قوله:» فحدث «على قوله» فخبِّرْ «ليكون ذلك حديثاً عنه وينساه، ويعيده مرة أخرى.

فصل

يكبر القارىء في رواية البزي عن ابن كثير وقد رواه مجاهد عن ابن عباس وروي عن أبيّ بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم َ أنه كان إذا بلغ آخر» الضُّحَى «كبَّر بين كلِّ سورةٍ

ص: 394

تكبيرة إلى أن يختم القرآن، ولا يصل آخر السورة بتكبيرة، بل يفصل بينهما بسكتة، وكأن المعنى في ذلك أن الوحي تأخّر عن النبي صلى الله عليه وسلم َ أياماً، فقال ناس من المشركين: قد ودعه صاحبه، فنزلت هذه السورة فقال:» اللهُ أكْبَرُ «.

قال مجاهد: قرأت على ابن عبّاس، فأمرني به، وأخبرني به عن أبيٍّ عن النبي صلى الله عليه وسلم َ.

ولا يكبر في [رواية] الباقين، لأنها ذريعة إلى الزيادة في القرآن.

قال القرطبي: القرآن ثبت نقله بالتواتر سُوَره، وآياته، وحروفه بغير زيادةٍ، ولا نقصان، وعلى هذا فالتكبير ليس بقرآن.

روى الثعلبي عن أبيّ بن كعب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم َ:» مَنْ قَرَأَ سُورَةَ {والضحى} كان فيمن يرضاه الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم َ أن يشفع له، وكتب الله تعالى له من الحسنات بعدد كل يتيم وسائل «والله أعلم.

ص: 395

سورة " ألم نشرح "

ص: 396

مكية، وهي ثماني آيات، وتسع وعشرون كلمة، ومائة وثلاثة أحرف. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى:{أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} ، الاستفهام إذا دخل على النفي قرره، فصار المعنى: قد شرحنا، ولذلك عطف عليه الماضي، ومثله:{أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ} [الشعراء: 18]، والعامة: على جزم الحاء ب «لَمْ» .

وقرأ أبو جعفر المنصور: بفتحها.

فقال الزمخشري: وقالوا: لعلَّهُ بين الحاء، وأشبعها في مخرجها فظن السامع أنه فتحها.

وقال ابن عطية: إن الأصل: «ألَمْ نَشْرحَنْ» بالنون الخفية، ثم أبدلها ألفاً ثم حذفها تخفيفاً كما أنشد أبو زيد:[الرجز]

5245 -

مِنْ أيِّ يَوميَّ مِنَ المَوْتِ أَفِرْ

أيَوْمَ لَمْ يقْدرَ أمْ يَوْمَ قُدِرْ

بفتح راء: «يقدر» وكقوله: [المنسرح]

5246 -

إضْرِبَ عَنْكَ الهُمُومَ طَارقهَا

ضَرْبكَ بالسَّيْفِ قَوْنسَ الفَرسِ

ص: 396

بفتح باء «اضرب» انتهى. وهذا مبني على جواز توكيد المجزوم ب «لم» ، وهو قليل جداً، كقوله:[الرجز]

5247 -

يَحْسبهُ الجَاهِلُ مَا لَمْ يَعْلمَا

شَيْخاً عَلى كُرْسيِّهِ مُعَمَّمَا

فتتركب هذه القراءة من ثلاثة أصول كلها ضعيفة، لأن توكيد المجزوم ب «لَمْ» ضعيف، وإبدالها ألفاً إنما هو في الوقف، فاجراء الوصل مجرى الوقف خلاف الأصل، وحذف الألف ضعيف؛ لأنه خلاف الأصل.

وخرجه أبو حيان على لغة خرجها اللحياني في «نوادره» عن بعض العرب، وهو أن الجزم ب «لَنْ» والنصب ب «لَمْ» عمس المعروف عند الناس، وجعله أحسن مما تقدم.

وأنشد قول عائشة بنت الأعجم تمدح المختار تطلب ثأر الحسين بن علي رضي الله عنهما وعن بقية الصحابة أجمعين: [البسيط]

5248 -

قَدْ كَان سُمْكُ الهُدَى يَنْهَدُّ

قَائمهُ حتَّى أبِيحَ لهُ المُختارُ فانْغَمَدَا

فِي كُلِّ ما هَمَّ أمْضَى رأيهُ قُدُماً

ولَمْ يُشاوِرَ في إقْدامهِ أحَدَا

[بنصب راء «يشاور» ، وجعله محتمل للتخريجين. وشرح الصدر: فتحه؛ أي ألم تفتح صدرك للإسلام.

