الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثانياً: المذهب الفقهي للإمام الطحاوي
كان الإمام أبو جعفر الطحاوي في أول أمره شافعي المذهب.
فقد فتح عينيه، وترعرع وشب في أسرة علمية، تتمذهب بمذهب الشافعي.
فقد تلقى مبادئ الفقه الشافعي على والده (محمد بن سلامة) ثم أكمل تعليمه الفقهي بين يدي خاله (المزني) صاحب الشافعي رحمهما الله تعالى، ومن قبل تلقاه على (والدته الفقيهة: أخت الزني).
ولكنه لم يبقى مدة طويلة في اتباعه للمذهب الشافعي فقد انتقل إلى مذهب أبي حنيفة في سن مبكرة من تاريخه العلمي، ولعل ذلك كان في نهاية العقد الثاني من عمره
(1)
.
(1)
تاريخ بغداد (5/ 142).
ولم يكن هذا الاختيار وذلك التحول عن مذهب الشافعي وليد الصدفة، بل كان عن دراسة واقتناع، بدليل عدم رواج هذا المذهب من قبل في مصر، وقد اجتمعت أسباب تؤكد هذا التحول إلى مذهب أبي حنيفة، وإن كان ثمة اختلاف في هذه الأسباب، لكن سأذكر أصح تلك الأسباب:
الأول: ما رواه ابن خلكان
(1)
عن أبي يعلى
(2)
. في كتاب الإرشاد: (أن محمد بن أحمد الشروطي قال: قلت للطحاوي لم خالفت خالك وأخذت مذهب أبي حنيفة فقال: لأني كنت أرى
خالي يديم النظر في كتب أبي حنيفة، فلذلك انتقلت إليه
(3)
.
(1)
ابن خلكان هو أبو العباس: أحمد بن محمد بن إبراهيم البرمكي الأربلي الشافعي (608 - 681 هـ) كان فاضلا بارعاً متفنناً، علامة في الأدب
والشعر وأيام الناس، من مؤلفاته: وفيات الأعيان. (انظر طبقات الشافعية (5/ 14)، ومعجم المؤلفين (1/ 237)، والأعلام (1/ 220).
(2)
أبو يعلى هو: الخليل بن عبد الله بن أحمد بن الخليل الخليلي القزويني القاضي العلامة الحافظ، مصنف كتاب (الإرشاد في معرفة المحدثين)
- وكان ثقة عارفاً بالرجال والحديث، كبير الشأن طال عمره وعلا إسناده، مات بقزوين سنة (446 هـ). (سير أعلام النبلاء (17/ 666).
(3)
وفيات الأعيان (1/ 71).
الثاني: ما رواه ابن عساكر من طريق أبي سليمان بن زبر، أنه قال: (قال لي أبو جعفر الطحاوي أول من كتبت عنه الحديث المزني، وأخذت بقول الشافعي، فلما كان بعد سنين قدم أحمد بن أبي عمران قاضياً على مصر
(1)
فصحبته وأخذت بقوله، وكان يتفقه للكوفيين وتركت قولي الأول، فرأيت المزني في المنام وهو يقول لي: يا أبا جعفر اغتصبك أبو جعفر يا أبا جعفر اغتصبك أبو جعفر يعني ابن أبي عمران)
(2)
- فهاتان الروايتان من أصح الروايات سنداً إلى الإمام الطحاوي، فينبغي الأخذ بهما والعدول عن غيرهما مما لم تستقم أسانيدها إلى أبي جعفر الطحاوي- رحمه الله.
فيكون السببان هما: إعجاب خاله بكتب الحنفية حيث كان يديم النظر فيها، مما دعا الطحاوي إلى التطلع إلى معرفة هذا المذهب، حتى استمر به الأمر، أن قال بهذا المذهب وترك سواه.
وأما الأخر: فصحبته لأحمد بن أبي عمران لما قدم إلى مصر، والذي تولى التدريس والتعليم فيها، وقد كان رجلاً ذا علم وفضل، قال صاحب الجواهر المضية:(وكان مكينا في العلم، وحسن الدراية بألوان من العلم كثيرة).
(3)
وقد كان قدومه إلى مصر ومجيئه بعد مجيء القاضي بكار بن قتيبة
(4)
الذي كانت سيرته بحق سيرة عطرة ومثلاً يؤتسى، وكان في شخصيته وهديه وسمته وقوله الحق، داعية طيبة لمذهب الأحناف حتى كان ابن طولون يجله ويحترمه ويحضر مجلسه
(5)
.
(1)
ولم أقف عن سنة دخوله مصر بعد ما بحثت ذلك في كتب التراجم والتواريخ.
(2)
انظر: سبر أعلام النبلاء (15/ 27) والحاوي (17) وأبي جعفر الطحاوي المحدث االفقيه (81).
(3)
الجواهر المضية (1/ 337).
(4)
وقد كان مجيء القاضي بكار في سنة (246 هـ)، (سير أعلام النبلاء)(12/ 604).
(5)
النجوم الزاهرة (3/ 18)
وقد كانت مناظرات بكار مع خال الطحاوي المزني أشهر من أن تخفى، مما كان يدعو المزني إلى النظر في كتب الأحناف، حتى يتأتى له الرد على حجج بكار بن قتيبة، الأمر الذي استرعى الطحاوي وقاده شيئاً فشيئاً إلى مذهب الأحناف.
قال الكوثري
(1)
: (تفقه الطحاوي على الإمام المزني في نشأته، وكلما تقدم في الفقه كان يجد نفسه بين تدافع مد وجزر في التأصيل والتفريع، وبين إقدام وإحجام في النقض والإبرام في قديم المسائل وحديثها، وكان لا يجد عند خاله ما يشفي غلته في بحوثه، فأخذ يرصد ما يعمله خاله في المسائل الخلافية، فإذا هو كثير المطالعة لكتب أبي حنيفة، فينفرد عن إمامه منحازاً إلى رأي أبي حنيفة في كثير من المسائل سجلها في مختصره، وأخذ يطلع على المنهج الفقهي عند أهل العراق فأجتذبه، حتى أخذ يتفقه على أحمد بن أبي عمران بعد أن اطلع على رد بكار بن قتيبة على كتاب المزني، فأصبح في عداد المتخيرين لهذا المنهج نابذا منهجه القديم)
(2)
.
هذا ما استطعت أن أقف عليه مما كتبه الناس في سبب تحول الطحاوي رحمه الله من مذهب الشافعي إلى مذهب أبي حنيفة.
(1)
الكوثري هو: محمد زاهد بن الحسن بن على الكوثري (1296 - 1371 هـ) فقيه حنيفي جركسي الأصل، نشأ بالآستانة، وتفقه فيها وتولي
رياسة مجلس التدريس، واستقر أخيراً في القاهرة وله تآليف كثيرة منها تآليف عن الأئمة الحنفية، كما أن له تعليقات على كتب زمانه في الفقه
والحديث والرجال. (انظر: معجم المؤلفين (3/ 302) والأعلام (6/ 129).
(2)
الحاوي (15 - 16).
وتجدر الإشارة إلى أن الطحاوي وإن كان مقلداً للمذهب الحنفي سائراً وفق أصوله، فإنه كان مجتهداً مستقلاً، بدليل مخالفته لأئمة مذهبه في كثير من المسائل، فهو بعيد كل البعد عن التقليد المحض، وكتبه أكبر شاهد على استقلال شخصيته العلمية
(1)
.
(1)
انظر: الإمام أبو جعفر الطحاوي ومنهجه في الفقه الإسلامي (40) ولسان الميزان (1/ 280).