وقال ابن عباس: ألم تلين قلبك وعن الحسن في قوله: ألم نشرح، وقال مكي: حلماً وعلماً] .

وشرح الصدر: فتحه: روي أن جبريل عليه السلام أتاه وشق صدره، وأخرج قلبه، وغسله وأنقاه من المعاصي، ثم ملأه علماً، وإيماناً، ووضعه في صدره، وطعن القاضي في هذه الرواية من وجوه:

ص: 397

أحدها: أن هذه الواقعة إنما وقعت حال صغرهِ صلى الله عليه وسلم َ وذلك من المعجزات فلا يجوز أن يتقدم بثبوته.

وثانيها: أن تأثير الغسل في إزالة الأجسام، والمعاصي ليست بإجرام فلم يؤثر الغسل فيها.

وثالثها: أنه لا يصح أن يملأ القلب علماً، بل الله تبارك وتعالى يخلق فيه العلوم.

وأجيب عن الأول: بأن تقديم المعجزات على زمان البعثة جائز، وهو المسمى بالإرهاص، ومثله في حق الرسول صلى الله عليه وسلم َ كثير.

وعن الثاني، والثالث: لا يبعد أن يكون حصول ذلك الدم الأسود الذي غسلوه من قلب الرسول عليه الصلاة والسلام ُ - ميل القلب إلى المعاصي وإحجامه عن الطاعات، فإذا أزالوه عنه كان ذلك علامة لمواظبة صاحبه على الطاعات، واحترازه عن السيئات، فكان ذلك، كالعلامة للملائكة على عصمة صاحبه.

وأيضاً فإن الله تعالى يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد.

روى ابن عباس رضي الله عنهما أنهم قالوا: «يا رسول الله، أينشرح الصدر؟ .

قال:» نعم وينفسح «، قالوا: يا رسول الله، وهل لذلك علامة؟ .

قال:» نعم، التجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والاعتداد للموت قبل نزول الموت «» .

قال القرطبيُّ: معنى {أَلَمْ نَشْرَحْ} قد شرحنا، و «لَمْ» جحد، وفي الاستفهام طرف من الجحد وإذا وقع جحد، رجع إلى التحقيق، كقوله تعالى:{أَلَيْسَ الله بِأَحْكَمِ الحاكمين} [التين: 8]، ومعناه: الله أحكم الحاكمين، وكذا {أَلَيْسَ الله بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر: 36] ، ومنه قول جرير يمدح عبد الملك بن مروان:[الوافر]

5249 -

ألَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ المَطايَا

وأنْدَى العَالمِينَ بُطُونَ رَاحِ

المعنى: أنتم كذا.

فإن قيل: لم قال عز وجل: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} فذكر الصدر ولم يذكر القلب؟ .

فالجوابُ: لأن محلَّ الوسوسة هو الصَّدر على ما قال تعالى: {يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ الناس} [الناس: 5] فإبدال تلك الوسوسة بدواعي الخير هو الشرح، فلذلك خص الشرح بالصدر دون القلب.

وقيل: الصدر حضن القلب، فيقصده الشبطان، فإن وجد مسلكاً أغار فيه، وبث جنده فيه وبث فيه الغموم، والهموم والحرص، فيقسو القلب حينئذ، ولا يجد للطاعة

ص: 398

لذة، ولا للإسلام حلاوةً، فإذا طرد في الابتداء حصل الأمن، وانشرح الصدر.

فإن قيل: لِمَ قال: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} ولم يقل: «ألَمْ نَشْرَحْ صَدْرَك» ؟ .

فالجوابُ: كأنه تعالى يقول: لام بلام، فأنت إنما تفعل الطاعات لأجلي، وأنا أيضاً جميع ما أفعله لأجلك.

فصل فيمن اعتبر «والضحى» ، و «ألم نشرح» سورة واحدة

روي عن طاوس، وعمر بن عبد العزيز أنهما كانا يقرآن:«والضُّحَى» ، و {أَلَمْ نَشْرَحْ} سورة واحدة، وكانا يقرآنها في ركعة واحدة، ولا يفصلان بينهما ب «بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحيمِ» ، وذلك لأنهما رأيا أن أولهما يشبه قوله تعالى:{أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فآوى} . وليس كذلك، لأن حالة اغتمامه صلى الله عليه وسلم َ بإيذاء الكفار، فهي حالة محنةٍ وضيق، وهذه حالة انشراح الصدر، وطيب القلبِ فكيف يجتمعان؟ .

قوله: {وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ} ، أي: حططنا عنك ذنبك.

وقرأ أنس رضي الله عنه وحللنا وحططنا.

وقرأ ابن مسعود: «وَحَلَلْنَا عَنْكَ وقْرَكَ» . وهذه الآية مثل قوله: {لِّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2] .

قيل: الجميع كانوا قبل النبوة، أي: وضعنا عنك ما كنت فيه من أمر الجاهلية؛ لأنه كان صلى الله عليه وسلم َ كان في يسر من مذاهب قومه، وإن لم يكن عبد صنماً، ولا وثناً.

قوله

: {الذي

أَنقَضَ

ظَهْرَكَ} ، أي: حمله على النقض، وهو صوت الانتقاض والانفكاك لثقله، مثل لما كان يثقله صلى الله عليه وسلم َ.

قال أهل اللغة: أنقض الحمل ظهر الناقة: إذا سمعت له صريراً من شدة الحمل، وسمعت نقيض الرجل أي صريره؛ قال العبَّاس بن مرداسٍ:[الطويل]

5250 -

وأنْقضَ ظَهْرِي ما تطَوَّيْتُ مِنهُم

وكُنْتُ عَليْهِمْ مُشْفِقاً مُتَحَنِّنَا

وقال جميلٌ: [الطويل]

5251 -

وحتَّى تَداعَتْ بالنَّقيضِ حِبالهُ

وهَمَّتْ بَوانِي زَوْرهِ أنْ تُحطَّمَا

والمعنى: أثقل ظهرك حين سمع نقيضه، أي: صوته.

ص: 399

والوِزْرُ: الحمل الثقيل.

قال المحاسبيُّ: يعني: ثقل الوزر لو لم يعفُ الله عنه.

قال: وإنما وُصفتْ ذنوبُ الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - بهذا الثقل مع كونها مغفورة لشدة اهتمامهم بها، وندمهم منها، وتحسرهم عليها [وقال الحسين بن الفضل: يعني الخطأ والسهو.

وقيل: ذنوب أمتك اضافها إليه لاشتغال قلبه بها] .

وقال عبد العزيز بن يحيى وأبو عبيدة: خففنا عنك أعباء النبوة، والقيام بها، حتى لا تثقل عليك.

وقيل: كان في الابتداء يثقل عليه الوحي، حتى كاد يرمي نفسه من شاهق الجبل، إلى أن جاء جبريل عليه السلام وأزال صلى الله عليه وسلم َ عنه ما كان يخاف من تغير العقل.

وقيل: عصمناك عن احتمال الوِزْر، وحفظناك قيل النبوة في الأربعين من الأدناس، حتى نزل عليه الوحي، وأنت مطهَّر من الأدناس.

قوله: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} ، قال مجاهد: يعني بالتأذين.

وروى الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهم يقول عز وجل له: لا ذكرت إلا ذكرت معي في الأذان، والإقامة، والتشهد، ويوم الجمعة على المنابر، ويوم الفطر، ويوم الأضحى، وأيام التشريق ويوم عرفة، وعند الجمار وعلى الصفا والمروة وفي خطبة النكاح، وفي مشارق الأرض ومغاربها. ولو أن رجلاً عبد الله تعالى، وصدق بالجنة والنار وكل شيءٍ ولم يشهد أن محمداً رسول الله لم ينتفع شيء وكان كافراً.

وقيل: أعلينا ذكرك، فذكرناك في الكتب المنزلة على الأنبياء قبلك، وأمرناهم بالبشارة بك، ولا دين إلا ودينك يظهر عليه.

وقيل: رفعنا ذكرك عند الملائكة في السماء وفي الأرض عند المؤمنين، ونرفع في الآخرة ذكرك بما نعطيك من المقام المحمود، وكرائم الدرجات. وقيل: عام في كل ذكر.

قوله: {فَإِنَّ مَعَ العسر يُسْراً} العامة، على سكون السين في الكلم الأربع.

ص: 400

وابن وثَّاب وأبو جعفر وعيسى: بضمها، وفيه خلاف، هل هو أصل، أو منقول من المسكن؟ والألف واللام في العسر الأول لتعريف الجنس، وفي الثاني للعهد، وكذلك روي عن ابن عباس رضي الله عنه لن يغلب عسرٌ يسرين وروي أيضاً مرفوعاً أنه صلى الله عليه وسلم َ خرج يضحك يقول:

«لن يغلب عسر يسرين» والسبب فيه أن العرب إذا أتت باسم، ثم أعادته مع الألف واللام، كان هو الأول، نحو: جاء رجل فأكرمتُ الرجل، وقوله تعالى:{كَمَآ أَرْسَلْنَآ إلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فعصى فِرْعَوْنُ الرسول} [المزمل: 15، 16] ، ولو أعادته بغير ألف ولام كان غير الأول، فقوله تعالى:{فَإِنَّ مَعَ العسر يُسْراً} لما أعاد العسر الثاني أعاده ب «أل» ، ولما كان اليُسْر الثاني غير الأول لم يعده بأل.

وقال الزمخشريُّ: فإن قلت: ما معنى قول ابن عبَّاس؟ وذكر ما تقدم.

قلت: هذا عمل على الظاهر، وبناء على قوة الرجاء، وأن موعد الله تعالى لا يحمل إلا على أوفى ما يحتمله اللفظ، وأبلغه، والقول فيه أنه يحتمل أن تكون الجملة الثانية تكريراً للأولى كما كرر قوله:{وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} لتقرير معناها في النفوس، وتمكنها في القلوب، وكما يكرر المفرد في قوله:«جاء زيد زيد» ، وأن تكون الأولى عدة بأن العسر مردوف بيُسْرٍ [لا محالة والثانية: عدة مستأنفة بأن العسر متبوع بيسر] فهما يسران على تقدير الاستئناف وإنَّما كان العسر واحداً لأنه لا يخلو، إما أن يكون تعريفه للعهد، وهو العسر الذي كانوا فيه، فهو هو، لأن حكمه حكم زيد في قولك:«إن مع زيد مالاً، إن مع زيد مالاً» ، وإما أن يكون للجنس الذي يعلمه كل أحد، فهو هو أيضاً، وأما اليسر، فمنكر متناول لبعض الجنس، فإذا كان الكلام الثاني مستأنفاً غير مكرر، فقد تناول بعضاً غير البعض الأول بغير إشكال.

قال أبو البقاء: العسر في الموضعين واحد؛ لأن الألف واللام توجب تكرير الأول، وأما يُسْراً في الموضعين، فاثنان، لأن النكرة إذا أريد تكريرها جيء

ص: 401

بضميرها، أو بالألف واللام ومن هنا قيل:«لَنْ يَغْلِبَ عُسرٌ يُسرَيْنِ» .

وقال الزمخشريُّ أيضاً فإن قلت: «إن» مَعَ «للصحبة، فما معنى اصطحاب اليسر والعسر؟ قلت: أراد أن الله - تعالى - يصيبهم بيسر بعد العسر الذي كانوا فيه بزمان قريب، فقرب اليسر المترقب، حتى جعله كالمقارن للعسر زيادة في التسلية، وتقوية للقلوب.

وقال أيضاً فإن قلت: فما معنى هذا التنكير؟ .

قلت: التفخيم كأنه قيل: إنّ مع العسر يسراً عظيماً، وأي يسر، وهو في مصحف ابن مسعود مرة واحدة.

فإن قلت: فإذا أثبت في قراءته غير مكرر فلم قال: والذي نفسي بيده لو كان العسر في حجر لطلبه اليسر، حتى يدخل عليه، إنه لن يغلب عسر يسرين؟ .

قلت: كأنه قصد اليسرين، وأما في قوله:» يُسْراً «من معنى التفخيم، فتأوله بيسر الدَّارين، وذلك يسران في الحقيقة.

فصل في تعلق هذه الآية بما قبلها

تعلق هذه الآية بما قبلها أن الله تعالى بعث نبيه صلى الله عليه وسلم َ فعيَّره المشركون بفقره، حتى قالوا له: نجمع لك مالاً، فاغتنم لذلك، وظن أنهم إنما رغبوا عن الإسلام لكونه فقيراً حقيراً عندهم، فعدد الله - تعالى - عليه منته بقوله تعالى:{أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ} ، أي: ما كنت فيه من أمر الجاهلية، ثم وعده بالغنى في الدنيا ليزيل في قلبه ما حصل فيه من التأذي، بكونهم عيَّروه بالفقر، فقال تعالى:{فَإِنَّ مَعَ العسر يُسْراً} فعطفه بالفاء أي: لا يحزنك ما عيروك به في الفقر، فإن ذلك يسراً عاجلاً في الدنيا فأنجز له ما وعده، فلم يمت، حتى فتح عليه» الحجاز «، و» اليمن «ووسع عليه ذات يده، حتَّى كان يعطي الرجل المائتين من الإبل، ويهب الهبات السنية، وترك لأهله قوت سنته، وهذا وإن كان خاصاً بالنبي عليه الصلاة والسلام ُ - فقد يدخل فيه بعض أمته صلى الله عليه وسلم َ إن شاء الله تعالى، ثم ابتدأ فصلاً آخر من أمر الآخرة، فقال:

{إِنَّ مَعَ العسر يُسْراً} فهذا شيء آخر، والدليل على ابتدائه، تعديه من فاء، وواو، وغيرهما من حروف النسق التي تدخل على العطف، فهذا عام لجميع للمؤمنين، {إِنَّ مَعَ العسر يُسْراً} للمؤمنين يسراً في الآخرة لا محالة، وربما اجتمع يسرُ الدنيا، ويسرُ الآخرة.

ص: 402

قوله: {فَإِذَا فَرَغْتَ} .

العامة: على فتح الراء: من «فَرغْتَ» ، وهي الشهيرة.

وقرأها أبو السمال: مكسورة، وهي لغة فيه.

قال الزمخشري: «وليست بالفصيحة» .

وقال الزمخشري أيضاً: «فإن قلت: كيف تعلق قوله تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فانصب} بما قبله؟ .

قلت: لما عدد عليه نعمه السالفة، ووعوده الآنفة، بعثه على الشكر، والاجتهاد في العبادة، والنصب فيها» .

وعن ابن عباس: فإذا فرغت من صلاتك، فانصب في الدعاء.

العامة: على فتح الصَّاد وسكون الباء أمراً من النصب وقرىء: بتشديد الباء مفتوحة أمراً من الإنصاب.

وكذا قرىء بكسر الصاد ساكنة الباء، أمراً من النَّصْب بسكون الصاد.

قال شهاب الدين: ولا أظن الأولى إلا تصحيفاً، ولا الثانية إلا تحريفاً، فإنها تروى عن الإمامية وتفسيرها: فإذا فرغت من النبوة فانصب الخليفة.

وقال ابن عطية: وهي قراءة شاذةٌ، لم تثبت عن عالم.

قال الزمخشريُّ: ومن البدع ما روي عن بعض الرافضة، أنه قرأ:«فانْصِبْ» - بكسر الصاد - أي: فانصب علياً للإمامة، ولو صح هذا للرافضيِّ، لصحَّ للناصبي أن يقرأ هكذا، ويجعله أمراً بالنصب الذي هو بغض علي، وعداوته.

قال ابن مسعود: «إذا فرغت من الفرائض فانصب في قيام الليل» .

وقال الكلبيُّ: «إذا فرغت من تبليغ الرسالة فانصب، أي: استغفِرْ لذَنْبِكَ وللمُؤمنينَ والمُؤْمِنَات» .

ص: 403

وقال الحسنُ وقتادة: «فإذا فرغت من جهاد عدوك فانصب لعبادة ربِّك» .

قوله: {وإلى رَبِّكَ فارغب} .

قرأ الجمهور: «فارْغَبْ» أمر من «رغبَ» ثلاثياً.

وقرأ زيد بن علي، وابن أبي عبلة:«فَرغِّبْ» بتشديد الغين، أمر من «رَغَّبَ» بتشديد الغين أي: فرغب الناس إلى طلب ما عنده.

عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم َ يقول: «مَنْ قَرَأ {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} فكأنما جاءني وأنا مغتم ففرج عني» والله تعالى أعلم.

ص: 404